وبويع الوليد بن عبد الملك بدمشق في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وتوفي الوليد بدمشق للنصف من جمادي الآخرة من سنة ست وتسعين؟ فكانت ولايته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين، وهلك وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وكان يكنى بأبي العباس.
كان الوليد جباراً عنيداً، ظَلُوماً ضلوماً غشوماً، وخلف من الولد أربعة عشر ذكراً، منهم يزيد، وعمرو، وبشر العالم، والعباس، وكان يدعى فارسِ بني مروان لشهامته، فعدل الوليد بالأمر عن ولده بعده أتباعاً لوصية عبد الملك على حسب ما رتبها، وكان نقش خاتمه يا وليد إنك ميت فكان كلما هَم أن يجعل الأمر لولده قلب الفص وقرأ إنك ميت فيقول: لأها الله، لا خالفت ما أمرني به أبي، إني لميت.
وفي سنة سبع وثمانين ابتدأ الوليد ببناء المسجد الجامع بدمشق وبناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فأنفق عليهما الأموال الجليلة، وكان المتولي للنفقة على ذلك عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه تعالى.
وحكي عثمان بن مرة الخولاني قال: لما ابتدأ الوليد ببناء مسجد دمشق وجد في حائط المسجد لوحاً من حجارة فيه كتابة باليونانية، فعرض على جماعة من أهل الكتاب، فلم يقدروا على قراءته، فوجهَ به إلى وهب بن منبِه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داود عليهما السلام، فقرأه فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، إذا زَلَّتَ بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك وانصرف عنك الحبيب، وَوَدّعَكَ القريب، تم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد، فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكَظْم، ويحال بينك وبين العمل، وكتب زَمَنَ سليمان بن داود، فأمر الوليد أن يكَتب بالذهب على اللازورد في حائط المسجد، ربُّنَا اللّه، لا نعبد إلا اللّه، أمر ببناء هذا المسجد، وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبدُ اللّه الوليدُ أميرُ المؤمنين في ذي الحجة سنة سبع وثمانين، وهذا الكلام مكتوب بالذهب في مسجد دمشق إلى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
ووفد الحجاج بن يوسف على الوليد، فوجده في بعض نُزَهه، فاستقبله، فلما رآه ترجلَ له، وقَبّلَ يده، وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية، فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنك، فعزم عليه الوليد حتى ركب، ودخل الوليد داره، وتفضل في غلالة، ثم أذن للحجاج فدخل عليه في حالة تلك وأطال الجلوس عنده، فبينما هو يحادثه إذ جاءت جارية فسارَّتِ الوليد ومضت، ثم عادت فسارته ثم انصرفت، فقال الوليد للحجاج: أتدري ما قالت هذه يا أبا محمد. قال: لا واللّه، قال: بعثتْهَا إليَ ابنةُ عمي أمُّ البنين بنتُ عبد العزيز تقول: ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلَّح في السلاح وأنت في غلالة، فأرسلتُ إليها إنه الحجاج، فراعها ذلك، وقالت: واللّه ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك، ولا مكايدة عدوك، ولا تُطِعْهن في غير أنفسهن، ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن، وإياك ومشاورتهن في الأمور فإن رأيهن إلى وهن، وعزمَهُنّ إلى وهنٍ، وأكفف عليهن من أبصارهن بُحجبك، ولا تملكَ الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تطل الجلوس معهن والخلوة بهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، وأبْيَنُ لفضلك، ثم نهض الحجاج فخرج.
ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج، فقالت: يا أمير المؤمنين أحِبُّ أن تأمره غداً بالتسليم عليَّ، فقال: أفعل، فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد، سِرْ إلى أم البنين فسلم عليها، فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين، فقال: لا بد من ذلك، فمضى الحجاج إليها، فحجبته طويلا، ثم أذنت له فأقرته قائماً، ولم تأذن له في الجلوس، ثم قالت: إيه يا حجاج، أنت الممتَنُّ على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث، أما واللهّ لولا أن اللهّ جعلك أهْوَنَ خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، ولا بقتل ابن ذات النِّطَاقين، وأول مولود ولد في الإسلام، وأما ابن الأشعث فقد واللهّ والى عليك الهزائم، حتى لُذْتَ بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام وأنت في أضيق من القرن، فأظَلَّتْك رماحهم، وأنجاك كفاحهم وطالما نقض نساء أمير المؤمنين المسك من غدائرهن وبعنَه في الأسواق في أرزاق البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذل من النَّقَدِ، وأما ما أشرت به على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسائه فإن كنَّ ينفرجن عن مثل ما انفرجَتْ به عنك امُّك فما أحَقَّه بالأخذ عنك والقبول منك، وإن كن ينفرجن عن مثل أمير المؤمنين فإنه غير قابل منك ولا مُصْغٍ إلى نصيحتك، قاتل اللّه الشاعر وقد نظر إليك وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك حيث يقول:
أسَدٌ عليَّ وفي الحروب نـعـامة |
|
فزعاء تفزع من صفير الصافر |
هلا بَرَزْتَ إلى غزالة في الوغى |
|
بل كَان قلبك في جناحَيْ طـائر |
ثم قالت لجواريها أخْرِجْنَهُ عني، فدخل إلى الوليد في فَوْره، فقال: له: يا أبا محمد ما كنت فيه. فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما سكتَتْ حتى كان بطن الأرض أحَبَ إلي من ظاهرها، فضحك الوليد حتى فحص برجله، ثم قال: يا أبا محمد، إنها بنت عبد العزيز.
ولأم البنين هذه أخبار كثيرة في الجود وغيره، وقد أتينا على ذكرها في غير هذا الكتاب.
وفي سنة خمس وتسعين قبض علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ملك الوليد، ودفن بالمدينة في بقيع الغَرْقَدِ مع عمه الحسن بن علي، وهو ابن سبع وخمسين سنة، ويقال: إنه قبض سنة أربع وتسعين، وكل عقب الحسين من علي بن الحسين هذا وهو السجاد على ما ذكرنا، وذو الثفنات، وزين العابدين.
