ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

وبويع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فلما أن دخلت سنة ثلاث وعشرين خرج حاجا، فأقام الحجَّ في تلك السنة، ثم أقبل حتى دخل المدينة، فقتله فيروز أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين؛فكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وأربع ليالٍ، وقتل في صلاة الصبح، وهو ابن ثلاث وستين سنة ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن قبورهم مسطرة: أبو بكر إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر إلى جنب أبي بكر، وحج في خلافته تسع حجج، وبعد أن قُتِلَ صلّى بالناس عبدُ الرحمن بن عَوْف، وجعلها شُورَى إلى ستة، وهم: عليّ، وعثمان، وطَلْحَة. والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وصلّى عليه صُهَيبٌ الرومي. وكانت الشورى بعده ثلاثة أيام.

ذكر نسبه ولمع من أخباره وسيره

نسبه

هو عمر بن الخطاب بن نُفَيْل بن عبد العزى بن قُرْط بن ربَاح بن عبد اللهّ بن رزَاح بن عدي بن كعب، وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم، و أمه حَنتَمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم وكانت سوداء، وإنما سمي الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، وكنيته أبو حفص، وهو أول من سمي بأمير المؤمنين، سماه عدي ُّبن حاتم، وقيل غيره، واللهّ أعلم، وكان أول من سَلّم عليه بها المغيرة بن شعبة، وأول من دعا له بهذا الاسم على المنبر أبو موسى الأشعري وأبو موسى أول من كتب إليه: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبي موسى الأشعري فلما قرئ ذلك على عمر قال: إني لعبد لله وإني لعمرو إنِّي لأمير المؤمنين، والحمد الله رب العالمين.

صفاته

وكان متواضعاً، خشن الملبس، شديداً في ذات اللّه، واتبعه عماله في سائر أفعاله وشيمه وأخلاقه، كلّ يتشَبّه به ممن غاب أو حضر، وكان يلبس الجبة الصوف المرقعة بالأديم وغيره، ويشتمل بالعباءة، ويحمل القربة على كتفه مع هيبة قد رُزِقَهَا، وكان أكثر ركابه الإِبل، وَرَحْله مشدودة بالليف، وكذلك عُماله، مع ما فتح اللّه عليهم من البلاد وأوسعهم من الأموال.

عماله

وكان من عماله سعيد بن عامر بن خريم فشكاه أهل حمص إليه وسألوه عَزْله، فقال عمر: اللهم لا تُفِلْ فراستي فيه اليوم وقال لهم: ماذا تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، ولا يجيب أحداً بليل، وله يوم في الشهر لا يخرج إلينا، فقال عمر: عليّ به، فلما جاء جمع بينهم وبينه، فقال: ما تنقمون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فقال: ما تقول يا سعيد؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي، ثم أتوضا وأخرج إليهم، قال: وماذا تنقمون منه؟ قالوا: لا يجيب بليل، قال: قد كنت أكره أن أذكر هذا، إني جعلت الليل كله لربي، وجعلت النهار لهم، قال: وماذا تنقمون منه؟ قالوا: له يوم في الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: نعم، ليس لي خادم فأغسل ثوبي ثم أجففه فأمسي، فقال عمر: الحمد للهّ الذي لم يُفل فراستي فيك، يا أهل حمص، استوصُوا بواليكم خيراً، قال: ثم بعث إليه عمر بألف دينار، وقال: استعن بها، فقالت له امرأته: قد أغنانا الله عن خدمتك، فقال لها: ألا ندفعها إلى من يأتينا بها أحْوَجَ ما كنا إليه. قالت: بلى، فَصَرَّها صرراً ثم دفعها إلى من يثق به، وقال: انطلق بهذه الصرة إلى فلان، وبهذه إلى يتيم بني فلان، وهذه إلى مسكين بني فلان، حتى بقي منها شيء يسير، فدفعه إلى امرأته، وقال: أنفقي هذا، ثم عاد إلى خدمته، فقالت له امرأته: ألا تبعث إلي بذلك المال فنشتري لنا منه خادماً؛ فقال: سيأتيك أحْوَجَ ما تكونين إليه.

سلمان الفارسي

ومن عماله على المدائإن سلمان الفارسي، وكان يلبس الصوف، ويركب الحمار ببرذعته بغير إكاف، ويأكل خبز الشعير، وكان ناسكاً زاهداً، فلما احتضر بالمدائن قال له سعد بن وَقَّاص: أوصني يا أبا عبد اللّه قال: نعم قال: اذكر اللهّ عند همك إذا هممت، وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت، فجعل سلمان يبكي، فقال له: يا أبا عبد اللّه ما يبكيك؛ قال: سمعت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الأخرة عقبة لا يقطعها إلا المُخِفُّونَ " وأرى هذه الأداوة حولي، فنظروا فلم يجدوا في البيت إلا إداوة وركوة ومطهرة.

أبو عبيدة

وكان عامله على الشام أبا عبَيْدة بن الجراح، وكان يظهر للناس وعليه الصوف الجافي، فعذل على ذلك، وقيل له: إنك بالشام والي أمير المؤمنين وحولنا الأعداء، فغير من زيك، وأصلح من شارتك، فقال: ما كنت بالذي أترك ما كنت عليه في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عمر يحرض على الجهاد

