ذكر خلافة معاوية بن أبي سفيان

ذكر خلافة معاوية بن أبي سفيان

وبويع معاوية في شوال سنة إحدى وأربعين، ببيت المقدس، فكانت أيامه تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي في رجب سنة إحدى وستين، وله ثمانون سنة، ودُفن بدمشق بباب الصغير، وقبره يُزِار إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- وعليه بيت مبني يفتح كل يوم اثنين وخميس.

ذكر لمع من أخباره وسيره ونوادر من بعض أفعاله

مقتل حجر الكندي

وفي سنة ثلاث وخمسين قَتَلَ معاوية حُجْرَبن عدي الكِنْدِيَّ، وهو أولى من قتلصبراً في الِإسلام: حملة زياد من الكوفة ومعه تسعةُ نَفَرِ من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها، فلما صار على أميال من الكَوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول، ولا عقب له من غيرها:

تَرَفَعْ أيها القمر المـنـير

 

لعلك أن ترى حُجْراً يسير

يسير إلى معاوية بن حرب

 

ليقتله، كَذَا زَعَمَ الأمـير

وَيَصْلبه عَلَى بَابَيْ دمـشـق

 

وتأكل من مَحَاسِنِه النسـور

تخيرت الخبائر بعد حُـجْـر

 

وَطَابَ لها الخورنق والسَّدِير

ألا يا حجرحجربنـي عـدي

 

تلقتك السلامة وَالـسـرُور

أخاف عليك ما أردى علـيا

 

وَشَيْخاً في دمشق لـه زئير

ألا يا ليت حجراً مات موتـاً

 

ولم يُنْحَركما نحر البَـعِـير

فإن تهلك فكل عَمِـيد قَـوْم

 

إلى هُلْكٍ من الدُّنْيَا يَصِـير

ولما صار إلى مرج عفراء على اثني عشر ميلاً من دمشق تقدَّم البريد بأخبارهم إلى معاوية، فبعث برجل أعْوَر، فلما أشرف على حُجْر وأصحابه قال رجل منهم: إن صدق الزَّجْر فإنه سيقتل مِنَّا النصف وينجو الباقون، فقيل له: وكيف ذلك. قال: أما ترون الرجل المقبل مُصَاباً بإحدى عينيه، فلما وصل إليهم قال لحجر: إن أمير المؤمنين قد أمرني بقتلك يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب وقتل أصحابك، إلا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرؤوا منه، فقال حُجْر وجماعة ممن كان معه: إن الصبر على حد السيف لأيْسَرُ علينا مما تَدْعُونَا إليه، ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيه أحَبُّ إلينا من دخول النار، وأجاب نصف من كان معه إلى البراءة من علي، فلما قُدِّمَ حجر ليُقْتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فجعل يطول في صلاته، فقيل له: أجَزَعاً من الموت؟ فقال: لا، ولكني ما تطهرت للصلاة قط إلا صليت، وما صليت قط أخَفَّ من هذه، وكيف لا أجزع، وإني لأرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً وكَفَناً منشوراً، ثم تقدم فنحر، وألحق به من وافقه على قوله من أصحابه، وقيل: إن قتلهم كان في سنة خمسين.

عدي بن حاتم ومعاوية

وذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات؟ يعني أولاك، قال: قتلوا مع علي، قال: ما أنصفك عَليّ قتل أولادك وبَقَّى أولاده، فقال عدي: ما أنْصَفْتَ عليّاً إذ قتل وبقيت بعده، فقال معاوية: أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن، فقال عدي: واللهّ إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنيَنَّ إليك من الشر شبراً، وإن حَزَّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهْوَنُ علينا من أن نسمع المساءة في علي، فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف، هذه كلمات حكم فاكتبوها، وأقبل على عديّ محدثاً له كأنه ما خاطبه بشيء.

بين عمرو بن عثمان وأسامة عند معاوية

وذكر أن معاوية بن أبي سفيان تنازع إليه عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، في أرض، فقال عمرو؟ لأسامة: كأنك تنكرني، فقال أسامة: ما يسرني نسبك بولائي، فقام مروان بن الحكم فجلس إلى جانب عمرو بن عثمان، وقام الحسن فجلس إلى جانب أسامة، فقام سعيد بن العاص فجلس إلى جانب مروان، فقام الحسين فجلس إلى جانب الحسن، وقام عبد اللّه بن عامر فجلس إلى جانب سعيد، فقام عبد اللّه بن جعفر فجلس إلى جانب الحسين، وقام عبد الرحمن بن الحكم فجلس إلى جانب ابن عامر، فقام عبد اللّه بن العباس فجلس إلى جانب ابن جعفر، فلما رأى ذلك معاوية قال: لا تعجلوا، أنا كنت شاهداً إذا أقطعها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، أسَامَةَ، فقام الهاشميون فخرجوا ظاهرين، وأقبل الأمويون عليه فقالوا: ألا كنت أصلحت بيننا قال: دعوني فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس على عقلي، وإن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بَلْوَى، وتمثل بأبيات امرىء القيس المتقدمة في هذا الكتاب في أخبار عمر رضي اللّه عنه، وأولها:

الحرب أول ما تكون فتية

 

تدنو بزينتها لكل جهول

ثم قال: ما في القلوب يشب الحروب، والأمر الكبير يدفعه الأمر الصغير، وتمثل:

قد يَلحق الصغير بالجلـيل

 

وإنما القرم مـن الأفِـيل

وتسحق النَّخْل منَ الفسيل

 

 

إلحاق زياد بأبي سفيان

قال المسعودي: ولما هَم معاوية بإلحاق زياد بأبي سفيان أبيه- وذلك في سنة أربع وأربعين- شهد عنده زيادة بن أسماء الحرمازي ومالك بن ربيعة السلولي والمنفر بن الزبير بن العوام أن أبا سفيان أخبر أنه ابنه، وأن أبا سفيان قال لعلي عليه السلام حين ذكر زياد عند عمر بن الخطاب:

أما واللّه لولا خَوْف شخص

 

يراني يا عليُّ من الأعادي

لبين أمره صخر بن حرب

 

ولم يكن المجمجم عن زياد

ولكني أخاف صُرُوف كف

 

لها نقم وَنَفْي عن بـلادي

فقد طالت محاولتي ثقيفَـاًَ

 

وتركي فيهم ثمر الفـؤاد

ثم زاد يقيناً إلى ذلك شهادة أبي مريم السلولي، وكان أخْبَرَ الناس ببدءِ الأمر وذلك أنه جمع بين أبي سفيان وسُمية أم زياد في الجاهلية على زنا، وكانت سُمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحارث بن كَلَحَةَ، وكانت تنزل بالموضع الذي تنزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا.

وكان سبب ادعاء معاوية له فيما ذكر أبو عبيدة معمر بن المثَّنى أن علياً كان وَلأَه فارس حين أخرج منها سهل بن حُنَيف، فضرب زياد ببعضهم بعضاً حتى غلب عليها، وما زال يتنقل في كُوَرِهَا حتى صلح أمر فارس، ثم وَلاه على أصطخبَ،. وكان معاوية يتهدد، ثم أخذ بُسْر بن أرطاة عبيد اللهّ وسالماً ولديه وكتب إليه يقسم ليقتلنهما إن لمِ يراجع ويدخل في طاعة معاوية وكتب معاوية إلى بُسْر ألا يعرض لأبْنيْ زياد، وكتب إلى زياد أن يدخل في طاعته وَيَرُدَّه إلى عمله، فقدم زياد على معاوية، فصالحه على مال وحلي، ودعاه معاوية إلى أن يستحلفه، فأبى زياد ذلك، وكان المغيرة بن شعبه قال لزياد قبل قدومه على معاوية: أرْم بالغرض الأقصَى، ودع عنك الفُضُولَ، فإن هذا الأمر لا يمد إليه أحد يداً إلا الحسن بن علي وقد بايع لمعاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فقال زياد: فأشِرْ علي، قال: أرى أن تنقل أصلك إلى أصله، وَتَصِلَ حبلك بحبله، وأن تعير الناس منك أذناً صًمّاء، فقال زياد: يا ابن شعبة، أأغْرس عوداً في غير منبِته ولا مَدَرَة فتحييه ولا عِرْقَ فيسقيه؟ ثم إن زياداً عزم على قبول الدعوى وأخذ برَأْي ابن شعبة، وأرسلت إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية، فأتاها فأذنت له وكَشَفَتْ عن شعرها بين يديه، وقالت: أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم، ثم أخرجه معاوية إلى المسجد، وجمع الناس، فقام أبو مريم السلولىِ فقال: أشهد أن أبا سفيان قَدِمَ علينا بالطائف وأنا خمَار في الجاهلية، فقال: ابغني بغياً، فأتيته وقلت له: لم أجد إلا جارية الحارث بن كَلَدَة سُمية، فقال: ائتني بها علىِ ذفرها وقذرها، فقال له زياد: مهلاً يا أبا مريم، إنما بعثت شاهداَ ولم تبعث شاتماً، فقال أبو مريم: لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إلَيَّ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت، واللّه لقد أخذ بكم درعها، وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً، فلم ألبث أن خرج عَلَيَ يمسح جبينه، فقلت: مَهْ يا أبا سفيان، فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم، لولا استرخاء من ثديها وذفر من فيها، فقام زياد فقال: أيها الناس، هذا الشاهد قد ذكر ما سمعتم، ولست أدري حق ذلك من باطله، وإنما كان عبيد ربيباً مبروراً أو ليَاً مشكوراً، والشهود أعلم بما قالوا، فقام يونس بن عبيد أخو صفية بنت عبيد بن أسد بن علافي الثقفي- وكانت صفية مولاة سُمَيَّة- فقال: يا معاوية، قضى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقضيت أنت أن الولد للعاهر وأن الحجر للفراش، مُخَالَفَةً لكتاب اللّه تعالى، وانصرافاً عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان، فقال معاوية: واللهّ يا يونس لتنتهين أو لأطيرن بك طيرة بطيئاً وقوعها، فقال يونس: هل إلا إلى اللّه ثم أقع؟ قال: نعم وأستغفر اللّه، فقال عبد الرحمن بن أمّ الحكم في ذلك ويقال: إنه ليزيد بن مفرغ الحميري:

ألا أبلغ معـاوية بـن حَـرْب

 

مُغَلْغَلًةَ عن الرجل اليمـانـي

أتغضب أن يُقال: أبُوكَ عَـف

 

وترضى أن يُقال: أبُوكَ زاني؟

فأشهد أن رِحْـمَـكَ مـن زياد

 

كَرِحْم الذيل من ولـد الأتـان

وفي زياد وإخوته يقول خالد النجاري:

إن زياداً ونـافـعـاً وأبـــا

 

بَكْرَةَ عندي من أعجب العَجَب

إن لاجـالاً ثـلاثة خـلـقـوا

 

من رِحْم أنثى مخالذي النسبَ

ذا قُرَشِيّ فـيمـا يقـول، وَذَا

 

مَوْلى، وهذا بِزَعْمِهِ عَرَبِـي

بين معاوية وعبد اللّه بن هاشم المرقال

ولما قتل علي كرم اللّه وجهه كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاشم بن عُتْبَة بن أبي وَقَّاص المِرْقَال وولده عبد اللهّ بن هاشم إحَنٌ، فلما استعمل معاوية زياداً على العراق كتب إليه، أما بعد: فانظر عبداللّه بن هاشم عتبة، فشدَّ يده إلى عنقه، ثم أبعث به إلي فحمله زياد من البصرة مُقَيَّداً مغلولاً إلى دمشق، وقد كان زياد طَرَقَه بالليل في منزله بالبصرة، فأدخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو بن العاص: هل تعرف هذا. قال: لا، قال: هذا الذي يقول أبوه يوم صِفَين:

إني شَرَبْتُ النَّفس لما اعْتَلا

 

وأكثَرَ اللـوم ومـا أقـلاَّ

أعْوَر يبغي أهْلَهُ مـحـلاّ

 

قدعالج الحياة حتى مَـلاَّ

لا بُـدَّ أن يَغُـلَّ أو يُفَـلا

 

أشلُّهم بذي الكُعُوب شَـلا

لا خَـيْرَ عـــنـــدي

 

في كَـــرِيم وَلَّـــى

فقال عمرو متمثلاً:

وقد يَنْبُتُ المَرْعَى على دمَنِ الثّرَى

 

وتبقى حزَازَاتُ النفوس كما هـيا

دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب أوداجه على أسباجه، ولا ترده إلى أهل العراق، فإنه لا يصبر عن النفاق، وهم أهلِ غدر وشقاق، وحزب إبليس ليوم هيجاء، وإن له هَوى سَيرديه يه، ورأياً سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فقال عبد اللّه: يا عمرو، إن أقتل فرجل أسْلَمه قومه، وأدركَه يومُه، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بسمال النطاف، وعقائق الرصاف، كالأمة السوداء، والنعجة القَوْدَاء، لا تدفع يد لامس، فقال: عمرو، أما واللّه لقد وقعت في لهاذم شَذْقَم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتا من مخاليب أمير المؤمنين، فقال عبد اللّه: أما واللهّ يا ابن العاص إنك لبَطِر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غَشُوم إذا وليت، هيابة إذا لقيت، تهدر كما يهد العَوْدُ المنكوس المقيد بين مجرى الشول لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشده، أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً، ولم يمرقُوا كباراً، لهم أيد شداد، وألسنة حداد، يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل، فقال عمرو: أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب أطلاؤه، كأنما انطبق عليه صمد، فقال عبد اللّه: يا عمرو، إنا قد بلوناك ومقالَتَكَ فوجدنا لسانك كذوباً غادراً، خلوتَ بأقوام لا يعرفونك، وجُنْدٍ لا يسامونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ إليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولا ضطرب فخذاك اضطراب القَعُودِ الذي أثقله حمله، فقال معاوية: أيهاً عنكما، وأمر بإطلاق عبد اللّه، فقال عمرو لمعاوية:

أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتَنِـي

 

وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

أليس أبوه يا مـعـاوية الـذي

 

أعان علياً يوم حزَ الغَـلاَصـم

فلم ينثنِ حتى جرت من دمائنـا

 

بصفين أمثال البحور الخضارم

وهذا ابنه، والمرء يُشْبه شيخـه

 

ويوشك أن تقرع به سن نـادم

فقال عبد اللّه يجيبه:

مُعَاوِيَ إن المـرء عـمـراً أبَـتْ لـه

 

ضغينةُ صـدرٍ غِـشُّـهـا غـير نـائم

يرى لك قتلي يا ابـن هـنـد، وإنـمـا

 

يرى ما يرى عمرو ملـوك الأعـاجـم

على أنـهـم لا يقـتـلـون أسـيرهـم

 

إذا منعت عنه عـهـود الـمـسـالـم

وقد كان مـنـا يوم صِـفَـينَ نـفـرة

 

عليك جناها هـاشـم وابـن هـاشـم

قضى ما انقضى منها، وليس الذي مضى

 

ولا ما جرى إلا كأضـغـاث حـالـم

فإن تَعْفُ عني تعـف عـن ذي قـرابة

 

وإن تَرَ قتلي تستـحـل مـحـارمـي

فقال معاوية:

أرى العفو عن عُلْيَا قريش وسـيلةً

 

إلى اللّه في يوم العصيب القماطر

ولست أرى قَتْلِي الغَدَاةَ ابن هَاشـمٍ

 

بإدراك ثأري في لؤي وعـامـر

بل العفو عنه بعد ما بان جُـرْمُـه

 

وزلَتْ به إحدى الجدود العـوائر

فكان أبوه يوم صـفـين جـمـرة

 

علينا فأردته رِمـاح نـهـابِـر

وحضر عبد اللّه بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية، فقال معاوية: من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة؟ فقال عبد اللهّ: يا أمير المؤمنين، أما الجود فابتذال المال، والعطية قبل السؤال، وأما النجدة فالجراءة على الأقوام، والصبر عند أزورار الأقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين، والإصلاح للمال، والمحاماة عن الجار.

