ذكر لمع من أخبار يزيد وسيره ونوادر من بعض أفعاله

ذكر لمع من أخبار يزيد وسيره ونوادر من بعض أفعاله

خروج يزيد لوفود العرب

ولما أفْضى الأمر إلى يزيد بن معاوية دخل منزله، فلم يظهر للناس ثلاثاً، فاجتمع ببابه أشرافُ العرب ووفود البلدان وأمراء الأجناد لتعزيته بأبيه وتهنئته بالأمر، فلما كان في اليوم الرابع خرج أشْعَثَ أغْبَر فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إن معاوية كان حَبْلاً من حبال اللّه مده الله ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، وكان دون من كان قبله، وخير من بعده، إن يغفر اللّه له فهو أهله، وإن يعذبه فبذنبه، وقد وليتُ الأمر بعده، ولست أعتذر من جهل، ولا أشتغل بطلب علم، فعلى رِسْلِكم فإن اللّه لو أراد شيئاً كان، أذكروا اللهّ واستغفروه، ثم نزل، ودخل منزله، ثم أذن للناس.

فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أم يُعَزُّونه، فقام عاصم بن أبي صيفي، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، أصبحت قد رُزِئْتَ خليفة اللّه وأعطيت خلافة اللّه، ومنحت هبة اللهّ، قضى معاوية نحبه، فغفر اللّه له ذنبه، وأعطيت بعده الرياسة، فاحتسب عند اللّه أعظم الرزية، واحمده على أفضل العطية، فقال يزيد، ادن مني يا ابن أبي صيفي، فدنا حتى جلس قريباً منه.

ثم قام عبد اللّه بن مازن فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، رزئت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء بالعطية، وأعانك على الرعية، فقد أصبحَتْ قريش مفجوعة بفَقْد سائِسِها مسرورة بما أحسن اللّه إليها من الخلافة بك، والعُقْبى من بعده، ثم أنشأ يقول:

اللَّه أعطاك التي لا فوقها

 

وقد أراد الملحدون عَوْقَهَا

عنك فيأبى اللّه إلاسَوْقَهَـا

 

إليك حتى قلَدوك طَوْقَهَا

فقال له يزيد: أدن مني يا ابن مازن، فدنا حتى جلس قريباً منه. ثم قام عبد الله بن همام فقال: آجرك اللّه يا أمير المؤمنين على الرزية، وصبرك على المصيبة، وبارك لك في العطية، ومنحك محبة الرعية، مضى معاوية لسبيله غفر اللّه له، وأورده موارد السرور، ووفقك بعده لصالح الأمور، فقد رزئت جليلاً، وأعطيت جزيلاً، جئت بعده للرياسة، ووليت السياسة، أصبت بأعظم المصائب، ومنحت أفضل الرغائب، فاحتسب عند الله أعظم الرزية، وأشكره على أفضل العطية، وأحدِثْ لخالقك حَمْداً، والله يمتعنا بك ويحفظك، ويحفظ بك وعليك، وأنشأ يقول:

أصبر يزيد فقد فارقْـتَ ذامـقة

 

واشكرحِبَاءَ الذي بالملك أصفاكا

أصَبحْتَ لا رزء في الأقوام نَعلمه

 

كما رُزِئت ولا عقبى كعقبـاكـا

أعطِيتَ طاعة خلق اللّه كلـهـم

 

وأنت ترعاهم واللّـه يرعـاكـا

وفي معاويَةَ الباقي لنـاخـلـفٌ

 

إمانًعِيتَ ولانسمع بمَـنْـعَـاكَـا

فقال يزيد: ادن مني يا ابن همام، فدنا حتى جلس قريباً منه. ثم قام الناس يعزونه ويهنئونه بالخلافة، فلما ارتفع عن مجلسه أمر لكل واحد منهم بمال على مقداره في نفسه، ومحله في قومه، وزاد في عطائهم، ورفع مراتبهم، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على ما كان من خبر يزيد وغيبته في حال وفاة أبيه معاوية، ومسيره من ناحية حمص حين بلغه ما بأبيه من العلة، ووروده على ثنية العقاب من أرض دمشق، فأغنى ذلك عن إعادة هذا الخبر في هذا الكتاب.

بين يزيد وعبد الملك

وذكر عدة من الأخباريين وأهل السير أن عبد الملك بن مروان دخل على يزيد، فقال: اريضة لك إلى جانب أرض لي، ولي فيها سَعَة، فأقْطِعْنِيهَا، فقال: يا عبد الملك، إنه لا يتعاظمنِي كبير، ولا أجزع من صغير، فأخبرني عنها وإلا سألت غيرك، فقال: ما بالحجاز أعظم منها قدراً، قال: قد أقطعتك، فشكَرَه عبد الملك ودعا له، فلما ولَى قال يزيد، إن الناس يزعمون أن يصير خليفة، فإن صدقوا فقد صانعناه، وإن كذبوا فقد وصلناه.

فسوق يزيد وعماله

وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقُرُود وفهود ومناذمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

اسْقِنِي شَرْبَةً تُرَوِّي مًشَاشِي

 

ثم مِلْ فاسق مثلها ابن زياد

صاحب السرّ والأمانة عِنْدِي

 

ولتسديد مغنمي وجهـادي

ثم أمر المغنين فغنوا به.


وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكأ، وكان قرداً خبيثاً وكان يحمله على أتان وحشية قد ريضت وذُلّلَتْ لذلك بسرج ولجام ويسابق بها الخيل يوم الحَلْبة، فجاء في بعض الأيام سابقاً، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قَبَاء من الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشَقَائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان، فقال في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم:

تمسكْ أبا قيس بِفَضْل عِنَانـهـا

 

فليس عليها إن سقطت ضَمَـانُ

ألا مَنْ رأى القرد الذي سبقت به

 

جياد أمير المـؤمـنـين أتـان

وفي يزيد وتملكه وتجبره وانقياد الناس إلى ملكه يقوله الأحْوَص :

ملك تدين له الملوك مُبَـارك

 

كادت لهيبته الجبالُ تَـزُولُ

تُجْبَى له بَلْخ ودِجْلَةُ كلـهـا

 

وله الفرات وَمَا سَقَى وَالنيل

وقيل: إن الأحْوَص قال هذا في معاوية بعد وفاته يرثيه:

ماقيل في مقتل الحسين

ولما قتل الحسين بن علي رضي اللّه عنهما بكربلاء وحمل رأسه ابن زياد إلى يزيد خرجت بنت عقيل بن أبي طالب في نساء من قومها حواسر حائرات، لما قد ورد عليهن من قتل السادات، وهي تقول:

ماذا تقولون إنْ قال النبـيُ لـكـم:

