ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم

ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم

واستخلف عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، وهو اليوم الذي مات فيه سليمان، وتوفي بدَيْرِ سِمْعَانَ من أعمال حمص مما يلي بلاد قنسرين يوج الجمعة لخمس بَقِينَ من رجب سنة إحدى ومائة، فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وقُبض وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وقبره مشهور في هذا الموضع إلى هذه الغاية، مُعًظّم يَغْشَاه كثير من الناس من الحاضرة والبادية، لم يتعرض لنبشه فيما سلف من الزمان كما تعرض لقبور غيره من بني أمية. وأمه بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وقيل: إنهَ قُبض وهو ابن أربعين سنة، وقيل: إحدى وأربعين سنة. وقد تنوزع أيضاً في مقدار مدته في الخلافة، وقد أتينا على المحصَّل من ذلك في باب مقدار المدة من الزمان وما تملكت فيه بنو أمية من الأعوام، فيما يرد من هذا الكتاب. 

ذكر لمع من أخباره وسيره وزهده رضي الله عنه

كيف آلت الخلافة لعمر

لم تكن خلافة عمر في عَهْدٍ تقدم: وكان السبب فيها أن سليمان لما حضرته الوفاة بمرج دابق دعا رجاء بن حَيْوَة ومحمد بن شهاب الزهري ومكحولاً وغيرهم من العلماء ممن كان في عسكره غازياً ونافراً، فكتب وصيته، وأشهدهم عليها، وقال أنا مُتًّ فأذِّنُوا فأذِّنُوا بالصلاة جامعة، ثم أقرؤا هذا الكتاب على الناس، فلما فُرِغ من دَفْنه نودي: الصلاةَ جامعةً، فاجتمع الناس وحضر بنو مروان فاشْرَأبوا للخلافة، وتَشَوَّفُوا نحوها، فقام الزهري فقال: أيها الناس، أرضيتم مَنْ سماه أمير المؤمنين سليمان في وصيته. فقالوا: نعم فقرأ الكتاب فإذا اسم عمر بن عبد العزيز ومِنْ بعده يزيد بن عبد الملك، فقام مكحول فقال: أين عمر بن عبد العزيز. وكان عمر في أواخر الناس، فاسترجع حين دُعِيَ باسمه مرتين أو ثلاثَاَ، فأتاه قوم فأخذوا بيده وعَضُدَيه، فأقاموه، وذهبوا به إلى المنبر فصعد وجلس على المرقاة الثانية، وللمنبر خمس مَرَاقِي، فكان أول من بايعه من الناس يزيد بن عبد الملك، وقام سعيد وهشام فانصرفا. ولم يبايعا، وبايع الناس جميعاً، ثم بايع سعيد وهشام بعد ذلك بيومين.

خلق عمر ودينه

وكان عمر في نهاية النسك والتواضع، فصرف عُمَّال مَنْ كان قبله من بني أمية، واستعمل أصْلَحَ من قدر عليه، فسلك عُمَّاله طريقته، وترك لَعن علي عليه السلام على المنابر، وجعل مكانه ربنا اغفر لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم وقيل: بل جعل مكانه ذلك "إن اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي " الآية، وقيل: بل جعلهما جميعاً، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة إلى هذه الغاية.

بين السدي وعمر

ولما استخلف عمر دخل عليه سالم السدي، وكان من خاصته، فقال له عمر: أسًرّكَ ما وَليتُ أم ساءك. فقال: سرني للناس وساءني لك قال: إني أخاف أن أكون قد أوْبَقْتُ نفسي، قال: ما أحْسَنَ حالك إن كنت تخاف، إني أخاف عليك أن لا تخاف، قال: عِظْنِي، قال: أبونا آدم اخرج من الجنة بخطيئة واحدة.

وكتب طاوس إلى عمر: إن أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة.

أول خطبة لعمر

ولما أفضى إليه الأمر كان أولى خطبة خطب الناس بها أن قال: أيها الناس، إنما نحن من أصول قد مضت وبقيت فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله، وإنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نُضُب المصائب مع كل جَرْعة شَرَق، وفي كل أكلة غَصَص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله.

بين عمر وعامله على المدينة

وكتب إلى عامله بالمدينة أن أقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، فكتب إليه: إن علياً قد وُلدَ له عدة قبائل من قريش ففي أي ولده، فكتب إليه: لو كتبت إليك في شاة تذبحها لكتبت إليّ أسود أم بيضاء، إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد عليّ من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تَخَطّتهم حقوقهم، والسلام.