بين معاوية ومحمد بن أبي بكر

ولما صرف علي رضي الله عنه قيْسَ بن سعد بن عُبَادةَ عن مصر وَجَّه مكانه محمد بن أبي بكر، فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتاباً فيه: من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، أما بعد، فإن اللّه بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه، ولا ضعف في قوته، ولاحاجة - به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً، وجعل منهم غويّاً ورشيداً، وشقياً وسعيداً، ثم اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فانتخبه بعلمه، واصطفاه برسالته، وائتمنه على وحيه، وبعثه رسولاً ومبشراً ونذيراً ووكيلاً فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسَلّم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب: صدقه بالغيب المكتوم، أثره على كل حميم، وَوَقَاه بنفسه كل هَوْل، وحارب حَرْبه، وسالم سِلْمَه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقاً لا نظير له فيمن اتبعه، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تُسَاميه وأنت أنت، وهو هو، أصدق الناس نية، وأفضل الناس ذرية، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عم: أخوه الشاري بنفسه يوم موته، وعمه سيد الشهداء يوم أحد، وأبوه الذاب عن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وعن حَوْزَته، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تَبْغِيانِ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم الغَوَائل، وتجهدان في إطفاء نور اللّه، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتؤلَبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات أبوك، وعليه خَلَفْته، والشهيد عليك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق، والشاهد لعلي- مع فضله المبين القديم- أنصاره الذين معه وهم الذين. ذكرهم اللّه بفضلهم، وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، وهم معه كتائب وعصائب، يَروْنَ الحق في اتباعه، والشقاء في خلافه، فكيف- يا لك الويل!- تَعْدِلُه نفسك بعده وهو وارث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ووصيه وأبو ولده: أول الناس له أتباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسره، ويطلعه على أمره، وأنت عدوه وابن عدوه، فتمتَّعْ في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد وَهَى، ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمِنْتَ كَيده، ويئست من رَوْحه؟ فهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع الهدى. فكتب إليه معاوية: من معاوية بن صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. أما بعده: فقد أتاني كتابُكَ تذكر فيه ما اللّه أهْلًه في عظمته وقدرته وسلطانه، وما اصطفى به رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، مع كلام كثير لك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب، وقديم سوابقه، وقرابته إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومُوَاساته إياه في كل هَوْل وخوف، فكان احتجاجك عليَ وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد ربّاً صرف هذا الفضل عنك، وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحَقه لازماً لنا مبروراً علينا، فلما اختار اللهّ لنبيه عليه الصلاة والسلام، ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبْلَجَ حجته، وقبضه اللهّ إليه صلوات اللّه عليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حَقَه، وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتَّسقا، ثم إنهما دَعَوَاه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما، فهمَّا به الهموم، وأرادا به العظيم، ثم إنه بايع لهما وسَلّم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يُطْلِعانه على سرهما، حتى قبضهما الله، ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه مُنَاكما، فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، وقس شبرك بفترك، يقصر عن أن توازي أو تساوي مَنْ يَزِنُ الجبال بحلمه، لا يلين عن قَسْرٍ قناته، ولا يدرك ذو مقال أناته أبوك مهد مِهَاده، وبنى لملكه وسادة، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدَ به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك، والسلام على من أناب.

من معاوية إلى علي

ومما كتب به معاوية إلى عليّ: أما بعد، فلو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضُنَا على بعض، وإنا وإن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها مانَرُمّ به مامضى، ونُصلح به مابقي، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من القتال إلا ما أخاف، وقد واللهّ رَقّت الأجناد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل يستذل به عزيز، ويسترق به حر، والسلام.

جواب علي لمعاوية

فكتب إليه عليّ كرم اللّه وجهه: من عليّ بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضُنَا على بعض، وأنا وإياك نلتمس منها غاية لم نبلغها بعدُ، فأما طلبك مني الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلست بأمضى على للشك مني على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحْرَصَ من أهل العراق على الأخرى، وأما قولك نحن بنو عبد مناف فكذلك نحن، وليس أمية كهاشم، ولا حَرْب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا المُبْطِل كالمحقّ، وفي أيدينا فضل النبوة التي قَتَلْنَا بها العزيز، وبعنا بها الحر، والسلام.

بين سعد ومعاوية

وحدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن أبي مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، قال: لما حج معاوية طاف بالبيصَ ومعه سعد، فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندرَة، فأجلسه معه على سريره، ووَقَعَ معاوية في علي وشَرَعَ في سَبَّه، فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي، واللهّ لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن- يكون لي ما طلعت عليه الشمس، واللّه لأن أكون صهراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لي من الولد ما لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، والله لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال لي ما قاله يوم خيبر "لأعطيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللهّ ورسوله ليس بِفَرَّار، يفتح اللهّ على يديه " أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، واللهّ لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قال له في غزوة تبوك: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت، ثم نهض".

ووجدت في وجه آخر من الروايات، وذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار، عنِ ابن عائشة وغيره، أن سعداً لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرَطَ له معاوية، وقال له: اقعد حتى تسمع جواب ما قلت، ما كُنْتَ عندي قَطُّ الأم منك الآن، فهلا نصرته، ولك قعدت عن بيعته؟ فإني لو سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي ما عشت، فقال سعد: واللّه إني لأحق بموضعك منك، فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة، قال النوفلي: وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري:

سائل قريشاً يها إن كنت ذا عَمَـه

 

مَنْ كان أثْبَتَهَا في الـدين أوْتَـادَا

من كان أقدمها سلما، وأكثـرهـا

 

علما، وأطهرهـا أهـلا وأولادا

من وحَّدَ اللّه إذ كانـت مـكـذبة

 

تدعو مع اللّه أوثـانـاً وأنـدادا

من كان يُقْدِم في الهيجاء إن نكلوا

 

عنها، وإن بَخِلوا في أزمة جـادا

من كان أعدلها حكماً، وأقسطهـا

 

حلماً، وأصدقها وعـداً وإيعـادا

إن يَصْدَقوك فلم يَعدوا أبا حسـن

 

إن أنت لم تلق للأبرار حـسـادا

إن أنت لم تلق من تَيْمٍ أخا صَلَف

 

ومن عدي لحق اللّـه جُـحَّـادا

أو من بني عامر، أو من بني أسد

 

رَهْط العبيد ذوي جهل وأوغـادا

أورهط سعد، وسعد كان قد علموا

 

عن مستقيم صراط اللّه صَـدَّادا

قوم تَدَاعَوْا زنيمـا ثـم سـادهُـمُ

 

لولا خمول بني زهر لما سـادا

وكان سعد وأسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر ومحمد بن سلمة ممن قعد عن علي بن أبي طالب، وأبوا أن يبايعوه هم غيرهم ممن ذكرنا من القُعَّاد وفلك أنهم قالوا: إنها فتنة، ومنهم من قال لعلي: أعْطِنا سيوفاً نقاتل بها معك، فإذا ضربنا بها المؤمنين لم تعمل فيهم ونَبَتْ عن أجسامهم، وإذا ضربنا بها الكافرين سَرَتْ في أبدانهم، فأعرض عنهم عليّ، وقال: ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.

بين معاوية وأبي الطفيل الكناني

وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من الأخباريين أن الأمر لما أفضى إلى معاوية أتاه أبو الطفيل الكناني فقال له معاوية: كيف وَجدُك على خليلك أبي الحسن. قال: كوجد أم موسى على موسى، وأشكو إلى الله التقصير، فقال معاوية، أكنت فيمن حضر قتل عثمان؟ قال: لا، ولكني فيمن حضر فلم ينصره، قال: فما منعك من ذلك وقد كانت نصرته عليك واجبة؟ قال: منعني ما منعك إذ تربص به ريب المنون وأنت بالشأم، قال: أو ما ترى طلبي بدمه نصرة له؟ قال بلى، ولكنك وإياه كما قال الجعدي.

لا ألفينك بعد الموت تندبنـي

 

وفي حياتي ما زودتني زادا

ودخل على معاوية ضرار بن الخطاب فقال له: كيف حزنك على أبي الحسن؟ قال: حزن من ذبح ولدها على صدرها فما ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.

بين معاوية وقيس بن سعد

ومما جرى بين معاوية وبين قيس بن سعد بن عبادة حين كان عاملاً لعلي على مصر فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، إن ظفر أحَبُّ الفريقين إليك عَزَلَك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك نَكَلَ بك وقتلك، وقد كان أبوك أوْتَرَ قوسه، ورمى غَرَضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصِلَ، فخذله قومه، وأدركه يومُه، ثم مات بحوران طريداً.

فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت وثني ابن وثني، دخلت في الإسلام كرهاً، وخرجت منه طوعاً، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، وقد كان أبي أوتَرَ قوسه، ورمى غرضه، فشعب به من لم يبلغ عقبه، ولا شق غُبَاره، ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت، وأعداء الدين الذي فيه دخلت.

ودخل قيس بن سعد بعد وفاة علي ووقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية، فقال لهم معاوية: يا معشر الآنصار، بِمَ تطلبون ما قبلي؟ فواللّه لقد كنتم قليلاً معي كثيراً عليَّ، ولضللتم حَدِّي يومِ صِفِّينَ حتى رأيت المنايا تلظَّى في أسنتكم، وهجوتمونى في أسلافي بأشد من وقع الأسنة، حتى إذا أقام اللهّ ما حاولتم ميله قلتم: ارْعَ فينا وصية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، هيهات يأبى الحقِينُ العذرة، فقال قيس: نطلب قبلك بالإسلامِ الكافي به اللّه، لا بما تمتّ به إليك الأحزاب، وأم عداوتنا لك فلو شِئْت كففتها عنك، وأما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله، ويثبت حقه، وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا، وأما فَلُّنَا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى طاعَتَهُ طاعة للّه، وأما وصية رسول اللّه بنا فمن آمن به رعاها بعده، وأما قولك يأبى الحقين العذرة فليس دون اللهّ يد تحجزك منا يا معاوية، فقال معاوية يموه : أرفعوا حوائجكم.

من مناقب قيس بن سعد

وقد كان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل إلى علي بالموضوع العظيم، وبلغ من خوفه اللهّ وطاعته إياه أنه كان يصلي فلما أهوى للسجود إذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطوق، فمال عن الثعبان برأسه، وسجد إلى جانبه، فتطوق الثعبان برقبته، فلم يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئاً، حتى فرغ، ثم أخذ الثعبان فرمي به، كذلك ذكر الحسن بن علي بن عبد اللّه بن المغيرة عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا.

وقال عمرو بن العاص لمعاوية ذات يوم: قد أعياني أن أعلم أجَبَانٌ أنت أم شجاع، لأني أراك تتقدم حتى أقول: أراد القتال، ثم تتأخر حتى أقول: أراد الفرار، فقال له معاوية: واللّه ما أتقدم حتى أرى التقدم غما، ولا أتأخر حتى التأخر حَزْماً، كما قال القَطَامي.

