ذكر أيام عبد الملك بن مروان

ذكر أيام عبد الملك بن مروان

وبُويع عبدُ الملك بن مروان ليلة الأحد غرة شهر رمضان من سنة خمس وستين، ثم بَعَثَ الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبيرومن معه من الناس بمكة، فقتل عبد الله يوم الثلاثاء لعشر مَضَيْنَ من جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وكانت ولاية ابن الزبير تسع سنين وعشر ليال، وسنذكر مدة ابن الزبير بعد هذا الموضع من هذا الكتاب عند ذكرنا لجامع مدة ملك بني أمية، ثم هاجت فتنة ابن الأشعث في شعبان من سنة اثنتين وثمانين، ثم توفي عبد الملك بن مروان بدمشق يوم السبت لأربع عشرة مضت من شوال سنة ست وثمانين، وكانت ولايته منذ بويع إلى أن توفي إحدى وعشرين سنة وشهراً ونصفاً، وبَقي بعد عبد الله بن الزبير واجتماع من اجتمع عليه من الناس ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبعِ ليال، وسنذكر ما فعله من وَقت استقامة من استقام له من الناس، وَقُبِض وهو ابن ست وسَتين سنة، وقيل كثر من ذلك، وكان يحب الشعر والفخر والتقريظ والمدح وكان الغالب عليه البخل، وكان له إقدام على الدماء، وكان عمَاله على مثل مذهبه، كالحَجاج بالعراق، والمهلَب بخراسان، وهشام بن إسماعيل بالمدينة، وغيرهم، وكان الحجاج من أظلمهم وَأسْفَكِهم للدماء، وسنذكر في هذا الكتاب جوامع من ذكره فيما يلي هذا الباب.

ذكر جمل من أفعاله وسيره ولمع مما كان في أيامه ونوادر من أخباره

منادمة الشعبي لعبد الملك

ولما أفْضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان تَاقَتْ نفسُه إلى محادثة الرجال والأشراف على أخبار الناس، فلم يجد مَنْ يصلح لمنادمته غير الشَّعْبِي، فلما حُمِل إليه ونادمه وحَظِيَ عنده قال له: يا شعبيُّ لا تساعدني على ما قبح، ولا تردَ علي الخطأ في مجلسي، ولاتكلفني جواب التشميت والتهنئة، ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى، وكلمني بقدر ما أستطعمك واجْعَلْ بدل المدح لي صوابَ الاستماع مني، وأعلم أن صواب الاستماع أكثر من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدَّثُ فلا يفوتنَكَ منه شيء، وأرِنِي فهمك في طرْفك وسمعك، ولا تجهد نفسك في تَطْرِية جوابي، ولا تَسْتَدْع بذلك الزيادة في كلامي، فإن أسْوَأ الناس حالاً من استكد الملوك بالباطل، وإن أسوأ حالاً منهم من استخف بحقهم، واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الإِحسان، ويسقط حتى الحرمة ة فإن الصمت في موضعه ربما كان أبلغ من المنطق في موضعه، وعند إصابته فرصة.

مهب الرياح:

وقال عبد الملك للشعبي يوماً: من أين تهب الريح. قال: لا علم لي يا أمير المؤمنين قال عبد الملك: أما مهبُّ الشمال فمن مطلع بنات نَعْش إلى مطلع الشمس، وأما مهبُّ الصَّبَا فمن مطلع الشمس إلى مطلع سُهَيْل، وأما الجنوب فمن مطلع سًهَيْل إلى مغرب الشمس، وأما الذَبُور فمن مغرب الشمس إلى مطلع بنات نَعْش.

حركة للشيعة

وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة بالكوفة، وتلاقوا بالتلاوم والتنادم حين قتل الحسين فلم يغيثوه، ورأوا أنهم قد أخطؤا خطأ كبيراً، بدعاء الحسين إياهم ولم يجيبوه، ولمقتله إلى جانبهم فلم ينصروه، ورأوا أنهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلا قتل من قتله أو القتل فيه، ففزعوا إلى خمسة نفر منهم: سليمان بن صُرَد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التميمي، ورفاعة بن شداد البجلي، فعسكروا بالنخيلة، بعد أن كان لهم مع المختار بن أبي عُبَيْدِ الثقفي خَطب طويل بتثبيطه الناسَ عنهم ممن أراد الخروج معهم، ففي ذلك يقول عبد الله بن الأحمر يحرض على الخروج والقتال من أبيات:

صحوت وودعتُ الصبا والغوانيا

 

وقلت لأصحابي: أجيبوا المنادِيَا

وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى

 

وقبل الدعا: لَبَّيْكَ لبـيك دَاعـياً

في شعر طويل يحث فيه على الخروج، ويرثي الحسين ومَنْ قتل معه، ويلوم شيعته بتخلفهم عنه، ويذكر أنهم قد تابوا إلى اللّه وأنابوا إليه من الكبائر التي ارتكبوها إذ لم ينصروه، ويقول أيضاً في هذا الشعر:

ألا وانع خير الناس جداً ووالـداً

 

حُسيناً لأهل الدين إن كنت ناعياً

ليَبْكِ حسيناً مُرْمِل ذوخَـصَـاصة

 

عديم وأيتامِ تشَكّـى الـمـوالـيا

فأضحى حسين للـرمـاح دريئة

 

وغودرمسلوباً لدى الطَفِّ ثـاوياً

فياليتني إذ ذاك كنت شـهـدتـه

 

فضاربت عند الشانئين الأعـاديا

سقى الله قبراً ضُمِّنَ المجد والتقى

 

بغربية الطف الغمامَ الـغـواديا

فيا أمةً تَاهَتْ وصًلتْ سـفـاهة

 

أنيبوا فأرْضُوا الواحد المتعالـيا

ثم ساروا يقدمهم مَنْ سَمَّينا من الرؤساء وعبد اللّه بن الأحمر يقول:

خرجن يلمعن بـنـا أرسـالا

 

عوابسا يحملنـنـا أبـطـالا

نريد أن نلقي بـهـا الأقـيالا

 

القاسطين الغدُرَ الـضُّـلاَّلا

وقد رَفَضْنَا الوُلْدَ والأمـوالا

 

والخَفِرَاتِ البيضَ والحجَـالا

نرضى به ذا النعم المفضالا

 

 

موقعة عين الوردة

فانتهوا إلى قرقيسياء من شاطىء الفرات وبها زُفَرٌ بن الحارث الكلابي، فأخرج إليهم الأنزال، وساروا من قرقيسياء ليسبقوا إلى عين الوردة، وقد كان عبيد الله بن زياد توجهَ من الشام إلى حربهم في ثلاثين ألفاً، وانفصل على مقدمته من الرقة خمسة أمراء، منهم الحصين بن نمير السكوني، وَشَرَحْبيل بن في الكلاع الحميري، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق الغَنَوِي، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي، حتى إذا صاروا إلى عين الوردة التقي الأقوام، وقد كان قبل ذلك لهم مُنَاوَشَاتٌ في الطلائع، فاستشهد سلمان بن صُرَد الخزاعي، بعد أن قَتَلَ من القوم مقتلة عظيمة، وأبلى وَحَثَ وحَرّض، ورماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله، فأخذ الراية المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من وجوه أصحاب علي رضي اللّه عنه، وكَرَّعلى القوم وهو يقول:

قد علمَتْ ميالة الـذوائب

 

واضحة اللباتِ والترائبِ

أني غداة الروع والمقانب

 

أشجع من ذي لِبدَةٍ مُوَاثب

فقاتل حتى قتل، واستقتل الترابيون، وكسروا أجفان السيوف، وسالت عليهم عساكر أهل الشام بالليل ينادون الجنة الجنة إلى البقية من أصحاب أبي تراب الجنة الجنة إلى الترابية، وأخذ راية الترابيين عبد الله بن سعد بن نفيل، وأتاهم إخوانهم يحثُونَ السير خلفهم من أهل البصرة وأهل المدائن في نحو من خمسمائة فارس عليهم المثنى بن مخرمة، وسعد بن حذيفة، وهم يقولون: أقِلْنَا رَبَّنَا تفريطنا فقد تُبْنَا، فقيل لعبد اللّه بن سعد بن نفيل وهو في القتال: إن إخواننا قد لحقونا من البصرة والمدائن، فقال: ذاك لو جاءوا ونحن أحياء، فكان أول من استشهد في ذلك الوقت ممن لحقهم من أهل المدائن كثير بن عمرو المدني، وطعن سعد بن أبي سعد الحنفي، وعبد اللّه بن الخطل الطائي، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل.

فلما علم من بقي من الترابيين: أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشام انحازوا عنهم، وارتحلوا، وعليهم رفاعة بن شداد البجلي، وتأخر أبو الحويرث العبدي في جابية الناس، وطلب منهم أهل الشام المكافَةَ والمتَاركة، لما رأوا من بأسهم وصبرهم مع قلتهم، فلحق أهل الكوفة بمصرهم، وأهل المدائن والبصرة ببلادهمِ، وسمع من الترابيين في مسيرهم ورجوعهم من عين الورده قائلاً يقول، رافعاً عقيرته :

ياعين بكي ابن الصُّـرَدْ

 

بكي إذا اللـيل خَـمَـدْ

كان إذا الـبـأس نـكـد

 

تخـالـه فـيه أســد

مضى حَمِيداً قـد رَشَـد

 

في طاعة الأعلى الصمد

وقد ذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من أصحاب التواريخ والسير مَنْ قتل من الترابيين مع سليمان بن صُرَد الخزاعي على عين الوردة وأسماءهم، فقللهم.