وذكر المدائني قال: دخل الوليد على أبيه عبد الملك عند وفاته، فجعل يبكي عليه وقال: كيف أصبح أمير المؤمنين. فقال عبد الملك:
ومشتغلٍ عنا يريد بنا الردى |
|
ومستعبرات والعيون سواجم |
أشار بالمصراع الأول إلى الوليد، ثم حَوَّل وجهه عنه، وأشار بالمصراع الثاني إلى نسائه، وهن المستعبرات.
وذكر العتبي وغيره من الأخباريين أن عبد الملك لما سأله الوليد عن خبره وهو يجود بنفسه أنشأ يقول:
كما عائد رجلاًوليس يعوده |
|
إلا لينظر هل يراه يموت |
وقيل: إن عبد الملك نظر إلى الوليد وهو يبكي عليه عند رأسه فقال: يا هذا، أحنين الحمامة؟ إذا أنا متُّ فشمر واتزر، والبس جلد نمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه، ثم أقبل عبد الملك يذم الدنيا فقال: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وإن كنا منك لفي غرور، ثم أقبل على جميع ولده فقال: أوصيكم بتقوى اللّه فإنها عِصْمة باقية، وجُنَة واقية، فالتقوى خير زاد، وأفضل في المعاد، وهي أحصن كهف، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخْذِ بجميل الأمور، وإياكم والبغي والتحاسد، فبهما هلك الملوك الماضون، وذوو العز المكين، يا بني، أخوكم مسلمة نابكم الذي تفترّون عنه، ومَجِنُكم الذي تستجنون به، اصدُروا عن رأيه، وأكرموا الحجاج، فإنه الذي وطّألكمِ هذا الأمر، وكونوا أولاداً أبراراً، وفي الحروب أحراراً، وللمعروف مناراَ، وعليكم السلام. وسأله بعض شيوخ بني أمية- وقد فرغ من وصية أولاده هذه- قال: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: "ولقد جئتمونا فُرَاس كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم" إلى قوله "وما كنتم تزعمون" فكان هذا أخر كلام سمع منه.
فلما قضى سَجَّاه الوليد، ثم صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: لم أر مثلها مصيبة، ولا مثلها نعمة، فقدت الخليفة، وتقلدت الخلافة، فإنا للّه وإنا إليه راجعون على المصيبة، والحمد للّه رب العالمين على النعمة، ثم دعا الناس إلى بيعته فبايعوا، ولم يتخلّف عليه أحد.
ومات في أيام الوليد عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، وذلك في سنة سبع وثمانين، وكان جواداً كريماً، وذكر أن سائلاً وقف عليه فقال له: تصدق مما رزقك الله ة فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه، فقال: وأين أنا من عبيد اللّه، قال له: وأين أنت منه في الحسب أم في كثرة المال. قال: فيهما جميعاً، قال: إن الحسب في الرجل مروءته وحسن فعله، فإذا فعلت ذلك كنت حسيباً، فأعطاه الذي درهم واعتذر إليه، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفاً أيضاً، فقال: لئن كنت عبيد اللّه إنك لأسمح أهل دهرك، وما إخالك إلا من رَهْطٍ فيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسألك بالله أنت هو؟ قال: نعم، قال: واللّه ما أخطات إلا باعتراض الشك بين جوانحي، وإلا فهذه الصورة الجميلة والهيئة المنيرة لا تكون إلا في نبي أو عترة نبي.
وذكر أن معاوية وصله بخمسمائة ألف درهم، ثم وجه له من يتعرف له خبره، فانصرف إليه فأعلمه أنه قسمها في سُماره وإخوانه حصصاً بالسوية، وأبقى لنفسه مثل نصيب أحدهم، فقال معاوية: إن ذلك ليسوءني وشمرني، فأما الذي يسرني فإن عبد مناف والده، وأما الذي يسوءني فقرابته من أبي تراب دوني.
قال المسعودي: وقد قدمنا خبر مقتل ابني عبيد الله فيما سلف من هذا الكتاب، وهما عبد الرحمن وقُثَم، وما رثتهما به أمهما أمَّ حكيم جويرية بنت قارط بن خالد الكنانية.
وقد كان عبيد اللّه بن العباس دخل يوماً على معاوية وعنده قاتلُهما بُسْرُ ابن أرْطَاةَ العامري، فقال له عبيد اللّه: أيها الشيخ أنت قاتل الصبيين. قال: نعم، قال: واللّه لوددت أن الأرض أنبتتنى عندك يومئذِ، فقال له بُسْرٌ : فقد أنبتتك الساعة، فقال عبيد اللّه: ألا سيف، فقال بُسْرٌ : هاك سيفي، فلما هوى عبيد اللهّ إلى السيف ليتناوله قبض معاوية ومَنْ حضره على يد عبيد اللهّ قبل أن يقبض على السيف، ثم أقبل معاوية على بُسْرٍ فقال: أخزاك اللّه من شيخ! قد كبرت وذُهِل عقلك، تعمد إلى رجل موتور من بني هاشم فتدفع إليه سَيْفَكَ، إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، واللهّ لوتمكن من السيف لبدأ بنا قبلك، قال عبيد اللهّ: ذلك واللّه أردت.
وكان علي عليه السلام- حين أتاه خبر قتل بُسْرٍ لابني عبيد اللّه قُثَمَ وعبد الرحمن- دعا على بسر، فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله، فخرف الشيخ حتى ذًهِل عقله، واشتهر بالسيف فكان لا يفارقه، فجعل له سيف من خشب، وجعل بين يديه زق منفوح يضربه، وكلما تخرق أبدل، فلم يزل يضرب ذلك الزق بذلك السيف، حتى مات ذاهل العقل يلعب بخرئه، وربما كان يتناول منه ثم يقبل على مَنْ يراه فيقول: انظروا كيف يطعمني هذان الغلامان ابنا عبيد الله، وكان ربما شدت يداه إلى وراء منعاً من ذلك فأنجى ذات يوم في مكانه، ثم أهوى بفيه فتناول منه، فبادروا إلى منعه، فقال: أنتم تمنعونني وعبدُ الرحمن وقثَم يطعمانني، ومات بسر في أيام الوليد بن عبد الملك سنة ست وثمانين.