وذكر الواقدي في كتابه في فتوح الأمصار أن عمر قام في المسجد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجهاد وحثهم عليه وقال: إنكم قد أصبحتم في غير دار مقام بالحجاز، وقد وَعَدكم النبي صلى الله عليه وسلم فتح بلاد كسرى وقيصر؛ فسيروا إلى أرض فارس، فقام أبو عبيد فقال: يا أمير المؤمنين أنا أول من انتدب من الناس، فلما انتدب أبو عبيد انتدب الناس، وقيل لعمر: أمر على الناس رجلا من المهاجرين أو الأنصار؟ فقال: لا أومر عليهمِ إلا أول من انتدب فأمَّرَ أبا عبيد، وفي حديث آخر أنه قيل له: أتؤمر رجلا من ثقيف على المهاجرين والأنصار؛ فقال: كان أول من انتدب فوليته، وقد أمرته أن لا يقطع أمراً دون مَسْلَمة بن أسلم بن حريش وسليط بن قيس، وأعلمته أنهما من أهل بدر، وخرج فلقي جمعا ًمن العجم عليهم رجل يُقال له جالينوس، فانهزم، وسار أبو عبيد حتى عبر الفرات، وعقد له بعض الدهاقين جسراً، فلما خلف الفرات وراءه أمر بقطع الجسر، فقال له مسلمة بن أسلم: أيها الرجل، إنه ليس لك علم بما نرى، وأنت تخالفنا، وسوف يهلك من معك من المسلمين بسوء سياستك، تأمر بجسر قد عقد أن يقطع فلا يجد المسلمون ملجأ من هذه الصحاري والبراري فلا تريد إلا أن تهلكهم في هذه القطعة فقال: أيها الرجل، تقدم فقاتل فقد حَم ما ترى، وقال سليط: إن العرب لم تلق مثل جمع فارس قط، ولا كان لهم بقتالهم عادة، فاجعل لهم ملجأ ومرجعاً من هزيمة إن كانت، فقال: واللّه لا فعلت جَبُنْتَ يا سليط، فقال سليط: واللّه ما جبنت، وأنا أجرأ منك نفساً وقبيلاً، ولكن واللهّ أشَرْتُ بالرأي، فلما قطع أبو عبيد الجسر والتحم الناس واشتد القتال نظرت العرب إلى الفيلة عليها التجافيف فرأوا شيئأ لم يروا مثله قط، فانهزم الناس جميعاً، ثم مات في الفرات أكثر ممن قتل بالسيف، وخالف أبو عبيد سليطاً، وقد كان عمر أوصاه أن يستشيره ولا يخالفه، وكان رأى سليط أن لا يعبر حتى يعبروا إليه، ولا يقطع الجسر، فخالفه، وقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لانحزت بالناس، ولكني أسمع وأطيع، وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك، فقال له أبو عبيد: تقدم أيها الرجل، فقال: أفعل، فتقدما فقتلا جميعاً، وقد كان أبو عبيد في هذا اليوم ترجَّلَ، وقد قتل من الفرس نحو ستة آلاف، فدنا من الفيل ورمحه في يده فطعنه في عينه، فخبط الفيل أبا عبيد بيده؛ وجال الناس، وتراجعت رجال فارس، فأخذ الناس السيف لما قتل أبو عبيد، وبادر رجل من بكر بن وائل والمثنى بن حارثة فحمي الناس حتى عقدوا الجسر فعبروا ومعهم المثنى حارثة، وقد فقد من الناس أربعة آلاف غرقاً وقتلا، وكان على جيش فارس في هذا اليوم جاذويه، ومعه راية فارس التي كانت لأفريدون، حتى ثار الناس من الوهاد، وهي المعروفة بدرفش كاويان وكانت من جلود النمور طولها اثنا عشر ذراعاً في عرض ثمانية أفرع على خشب طوال موصل، وكانت فارس تتيمن بها وتظهرها في الأمر الشديد، وقد قدمنا الخبر عن هذه الراية في أخبار الفرس الأولى فيما سلف من هذا الكتاب. ولما قتل أبو عبيد الثقفي بالجسر شق ذلك على عمرو وعلى المسلمين، فخَطَبَ عمر الناس وحثهم على الجهاد، وأمرهم بالتأهب لأرض العراق، وعسكر عمر بصرار وهو يريد الشخوص، وقد استعمل على مقدمته طلحة بن عبيد الله، وعلى ميمنته الزبير بن العوام، وعلى ميسرته عبد الرحمن بن عوف، ودعا الناس، فاستشارهم فأشاروا عليه بالمسير، ثم قال لعلي: ما ترى يا أبا الحسن، أسير أم أبعث؟ قال: سر بنفسك فإنه أهيب للعدو وأرهب له، فخرج من عنده، فدعا العباس في جِلَّة من مشيخة قريش وشاورهم، فقالوا: أقم وابعث غيرك ليكون للمسلمين إن انهزموا فئة، وخرجوا، فدخل إليه عبد الرحمن بن عوف، فاستشاره، فقال عبد الرحمن: فدِيت بأبي وامي، أقم وابعث؛فإنه إن انهزم جيشك فليس ذلك كهزيمتك، وإنك إن تُهْزَم أو تُقْتَل يكفر المسلمون ولا يشهدوا أن لا إلهَ إلا اللّه أبداً، قال: أشر عَلَيَّ من أبعث؟ قال: قلت: سعد بن أبي وقاص، قال عمر: أعلم أن سعداً رجل شجاع، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب، قال عبد الرحمن: هو على ما تصف من الشجاعة، وقد صحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وشهد بدراً فاعهد إليه وشاورنا فيما أردت أن تحدث إليه؛ فإنه لن يخالف أمرك، ثم خرج فدخل عثمان عليه، فقال له: يا أبا عبد الله أشر علي أسير أم أقيم؟ فقال عثمان: أقم يا أمير المؤمنين وابعث بالجيوش، فإنه لا آمن إن أتى عليك آتٍ أن ترجع العرب عن الإسلام، ولكن ابعث الجيوش وداركها بعضها على بعض، وأبعث رجل له تجربة بالحرب وبَصَر بها، قال عمر: ومن هو؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: فالقه وكلمه وذاكره ذلك، فهل تراه مسرعاً إليه أو لا، فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك، فأبى علي ذلك وكرهه، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: ومن ترى؟ قال: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: قال: ليس بصاحب ذلك، قال عثمان: طلحة بن عبيد الله، قال له عمر: أين أنت من رجل شجاع ضروب بالسيف رام بالنبل، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب؟ قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال عثمان: هو صاحب ذاك؛ولكنه رجل غائب وما منعني من ذكره إلا أني قلت: رجل غائب في عمل، فقال عمر: أرى أن أوجهه، وأكتب إليه أن يسير من وجهه ذلك، فقال عثمان: ومُرْه فليشاور قوماً من أهل التجربة والبصر بالحرب، ولا يقطع الأمور حتى يشاورهم، ففعل عمر ذلك وكتب إلى سعد بالتوجه نحو العراق.

وقد كان جرير بن عبد الله البجلي قدم على عمر- وقد اجتمعت إليه بجيلة- فَسَرَّحهم نحو العراق، وجعل لهم ربع ما ظهروا عليه من السواد، وساهمهم مع المسلمين، وخرج عمر فشيعهم، ولحق جرير بناحية الأبله ثم صاعد إلى ناحية المدائن، ونمى قدوم جرير إلى مَرْزًبان المدائن وكان في عشرة الاف من فارس من الأساورة، وذلك بعد يوم الجسر ومقتل أبي عبيد وسليط، فقال بجيلة لجرير: أعْبُرِ الدجلة إلى المدائن، فقال جرير: ليس ذلك بالرأي، وقد مضى لكم في ذلك عبرة بمن قتل من إخوانكم يوم الجسر، ولكن أمه لوا القوم؛فإن جمعهم كثير حتى يعبروا إليكم، فإن فعلوا فهؤ الظَّفَر إن شاء اللّه تعالى، فأقامت الفرس أياماً بالمدائن، ثم أخذوا في العبور، فلما عبر منهم النصف أو نحوه حمل عليهم جرير فيمن تسرَّعَ معه من بجيلة، فثبتوا ساعة، فقتل المِرْزُبان وأخذهم السيف، وغرق أكثرهم في دجلة، وأخذ المسلمون ما كان في عسكرهم، وسار جرير فاجتمع مع المثَنَّى بن حارثة الشيباني بالبجلة، فأقبل إليهما مهران في جيوشه، فامتنع المسلمون من العبور إليهم، فعبر مهران وبغى على المسلمين، فالتقوا وصبر الفريقان جميعا حتى قتل مهران قتله جرير بن عبد اللّه البجلي وحسان بن المنزر بن ضرار الضبي، ضربه البجلي، وطعنه الضبي، وفاز جرير بمنطقته وسَلَبه وتنازع جرير وحسان في أيهما القاتل لمهران، وقد كان جرير ضربه بعد أن طعنه حسان، ولحسان في ذلك أبيات:

ألم ترني خالَسْتُ مهران نَفْسَه

 

بأسْمَرَ فيه كالخلال طـريد

فخر صريعاً والْتَقَاني برِجْلِهِ

 

وبادر في رأس الهمام جرير

فقال: قتيلي، والحوادث جمة،

 

وكاد جرير للسرور يطـير

فقال أبو عمرو: وقتلى قتلته

 

ومثلي قليل والرجال كثـير

فأرسِلْ يميناً أنَ رمحك نالَهُ

 

وأكرم أن تحلف وأنت أمير

وقد تنازع أهل الأخبار والسير في جرير والمثنى: فمن الناس من ذهب إلى أن جريراً كان هو المولَّى على الجيش، ومنهم من رأى أن جريراً على قومه والمثنى على قومه.