وحكي أبو مخنف في كتابه في أخبار الترابيين بعين الوردة قصيدة عزاها إلى أعشى هَمدانَ طويلة يرثي بها أهل عين وردة من الترابيين ويصف مافعلوه، منها:

توخـهَ مـن دون الـثـنـية سـائرا

 

إلى ابن زياد في الجموع الكـتـائب

فساروا وهم من بين ملتمس التـقـى

 

واخر مما جَـرَّ بـالأمـس تـائب

فلاقوا بعين الوردة الجيش فـاضـلا

 

عليهم فحيوهم ببـيض قـواضـب

فجاءهُمُ جمع مـن الـشـام بـعـده

 

جموع كموج البحرمن كل جـانـب

فما بَرِحُوا حتى أبيدت جمـوعـهـم

 

ولم يَنْجُ منهم ثَـمَّ غـيرعـصـائب

وغودرَ أهل الصبر صَرْعى فأصبحوا

 

تَعَاوَرُهُمْ رِيحُ الصَّبَا والـجـنـائب

وأضْحى الخزاعيُّ الرئيسُ مـجـدَّلاً

 

كأن لـم يقـاتـل مـرة ويحـارب

ورأس بني شمخ وفـارس قـومـه

 

جميعاً مع التيمي هادي الـكـتـائب

وعمرو بن عمرو بن بشر وخـالـد

 

وبكر وزيد والحليس بـن غـالـب

أبَوْا غيرضرب يَفْلق الهـام وقـعـه

 

وطعن بأطـراف الأسـنة صـائب

فيا خير جيش لـلـعـراق وأهـلـه

 

سُقِيتُمْ روايا كل اسـحَـمَ سـاكـب

فلا تبْعَدُوا فرسانَـنَـا وحُـمَـاتَـنَـا

 

إذا البيض أبدت عن خِدَام الكواعـب

فإن تقتلوا فالـقـتـل أكـرم مـيتة

 

وكل فتى يوماً لإحـدى الـنـوائب

وما قتلوا حتى أصابوا عصـابة

 

محلين حورا كالليوث الضوارب

       

وقيل: إن وقعة عين الوردة كانت في سنة ست وستين.

وصف القرآن لعلي كرم اللّه وجهه

وفي سنة ست وستين، في أيام عبد الملك بن مروان توفي الحارث الأعور صاحب علي عليه السلام، وهو الذي دخل على علي فقال: يا أمير المؤمنين ألا ترى إلى الناس قد أقبلوا على هذه الأحاديث وتركوا كتاب اللّه؟ قال: وقد فعلوها؟ قال: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ستكون فتنة قلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه. قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخَبَرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جَبّار قَصَمه الله، ومن أراد الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الشًي لا تزيغ عنه العقول، ولا تلتبس به الألْسُنُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يعلم علم مثله، هو الذي لمَّا سَمِعَتْه الجنُّ قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد، من قال به صدََقَ، ومن زال عنه عدا، ومن عمل به أجِرَ، ومن تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور.

مقتل عبيد الله بن زياد

ولما كان من وقعة عين الوردة ما قدمنا سار عبيد الله بن زياد في عساكر الشام يؤمُ العراق، فلما انتهى إلى الموصل وذلك في سنة ست وستين- التقى هو وإبراهيم بن الأشتر النخعي، إبراهيم على خيل العراق من قبل المختار بالخازر، فكانت بينهم وقعة عظيمة قتل فيها ابن مَرْجَانة عبيد الله بن زياد، والحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وابن حوشب ذي ظلم، وعبد الله بن آيا السلمي، وأبو أشرس، وغالب الباهلي، وأشراف أهل الشام، وذلك أن عمير بن الحباب السلمي كان على ميمنة ابن زياد في ذلك الجيش، وكان في نفسه ما فعل بقومه من مضر وغيرهم من نزار يوم مرج راهط، فصاح: يا لثارات قيس يا لمضر،يا لنزار، فتزاحمت نزار من مضر وربيعة على من كان معهم في جيشهم من أهل الشام من قحطان، وقد كان عمير كَاتَبَ إبراهيم بن الأشتر سرا قبل ذلك، والتقيا، فتوطآ على ما ذكرنا، وحمل إبراهيم بن الأشتر رأس ابن زياد وغيره إلى المختار، فبعث به المختار إلى عبد اللهّ بن الزبير بمكة.

اضطراب في كل ناحية

وقد كان عبد الملك بن مروان سار في جيوش أهل الشام فنزل بطنان ينتظر ما يكون من أمر ابن زياد، فأتاه خبر مقتله ومقتل من كان معه وهزيمة الجيش بالليل، أتاه في تلك الليلة مقتل حبيش بن دلجة، وكان على الجيش بالمدينة لحرب ابن الزبير، ثم جاءه خبر دخول ناتل بن قيس فلسطين من قبل ابن الزبير ومسير مُصْعَب بن الزبير من المدينة إلى فلسطين، ثم جاءه مسير ملك الروم لاوى بن فلنط ونزوله المصّيصة يريد الشام، ثم جاءه خبر دمشق، وأن عبيدها. وأوباشها ودُعَارها قد خرجوا على أهلها، ونزلوا الجبل، ثم أتاه أن مَنْ في السجن بدمشق فتحوا السجن وخرجوا منه مكابرة، وأنِّ خيل الأعراب أغارت على حمص وبعلبك والبقاع، وغير ذلك مما نمي إليه من المفظعات في تلك الليلة، فلم يُرعبدُ الملك فىِ ليلة قبلها أشد ضحكا، ولا أحسن وجهاً، ولا أبسط لساناً، ولا أثْبَتَ جَنَاناً منه تلك الليلة، تجلداً وسياسة للملوك، وترك إظهار الفَشَل، وبعث بأموال وهدايا إلى ملك الروم، فشغله وهادنه، وسار إلى فلسطين وبها ناتل بن قيس على جيش ابن الزبير، فالتقوا بأجنادين، فقتل ناتل بن قيس وعامة أصحابه، وانهزم الباقون، ونمي خبر قتله وهزيمة الجيش إلى مصعب بن الزبير وهو في الطريق، فولى راجعاً إلى المدينة، ففي ذلك يقول رجل من كلب من المروانية:

قَتَلْنَا بأجنادين سعـداً ونـاتـلا

 

قصاصاً بما لاقى حبيش ومنذر

ورجع عبد الملك إلى دمشق فنزلها، وسار إبراهيم بن الأشتر فنزل نصيبين، وتحصن منه أهل الجزيرة، ثم استخلف على نصيبين، ولحق بالمختار بالكوفة. 

بين مصعب والمختار الثقفي ومقتل المختار

وفي سنة سبع وستين سار مصعب بن الزبير من البصرة، وقد كان أخوه عبد الله بن الزبير أنفذه إلى العراق والياً، فنزل حَرُوراء، والتقى هو والمختار فكانت بينهم حروب عظيمة، وقَتْلٌ فريع، وانهزم المختار، وقد قتل محمد بن الأشعث وابنان له، ودخل قصر الإمارة بالكوفة وتحصن فيه، وجعل يخرج كل يوم لمحاربة مصعب وأصحابه من أهل الكوفة وغيرهم والمختار معه خلق كثير من الشيعة قد سموا الخشبية من الكيسانية وغيرهم، فخرج إليهم ذات يوم وهو على بغلة له شَهْبَاء، فحمل عليه رجل من بني حنيفة يقال له عبد الرحمن بن أسد، فقتله واحْتزرأسه، وتنادوا بقتله، فقطعه أهل الكوفة وأصحاب مصعب أعضاء، وأبى مصعب أن يعطي الأمان لمن بقي في القصر من أصحابه، فحاربوا إلى أن أضَرَّ بهم الجَهْدُ، ثم أمنهم وقتلهم بعد ذلك، فكان ممن قتل مع المختارعبيد اللّه بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وله خبر مع المختار في تخلصه منه ومضيه إلى البصرة وخوفه على نفسه من مصعب إلى أن خرج معه في جيشه، وقد أتينا على خبره وسائر ما أومأنا إليه في كتابنا أخبار الزمان فكان جملة مَنْ أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين، وقتلة أعدائه، فقتلهم مصعب، وسماهم الخشبية، وتتبع مصعب الشيعَةَ بالقتل بالكوفة وغيرها، وأتى بحرم المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له إحداهما بنت سَمُرَةَ بن جندب الفزاري والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، وقالتا: كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله؟ كان صائم نهاره قائم ليله، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قَتَلَةِ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهله وشيعته، فأمكنه اللّه منهم حتى شفي النفوس، فكتب مصعب إلى أخيه عبد اللّه بخبرهما وما قالتاه، فكتب إليه إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما، فعرضهما مصعب على السيف، فرجعت بنت سمرة ولعنتة وتبرأت منه، وقالت: لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت: أشهد أن المختار كافر، وأبت ابنة النعمان بن بشير، وقالت: شهادة أرزقها فأتركها. كلا! إنها موتة ثم الجنة والقدوم على الرسول وأهل بيته، والله لا يكون، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب؟ اللهم أشهد إني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بَيْتِه وشيعته، ثم قدَمها فقتلت صبراً، ففي ذلك يقول الشاعر:

إن من أعجب الأعاجيب عندي

 

قَتْلَ بَيْضَاء حرة عُطْـبُـول

قتلوها ظلماًعلى غـير جـرم

 

إن للّه درهـا مـن قـتـيل

كتب القتل والقتال عـلـينـا

 

وعلى الغانيات جرُّ الـذيول

ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر المهلب وقتله لنافع بن الأزرق، وذلك في سنة خمس وستين، ونافع هو الذي تنسب إليه الأزارقة من الخوارج، إذا كنا أتينا في كتابنا أخبار الزمان على ذكر حروب الخوارج مع المهلب وغيره ممن سلف وخلف، وذكرنا شأن مرداس بن عمرو بن التميمي، وعطية بن الأسي الحنفي، وأبي فديك، وشوذب الشيباني وسويد الشيباني وقطامة الشيباني، والمهذب السكوني، وقَطَرِي بن الفُجَاءة، والضحاك بن قيس الشيباني ووقعة ابن الماحوز الخارجي مع المهلب ومقتله، وظفر المهلب بهم في ذلك اليوم، وخبر عبد ربه وأخبار خوارج اليمن كأبي حمزة المختار بن عوف الأزدي، وابن بيهس الهيصمي، مع ما تقدم من ذكرنا لفرق الخوارج في كتابنا المقالات في أصول الديانات من الأباضية وهم شُرَاة عمان من الأزد وغيرهم من الأزارقة والنجدات والحمرية والجابية والصفرية وغيرهم من فرق الخوارج وبلدانهم من الأرض، مثل بلاد سنجار وتل أعْفَرَ من بلاد ديار ربيعة والسن والبوازيج. والحديقة مما يلي بلاد الموصل، ثم من سكن من الأكراد بلاد أذربيجان وهم المعرفون بالشراة منهم، وأسلم المعروف بابن شادلويه، وقد كان تملك على أعمال ابن أبي الساج من بلاد أذربيجان وأران والبيلقان وأرمينية، ومن سكن منهم بلاد سجستان وجبال هَرَاة وكوهستانة وبوشنج من بلاد خراسان ومن بلاد مكران على ساحل البحر بين بلاد السند وكرمان وأكثرهم صفرية وحمرية، ومنهم ببلاد حمران إصطخر وصاهك بين كرمان وفارس، ومنهم ببلاد تيهرت المغرب، ومنهم ببلاد حضرموت وغيرها من بقاع الأرض.

وفاة عبد اللّه بن العباس

وفي سلطنة عبد الملك مات أبو العباس عبد اللهّ بن العباس بن، عبد المطلب في سنة ثمان وستين، وقيل: في سنه تسع وستين، بالطائف، وأمه لُبَابة بنت الحارث بن حزن، من ولد عامر بن صعصعة، وله إحدى وسبعون سنة، وقيل: إنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وقد ذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وكان قد ذهب بصره لبكائه على علي والحسن والحسين، وكانت له وَفْرَة طويلة يخْضُب شَيْبه بالحناء، وهو الذي، يقول:

إن يأخُذ ِاللَّه من عينيَّ نورَهُمَـا

 

ففي لساني وقلبي منهما نـور

قلبي ذكي، وعقلي غير مدَخـل،

 

وفي فمي صارم كالسيف مأثور

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له حين وضع له الماء للطهور في بيت خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل.

وقيل لابن عباس رضي اللّه عنه: ما منع علياً رضي اللّه عنه أن يبعثك مكان أبي موسى في يوم الحكمين. فقال: منعه من ذلك حائل القدر، وقصر ادة، ومحنة الإبتلاء، أما واللّه لو بعثني مكانه لاعترضت مدارج نفسه، ناقضاً لما أبرم ومبرماً لما نقض، أسِفُّ إذا طار، وأطير إذا أسَفَّ، ولكن مضى قدر، وبقي أسف، ومع اليوم غد، وللآخرة خير للمتقين.

وكان لابن عباس من الولد: علي، وهوأبو الخلفاء من بني العباس،، والعباس، ومحمد،والفضل، وعبد الرحمن، وعبيد اللهّ، ولُبَابة، وأمهم زرعة بنت مشرح الكندية، فأما عبيد اللهّ ومحمد والفضلَ فَلا أعْقَاب لهم.

مقتل عمرو بن سعيد الأشدق

وفي سنة سبعين قَتَلَ عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا شهامة وفصاحة وبلاغة وإقدام، وقد كان بينه وبين عبد الملك محادثات ومكاتبات وخَطْب طويل طلباً للملك، وكان فيما كتب إليه عبد الملك: إنك لتطمع نفسك بالخلافة، ولست لها بأهل، فكتب إليه عمرو: استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة الغدر أورثتك الغفلة، زجرت عما وافقت عليه، وندبت إلى ما تركت سبيله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطالب ما انتقل سلطان ولا ذل عزيز، وعن قريب يتبين مَنْ صريع بغي وأسير غفلة.

وقد كان عبد الملك سار إلى زَفَرَ بن الحارث الكلاني وهو بقرقيسياء وبلاد الرحبة وخلف عمرو بن سعيد بدمشق فبلغه أن عمراً قد دعا الناس إلى بيعته بدمشق، فكَرَّ راجعاً إليها، فامتنع عمرو فيها، فناشده عبد الملك الرحم وقال له: لا تفسد أمر أهل بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة، وفيما صنعت قوة لابن الزبير، ارجع إلى بيتك فإني سأجعل لك العهد، فرضي وصالح، ودخل عبد الملك وعمرو متحيز منه في نحو خمسمائة فارس يزولون معه حيث زال.

وقد تنازع أهل السير في كيفية قتل عبد الملك إياه: فمنهم من رأى أن عبد الملك قال لحاجبه: ويحك!! أتستطيع إذا دخل عمرو أن تُغْلِق الباب؟ قال: نعم، قال: فافعل، وكان عمرو رجلاً عظيم الكِبْر لا يرى أن لأحد عليه فضلاً، ولا يلتفت وراءه إذا مشى إلى أحد، فلما فتح الحاجب الباب دخل عمرو، فأغْلَقَ الحاجب الباب دون أصحابه، ومضى عمرو لا يلتفت، وهو يظن أن أصحابه قد دخلوا معه كما كانوا يدخلون، فعاتبه عبد الملك طويلاً، وقد كان وصي صاحب حرسه أبا الزعيزعة بأن يضرب عنقه، فكلمه عبد الملك وأغلظ له القول، فقال: يا عبد الملك. أتستطيل عليَّ كأنك ترى لك عليَّ فضلاًَ؟ إن شئت واللهّ نقضت العهد بيني وبينك، ثم نصبت لك الحرب فقال عبد الملك: قد شئت ذلك، فقال: وأنا قد فعلت، فقال عبد الملك: يا أبا الزعيزعة شأنَكَ، فالتفت عمرو إلى أصحابه فلم يرهم في الدار، فدنا من عبد الملك، فقال: ما يدنيك مني. قال: لتمسَّني رحمك، وكانت أم عمرو عمة عبد الملك كانت تحت الحكم بن أبي العاص بن وائل، فضربه أبو الزعيزعة فقتله، فقال له عبد الملك: ارْم برأسه إلى أصحابه، فلما رأوا رأسه تفرقوا، ثم خرج عبد الملك فصعد المنبر وذكر عمراً فوقع فيه، وذكر خلافه وَشِقَاقه، ونزل من المنبر وهو يقول:

أدْنَيْتُهُ مِنِّي لِتَسْـكُـنَ نـفْـرَةٌ

 

فَأصُولَ صَوْلة حازم مُسْتَمْكن

غضبا ومحماة لدينـي، إنـه

 

ليس المسيء سبيله كالمحسن

وقيل: إن عمراً خرج من منزله يريد عبد الملك، فعثر بالبساط، فقالت له امرأته نائلة بنت قريص بن وكيعِ بن مسعود: أنْشدتُكَ اللّه أن لا تأتيه، فقال: دعيني عنك فواللّه لو كنت نائماَ ما أيقظني، وخرج وهو مكفر بالدرع، فلما دخل على عبد الملك قام مَنْ هناك من بني أمية، فقال عبد الملك وقد أخذت الأبواب: إني كنت حلفت لئن ملكتك لأشدنك في جامعة، فأتى بجامعة فوضعها في عنقه وشَدَّهَا عليه، فأيقن عمرو أنه قاتله، فقال: أنْشُدُكَ اللّه يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك: يا أبا أمية، مالك جئت في الدرع أللقتال.! فأيقن عمرو بالشر فقال: أنشدك اللّه أن تخرجني إلى الناس في الجامعة، فقال له عبد الملك: وتماكرني أيضاً وأنا أمكر منك؟ تريد أن أخرجك إلى الناس فيمنعوك ويستننقذوك من يدي! وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز- وقد كان قدم من مصر في ذلك اليوم- بقتله إذا خرج! وقد قيل: أمر ابنه الوليد بذلك، فلما دنا منه عبد العزيز ناشده عمرو بالرحم فتركه، فلما رجع عبد الملك. من الصلاة ورآه حَيّاً قال لعبد العزيز: واللّه ما أرَدْتُ قتله إلا من أجلكم ألا لا يجوزها دونكم، ثم أضجعه، فقال له عمرو: أغدر يا ابن الزَّرْقَاء.