وفيها مات عبد اللهّ بن عتبة بن مسعود الهذلي، وعتبة مهاجر، وهو أخو عبد اللّه بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمح بن مخزوم بن صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن محركة بن الياس بن مضربن نزار، وكانت الرياسة في الجاهلية في صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وكان عبيد اللّه ولد عبد الله بن عتبة من كبار أهل العلم، وذكر ابن أبي خيثمة قال: سمت ابن الأصبهاني يقول: قال سفيان: قال الزهري: كنت آظن إني نلت من العلم، حتى جالست عبيد اللّه بن عبد الله فكأنما هو البحر.
وفي سنة أربع وتسعين قَتَلَ الحجاجُ سعيدَ بن جُبَيْرٍ، فذكر عون بن أبي
راشد العبدي قال: لما ظفر الحجاج بسعيد بن جبير وأوصل إليه قال له: ما
اسمك. قال: اسمي سعيد بن جبير، قال: بل شقي بن كسير. قال: أبي كان أعلم
باسمي منك، قال: لقد شقيت وشقي أبوك، قال له: الغيب إنما يعلمه غيرك، قال:
لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً
غيرك، قال: فما قولك في الخلفاء، قال: لست عليهم بوكيل، قال: فاختر أي قتلة
تريد أن أقتلك، قال: بل اختر يا شقي لنفسك، فواللّه ما تقتلني اليوم بقتلة
إلا قتلتك في الاخر بمثلها، فأمر به الحجاج، فأخرج ليقتل، فلما ولى ضحك،
فأمر الحجاج برده، وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على اللّه وحلم
الله عنك، فأمر به فذبح، فلما كبَّ لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه
وحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله ثم
قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي، فذبح واحتز رأسه.
ولم يعش الحجاج بعده إلا خمس عشرة ليلة حتى وقعت في جوف الأكلة فمات من
ذلك، ويروى أنه كان يقول بعد قتل سعيد: يا قوم مالي ولسيعد بن جبير، كلما
عزمت على النوم أخذ بحلقي.
واشتكى الوليد، فبلغه عن أخيه سليمان ثمن لموته لما له من العهد بعده، فكتب إليه الوليد يعتب عليه الذي بلغه، وكتب في آخر كتابه هذه الأبيات:
تمنى رجال أن أموت، وإن أمـت |
|
فتلك سبيل لست فيهـا بـأ وْحَـد |
لعلَّ الذي يرجو فـنـائي ويدعـي |
|
به قبل موتي أن يكون هو الـردي |
فما موت مَنْ قد مات قبلي بضائري |
|
ولاعيش من قدعاش بعدي بمُخْلِدِي |
فقل للذي يرجو خلاف الذي مضى: |
|
تَزوَدْ لأخْرَى غيرها فـكـأنْ قَـد |
منيته تجري لـوقـت، وَحـتـفـه |
|
سيلحقه يوماً على غـير مَـوْعِـدِ |
فأجابه سليمان: فهمْتُ ما قال أمير المؤمنين، واللهّ لئن كنت تمنيت ذلك لما يخطر بالبال إني لأول لاحِقٍ به ومنعيّ إلى أهله، فعلام أتمنى زوال مدة لا يلبثَ متمنيها إلا بقدر ما يحل السفر بمنزل ثم يظعنون عنه. وقد بلغ أميرَ المؤمنين ما لم يظهر من لفظي، ولا يرى من لحظي، ومتى سمع أمير المؤمنين من أهل النميمة، ومن ليست له روية أوشك أن يسرع في فساد النيات، ويقطع بين ذوي الأرحام والقرابات، وكتب في أسفل الكتاب:
ومن لايغمِّضْ عينه عن صـديقـه |
|
وعن بعض مافيه يَمُتْ وهو عاتب |
ومن يتتبع جاهـداً كـل عـثـرة |
|
يَجِدْهَا ولم يسلم لهُ الدهر صاحب |
فكتب إليه الوليد: ما أحسن ما اعتذرت به، وحذوت عليه، وأنت الصادق في المقال، والكامل في الفعال، وما شيء أشبه بك من اعتذارك، ولا أبعد مما قيل فيك، والسلام: وكان الوليد متحنناً على إخوته، مراعياً لسائر ما أوصاه به عبد الملك، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب إليه بوصيته منها:
انفُوا الضغائن عنكُمُ وعـلـيكـم |
|
عند المغيب وفي حضور المشهدِ |
فصلح ذات البين طولُ بقـائكـم |
|
إن مُدَّ في عمري وإن لم يمـدد |
فلمثل ريب الدهرألَّفَ بـينـكـم |
|
بتـواصـل وتـراحـم وتـودُّد |
حتى تلين جلودكم وقـلـوبـكـم |
|
بمسوَّدٍ منكـمِ وغـير مـسـود |
إن القداح إذا اجتمعن فَرَامَـهَـا |
|
بالكسر ذو حَنقٍ وَبَطْش بـالـيد |
عَزَّتْ فلم تكسر، وإن هي بدِّدت |
|
فالوهن والتكسير للـمـتـبـدد |
وكان عبد الملك مواظباً على حث أولاده على اصطناع المعروف، وبعثهم على مكارم الأخلاق، وقال لهم: يا بني عبد الملك، أحسابكم أحسابكم، صونوها ببذل أموالكم، فما يبالي رجل منكم ما قيل فيه من الهجو بعد قول الأعشى:
تبيتون في المَشْتَى مِلاَء بطونكم |
|
وجاراتكم غَرْثَى يبتن خمائصا |
وما يبالي قوم ما قيل فيهم من المدح بعد قول زهير :
على مكثريهم حَقُّ من يعتريهم |
|
وعند المقلين السماحةُ والبذُل |
حدث عبد اللهّ بن إسحاق بن سلام، عن محمد بن حبيب، قال: صعد الوليد المنبر فسمع صوت ناقوس فقال: ما هذا؟ قيل: البيعة، فأمر بهدمها، وتولى بعض ذلك بيده، فتتابع الناس يهدمون، فكتب إليه الأخرم ملك الروم: إن هذه البيعة قد أقرها مَنْ كان قبلك، فإن يكون أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: مَنْ يجيبة فقال الفرزدق: أنا، فكتب إليه "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلماً.