العباس بن ربيعة

وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى عن أبي الأغرّ التيمي، قال: بينا أنا واقف بصفين إذ مر بي العباس بن ربيعة مغفراً بالسلاح، وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهما شُعْلَتَا نار أو عينا أرْقَم، وبيده صفيحة له يمانية يقِّلبها، والمنايا تلوح في شَفْرتها، وهو على فرس صَعْب، فبينا هو يبعثه ويمنعه ويلين من عريكته إذ هتف به هاتف يقال له عَرَار بن أدهم من أهل الشام يا عباس، هلم إلى النزال، قال: فالنزول إذاً، فإنه آيا من الحياة، فنزل إليه الشامي وهو يقول:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

 

أو تنزلون فإنا معشـر نُـزُلُ

وثنى العباس وركه وهو يقول:

اللّه يعلم أنا لا نحبـكـم

 

ولا نلومكُمُ أن لا تخبونا

ثم عصر فضلات درعه في محزمه يريد منطقته ودفع فرسه إلى غلام له أسود كأني والله أنظر إلى فلافل شعره، ثم زحف كل واحد منهما إلى صاحبه، وكف الفريقان أعنة الخيول ينظرون ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامَتِهِ، إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده وهتكه إلى ثَنْدُؤتَه، ثم عاد لمحاولته، وقد أخرج له مفتق الدرع، فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره، فخر الشامي لوجهه، فكبر الناس تكبيرة ارتَختْ لها الأرض من تحتهم، وانساب العباس في الناس، فإذا. قائل يقول من ورائي: "قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويُخزِهم وينصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين "الآية فالتفتُّ فإذا بعلي رضي اللّه عنه، فقال: يا ابن الأغرّ، من المبارز لعدونا؟ قلت: ابن أخيكم العباس بن ربيعة، قال وإنه لهو العباس. قلت: نعم، فقال: يا عباس، ألم أنْهَكَ وعبدَ اللّه بن عباس أن تحلا بمركز أو تبارزا أحداً. قال: إن ذلك كما قلت، قال علي: فما عَدَا مما بَدَا. قال: أفأدعى إلى البراز فلا اجيب؟ قال: طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوك، وتغيظَ واستطار، ثم تطامن وسكن ورفع يديه مبتهلاً، فقال: اللهم اشكر للعباس مقامه، واغفر ذنبه، اللهم إني قد غفرت له فاغفر له، وتأسف معاوية على عَرَار بن أدهم، وقال: متى ينطق فحل بمثله أبطل دمه! لاها اللهّ، ألا رجل يشري نفسه يطلب بدم عَرَار، فانتدب له رجلان من لخم من أهل البأس ومن صناديد الشام، فقال: أذهبا فأيكما قتل العباس فله مائة أوقية من التبر ومثلها من اللُّجَين وبعددهما من برود اليمن، فأتَيَاه فدعَوَاه إلى البراز، وصاحا بين الصفين: يا عباس يا عباس، ابرز إلى الداعي، فقال: إن لي سيداً أريد أن أؤامره، فأتى علياً وهو في جناح الميمنة يحرض الناس، فأخبره الخبر، فقال علي: واللهّ لَوَدَّ معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخُ ضِرْمَةٍ إلا طعن في بطنه إطفاء لنور اللّه "ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" أما واللّه ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم سوم الخسف حتى تعفو الآثار، ثم قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله، ووثب على فرس العباس، وقصد اللخميين، فلم يشكا أنه العباس، فقالا له: أذن لك صاحبك. فتحرج أن يقول نعم، فقال: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير".

وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعده، فبرز له أحدهما فما أخطأه، ثم برز له الاخر فألحقه بالأول، ثم أقبل وهو يقول "الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد لي، ونما الخبر إلى معاوية فقال: قبح اللّه اللجاج إنه لعقور ما ركبته قط إلا خذلت، فقال عمرو بن العاص: المخذول واللهّ اللخميان، والمغرور من غررته، لا أنت المخذول، قال: اسكت أيها الرجل فليس هذا من شأنك، قال: وإن لم يكن، رحم اللّه اللخميين، ولا أراه يفعل، قال: ذلك واللهّ أضْيقُ لحجتك، وأخْسَرُ لصفقتك، قال: قد علمت ذلك، ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده، فقال معاوية: مصر واللهّ أعمتك، ولولا مصر لالذيتك بصيراً، ثم ضحك معاوية ضحكاً ذهب به كل مذهب، قال: مِمَّ تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك اللّه سنك. قال: أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت علياً، وإبدائك سوأتَكَ، أما واللهّ يا عمرو لقد واقعت المنايا، ورأيتَ الموت عياناً، ولو شاء لقتلك، ولكن أبى ابن أبي طالب في قتلك إلا تكرماً، فقال عمرو: أما واللّه إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحْوَلَّتْ عيناك وبَدَا سَحْرك وبَدَا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أودع.

وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى أن معاوية برز في بعض أيام صفين أمام الناس وكَرَّ على ميسرة علي، وكان علي فيها في ذلك الوقت يعبىء الناس، فغير على لأْمته وجواده، وخرج بلأمة بعض أصحابه، وصَمدَ له معاوية، فلما تدانيا أثْبَته معاوية فغمز برجليه على جواده وعلي- وراءه، حتى فاته ودخل في مَصَافّ أهل الشام، فأصاب عليٌّ رجلا من مصافهم دونه، ثم رجع وهو يقول:  

يا لهفَ نفسي فَاتَنِي معاويه

 

فوق طمِرٍّ كالعقاب الضابيَهْ

وقدم عمروبن العاص من مصر على معاوية في بعض الأيام، فلما رآه معاوية قال:

يموتُ الصالحـونَ وأنـت

 

حيي تخطاكَ المنايا لاتموتُ

فأجابه عمرو:

فلسْتُ بميتٍ مادمت حيّاً

 

ولست بميت حتى تموت

وذكر أن معاوية لما نظر إلى معسكر أهل العراق- وقد. أشرفت وأخذت الرجال مراتبها من الصفوف- ونظر إلى عليّ على فرس أشْقَرَ حاسر الرأس يرتَبُ الصفوف كأنه يغرسهم في الأرض غرساً فيثبتون كأنهم بنيان مرصوص، قال لعمرو: يا أبا عبد اللّه، أما تنظر إلى ابن أبي طالب وما هو عليه. فقال له عمرو: مَنْ طلب عظيماً خاطر بعظيم.

بسر بن أرطاة:

وقد كان معاوية في سنة أربعين بعث بُسْرَ بن أرطاة في ثلاث آلاف حتى قَدِم المدينة وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحَّى، وجاء بُسْر حتى صعد المنبر وتهدَّد أهل المدينة بالقتل، فأجابوه إلى بيعة معاوية، وبلغ الخبر علياً فأنفذ حارثة بن قدامة السعدي في الذين ووهب بن مسعود في الذين، ومضى بُسْر إلى مكة، ثم سار إلى اليمن، وكان عبيد اللّه بن العباس بها، فخرج عنها ولحق بعده واستخلف عليها عبد اللّه بن عبد المَدَان الحارثي، وخلف ابنيه عبد الرحمن وقُثَم عند أمهما جويرية بنت قارظ الكناني، فقتلهما بُسْر وقتل معهما خالا لهما من ثقيف وقد كان بُسْربن أرْطَاةَ العامري- عامر بن لؤي بن غالب- قَتَلَ بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خُزَاعة وغيرهم، وكذلك بالجرف قتل بها خلقاً كثيراً من رجال هَمْدَان، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً من الأبناء، ولم يبلغه عن أحد أنه يمالىء علياً أو يهواه إلا قتله، ونما إليه خبر حارثة بن قدامة السعدي فهرب، وظفر حارثة بابن أخي بُسْر مع أربعين من أهل بيته، فقتلهم، وكانت جويرية أمُّ ابني عبيد اللهّ بن العباس اللذين قتلهما بُسْرٌ تدور حول البيت ناشرة سَعْرها وهي من أجمل النساء وهي تِقول ترثيهما:

هامن أحَسَّ من ابنَىِّ اللذين هـمـا

 

كالدرتين تَشظّى عنهما الـصـدف

هامن أحَسَّ من ابنيَّ للـذين هـمـا

 

سمعي وقلبي، فعقلي اليوم مختطَفُ

هامن أحَسَّ من ابنيَّ اللذين هـمـا

 

مخ العظام فمخي اليوم مزدهـف

نبئت بُسْراً، وما صَدَّقت ما زعمـوا

 

من قولهم ومن الإفك الذي وصفوا

أنحى على وَدِجَيْ ابنـي مـرهـفة

 

مشحوذة، وكذاك الإثـم يُقْـتَـرف

بين معاوية وعمرو بن العاص ووردان

وذكر الواقدي قال: دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية بعد ما كبر ودق ومعه مولاه وَرْدَانُ، فأخذا في الحديث، وليس عندهما غير وردان، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما بقي مما تستلذه. فقال: أما النساء فلا أربَ لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي فما أدري أيها الين، وأما الطعام فقد أكلت من لينه وطيبه حتى ما أدري أيها ألذ وأطيب، وأما الطِّيبُ فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب، فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بنيَّ وبني بنيَّ يدورون حولي، فما بقي منك يا عمرو؟ قال: مال أغرسه فأصيب من ثمرته ومن غلًته، فالتفَتَ معاوية إلى وَرْدَانَ فقال: ما بقي منك يا وَرْدَانَ؟ قال: صنيعة كريمة سنية أعلقها في أعناق قوم ذوي فضل وأخطار لا يكافئونني بها حتى ألقى الله تعالى وتكون لعقبي في أعقابهم بعدي، فقال معاوية: تَبّاً لمجلسنا سائر هذا اليوم، إن هذا العبد غلبني وغلبك.

وفاة عمرو بن العاص:

وفي سنة ثلاث وأربعين مات عمرو بن العاص بن وائل بن سَهْم بن سعيد بن سعد بمصر، وله تسعون سنة، وكانت ولايته مصر عشر سنين وأربعة أشهر، ولما حضرته الوفاة قال: اللهم لا براءة لي فأعتذر، ولا قوة لي فأنتصر، أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فركبنا، اللهم هذه يدي إلى ذقني، ثم قال: خُنُوا لي في الأرض خَدّاً، وسُنُّوا علي التراب سنّاً، ثم وضع أصبعه في فيه حتى مات، وصَلّى عليه ابنه عبد اللهّ يوم الفطر، فبدأ بالصلاة عليه قبل صلاة العيد، ثم صلى بالناس بعد ذلك صلاة العيد، وكان أبوه من المستهزئين، وفيه نزلتَ "إن شانئك هو الأبتر". وولى معاوية ابنه عبد اللّه بن عمرو ما كان لأبيه.

تركته

وخلف عمرو من العَيْنِ ثلثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الوَرِقِ ألف درهم وغلة مائتي ألف دينار بمصر وضيعته المعروفة بمصر بالوهط قيمتُها عشرة آلاف ألف درهم.


وفيه يقول ابن الزَبِيرِ الأسدي الشاعر من أبيات:

ألم تر أن الدهر أخنتْ صُـرُوفُـه

 

على عمروٍ السهمي تُجْبِى له مصر

فلم يُغْنِ عنه حَزْمـه واحـتـيالـه

 

ولا جمعه لَمَّا أتـيح لـه الـدهـر

وأمْسَى مقيما بالعَرَاء وضـلـلـت

 

مكايدة عنـه وأمـوالـه الـدَّثـر

وفي سنة خمس وأربعين وَلّى معاويةُ زيادَ بن أبيه البصرةَ وأعمالها، وقال لما دخلها:

ألا ربَّ مسرورٍ بنا لا نسره

 

وآخرمحزون بنا لا نضرة

وقد كان معاوية أغْرَى في هذه السنة سفيان بن عوف العامري، وأمره أن يبلغ الطوانة فأصيب معه خلق من الناس، فعمَّ الناسَ الحزنُ بمن أصيب بأرض الروم، وبلغ معاوية أنّ يزيد ابنه لما بلغه خبرهم وهو على شرابه مع ندمائه قال:

أهْوِنْ عَلًيّ بما لاقت جموعهُـمُ

 

يوم الطوانة من حمَى ومن مُوم

إذا اتكأت على الأنماط مرتفقـا

 

بدير مًرانَ عندي أم كـلـثـوم

أبـو أيوب الأنـصــاري:

 

 

فحلف عليه ليغزوَنَ، وأردف به سفيان، فسميت هذه الغزاة غزاة الرادفة، وبلغ الناسُ فيها إلى القسطنطينية، وفيها مات أبو أيوب الأنصاري ودُفن هناك على باب القسطنطينية، واسم أبي أيوب خالد بن زيد، وقد قيل: إن أبا أيوب مات في سنة إحدى وخمسين غازياً مع يزيد، وقد أتينا على خبر هذه الغَزَاة، وما كان من يزيد فيها في الكتاب الأوسط.

المغيرة بن شعبة

وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون بالكوفة، فهرب منها المغيرة بن شعبة وكان واليها، ثم. عاد إليها فطعن فمات، فمرِّ أعرابي عليه وهو يدفن فقال:

أرَسْمَ ديار لـلـمـغـيرة تـعـرف

 

عليها دَوِيّ الإنس والجن تـعـزف

فإن كنت قد لاقيت هامان بـعـدنـا

 

وفرعون فاعلم أن ذا العرش مُنْصِفُ

وذكر أن المغيرة ركب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، وهي في دير لها في الحِيرَةِ مترهبة، وهو أمير الكوفة يومئذ، وقد كانت هند عميت، فلما جاء الدير استأذن عليها، فأتتها جاريتها فقالت: هذا المغيرة يستأذن عليك، فقالت للجارية: ألقي إليه أثاثاً، فألقت إليه وسادة من سَعَرٍ، فلما دخل قعد عليها وقال: أنا المغيرة، فقالت له: قد عرفتك عامل المدرة، فما جاء بك؟ قال: أتيتك خاطباً إليك نفسك، قالت: أما والصليب لو أردتني لِدِيِنِ أو جمال ما رجَعْتَ إلا بحاجتك، ولكني أخبرك الذي أردت ذلك له، قاَل: وما هو. قالت: أردت أن تتزوجني حتى تقوم في الموسِم في العرب فتقول: تزوجت ابنة النعمان، قال: ذلك أرَدْتُ، ولكن أخبريني ما كان أبوك يقول في هذا الحي من ثقيف؟ قالت: كان ينسبهم في إياد، وقد افتخر عند رجلان من ثقيف أحدهما من بني سالم والأخر من بني يسار، فسألهما عن أنسابهما، فانتسب أحدهما إلى هَوَازن والآخر إلى إياد، فقال أبي: ما لحي معد على إياد فضل، فخرجا وأبي يقول:

إن ثقيفاً لم تكن هوازنـاً

 

ولم تناسب عامراً ومازنا

إلا حديثاً وَافَق المحاسنا

 

 

فقال المغيرة: أمَّا نحن فمن هوازن وأبوك أعلم، قال: فأخبريني أي العرب كان أحب إلى أبيك. قالت: أطوعهم له، قال: ومن أولئك؟ قالت: بكر بن وائل، قال: فأين بنو تميم. قالت: ما استعنتهم في طاعة، قال: فقيس؟ قالت: ما اقتربوا إليه بما يحب إلا استعقبوه بما يكره، قال: فكيف أطاع فارس. قالت: كانت طاعته إياهم فيما يهوى، فانصرف المغيرة.

ولما هلك المغيرة ضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أوَّلَ من جمع له ولاية العراقين البصرة والكوفة. وفي سنه ثمان وأربعين قَبَضَ معاوية فَدكَ من مروان بن الحكم، وقد كان وهبها له قبل ذلك، فاستردها.

وقد كان معاوية حجَّ في سنة خمسين، وأمر بحمل منبر النبي صلى الله عليه وسلم، من المدينة إلى الشام، فلما حمل كسفت الشمس ورؤيت الكواكب بالنهار، فجزع من ذلك وأعْظَمَه، وردَه، إلى موضعه، وزاد فيه ستة مراقي.