ولما قتل مهران أعْظَمت الفرس ذلك، وسار شيرازاد في جمع فارس الأعظم وكنيته بوران؛ وقد كانت جمهرة الأساورة تقدمت وتقدم أمامه رستم، فتنحى المسلمون لما بلغهم مسيره، فلحق جرير بكاظمة فنزلها، وسار المثنى بقومه من بكر بن وائل فنزل بسيراف، وبها ابار كثيرة بين الكوفة وزبالة على ثلاثة أميال من المنزل المعروف بواقصة، وكان المثنى قد أصيب بجراحات كثيرة في بدنه يوم الجسر وغيره فمات بسيراف، رحمه الله تعالى!.

سعد بن أبي وقاص

ولما ورد كتاب عمر على سعد بن أبي وقاص نزل زبالة على حسب ما أمره به عمر، ثم أتى سيراف، وأتاه الناس من الشام وغيرها، ثم سار فنزل العذيب وهو على فم البر وطرف السواد مما يلي القادسية، فالتقى جيش المسلمين وجيش الفرس وعليهم رستم، والمسلمون يومئذ في ثمانية وثمانين ألفَاَ وقيل: إن من اسْهِمَ له ثلاثون ألفاً والمشركون في ستين آلفا، أما جيوشهم الفيلة عليها الرجال، وحرض الناس بعضهم بعضاً، وبرز أهل النجدات، فأشَبُوا القتال وخرج إليهم أقْرَانُهم من صناديد فارس، فاعتوروا الضرب والطعن، وخرج غالب بن عبد اللهّ الأسدي في من خرج ذلك اليوم وهو يقول:

قد علمت واردة المسالـح

 

ذات البنان وَاللبَان الواضح

أني سمَامُ البطل المشـايح

 

وفارج الأمر المهم الفادح

فخرج إليه هرمز- وكان من ملوك الباب والأبواب، وكان متوجاً- فأسره غالب آسرا، فأتى به سعداً، وكر راجعاً إلى المطاردة، وحمي الوطيس، وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول:

قد علمت بيضاء صفراء اللَّبَبْ

 

مثل اللجين يتغَشّاه الـذهـب

أني أمرؤ لا من يعنيه السبب

 

مثلى على مثلك يغريه العتب

فبرز إليه عظيم من أساورتهم، فجالا، ثم إن الفارسي وَلّى، واتبعه عاصم حتى لجأ إلى صفوفهم، وَعمُوه، وغاص عاصم بينهم حتى أيس الناس منه، ثم خرج في مجنبات القلب، وقدامة بغل عليه صناديد موكبية بالة حسنة، فأتى به سعد بن مالك وعلى البغل رجل عليه مُقَطعات ديباج وقلنسوة مُذَهَبة، وإذا هو خباز الملك، وفي الصناديق لطائف الملك من الأخْبِصة والعسل المعقود، فلما نظر إليه سعد قال: انطلقوا به إلى أهل مَوْقِفِهِ، وقولوا: إن الأمير قد نفلكم هذا فكلوه ففعلوا.

أيام القادسية

وكانت وقعة القادسية في المحرم سنة أربع عشرة، ومال من الفيلة سبعة عشر فيلا على كل فيل عشرون رجلا، وعلى الفيلة تجافيف الحديد - القرون مجللة بالديباج والحرير نحو بجيلة، وحول الفيلة الرجال الخيول، فبعث سعد إلى بني أسد لما نظر إلى المراكب والفيول قد مالت لى بجيلة، فأمرهم بمَعُونتهم، ومالت عشرون فيلاً نحو القلب، فخرج طلحة بن خويلد الأسدي مع فرسان بني أسد فقتل منهم خمسمائة رجل سوى من قتل من غيرهم فباشروا قتال الفيلة حتى أوقفوها، واشتد الجَلاد على بني أسد في هذا اليوم من سائر الناس، وهذا اليوم يعرف بيوم غواث. فلما أصبح الناس في اليوم الثاني أشرف على الناس خيول لمسلمين من الشام، والإمداد سائرة قد غطت بأسنتها الشمس عليها هاشم بن عتبة بن أبي وَقاص في خمسة آلاف فارس من بني ربيعه ومضر إلف من اليمن، ومعهم القَعْقَاع بن عمرو، وذلك بعد فتح دمشق بشهر، وقد كان عمر رضي اللّه عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراحِ بصرف أصحاب خالد بن الوليد إلى العراق، ولم يذكر في كتابه خالداَ، فشح أبو عبيدة بتخلية خالد عن يده، وبعث برجاله وعليهم هاشم بن عتبة على ما ذكرنا، إذ كان في نفس عمر على خالد أشياء من أيام أبي بكر في قصة مالك بن نويْرَة، وغير ذلك، وكان خالد بن الوليد خال عمر، فتقدم القعقاع في أوائك المدد، فأيقن أهل القادسية بالنصر على فارس، وزال عنهم ما لحقهم بالأمس من القتل والجراح، وبرز القعقاع حين وروده أمام الصف ونادى: هل من مبارز؛ فبرز إليه عظيم منهم، فقال له القعقاع: من أنت؟ قال: أنا بهمن بن جاذويه، وهو المعروف بذي الحاجب، فنادى القعقاع: يالَثَارات أبي عبيد وسليط وأصحابهم يوم الجسر!! وقد كان ذو الحاجب مبارزاَ لهم على ما ذكرنا من قتله إياهم، فجالا، فقتله القعقاع قتل في ذلك اليوم ثلاثين رجلاً في ثلاثين حملة، كل حملة يقتل فيها رجَلا، وكان آخر من قتل- عظيماً من عظمائهم يقال له بزرجمهر، ففيه يقول القعقاع:

حَبَوْتُهُ جـيَّاشة بـالـنـفـس

 

هَدَّارة مثل شعاع الشـمـس

في يوم أغواث قَتِيلَ الفـرس

 

أنخس بالقوم أشـد نـخـس

حتى يفيض معشري ونفسي

 

 

وبارز في ذلك اليوم الأعور بن قطبة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه فقال أخو الأعور في ذلك:

لم أر يوماً كان إحـدى وأمـر

 

من يوم أغواث إذا افتَر الثَّغُـر

من غير ضحك كان أسوا وأبر

 

 

واعتل سعد فتخلف في حصن العذيب، وجلس في أعلاه يشرف على الناس، وقد تواقف الفريقاَن جميعاً، وأمسى الناس ينتمون، فلما سمع ذلك سعد قال لمن كان عنده في أعلى القصر: إن تم الناسُ على الانتماء فلا توقظوني فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا فأيقظوني فإن ذلك شر، واشتد القتال في الليل.