ومات الحجاج في سنة خمس وتسعين، وهو ابن أربع وخمسين له بواسط العراق، وكان تأمُّرُهُ على الناس عشرين سنة، وأحصى من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد مائة وعشرين ألفاً، ومات وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألف مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء وكان له غير ذلك من العذاب ما أتينا علي وصفه في الكتاب الأوسط.
وذكر أنه ركب يوماً يريد الجمعة، فسمع ضجة، فقال: ما هذا، فقيل له: المحبوسون يضجون ويشكون ما هم فيه من البلاء، فالتفت، ناحيتهم وقال: اخسأوا فيها ولا تكلمون فيقال: إنه مات في تلك الجمعة، ولم يركب بعد تلك الركبة.
قال المسعودي: ووجدت في كتاب عيون البلاغات مما اختبر من كلام الحجاج قوله: ما سلبت نعمة إلا بكفرها، ولا نَمَتْ إلا بشكرها. وقد كان الحجاج تزوج إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب-حين أمْلَقَ عبدُ اللّه وافتقر، وقد ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان الخبر في ذلك وتهنئة ابن القَرِّية الحاج بذلك.
وقد كان عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب من الجود بالموضع المعروف، ولما قل مالُه سمع يوم الجمعة في المسجد الجامع وهو يقول: اللهم إنك قد عودتني عادة فعودتُهَا عبادكَ، فإن قطعتها عني فلا تبقني، فمات في تلك الجمعة، وذلك في أيام عبد الملك بن مروان وصلى عليه أبان بن عثمان بمكة، وقيل: بالمدينة، وهي السنة التي كان بها السيل الجحاف الذي بلغ الركن وذهب بكثير من الحجاج.
وفي هذه السنة كان الطاعون العامُّ بالعراق والشام ومصر والجزيرة والحجاز وهي سنة ثمانين.
وقبض عبد اللّه بن جعفر وهو ابن سبع وستين، وولد بالحبشة حين هاجر جعفر إلى هنالك، وقيل: إن مولده كان في السنة التي قبض فيها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل غير ذلك. وذكر المبرد والمدائني والعتبي وغيرهم من الأخباريين أن عبد اللّه عوتب على كثرة إفضاله، فقال: إن اللّه تعالى عًوّدني أن يُفْضِل عليَّ، وعودته أن أفضل على عباده، فأكره أن أقطع العادة عنهم فيقطع العادة عني ووفد عبد اللّه على معاوية، بدمشق، فعلم به عمرو بن العاص قبل دخوله دمشق، أخبره بذلك مولىً له كان سار مع ابن جعفر من الحجاز فتقدّمه بمرحلتين إلى دمشق، فدخل عمرو على معاوية وعنده جماعة من قريش من بني هاشم وغيرهم: منهم عبد اللّه بن الحارث بن عبد المطلب، فقال عمرو: قد أتاكم رجل كثير الخلوات بالتمِّني، والطرقات بالتغنِّي، آخذ للسلف، منقاد بالسرف، فغضب عبد الله بن الحارث، وقال لعمرو: كذبت وأهْلُ ذلك أنت، ليس عبد اللّه كما ذكرت، ولكنه لله ذَكُور، ولبلائه شَكُور، وعن الخنانَفُور، ما جد مهذب كريم سيد حليم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حَصِر ولا هياب، ولا فَحاش ولا سَبَّاب كالهِزَبْر الضِّرْغام، الجريء المقدام، والسيف الصمصام، والحب القمقام، وليس كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب علب جَزَارها، فأصبح ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، يلوذ منها بذليل، ويأوى، إلى قليل، وليت شعري بأي حسب تتناول. أو بأي قدم تتعرض. غير أنك تعلو بغبر أركانك، وتتكلم بغير لسانك، ولقد كان أبر في الحكم وأبين في الفَضْل، أن يكفَّكَ ابن أبي سفيان عن ولوعك بأعراض قريش وأن يكعمك كعام الضبع في وجارها، ولست لأعراضها بوفي، لأحسابها بكفي، وقد أتيح لك ضَيْغم شَرِس، للأقران مختلس وللأرواح مفترس، فهمَّ عمرو أن يتكلم، فمنعه معاوية من ذلك، وقال عبد اللّه بن الحارث: لا يُبْقِ المرء إلا على نفسه، واللهّ إن لساني لحديد وإن جوابي لعتيد، وإن قولي لسديد، وإن أنصاري لشُهُود، فقام معاوية وتفرق القوم.
ولعبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب أخبار حسان في الجود والكرم وغير ذلك من المناقب، وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما كان تزوج الحجاج إليه يبتذل بذلك آل أبي طالب.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك يغلظ له أمر الخوارج مع قَطَرِي، فكتب إليه: أما بعد، فإني أحمد إليك السيف، وأوصيك بما أوصى به البكري زيداً، فلم يفهم الحجاج ما عَنَاه عبد الملك، وقال: مَنْ جاء بتفسير ما أوصى به البكري زيداً فله عشرة آلاف درهم، فورد رجل منِ الحجاز يتظلَّم من بعض عماله، فقيل له: أتعلم ما أوصى به البكري زيداَ، قال: نعم، قالوا: فأت الحجاج به ولك عشرة آلاف درهم، فأتاه فأحضره، فقال: أوصاه بأن قال:
أقول لزيد لا تُبَـربـر فـإنـهـم |
|
يرون المنايا دون قتلك أوقتـلـي |
فإن وَضَعُوا حرباً فًضَعْهَا، وإن أبوا |
|
فشُبً وَقُودَ الحرب بالحطب الجزل |
وإن عًضَتِ الحرب الضّرُوس بنابها |
|
فعرضة حد السيف مثلك أو مثلي |
فقال الحجاج: صدق أمير المؤمنين وصدق البكري.