موت زياد.

وفي سنة ثلاث وخمسين هلك زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان، وكان يكنى أبا المغيرة، وقد كان كتب إلى معاوية أنه قد ضبط العراق بيمينه، وشمالُه فارغَةٌ، فجمع له الحجاز مع العراقين، واتصلت ولايته بأهل المدينة، فاجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضَجُّوا إلى اللّه، ولاذوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أيام، لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعسف، فخرجت في كفه بَثْرَة ثم حَكَّها ثم سرت واسود تْ فصارت آكلة سوداء، فهلك بذلك وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: اثنتين وخمسين، ودُفن بالثوية من أرض الكوفة.

وقد كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لَعْنِ علي، فمن أبى ذلك عرضه على السيف، فذكر عبد الرحمن بن السائب.، قال: حضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار، فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالس في الجماعة، وقد خَفَقْتُ، وهو إني رأيت شيئاً طويلاً قد أقبل، فقلت: ماهذا؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بُعِثْتُ إلى صاحب هذا القصر، فانتبهك فزعاً، فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر فقال: انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب من أبيات:

ما كان منتهياً عما أراد بـنـا

 

حتى تأتى له النقاد ذوا لرقبـهْ

فأسقط الشق منه ضربة ثبتـت

 

لما تناول ظلماً صاحبَ الرحبه

يعني بصاحب الرحية علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه! وقد ذهب جماعة إلى أن عليّاً دفن في القصر بالكوفة؟ ويقال: إن زياداً طُعِن في يده، وأنه شاور شريحاً في قطعها، فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجْذَمَ، وإن حَم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك: لِمَ قطعتها؟ قلت: بغضاً للقائك، وفراراً من قضائك، فلام الناس شريحاً، فقال لهم: إنه استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا أمانة المشورة لوددت أن اللّه قطع يده يوماً ورجله يوماً، وسائر جسده يوماً.

البيعة ليزيد

وفي سنة تسع وخمسين وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها، فكان ممن وفد من أهل العراق الأخنَفُ بن قيس في آخرين من وجوه الناس، فقال معاوية للضحاك بن قيس: إني جالس من غد للناس فأتكلم بما شاء اللّه، فإذا فرغت من كلامي فقل في يزيد الذي يحق عليك، وَادْعُ إلى بيعته، فإني قد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد اللّه بن عضاة الأشعري، وثور بن مَعْن السلمي أن يصدقوك في كلامك، وأن يجيبوك إلى الذي دعوتهم إليه، فلما كان من الغد قعد معاوية فأعلم الناس بما رأى من حُسْنِ رِعْيَة يزيد ابنه وهَدْيِه، وأن ذلك دعاه إلى أن يوليه عهده، ثم قام الضحاك بن قيس فأجابه إلى ذلك، وحضَ الناس على البيعة ليزيد، وقال لمعاوية: اعزم على ما أردت، ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد اللّه بن عضاة الأشعري وثور بن مَعْن فصدقُوا قوله ثم قال معاوية: أين الأحنف ققال: إن الناس قد أمْسَوْا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان يؤتنف، ويزيد حبيب قريب، فإن توله عهدك فعن غيركبرمُفْن، أو مرض مُضْن، وقد حَلَبْت الدهور، وجَربت الأمور، فاعرف من تُسْنِد إليه عهدك، ومن تولِّيه الأمر من بعدك، وأعصى رأي من يأمرك ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر لك، فقام الضحاك بن قيس مُغْضَباً فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق، وقال: اردد رأيهم في نحورهم، وقام عبد الرحمن بن عثمان فتكلم بنحو كلام الضحاك، ثم قام رجل من الأزد، فأشار إلى معاوية وقال: أنت أمير المؤمنين، فإذا مُتَ فأمير المؤمنين يزيد، فمن أبَى هذا فهذا، وأخذ بقائم سيفه فسلّه، فقال له معاوية: أقعد فأنت من أخطب الناس، فكان معاوية أول من بايع ليزيد ابنه بولاية العهد، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن همام السلولي:

فإن تَاتوا بِرَمْـلَةَ أوبـهـنـد

 

نُبَايعها أميرة مـؤمـنـينـا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

 

نعدُ ثلاثة مُتَـنَـاسـقـينـا

فيالهفا لَـوَانَ لـنـا أنـوفـا

 

ولكن لانعود كما عـنـينـا

إذا لضربتُمُ حَتَـى تـعـودوا

 

بمكه تلعقون بها السَّخِـينَـا

خشينا الغيظ حَتَى لوشَرِبْـنَـا

 

دماء بني أمـية مـارَوَينَـا

لقد ضاعت رَعِيَّتكُمْ وأنتم

 

تَصِيدُونَ الأرانب غافلينا

وأنفذت الكتب ببيعة يزيد إلى الأمصار، وكتب معاوية إلى مروان بن الحكم- وكان عاملَه على المدينة- يعلمه باختياره يزيد، ومبايعته إياه بولاية العهد، ويأمره بمبايعته، وأخذ البيعة له على من قِبَلَه، فلما قرأ مروان ذلك خرج مُغْضَباً في أهل بيته وأخواله من بني كنانة، حتى أتى دمشق فنزلها، ودخل على معاوية يمشي بين السِّمَاطين، حتى إذا كان منه بقدر ما يُسْمعه صَوْتَه سَلّم، وتكلم بكلام كثير يوبخ به معاوية، منه: أقم الأًمور يا ابن أبي سفيان، واعدل عن تأميرك الصبيان، واعلم أن لك من قومك نُظَرَاء، وأن لك على مناوأتهم وزراء، فقال له معاوية: أنت نظير أمير المؤمنين، وعُدّته في كل شديده وعَضده، والثاني بعد وليِّ عهده، وجعله ولي عهد يزيد، وردَه إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يَفِ لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد بن معاوية.

ذكر جمل من أخلاقه وسياسته

وطرائف من عيون أخباره

قد ذكرنا فيما تقدم جُمَلاً من أخبار معاوية وسيره، فلنذكر الآن في هذا الباب جملاً من أخلاقه وسياسته وأخباره، وغير ذلك مما لحق هذا المعنى إلى وفاته.

من أخلاق معاوية وعاداته

كان من أخلاق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات: كان إذا صلى الفجر جلس للقاصِّ حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، ثم يدخل منزله فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه، فيأذن لخاصة الخاصة. فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراؤه فيكلمونه فيما يريدون من يومهم إلى العشيِّ، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فَضْلة عشائه من جدي بارد أو فرخ أو ما يشبهه، ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد، ثم يخرج فيقول: يا غلام أخرج الكرسي، فيخرج إلى المسجد فيوضع فيسند ظهره إلى المقصورة ويجلس على الكرسي، ويقوم الأحْرَاسُ فيتقدم إليه الضعيف والأعرابي والصبي والمرأة ومن لا أحد له، فيقول: ظلمت، فيقول: أعِزُّوهُ، ويقول: عدي علي، فيقول: أبعثوا معه، ويقول: صنع بي، فيقول : انظروا في أمره، حتى إذا لم يبقى أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم، ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله بقاءه؟ فيقول: بنعمة من اللهّ، فإذا استووا جلوساً قال: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج مَنْ لا يصل إلينا، فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول آخر: غاب فلان عن أهله، فيقول: تعاهدوهم، أعطوهم، اقضوا حوائجهم، اخدموهم، ثم يؤتى بالغداء، ويحضر الكاتب فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقول له: اجلس على المائدة، فيجلس، فيمد يده فيأكل لقمتين أو ثلاثاً والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه بأمره، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر، حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء ويقال للناس: أجيزوا، فينصرون، فيدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع، حتى ينادي بالظهر، فيخرج فيصلي ثم يدخل فيصلي أربع ركعات، ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت وقتَ شتاء أتاهم بزاد. الحاج من الأخْبِصَة اليابسة والخشكنانج والأقراص المعجونه باللبن والسكر ودقيق السميذ والكعك المسمن والفواكه اليابسة والذانجوج وإن كان وقت صيف أتاهم بالفواكه الرطبة، ويخل إليه وزراؤه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقيَّةَ يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي - العصر، ثم يدخل إلى منزله فلا يطمع فيه طامع، حتى إذا كان في آخر أوقات العصر خرج فجلس على سريره ويُؤْذَنُ للناس على منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منه مقدار ما ينادي بالمغرب، ولا ينادي له أصحاب الحوائج، ثم يرفع العَشَاء وينادي بالمغرب فيخرج فيصليها ثم يصلي بعدها ؟أربع ركعات يقرأ في كل ركعة خمسين آية يجهر تارة ويخافت أخرى، ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج كي يصلي، ثم يؤذن للخاصة وخاصة الخاصة والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسِيَر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرَفُ الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك لاأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم.

وقد كان هًمّ بأخلاقه جماعةٌ بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه للسياسة، ولا التأتَي للأمور، ولا مداراته للناس على منازلهم، ورفقه بهم على طبقاتهم.

من دهاء معاوية:

وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي، آخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك اللهّ! إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه،، وبَرةَ، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل، وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهمِ عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن علياَ هو الذي قتل عًمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لَعْنَ علي سُنَة، ينشأ عليها الصغير؟ ويهلك عليها الكبير.

من غفلة أهل الشام والعراق

. قال المسعودي: وذكر بعض الأخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: مَنْ أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصاً من لصوص الفتن.

وحكى الجاحظ قال: سمعت رجلاً من العامة وهو حاج وقد ذكر له البيت يقول: إذا أتيته مَنْ يكلّمني. منه ؟ وأنه أخبره صديق له أنه قال له رجل منهم وقد سمعه يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم : ما تقول في محمد هذا؟ أربنا هو؟.

وذكر ثمامة بن أشْرَس قال: كنت ماراً في السوق ببغداد، فإذا أنا برجل عليه الناسُ مجتمعون، فنزلت عن بغلتي، وقلت: لشيء ما هذا الاجتماع، ودخلت بين الناس، وإذا برجل يصف كحلا معه أنه ينجح من كل داء يصيب العين، فنظرت إليه فإذا عينه الواحدة بَرْشَاء والأخرى مأسوكة، فقلت له: يا هذا، لو كان كحلك كما تقول نفع عينيك!! فقال لي: يا جاهل أهاهنا اشتكت عيناي. إنما اشتكتا بمصر، فقال كلهم: صدق، وذكر أنه ما انفلت من نعالهم إلا بعد كد.

وذكر لي بعض إخواني أن رجلاً من العامة بمدينة السلام رفع إلى بعض الولاة الطالبين لأصحاب الكلام عَلَى جار له أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: إنه مُرْجىء قَدَرِيّ ناصبي رافضي، فلما قصهُ عن ذلك قال: إنه يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علَيّ بن العاص، فقال له الوالي: ما أدري عَلَى أي شيء أحسدك: أعلى علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟.

وأخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا، فقال لي ذات يوم بعضُهم وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية، كم تُطْنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان، فقلت له: فما تقول أنت في ذلك؟ قال: من تريد؟ قلت: علي، ما تقول فيه قال: أليس هو أبو فاطمة؟ قلت: ومَنْ كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي عليه لسلام بنت عائشة أخت معاوية، قلت: فما كانت قصة علي. قال: قتل في غَزَاة. حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد كان عبد اللّه بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام، وكان من قصة مروان ومقتله ما قد ذكر، ونزل عبد اللهّ بن علي الشام، ووجه إلى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة من سائر أجناد الشام فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة، فقال في ذلك إبراهيم بن المهاجر البَجَلِيُّ:

أيها الناس اسمعوا أخبركـم

 

عجبا زادَ على كل العجـب

عجباً من عبد شمس، إنهـم

 

فتحوا للناس أبواب الكـذب

ورثوا أحمد فيما زعـمـوا

 

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا واللّه ما نـعـلـمـه

 

يحرز الميراث إلا من قرب

متطبب في عهد الرشيد

وقد كان ببغداد رجل في أيام هارون الرشيد متطبب يطبب العامة بصفاته وكان دهرياً يظهر أنه من أهل السنة والجماعة ويلعن أهل البدع ويعرف بالسني تنقاد إليه العامة؟ فكان يجتمِع إليه في كل يوم بقوارير الماء خَلْقٌ من الناس، فإذا اجتمعوا وثب قائماَ على قدميه فقال لهم: معاشر المسلمين، قلتم لا ضار ولا نافع إلا اللّه فلأي شيء مصيركم إلي تسألونني عن مضاركم ومنافعكم؟ ألجؤا إلى ربكم وتوكلوا على بارئكم حتى يكون فعلكم مثل قولكم، فيقبل بعضهم على بعض فيقولون: إي واللّه قد صدقَنَا، فكم من مريض لم يعالج حتى مات، ومنهم من كان يتركه حتى يسكن ثم يريه الماء فيصف له الدواء، فيقول: إيمانُكَ ضعيف، ولولا ذلك لتوكلت على اللّه كما أمْرَضَكَ فهو يُبْرِئك، فكان يقتل بقوله هذا خلقاً كثيراً لتزهيده إياهم في معالجة مرضاهم.