فذبحه، ووافى أخو عمرو يحيى بن سعيد إلى الباب بمن معه من رجاله ليكسره، فخرج إليه الوليد وموالي عبد الملك، فاقتتلوا، واختلف الوليد ويحيى؟ فضربه يحيى بالسيف على أليته فانصرع، وألقى رأس عمرو إلى الناس، فلما رأوه تفرقوا من بعد أن ألقي عليهم من أعلى الدار بدَر، الدنانير فاشتغلوا بها عن القتال، وقال عبد الملك: وأبيك لئن كانوا قَتَلُوا الوليد فقد أصابوا بثأرهم، وقد كان الوليد فقد حين ضرب، وذلك أن إبراهيم بن عدي احتمله فأدخله بيت القراطيس في المعمعة، وأتى عبد الملك بيحيي بن سعيد ة واجتمعت الكلمة على عبد الملك، وانقاد الناس إليه!.

وقد قيل في مقتله غير ما ذكرنا، وقد أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان وقد ذكرنا شعر أخته فيه- وكانت تحت الوليد بن عبد الملك- فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار المنصور؟ إذ هو الموضع المستحق له دون هذا الموضع لما تغلغل بنا إليه الكلام، وتسلسل بنا القول نحوه.

وأقام عبد الملك بدمشق بقية سنة سبعين، وقد كان مصعب بن الزبير خرج حين صفا له العراق بعد قتل المختار وأصحابه، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بباجميرا مما يلي الجزيرة، يريد الشام لحرب عبد الملك، فبلغه مسير خالد بن عبد اللهّ بن خالد بن اسيد من مكة إلى البصرة في ولده وعدًة من مواليه ناكثاً لبيعة عبد اللّه بن الزبير، فنزل بعض نواحي البصرة، وأن قوماً قد انضافوا إليه من ربيعة ومضر، ومنهم عبد اللّه بن الوليد، ومالك بن مسمع البكري، وصَفْوَان بن الأهتم التميمي، وصعصعة بن معاوية عم الأحنف، فكانت لهم بالبصرة حروب كانت آخرِاً على خالد بن عبد اللّه؟ فخرج هارباً بابنيه في البر حتى لحقوا بعبد لملك، وانصرف مصعب راجعاً إلى البصرة، وذلك في، سنة إحدى وسبعين، ثم عاد من العراق إلى باجميراً؟ ففي ذلك يقول الشاعر:

أبَيتَ يا مُصْعَبُ إلاَسَيْرَا

 

فِي كلِّ يَوْمٍ لَكَ باجميرا

ونزل عبد الملك بن مروان على قرقيسياء، فحاصر بها زُفَرَ بن الحارث العامري الكلابي، وكان يدعو إلى ابن الزبير، فنزل على إمامته وبايعه، وسار عبد الملك فنزل على نصيبين- وفيها يزيد والحبشي مواليا الحارث في ألفي فارس ممن بقي من أصحاب المختار يدعون إلى إمامة محمد بن الحنفية- فحاصرهم، فنزلوا على إمامته، وانضافوا إلى جملته! وخرج مصعب في أهل العراق- وذلك في سنة اثنتين وسبعين- يريد عبد الملك، وَدَلَفَ إليه عبد الملك فيَ عساكر مصر والجزيرة والشام ة فالتقوا بمسكن قرية من أرض العراق على شاطىء دجلة، وعلى مقدمة عبد الملك الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل الشقفي، وقيل: على ساقته، وقد أحْمَدَ أمْرَهً في قيامه بما أهل له، فكاتب عبد الملك رؤساء أهل العراق ممن هم بعسكر مصعب وغيرهم سراً وصار يرغَبهم ويرهِّبهم، فكان فيمن كتب إليه إبراهيم بن الأشتر النخعي، فلما أتاه كتابه مع الجاسوس اعتقله في رَحْله، وأتى مصعباً بالكتاب قبل أن يَفُضّه ويعلم ما فيه، فقال له مصعب: أقرأته؟ فقال: أعوذ باللّه أن أقرأه حتى يقرأه الأمير، وآتيَ يوم القيامة غادراً قد نقضت بيعته وخلعت طاعته، فلما تأمل مصعب ما فيه وجلى أماناً له وولاية لما شاء من العراق وإقطاعاً وغير ذلك، ثم قال إبراهيم لمصعب: هل أتاك أحد من أشراف العساكر بكتاب فقال مصعب: لا، فقال إبراهيم: واللّه لقد كاتبهم وما كاتبني حتى كاتب غيري ولا امتنعوا عن إيصالها إليك إلا للرضا به والغمر بك، فأطِعْنِي وابدأ بهم،. فأمرهم على السيف، أو استوثق منهم في الحديد، والقَ هذا الرجل، فأبى مصعب ذلك، وتحيَّزَ مَنْ كان في عسكره من ربيعة لقتله ابن زياد بن ظبيان البكرىِ، وكان من سادات ربيعة وزعماء بكر بن وائل، وسار إبراهيم بن الأشتر على مقدمة مصعب في متسرعة الخيل، فلقي خيل عبد الملك ومقدمته عليها أخوه محمد بن مروان، وبلغ عبد الملك ورود إبراهيم ومنازلته محمداً أخاه، فبعث إلى محمد: عزمت عليك أن لا تقاتل في هذا اليوم، وقد كَان مع عبد الملك منجم مقدم، وقد أشار على عبد الملك أن لا تحارب له خيل في ذلك اليوم، فإنه منحوس، وليكن حربه بعد ثلاث فإنه ينصر، فبعث إليه محمد: وأنا أعزم على نفسي لأقاتلن ولا ألتفت إلى زخاريف منحمك، والمحالات من الكذب، فقال عبد الملك للمنجم ولمن حضره: ألا ترون. ثم رفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم إن مُصْعَباً أصبح يدعو إلى أخيه وأصبحت أدعو لنفسي، اللهم فانصر خيرنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالتقى محمد بن مروان وابن الأشتر، ومحمد يرتجز ويقول:

مثلي على مثلك أولى بالسلب

 

محجل الرجلين أعرب الذنب

فاقتتلوا حتى غشيهم المساء، فقال عتاب بن وَرْقَاء التميمي، وكان مع ابن الأشتر: يا إبراهيم، إن الناس " قد جُهدُوا فمرهم بالانصراف، حسداً له لإِشرافه على الفتح، فقال له إبراهيم: وكيف ينصرفون وعدوهم بإزائهم؟! فقال عتاب: فمر الميمنة أن تنصرف، فأبى إبراهيم ذلك، فمضى إليهم عتاب فأمرهم بالإِنصراف، فلما زالوا عن مصافهم أكَبَّتْ ميسرة محمد عليهم، واختلط الرجال، وصمدت الفرسان لإِبراهيم، واشتبكت عليه الأسِنَّةُ، فبرى منها عدة رماح، وأسلمه من كان معه، فاقتلع من سرجه ودار به الرجال وازدحموا عليه، فقتل بعد أن أبلى ونكأ فيهم، وقد تنوزع في اخذ رأسه: فمنهم من زعم أن ثابت بن يزيد مولى الحصين بن نمير الكندي هو الذي أخذ رأسه، ومنهم من ذكر أن عبيد بن ميسرة مولى بني يشكر ثم من بني رفاعة هو الذي أخذ رأسه، وأتى عبد الملك بجسد إبراهيم فألقي بين يديه، فأخذه مولى الحصين بن نمير، فجمع عليه حطباً وأحرقه بالنار. وسار عبد الملك في صبيحة تلك الليلة من موضعه حتى نزل بدير الجاثليق من أرض السوداء، وأقبل عبيد اللهّ بن زياد بن ظبيان وعكرمة بن ربعي إلى رايات ربيعة فأضافوا إلى عسكر عبد الملك ودخلوا في طاعته، ثم تَصَافَّ القوم، فأفرد مصعب، وتخلى عنه من كان معه من مصر واليمن، وبقي في سبعة نفر منهم إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه التميمي، وابنه عيسى بن مصعب، فقال لابنه عيسى: يا بني اركب فرسك فانج بنفسك فالحق بمكة بعمك، فأخبره بما صنع بي أهل العراق، ودعني فإني مقتول، فقال له: لا واللّه، لا يتحدث نساء قريش إني فررت عنك، ولا أحدثهم عنك أبداً، فقال له مصعب: أما إذ أبيت فتقدم أمامي حتى أحتسبك، فتقدم عيسى فقاتل حتى قتل.

وسأل محمد بن مروان أخاه "عبد الملك أن يؤمن مصعباً، فاستشار عبد الملك من حضره، فقال له علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب: لا تؤمنه، وقال خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: بل أمنه، وارتفع الكلام بين علي وخالد حتى تسابا على مصافهما، فأمر عبد الملك أخاه محمداً أن يمضي إلى مصعب فيؤمنه ويعطيه عنه ما أراد، فمضى محمد فوقف قريباً من مصعب، ثم قال: يا مصعب، هلم إليَ، أنا ابن عمك محمد بن مروان، وقد أمَّنَكَ أمير المؤمنين على نفسك ومالك، وكل ما أحدثت، وأن تنزل أي البلاد شئت، ولو أراد بك غير ذلك لأنزله بك، فأنشدك اللّه في نفسك.