 

ماذا فعلتم وأنـتـم آخـرُ الأمـم؟

بِعتْرَتِي وبأهلي بعد مُـفْـتَـقـدِي

 

نِصْف أسارى ونصْفٌ ضُرِّجُوا بِدَم

ما كان هذا جزائي إذ نَصَحْتُ لكـم

 

أن تخْلفوني بشَرٍّ في ذوي رَحِمِي

وفي فعل ابن زياد بالحسين يقول أبو الأسود الدؤلىِ من قصيدة:

أقولُ وذاك من جَزَعٍ وَوَجْد

 

أزال اللّه مُلْك بنـي زِيَاد

وأبْعَدَهُمْ، بما غدرُوا وخَانُوا

 

كما بَعُدَتْ ثَمُي وقَوْمُ عَادِ

أهل المدينة وعمال يزيد

ولما شمل الناس جَوْرُ يزيد وعماله، وعمَهم ظلمه، وما ظهر من فسقه: من قتله ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعْدَلَ منه في رعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته، أخرج أهلُ المدينة عامله عليهم- وهو عثمان ابن محمد بن أبي سفيان- ومروان بن الحكم، وسائر بني أمية، وذلك عند تنسك ابن الزبير وتألُّهه، وإظهار الدعوة لنفسه، وذلك في سنة ثلاث وستين، وكان إخراجهم لما ذكرنا من بني أًمية وعامل يزيد عن إذن ابن الزبير، فاغتنمها مروان منهم، إذ لم يقبضوا عليهم ويحملوهم إلى ابن الزبير، فحثوا السير نحو الشام، ونمى فعل أهل المدينة ببني أُمية وعامل يزيد إلى يزيد، فسيَّرَ إليهم بالجيوش من أهل الشام عليهم مسلم بن عقبة المري الذي أخاف المدينة ونهبها، وقتل أهلها، وبايعه أهلها على أنهم عبيد ليزيد، وسماها نتنة، وقد سماها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، طَيْبة، وقال: مَنْ أخاف المدينة أخاف اللّه فسمى مسلم هذا لعنه اللّه بمجرم ومسرف، لما كان من فعله، ويقال: إن يزيد حين جرد هذا الجيش وعرض عليه أنشأ يقول:

أبْلِغْ أبا بكر إذا الأمْرُ انـبـرى

 

وأشْرَف القومُ على وادي القرى

أجمع السكران من قوم تَـرَى

 

 

يريد بهذا القول عبد اللهّ بن الزبير، وكان عبد اللّه يكنى بأبى بكر، وكان يُسَمّى يزيد السكران الخمير، وكتب إلى ابن الزبير:

أدعو إلهك في السماء فأننـي

 

أدعو عليك رجال عكَّ وأشْعر

كيف النجاة أبا خُبَيْبٍ منـهُـم

 

فاحْتَلْ لنفسك قبل أتْي العسكر

وقعة الحرة

ولما انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرَّة وعليهم مُسرف خرج إلى حربه أهلُها عليهم عبد اللّه بن مطيع العدويَ وعبد اللهّ بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس؟ فممن قتل من آل أبي طالب اثنان: عبد اللهّ بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن بني هاشم من غيرآل أبي طالب: الفَضْلُ بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عُتْبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش، ومثلهم من الأنصار، وأربعة آلاف من سائر الناس ممن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف.

وبايع الناس على أنهم عبيدٌ ليزيد، ومَنْ أبى ذلك أمره مُسْرف على السيف، غير علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد، وعلي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وفي وقعة الحرة يقول محمد بن أسلم:

فإن تَقْتُلـونـا يَوْمَ حَـرَّة واقـم

 

فنحنُ على الإسلام أوَّل من قتل

ونحن تركنـاكُـمْ بِـبـدرٍ أذلة

 

وأبْنَا بأسيافٍ لنا منكـم تـفـل

ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مُسْرِف وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن آبائه، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سَلْنِي حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قُدِّم إلى السيف إلا شَفَّعه فيه، ثم انصرف عنه، فقيل لعلي: رأيناك تحرك شفتيك، فما الذي قلت. قال: قلت: اللهم ربَّ السموات السبع وما أقللن، والأرضين السبع وما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره، وأدرأ بك في نَحْره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شره، وقيل لمسلم: رأيناك تسبُّ هذا الغلام وسَلَفه، فلما أتى به إليك رفعت منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد ملىء قلبي منه رعب.

وأما علي بن عبد اللهّ بن العباس فإن أخواله من كندة مَنَعُوه منه، وأًناس من ربيعة كانوا في جيشه، فقال علي في ذلك:

أبي العباسُ قرم بني لـؤي

 

وأخْوَالي الملوكُ بَنُو وليعه

هُمُ منعوا ذِمَاري يوم جاءت

 

كتائبُ مُسْرِفٍ وبني اللّكِيعة

أرادَنِيَ التي لا عزَّ فـيهـا

 

فحالت دونه أيدي رَبـيعة

ولما نزل بأهل المدينة ما وصفنا من القتل والنهب والرق والسبي وغير ذلك مما عنه أعرضنا من مُسْرفٍ خرج عنها يريد مكة في جيوشه من أهل الشام، ليوقع بابن الزبير وأهل مكة، بأمر يزيد، وذلك في سنة أربع وستين.

فلما انتهى إلى الموضع المعروف بقديد مات مُسْرِفٌ لعنه اللّه! واستخلف على الجيش الحصينُ بن نمير، فسار الحصين حتى أتى مكة وأحاط بها، وعاذ ابن الزبير بالبيت الحرام، وكان قد سمى نفسه العائذَ بالبيتِ، وشُهِر بهذا حتى ذكرته الشعراء في أشعارها، من ذلك ما قدمنا من قول سليمان بن قتة.