من أخلاق العامة

ومن أخلاق العامة أن يسودوا غير السيد، ويفضلوا غير الفضل، ويقولوا بعلم غير العالم، وهم أتباع من سَبَقَ إليهم من غير تمييز بين، الفاضل والمفضول، والفضل والنقصان، ولامعرفة للحق من الباطل عندهم، ثم انظر هل ترى إذا اعتبرت ما ذكرنا ونظرت في مجالس العلماء هل تشاهدها إلا مشحونة بالخاصة من أولي التمييز والمروءة والحجا، وتفقد العامة في احتشادها وجموعها، فلا تراهم الدهر إلا مُرْقِلين إلى، قائد دبٍّ، وضارب بدف على سياسة قرد، أو متشوقين إلى اللهو واللعب، أو مختلفين إلى مشَعبذ متنمس مخرق، أو مستمعين إلى قاصّ كذاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً عند مصلوب؟ يُنْعَق بهم فيتبعون؟ ويصاح بهم فلا يرتدعون، لا ينكرون منكراً، ولا يعرفون معرفاً، ولا يبالون أن يلحقوا البرَّ بالفاجر، والمؤمن بالكافر، وقد بين ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فيهم حيث يقول: "الناس إثنان: عالم، ومتعلم، وما عدا ذلك هَمج رَعاع لا يعبأ اللّه بهم ". وكذلك ذكر عن علي وقد سئل عن العامة، فقال هَمَج رَعَاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، وأجمع الناس في تسميتهم على أنهم غَوْغَاء، وهم الذين إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا، ثم تدبر تفرقهم في أحوالهم ومذاهبهم، فانظر إلى إجماع مَلَئِهِمْ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام يدعو الخلق إلى اثنتين وعشرين سنة وهو ينزل عليه الوحي ويمليه على أصحابه، فيكتبونه ويُدَوِّنونه ويلتقطونه لفظة لفظة، وكان معاوية في هذه المدة بحيث علم اللّه، ثم كتب له صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهور، فأشادوا بذكره، ورفعوا من منزلته، بأن جعلوه كاتباً للوَحْي، وعَظَّمُوه بهذه الكلمة، وأضافوه إليها، وسلبوها عن غيره، وأسقطوا ذكر سواه، وأصل ذلك العادة والألف وما ولدوا عليه، وما نشؤا فيه، فألفوا وقت التحصيل والبلوغ، وقد عملت العادة عملها، وبلغت مبالغها، وفي العادة قالت الشعراء وتكلم أهل الدراية والأدباء، قال الشاعر:

لاتُهِنَي بعد إذ أكرمتني

 

فشديدٌ عادةٌ منْتَـزَعَةُ

وقال آخر معاتباً لصاحبه:

ولكِنْ فِطَامُ النفْس أثْقَلُ مـحـمـلا

 

من الصخره الصماء. حين ترومها

وقد قالت حكماء العرب: العادة أملك بالأرب، وقالت حكماء العجم: العادة هي الطبيعة الثانية، وقد صنف أبو عقال الكاتب كتاباً في أخلاق العوامِّ يصف فيه أخلاقهم وشيمهم ومخاطباتهم، وسَمَّاه بالملهِي.

ولولا إني أكره التطويل والخروج عما قصدنا إليه في هذا الكتاب من الِإيجاز لشرحت من نوادر العامة وأخلاقها، وطرائف أفعالها عجائبَ، ولذكرت مراتب الناس في أخلاقهم، وتصرفهم في أحوالها.

فلنرجع الآن إلى أخبار معاوية وسياسته، وما أوسع الناس من أخلاقه، وما أفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، مما اجتذب به القلوب، واستدعى به النفوس، حتى آثروه على الأصل والقرابات.

عقيل بن أبي طالب ومعاوية

من ذلك أنه وفد عليه عَقيلُ بن أبي طالب منتجعاً وزائراً، فرحّبَ به معاوية، وسُر بوروده، لاختياره إياه علىِ أخيه، وأوْسَعَه حلماَ واحتمالاً،فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت علياَ؟ فقال: تركته على ما يحبُّ اللّه ورسوله والفيتك على ما يكره اللّه ورسوله، فقال له معاوية، لولا أنك زائر منتجع جنابَنَا لرددت عليك أيا يزيد جوابَاَ تألم منه، ثم أحب معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشيء يخفضه، فوثب عن مجلسه، وأمر له بنزل، وحمل إليه مالاً عظيماً، فلما كان من غد جلس وأرسل إليه فأتاه، فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت علياً أخاك؟ قال: تركته خيراً لنفسه منك، وأنت خير لي فنه، فقال له معاوية: أنت واللّه كما قال الشاعر:

وإذا عددت فخار آل محرق

 

فالمجد منهم في بني عَتَّاب

فحمل المجد من بني هاشم مَنُوطُ فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام والليالي، فقال عقيل:

أصبر لحرب أنت جانيها

 

لابدأن تصلى بحاميهـا

وأنت واللّه يا ابن أبي سفيان كما قال الاخر:

وإذا هوازن أقبلت بفَخَارهـا

 

يوماً فخرتهم بآل مجـاشـع

بالحاملين على الموالي غُرْمَهم

 

والضاربين الهام يوم الفـازع

وصف بني صوحان

ولكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفخر؟ فقال معاوية: عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت، فإني لم أجلس لهذا، وإنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فإنك ذو معرفة بهم، فقال عَقِيل: سل عما بدا لك: فقال: مَيِّزْ لي أصحاب علي، وابدأ بآل صَوْحَان فإنهم مخاريق الكلام، قال: أما صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، يرتق ما فتق، ويفتق ما رتق، قليل النظير، وأما زيد وعبد اللهّ فإنهما نهران جاريان، يصب فيهما الْخلجان، ويغاث بهما البلدان، رجلاَ جِدً لا لعب معه، وبنو صوحان كما قال الشاعر:

إذا نزل العدو فإن عنـدي

 

أسوداً تخلس الأسْدَ النفوسا

من صعصعة إلى عقيل:

 

 

فاتَصل كلام عقيل بصعصعة فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم، ذكْرُ الله أكبر، وبه يستفتح المستفتحون، وأنتم مفاتيح الدنيا والآخرة؟ أما بعد، فقد بلغ مولاك كلامُكَ لعدو الله وعدو رسوله، فحمدْتُ اللّه على ذلك، وسألته أن يفيء بك إلى الدرجة العليا، والقضيب الأحمر، والعمود الأسود فإنه عمودٌ مَنْ فارقه الدين الأزهر، ولئن نزعَتْ بك نفسك إلى معاوية طلبَاَ لماله إنك لذو علم بجميع خصاله، فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلك عن الحجة، فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم، فما كان من فضل أو إحسان فبكم وَصَلَ إلينا، فأجَلَّ اللهّ أقداركم، وحمى أخطاركم، وكتب آثاركم، فإن أقداركم مرضية، وأخطاركم محمية، وآثاركم بدْرِية، وأنتم سلم الله إلى خلقه، ووسيلته إلى طرقه، أيد علية، ووجوه جلية، وأنتم كما قال الشاعر:

فما كان من خير أتوه فإنمـا

 

تَوَارَثَه آباء آبائهـم قَـبْـلُ

وهل ينبت الخطي إلاوشيجه

 

وتُغْرَسُ إلا في منابتها النخل

بين علي ووجوه أصحابه

وحدث الهيثم عن أبي عمرو بن يزيد، عن البراء بن يزيد، عن محمد بن عبد اللهّ بن الحارث الطائي ثم أحد بني عفان، قال: لما انصرف علي من الجمل قال لأذنه: مَنْ بالباب من وجوه العرب؟ قال: محمد بن عميربن عطارد التيمي والأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان العبدي، في رجال سماهم، فقال: ائذن لهم، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، فقال لهم: أنتم وجوه العرب عندي، ورؤساء أصحابي، فأشيروا عليَّ في أمر هذا الغلام المترَف- يعني معاوية- فافتنّتْ بهم المَشُورة عليه، فقال صعصعة: إن معاوية أتْرَفَهُ الهوى، وحببت إليه الدنيا، فهانت عليه مصارع الرجال، وابتاع آخرتة بدنياهم، فإن تعمل فيه برأي ترشد وتُصِبْ، إن شاء الله، والتوفيق باللّه وبرسوله وبك يا أمير المؤمنين، والرأي أن ترسل له عيناً من عيونك وثقة من ثقاتك، بكتاب تدعوه إلى بيعتك، فإن أجاب وأناب كأن له مالك وعليه ما عليك، وإلا جاهدته وصبرت لقضاء اللّه حتى يأتيك اليقين، فقال علي: عزمت عليك يا صعصعة إلا كتبت الكتاب بيديك، وتوجهت به إلى معاوية، واجعل صدر الكتاب تحذيراً وتخويفاً، وعجزه استتابة واستنابة ولْيَكن فاتحة الكتاب بسم اللهّ الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية سلام عليك، أما بعد ثم اكتب ما أشرتَ به عليَ، واجعل عنوان الكتاب ألا إلى اللّه تصير الأمور، قال: أعفني من ذلك، قال. عزمت عليك لتفعلَنَ، قال: أفعل، فخرج بالكتاب وتجهز وسار حتى ورد دمشق، فأتى باب معاوية فقال لآذنه: استأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- وبالباب أزْفَلة من بني أمية- فأخذته الأيدي والنعال لقوله، وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكثرت الجلبة واللغط، فاتصل ذلك بمعاوية فوجَّه من يكشف الناس عنه، فكشفوا، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال لهم: من هذا الرجل؟ فقالوا: رجل من العرب يقال له صعصعة بن صوحان معه كتاب من علي، فقال: والله لقد بلغني أمره، هذا أحد سهام علي وخُطَباء العرب، ولقد كنت إلى لقائه شَيِّقاً، ائذن له يا غلام، فدخل عليه، فقال: السلام عليك يا ابن أبي سفيان، هذا كتابُ أمير المؤمنين، فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسُلً تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك، ثم اعترضه معاوية في الكلام، وأراد أن يستخرجه ليعرف قريحته أطبعاً أم تكلفاً فقال: ممن الرجل؟ قال: من نزار، قال: وما كان نزار؟ قال: كان إذا غزا نكسَ، وإذا لقي افترس، وإذا انصرف احترس، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من ربيعة، قال: وما كان ربيعة. قال: كان يطيل النِّجاد، ويَعُولُ العباد، ويضرب ببقاع الأرض العِمَادَ، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من جَدِيلَةَ، قال: وما كان جديلة؟ قال: كان في الحرب سيفاً قاطعاً، وفي المكرمات غيثاً نافعاً، وفي اللقاء لهباً ساطعاً، قال: فمن أي أولاده أنت. قال: من عبد القيس، قال: وما كان عبد القيس. قال كاد خصيباً خضرماً أبيض وهاباً لضيفه ما يجد، ولا يسأل عما فقد، كثير المرق، طيب العرق، يقوم للناس مقام الغيثمن السماء، قال: ويحك يا ابن صوحان! فما تركت لهذا الحي من قريش مجداً ولا فخراً، قال: بلى واللّه يابن أبىِ سفيان، تركت لهم ما لا يصلح إلا بهم، ولهم تركت الأبيض والأحمر، والأصفر والأشقر، والسرير والمنبر، والملك إلى المحشر، وأنًى لا يكون ذلك كذلك وهم مَنَارُ اللّه في الأرض ونجومه في السماء. ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها، فقال: صدقت يا ابن صوحان، إن ذلك لكذلك، فعرف صعصعة ما أراد، فقال: ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد ويلك يا ابن صوحان! قال: الويل لأهل النار، ذلك لبنى هاشم، قال: قم، فأخْرَجُوهُ، فقال صعصعة:الصدق ينبيء عنك لا الوعيد، من أراد المشاجرة قبل المحاورة، فقال معاوية: لشيء ما سوده قومه، وددت والله إني من صلبه، ثم التفت إلى بني أمية فقال: هكذا فلتكن الرجال.

معاوية وجماعة من أصحاب علي

وحدث منصور بن وحشي، عن الحارث بن مسمار البهراني، قال: حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد اللّه بن الكَوَّاء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال: نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقاً وصدقاً، أيَ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكَوَّاء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا لأنك جبار عنيد، لا تراقب اللهّ في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسِعُ الدنيا، ضيق الأخرى، قريب الثرى، بعيد المَرْعَى، تجعل الظلمات نوراَ، والنور ظلمات، فقال معاوية: إن اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابينَ عن بَيْضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه، والمحلَّينَ ما حّرم الله، والمحرمِينَ ما أحل اللّه، فقال عبد اللّه بن الكواء: يا ابن أبي سفيان، إن لكل كلام جواب، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حِدَادٍ لا تأخذها في اللّه لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرجه قال: واللّه لا يطلق لك لسان، ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن سفيان فأبلغت، ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنَّى يكون الخليفة مَنْ ملك الناس قهراً، ودَانَهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟ أما واللّه. أئا لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل: لا حلي ولا سيري ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجْلبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فأنى تصلح الخلافة لطليق. فقال معاوية: لولا إني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:

قابلت جهلهمُ حلمـاً ومـغـفـرة

 

والعفوعن قدرةٍ ضَرْبٌ من الكرم

لقـتــلـــتـــكـــم.

 

 

صعصعة بن صوحان عند معاوية يصف له أهل البلاد

وحدث أبو جعفر محمد بن حبيب، قال: أخبرنا أبو الهيثم يزيد بن رجاء الغَنَوي، قال: أخبرنا الوليد بن البختري، عن أبيه، عن ابن مردوع الكلبي قال: دخل صعصعة بن صوحان العبدي على معاوية فقال له: يا ابن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها، فأخبرني عن أهل البصرة، وإياك والحمل على قوم لقوم، قال: البصرة واسطة العرب، ومنتهى الشرف والسؤدد، وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره، وقد دارت بهم سَرَوَاتُ العرب كدَورَان الرحا على قطبها، قال: فأخبرني عن أهل الكوفة، قال: قبة الإسلام، وذروة الكلام، ومظانُ ذوي الأعلام، إلا أن بها أجلافاً تمنع ذوي الأمر الطاعة، وتخرجهم عن الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة، قال: فأخبرني عن أهل الحجاز، قال: أسرِع الناس إلى فتنة، وأضعفهم عنها، وأقلهم غَنَاء فيها، غير أن لهم ثباتاَ في الدين، وتمسكاً بعروة اليقين، يتبعون الأئمة الأبرار، ويخلعون الفَسَقَةَ الفجار، فقال معاوية: من البررة والفسقة؟ فقال: يا ابن أبي سفيان، تَرَكَ الخداع مَنْ كشف القناع، عليٌّ وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك، ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب، فقال: أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر، قال: أسد مضر بُسْلانٌ بين غيلين، إذا أرسلتها افترست، وإذا تركتها احترست، فقال معاوية: هنالك يا ابن صوحان العز الراسي، فهل في قومك مثل هذا. قال: هذا لأهله دونك يا ابن أبي سفَيان، ومن أحَبّ قوماً حُشِرَ معهم. قال: فأخبرني عن ديار ربيعة ولا يستخفنك الجهل وسابقة الحمية بالتعصب لقومك. قال: واللّه ما أنا عنهم براض، ولكني أقول فيهم وعليهم: هم واللّه أعلام الليل، وأذناب في الدين والميل لن تُغلب رايتها إذا رسخت، خوارج الدين، برازخ اليقين، من نصروه فلج، ومن خذلوه زلج، قال: فأخبرني عن مضر، قال: كنانة العرب، ومعدن العز والحسب، يقذف البحر بها آذِيًه، والبر دريه، ثم أمسك معاوية، فقال له صعصعة: سَلْ يا معاوية وإلا أخبرتك بما تحيد عنه، قال: وما ذاك يا ابن صوحان؟ قال: أهل الشام، قال: فأخبرني عنهم، قال: أطْوَعُ الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، عُصَاة الجبار، وخلفة الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار، فقال معاوية: والله يا ابن صوحان إنك لحاملٌ مُدْيَتَكَ " منذ أزمان، إلا أن حلم ابن أبي سفمِان يرد عنك، فقال صعصعة: بل أمر اللّه وقدرته، إن أمر اللّه كان قدَراً مقدوراً.