وأقبل رجل من أهل الشام إلى عيسى بن مصعب ليحتزرأسه، فعطف عليه مصعب والرجل غافل، فناداه أهل الشام: ويلك يا فلان الأسد قد أقبل نحوك، ولحقه مصعب فقدّه، وعُرْقِبَ فرسُ مصعب، وبقي راجلاً، فأقبل عليه عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان فاختلفا ضربتين، سبق مصعب بالضربة إلى رأسه وكان مصعب قد أثخن بالجراح، وضربه عبيد الله فقتله، واحتزرأسه، وأتى به عبد الملك، فسجد عبد الملك، وقبض عبيد اللّه بن زياد على قائم سيفه فاجتذبه من غمده حتى أتى على أكثره سلاً ليضرب عبد الملك في حال سجوده، ثم ندم واسترجع، فكان يقول بعد ذلك: ذهب الفَتْكُ من الناس، إذ هممت ولم أفعل فأكون قد قتلت عبد الملك ومصعباً ملكي العرب في ساعة واحدة، وتمثل عبيد اللّه عند مجيئه برأس مصعب:

نعاطي الملوك الحقَّ مَاقَسَطُوا لنا

 

وليس علينا قتلهـم بـمـحـرم

 وقال عبد الملك: متى تلد قريش مثل مصعب؟ وكان قتل مصعب يوم الثلاثاء، لثلاث خلت من جماعي الأولى سنة اثنتين وسبعين، وأمر عبد الملك بمصعب وابنه عيسى فدفنا بدَيْرِ الجاثليق، ودعا عبد الملك أهل العراق إلى بيعته فبايعوه.

وقد كان مسلم بن عمرو الباهلي من صنائع معاوية وابنه يزيد، و في ذلك اليوم في جيش مصعب، فأتى بعد عبد الملك وقد أخذ له منه الأمان، فقيل له: أنت ميت لا ترجو الحياة لما بك من الجراح، فما تصنع بالأمان؟ قال: ليسلم ما لي ويأمن ولدي بعدي، فلما وضع بين يدي عبد الملك قال: قَطَعَ اللّه يَدَ ضاربك كيف لم يجهز عليك. أكفرت صنائع آل حرب معك؟ فأمنه على ماله وولده ومات من ساعته.

وفي مصرع مصعب بدير الجاثليق من أرض العراق، يقول عبد اللهّ بن قيس الرقيات:

قد أوْرَث المصرين عاراً وذلة

 

فتيلٌ بدير الجاثلـيق مـقـيم

فما نصحت للّه بكر بن وائل،

 

ولا صبرت عند اللقاء تمـيم

لكنه ضاع الذمار، ولم يكـن

 

بها مُضَريٌ يوم ذاك كـريم

جزى اللَّه بصرياً بذاك ملامة

 

وكوفيهم، إن الملـيم مُـلِـيم

وفي ذلك يقول شاعر أهل الشام من أبيات:

لعمري لقد أضْجَرَتْ خيلُنَا

 

بأكناف دجلة للمصعـب

يهزون كل طويل القـنـا

 

ة مُعْتَدِلَ النصل والثعلب

إذا ما منافق أهل العـرا

 

ق عوتب يوماً فلم يُعْتِب

دلَفْنَا إليه لدى مـوقـف

 

قليل التفقُّـدِ لـلـغُـيَّبِ

وقد كان مصعب ذا حسن، وجمال، وهيئة، وكمال في الصورة، وفيه يقول ابن قيس الرقيات من كلمة:

إنما مصعب شهاب من اللَّه تجلَتْ عن وجهه الظلماء

وقد أتينا على أخبار مصعب، وسُكَيْنة بنت الحسين زوجه، وعائشة بنت طلحة وليلى من نسائه وغير ذلك من أخباره في الكتاب الأوسط.

أربعة رؤوس في مكان واحد

وحدث المنقري، قال: حدثني سويد بن سعيد، قال: حدثنا مروان ابن معاوية الفزاري، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مسلم النخعي، قال: رأيت رأس الحسين جيء به، فوضع في دار الِإمارة بالكوفة بين يدي عُبَيْد اللّه بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد اللهّ بن زياد قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار قد جيء به فوضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبيرقد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي عبد الملك.

وقد قيلِ في وجه آخر من الروايات، قال الراوي: فرأى عبد الملك مني اضطراباً، فسألني، فقلت: يا أمير المؤمنين، دخلْتُ هذه الدار فرأيْتُ رأس الحسين بين يدي ابن زياد في هذا الموضع، ثم دخلتها فرأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار فيه ة ثم دخلتها فرأيت رأس المختار بين يديْ مصعب ابن الزبير، وهذا رأس مصعب بين يديك، فوقاك الله يا أمير المؤمنين، قال: فوثب عبد الملك بن مروان، وأمر بهَدم الطاق الذي على المجلس، ذكر هذا الحديث عن الوليد بن خباب وغيره.

الناس يبايعون عبد الملك

وسار عبد الملك من دير الجاثليق حتى نزل النخيلة بظهر الكوفة، فخرج إليه أهل الكوفة فبايعوه، ووفى للناس بما كان وعدهم به في مكاتبته إياهم سراً، وخلع، وأجاز، وأقْطَعَ، ورتب الناس على قدر مراتبهم، وعمهم ترغيبه، وترهيبه، وولّى على البصرة خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسد وعلى الكوفة بشر بن مروان أخاه، وخلف معه جماعة من أهل الرأي والمشورة من أهل الشام منهم روح بن زِنْبَاع الجُذَامي، وبعث بالحجاج بن يوسف لحرب ابن الزبير بمكة، وسار في بقية أهل الشام إلى دارملكه.

روح بن زنباع وبشر بن مروان

وكان بشر بن مروان أديباً ظريفاً، يحب الشعر والسَّمَرَ والسماع والمعاقرة، وقد كان أخوه عبد الملك قال له: إن روحا عمك الذي لا ينبغي أن تقطع أمراً دونه، لصدقه وغفافه ومناصحته ومحبته لنا أهل البيت، فاحتشم بشر منه، وقال لندمائه: أخاف إن انبسطنا أن يكتب روح إلى أمير المؤمنين بذلك، وإني لأحِبُّ من الأنس والاجتماع ما يحبه مثلي، فقال له بعض ندمائه من أهل العراق بحسن مساعدته ولطيف حيلته: أنا أكفيك أمره حتى ينصرف عنك إلى أمير المؤمنين غير شاكٍ ولا لائم، فسُرَّ بشر، ووعده الجائزة وحسن المكافأة إن هو تأتّى له ما وعد به، وكان روح شديد الغيرة، وكانت له جارية إذا خرج من منزله إلى المسجد أو غيره ختم بابه حتى يعود بعد أن يقفله، فأخذ الفتى دواةً وأتى منزل روح عشياً مختفياً وخرج روح للصلاة، فتوصل الفتى إلى دخول الدهليز في حال خروج روح، وكَمَنَ تحت الدرجة، ولم يزل يحتال ليلته حتى توصل إلى بيت روح، فكتب على حائط في أقرب المواضع من مرقد روح:

يا روح مَنْ لـبـنـيات وأرمـلة

 

إذا نعاك لأهل المغرب النـاعـي

إن ابن مَرْوَانَ قد حانت مَـنِـيَّتـه

 

فاحتل لنفسك ياروح بْنَ زنـبـاع

ولا يغرنـك أبـكـار مـنـعـمة

 

واسمع هديت مقال الناصح الداعي

ورجع إلى مكانه بالدهليز، فبات فيه، فلما أصبح روح خرج إلى الصلاة فتبعه غلمانه، والفتى متنكر في جملتهم مختلط بهم، فلما عاد روح وافتتح باب حجرته تبين الكتابة وقرأها، فراعه ذلك وأنكره، وقال: ما هذا. فواللّه ما يدخل حجرتي إنسي سواي،- ولاحظ لي في. المقام بالعراق ثم نهض إلى بشر، فقال له: يا ابن أخي، أوْصِنِي بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين، قال: أو تريد الشخوص يا عم؟ قال: نعم، قال: ولم؟ هل آنكرت شيئا أو رآيت قبيحاً لا يسعك المقام عليه. قال: لا واللّه، بل جزاك اللّه عن نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكنْ أمر حَدَثَ، ولا بدَّ لي من الإِنصراف إلى أمير المؤمنين فأقسم عليه أن يخبره، فقال له: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت إلى أيام، قال: ومن أين علمت بذلك. فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل حجرتك غيري وغير جاريتي فلانة، وما كتب ذلك إلا الجن أو الملائكة، فقال له بشر: أقم فإني أرجو أن لا يكون لهذا حقيقة، فلم يَثْنِه شيء، وسار إلى الشام، فأقبل بشر على الشراب والطرب، فلما لقي روح عبد الملك أنكر أمره، وقال: ما إقدامك إلا لحادثة حدثت على بشر، أو لأمر كرهته، فأثنى على بشر، وحمد سيرته، وقال: لا بل لأمر لا يمكنني ذكره حتى تخلو، فقال: عبد الملك لجلسائه : انصرفوا، وخلا بروح، فأخبره بقصته وأنشده الأبيات، فضحك عبد الملك حتى استغرق، وقال: ثقلت على بشر وأصحابه حتى احتالوا لك بما رأيت، فلا تُرَعْ.