فإن تُتْبِعُوه عائِذَ البيت تُصبِحُوا

 

كَعَادٍ تَعَمَّتْ عن هُدَاهَا فَضَلَّتِ

رمي الكعبة بالمجانيق

ونصب الحصينُ فيمن معه من أهل الشام المجانيق والعرادات على مكة والمسجد من الجبال والفِجَاج، وابنُ الزبير في المسجد، ومعه المختار بن أبي عُبَيد الثقفي. داخلاً في جملته، منضافاً إلى بيعته، منقاد اً إلى إمامته، على، شرائط شَرَطها عليه لا يخالف له رأياً، ولا يعصي له أمراً، فتواردت أحجار المجانيق والعرادات على البيت، ورمي مع الأحجار بالناروالنفط ومشاقات الكتان وغير ذلك من المحرقات، وانهدمت الكعبة، واحترقت البنية، ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المجانيق أحَدَ عشر رجلاً، وقيل : أكثر من ذلك وذلك يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، قبل وفاة يزيد بأحَدَ عَشَرَ يوماً، واشتد الأمر على أهل مكة وابن الزبير، واتصل الأذى بالأحجار والنار والسيف، ففي ذلك يقول أبو وَجْزَة المدني:

آبنُ نُمَيْرٍ بِئْسَ ما تَوَلّـى

 

قَدْأحْرَقَ المَقَام وَالْمُصلَى

وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومَثَالبَ كثيرة: من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول،- ولَعْن الوصِيَ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق والفجور، وغير ذلك مما قد ورد فيه الوعيد باليأس من غفرانه، كورده فيمن جحد توحيده وخالف رسله، وقد أتينا على الغرر من ذلك فيما تقدم وسلف من كتبنا، والله ولي التوفيق.

ذكر أيام معاوية بن يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم والمختار بن أبي عبيْد وعبد اللّه بن الزبير ولمع من أخبارهم وسيرهم وبعض ما كان في أيامهم

موجز أخبار معاوية بن يزيد

قال المسعودي: وَمَلَكَ معاوية بن يزيد بن معاوية بعد أبيه، فكانت أيامه أربعين يوماً إلى أن مات، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، وكان يكنى بأبي يزيد، وكني حين ولي الخلافة بأبي ليلى، وكانت هنه الكنية للمستضعف من العرب، وفيه يقول الشاعر:

إني أرى فِتْنَةً هَاجَتْ مَزَاجِلُها

 

والملكُ بعد أبي لَيْلَى لمن غلبَا

ولما حضرته الوفاة اجتمعت إليه بنو أمية فقالوا له: اعْهَدْ إلى من رأيت من أهل بيتك، فقال: واللّه ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم فكيف أتقلّد وزرَهَا. وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم إني بريء منها متخل عنها، اللهم إني لا أجد نفراً كأهل الشورى فأجعلها إليهم ينصبون لها من يرونه أهلاً لها، فقالت له أمه: ليت إني خرقة حيضة ولم أسمع منك هذا الكلام، فقال لها: وليتني يا أماه خرقة حيض ولم أتقلد هذا الأمر، أتفوز بنو أمية بحلاوتها وأبوءُ بوزرها وَمَنْعِها أهْلَها؟ كلا! إني لبريء منها وقد تنوزع في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه سقي شربة ومنهم من رأى أنه مات حَتْفَ أنفه، ومنهم من رأى أنه طعن، وقبض وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ودُفن بدمشق، وصَلّى عليه الوليدُ بن عُتْبَة بن أبي سفبان، ليكون الأمر له من بعده، فلما كبر الثانية طعن فسقط ميتاً قبل تمام الصلاة، فقدم عثمان بن عتبة بن أبي سفيان، فقالوا: نبايعك؟ قال: على أن لا أحارب ولا أباشر قتالاً، فأبَوْا ذلك عليه، فصار إلى مكة، ودخل في جملة ابن الزبير.

وزال الأمر عن آل حَرْب فلم يكن فيهم من يرومها، ولا يتشوف نحوها ولايرتجى أحد منهم لها. وبايع أهل العراق عبد الله بن الزبير، فاستعمل على الكوفة عبد اللّه ابن مطيع العدوي.

المختار في الكوفة

ففال المختار بن أبي عبيد الثقفي لابن الزبير: إني لأعرف قوماً لو أن لهم رجلاً له رِفْق وعلم بما يأتي لاستخرج لك منهم جنداً تغلب بهم أهل الشام، فقال: من هم. قال: شيعة بني هاشم بالكوفة، قال: كن أنت ذلك الرجل، فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية منها، وجعل يُظْهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزَعَ لهم، ويحثُّ على أخذ الثأر لهم، والمطالبة بدمائهم، فمالت الشيعة إليه، وانضافوا إلى جملته، وسار إلىِ قصرالإمارة فأخرج ابن مطيع منه، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه داراَ، واتخذ بستانَاَ انفق عليه أموالاً عظيمة أخرجها من بيت المال، وفرق الأموال على الناس بها تفرقَةً واسعة، وكتب إلى ابن الزبير يعلمه أنه إنما أخرج بن مطيع عن الكوفة لعجزه عن القيام بها، ويسوم ابن الزبيرأن يحسب له بما أنفقه من بيت المال، فأبى ابن الزبير ذلك عليه، فخلع المختار طاعته، وجحد بيعته، وكتب المختار كتاباً إلى علي بن الحسين السجاد يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته، وأنفذ إليه مالاً كثيراً، فأبى علي أن يقبل ذلك منه أو يجيبه عن كتابه، وسبه على رؤُوس الملأ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى آل أبي طالب، فلما يئس المختار من علي بن الحسين كتب إلى عمه محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين أن لا يجيبه إلى شيء من ذلك، فإن الذي يحمله على ذلك اجتذابه لقلوب الناس بهم، وتقربه إليهم بمحبتهم، وباطِنُهُ مخالف لظاهره في الميل إليهم، والتَّوَلِّي لهم، والبراءة من أعدائهم، بل هو من أعدائهم لا من أوليائهم، والواجب عليه أن يشهر أمره، ويظهر كذبه، على حسب ما فعل هو وأظهر ما من القول في مسجد رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، فأتى ابن الحنفية ابن عباس فأخبره بذلك، فقال له ابن عباس: لا تفعل، فإنك لا تدري ما أنت عليه من ابن الزبير، فأطاع ابن عباس وسكت عن عيب المختار.

وأشتد أمر المختار بالكوفة، وكثر رجاله، ومال الناسُ إليه، وأقبل يدعو الناس على طبقاتهم ومقاديرهم في أنفسهم وعقولهم، فمنهم من يخاطبه بإمامة محمد ابن الحنفية، ومنهم من يدفعه عن هذا فيخاطبه بأن المَلَكَ يأتيه بالوحي ويخبره بالغيب، وتتبع قتلة الحسين فقتلهم: قتل عمرو بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وهو الذي تولى حرب الحسين يوم كربلاء وقتله ومن معه، فزاد ميل أهل الكوفة إليه، ومحبتهم له.