وحدث أبو الهيثم قال: حدثني أبو البشير محمد بن بشر الفزاري، عن إبراهيم بن عقيل البصري، قال: قال معاوية يوماً- وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس-: الأرض للهّ، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزاً لي، فقال صعصعة:

تُمَنَيكَ نفسك مالايكو

 

ن جَهْلاًمعاوي لاتأثم

فقال معاوية: يا صعصعة، تعلّمت الكلام، قال: العلم بالتعلم، ومن لا يعلم يجهل، قال معاوية: ما أحْوَجَكَ إلى أن أذيقك وَبَالَ أمرك! قال: ليس ذلك بيدك، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، قال: ومن يحول بيني وبينك. قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير، قال: اتسع بطن مَنْ لا يشبع، ودعا عليه من لا يجمع.

من أخبار صعصعة

قال المسعودي: ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان، وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني، على إيجاز واختصار.

ومن ذلك خبره مع عبد اللّه بن العباس، وهو ما حدث به المدائني، عن زيد بن طليح الذهلي الشيباني، قال: أخبرني أبي، عن مصقلة بن هبَيْرَة الشيباني، قال: سمعت صعصعة بن صوحان وقد سأله ابن عباس: ما السؤدد فيكم؟ نقال: إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النَوال، وكف المرء نفسه عن السؤال، والتودد للصغير والكبير، وأن يكون الناس عندك شَرَعاً، قال: فما المروءة. قال: أخوان اجتمعا فإن لقيا قهراً حارسهما قليل، وصاحبهما جليل، يحتاجان إلى صيانة" مع نزاهة وديانة، قال: فهل تحفظ في ذلك شعراً قال: نعم، أما سمعت قول مرة بن ذُهْل ابن شيبان حيث يقول:

إن السيادة والمـروءة عُـلِّـقَـا

 

حيث السماء من السِّمَاكِ الأعزل

وإذا تقابل مُـجْـرِيَانِ لـغـاية

 

عثر الهجين وأسلمته الأرجـل

ويَجِي الصريحُ مع العتاق معوداً

 

قرب الجياد فلم يجئه الأفكـل

في أبيات، فقال له ابن عباس: لو أن رجلاً ضرب آباط إبله مشرقاً ومغرباً لفائدة هذه الأبيات ما عنفته، إنا منك يا ابن صوحان لعلى علم وحكم واستنباط ما قد عفا من أخبار العرب، فمن الحكيم فيكم؟ قال: مَنْ ملك عضبه فلم يعجل، وسعي إليه بحق أو باطل فلم يقبل، ووجد قاتل أبيه وأخيه فصفعِ ولم يقتل، ذلك الحكيم يا ابن عباس، قال: فهل تجد ذلك فيكم كثيراَ. قال: ولا قليلاً، وإنما وصفت لك أقواماً لا تجدهم إلا خاشعين راهبين للّه مريدين ينيلون ولا ينالون، فأما الآخرون فإنهم سبق جهلهم حلمهم، ولا يبالي أحدهم إذا ظفر ببغيته حين الحفيظة ما كان بعد أن يدرك زعمه يقضي بغيته، ولو وتره أبوه لقتل أباه، أو أخوه لقتل أخاه، أما سمعت إلى قول زبان بن عمرو بن زبان، وذلك أن عمراً أباه قتله مالك بن كومة، فأقام زبان زماناً، ثم غزا مالكاً، فأتاه في مائتي فارس صباحاً وهو في أربعين بيتاً فقتله، وقتل أصحابه وقتل عمه فيمن قتل، ويقال: بل كان أخاه، وذلك أنه كان جاورهم، فقيل لزبان في ذلك: قتلت صاحبنا، فقال:

فلو أمي ثَقَفْتُ بحيث كـانـوا

 

لبَل ثيابها عـلـق صـبـيب

ولو كانت أمية أخت عمـرو

 

بهذا الماء ظَلَّ لها نـحـيب

شهرت السيف في الأدنين مني

 

ولم تعطف أواصِرَنَا قلـوب

فقال له ابن عباس: فمن الفارس فيكم؟ حُدّ لي حداً أسمعه منك فإنك تضع الأشياء مواضعها يا ابن صوحان، قال: الفارس من قصر أجله في نفسه، وضغم على أمله بضرسه، وكانت الحرب أهون عليه من أمسه، ذلك الفارس إذا وقدت الحروب، واشتدت بالأنفس الكروب، وتداعوا للنزال، وتزاحفوا للقتل، وتخالسوا المهج، واقتحموا بالسيوف اللجج، قال: أحسنت واللّه يا ابن صوحان، إنك لسليل أقوام كرام خطباء فصحاء، ما ورثت هذا من كَلاَلة، زدني قال: نعم، الفارسُ كثير الحذر، مدير النظر، يلتفت بقلبه، ولا يدير خرزات صلبه، قال: أحسنت واللّه يا ابن صوحان الوَصْفَ، فهل في مثل هذه الصفة من شعر؟ قال: نعم، لزهير بن جَناب الكلبي يرثي ابنه عمراً حيث يقول:

فارس تكلأ الصـحـابة مـنـه

 

بحسـام يمـرُمًـرّ الـحـريق

لاتراه لدى الوغى في مـجـال

 

يغفل الطرف، لا، ولافي مضيق

من يراه يَخَلْه في الحرب يومـا

 

أنه أخرق مضـل الـطـريق

في أبيات، فقال له ابن عباس: فأين أخواك منك يا ابن صوحان؟ صِفْهُمَا لأعرف وزنكم. قال: أما زيد فكما قال أخو غَنِيّ:

فتى لا يبالي أن يكون بوجهـه

 

إذا سد خلاَّتِ الكرام شُحُـوبُ

إذا ما ترا آه الرجال تحفظـوا

 

فلم ينطقوا العوراء وهو قريب

حليف الندى يدعو الندى فيجيبه

 

إليه، ويدعوه الندى فـيجـيب

يبيت الندى يا أم عمرو ضَجِيعه

 

إذا لم يكن في المنقيات حلوب

كأن بيوت الحي مالم يكن بهـا

 

بَسَابِسُ مايلفى بهـن عَـرِيبُ

في أبيات، كان واللّه يا ابن عباس عظيم المروءة، شريف الأخوة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش العروة، أليف البدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكراً اللّه طرفَي النهار وزُلَفاًَمن الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا ينافس في الدنيا، وأقل أصحابه من يُنَافس فيها، يطيل السكوت، ويحفظ الكلام، وإن نطق نطق بعُقام، يهرب منه الدُّعَّار الأشرار، ويألفه الأحرار الأخيار، فقال ابن عباس: ما ظنك برجل من أهل الجنة، رحم اللّه زيداً، فأين كان عبد اللّه منه. قال: كان عبد اللّه سيداً شجاعاً، مألفاٍ مطاعاً، خيِره وساع، وشره دفاع، قُلْبي النحيزة، أحوذي الغريزة، لا ينهنهه منهِنة عما أراده، ولا يركب من الأمر إلا عتاده، سماع عدي، وباذل قرى، صعب المَقَادة، جَزْل الرفادة، أخو إخوان، وفتى فتيان، وهو كما قال البرجمي عامر بن سنان:

سِمَامُ عدى، بالنبل يقتل من رمى

 

وبالسيف والرمح الرُّدَيْنِيِّ مشغب

مهيب مفيد لـلـنـوال مُـعَـوَّد

 

بفعل الندى والمكرمات مجرب

وفي أبيات، فقال له ابن عباس: أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب.

ومن أخبار صعصعة ما حدث به أبو جعفر محمد بن حبيب الهاشمي، عن أبي الهيثم يزيد بن رجاء الغنوي، قال: أخبرني رجل من بني فزارة ثم من بني عدي، قال: وقف رجل من بني فزارة على صعصعة، فأسمعه كلاماً منه: بسطت لسانك يا ابن صوحان على الناس فتهيبوك، أما لئن شِئْتَ لأكونن لك لصاقاً، فلا تنطق إلا حَدَدْتُ لسانك بأذْرَبَ من ظُبَةِ السيف، بعضب قوي، ولسان علي، ثم لا يكون لك في ذلك حلِ ولا ترحال، فقال صعصعة: لو أجد غرضاً منك لرميت، بل أرى شبحاَ ولا أرى مثالاً، إلا مسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أما لو كنت كفؤاً لرميت حصائلك بأذْرَبَ من ذلك السنان، ولرشقتك بنبال تردعك عن النضال، ولخطمتك بخطام يخزم منك موضع الزمام، فاتصل الكلام بابن عباس فاستضحك من الفزاري، وقال: أما لو كلف أخو فزارة نَفْسَه نقل الصخور من جبال شمام إلى الهضام، لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القيس، خاب أبوه، ما أجهله!! يستجهل أخا عبد القيس، وقواه المريرة، ثم تمثل:

صُبّتْ عليك ولم تنصبّ من أمَـم

 

إن الشقاء على الأشْقَيْنَ مصبوب

أبو أيوب وصعصعة

وحدث المبرد، عن الرياشي، عن ربيعة بن عبد اللّه النميري، قال: أخبرني رجل من الأزد، قال: نظرت إلى أبي أيوب الأنصاري، في يوم النهروان، وقد علا عبد الله بن وهب الراسي، فضربه ضربة على كتفه، فأبان يده، وقال: بُؤْبها إلى النار يا مارق، فقال عبد الله: ستعلم أينا أولى بها صليا، قال: وأبيك إني لأعلم؟ إذ أقبل صعصعة بن صوحان فوقف وقال: أولى بها والله صلياً من ضلَّ في الدنيا عمياً، وصار إلى الآخرة شقيا، أبعدك اللّه! وأنزحك! أما واللهّ: لقد أنذرتك هذه الصرعة بالأمس، فأبيت إلا نكوصا على عقبيك، فذق يا مارق وبال أمرك، وشَرَكَ أبا أيوب في قتله: ضربه ضربةً بالسيف أبان بها رجله، وأدركه بأخرى في بطنه، وقال: لقد صرت إلى نازلا تطفأ، ولا يبوخ سعيرها، كم احتزا رأسه، وأتَيَا به علياً، فقالا: هذا رأس الفاسق، الناكث، المارق: عبد اللّه بن وهب، فنظر إليه فقَطّبَ، وقال: شَاهَ هذا الوجه! حتى خيل إلينا أنه يبكي، ثم قال: قد كان أخو راسب حافظا لكتاب اللّه، تاركاً لحدود اللّه، ثم قال لهما: اطلبا لي ذا الثدَية، فطُلِبَ فلم يوجد، فرجعا إليه وقالا: ما أصبنا شيئاَ، فقال: واللّه لقد قتل في يومه هذا، وما كذبني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا كَذَبْتُ عليه، قوموا بجمعكم فاطلبوه، فقامتَ جماعة من أصحابه، فتفرقوا في القتلى، فأصابوه في دهاس من الأرض، فوقه زهاء مائة قتيل، فآخرجوه يجر برجله، ثم أتى به علي، فقال: اشهدوا أنه ذو الثدية، وقد ذكرنا أخبار ذي الثدية فيما سلف من هذا الكتاب.

من قول علي في ربيعة

ولعلي في ربيعة كلام كثير يمدحهم فيه، ويرثيهم شعراً ومنثوراً، وقد كانوا أنصاره وأعوانه، والركن المنيع من أركانه، فمن بعض ذلك قوله يوم صفين:

لمن راية سوداء يخفق ظـلـهـا

 

إذا قيل قدمهاحُضَـيْنُ تـقـدمـا

فيوردها في الصف حتى يعلهـا

 

حياض المنايا تقطر الموت والدما

جزى الله قوماً قاتلوا في لـقـائه

 

لدى الموت قدْماً ما أعز وأكرما

وأطيب أخباراً، وأكـرم شـيمة،

 

إذا كان أصوات الرجال تغمغمما

ربيعَةَ أعْنِي، إنهم أهـل نـجـدة

 

وبأس إذا لاقوا خميساً عرمرمـا

معاوية وجميل بن كعب

وذكر المدائني أن معاوية أسر جميل بن كعب الثعلبي- وكان من سادات ربيعة وشيعة علي وأنصاره- فلما وقف بين يديه قال: الحمد للهّ الذي أمكنني منك، ألست القائل يوم الجمل:

أصبحتِ الأمة في أمرعَجَـبْ

 

والملك مجموع غداً لمن غلب

قد قلت قولاً صادقَاَ غيركـذب

 

إن غداً تهلك أعلام العـرب

قال: لا تقل ذلك فإنها مصيبة، قال معاوية: وأي نعمة أكبر من أن يكون اللة قد أظفرني برجل قد قتل في ساعة واحدة عدة من حمَاة أصحابي؟ اضربوا عنقه، فقال: اللهم أشِهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا لأنك ترضى قتلي، ولكن قتلني على حُطَام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله، فقال معاوية: قاتلك الله! لقد سببت فأبلغت في السب، ودعوتَ فبالغت في الدعاء، ثم أمر به فآطلق، وتمثل معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر، لم يقل النعمان غيرها، فيما ذكر ابن الكلبي، وهي:

تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفَضْلِهَا

ولقد تُعَاقب في اليسير، وليس ذاك لجهلها

إلا ليعرف فضلهَا ويُخَاف شدة نكلهَا

معاوية عند موته

وذكر لوط بن يحيى وابن دأب والهيثم بن عدي وغيرهم من نَقَلَةِ الأخبار أن معاوية لما احتُضِرَ تمثل:

هو الموت، لامَنْجى من الموت، والذي

 

تحاذر بعد الموت أدهـى وأفـظـع

ثم قال: اللهم أقِل العَثْرة، واعف عن الزلة، وجُدْ بحلمك على جهل من لم يَرْجُ غيرك، ولم يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، وليس لذي خطيئة مهرب، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فقال: لقد رغب إلى مَنْ لا مرغوب إليه مثله وإني لأرجو أن لا يعذبه اللهّ.


