ذكر خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه

ذكر خلافة أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه

جماع تاريخه

قال المسعودي: ثم بايَعَ الناسُ أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه-، في سقيفة بني ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، في يوم الأثنين الذي توفِّيَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جماعي الأخرة سنة ثلاثَ عشرَةَ من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، مستوفياً لعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اتفاق في سائر الروايات على ما ذكرنا، وكان مولد أبي بكر بعد الفيل بثلاث سنين، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، ودفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك قالت عائشة، وقد قيل: إن أبا بكر كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوماًً-، وسنذكُر فيما يرد من هذا الكتاب جملاً من أي أمه م ومقادير ولايتهم، وكذلك نفرد بيما يرد في هذا الكتاب- بعد ذكرنا لأيام بني امية وبني العباس- باباً نذكُر فيه جامع التاريخ الثاني من الهجرة إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- في خلافة أبي إسحاق المتقي للّه، أو بعد ذلك من الأوقات إلى حيث ينتهي بنا التصنيف، وما ذكره أصحاب الزيجات في النجوم، وما أرَّخُوه في مقادير السنين والشهور والأيام والخلاف بينهم وبين تاريخ أصحاب السير والأخبار وكتب التاريخ من الأخباريين وغيرهم؛إذ كان التفاوت بين الفريقين بيِّناً، ومُعَوّلنا في ذلك على ما ذكره أصحاب الزيجات.

ذكر نسبه ولمع من أخباره وسيره

كان اسم أبي بكر رضي اللّه عنه عبد اللّه بن عثمان- وهو أبو قُحَافة- بن عامربن عمروبن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرّة بن كعب، وفي مرة يجتمع برسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ولقبه عَتيق؛ لبشارة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم إياه أنه عتيق اللّه من النار، فسمي يومئذ عتيقاً وهو الصحيح وقيل: إنما سمي عتيقاً لعتق أمه اته، واسْتُخْلف وأبوه في الحياة.

صفاته

وكا أزْهَدَ الناس، وأكثرهم تواضعاً في أخلاقه ولباسه ومطعمه ومشربه كان لبسهفيخلافته الشملة، العباءة وقدمَ إليه زعماء العرب وأشرافهم وملوك اليمن وعليهم الْحُلَل وَالْحِبر وبرود الْوَشْي المثقل بالذهب والتيجان، فلما شاهدوا ما عليه من اللباس والزهد والتواضع والنسك، وما هو عليه من الوقار والهيبة ذهبوا مَنْذهبه ونزعوا ماكان عليهم.

وفود العرب إليه

وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذوالكلاع ملك حمير، ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته، وعليه التاج وما وصفنا من البرود والحُلَل، فلما شاهد من أبي بكر ما وصفنا ألقى ما كان عليه وَتَزَيَّا بِزِيِّه، حتى إنه رؤي يوماً في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك وقالوا له: قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار، قال: أفأردتم مني أن أكون ملكاً جباراً في الجاهلية جباراً في الإسلام، لاهاً الله، لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع للّه والزهد في هذه الدنيا، وتواضعت الملوك ومَنْ ورد عليه من الوفود بعد التكبر، وتذللوا بعد التجبر.

بين أبي بكر وأبي سفيان

وبلغ أبا بكررضي اللّه عنه عن أبي سفيان صخربن حرب أمْر، فأحضره وأقبل يصيح عليه، وأبو سفيان يتملَّقه ويتذلل له، وأقبل أبو قُحَافة فسمع صياح أبي بكر، فقال لقائده: عَلَى مَنْ يصيح ابني؟ فقال له: على أبي سفيان، فدنا من أبي بكر وقال له: أعَلَى أبي سفيان ترفعِ صوتك يا عتيق اللّه؟ وقد كان بالأمس سيد قريش في الجاهلية لقد تعدَّيْت طَوْرَكَ وَجُزْتَ مقدارك فتبسم أبو بكر ومن حضره من المهاجرين والأنصار، وقال له: يا أبت، إن اللّه قد رفع بالإِسلام قوماً وأذلَّ به آخرين.

ولم يتقلَّدْ أحد الخلافة وأبوه باقً غير أبي بكر.

وام أبي بكر سلمى- وتكنى: أم الخير- بنت صخر بن عمرو بن عامر ابن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة.

وارتدت العرب بعد استخلافه بعشرة أيام.