وكتب إلى المهلب: إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيداً، وأنا أوصيك به وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه، فأتى المهلب بوصيته فإذا فيها: يا بَنِيَّ، كونوا جميعاً ولا تكونوا شَتَّى فتفرقوا، وبروا قبل أن تبروا، فموت في قوة وعزّ، خير من حياة في ذل وعجز، فقال المهلب: صدق البكري والحارث بن كعب.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج: جَنّبنِي دماء آل أبي طالب، فإني رأيت الملك استوحش من آل حرب حين سفكوا دماءهم، فكان الحجاج يتجنبها خوفاً من زوال الملك عنهم، لا خوفاً من الخالق عز وجل.
ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فقالت: أصلح اللّه الأمير، أتيت لإخلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكَلَبِ البرد، وشدة الجَهْد، قال: فأخبريني عن الأرض، قالت: الأرض مقشعرة، والفجاج مغبرة، والمقتر مقل، وذو العيال مختل، والبائس معتل، والناس مُسْنِتُونَ، رَحْمَةَ الله يرجون، قال: أي النساء تختارين تنزلين عندها؟ قالت: سَمِّهن لي، قال: عندي هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء بن خارجة، فاختارتها فدخلت عليها، فصَبتْ حليها عليها حتى أثقلها، لاختيارها إياها ودخولها عليها دون مَنْ سواها.
حدثنا المنقري قال: حدثنا العتبي، عن أبيه، قال: قدم على الحجاج ابن عم له أعرابي من البادية فنظر إليه يُولِّي الناس، فقال له: أيها الأمير، لم لا توليني بعض هذا الحضر.- فقال الحجاج: هؤلاء يكتبون ويحسبون وأنت لا تحسب ولا تكتب، فغضب الأعرابي وقال: بلى إني واللّه لأحْسَبُ منهم حسباً، وأكتب منهم يداً، فقال له الحجاج: فإن كان تزعم فاقسم ثلاثة دراهم بين أربعة أنفس، فما زال يقول: ثلاثة دراهم بين أربعة، ثلاثة بين أربعة، لكل واحد منهم درهم يبقى الرابع بلا شيء، كم هم أيها الأمير. قال: هم أربعة، قال: نعم أيها الأمير، قد وقفت على الحساب، لكل واحد منهم درهم، وأنا أعطي الرابع منهم درهماً من عندي وضرب بيده إلى تكته فاستخرج منها درهماً، وقال: أيكم الرابع فلاها اللّه ما رأيت كاليوم زوراً مثل حساب هؤلاء الحضريين، فضحك الحجاج ومَنْ معه، وذهب بهم الضحك كل مذهب، ثم قال الحجاج: إن أهل إصبهان كسروا خَرَاجهم ثلاث سنين، كلما أتاهم وال أعجزوه، فلأرمينهم ببدوية هذا وعنجهيته، فأخْلِقْ به أن ينجب، فكتب له عهده على أصبهان، فلما خرج استقبله أهل إصبهان واستبشروا به، وأقبلوا عليه يقبلون يده ورجله، وقد استغمروه، وقالوا: أعرابي بدوي ماذا يكون منه فلما أكثروا عليه قال: أعينوا عَلَى أنفسكم وتقبيلكم أطرافي وأخِّرُوا عني هذه الهيآت، أما يشغلكم ما أخرجني له الأمير. فلما استقر في داره بأصبهان جمع أهلها فقال لهم: ما لكم تَعْصُونَ ربكم وتغضبون أميركم وتنقصون خراجكم. فقال قائلهم: جَوْر مَنْ كان قبلك، وظلم من ظلم، قال: فما الأمر الذي فيه صلاحكم، فقالوا: تؤخرنا بالخراج ثمانية أشهر ونجمعه لك، قال: لكم عشرة وتأتوني بعشرة ضمناء يضمنون، فأتوه بهم، فلما توثقَ منهم أمهلهم، فلما قرب الوقت رآهم غير مكترثين لما يدنو من الأجل، فقال لهم، فلم ينتفع بقوله، فلما طال به ذلك جمع الضمناء وقال لهم: المال، فقالوا: أصابنا من الآفة ما نقض ذلك، فلما رأى ذلك منهم آلى أن لا يفطر- وكان في شهر رمضان- حتى يجمع ماله أو يضرب أعناقهم، ثم قَدَّم أحدهم فضرب عنقه، وكتب عليه فلان بن فلان أدى ما عليه، وجعل رأسه في بدرة وختم عليها، ثم قَدَّم الثاني ففعل به مثل ذلك، فلما رأى القوم الرؤوس تبذر وتجعل في الأكياس بدلاً من البدرِ قالوا: أيها الأمير، توقّفْ علينا حتى نحضر لك المال ففعل، فأَحضروه في أسرع وقت، فبلغ ذلك الحجاج، فقال: إنا معاشر آل محمد- يعنى جَده- ولدنا نجيب، فكيف رأيتم فراستي في الأعرابي. ولم يزل عليها والياً حتى مات الحجاج.
إبراهيم التميمي في سجن الحجاج: |
وحبس الحجاج إبراهيم التميمي بواسط، فلما دخل السجن وقف على مكان مشرف ونادى بأعلى صوته: يا أهل بلاء اللّه في عافيته، ويا أهل عافية اللّه في بلائه، أصبروا، فنادوه جميعاً. لبيك، لبيك، ومات في حبس الحجاج، وإنما كان الحجاج طلب إبراهيم النخعي فنجا، ووقع إبراهيم التميمي.