أبو محجن الثقفي

وكان أبو محجن الثقفي محبوساً في أسفل القصر، فسمع انتماء الناس إلى آبائهم وعشائرهم، ووَقْعَ الحديد وشدة البأس، فتأسف على ما يفوته من تلك المواقف، فحبا حتى صعد إلى سعد ستشفعه وشتقيله، وسأله أن يخلي عنه ليخرج، فزجره سعد وردَّه، فانحدر راجعاً، فنظر إلى سلمى بنت حفصة زوجة المثنى بن حارثة الشيباني، وقد كان سعد تزوجها بعده، فقال: يا بنت حفصة، هل لك في خير؟ فقالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيريني البلقاء وللهّ عليَّ إن سَلمني اللهّ أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في القيد، فقالت: وما أنا وذلك؟ فرجع يرسف في قيده وهو يقول:

كفى حَزَناً أن ترتدي الخيل بالقَنَا

 

وأترك مشدوداً علي وثـاقـيا

إذا قمت عناني الحديد فأغلقـت

 

مصاريع من دوني تُصِمُّ المناديا

وقد كنت ذا مال كثير و ثـروة

 

فقد تركوني واحداً لا أخـالـيا

فللّه عهد لا أخِـيس بـعـهـده

 

لئن فرجت أن لا أزور الْحَوَانِيَا

فقالت سلمى: إني استخرت اللّه ورضيت بعهدك، فأطلقته، وقالت: شأنَكَ وما أردت، فاقتاد بلقاء سعد، وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق، فركبها ثم دبَّ عليها، حتى إذا كان بحيال ميمنة المسلمين كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، فأوقف ميسرتهم وقتل رجالاً كثيراً من فُتَّاكهم، ونكس آخرين، والفريقان يرمقونه بأبصارهم، وقد تنوزع في البلقاء فمنهم من قال: إنه ركبها عُرْياً، ومنهم من قال: بل ركبها بسَرْجٍ، ثم غاص في المسلمين، فخرج في ميسرتهم، وحمل على ميمنة القوم فأوقفهم، وجعل يلعب برمحه وسلاحه لا يبدو له فارس إلا هتكه، فأوقفهم، وهابته الرجال، ثم رجع فغاص في قلب المسلمين، ثم برز أم أمه م ووقف بإزاء قلب المشركين، ففعل مثل أفعاله في الميمنة والميسرة، وأوقف القلب حتى لم يبرز منهم فارس إلا اختطفه، وحمل عن المسلمين الحرب، فتعجب الناس منه، وقالوا: من هذا الفارس الذي لم نَرَهُ في يومنا؟ فقال بعضهم: هو ممن قدم علينا من إخواننا من الشام من أصحاب هاشم بن عتبة المرْقَال، وقال بعضهم: إن كان الخضر عليه السلام يشهد الحرب فهذا هو الخضر قد مَنَّ الله به علينا وهو علم بصرنا على عدونا، وقال قائل منهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحروب لقلنا إنه ملك، وأبو محجن كالليث الضَرْعام قد هتك الفرسان كالعقاب يجول عليهم، ومن حضر من فرسان المسلمين مثل عمرو بن معد يكرب وطلحة بن خوَيلد والقعقاع بن عمرو وهاشم بن عُتْبة المرقال وسائر فُتَّاك العرب وأبطالها ينظرون إليه، وقد حاروا في أمره، وجعل سعد يفكر ويقول وهو مُشْرف على الناس من فوق القصر؛واللّه لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البَلْقاء، فلما انتصف الليل تحاجز الناس، وتراجعت الفرس على أعقابها وتراجع المسلمون إلى مواضعهم على بقيتهم ومصافهم، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصرمن حيث خرج ولا يعلم به، وَرَدَّ البلقاء إلى مربطها وعاد في محبسه ووضع رجله في القيد، ورفع عقيرته وهو يقول:

لقد علمت ثَقِيفٌ غير فخـر

 

بأنا نحن أكرمهـم سـيوفـا

وأكرمهم درُوعاً سابـغـاتٍ

 

وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

وليلة قاعس لم يشعروا بـي

 

ولم أشعر بمخرجي الزحوفا

وأنا رِفدهـم فـي كـل يوم

 

فإن عتبوا فسل بهمُ عريفـا

فإن أحبس فذلـكُـمُ بـلائي

 

وإن أترك أذيقهم الحتـوفـا

فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شيء حَبَسَك هذا الرجل؟ تعني سعداً، قال: وأنا امرؤ شاعر يدبُّ الشعر على لساني فأصف القهوة وتداخلني أريحية فألتذ بمدحي إياها، فلذلك حبسني لأني قلت فيها:

ذا مت فادفني إلى جنب كَـرْمَة

 

روِّي عظامي بعد موتي عروقُهَا

لا تدفنني بـالـفـلاة فـإنـنـي

 

خاف إذا ما مُتُ أن لا أذقـهـا

وهي أبيات.


وقد كان بين سلمى وسعد كلام كثير وجب غضبه عليها، لذكرها المًثَنَّى عند مختلف القنا، فأقامت مغاضبة له عشية أغواث وليلة الْهَرِير وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته فترضَّتْه وصالحته، ثم أخبرته خبرها مع أبي محجن، فدعابه، فأطلقه وقال: اذهب فما أنا مؤاخذ بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جَرَمَ واللّه لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبداً.

يوعماس

وأصبح الناس في اليوم الثالث وهم على مصافهم، وهو يوم عماس، وأصبحت الأعاجم على مواقفها، وأصبح بين الفريقين كالرَّجْلة الحمراء- يعني الحرة- في عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان وخمسمائة ما بين رَثِيِثِ وميت، وقت من الأعاجم ما لا يحصى، فقال سعد: أيها الناس، من شاء غسل الشهيد الميت والرثيث، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وأقبل المسلمون على قَتْلاهم فأحرزوهم وجعلوهم وراء ظهورهم، وكان ا لنساء والصبيان يدفنون الشهيد ويحملون الرَّثِيث إلى النساء ويعالجونهم من كُلُومهم، وكان بين موضع الوقعة مما يلي القادسية وبين حصن العذيب نخلة، فإذا حمل الجريح وفيه تمييز وعقل ونظر إلى تلك النخلة- ولم يكن هنالك يومئذ نخلة غيرها، واليوم بها نخل كثير- قال لحامله: قد قربت من السوداء، فأريحوني تحت ظل هذه النخلة، فيراح تحتها ساعة، فسمع رجل من الجرحى يقال له بجير من طيى، وهو يجود بنفسه ويقول:  

ألا يا اسلمي يا نخلة بين قـاس

 

وبين العذيب، لا يجاورك النخل

وسمع آخر من بني تيم اللّه- وقد أريح تحتها وحُشْوَته خارجة من جوفه- وهو يقول:

أيا نخلة الجَرْعَا، ويا نخلة العـدا

 