حال ابن الزبير

وأظهر ابن الزبير الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة، وقال: إنما بطني شبر، فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا، وأنا العائذ بالبيت، والمستجير بالرب، وكثرت أذيَّتُه لبنى هاشم مع شُحِّه بالدنيا على سائر الناس، ففي ذلك يقول أبو وجزة مولى الزبير:

إنَّ المواليَ أمْسَتْ وهي عـاتـبة

 

على الخليفة تشكو الجوع والحربَا

ماذا علينـا ومـاذا كـان يزؤنـا

 

أي الملوك على ما حولنا غلبـا؟

وفيه لِقول بعد مفارقته إياه:

ما زال في سورَةِ الأعراف يقرؤها

 

حتى فؤاديَ مثل الخزِّ في اللـين

لو كان بطنك شِبراً قد شَبِعْتَ، وقد

 

أفضلت فَضْلاً كثيراً للمسـاكـين

إن آمرأً كنتُ مَوْلاَهُ فضـيعـنـي

 

يرجو الفلاح لعمري حَقُّ مغبُـونِ

وفيه يقول أيضاً:

فيا راكباً إمَّا عرضْتَ فبـلـغَـن

 

كبيربني العَوَّام إن قيل: مَنْ تَعْنِي

تخبر مـنْ لاقـيت أنـك عـائذ

 

وتكثر قْتلاً بين زمْزَم والرُّكـن

وفيه يقول أيضاً الضحاك بن فيروز الديلمي:

تخبرنا أنْ سَوْف تكفـيك قـبـضةٌ

 

وبطنُك شِبْرأوأقل مـن الـشـبـر

وأنت إذا ما نلت شيئاً قَـضَـمْـتَـهُ

 

كماقضَمَتْ نارُالغضى حَطَبَ السدر

فلو كنت تجزي إذ تبيت بـنـعـمة

 

قريباً لردَّتْكَ العطوف على عمـرو

ابن الزبير وأخوه عمرو

وذلك أن يزيد بن معاوية كان قد ولى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان المدينة فسرَّحَ منها جيشاً إلى مكة لحرب ابنَ الزبير عليه عمرو بن الزبير أخوه، وكان عمرو منحرفاً عن عبد اللّه، فلما تصافّ القوم انهزم رجال عمرو وأسلموه، فظفر به أخوه عبد اللّه، فأقامه للناس بباب المسجد الحرام مجرداً، ولم يزل يضربه بالسياط حتى مات.

ابن الزبير والحسن بن محمد بن الحنفية

وحبس عبد اللّه بن الزبير الحسن بن محمد بن الحنفية في الحبس المعروف بحبس عارم، وهو حبس مُوحِشَ مُظْلم، وأراد قتله، فعمل الحيلة حتى تخلص من السجن، وتعسَّفَ الطريق على الجبال حتى أتى مِنىً وبها أبوه محمد بن الحنفية ففي ذلك يقول كثير:

تخبـر مـن لاقـيت أنـك عـائذ

 

بل العائذ المظلوم في سجن عارم

ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منىً

 

من الناس يعلم أنه غـيْرُظـالـم

سميّ نبيّ الـلّـه وابـن وصـيِّه

 

وفكَّاكُ أغلالٍ وقاضي مـغـارم

وقد كان ابن الزبيرعمد إلى من بمكة من بني هاشم فحصرهم في الشِّعْبِ، وجمع لهم خَطَباً عظيماً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد، وفىِ القوم محمد بن الحنفية.

ابن الزبير وال بيت الرسول

وحدث النَّوْفَلِي علي بن سليمان، عن فضيل بن عبد الوهاب الكوفي، عن أبي عمران الرازي، عن فطر بن خليفة، عن الديال بن حرملة، قال: كنت فيمن استنفره أبو عبد اللّه الجدلي من أهل الكوفة من قبل المختار، فنقرنا معه في أربعة آلاف فارس، فقال أبو عبد اللّه: هذه خيل عظيمة، وأخاف أن يبلغ ابن الزبير الخبر فيعجل على بني هاشم،فيأتي عليهم، فانتدبوا معي، فانتدبنا معه في ثمانمائة فارس جريدة خيل، فما شعر ابن الزبير إلا والرايات تخفق على رأسه، قال: فجئنا إلى بني هاشم، فإذا هم في الشِّعْب، فاستخرجناهم، فقال لنا ابن الحنفية: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فلما رَأي ابن الزبير تنمر ناله وإقدامنا عليه لاذ بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ اللّه.

وحدث النوفلي في كتابه في الأخبار، عن ابن عائشة، عن أبيه، عن حماد بن سلمة، قال: كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحَصْره إياهم في الشِّعْبِ وجمعه لهم الحطب لتحريقهم، ويقول: إنما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذ هم أبوا البيعة فيما سلف، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان.

الكيسانية وقولهم في ابن الحنفية

وخطب ابن الزبير فقال: قد بايعني الناس، ولم يتخلف عن بيعتي إلا هذا الغلام محمد ابن الحنفية، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس، ثم أضرم داره عليه ناراً، فدخل ابن العباس على ابن الحنفية فقال: يا ابن عم، إني لا آمنه عليك فبايعه، فقال: سيمنعه عني حجاب قوي، فجعل ابن عباس ينظر إلى الشمس، ويفكر في كلام ابن الحنفية، وقد كادت الشمس أن تغرب، فوافاهم أبو عبد اللّه الجدلي فيما ذكرنا من الخيل، وقالوا لابن الحنفية: ائذن لنا فيه، فأبى، وخرج إلى أيْلَةَ فأقام بها سنين، ثم قتل ابن الزبير، كذلك حدث عمر بن شبة النميري، عن عطاء بن مسلم، فيما أخبرنا به أبو الحسن المهراني المصري بمصر، وأبو إسحاق الجوهري بالبصرة، وغيرهما، وهؤلاء الذين وردوا إلى ابن الحنفية هم لشيعة الكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية، وقد تنازعت الكيسانية بعد قولهم بإمامة محمد بن الحنفية: فمنهم من قطع بموته، ومنهم من زعم أنه لم يمت وأنه حي في جبال رَضْوَى، وقد تنازع كل فريق من هؤلاء أيضاً، وإنما سموا بالكيسانية لإِضافتهم إلى المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي، وكان اسمه كيسان، ويكنى أبا عمرة، وأن علي بن أبي طالب سماه بذلك، ومنهم من رأى أن كيسان أبا عمرة هو غير المختار،. وقد أتينا على أقاويل فرق الكيسانية وغيرهم من فرق الشيعة وطوائف الأمة في كتابنا في المقالات في أصول الديانات وذكرنا قول كل فريق منهم، وما أيدَ به مذهبه، وقول من ذكر منهم أن ابن الحنفية دخل إلى شِعْب رَضْوي في جماعة من أصحابه فلم يُعْرَفْ لهم خبر إلى هذه الغاية. وقد ذكر جماعة من الأخباريين أن كُثَيِّراً الشاعر كَان كَيْسانياً، ويقول: إن محمد بن الحنفية هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت شراً وجوراً.