وحكي عن الأعمش قال: قلت لإِبراهيم النخعي: أين كنت حين طلبك الحجاج. فقال: بحيث يقول الشاعر:
عَوَى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عَوَى |
|
وَصَوَّتَ إنسان فـكـذبـت أطِـير |
حدثنا الدمشقي الأموي أحمد بن سعيد وغيره، عن الزبير بن بكار،عن محمد بن سلام الحجمي الجمحي، وحدثنا الفضل بن الحباب الجمحى عن محمد بن سَلاّم قال: سأل الحجاج ابن القَرِّيّة: أيّ النساء أحمد، قال: التي في بطنها غلام، وفي حجرها غلام، ويسعى لها مع الغلمان غلام، قال: فأيّ النساء شَر. قال: الشديدة الأذى الكثيرة الشَّكْوَى، المخالفة لما تهوى، فقال: أيّ النساء أعجب إليك. قال: الشفاء العطبول، المنعاج الكسول، التي لم يَشِنْهَا قصر ولا طول، قال: فأيّ النساء أبغض إليك. قال: الرعينة القصيرة، الباهق الشريرة، قال: فأخبرني عن أفضل النساء مَخْبراً وأطيبهن أعطافاً، قال: أفضل النساء الغَضّة البَضّة، التي أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، اللَّعْسَاء الورهاء، التي لم تذهب طولاً في إنحطاط، ولم تلصق قصراً في إفراط، الجَعدة الغدائر، السَّبْطَة الضفائر، الضخمة المآكم، الطَّفْلَة البراجم، إذا رأيت أناملها شبهتها بالمداري، وإذا قامت خلتها سارية من السواري، فتلك تهيج المشتاق، وتُحيي العاشق بالعناق.
قال المسعودي: وللوليد بن عبد الملك أخبار حسان لما كان في أيامه من الكوائن والحروب، وكذلك الحجاج، وقد أتينا على كَثير من مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب ما لم نورده في ذَيْنِك الكتابين، كما أن ما ذكرناه في الكتاب الأوسط هو ما لم نورده في كتاب أخبار الزمان والله أعلم.
وبويع سليمان بن عبد الملك بدمشق في اليوم الذي كانت فيه وفاة الوليد، وذلك يوم السبت للنصف من جمادي الآخرة سنة ست وتسعين من الهجرة، وتوفي سليمان بمرج دَابِقٍ من أعمال جند قنسرين يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وخمس ليالٍ، وهلك وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز، وقيل: إن وفاة سليمان كانت يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من صفر سنة تسع وتسعين، وإن ولايته سنتان وتسعة أشهر وثمانية عشر يوماً، على حسب ما وجدناه من تباين ما في كتب التواريخ والسِّيَر، وسنذكر جمل أيامهم في باب نُفْرده فيما يرد من هذا الكتاب.
وقد تنوزع في مقدار سِنِّ سليمان: فذكر بعضهم أنه قُبض وهو ابن خمس وأربعين سنة، ومنهم مَنْ زعم أنه كان ابن ثلاث وخمسين، وقد قدمنا قول مَنْ قال: إنه قُبض وهو ابن تسع وثلاثين سنة، ووجَدْتُ أكثر شيوخ بني مروان من ولده وولد غيره بدمشق وغيرها يذهبون إلى أنه كان ابْنَ تسع وثلاثين، والله أعلم.
ولما أفْضَى الأمر إلى سليمان صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: الحمد لله الذي ماشاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، وما شاء رفع، وما شاء وضع، أيها الناس، إن الدنيا دار غرور وباطل وزينة وتقلُّب بأهلها، تُضْحِك باكيها، وتبكي ضاحكها، وتخْيف آمنها، وتؤمن خائفها، وتثري فقيرها، وتفقر مثريها ميالة بأهلها عباد اللّه، اتخذوا كتاب اللّه إماماً، وارْضُوا به حكماً، واجعلوه لكم هادياً ودليلاً، فإنه ناسخ، ولا ينسخه ما بعده، واعلموا عباد الله أنه ينفي عنكم كيد الشيطان ومطامعه، كما يجلو ضوء الشمس الصبح إذا أسفر، وإدبار الليل إذا عسعس، ثم نزل وأذن للناس بالدخول عليه، وأقر عمال من كان قبله على أعمالهم، وأقر خالد بن عبد اللّه القَسْرِي على مكة.
وقد كان خالد أحْدَثَ بمكة أحداثاً: منها أنه أدار الصفوف حول الكعبة، وقد كَاَن قبل ذلك صفوف الناس في الصلاة بخلاف ذلك، وبلغه قول الشاعر:
ياحبذا الموسم من موقف |
|
وحبذا الكعبة من مسجـد |
وحبذا اللاتي تزاحمنـنـا |
|
عند استلام الْحَجَرِ الأسود |
فقال خالد: أما إنهن لا يزاحمنك بعدها أبداً، ثم أمر بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف.
وكان سليمان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، وكان يلبس الثياب الرقاق وثياب الوَشْي، وفي أيامه عمل الوشي الجيد باليمن والكوفة والإسكندرية، ولبس الناس جميعاً الوشي جباباً وأردِيَةً وسراويل وعمائم وقلانس، وكان لا يدخل عليه رجل من أهل بيته إلا في الوَشي، وكذلك عُمًاله وأصحابه ومَنْ في داره، وكان لباسه في ركوبه وجلوسه على المنبر، وكان لا يدخل عليه أحد من خدَامه إلا في الوَشي، حتى الطباخ، فإنه كان يدخل إليه في صدره وشي وعلى رأسه طويلة وشي، وأمر أن يكفن في الوشي المثقلة وكان شبعه في كل يوم من الطعام مائة رطل بالعراقي، وكان ربما أتاه الطباخون بالسفافيد التي فيها الدجاج المشوية وعليه جبه الوشي المثقلة فلنهمه وحرصه على الأكل يُدْخِل يده في كمه حتى يقبض على الدجاجة وهي حارة فيفصلها. وذكر الأصمعي قال: ذكرت للرشيد نَهَمَ سليمان وتناوله الفراريج بكمه من السفافيد، فقال: قاتلك الله فما أعلمك بأخبارهم، إنه عرضَت عليً جباب بني أمية، فنظرتُ إلى جباب سليمان وإذا كل جبة منها في كمها أثر كأنه أثر دهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث، ثم قال: علىِ بجباب سليمان، فأتي بها، فنظرنا فإذا تلك الآثار فيها ظاهرة، فكساني منها جُبة، فكان الأصمعي ربما يخرج أحياناً فيها فيقول: هذه جُبة سليمان التي كسانيها الرشيد.