عبد اللّه بن الزبير ينعي أخاه مصعباً:

ولما اتصل قتل مصعب بأخيه عبد اللهّ أضرب عن ذكره حتى تحدث بذلك العبيد والإِماء في سكك المدينة ومكة، فصعد المنبر وجبينه يَرْشَح عرقاً، فقال: الحمد للّه ملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزِمن يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ألا إنه لن يذل اللّه من كان الحق معه، ولن يعز من كان أولياء الشيطان حزبه، إنه أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا، وهم قتل مصعب، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذلك إلى كريم الصبر وجميل العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن القتال له شهادة، ويجعل اللّه لنا وله في ذلك الخيرة، أما واللّه إنا لا نموت حتفاً كميتة آل أبي العاص وإنما نموت بعصاً بالرماح، وقتلاً تحت ظلال السيوف، ألا وإن الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يتبدل، فإن تُقْبل الدنيا عليَ لا آخذها أخذ الأشَرِ البطِرِ، وإن تُدْبِرْ. عني لا أبكي عليها بكاء الحزين المهين.

الحجاج في مكة

فأتى الحجاج الطائف، فأقام بها شهوراً، ثم زحف إلى مكة، فحاصر ابن الزبير بها، وكتب إلى عبد الملك: إني قد ظفرت بأبي كبيس، فلما ورد كتابه على عبد الملك بحصار ابن الزبير بمكة والظفر بأبي كبيس كَبَّر عبد الملك فكبر من معه في داره، واتصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبروا، واتصل ذلك بأهل الأسواق فكبروا ثم سألوا عن الخبر، فقيل لهم: إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة وظفر بأبي كبيس، فقالوا: لا نرضى حتى يحمله إلينا مكبلاً على رأسه برنس على جمل يمر بنا في الأسواق الترابي الملعون، وكان حصار الحجاج لابن الزبير بمكة هلال في القعدة سنة اثنتين وسبعين، وفيها قتل مصعب وما ذكرنا من قول أهل دمشق في ابن الزبير فذكره عمر بن شبة النميري عن ابن عاصم ومنعِ ابن الزبير الحجاج أن يطوف بالبيت، ووقف الْحَجاجُ بالناس بعرفة محرماًَ في درع ومعفر، وهو من أبناء إحدى وثلاثين سنة، ونَحَر ابن الزبير بمكة، ولم يخرج إلى عرفة بسبب الحجاج، فكانت مدة حصار الحجاج لابن الزبير بمكة خمسين ليلة.

ابن الزبير وأمه أسماء بنت أي بكر

ودخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللهّ عنه وقد بلغت من السِّنِّ مائة سنة لم تَقَعْ لها سن، ولا ابيضَّ لها شعر، ولم ينكر لها عقل، على حسب ما قدمنا من خبرها في هذا الكتاب، فقال: يا أمه، كيف تجدينك ؟قالت: إني لشاكية يا بني، فقال لها: إن في الموت راحة، قالت: لعلك تمنَاه لي، وما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قُتِلْتَ فأحتسبك، وإما ظفِرْتَ فقرَّتْ عيني بك، وأوصى عبد اللّه بما يحتاج من أمره وأمر نساءه إذا سمعن الواعية عليه أن يضممن أمه أسماء إليهن، وكان عروة بن الزبير على رأي عمه عبد الملك بن مروان، وكانت كتُبُ عبد الملك بن مروان إلى الحجاج متصلة يأمره بتعاهد عروة وأن لا يسوءه في نفسه وماله، فخرج عروة إلى الحجاج، ورجع إلى أخيه فقال له: هذا خالد بن عبد اللهّ بن خالد بن أسيد وعمرو بن عثمان بن عفان يعطيانك أمان عبد الملك على ما أحْدَثْتَ أنت ومن معك، وأن تنزل أي البلاد شئت، لك بذلك عهد اللّه وميثاقه، وغير ذلك من الكلام، فأبى عبد اللّه قبول ذلك، وقالت له أمه أسماء: أيْ بنيَّ، لا تقبل خُطّةً تخاف على نفسك منها مخافة القتل، مت كريماً، وإياك أن تؤسر، أو تعطي بيديك، فقال: يا أمه، إني أخاف أن يمثل بي بعد القتل، فقالت: يا بني، وهل تتألم الشاة من ألم السَّلْخ بعد الذبح؟ ودخلوا على ابن الزبير في المسجد وقت الصلاة، وقد التجأ إلى البيتوهم ينادون: يا ابن ذات النَطَاقَيْنِ، فقال ابن الزبير متمثلاً:

وغيَّرَهَا الواشون إني أحبـهـا

 

وتلك شَكَاة ظاهر عنك عارها

ونظر إلى طائفة منهم قد أقبلوا نحوه بالسيوف، فقال لأصحابه: من هؤلاء؟ قالوا: أهل مصر، قتلة عثمان أمير المؤمنين ورَبٌ الكعبة، فحمل عليهم، فضرب رجلاً منهم به أدمة فقدَه، وقال: صبراً يا ابن حام، وتكاثر عليه الرجال من أهل الشام ومصر، فلم يزل يضرب بهم حتى أخرجهم عن المسجد، ورجع إلى. البيت وهو يقول:

لست بمبتـاع الـحـياة بـسـبة

 

ولا أبتغي من رَهْبَة الموت سلما

فاستلم الحجر، ثم تكاثروا عليه، فحمل عليهم، وهو يقول:

قد سَنَّ أصحابك ضرب الأعناق

 

وقامَتِ الحرب بنا على سـاق

فأتاه حجر فصك جبينه فأدماه وأوْضَحَه، فقال:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

 

ولكن على أقدامنا اتَقْطُر الدما

فكشفهم عن المسجد، ورجع على من بقي من أصحابه عند البيت، فقال لهم: ألقوا أغماد السيوف، وليصونِ كل رجل منكم سيفه كما يصون وجهه، لا ينكسر سيف أحدكم فيقعد، ولا يسأل رجل منكم: أين عبد اللّه، من يسأل عني فإنني في الرعيل الأول، ثم أنشأ يقول:

يا رب إن جنود الشام قد كثـروا

 

وهَتَكُوا من حجاب البيت أستـارا

يارب إني ضعيف الركن مضْطَهَد

 

فابعث إليَّ جنوداً منك أنصـارا

وتكاثر أهل الشام عليه ألوفا من كل باب، فحمل عليهم، فشَدِخَ بالحجارة، فانصرع، وأكب عليه موليان له وأحدهما يقول:

العبد يحمي ويحتمي

حتى قتلوا جميعاً، وتفرق من كان معه من أصحابه، وأمر به الحجاج فصلب بمكة، وكان مقتله يوم الثلاثاء، لأربع عشرة ليلة خلت من جمادي الأولي، سنة ثلاث وسبعين.

وكلمت أسماء أمه الحجاج في دفنه، فأبى عليها، فقالت للحجاج: أشهد إني لسمعْتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج من ثقيف كذاب ومُبِير فأما الكذاب فهو المختار، وأما المبير فما أظنك إلا هو".

وسنذكر لمعاً من أخبار الحجاج فيما يرد من هذا الكتاب، وإن كنا قد أتينا على مبسوطها فيما تقدم من كتبنا.

ولاية الحجاج الحجاز

وأقام الحجاج والياً على مكة والمدينة والحجاز واليمن واليمامة ثلاث سنين، ثم جمع له العراق بعد موت بشر بن مروان بالبصرة.

جابر بن عبد اللّه

ومات جابر بن عبد الله الأنصاري في أيام عبد الملك بالمدينة، وذلك في سنة ثمان وسبعين، وقد ذهب بصره، وهو ابن نيف وتسعين سنة. وقد كان قدم إلى معاوية بدمشق، فلم يأذن له أياماً، فلما أذن له قال: يا معاوية، أما سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يقول:" من حجب ذا فاقة وحاجة حجبه الله يوم القيامة، يوم فاقته وحاجته فغضب معاوية، وقال له: سمعته يقول: إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تَردُوا على الحوِض أفلا صبرت؟ قال: ذكرتني ما نسيت، وخرج فاستوى على راحلته. ومضى فوجه إليه معاوية بستمائة دينار، فردها وكتب إليه:

إني لأخذن القنوع عـلـى الـغـنـى

 

إذا اجتمعا والماء بالبارد الـمـحـض

وأقضـي عـلـى الأمـر نـابـنـي

 

وفي الناس من يُقْضَى عليه ولا يَقْضِي

وألبس أثـواب الـحـياء، وقـد أرى

 

مكان الغنى أن لا أهين به عرضـي

وقال لرسوله: قل له وار يا ابن آكلة الأكباد لا وجدتَ في صحيفتك حسنة أنا سبيها أبداً.