سقتك الغوادي والغيوثُ الهواطلُ

وأنخن الأعور بن قطبة، فحمل من المعركة، فسأل حماله أن يريحه تحتها حتى إذا بلغ إليها قال:

أيا نخلة بين العـذيب فـتـلـعة

 

سقتك الغوادي الدجناتُ من النخل

وأصبح الناس صبيحة يوم القادسية، وهي صبيحة ليلة الهرير وهي: تسمى ليلة القادسية من تلك الأيام، والناس حيارى ولم يغمضو ليلتهم كلها، وحَرّض رؤساء القبائل عشائرهم، واشتد الجلاد إلى أن جاء وقت الزوال، فكان أول منَ زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والنيرمران، فتأخرا، وثبتا حيث أنتهيا، وانفرج القلب حين قام قاف الظهيرة، وهبت ريح عاصف فقطعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في نهر العتيق والريح دَبُور، فمال الغبار عليهم وانتهى القعقاع وأصحابه إلي سرير رستم فعثروا به وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قد قدمت عليهم بمال يومئذ فهي واقفة فاستظل في ظل بغل منها وحمله وضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم في ظله فقطع حباله، ووقع على رستم أحد العِدْالَيْنِ ولا يراه هلالى ولا يشعر به، فأزال من ظهم فقارة وضربه هلال ضربة فنفخت مسكاً، ومضى رستم إلى نحو نهر العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحم هلال عليه فتناوله برجله، ثم خرج به إلى الخندق وضربه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به يجره حتى رماه بين أرجل البغال وصعد السرير ونادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ إليَّ، فطاف به الناس لا يحسون السرير ولا يرونه، وتنادوا، وتجبنت قلوب المشركين عندها وانهزموا وأخذهم السيف، فمن غريق وقتيل، وقد كان ثلاثون ألفاً منهم قَرَنُوا أنفسهم بعضهم إلى بعض بالسلاسل والحبال وتحالفوا بالنور وبيوت النيران لا يبرحون حتى يقتحموا أو يقتلوا، فجثوا على الركب، وقرع بين أيديهم قناديل النشاب، فقتل القوم جميعاً.

وقد تنوزع فيمن قتل رستم: فذهب الأكثر إلى أن قاتله هلال بن علقمة من تَيْم الرباب على ما قدمنا، ومنهم من رأى أن قاتله رجل من بني أسد، ولذلك يقول شاعرهم في ذلك اليوم- وهو عمرو بن شاس الأسدي- من أبيات:

جلبنا الخيل من أكنافِ نـيقِ

 

إلى كسرى فوافقهارعـالا

تركن بهم على الأقْسَام شَجْواً

 

وبِالحقـوَيْنِ أيامَـا طـوالا

قتلنا رستما ًو بنيه قَـسْـراً

 

تثير الخيلُ فوقهم الـهـيال

تركنا منهمُ حيث التـقـينـا

 

قياماً لا يريدون ارتـحـالا

وأخذ ضرار بن الخطاب في ذلك اليوم من فارس الرايه العظمى المقدم ذكرها أنها من جلود النمور المعروفة بمرفش كاويان، وكانت مرصَّعة بالياقوت واللؤلؤ وأنواع الجواهر، فعُوِّض منها بثلاثين ألفاً، وكانت قيمتها الفى ألف ومائتي ألف، وقتل في ذلك اليوم حول هذه الراية- غير ما ذكرنا من المقرنين وغيرهم- عشرةُ آلافٍ.

تحديد تاريخ القادسية

وقد تنازع الناس- ممن سلف وخلف في عام القادسية والعذيب فذهب كثير من الناس إلى أن ذلك كان في سنة ست عشرة، وهذا قول الواقدي عن آخرين من الناس، ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كانفيسنة خمس عشرة، ومنهم من رأى أنه كان في سنة أربع عشرة، والذي قطع عليه محمد بن إسحاق أنها كانت في سنة خمس عشرة، وقال: في سنة أربع عشرة أمر عمر بن الخطاب بالقيام في شهر رمضان لصلاة التراويح والذين ذهبوا إلى أن وقعة القادسية كانت في سنة أربع عشرة احتجوا بهذ الرواية، وكتب عمر إلى الأمصار بإقامة صلاة التراويح، وذهب كثير من الناس منهم المدائني وغيره أن عمر أنفذ عتبة بن غَزْوَانَ في سنة أربع عشرة إلى البصرة فنزلها وَمَصَّرَها، وذهب كثير من الناس أنها مُصِّر تفير بيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غَزْوَانَ إنما خرج إليها من المدائن بعد فراغ سعد بن أبي وقاص من حرب جَلُولاَء وتكريت، وأن عتبة قدم البصيره وهي يومئذ تدعى أرض الهند وفيها حجارة بيض فنزل موضع الْخُرَيْبَة ومصر سعد بن أبي وقاص الكوفة في سنة خمس عشرة، ودلهم على موضعها ابن نفيلة الغساني، وقال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت ع البر وانحدرت عن الفَلاة، فدلَه على موضع الكوفة اليوم.

أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة

قال المسعودي: وكان عمر لا يترك أحداً من العجم يدخلِ المدينة فكتب إليه المغيرة بن شعبة: إن عندي غلاماً نقاشاً نجاراَ حداداَ فيه منافع لأهل المدينة، فإن رأيت أن تأذن لي في الإِرسال به فعلت، فأذن له، وقد كان المغيرة جعل عليه كل يوم درهمين، وكان يدعى أبا لؤلؤة، وكان مجوسياً من أهل نهاوند، فلبث ما شاء الله، ثم أتى عمر يشكو إليه ثقل خراجه، فقال له عمر: وما تحسن من الأعمال؟ قال: نقاش نجار حداد، فقال له عمر: ما خَرَاجُكَ بكثير في كنه ما تحسن من الأعمال، فمضى عنه وهو يتذمر، قال: ثم مر بعمر يوماً آخر وهو قاعد، فقال له عمر: ألم احَدَّث عنك أنك تقول: لو شئت أن أصنع رَحا تطحن بالريح لفعلت، فقال أبو لؤلؤة: لأصْنَعَنَّ لك رَحَا يتحدث الناس بها، ومضى أبو لؤلؤة، فقال عمر: أما العلج فقد توعَّدَنِي انفاً، فلما أزمَعَ بالذي أوعد به أخذ خِنْجراً فاشتمل عليه ثم قعد لعمر في زاوية من زوايا المسجد في الغَلَس، وكان عمر يخرج في السحر فيوقظ الناس للصلاة، فمر به، فثار إليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته، وطعن اثني عشر رجلاً من أهل المسجد فمات منهم ستة وبقي ستة، ونحر نفسه بخنجره فمات، فدخل عليه ابنه عبد اللّه بن عمر وهو يجود بنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين، استخلف على أمة محمد؛ فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها لَلُمْتَهُ وقلت له: كيف تركت أمانتك ضائعة؟ فكيف يا أمير المؤمنين بآمة محمد؟ فاستخلف عليهم، فقال: إن أستخلف عليهم فقد استخلف عليهم أبو بكر، وإن أتركهم فقد تركهم رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، فيئس منه عبد اللهّ حين سمع ذلك منه.