وذكر أن سليمان خرج من الحمام ذات يوم اشتدً جوعه، فاستعجل الطعام، ولم يكن فرغ منه، فأمر أن يقدم عليه ما لحق من الشواء، فقدم إليه عشرون خروفَاَ، فأكل أجوافها كلها مع أربعين رقآقة، ثم قرب بعد ذلك الطعام فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل شيئاً.
وحكي أنه كان يتخذ سلال الحلوى، ويجعل ذلك حول مرقده، فكان إذا قام من نومه يمدُّ يده فلا تقع إلا على سلة يأكل منها.
حدث المنقري، عن العتبي، عن إسحاق بن إبراهيم بن الصباح بن مروان- وكان مولى لبني أمية من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان حافظاً لأخبار بني أمية- قال: لبس سليمان يوم الجمعة في ولايته لباساً شهر به، وتعطر، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمُ بواحدة بعد أخرى حتى رضي منها بواحدة، فأرخى من سُدُولها، وأخذ بيده مخصرة، وعلا المنبر ناظراً في عطفيه، وجمع جمعه، وخطب خطبته التي أرادها، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشاب، السيد المهاب، الكريم الوهاب، فتمثلت له جارية من بعض جواريه وكان يتحظّاها، فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين، قالت: أراه مُنَى النفس وقُرة العين، لولا ما قال الشاعر، قال: وما قال الشاعر. قالت: قال:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى |
|
غيرأن لا بَقَاء للإِنـسـان |
أنت مَنْ لايَرِيبنامنك شـيء |
|
علم اللَّه غير أنك فـإنـي |
ليس فيما بدا لنا منك عـيبٌ |
|
ياسليمان غير أنـك فـان |
فدمعت عيناه وخرج على الناس باكياً، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بالجارية، فقال لها: ما دعاك إلى ما قلت لأمير المؤمنين. قالت: واللّه ما رأيت أمير المؤمنين اليوم ولا دخلت عليه، فأكبره ذلك، ودعا بِقَيِّمَةِ جواريه فصدقتها في قولها، فراع ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، ولم يمكث بعد ذلك إلا مُدَيْحَة حتى توفي.
وكان سليمان يقول: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا ا لْفَارِهَ، ولم يبق لي لذة إلا صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ.
وأدخل عليه يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج والمستولي عليه، وهو مكبل بالحديد، فلما رآه ازدرَاهُ، فقال: ما رأيت كاليوم قطَ، لعَنَ اللّه رجلاً أجَركَ رَسَنُه، وحكمك في أمره، فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنك رأيتني والأمر عني مُدْبر، عليك مُقْبل، ولو رأيتني والأمر مقبل عليً لاستعظمت مني ما استصغرت، ولاستجللت مني ما استحقرت، قال: صدقت فاجلس لا أم لك، فلما استقر به المجلس قال له سليمان: عزمت عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنك به أتراه يَهْوِي بعدُ في جهنم أم قد استقر فيها، قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في الحجاج، فقد بذل لكم نصحه، وأحْقَنَ دونكم دمه، وأمَّنَ وليكم، وأخاف عدوكم، وإنه يوم القيامة لَعَنْ يمين أبيك عبد الملك، ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت، فصاح سليمان: اخْرُجْ عني إلى لعنة اللهّ، ثم التفت إلى جلسائه فقال: قبحه اللّه، ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المكافأة، أطلقوا سبيله.
ودخل عليه أبو حازم الأعرج، فقال: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت، قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب، قال: فأخبرني كيف القدومُ على اللهّ، قال: أما المحسن فكالغائب يأتي أهله مسروراً، وأما المسيء فكالعبد الأبق يأتي مولاه مَحْزوناً، قال: فأي الأعمال أفضل. قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي القول اعْدَلُ. قال: كلمة حق عند من تخاف وترجو، قال: فأي الناس أعقل، قال: من عمل بطاعة اللّه، قال: فأي الناس أجهل. قال: من باع آخرته بدنيا غيره، قال: عِظْنِي وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين، نَزِّه ربك وعَظمه بحيث أن يراك تجتنب ما نهاك عنه ولا يفقدك من حيث أمرك به، فبكى سليمان بكاءً شديداً، فقال له بعض جلسائه، أسرفت ويحك على أمير المؤمنين، فقال له أبو حازم: اسكت فإن اللّه عز وجل أخَذَ الميثاق على العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه ثم خرج، فلما صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمالٍ، فرده، وقال للرسول: قل له واللّه يا أمير المؤمنين ما أرضاه لك، فكيف أرضاه لنفسي.
وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني الأصمعي، عن شيخ من المَهَالِبَة، قال: دخل أعرابي على سليمان فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فافهمه، فقال له سليمان: إنا نجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غِشّه، وأرجو أن تكون الناصح جَيْباً، المأمون غيباً، فهات، قال: يا أمير المؤمنين، أما إذ أمنتُ بادرة غضبك فسأطلق لساني بما خَرسَتْ به الألسُنُ من عظتك تأدَيةً لحق اللّه رحق أمانتك، يا أمير المؤمنين، إنه قد تَكَنَّفَك رجال أساءُوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، رضاك بسخط ربهم، خافوك في اللهّ ولم يخافوا اللّه فيك، حَرْب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنهم لم يأتوا إلا ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا، ولْيسوا مسؤولين عما أجترمت، فلا تُصْلِحْ دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً بائع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سَلَلْتَ علينا لسانَكَ، وهو أقطع من سيفك، فقال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لاعليك، فقال سليمان: أما وأبيك يا أعرابي لا تزال العربُ بسلطاننا لأكناف العز مُتَبَوِّئَةً، ولا تزال أيام دولتنا بكل خير مُقْبلة، ولئن ساسكم ولاة غيرنا ليُحْمَدَنَّ منا ما أصبحتم تذمُونَ، فقال الأعرابي: أما إذا رجع الأمر إلى ولد العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وصِنْو أبيه ووارث ما جعله الله له أهلاً فلا، فتغافل سليمان كأنْ لم يسمع شيئاً، وخرج الأعرابي فكان آخر العهد به، هذا الخبر أخبرني به بعض شيوخ ولد العباس بمدينة السلام مدينة أبي جعفر المنصور، وهو ابن ديهة المنصوري، عن أبيه، عن علي بن جعفر النوفلي، عن أبيه، وذلك في سنة ثلثمائة.