محمد بن الحنفية

ومات محمد بن علي بن أبي طالب، ابن الحنفية في سنة إحدى وثمانين في أيامه بالمدينة، ودفن بالبقيع، وصلى عليه أبَانُ بن عثمان بن عفان بإذن ابنه أبي هاشم، وكان محمد يكنى بأبي القاسم، وقبض وهو ابن خمس وستين سنة وقيل: إنه خرج إلى الطائف هارباً من ابن الزبير فمات بها، وقيل: إنه مات ببلاد أيلة، وقد تنوزع في موضع قبره، وقد قدمنا قول الكيسانية ومن قال منهم إنه بجبل رَضْوَى، وكان له من الولد: الحسن، وأبو هاشم، وعبد اللهّ، وجعفر الأكبر، وحمزة، وعلي؟ لأم ولد وجعفرا الأصغر وعَوْن، أمهما أم جعفر والقاسم، وإبراهيم.

حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا سهل بن عبيد بن عمرو الخابوري قال: كتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: إن الحجاج قد قدم بلدنا وقد خِفْتُه فأحبُّ أن لا تجعل له علي سلطاناً بيدٍ ولا لسانٍ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج: إن محمد بن علي كتب إلي يستعفيني منك، وقد أخرجْتُ يدك عنه، فلم أجعل لك عليه سلطاناً بيدٍ ولا لسانٍ، فلا تتعرض له، فلقيه في الطواف فعض على شفته، ثم قال: لم يأذن لي فيك أمير المؤمنين، فقال: له محمد ويحك أوَ ما علمت أن للّه تبارك وتعالى في كل يوم وليلة ثلاثمائة وستين لحظة، أو قال نظرة، لعله أن ينظر إليَّ منها بنظرة، أو قال يلحظني بلحظة، فيرحمني فلا يجعل لك عليَّ سلطاناً بيد ولا لسان، قال: فكتب. بها الحجاج إلى عبد الملك، فكتب بها عبد الملك إلى ملك الروم وكان قد توعدَه، فكتب إليه ملك الروم، ليست هذه من سجيتك ولا من سجية آبائك، ما قالها إلا نبي، أو رجل من أهل بيت نبي.

ملك الروم والشعبي

وذكر الشعبي قال: أنفذني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة، حتى استحببت خروجي، فلما أردت الإنصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت. قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إلي رُقْعة، وقيل لي: إذا أديت الرسائل عند وصولك إلى صاحبك أوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك، ونسيت الرقعة فلما صرت في بعض الدار إذ بدأت بالخروج تذكرتها فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال لي: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك. قلت: نعم، قال لي من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددْتُ، فلما مثلت بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة. قلت: لا، قال: اقرأها، فلما قرأتها فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف مَلّكُوا غيره، فقلت له: واللّه لو علمتَ ما فيها ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك، قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك، قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال.

وصف معاوية عبد الملك

وذكر عند معاوية عبد الملك فقال: هو آخذ بثلاث، وتارك لثلاث: آخذ بقلوب الناس إذ حَدَّث، ويحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر الأمرين إذا خولف، تارك للمُمَارَاة، تارك للغيبة، وتارك لما يعتفر منه. وقال لعبد الملك بعض جلسائه يوماً: أريد الخلوة بك، فلما خلا به قال له عبد الملك: بشرط ثلاث خصال: لا تُطْرِ نفسي عندك فأنا أعلم بها منك، ولا تغتب عندي أحداً فلست أسمع منك، ولا تكذبني فلا رأي لمكذب، قال: أتأذن لي في الإنصراف. قال: إذا شئت.

عبد الملك وعامل له قبل هدية

وذكر الهيثم وغيره من الأخباريين أن عبد الملك بلغه عن عامل من عماله أنه قبل الهدايا، فأشخصه إليه، فلما دخل عليه قال له، أقبلت هدية منذ ولّيت. قال له: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال، قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ ولّيتك. قال: نعم، قال: إن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم، ولئن كنت أنلت مُهْدِيها من غير مالك أو استكفيته ما لم يكن مثله مستكفاه إنك لخائن جائر، وما أتيت أمرٌ لا تخلو فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع، وأمر بصرفه من عمله.

عبد الملك وعمرو بن بلال يصلح بينه وبين زوجته

وحدث المنقري عن الضبي قال: قال الوليد بن إسحاق: قال ابن عباس: كانت عاتكة بنت يزيد بن معاوية- وأمها أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر- تحت عبد الملك بن مروان، فغضبت عليه، فطلب رضاها بكل شيء، فأبَتْ عليه وكانت أحَبَّ الناس إليه، فشكا ذلك إلى خاصته، فقال له عمرو بن بلال رجل من بني أسد كان قد تزوج بنت زنباع الجذامي: مالي عليك إن أرضيتها؟ قال: حكمك، فخرج وجلس ببابها يبكي فقالت له خاصتها: ما لك تبكي أبا حفص؟ قال: فزعت إلى ابنة عمي، فاستأذنوا لي عليها، فأذنت له وبينهما ستر، فقال: عرفْتِ حالي مع أمراء المؤمنين معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، ولم يكن لي غير ابنين فَعَدَا أحدهما على الاخر فقتله، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل المعتدي، قلت له: أنا ولي الدم وقد عفوت، فأبى عَلًي وقال: ما أحب أن أعَوِّد رعيتي هذا، وهو قاتله بالغداة، فأنشدك اللّه إلا ما طلبته منه، فقالت: لا أكلمه، قال: ما أظنك تكسبين شيئاً هو أفضل من إحياء نفس، ولم يزل بها خواصها وخدمها وحاشيتها حتى قالت: علي بثيابي، فلبست، وكان بينها وبين عبد الملك باب، وكانت قد ردمته، فأمرت بفتحه، ثم دخلت فأقبل الخَصِيُ يشتد فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة، قال: ويلك!! ورأيتها. قال: نعم، إذ طلعت وعبد الملك على سريره، فسلمت، فسكت، فقالت: أما واللّه لولا مكان عمرو بن بلال ما أتيتك، الله أنْ عَدَا أحد أبنيه على الاخر فقتله وهو ولي الدم وقد عفا عنه أعزمت لتقتلَنَّه، قال: إي واللّه وهو راغم، فأخذت بيده فأعرض عنها، فأخذت برجله فقبلتها، فقال: هو لك، وتراضَيا بعد أن نكحها ثلاثاً وراح عبد الملك فجلس للخاصة، فدخل عمرو بن بلال، فقال له: يا أبا حفص، ألطفت الحيلة في القيادة، ولك الحكم، فقال: يا أمير المؤمنين، ألف دينار ومزرعة بما فيها من الآلات والرقيق، قال: هي لك، قال: وفرائض لولدي وأهل بيتي، قال: وذلك كله، وبلغ عاتكة. الخبر، فقالت: ويلي على القَوَّاد، إنما خدعني.

الحجاج يصف الفتنة

وكتب عبد الملك إلى الحجاج أن صِفْ لي الفتنَةَ، فكتب إليه: إن الفتنة تشب بالنجوى، وتحصد بالشكوى، وتنتج بالخطب، فكتب إليه: إنك قد أصبت وأحسنت الصفة، فإن أردت أن يستقيم لك مَنْ قبلك فخذهم بالجماعة، وأعطهم عطاء الفرقة، وألصق بهم الحاجة.

وحدثنا المنقري، قال: حدثنا أبو الوليد الصباح بن الوليد قال: حدثنا أبو رياش ضب بن الفاقة، عن مقلس بن سابق الدمشقي ثم السكسكي، أن عبد الملك لما بلغه خلع ابن الأشعث صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن أهل العراق استعجلوا قدري قبل إنقضاء أجلي، اللهم لا تسلطنا على مَنْ هو خير منا، ولا تسلط علينا مَنْ نحن خير منه، اللهم سلط سيف أهل الشام على أهل العراق حتى يبلغ رضاك، فإذا بلغه فلا تجاوز به سخطك.

كتاب من عبد الملك إلى الحجاج لم يفهمه

وكتب عبد الملك إلى الحجاج: أنت عندي سالم، فلم يعرف ما أراد بذلك، فكتب إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن ذلك، وبعث الكتاب مع رسول فلما ورد على قتيبة وناوله الكتاب ضرط الرسول، فخجل واستحيا، فقرأه قتيبة وأراد أن يقول له أقعد فقال: اضرط، قال: قد فعلت، فاستحيا قتيبة وقال: ما أردت إلا أن أقول لك اقعد فغلطت، فقال: قد غلطت أنا وغلطت أنت، قال قتيبة: ولا سواء، أغلط أنا من فمي وتغلط أنت من استك، أعْلِم الأمير أن سالماً كان عبداً لرجل، وكان عنده أثيراً، وكان يُسْعَى به إليه كثيراً، فقال:

يُدِيرُونني عن سالم وأديرهـم

 

وجلدة بين العَيْنِ والأنف سالم

فأراد عبد الملك أنك عندي بمنزلة سالم، فلما أتى الحجاج بالرسالة كتب له عهداً على خراسان.

وقد روي نحو هذا الخبر عن رجل كان في مجلس خالد بن عبد الله القَسْرِي فضرط، فلما حضر الغداء قام ذلك الرجل، فقال له خالد: اقعد، فأبى، فقال له: أقسمت عليك لتضرطن، قال: قد ضرطت، فخجل خالد، واعتذر إليه، وأمر له بمال.