وكان إسلام عمر قبل الهجرة بأربع سنين وكان يخضب بالحناء والكتم.

أولاد عمر

وكان له من الولد: عبد اللّه، وحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعاصم، وعبيد اللّه، وزيد، من أًم، وعبد الرحمن، وفاطمة، وبنات آخر، وعبد الرحمن الأصغر- وهو المحدود في الشراب، وهو المعروف بأبي شحمة- من ام.

عمر وابن عباس

وذكر عبد اللّه بن عباس أن عمر أرسل إليه فقال: يا ابن عباس، إن عامل حمص هلك، وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل، وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شيء لم أره منك، وأعياني ذلك، فما رأيك في العمل؟ قال: لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك، قال: وما تريد إلى ذلك؟ قال: أريده، فإن كان شيء أخاف منه على نفسي خشيتُ منه عليها الذي خشيتَ، وإن كنتُ بريئاً من مثله علمت أني لست من أهله، فقبلت عملك هنالك، فإني قلما رأيتك طلبت شيئاً إلا عاجلته، فقال: يا ابن عباس، إني خشيت أن يأتىِ عليِّ الذي هو اتٍ وأنت في عملك فتقول: هلم إلينا، ولا هلم إليكم دون غيركم، إني رأيت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم استعمل الناس وترككم، قال: واللهّ قد رأيت من ذلك، فلم تراه فعل ذلك؟ قال: واللّه ما أدري أضَنَّ بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم، أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب، ولا بد من عتاب، وقد فرغت لك من ذلك، فما رأيك؟ قال: قلت: أرى أن لا أعمل لك، قال: ولم؟ قلت: إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذًى في عينك، قال: فأشر عليَّ، قلت: إني أرى أن تستعمل صحيحاً منك صحيحاً لك.

عمر يستعمل النعمان بن مقرن غازيَاَ لنهاوند

وذكر علقمة بن عبد اللهّ المزني، عن معقل بن يَسَار، أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان في فارس وإصبهان وأذربيجان، فقال له: أصبهان الرأس، وفارس وأذربيجان الجناحان، فإن قطعتَ أحد الجناحين ناء الرأس بالجناح الأخر، وإن قطْعتَ الرأس وقع الجناحان، فأبدا بالرأس، فدخل المسجد فإذا هو بالنعمان بن فقَرِّن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: ما أراني إلا مستعملك، قال: أما جابياً فلا، ولكن غازيا، قال: فإنك غازٍ، فوجَّهه وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدُوه، وبعث معه الزبير بن العوام، وعمرو بن معد يكرب، وحذيفة، وابن عمرو، والأشعث بن قيس، فأرسل النعمان المغيرة بن شعبة إلى ملكهم، وهو يقال له ذو الجناحين، فقطع إليهم نهرهم، فقيل لذي الجناحين: إن رسول العرب هاهنا، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ فقالوا: اقعد له في بهجة الملك أو أقعد له في هيئة الحرب، فقال: بل أقعد له في بهجة الملك، فصعد على سريره ووضع التاج على رأسه وأقعد أبناء الملوك سماطين عليهم الأقراط وأسْوِرَةُ الذهب والديباج، وأذن للمغيرة، فأخذ بضبعيه رجلان ومعه سيفه ورمحه قال: فجعل المغيرة يطعن برمحه في بُسُطِهم يخرقها لينظروا فيغضبهم بذلك حتى قام بين يديه وجعل يكلمه والترجمان يترجم بينهما. فقال: إنكم معشر العرب أصابكم جهد، فإن شئتم مِرْنَاكم ورجعتم، فتكلم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنا معشر العرب كنا أذلّةً يطؤنا الناس ولا نطؤهم، ونأكل الكلاب والجيف، ثم إن اللّه تعالى بعث منا نبياً في شرف منا أوسطنا حسباً وأصدقنا حديثاً، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ببعثه، وأخبرنا بأشياء وجدناها كما قال لنا، وإنه وعدنا فيما وعدنا به أنا سنملك ما هاهنا ونغلب عليه، وإني أرى هاهنا هيئة وبزة ما مَنْ خَلْفِي بتاركها حتى يصيبوها أو يموتوا، فقالت لي نفسي: لوجمعت جَزَامِيزَكَ ووثَبْتَ فقعدت مع العلج على سريره حتى يتطير، قال: فوثبت وثبة فإذا أنا معه على سريره، فجعلوا يلكزونني بأرجلهم ويجذبونني بأيديهم. فقلت لهم: إنا لا نفعل برُسُلكم، وإن كنت قد فجرت واستخففت فلا تؤاخنوني، فإن الرسل لا يصنع بها هكذا، فقال الملك:  إن شئتم قطعنا إليكم وإن شئتم قطعتم إلينا، قلت: بل نقطع إليكم، فقطعنا إليهم، قال: فتسللوا كل خمسة وستة حتى لا يفروا. فدنوا إليهم فضايقناهم، فرشقونا حتىَ أشرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: إنه قد أشرع في الناس وقد جرحوا، فلو حملت، فقال النعمان: إنك لذو مناقب، وقد شهدْتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال، وكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر، ثم قال: إنى هاز لوائي ثلاث. مرات، فأما أول هزة فليقض الرجل حاجته وليتوضأ، وأما الثانية فلينظر الرجل إلى شِسْمعِه وليلزم سلاحه، فإذا هززت الثالثة فاحملوا ولا يلويَنَّ أحد على أحد، وإن قتل النعمان، وإني داع إلى الله بدعوة، وأقسمت على كل أمرىء منكم لما أمَّنَ عليها، وقال: اللهم ارزق النعمان اليوم شهادة في نصر وفتح عليهم. فأمن القوم فهز لواءه ثلاثاً، ثم أدنى درعه وحمل ثم حمل الناس فكان أول صريع، قال معقل: فأتيت عليه فذكرت عزيمته ألا أقف عليه، وأعلمت غلمانه لأعرف مكانه، وأمْعَنَا القتل فيهم، ووقع ذو الجناحين عن بغلة له شهباء فانشق بطنه، وفتح الله على المسلمين، فأتيت إلى مكان النعمان فصادفته وبه رَمَق، فأتيته بإداوة فغسلت وجهه، فقال: مَنْ هذا؟ قلت: معقل ابن يَسَار، قال ما فعل الله بالناس؟ قلت: فتح الله عليهم، قال: الحمد الله كثيراً اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه، واجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس، وأرسلوا إلى أم ولده: هل عهد إليك النعمان عهداً له أم عندك كتاب؟قالت: بل سفط فيه كتاب، فأخرجوه فإذا فيه: إذا قتل النعمان ففلان وإن قتل فلان ففلان، وإن قتل فلان ففلان، فامتثلوا، وفتح الله على المسلمين فتحاً عظيمأ.

شهداء نهاوند

قال المسعودي رحمه اللّه: وهذه وقعة نهاوند، وقد كان للأعاجم فيها جمع كثير وقتل هنالك خلق كثير: منهم النعمان بن مقرن، وعمرو بن معد يكرب، وغيرهما، وقبورهم إلىِ هذا الوقت بينة معروفة على نحو فرسخ من نهاوند فيما بينها وبين الدِّينوَرِ وقد أتينا على وصف هذه الواقعة فيما سلف من كتبنا. 