أولاده

وكان له من الولد: عبد اللّه، وعبد الرحمن، ومحمد، فأما عبد اللّه فإنه شهد يوم الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته جراحة وبقي إلى خلافة أبيه أبي بكر، ومات في خلافته، وخَلَف سبعة دنانير، فاستكثرها أبو بكر، ولا عقب لعبد اللّه؛وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه شهد يوم بدر مع المشركينِ، ثم أسلم فحسن أسل أمه ، ولعبد الرحمن أخبار، وله عقب كثير بدر و حَضر في ناحية الحجاز مما يلي الجادة من طريق العراق في الموضع المعروف بالصفينيات والمسح، ومحمد بن أبي بكر، أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، ومنها عقب جعفر بن أبي طالب، وخَلَفَ عليها حين استشهد عبد اللّه وعونا ومحمدا بني جعفر، فقتل عون ومحمد ابنا جعفر بالطّف مع الحسين بن علي، ولا عقب لهما، وَعَقِبُ جعفر عن عبد اللّه بن جعفر، وولد لعبد اللّه بن جعفر: علي وإسماعيلِ وإسحاق ومعاوية، وتزوجها بعده أبو بكر الصديق، فخلف منها محمداَ، ثم تزوجها على بن أبي طالب فأولدها أولاداً درَجُوا، ولا عقب له منها وأم أسماء العجوز الحريشية كان لها أربع بنات، وهذه العجوز أكثر الناس أصهاراً، كانت ميمونة الهلالية تحت النبي صلى الله عليه وسلم، وأم الفضل تحت العباس بن عبد المطلب، وسلمى تحت حمزة بن عبد المطلب، وخلف منها بنتاً، وأسماء تحت من ذكرنا من جعفر وأبي بكر وعلي، والعقب من محمد بن أبي بكر قليل، وأم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي علي بن أبي طالب أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.

وكان محمد بن أبي بكر يدعي عابد قريش لنسكه وزهده، ورَبَّاه علي بن أبي طالب، وسنذكر خبره فيما يرد من هذا الكتاب ومقتله في أخبار معاوية بن أبي سفيان.

موت أبي قحافة

 ومات أبو قُحَافة في خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه وهو ابن تسع وتسعين سنة، وذلك في سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهي السنة التي استخلف فيها عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وقد قيل: إنه مات في سنة أربع عشرة.

يوم السقيفة

ولما بويع أبو بكر في يوم السَّقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة خرج علي فقال: أفسدت علينا أمورنا، ولم تستشر، ولم تَرْعَ لنا حقأ، فقال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة، وكان المهاجرين والأنصار يوم السَّقيفة خطب طويل، ومجاذبة في الإمامة، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع، فصار إلى الشام، فقتل هناك في سنة خمس عشرة، وليس كتابنا هذا موضعاً لخبر مقتله، ولم يبايعه أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي اللّه عنها.

عدي بن حاتم الطائي

ولما ارتدت العرب إلا أهل المسجدين، وَمَنْ بينهما وأُناساً من العرب؛قدم عدي بن حاتم بإبل الصدقة إلى أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه، ففي ذلك يقول الحارث بن مالك الطائي:

وَفَيْنَا وفاء لم يَرَالنَّاس مثلـه

 

وَسَرْبَلَنَا مجداً عديُّ بن حاتم

علته

وكان أبو بكر رضي اللّه عنه قد سًمّته اليهود في شيء من الطعام، وأكل معه الحارث بن كَلدَة فعمي، وكان السم لسنة، ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عشر يوماً.

كلام له

ولما احْتُضِرَ قال: ما آسَى على شيء إلا على ثلاث فعلتها وعددت أني تركتها، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها، وثلاث وددت إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛فأما الثلاث التي فعلتها، ووددت أني تركتها فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة، وذكر في ذلك كلاماً كثيراً، ووددت أني لم أكن حرقت الفُجَاءة وأطلقته نجيحاً أو قتلته صريحاً، وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قَذَفْتُ الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أميراً وكنت وزيراً، والثلاث التي تركتها وددت أني فعلتها وددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه، فإنه قد خيل لي أنه لا يرى شَرّاً إلا أعانه، وددت أني كنت قد قذفت المشرق بعمر بن الخطاب، فكنت قد بسطت يميني وشمالي في سبيل اللّه، وددت أني يوم جهَزْت جيش الردة ورجعت أقمت مكاني فإن سلم المسلمون سلموا، وإن كان غير ذلك كنت صدر اللقاء أو مَدَداً، وكان أبو بكر قد بلغ مع الجيش إلى مرحلة من المدينة، وهو الموضع المعروف بذى القصة، والثلاث التي وددت أني سألت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عنها وددت أني كنت سألته في مَنْ هذا الأمر؛ فلا ينازع الأمر أهله، وددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ فإن بنفسي منهما حاجة، ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب فنعطيهم إياه.