وأهدي إلى عبد الملك أترسه مكللة بالمر والياقوت، فأعجبته، وعنده جماعة من خاصته وأهل خلوته، فقال لرجل من جلسائه اسمه خالد: اغمز منها ترساً، وأراد أن يمتحن صلابته، فقام فغمزه فضرط، فاستضحك عبد الملك، فضحك جلساؤه-، فقال: كم دية الضرطة. فقال بعضهم: أربعمائة درهم وقطيفة، فأمَرَ له بذلك، فأنشأ رجل من القوم:

أيَضْرُط خالد من غَمْزِتـرس

 

ويحبوه الأمير بهـا بـدورا

فَيَا لَكِ ضَرْطة جلبت غنـاء

 

وَيَا لَكِ ضَرْطة أغْنَت فقيرا

يَودُ الناس لو ضرطوا فنالـوا

 

من المال الذي أعْطِي عشيرا

ولو نَعْلَم بأنَّ الضَّرْط يغنـي

 

ضَرَطنا أصلحَ اللَّهُ الأمـيرا

قال عبد الملك: أعطوه أربعة آلاف درهم، ولا حاجة لنا في ضراطك.

عبد الملك يحج

وحدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي والطُّوسي وغيرهما في كتاب الأخبار المعروف بالموقعيات، عن الزبير بن بكار، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن يزيد عن عُتْبَة بن أبي لهب، قال: حج عبد الملك فيَ بعض أعوامه، فأمر للناس بالعطاء، فخرجت بدرة مكتوب عليها من الصدقة فأبى أهل المدينة من قبولها وقالوا، إنما كان عطاؤنا من الفيء، فقال عبد الملك وهو على المنبر: يا معشر قريش، مَثَلُنَا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة تحت صَفَاة، فلما دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل ديناراً فألقته إليهما.، فقالا: إن هذا لمن كنز، فأقاما عليها ثلاثة أيام كل يوم تخرج إليهما ديناراً، فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه. فنهاه أخوه، وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه، وأخذ فأساً معه ورَصَدَ الحية حتى خرجت، فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها، فثارت الحية فقتلته، ورجعت إلى جحرها، فقام أخوه فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد خرجت الحية معصوباً رأسها ليس معها شيء، فقال لها: ما هذه، إني واللّه ما رضيت ما أصابك، ولقد نهيت أخي عن ذلك، فهل لك أن نجعل اللّه بيننا أن لا تضريني ولا أضرك، وترجعين إلى ما كنت عليه. قالت الحية: لا، قال: ولم ذلك. قالت: إني لأعلم أن نَفْسَكَ لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبداً وأنا أذكر هذه الشجَّة، وأنشدهم شعر النابغة:

فقالت: أرَى قَبْراً تراه مقابلـي

 

وَضَرْبَةَ فَأْسٍ فوق رأسي فاقره

فيا معشر قريش، وليكم عمر بن الخطاب فكان فَظّاً غليظَاَ مُضَيِّقاً عليكم، فسمعتم له وأطعتم، ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليناً كريماً فعدوتم عليه فقتلتموه، وبعثنا عليكم مسلماً يوم الحرة فقتلتموه، فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تُحِبُّوننا أبداً وأنتم. تْذكرون يوم الحرة، ونحن لا نحبكم أبداً ونحن نذكر مقتل عثمان. وحدث المدائني وابن دأب أن روح بن زنباع جليس عبد الملك رأى منه إعراضاً وجفوة، فقال للوليد بن عبد الملك: أما ترى ما أنا فيه من أمير المؤمنين بإعراضه عني بوجهه حتى لقد فَغَرَتِ السباع بأفواهها نحوي وأهوت بمخالبها إلى وجهي. فقال له الوليد: احْتَلْ له في حديث تضحكهَ به كما احتال مرزبان نديم سابور بن سابور ملك فارس، قال روح: وما كان من خبره جمع الملك. قال الوليد: كان مرزبان هذا من سمَار سابور فظهرت له من سابور جَفْوة، فلما علم ذلك تعلّم نُبَاح الكلاب، وعُوَاء الذئاب، ونهيق الحمير، وزقَاء الديوك، وشَحِيجَ البغال، وصَهِيل الخيل، ومثل هذا، ثم احتال حتى توصَّلَ إلى موضعِ يقرب من مجلس خلوة الملك وفراشه، وأخفى أثره، فلما خلا الملك نبَحَ نُبَاحَ الكلاب فلم يشك الملك أنه كلب، فقال الملك: انظروا ما هذا. فعوى عُواء الذئاب، فنزل الملك عن سريره، فنهق نهيق الحمير، فمضى الملك هارباً، ومضى الغلمان يتبعون الأثر والصوت، فكلما دَنَوْا منه ترك ذلك الصوت وأحدث صوتاً آخر من أصوات البهائم، فأحْجَمُوا عنه، ثم اجتمعوا فاقتحموا عليه فأخرجوه، فلما نظروا إليه قالوا للملك: هذا مرزبان المضحك، فضحك الملك ضحكاً شديداً، وقال له: ويلك!! ما حَملكَ على هذا. قال: إن اللّه مسخني كلباً وذئباً وحماراً وكل خلق لما غضبت علي، فأمر الملك بالخلع عليه، وردَه إلى مرتبته التي كان فيها، وتجدد للملك به سرور، فقال روح للوليد: إذا اطمأن المجلس بأمير المؤمنين فاسألني عن عبد الله بن عمر هل كان يمزح أو يسمع مُزَاحاً؟ قال الوليد أفعل، وكان عمر صاحب سلامة لا يمزح ولا يعرف شيئاً عن المُزَاح فتقدم الوليد وسبقه بالدخول، فتبعه روح، فلما اطمأنَّ بهما مجلس عبد الملك قال الوليد لروح، يا أبا زرعة، هل كان ابن عمر يمزح أو يسمع المُزَاح؟ قال روح: حدثني ابن أبي عتيق أن امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن المخزومية هَجَته فقالت:

ذَهَبَ الإلهُ بما تعيش بـه

 

وقُمِرْتَ عَيْشَك أيَّمَا قَمْرِ

انفَقْتَ مَالَكَ غَيرَمُحْتَشِـم

 

في كل زانية وفي الخمر

وكان ابن أبي عتيق صاحب غزل وفكاهة، فأخذ هذين البيتين في رقعة وخرج بهذا الشعر فإذا هو بابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، انظر في هذه الرقعة وأشِرْ علي برأيك فيها، فلما قرأها عبد اللّه استرجع، فقال له: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر، قال: أرى أن تعفو وتصفح، قال: والله يا أبا عبد الرحمن لئن لقيته بناحية لإنيكَنَهُ نَيْكا جيداً، فأخذت ابن عمر أفكل ورعدة واربدّ لونه، وقال: ما لك غضب الله عليك، قال: ما هو إلا ما قلت لك، وافترقا، فلما كان بعد أيام لقيه فأعرض عنه ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني لقيت صاحب البيتين ونكته، فصُعِقَ عبد اللّه بن عمر فلما رأى ما حَلَّ به دَنَا منه وقال له في أذنه: إنها امرأتي فقام ابن عمر فقبل ما بين عينيه وضحك،. وقال: أحسنت فَزِدْها، فضحك عبد الملك حتى فحص برجله، وقال له: قاتلك اللّه يا روح، ما أطْيَبَ حديثك! وَمَدَّ يده إليه، فقام إليه روح فأكًبّ عليه وقَبًلَ أطرافه، وقال: يا أمير المؤمنين، ألذنْب فأعتذر، أم لملالة فأصطبر وأرجو عاقبتها. قال: لا والله ما ذاك لشيء تكًرهه، ثم عاد إلى أحسن حالاته.

عبد الملك الهمذاني وسليمان بن المنصور

وقد حكي مثل هذا عن عبد الملك بن مهلهل الهمذاني، وكان سميراً لسليمان بن منصور، وكان سليمان قد جَفَاه، فأتاه يوماً في قائم الظّهيرة واحتدام الهجيرة فاستأذن، فقال له الحاجب: ليس هذا بوقتِ إذنٍ على الأمير، فقال له: أعلمه بمكاني، فدخل فاستأذن له، فقال له سليمان: - مره يسلم قائماً ويخفف، فخرج الحاجب فأذنَ له وأمره بالتخفيف، فدخل فسلّم قائماً ثم قال: أصلح اللّه الأمير، إني انصرفْتُ بالأمسِ إلى نحو منزلي وقد أمسيت، فبينا أنا في طريقي إذ أذَّنَ مؤذن، فَدَنوْت، ثم صعدت إلى مسجد مغلق فصعدت ثم صعدت ثم صعدت، قال سليمان: فَبَلَغْتَ السماء فكان ماذا. قال: فتقدم إنسان إما كُرْدِي أو طمطماني فأم القوم بكلام ما أفهمه ولُغَة ما أعرفها، فقال: وَيْل لكل زممة زماً مالاً وعده قال: يريد وَيْلِ لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وَعَدده، فإذا خلفه سكران ما يعقل سكراَ، فلما سمع قراءته ضرب بيديه ورجليه وجعل يقول: أير عبكى درليلكا في حر أم قارئك ومصليك، فضحك سليمان حتى تمرغ على فراشه، وقال: ادْنُ مني يا أبا محمد، فأنت أطيب أمة محمد، ثم دعا بخلعة، وقال الزم الباب وَاغْدُ في كل يوم، وعاد إلى أحسن حالاته عنده.