عمر يسأل عمرو بن معد يكرب عن قبائل من العرب

وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى قال: لما قدم عمرو بن معد يكرب من الكوفة على عمر سأله عن سعد بن أبي وَقَّاص، فقال فيه ما قال من الثناء، ثم سأله عن السلاح، فأخبره بما علم، ثم سأله عن قومه، فقال له: أخبرني عن قومك مَذْحِج ودع طيئاً قال: سلني عن أيهم شئت، قال: أخبرني عن علة بن جلد، قال: هم فرسان أغراضنا، وشُفَاة أمراضنا، وهم أعتقنا، وأنجبنا، وأسرعنا طلباً، وأقلنا هرباً، وهم أهل السلاح والسماِح والرماح، قال عمر: فما أبقيت لسعد العشيرة؟ قال: هم أعظمنا خميساَ، وأسخانا نفوساً، وخير نارنا رئيساً، قال: فما أبقيت لمراد؟ قال: هم أوسعنا داراً، وخيرنا جاراً، وأبعدنا آثاراً، وهم الأتقياء البررة، والساعون الفَخَرة، قال: فأخبرني عن بني زَبِيد، قال: أنا عليهم ضنين، ولو سألت الناس عنهم لقالوا هم الرأس والناس الأذناب، قال: فأخبرني عن طيء، قال: خصوا بالجود، وهم جمرة العرب، قال: فما تقول في عبس؟ قال: حجم عظيم، وزبن أثير، قال: أخبرني عن حِمْيَر، قال: رَعَوُا العفو، وشربوا الصَّفْوَ، قال: فأخبرني عن كِنْدَةَ، قال: ساسوا العباد، وتمكنوا من البلاد. قال: فأخبرني عن هَمْدَان. قال: أبناء الليل، وأهل النيل، يمنعون الجار، ويوفون النِّمَار ويطلبون الثار قال: فأخبرني عن الأزد. قال: هم أقدمنا ميلاداً. وأوسعنا بلاداً، قال: فأخبرني عن الحارث بن كعب، قال: هم الحسكة المسكة، تلقى المنايا أطراف رماحهم. قال: فأخبرني عن لخم. قال: أخرنا مُلْكاً، وأولنا هلكاً، قال: فأخبرني عن جُذَام. قال: أولئك كالعجوز الغبراء، وهم أهل مقال وفعال، قال: فأخبرني عن غسان. قال: أرباب في الجاهلية نجوم في الإِسلام، قال: فأخبرني عن الأوس والخزرج. قال هم الأنصار وهم أعزنا داراً، وأمنعنا ذماراً، وقد كفانا الله مدحهم إذا يقول:" والذين تبوؤا الدار والأيمان " الآية- قال: فأخبرني عن خُزَاعة. قال: أولئك مع كنانة لنا نسبهم، وبهم نصرنا. قال: فأي العرب أبغض من مَذْحِج، وأما من سعد فعدي من فَزَارة، ومرة من ذبيان، وكلاب من عامر، وشيبان من بكر بن وائل. ثم لوجُلْتُ بفرسي على مياه معد ما خفت هيج أحد ما لم يَلْقَنِي حُراها وعَبْداها. قال: ومن حُرَّاها وَمَنْ عبداها؟ قال: أما حراهأ فعامر بن الطفَيل وعُيَيْنة بن الحارث بن شهاب التميمي، وأما عبداها فعنترة العبسي وسُلَيك المقانب.

ويسأله عن الحرب

ثم سأله عن الحرب فقال: سألت عنها خبيراً، هي واللّه يا أمير المؤمنين مرة المذاق، إذا شَمًرت عن ساق، من صبر فيها ظفر، ومن ضعف فيها هلك، ولقد أحسن واصفها فأجاد:

الحرب أولَ ماتـكـون فـتـية

 

تبدو بزينتها لـكـل جـهـول

حتى إذا حميت وشَبَّ ضِرَ أمه ا

 

عادت عجوزاً غير ذات حلـيل

شمطاء جُزَّتْ رأسها وتنكـرت

 

مكروهة للثـم والـتـقـبـيل

ثم سأله عن السلاح، فأخبره بما عرف حتى بلغ السيف، قال: هنالك قارعتك أمك عن ثكلها، فعَلاه عمر الدرة، وقال: بل أمك قارعتك عن ثكفها، والله إني لأهم أن أقطع لسانك، فقال عمرو: الحُمَّى أضرعتني لك اليوم، وخرج من عنده وهو يقول:

أتوعدني كـأنـك ذو رُعَـيْن

 

بأنعـم عـيشة أو ذونُـوَاس

فكم قد كان قبلك من ملـيك

 

عظيم ظاهرم الجبروت قاس

فأصبح أهله بادوا، وأمسـى

 

ينقَّلُ من أناس فـي أنـاس

فل ايغررك ملكك، كلُّ ملك

 

يصير مذلة بعد الشِّـمَـاسَ

قال: فاعتذر عمر إليه، وقال: ما فعلت ما فعلته إلا لتعلم أن الإِسلام أفضل وأعز من الجاهلية، وفضله على الوفد.

عمرو يحدث عمر عن فراره ذات مرة

وقد كان عمر آنس عمراً بعد ذلك، وأقبل يسأله ويذاكره الحروب وأخبارها في الجاهلية، فقال له عمر: يا عمرو، هل انصرفت عن فارس قط في الجاهلية هيبة له؛ قال: نعم، واللّه ما كنت أستحل الكذب فيِ الجاهلية فكيف أستحله في الإسلام؟ لأحدثنك حديثاً لم أحدث به أحداَ قبلك، خرجت في جريدة خيل لبني زبيد أريد الغارة، فأتينا قوماً سراة؟ فقال عمر: وكيف عرفت أنهم سراة؛ قال: رأيت مزاود وقدوراً مُكْفَأة وقباب حمراً ونَعَمَاً كثيراً وشاء، قال عمرو: فأهويت إلى أعظمها قبة بعدما حوينا السبي، وكان متبدداً من البيوت، وإذا امرأة بادية الجمال على فرش لها، فلما نظرت إلي وإلى الخيل استعبرت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: واللّه ما أبكي على نفسى، ولكني أبكي حسداً لبنات عمي يَسْلَمن وأبتلي أنا من بينهن، فظننت واللّه أنها صادقة، فقلت لها: وأين هُنَ؛ قالت: في هذا الوادي، فقلت لأصحابي: لا تُحْدِثوا شيئاً حتى آتيكم، ثم همزت فرسي حتى علوت كثيباً، فإذا أنا بغلام أصهب الشعر أهذب أقنى أقَبَّ يخصف نعاله وسيفه بين يديه وفرسه عنده، فلما نظر إليَّ رَمى النعل من يده ثم أحْضَرَ غير مكترث، فأخذ سلاحه وأشرف على ثنية، فلما نظر إلى الخيل محيطة ببيته ركب ثم أقبل نحوي وهو يقول:

أقول لما مَنَحَتْـنـي فـاهـا

 

وألبستني بـكـرة رداهـا

إني سأحوي اليوم مَنْ حواها

 