وحكى الزبير بن بكار في كتابه أنساب قريش في أنساب آل أبي طالب وأخبارهم منه قال: أخبرني عمي، قال: قال كثير أبياتاً له يذكر ابن الحنفية رضي اللّه عنه، وأولها:

هو المهديُّ خبـرنـاه كَـعْـب

 

أخو الأحبار في الحقب الخوالي

أقر اللـهُ عـينِـي إذ دعـانـي

 

أمين اللّه يلطف في الـسـؤال

وأثنى في هواي علـيَ خـيراً

 

وساءل عن بَنيَّ وكيف حالـي

 وفيه يقول أيضاً كثير:

ألا إن الأئمة من قـريش

 

ولاة الحق أربعة سـواء

عليُّ والثلاثة من بـنـيه

 

هم الأسباط ليس بهم خفاء

فبسط سبط إيمـان وبِـر

 

وسبط غَيّبَتـه كَـرْبـلاء

وسبط لاتراه العين حتـى

 

يقود الخيلَ يتبعها اللـواءُ

تغيبَ لايُرَى فيهم زمانـاً

 

برَضْوَي عنده عسل وماءُ

وفيه يقول السيد الحميري، وكان كَيْسانياً:

ألا قل للوصيّ فَدَتْكَ نـفـسـي

 

أطَلْتَ بذلك الجبل المـقـامَـا

أضَرَّ بمعشـر وَالَـوْك مـنـا

 

وَسَمَّوْك الخلـيفة والإِمـامَـا

وعَادَوْا فيك أهل الأرض طُـراً

 

مغيبك عنهم سبعـين عـامَـا

وماذاق ابْنُ خَوْلة طعـم مـوت

 

ولا وارت له أرضٌ عظـامـا

لقد أمسى بمردف شِعْب رَضْوَى

 

تراجعه الملائكةُ الـكـلامـا

وفيه يقول السيد أيضاً:

يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى

 

وبنا إليه من الـصـبـابة أولـق

حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المَدَى؟

 

يا ابن الرسول وأنت حيٌّ تُـرْزَقُ

وللسيد فيه أشعار كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا.

وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي في كتابه الأخبار مما سمعناه من أبي العباس بن عمار، قال: حدثنا جعفر بن محمد النوفلي، قال: حدثنا إسماعيل الساحر، وكان راوية السيد الحميري، قال: ما مات السيد إلا على قوله بالكيسانية، وأنكر قوله في القصيدة التي أولها:

تَجَعفَرْتُ باسم الله، واللَّه أكبرُ

قال أبو الحسن علي. بن محمد النوفلي عقيب هذا الخبر: وليسٍ يشبه هذا شعر السيد؟ لأن السيد مع فصاحته وجزالة قوله لا يقول تجَعْفَرْت باسم الله.

وذكر عمر بن شبه النميري، عن مساور بن السائب، أن ابن الزبير خطب أربعين يوماً لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا يمنعني أن أصلي عليه إلا أن تَشَمَخَ رجالٌ بآنافها.

بين ابن عباس وابن الزبير

وذكر سعيد بن جبير أن عبد اللّه بن عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير: أنت الذي تؤنبني وتبخِّلُنِي. قال ابن عباس: نعم، سمعت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، يقول: ليس المسلم الذي يشبع ويجوع جاره فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغضكم أهْلَ هذا البيت منذ أربعين سنة، وجرى بينهم خطب طويل، فخرج ابن عباس من مكة خوفاً على نفسه، فنزل الطائف، فتوفي هنالك، ذكر هذا الخبر عمر بن شَبَّة النميري، عن سويد بن سعيد، يرفعه إلى سعيد بن جبير فيما حدثنا به المهراني بمصر، والكلابي بالبصرة، وغيرهما، عن عمر بن شَبَّة.

بين ابن الحنفية وابن الزبير

وحدث النوفلي في كتابه في الأخبار عن الوليد بن هشام المخزومي، قال: خطب ابن الزبير فنال من علي، فبلغ. ذلك ابنه محمد بن الحنفية فجاء حتى وضع له كرسي قدامه، فعلاه، وقال: يا معشر قريش، شاهت الوجوه! أينتقص علي وأنتم حضور؟ إن عليّاً كان سَهْماً صادقاً  أحَد مرامي اللّه على أعدائه يقتلهم لكفرهم ويُهَوِّعُهم مآكلهم، فثقل عليهم، فرموه بقرفة الأباطيل، وإنا معشر له على ثبج من أمره بنو النخبة من الأنصار، فإن تكن لنا في الأيام دولة ننثر عظامهم ونحسر عن أجسادهم، والأبدان يومئذ بالية، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون، فما بال ابن الحنفية. فقال محمد: يا ابن أم رومان، ومالي لا أتكلم. أليست فاطمة بنت محمد حليلة أبي وأم إخوتي. أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي. أو ليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي. أما واللّه لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد عَظْماً إلا هشمته، وإن نالتني فيه المصائب صبرت.

ابن الزبير ينتقص ابن العباس

حدثنا ابن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني ابن عائشة والعتبي جميعاً عن أبويهما، وألفاظُهُما متقاربة، قالا: خطب ابن الزبير فقال: ما بال أقوام يفتون في المتعة، وينتقصون حَوَارِيّ الرسول وأم المؤمنين عائشة، ما بالهم أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم، يُعَرَض بابن عباس، فقال ابن عباس: يا غلام، اصمدني صَمْدَه، فقال: يا ابن الزبير:

قد أنصف القارة مَنْ راماها

 

إنا إذا ما فِئَة نَـلـقَـاهـا

نَرُدُّ أولاها على أخراها

 

 

أما قولك في المتعة فسل أمك تخبرك، فإن أول متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك، يريد مُتْعَةَ الحج، وأما قولك أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين، وبنا ضُرب عليها الحجاب وأما قولك حَوَاريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقد لقيتُ أباك فى الزَّحْف وأنا مع إمام هُدى، فأن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا، فانقطع ابن الزبير ودخل على أمه أسماء، فأخبرها، فقالت: صدق.

قال المسعودي: وفي هذا الخبر زيادات من ذكر البردة والعوسجة،وقد أتينا على الخبر بتمامه وما قاله الناس في مُتْعَة النساء ومتعة الحج، وتنازعهم في ذلك وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أنه حرمها عام خيبرولحوم الحمر الأهلية وما ذكر في حديث الربيع بن سَبْرَةَ عن أبيه وقول عمر: كانت في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو تقدمت بالنهي لفعلت بفاعل ذلك كذا وكذا. وما روي عن جابر قال: تمتعنا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر، وغير ذلك من أقاويلهم، في كتابنا المترجم بكتاب الاستبصار وفي كتاب الصفوة وفي كتابنا المترجم بالكتاب الواجب في الفروض اللوازم وما قال الناس في غسل الرجلين، ومسحهما، والمسح على الخفين، وطلاق السنة، وطلاق العدة، وطلاق التعدي، وغير ذلك.