وذكر محمد بن إسحاق وغيره من نقلة الآثار أن معاوية دخل الحمام في بدء علته التي كانت وفاته فيها، فرأى نحول جسمه، فبكى لفنائه وما قد أشرَفَ عليه من الثور الواقع بالخليقة، وقال متمثلاً:

أرى الليالي أسرعت في نقضي

 

أخَذْنَ بعضي وتركن بعضـي

خنَيْنَ طولي وحَنَيْنَ عـرضـي

 

أقعدنني من بعد طول نهضي

ولما أزف أمرهُ، وحان فراقه، واشتدت علته، وأيس من برئه، أنشأ يقول:

فيا ليتني لم أعن في الملك سـاعة

 

ولم أك في اللذات أعشى النواظر

وكنت كذي طمرين عاش بُبلْـغَة

 

من الدهرحتى زار أهل المقابر

قال المسعودي: ولمعاوية أخباركثيرة مع علي وغيره، وقد أتينا على الغرر من أخباره، وما كان في أيامه في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وغيرهما من كتبنا، مما أفرد للآثار، وهذا باب كبير، والكلام فيه وفي غيره مما تقدم وتأخر في هذا الكتاب كثير، ومَنْ ضَمِنَ الاختصار لم يَجُزْ له الإكثار.


وإنما نذكر في كل باب من هذا الكتاب طُرَفَاَ من كل نوع من العلوم والأخبار، وما انتخبناه من طرائف الآثار؟ ليستدل الناظر فيه بما ذكرنا على المراد مما تركنا ذكره، وقد تقدم وصفه وبسطه فيما سلف من كتبنا.

وإذ تقدم ما ذكرنا، فلنذكر الآن جملاً من فَضْل الصحابة، وغيرهم، عليهم السلام؟ إذ كانوا حجة على مَنْ بعدهم، وقدوة لمن تأخرعنهم، وبالله التأييد.

ذكر الصحابة ومدحهم وعلي والعباس وفضلهما

معاوية وعبد اللّه بن العباس

دخل عبد اللّه بن عباس على معاوية وعنده وُجُوه قريش، فلما سلم وجلس قال له معاوية: إني أريد أن أسألك عن مسائل. قال: سَلْ عما بدا لك، قال: ما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم اللّه أبا بكر، كان واللّه للقران تالياً، وعن المنكرات ناهياً، وبذنبه عارفاً، ومن اللهّ خائفاً، وعن الشبهات زاجراً، وبالمعروف آمراً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، فَاقَ أصحابه وَرَعاً وكفافاً، وسادهم زهداً وعفافاً، فغضب اللّه على مَنْ أبغضه وطعن عليه.

وصف عمر

قال معاوية: أيهاً يا ابن عباس، فما تقول في عمر بن الخطاب؟. قال: رحم اللّه أبا حفص عمر، كان واللّه حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى، الإحسان، ومحل الإيمان، وكَهْفَ الضعفاء، ومَعقلَ الحنفاء، قام بحق اللّه عزّ وجل صابراً محتسباً، حتى أوضح الدين، وفتح البلاد، وأمَّنَ العباد، فأعقب اللّه على مَنْ تَنقّصه اللعنَةَ إلى يوم الدين.

قال: فما تقول في عثمان.

وصف عثمان

قال: رحم أبا عمرو، كان واللّه أكرم الحفَدة، وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهَّاضاً عند كل مكرمة، سًبّاقاً إلى كل منحة، حيياً أبياً وفياً، صاحب جيش العُسْرَة، خَتَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين، إلى يوم الدين.

وصف علي

قال: فما تقول في علي؟  قال: رضي اللّه عن أبي الحسن، كان واللّه عليٌّ عَلَم الهدى، وكهف التقي، ومحل الحجا، وبحر الندى، وطَوْد النهي، وكهف العلا، للورى داعياً إلى المحجَّةِ العظمى، متمسكاً بالعروة الوُثْقَى، خير مَنْ آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأبر من انتعل وسَعَى، وأفصح من تنفس وقرأ، وأكثر من شهد النجوى، سوى الأنبياء والنبي المصطفى، صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد. وهو أبو السبطين فهل يقارنه بشر. وزوج خير النساء فهل يفوقه قاطن بلد. للأسُود قتال، وفي الحروب ختال، لم تر عيني مثله ولن تَرَى، فعلى من انتقصه لعنة اللّه والعباد إلى يوم التناد.

قال: أيها يا ابن عباس، لقد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك العباس..

وصف العباس

قال: رحم اللّه العباس أبا الفَضْل، كان صِنْوَ نبي اللّه صلى الله عليه وسلم، وقرة عين صفي الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبائه الأجواد، وأحلام أجداده الأمجاد، تباعدت الأسباب في فضيلته، صاحب البيت والسِّقَاية، والمشاعر والتلاوة، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دَبَّ؟.

فقال معاوية: يا ابن عباس، أنا أعلم أنك كلماني في أهل بيتك قال: ولم لا أكون كذلك، وقد قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم،: "اللهم فَقِّهْه في الدين وعلمه التأويل؟.

وصف الصحابة عامة

ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام: يا معاوية، إن اللّه جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، خَصَّ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بصحابةٍ آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم اللّه في كتابه فقال: "رحماء بينهم" الآية، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء اللّه، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل اللهّ بهم الشرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمة اللّه العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات اللة ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة للّه أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نُصَحَاء، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها.


فَقَطَعَ عليه معاوية الكلام، وقال: إيها يا ابن عباس، حديثاً في غير هذا.

ذكر أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان

وبويع يزيد بن معاوية، فكانت أيامه ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثماني ليال، وأخذ يزيد لابنه معاوية بن يزيد البيعة على الناس قبل موته، ففي ذلك يقول عبد اللّه بن هًمّام السَّلُولي:

تَلَقّـفَـهَـا يَزِيد عـن أبـيه

 

فخُذْهَا يا مُعَاوِيَ عـن يزيدا

لقدعلقت بِكُمْ فَتَلَقـفُـوهَـا

 

ولاترموا بها الغرض البعيدا

وهلك يزيد بحوَارِينَ من أرض دمشق لسبع عشرة ليلة خلت من صفر سنة أربع وستين، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وفي ذلك يقول رجل من عنزة:

يا أيّها القبر بـحـوَارِينَـا

 

ضممت شَر الناس أجمعينا

وقد رَثَاه الأخطل النصراني، فقال من قصيدة:

لعمري لقد دلى إلى اللحد خالـد

 

جنازة لا نِكْس الفؤاد ولا غمـر

مقيم بحوارِينَ لـيس يَريِمُـهَـا

 

سقته الغوادي من ثَوِيٍّ ومن قبر

في أبيات.

ذكر مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ومن قتل معه من أهل بيته وشيعته

أهل الكوفة يدعون الحسين

ولما مات معاوية أرسل أهل الكوفة إلى الحسين بن علي: إنا قد حَبَسْنَا أنفسنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعة ولا جماعة بسببك. وطولب الحسين بالبيعة ليزيد بالمدينة فسام التأخير، وخرج يتهادى بين مواليه ويقول:

لا ذَعَرْتُ السوَامَ فـي فـلـق

 

الصبح مُغِيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما

 

والمنايا ترصُدْنَنِـي أن أحِـيدا

مسلم بن عقيل يتقدم الحسين إلى الكوفة

ولحق بمكة، فأرسل بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وقال له: سِرْ إلى أهل الكوفة، فإن كان حقّاً ما كتبوا به عرفني حتى ألحق بك، فخرجِ مسلم من مكة في النصف من شهر رمضان حتى قدم الكوفة لخمس خَلَوْن من شوال، والأمير عليها النعمان بن بشير الأنصاري، فنزل على رجل يقال له عَوْسَجة مستتراً، فلما ذاع خبر قدومه بايعه من أهل الكوفة اثنا عشر ألف رجل، وقيل: ثمانية عشر ألفاً، فكتب بالخبر إلى الحسين، وسأله القدوم إليه، فلما هَمَّ الحسين بالخروج إلى العراق أتاه ابن العباس، فقال له: يا ابن عم، قد بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهْلُ غدمْر، وإنما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبار وكرهت المقام بمكة فَاشْخَصْ إلى اليمن، فإنها في عُزْلَة، ولك فيها أنصار وإخوان، فأقم بها وَبث دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم، فإن قَوَوْا على ذلك ونفوه عنها، ولم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن يأتي اللّه بأمره، فإن فيها حصونَاَ وشعاباً، فقال الحسين: يا ابن عمر، إني لأعلم أنك لي ناصح وعليَّ شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب باجتماع أهل المصرعلى بَيْعتي ونُصْرتي، وقد أجمْعت على المسير إليهمِ، قال: إنهم من خَبَرْتَ وجَرَّبت وهم أصحاب أبيك وأخيك وَقَتَلَتُكَ غداَ مع أميرهم، إنك لو قد خرجت فبلغ ابنَ زياد خروجُك استنفرهم إليك، وكان الذين كتبوا إليك أشد من عدوك، فإن عصيتني وأبيت إلا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك، فواللّه إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، فكان الذي رَدَّ عليه: لأن أقْتَلَ والله بمكان كذا أحَبُّ إلي من أن أستحَل بمكة، فيئس ابن عباس منه، وخرج من عنده، فمر بعبد اللّه بن الزبير، فقال: قرت عينك يا ابن الزبير، وأنشد:

يا لك من قبرَةٍ بـمـعـمـر

 

خلالَكِ الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شت أن تنـقـري

 

 

 هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحِجاز.

الحسين وابن الزبير

وبلغ ابن الزبير أنه يريد الخروج إلى الكوفة وهو أثقل الناس عليه، قد غمه مكانه بمكة، لأن الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيء يُؤتَاه أحَبّ إليه من شخوص الحسين عن مكة، فأتاه فقال: أبا عبد اللهّ ما عندك، فواللّه لقد خفت اللهّ في ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم واستذلالهم الصالحين من عباد اللّه، فقال حسين: قد عزمْتُ على إتيان الكوفة، فقال: وفَّقَكَ اللّه!! أما لو أن لي بها مثل أنصارك ما عدلْتُ عنها، ثم خاف أن يتهمه فقال: ولو أقمت بمكانك فدعوتَنَا وأهل الحجاز إلى بيعتك أجبناك وكنا إليك سِرَاعا، وكنت أحق بذلك من يزيد وأبي يزيد.

نصيحة أبي بكر بن هشام

ودخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين فقال: يا ابن عمر، إن الرحم يُظَائرني عليك، ولا أدري كيف أنافي النصيحة لك، فقال: يا أبا بكر ما أنت ممن يسْتَغَشُّ ولا يُتَهم، فقل، فقال أبو بكر: كان أبوك اقدم سابقة، وأحسن في الإسلام أثراً، وأشد بأساً، والناس له أرْجى، ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام وهو أعز منه، فخذلوه، وتثاقلوا عنه، حرصاً على الدنيا، وضناً بها، فجرعوه الغيظ، وخالفوه حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة اللّه ورضوانه، ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدْتَ ذلك كله ورأيته، ثم أنت تريد أن تسير إلى الذين عَدَوْا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق ومن أعَدُّ منك وأقوى، والناس منه أخوف، وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقَاتلك مَنْ وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فاذكر اللّه في نفسك، فقال الحسين: جزاك اللّه خيراً يا ابن عمر، فقد أجهدك رأيك، ومهما يَقْض اللّه يكن، فقال: إنا للّه وعند اللهّ نحتسب يا أبا عبد اللّه، ثم دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي والي مكة وهو يقول:

كم نرى ناصحا ًيقول فَيُعْصى

 

وظَنِينِ المغيب يُلْفى نصيحاً

فقال: وما ذاك. فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحت له ورب الكعبة.

يزيد يستعد

واتصل الخبر بيزيد، فكتب إلى عبيد اللّه بن زياد بتولية الكوفة، فخرج من البصرة مسرعاً حتى قدم الكوفة على الظهْر، فدخَلَهَا في أهله وحشمه وعليه عمامة سوداء قد. تَلَثّم بها، وهو راكب بغلة والناس يتوقعون قدوم الحسين فجعل ابن زياد يسلم على الناس فيقولون: وعليك السلام يا ابن رسول اللّه! قدمْتَ خير مَقْدَم، حتى انتهى إلى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصَّنَ فيه، ثم أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول اللّه ما لي ولك. وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان. فقال ابن زياد: لقد طال نومك يا نعيم، وَحَسَرَ اللِّثَام عن فيه، فعرفه، ففتح له، وتنادى الناس: ابن مَرْجَانَة، وَحَصَبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر، ولما اتصل خبر ابن زياد بمسلم تحوَّل إلى هانىء بن عروة المرادي، ووضع ابن زياد الرَّصَدَ على مسلم حتى علم بموضعه، فَوَجَّه محمد بن الأشعث بن قيس إلى هانىء، فجاءه فسأله عن مسلم، فأنكره، فأغلظ له ابن زياد القول، فقال هانىء: إن لزياد أبيك عندي بلاء حسناً، وأنا أحِبُّ مكافأته به، فهل لك في خير. قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تَشْخَصُ إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حق مَنْ هو أحق من حقك وحق صاحبك، فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدنوه منه، فضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشق حاجبه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه، وضرب هانىء بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الشرط، فجاذبه الرجل، ومنعه السيف، وصاح أصحاب هانىء بالباب: قتل صاحبنا، فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت إلى جانب مجلسه، وأخرج إليهم ابن زياد شريحاً القاضي، فشهد عندهم أنه حي لم يقتل، فانصرفوا، ولما بلغ مسلماً ما فعل ابن زياد بهانىء، أمر منادياً فنادى يا منصور وكانت شعارهم، فتنادى أهل الكوفة بها، فاجتمع إليه في وقت واحد ثمانية عشر ألف رجل، فَسَارَ إلى ابن زياد، فتحصن منه، فحصروه في القصر فلم يُمْس مسلم ومعه غير مائة رجل، فلما نظر إلى الناس يتفرقون عنه سار نحو أبواب كِنْدَة، فما بلغ الباب إلا ومعه منهم ثلاثة، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه منهم أحد، فبقي حائراً لا يدري أين يذهب، ولا يجد أحداً يَدُلُّه على الطريق، فنزل عن فرسه ومشى متلدداً في أزقة الكوفة لا يدري أين يَتَوَجَّه، حتى انتهى إلى باب مولاة للأشعث بن قيس، فاستسقاها ماء فَسَقَتْهُ، ثم سألته عن حاله، فأعلمها بقضيته، فَرَقَّت له وآوَتْهُ، وجاء ابنها فعلم بموضعه، فلما أصبح غدا إلى محمد بن الأشعث فأعلمه.