فليت شعري اليوم مَنْ دهاها

فحملت عليه وأنا أقول:

عمرو على طول الردى دَهَاها

 

بالخيل يبقيها على وجـاهـا

حتى إذا حَلَّ بهـا حَـوَاهَـا

 

 

ثم حملمت عليه بالفرس فإذا هو أروغ من هر، فراغ عني، ثم حمل علي فضربني بسيفه ضربة جرحتني، فلما أفقت من ضربته حملت عليه، فراغ واللّه، ثم حمل علي، تها صرعني، ثم استاق ما في أيدينا، ثم استويت على فرسي، فلما رأني أقبل وهو يقول:

أنا عبيد اللّه محمود الشـيم

 

وخير مَنْ يمْشِي بساق وقدم

عدوه يفديه من كل السَّقَم

 

 

فحملت عليه وأنا أقول:

أنا ابن في التقليد في الشهر الأصم

 

أنا ابن في الإكليل قَتَّالُ البـهـم

من يلقني يودي كـمـا أودت أرم

 

أتركه لحما على ظهـر وَضـم

فراغ واللهّ عني، ثم حمل علي فضربني ضربة أخرى، ثم صرخة صرخة، ورأيت الموت واللّه يا أمير المؤمنين ليس دونه شيء، وخِفْته خوفاً لم أخف قط أحداً مثله، وقلت له: من أنت ثكلتك أمك؟؟ فو اللهّ ما أجترأ عليَّ أحد قط إلا عامر بن الطفيل لإِعجابه بنفسه، وعمرو بن كلثوم لسِنِّهِ وتجربته فمن أنت؟ قال: بل مَنْ أنت؟ خبرني وإلّاَ قتلتك، قلت: أنا عمرو بن معد يكرب، قال: وأنا ربيعه بن مُكدَم، قلت: أختر مني إحدى ثلاث خصال: إن شئت اجتلدنا بسيفينا حتى يموت الأعْجَزُ منا، وإن شئت اصطرعنا، وإن شئت السِّلْم، وأنت يا ابن أخي حَدَثٌ وبقومك إليك حاجة، قال: بل هي إليك، فاختر لنفسك، واخترت السلم، ثم قال انزل عن فرسك، قلت: يا ابن أخي قد جرحتني جراحتين ولا نزول لي فواللّه ما كَفَّ عني حتى نزلت عن فرسي، فأخذ بعنانه، ثم أخذ بيدي في يده وانصرفنا إلى الحي وأنا أجرر رجلي، حتى طلعت علينا الخيل فلما رأوني همزوا خيولهم إلي فناديتهم: إليكم وأرادوا ربيعه، فمضى والله كأنه ليث حتى شَقّهم، ثم أقبل علي فقال: يا عمرو، لعل أصحابك يريدون غير الذي تريد، فصمَتَ واللهّ القومُ ما فيهم أحد ينطق، وأعظم ما رأوا منه، فقلت: يا ربيعه بن مُكَدَّم لا يريدون إلا خيراً، وإنما سمت ليعرفه القوم، فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: وما تريد؟ قد جرحت فارسَ العربِ، وأخذت سيفه وفرسه، ومضى ومضينا معه، حتى نزل، فقامت إليه صاحبته وهي ضاحكة تمسح وجهه، ثم أمر بإبل فنحرت، وضُرِبت علينا قباب، فلما أمسينا جاءت الرعاء ومعهم أفراس لربيعه لم أرى مثلها قط فلما رأى نظري إليها قال: كيف ترى هذه الخيول؟ قلت: لم أرى مثلها قط، قال: أما لو كان عندي بعضها ما لبثت في الدنيا إلا قليلأ، فضحكتُ وما ينطق أحد من أصحابي، فأقمنا عنده يومين ثم انصرفنا.

عمرو بن معد يكرب يغير على بني كنانة

قال: وقد كان عمرو بن معد يكرب بعد ذلك بزمان أغار على كنانة في صناديد قومه، فأخذ غنائمهم، وأخذ امرأة ربيعه بن مُكَدَّم، فبلغ ذلك ربيعه- وكان غير بعيد- فركب في الطلب على فرس عُرْي ومعه رمح بلا سنان حتى لحقه، فلما نظر إليه قال: خَلِّ عن الظعينة وما معك فلم يلتفت إليه، ثم أعاد عليه، فلم يلتفت إليه، فقال: يا عمرو، إما أن تقف لي وإما أن أقف لك فوقف عمرو، وقال: لقد أنصف القَارَةَ من راماها، قف لي يا ابن أخي، فوقف له ربيعه، فحمل عمرو وهو يقول:

أنا أبو ثَوْرٍ ووقاف الـزلـق

 

لست بمأفون ولا فيَّ خُـرُقْ

وأسد القوم إذا أحمر الحَـدَقْ

 

إذا الرجال عَضَّهم نابُ الفرق

وجدتني بِالسيف هَتَّاكَ الحلق

 

 

حتى إذا ظنَّ أنه خالطه السنان إذا هو لَبَبٌ لفرسه، ومَرَّ السنان على ظهر الفرس، ثم وقف له عمرو، فحمل عليه ربيعه وهو يقول:

أنا الغلام ابن الكناني لا بـذخ

 

كم مِنْ هِزَبْرٍ قد رأني فانشدخ

فقرع بالرمح رأسه، ثم قال: خذها إليك يا عمرو، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك، فقال عمرو: لا ينصرف إلا أحَدُنَا، فقف لي، فحمل عليه حتى إذا ظن أنه خالطه السنان إذا هو حِزَام لفرسه ومر السنان على ظهر الفرس ثم حمل عليه ربيعه فقرع بالرمح رأسه أيضاً، وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية، وإنما العفو مرتان، وصاحت به امرأته: السنان لله درك، فأخرج سناناً من سِنْخ إزاره كأنه شعلة نارٍ، فركبه على رمحه، فلما نظر إليه عمرو، وذكر طعنته بلا سنان قال له عمرو: يا ربيعه خذ الغنيمة، قال: دَعْهَا وانْجُ، فقالت بنو زبيد: أنترك غنيمتنا لهذا الغلام؟ فقال لهم عمرو: يا بني زبيد، واللّه لقد رأيت الموت الأحمر في سنانه، وسمعت صرِيره في تركيبه، فقالت بنو زبيد: لا يتحدث العربُ أن قوماً من بني زبيد فيهم عمرو بن معد يكرب تركوا غنيمتهم لمثل هذا الغلام، قال عمرو: إنه لا طاقة لكم به، وما رأيت مثله قط، فانصرفوا عنه، وأخذ ربيعه امرأته والغنيمة وعاد إلى قومه.

قال المسعودي رحمه الله تعالى: ولعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة في أسفاره في الجاهلية إلى الشام والعراق مع كثير من ملوك العرب والعجم، وسير في الإسلام، وأخبار وسياسات حسان، وما كان في أي أمه من الكوائن والأحداث وفتوح مصر والشام والعراق وغيرها من الأمصار، قد أتينا على مبسوطها في كتابنا أخبار الزمان والكتاب الأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً مما لم نذكره فيما سلف من كتبنا، وباللّه التوفيق.