وقد حدث النوفلي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثني منصور بن شيبة، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما قدمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع أمر مَنْ لم يكن معه هدْي أن يحلً، قال: فأحللت، فلبست ثيابي، وتطيبت، وجئت حتى جلست إلى جنب الزبير، فقال: قومي عني، فقلت: ما تخاف. قال: أخاف أن أثِبَ عليك. فهذا الذي أراد ابن عباس.

وقد ذكر هذا الحديث عن أبي عاصم غَيْرُ النوفلي، وقد تنازع الناس في ذلك: فمنهم من رأى أنه عَنَى متعة النساء، ومنهم من رأى أنه أراد متعة الحج، لأن الزبير تزوج أسماء بكراً في الِإسلام، زوجهُ أبو بكر معلناً، فكيف تكون متعة النساء.

بين ابن الزبير والحصين بن نمير

ولما هلك يزيد بن معاوية ووليها معاوية بن يزيد نمي ذلك إلى الحصين بن نمير ومن معه في الجيش من أهل الشام، وهو على حرب ابن الزبير، فهادنوا ابن الزبير، ونزلوا مكة، فلقي الحصين عبد اللهّ في المسجد، فقال له: هل لك يا ابن الزبير أن أحملك إلى الشام وأبايع لك بالخلافة. فقال عبد اللّه رافعاً صوته: أبعد قتل أهل الحرة، لا واللّه حتى أقتل بكل رجل خمسة من أهل الشام، فقال الحصين: مَنْ زعم يا ابن الزبير أنك فى داهية فهو أحمق، أكلمك سراً وتكلمني علانية، أدعوك إلى أن أستخلفك فترفع الحرب وتزعم أنك تقاتلنا، فستعلم أينا المقتول، وانصرف أهل الشام إلى بلادهم مع الحصين، فلما صاروا إلى المدينة جعل أهلها يهتفون بهم، ويتوعدونهم، ويذكرون قتلاهم بالحَرَّة، فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهيجَهَا صعد روح بن زنباع الجذامي على منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك الجيش، فقال: يا أهل المدينة، ما هذا الإيعاد الذي توعدوننا؟ إنا واللّه ما دعوناكم إلى كلب لمبايعة رجل منهم، ولا إلى رجل من بلقَين،، ولا إلى رجل من لخم أو جُذَام، ولا غيرهم من العرب والموالي، ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش، يعني بني أمية، ثم إلى طاعة يزيد بن معاوية، وعلى طاعته قاتلناكم، فإيانا توعدون؟ أما والله إنا لأبناء الطعن والطاعون، وفضلات الموت. والمنون، فما شئتم، ومضى القوم إلى الشام.

ابن الزبير يبني الكعبة على قواعد إبراهيم

وحمل إلى ابن الزبير من صنعاء الفُسَيْفِسَاء التي كان بناها أبرهة الحبشي في كنيسته التي اتخذها هنالك، ومعها ثلاث أساطين من رخام فيها وَشْيٌ منقوش قد حُشي السندروس وأنواع الألوان من الأصباغ، فمن رآه ظنه ذهباً، وشرع ابن الزبير في بناء الكعبة، وشهد عنده سبعون شيخاً من قريش أن قريشاً حين بنت الكعبة جزت نفقتهم فنقصوا من سَعَة البيت سبعة أذرع من أساس إبراهيم الخليل الذي أسسه هو وإسماعيل عليهما السلام، فبناه ابن الزبير وزاد فيه لأذرع المذكورة، وجعل فيه الفسيفساء والأساطين، وجعل له بابين: باباً يدخل منه، وباباً يخرج منه، فلم يزل البيت على ذلك حتى قتل الحجاج عبد اللّه بن الزبير، وكتب إلى عبد الملك بن مروان يعلمه بما زاده ابن الزبير في البيت، فأمره عبد الملك بهدمه، ورَدَه إلى ما كان عليه آنفاً من بناء قريش وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل له باباً واحداً، ففعل الحجاج ذلك.

واستوثق الأمر لابن الزبير، وأخذت له البيعة بالشام، وخطب له على سائر منابر الإسلام، إلا منبر طبرية من بلاد الأردن، فإن حسان بن مالك ابن بجدل أبى أن يبايع لابن الزبير، وأرادها لخالد بن يزيد بن معاوية، وكان القيم بأمر بيعة ابن الزبير بمكة عبد اللّه بن مطيع العدوي، ففي ذلك يقول قضاعة الأسدي، وكان بايع لابن الزبير ثم نكث:

دعا ابنُ مطيع للبياع فجـئتـه

 

إلى بَيْعة قلبي لهاغـيرُالـف

فناوَلني خَشْنَاء لمالمسـتـهـا

 

بكفي ليست من أكُفِّ الخلائف

عبيد اللّه بن زياد والخلافة

وهلك يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، وعبيدُ الله بن زياد على البصرة أمير، فخطب الناس وأعلمهم بموتهما، وأن الأمر شورى لم ينصب له أحد، وقال: لا أرْضَ اليوم أوسع من أرضكم، ولا عددَ أكثر من عددكم، ولا مال أكثر من مالكم، في بيت مالكم مائة ألف ألف درهم، ومقاتلتكم ستون ألفاً، وعطاؤهم وعطاء العيال ستون ألف ألف درهم، فانظروا رجلاً ترضونه يقوم بأمركم، ويجاهد عدوكم، وينصف مظلومكم من ظالمكم، ويوزع بينكم أموالكم، فقام إليه أشراف أهلها- ومنهم الأحنف بن قيس التميمي، وقيس بن الهيثم السلمي، ومسمع بن مالك العبدي- فقالوا: ما نعلم ذلك الرجل غيرك أيها الأمير، وأنت أحق مَنْ قام على أمرنا حتى يجتمع الناس على خليفة، فقال: أما لو استعملتم غيري لسمعت وأطعت.