قتل مسلم بن عقيل

فمضى ابن الأشعث إلى ابن زياد فأعلمه، فقال: انطلق فَأْتِنِي به، وَوَجَّه معه عبد اللهّ بن العباس السُّلمي في سبعين رجلاً، فاقتحموا على مسلم الدار، فثار عليهم بسيفه، وشدَّ عليهمِ فأخرجهم من الدار، ثم حملوا عليه الثانية، فَشَدَّ عليهم وأخرجهم أيضاَ، فلما رأوا ذلك عَلَوْا ظهر البيوت فَرَمَوْه بالحجارة، وجعلوا يلهبون النار بأطراف القصب، ثم يلقونها عليه من فوق البيوت، فلما رأى ذلك قال: أكلُّ ما أرى من الأحلاب لقتل مسلم بن عقيل. يا نفس أخرجي إلى الموت الذي ليس عنه محيص، فخرج إليهم مُصْلِتاً سيفه إلى السِّكَّةِ، فقاتلهم، واختلف هو وبكير بن حمران الأحمريّ ضربتين: فضرب بكير فَمَ مسلم فقطع السيف شفته العليا وشرع في السفلى، وضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه، ثم ضربه أخرى على حبل العاتق فكاد يصل إلى جَوْفِه، وهو يزتجز ويقول:

أقسم لا أقْـتَـلُ إلا حُـرّا

 

وإنْ رأيت الموت شيئاً مُرَّا

كل امرىء يَوْماً ملاقٍ شَرّاً

 

أخَافُ أنْ أكْذَبَ أوْ أغَـرَّا

فلما رأوا ذلك منه تقدم إليه محمد بن الأشعث فقال له: فإنك لا تكذب ولا تغر، وأعطاه الأمان، فأمكنهم من نفسه، وحملوه على بَغْلَةٍ وأتوا به ابنَ زيادٍ، وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة يهجو فيها ابن الأشعث:

وتَرَكْتَ عَمّكَ أن تُقَاتِلَ دُونه

 

فَشَلاً، وَلَوْلا أنت كان مَنِيعَا

وقتلت وَافِدَ آل بيت مُحَمَـد

 

وسَلَبْتَ أسْيَافاً له ودرُوعَـا

مقتل هانىء بن عروة

فلما صار مسلم إلى باب القصر نظر إلى قُلة مبرعة، فاستسقاهم منها، فمنعهم مسلم بن عمرو الباهلي- وهو أبو قتيبة بن مسلم- أن يسقوه، فَوجة عمرو بن حريث فأتاه بماء في قدح، فلما رفعه إلى فيه امتلأ القدح دماً، فَصَبَّهُ وملأه له الثانية، فلما رفعه إلى فيه سقطت ثناياه فيه وامتلأ دماً، فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم لشربته، ثم ادخل إلى ابن زياد، فلما انقضى كلامه ومسلم يُغْلظ له في الجواب أمر به فأصعد إلى أعلى القصر، ثم دعا الأحمريَّ الذي ضربه مسلم، فقال: كُنْ أنت الذي تضرب عنقه لتأخذ بثأرك من ضربته، فأصعدوه إلى أعلى القصر، فضرب بكير الأحمري عنقه، فأهْوَى رأسه إلى الأرض، ثم أتبعوا رأسه جَسَده، ثم أمر بهانىء بن عروة فأخرج إلى السوق، فضرب عنقه صبراً، وهو يصيح: يا آل مراد، وهو شيخها وزعيمها، وهو يومئذ يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع، فلم يجد زعيمهم منهم أحداً فشلاً وخذلاناً، فقال الشاعر: وهو يرثي هانىء بن عروة ومسلم بن عقيل ويذكر لما نالهما:

إذا كُنْتِ لا تدرِين ما الموت فانظري

 

إلى هانىء في السوق وابن عَقـيل

إلى بَطَلٍ قدهَشّمَ السـيف وجـهـه

 

وَآخَر َيَهْوِي في طـمـارقـتـيل

أَصابهما أمْرُ الأمير فـأصـبـحـا

 

أحادِيثَ من يَسْعى بكـل سـبـيل

تَرَىْ جَسَداً قد غَيرَ المَوْتُ لـونـه

 

وَنَضْحَ دم قد سَالَ كـل مَـسِـيل

أيترك أسماء الـمـهـايج آمِـنـاً

 

وقد طلبتـه مَـذْحـجِ بـذحُـول

فَتىً هو أحيى مـن فـتـاة حَـيِيَّةٍ

 

وأقطع من ذِي شَفْرَتيْنِ صـقـيل

ثم دعا ابن زياد ببكيربن حمران الذي ضرب عنق مسلم فقال: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبر ويسبح اللّه ويهللِ ويستغفر اللّه، فلما أدنيناه لنضرب عُنقه قال: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونَا وكذبونا ثم خذلونا وقتلونا، فقلت: الحمد للّه الذي أقادني منك، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً، فقال لي: أوَما يكفيك وَفي خَدْشٍ مني وَفَاءٌ بدمك أيها العبد، قال ابن زياد: أوَفخراً عند الموت. قال: وضربته الثانية فقتلته، ثم أتبعنا رأسه جسده.

وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مَضَيْنَ من ذي الحجة سنة ستين، وهو اليوم الذي ارتحل فيه الحسين من مكة إلى الكوفة، وقيل: يوم الأربعاء يوم عرفة لتِسْع مَضَينَ من ذي الحجة سنة ستين.

ثم أمر ابن زياد بجثة مسلم فصلبت، وحمل رأسه إلى دمشق، وهذا أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم، وأول رأس حمل من رؤوسهم إلى دمشق.

الحسين يقاتل جيش ابن زياد

فلما بلغ الحسين القادسية لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد يا ابن رسول اللّه؟ قال: أريد هذا المصر، فَعَرفَه بقتل مسلم وما كان من خبره، ثم قال: ارجع فإني لم أدَعْ خلفي خيراً أرجوه لك، فَهَمَّ بالرجوع فقال له إخوةُ مسلمٍ: واللّه لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل كلنا، فقال الحسين: لا خير في الحياة بعدكم، ثم سارحتى لقي خيل عبيد اللهّ بن زياد عليها عمرو بن سعد بن أبي وقاص، فعدل إلى كربلاء-وهو في مقدار خمسمائة فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مائة راجل- فلما كثرت العساكر على الحسين أيقن أنه لا محيص له، فقال: اللهم احكم بيننا وبين قوم دَعَوْنَا لينصرونا ثم هم يقتلوننا، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه، وكان الذي تولى قتله رجل من مَذْحِج واحتزرأسه، وانطلق به إلى ابن زياد وهو يرتجز:

أوقر ركابي فِضّة وذَهَبَا

 

أنا قتلتُ الملك المحجَّبَا

قتلتُ خَيْرَ الناس آماً وأباً

 

وَخَيْرَهُم إذ يُنْسَبُونَ نسبا

من قتل مع الحسين

فبعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس، فدخل إلى يزيد وعنده أبو بَرْزَه الأسلمي، فوضع الرأس بين يديه، فأقبل ينكت القضيب في فيه ويقول:

نُفَلِّقُ هَاماًمن رجـالٍ أحِـبة

 

عَلَيْنَا، وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال لو أبو بَرْزَةْ: ارفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يضع فمه علىِ فمه يلثمه، وكان جميع من حضر مقتل الحسين من العساكر وحاربه وتولَى قتله من أهل الكوفة خاصة، لم يحضرهم شامي، وكان جميع من قتل مع الحسين في يوم عاشوراء بكربلاء سبعة وثمانين، منهم ابنه علي بن الحسين الأكبر، وكان يرتجز ويقول:

أنا عليُّ بن الحسين بن علي

 

نَحْنُ وبيت اللَه أوْلَى بِالنَّبِيّ

تالله لا يَحْكُمُ فِينَا ابن الدَّعِي

 

 

وقتل من ولد أخيه الحسن بن علي: عبدُ الله بن الحسن، والقاسم بن الحسن، وأبو بكر بن الحسن، ومن إخوته؟ العباس بن علي، وعبد اللهّ بن علي، وجعفر بن علي، وعثمان بن علي، ومحمد بن علي، ومن ولد جعفر بن أبي طالب: محمد بن عبد اللهّ بن جعفر، وعَوْن بن عبد اللّه بن جعفر، ومن ولد عقيل بن أبي طالب: عبد اللهّ بن عقيل، وعبد اللّه بن مسلم بن عقيل، وذلك لعشر خَلَوْنَ من المحرم سنة إحدى وستين.

وقتل الحسين وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: ابن تسع وخمسين سنة، وقيل غير ذلك.

ووجد بالحسين يوم قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، ضَرَبَ زرعة بن شريك التميمي كفه اليسرى، وطعنه سنان بن أنس النخعي، ثم نزل فاحتز رأسه، وفي ذلك يقول الشاعر:

وَأيُّ رَزِيّة عدلَتْ حُسَيْنا

 

غَدَاةَ تبينُه كَفَّا سِنَـانِ.

وقتل معه من الأنصار أربعة، وباقي من قتل معه من أصحابه- على ما قدَمنا من العدَّة- من سائر العرب، وفي ذلك يقول مسلم بن قتيبة مَوْلَى بني هاشم:

عَيْنُ جودي بعبـرة وَعَـوِيل

 

وَاندبي إن ندبت آل الرَّسُول

واندبي تِسْعَة لِصُلْبِ عـلـي

 

قدأصَيبوا، وخَمْسَة لعقـيل

وَابْنَ عَمّ النبي عَوْناً أخاهـم

 

ليس فيما يَنُوب بِالمَخْـذُول

وَسَمِيُّ النبي غُـودِرَفـيهـم

 

قدعَلَوْهُ بِصَارِم مَصْـقًـول

واندبي كَهْلَهُمْ فليس إذا مـا

 

عُدَّ في الخيركهلهمَ كَالكُهُول

لَعَنَ اللّه حـيث كَـانَ زياداً

 

وابنه وَالعَجُوزَ ذات البُعُول

وأمر عمرو بن سعد أصحابه أن يُوطِئوا خيلَهم الحسينَ، فانتدب لذلك إسحاق بن حيوة الحضرمي في نفر معه، فوطئوه بخيلهم، ودَفَنَ أهل العاضرية- وهم قوم من بني عاضر من بني أسد- الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم، وكان عدَة مَنْ قتل من أصحاب عمرو بن سعد في حرب الحسين عليه السلام ثمانية وثمانين رجلاً.

ذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه

أسماء ولد علي وأُمهاتهم

الحسن، والحسين، ومُحَسِّن، وأُم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى، أمهم فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومحمد وأمه خَوْلَة بنت آيا الحَنَفِيَّة، وقيل: ابنة جعفر بن قيس بن مَسلَمة الحنفي، وعبيد اللّه، وأبو بكر أمهما ليلى بنت مسعود النهشلي، وعمر، ورقية أمهما تغلبية، ويحيى وأمه أسماء بنت عُمَيْس الخثعمية، وقد قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن جعفرا الطيار استشهد وخلف عليها عَوْناً ومحمداً وعبد اللّه، وأن عقب جعفر منها من عبد اللّه بن جعفر، وأن أبا بكر الصديق تزوجها بعده، وخلف عليها محمداً، ثم تزوجها علي فخلف عليها يحيى، وأنها ابنة العجوز الحرشية التي كانت أكْرَمَ الناس أصهاراً، وقد تقدم فيما سلف من هذا الكتاب تسمية أصهار العجوز الحرشية، وأن أولهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجعفر، والعباس، وعبد اللهّ أُمهم أُم البنين بنت حرام الوحيدية، ورَملةَ وأم الحسن أمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي، وأًم كلثوم الصغرى، وزينب الصغرى، وجُمَانة، وميمونة، وخديجة، وفاطمة، وأم الكرام، ونفيسة، وأم سلمة، وأم أبيها.

وقد أتينا على أنساب آل أبي طالب، ومَنْ أعقب منهم ومَصَارعهم، وغير ذلك من أخبارهم في كتابنا أخبار الزمان.

ذو العقب من أولاد علي

والعقب لعلي من خمسة: الحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، والعباس، وقد استقصى أنسابهم، وأتى على ذكر مَنْ لا عقب له منهم ومَنْ له العقب، وأنساب غيرهم من قريش من بني هاشم، وغيرهم: الزبير بن بَكَّار في كتابه في أنساب قريش وأحسن من هذا الكتاب في أنساب آل أبي طالب الكتابُ الذي سمع من طاهر بن يحيى العلوي الحسيني بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقد صنف في أنساب آل أبي طالب كتب كثيرة: منها كتاب العباس من ولد العباس بن علي، وكتاب أبي علي الجعفري، وكتاب المهلوس العلوي من ولد موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

رثاء قتيل الطف

وفي قتيل الطف يقول سليمان بن قتة يرثيه على ما ذكره الزبير بن بَكَّار في كتاب أنساب قريش من أبيات:

فإن قتيلَ الطّف مـن آل هـاشـم

 

أذ لّ رقاباً من قُـرَيْش فَـذَلَـتِ

فإن يُتْبِعُوه عائذ البيت يُصْبِـحُـوا

 

كَعَادٍ تعمت عن هُدَاهَا فَضَفَـتِ

ألَم تَر أنَ الأرض أضحت مريضة

 

بقَتْل حُسَيْن والبلاد اقْـشَـعًـرّتِ

فلا يُبْعِدُ اللّه الـديار وأهـلـهـا

 

وإن أصبحت منهم برغمي تَخَلَّتِ