وذُكِرَ معاوية بن أبي سفيان في مجلس سليمان، فصلّى على روحه وأرواح من سلف من آبائه، وقال: كان والله هَزْلُه جِدّاً، وجده علماً، واللّه ما رُئي مثل معاوية، كان واللّه غضبه حلماً، وحلمه حكماً، وقيل: إن هذا الكلام لعبد الملك.
وكتب سليمان إلى خالد بن عبد اللّه القَسْرِي وهو على العراق في رجل استجار به من قريش، وكان هرب من خالد، أن لا يعرض له، فأتاه بالكتاب فلم يَفُضّه حتى ضربه مائة سوط، ثم قرأه، فقال: هذه نقمة أراد الله أن ينتقم بها منك لتركي قراءة الكتاب، ولو كنت قرأته لأنفذت ما فيه، فخرج القرشي راجعاً إلى سليمان، فسأله الفرزدق وأناس ممن كان بالباب عما صنع خالد، فأخبرهم، فقال الفرزدق في ذلك:
سَلُوا خَالداً لا قدس اللَّه خـالـدا |
|
مَتَى وَليت قَسْرٌ قُريْش تَدِينُهَـا |
أقَبْلَ رسول اللَه أم بَعْدَ عـهـده |
|
فأضْحَتْ قًرَيش قد أغثَّ سَمِينُهَا |
رَجَوْنَا هُدَاه لاَهَدَى اللَّه سَعْـيَه |
|
وما أمه بالأم يُهدَى جَنِـينـهَـا |
فلما بلغ سليمان ذلك وجَّه إلى خالد مَنْ ضربه مائة سوط، فقال الفرزدق في ذلك أبيات:
لعمري لقد صُبّتُ على ظهر خـالـدٍ |
|
شآ بِيبُ لَيْسَتْ من سَحَاب ولاقَطْـرِ |
أتضرب في العصيَان من ليس عاصيا |
|
وتَعْصِي أمير المؤمنين أخَا قَـسْـر |
فلولا يزيد بن المهـلـب حَـلّـقَـتُ |
|
بكفك فَتْخَاء إلى الفرخ في الوَكْـرِ |
لعمري لقد سارابـن شـيبة سِـيرة |
|
أرَتك نجومَ الليل مُظَهرَةً تـجـري |
فخذ بيديك الخِزْي حقـاً، فـإنـمـا |
|
جُزِيتَ قَصاصاً بالمرجرجة السُّمْـرِ |
وقال سليمان لعمر بن عبد العزيز يوماً وقد أعجبه سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه، قال: سرور لولا أنه غرور، وحياة لولا أنه موت، وملك لولا أنه هلك، وحسن لولا أنه حزن، ونعيم لولا أنه عذاب أليم، فبكى سليمان من كلامه.
وكان سليمان بخلاف الوليد، وعلى الضد منه في الفصاحة االبلاغة، وقد كان الوليد أفسد في أرضٍ لعبد اللّه بن يزيد بن معاوية، فشكا ذلك أخوهُ خالد بن يزيد إلى عبد الملك، فقال له عبد الملك: إن الملوك إذا دخلوا قريه أفسدوها الآية فقال له خالد: "وإذا أردنا أنْ نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها" الآية، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تتكلم وبالأمس دخل عليَ فغير في لسانه ولحن في كلامه، فقال: أفعلى الوليد تعَول. قال: إن كان الوليد يلحن فسليمان أخوه، قال خالد: وإن كان عبد اللّه لحاناً فأخوه خالد، فقال الوليد: أتتكلم ولست في العير ولا في النفير، قال خالد: ألم تسمع ما يقول أمير المؤمنين، أنا والله ابن العير والنفير، ولو قلت جُبَيلات وغُنَيْمَات والطائف ورحم اللّه عثمان، قلنا: صدقت، أراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَفَى الحكم بن أبي العاص إلى الطائف فصار راعياً حتى ردَه عثمان.
غضب سليمان على خالد القَسْرِي، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، إن القدرة تُذْهِب الحفيظة، وإنك تَجِلُّ عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل ذلك أنا، فعفا عنه.
وذم رجل في مجلس سليمان الكلام، فقال سليمان: إنه من تكلم فأحسن قدر على أن يصمت فيحسن وليس مَنْ صمت فأحسن قدر على أن تكلم فيحسن.
ووقف سليمان على قبر ولده أيوب وبه كان يكنى، فقال: اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه فحقق رجائي، وآمن خوفي.
قال المسعودي: ولما دُفن سليمان سمع بعض كتابه وهو يقول أبياتاً منها:
وما سالم عما قلـيل بِـسَـالـم |
|
وإن كَثُرَتْ أحْرَاسه وكَتَـائبـه |
ومَنْ يَكُ ذَا بَأس شديد ومـنـعة |
|
فعمَّا قليلٍ يهجر الباب حاجبـه |
ويصبح بعد الحجَب للناس مقصيا |
|
رهينة بيت لم تستر جَوَانـبـه |
فما كان إلا الدًفْن حتى تفرقـت |
|
إلى غَيْرِهِ أحْرَاسه ومواكـبـه |
وَاصبَحَ مسروراً به كل كَاشـح |
|
وأسلمه أحْبَـابـه وأقـاربـه |
فنفسك أكْسِبْهَا السعَادَة جـاهـداً |
|
فكل امرىء رَهْن بما هوكاسبه |
قال المسعودي: ولسليمان أخبار حسان لما كان في مدة ملكه من الكوائن، وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً طلباً للإيجاز، وميلاً إلى الإِختصار، وباللّه التوفيق.