الكوفة لأبى الانقياد له

وقد كان على الكوفة عمرو بن حريث الخزاعي عاملاً لعبيد اللهّ بن زياد، فكتب إليه عبيد الله يحلمه بما دخل فيه أهل البصرة، ويأمره أن يأمر أهل الكوفة بما دخل فيه أهل البصرة، فصعد عمرو بن حريث على المنبر، فخطب الناس وذكر لهم ما دخل فيه أهل البصرة فقام يزيد بن رويم الشيباني فقال: الحمد للهّ الذي أطلق أيماننا، لا حاجة لنا في بني أُمية، ولا في إمارة ابن مرجانة، وهي أم عبيدَ اللّه، وأم أبيه زيادٍ سميةُ على ما ذكرنا آنفاً، إنما البيعة لأهل الحجر- يعني أهل الحجاز- فخلع أهل الكوفة ولاية بني أمية وإمارة ابن زياد وأرادوا أن ينصبوا لهم أميراً إلى أن ينظروا في أمرهم، فقال جماعة: عمرو بن سعد بن أبي وقاص يصلح لها، فلما هموا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهن من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع حتى دخَلْنَ المسجد الجامع صارخات باكيات مُعْوِلات يندبن الحسين ويقلن: أما رضي عمرو بن سعد بقتل الحسين حتى أراد أن يكون أميراً علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمرو، وكان المبرزات في ذلك نساءً همدان، وقد كان علي عليه السلام مائلاً إلى همدان مؤثراً لهم، وهو القائل:

فلو كنت بَوّاباً على باب جنة

 

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وقال:

عبييْتُ همدان وعَبَّوْا حميرا

ولم يكن بصفين منهم أحد مع معاوية وأهل الشام إلا ناس كانوا بغُوطَةِ دمشق، بقرية تعرف بعين ثرما، فيها منهم قوم إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.


ولما اتصل خبر أهل الكوفة بابن الزبير أنفذ إليهم عبد اللّه بن مطيع العدوي على ما قدمنا آنفاً، فتولى أمرهم حتى وجه المختار في أثره.

تدبير مروان بن الحكم

ونظر مروان بن الحكم في إطباق الناس على مبايعة ابن الزبير، وإجابتهم له، فأراد أن يلحق به وينضاف إلى جملته، فمنعه من ذلك عبيد اللّه بن زياد عند لحاقه بالشام، وقال له: إنك شيخ بني عبد مناف فلا تعجل، فصار مروان إلى الجابية، من أرض الجولان، بين دمشق والأردن، واستمال الضحاك بن قيس الفهري الناس، ورأسهم، وانحاز عن مروان، وأراد دمشق، فسبقه إليها الأشدق، عمرو بن سعيد بن العاص فدخلها وصار الضحاك إلى حوران والبثنة وأظهر الدعوة لابن الزبير، والتقى الأشدق ومروان، فقال الأشدق لمروان: هل لك فيما أقوله لك فهو خير لي ولك. قال مروان: وما هو. قال: أدعو الناس إليك وآخذك لك على أن تكون لي من بعدك، فقال مروان: لا، بل بعد خالد بن يزيد بن معاوية، فرضي الأشدق بذلك، ودعا الناس إلى بيعة مروان فأجابوا، ومضى الأشدق إلى حسان بن مالك بالأردن،- فأرغبه في بيعة مروان، فجنح لها.

البيعة لمروان

وبويع مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمش بن عبد مناف، ويكنى أبا عبد الملك، وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان، وذلك بالأردن، وكان أول من بايعه أهلها، وتمت بيعته.


وكان مروان أول مَنْ أخذها بالسيف كرهاً على ما قيل بغير رضا من عصبة من الناس، بل كلٌّ خَوَّفه إلا عدداً يسيراً حملوه على وثوبه عليها، وقد كان غيره ممن سلف أخذها بعدد وأعوان إلا مروان، فإنه أخذها على ماوصفنا! وبايع مروان بعده لخالد بن يزيد، ولعمرو بن سعيد الأشدق بعد خالد، وكان مروان يلقب بخيط باطل، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن الحكم أخوه:

لحا اللَّه قَوْماً أمِّرُوا خيط بَـاطِـل

 

على النَّاس يعطي مَنْ يَشَاء ُويمنع

واشترط حسان بن مالك- وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام- على مروان ما كان لهم من الشروط على معاوية، وابنه يزيد، وابنه معاوية بن يزيد: منها أن يفرض لهم لالذي رجل الذين الذين، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه مكانه، وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي، وَصَدر المجلس، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي منهم ومشورة، فرضي مروان بذلك، فإنقاد إليه، وقال له مالك بن هبيرة اليشكري: إنه ليست لك في أعناقنا بيعة، وليس نقاتل إلا عن عَرَض دنيا؟ فإن تكن لنا على ما كان لنا معاوية ويزيد نصرناك، وإن تكن الأخرى فواللهّ ما قريش عندنا إلا سواء، فأجابه مروان إلى ما سأل!.

لقاء مروان والضحاك بن قيس

وسار مروان نحو الضحاك بن قيس الفهري، وقد انحازت قيس وسائر مضر وغيرهم من نزار إلى الضحاك، ومعه أناس من قُضَاعَة عليهم وائل بن عمرو العدوي، وكانت معه راية عَقَدَهَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأبيه، وأظهر الضحاك ومَنْ معه خلافة ابن الزبير، والتقى مروان والضحاك ومن معهما بمرج راهط على أميال من دمشق، فكانتَ بينهم الحروب سجالاً وكَثَرت اليمانية عليهم وبواديها مع مروان فقتل الضحاك بن قيس رئيس جيش ابن الزبير، قتله رجل من تَيْم اللات، وقتل من معه من نزار، وأكثرهم من قيس، مَقْتَلة عظيمة لم ير مثلها قط، وفي ذلك يقول مروان بن الحكم:

لما رأيت الناس صَارُوا حَرْبا

 

وَالْمَال لا يُؤْخَذ إلا غَصْبَـا

دَعَوْت غَساناً لهم وكـلـبـا

 

والسكسكيِّينَ رِجَالاً غُلْـبَـا

وَالقَيْن تمشي في الحديد نكبا

 

وَالأعْوَجِيَّاتُ يَثِبْـنَ وَثْـبَـا

يحملْنَ سَرْوَات ودينا صُلْبَا

 

 

وفي ذلك يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم:

أرَى أحاديث أهْل المَرْج قد بلغت

 

أهْل الفرات وَأهْل الفيض وَالنيل

وكان زفر بن الحارث العامري، ثم الكلابي، مع الضحاك، فلما أمعن السيفُ في قومه وَلى ومعه رجلان من بني سليم، فقصر فرساهما وغشيتهما اليمانية من خيل مَرْوَان، فقالا له: انج بنفسك فإنا مقتولان، فَوَلّى راكضاً، وَلُحِقَ الرجلان، فقتلا، وفي هذا اليوم يقول زفر بن الحارث الكلابي من أبيات كثيرة:

لَعَمْرِي لقد أبقت وَقِـيعَة رَاهِـط

 