بناته

وخلف من البنات: أسماء ذات النِّطَاقين، وهي أم عبد اللّه بن الزبير، وعمرت مائة سنة حتى عميت، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

بيعة علي إياه

وقد تنوزع في بيعة علي بن أبي طالب إياه: فمنهم من قال: بايعه بعد موت فاطمة بعشرة ألام، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنيف وسبعين يوماً، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: ستة، وقيل غير ذلك.

وصيته لأمراء جيشه

ولما أنفذ أبو بكر الأمراء إلى الشام كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو. مُشَيع له، فقال له: إذا قدمت على أهل عملك فعِدْهُم الخير وما بعده، وإذا وعدت فأنجز، ولا تكثرنَّ عليهم الكلام، فإن بعضه ينسي بعضاً، وأصلح نفسك يصلح الناس لك، وإذا قدَمَتْ عليك رسل عدوك فأكرم منزلتهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حَبْسَهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كل أمه م، ولا تجعل سرك مع علانيتك فيمرج عملك، وإذا استشرت فاصدق الخبر تصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتي المستشار فتؤتي من قبل نفسك، وإذا بلغك عن العدو عورة فاكتمها حتى تعاينها، واستر في عسكرك الأخبار وَأذْكِ حَلاسَك، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك، وأصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبن من سواك.

المتنبئون

وقد أعرضنا عن ذكر كثير من الأخبار في هذا الكتاب طلباً للاختصار والإيجاز: منها خبر العَنْسِي الكذاب المعروف بعيهلة، وما كان من خبرا باليمن وصنعاء، وتنبئه ومقتله، وما كان من فيروز، وغيره من الأنباء في أمرهم، وخبر طليحة وتنبئه، وخبر سجاح بنت الحارث بن سويد، وقيل: بنت غطفان وتكنى أم صادر، وهي التي يقول فيها قيس بن عاصم:

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها

 

وأصبحت أنبياء الناس ذًكْرَاناَ

وفيها يقول الشاعر:

أضل اللّه سَعْيَ بني تمـيم

 

كما ضلت بخطبتها سجاج

وقد كانت مع ادعائها النبوة مكذبة بنبوة مسيلمة الكذاب، ثم آمنت بنبوته، وكانت قبل ادعائها النبوة متكهنة تزعم أن سبيلها سبيل سطيح وابن سلمة والمأمون الحارثي، وعمرو بن لُحَيٍّ، وغيرهم من الكهان، وصارت إلى مسيلمة فنكحها، وما كان من خبر مسيملمة كَذَّاب اليمامة، وحربه لخالد بن الوليد، وقتل وَحْشِيٍّ له مع رجل من الأنصار، وذلك في سنة إحدى عشرة، وما كان من أمره مع الأنصار في يوم سقيفة بني ساعدة والمهاجرين، وقول المنزر بن الْحُبَاب: أنا جُذَيلها المحكك وَعُذَيْقُهَا المرجَّب، أما واللّه إن شئتم لنعيدَنَّهَا جَذَعَة، وقصة سعد بن عبادة، وما كان من بشر بن سعد، وتخلي الأوس عن معاضدة سعد خوفاً أن يفوز بها الخزرج، وأخبار من قعد عن البيعة ومن بايع، وما قالت بنو هاشم، وما كان من قصة فدك، وما قاله أصحاب النص والاختيار في الإِمامة، وَمَنْ قال بإمامة المفضول وغيره، وما كان من فاطمة وكل أمه ا متمثلة حين عدلت إلى قبر أبيها عليه السلام من قول صفية بنت عبد المطلب:

قد كَانَ بعدك أنبـاء وهَـيْنَـمَة

 

لو كُنْت شَاهِدَهَا لم تكثر الخطب

إلى آخر الشعر، إلى غير ذلك مما تركنا ذكره من الأخبار في هذا الكتاب؛إذ كنا قد أتينا على جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان والكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن ذكره هاهنا، واللّه أعلم.