لِمَرْوَانَ صَدْعاً بَيِّناً مُـتَـنَـاكِـيَا

فقد ينبت المَرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

 

وتبقى خَزَازَات النفوس كما هِيَا

أرِينِي سلاحي لا أبَا لَـكَ إنـنـي

 

أرَى الحرب لا تزداد إلا تَمَـادِيَا

أتذهب كلب لِم تَنَلْهَا رمـاحـنـا

 

وتترك قَتْلَى رَاهِط هي مَـاهِـيَا

فلم ترمِنَي نـبْـوَة قـبـل هـذه

 

فِرَارِي، وتركي صَاحِبَـي وَرَائيا

عَشِيًةَ أغْدُو في الفريقـين لا أرَى

 

من القوم إلا مَنْ عَـلَـيَّ ولالِـيَا

أيذهـب يَومٌ واحـد إن أسَـأْتُـه

 

بصالح أيامي وَحُـسْـنِ بـلائيا

أبَعدَ ابن عمرو وابن مَعْن تتابعـا

 

وَمَقْتَل هَمَّام امَـنَّـى الأمـانـيا

وتلاحق الناس ممن حضر الوقعة بأجنادهم من أرض الشام، وكان النعمان بن بشير والياً على حِمْصَ قد خطب لابن الزبير ممالئاً للضحاك، فلما بلغه قتله وهزيمة الزُّبَيْرِية خرج عن حمص هارباً، فسار ليلته جمعاء متحيراً لا يدري أين يأخذ، فأتبعه خالد بن عدي الكُلاَعي فيمن خَفَّ معه من أهل حمص، فلحقه وقتله، وبعث برأسه إلى مروان، وانتهى زُفَر بن الحارث الكلابي في هزيمته إلى قرقيسيا، فغلب عليها، واستقام الشام لمروان، وبَثَّ فيه رجاله وعُمَّاله.

وسار مروان في جنوده من الشام إلى أهل مصر، فحاصرها وخَندقَ عليها خندقاً مما يلي المقبرة، وكانوا زُبَيْرِية عليهم لابن الزبير عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم، وسيد الفسطاط يومئذ وزعيمها أبو رشد بن كريب بن أبرهة بن الصباح، فكان بينهم وبين مروان قتال يسير، وتوافقوا على الصلح، وقتل مروان أكيدر بن الحمام صبراً، وكان فارس مضر، فقال أبو رشد لمروان: إن شئت واللهّ أعَدْنَاهَا جَذَعَة، يعني يوم الدار بالمدينة، فقال مروان: ما أشاء من ذلك شيئاً، وانصرف عنها وقد استعمل عليها ابنه عبد العزيز.

وقدم مروان الشام فنزل الصميرة على ميلين من طبرية من بلاد الأردن، فأحضر حسان بن مالك، وأرغبه وأرهبه، فقام حسان في الناس خطيباً، ودعاهم إلى بيعة عبد الملك بن مروان بعد مروان، وبيعة عبد العزيز بن مروان بعد عبد الملك، فلم يخالفه في ذلك أحد.

موت مروان بن الحكم

وهلك مروان بدمشق في هذه السنة، وهي سنة خمس وستين، وقد تنازع أهل التواريخ وأصحاب السير ومن عُنِيَ بأخبارهم في سبب وفاته: فمنهم من رأى أنه مات مطعوناً، ومنهم من رأى أنه مات حَتْفَ أنْفِهِ ومنهم من رأى أن فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة أم خالد بن يزيد بن معاوية هي التي قتلته، وذلك أن مروان حين أخذ البيعة لنفسه ولخالد بن يزيد بعده وعمروبن سعيد بعد خالد، ثم بَدَا له غير ذلك فجعلها لابنه عبد الملك بعده، ثم لابنه عبد العزيز بعد عبد الملك ودخل عليه خالد بن يزيد فكلَّمه وأغْلَظَ له، فغضب من ذلك وقال: أتكلمني يا ابن الرَّطْبة. وكان مروان قد تزوج بأُمه فاختة ليُذلَه بذلك ويضَع منه، فدخل خالد على أمه فقبح لها تزوجها بمروان، وشكا إليها ما نزل به منه، فقالت: لا يعيبك بعدها؟ فمنهم من رأى أنها وضعت على نَفَسِه وسادة وقعدت فوقها مع جواريها حتى مات، ومنهم من رأى أنها أعدَتْ له لبناً مسموماً فلما دخل عليها ناولته إياه فشرب، فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه، فحضره عبد الملك وغيره من ولد ة فجعل مروان يشير إلى أم خالد برأسه يخبرهم أنها قتلته، وأم خالد تقول: بأبي وآمي أنت، حتى عند النزع لم تشتغل عني، إنه يوصيكم بي، حتى هلك، فكانت أيامه تسعة أشهر وأياماً قلائل، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل غير ذلك مما سنورده عند ذكرنا للمدة التي ملكت فيها بنو أمية من الأعوام، فيما يرد من هذا الكتاب، إن شاء اللّه تعالى.

ترجمة مروان

وهلك مروان وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد ذكر غير ذلك في سِنِّه، وكان قصيراً أحمر، ومولده لسنتين خَلَتَا، من الهجرة، وهلك بعد أخذ البيعة لولده بثلاث أشهر، وقد ذكر ابن أبي خيثمة في كتابه في التاريخِ أن النبي صلى الله عليه وسلم، توفي ومروان ابنُ ثمانِ سنين، وكان لمروان عشرونأخاَ وثماني أخوات، وله من الولد أحد عشر ذكراً وثلاث بنات، وهم: عبد الملك، وعبد العزيز، وعبد اللّه، وأبان، وداود، وعمر، وأم عمر، وعبد الرحمن، وأم عثمان، وعمرو، وأم عمرو، وبشر، ومحمد، ومعاوية، وقد ذكرنا هؤلاء وَمَنْ أعقب منهم ومن لم يعقب.

ولد يزيد بن معاوية

وقد كان يزيد بن معاوية خلف من الولد أكثر مما خلف مروان، وذلك أنه خلف: معاوية، وخالداً، وعبد اللّه الأكبر، وأبا سفيان، وعبد اللّه الأصغر، وعمر، وعاتكة، وعبد الرحمن، وعبد اللّه الذي لقبه الأصغر، وعثمان، وعتبة الأعور، وأبا بكر، ومحمداً، ويزيد، وأم يزيد، وأم عبد الرحمن، ورَمْلَة.

ولد معاوية

وخلف أبوه معاوية بن أبي سفيان من الولد: عبد الرحمن، ويزيد، وعبد الله، وهنداً، ورَمْلَة، وصفية.