وخطب في بعض مقاماته فقال بعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه: أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا إني لست بقاضٍ، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع، ولكني مُتَّبع، إن الرجل الهارب من الإِمام الظالم ليس بعاصٍ، ولكن الإِمام الظالم هو- العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

تقدير ملك الروم لعمر

وبعث عمر وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين، وحَقّ يدعوه إليه، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسِّرُ عليه، وهو جالس على سرير ملكه، والتاج على رأسه، والبطارقة عن يمينه وشماله، والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوا له، فتلقاهم بجميل، وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غَدٍ أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة، فقال: هل تدرون لماذا دعوتكم. قالوا: لا، قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاءني كتابه في هذا الوقت أن ملك العرب الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بَكَوْا، فقال: ألكم تبكون، أو لدينكم، أو له، قالوا: نبكي لأنفسنا ولديننا وله، قال لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم، فإنه قد خرج إلى خيرٍ مما خلف، قد كان يخاف أن يدع طاعة اللّه فلم يكن اللّه ليجمع عليه مخافة الدنيا ومخافة الآخرة، لقد بلغني من بره وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى يُحيى الموتى لظننت أنه يُحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطناً وظاهراً فلا أجد أمره مع ربه إلا واحداً، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكنى عجبت من هذا الذي صارت الدنيا تحت قدمِهِ فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا.

وصية الأعرج

وكتب عمر إلى أبي حازم المدني الأعرج أن أوصني وأوْجِزْ، فكتب إليه: كأنك يا أمير المؤمنين بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل، والسلام.

ووقّعَ إلى عامل من عماله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عَدَ لْتَ، وإما ا عتزلت، والسلام.

زهده بعد الخلافة

وذكر المدائني قال: كان يُشترى لعمر قبل خلافته الحلّة بآلف دينار، فإذا لبسها استخشنها ولم يستحسنها، فلما أتته الخلافة كان يُشترى له قميص بعشرة دراهم فإذا لبسه استلانه.

وخرج مع جماعة من أصحابه فمر بالمقبرة فقال لهم: قِفُوا حتى آتي قبور الأحبةِ فأسلم عليهم، فلما توسَّطها وقف فسلم وتكلم وانصرف إلى أصحابه فقال: ألا تسألوني ماذا قلت لهم وما قيل لي، فقالوا: وماذا قلت يا أمير المؤمنين وما قيل لك. قال: مررت بقبور الأحبة فسلمت عليهم فلم يردوا، ودعوت فلم يجيبوا، فبينا أنا كذلك إذا نوديت: يا عمر، أما تعرفني، أنا الذي غيرت محاسن وجوههم، ومزقت الأكفان عن جلودهم، وقطعت أيديهم، وأبَنْتُ أكفهم عن سواعدهم، ثم بكى حتى كادت نفسه أن تطفأ، فوالله ما مضى بعد ذلك إلا أيام حتى لحق بهم.

وذكر المدائني قال: كنت مطرف إلى عمر: أما بعد، فإن الدنيا دار عقوبة، لها يجمع مَنْ لا عقل له، وبها يغتر منْ لا علم له، فكن بها كالمداوي جرحه، واصبر على شدة الدواء، لما تخاف من عاقبة الداء.

بين عمر وعبد له

وذكر بعض الأخباريين أن عمر في عنفوان حداثته جنى عليه عبد له أسود جناية، فبطحه وهمَّ ليضربه، فقال له العبد: يا مولاي، لم تضربني. قال: لأنك جنيت كذا وكذا، قال: فهل جَنَيْتُ أنت جناية قط غضب بها عليك مولاك، قال عمر: نعم، قال: فهل عًجّل عليك العقوبة، قال: اللهم لا، قال العبد: فلم تعجل علي ولم يعجل عليك. فقال له: قم فأنت حرلوجه الله، وكان ذلك سبب توبته.

بين عمر وغلام ورد عليه في وفد الحجاز

وكان عمر يكثر هذا الكلام في دعائه فيقول: يا حليماً لا يَعْجَلُ على مَنْ عصاه. وذكر جماعة من الأخباريين أن عمر لما ولي الخلافة وفد عليه وفود العرب ووفد عليه وفد الحجاز، فاختار الوفد غلاماً منهم، فقدَموه عليهم ليبدأ بالكلام، فلما ابتدأ الغلام بالكلام وهو أصغر القوم سنآَ قال عمر: مهلاً يا غلام، ليتكلم من هو أسَنُّ منك فهو أولى بالكلام فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريْهِ لسانه وقلبه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظَاَ، وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحلية، يا أمير المؤمنين، ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أسن منك، قال: تكلم يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة قدمنا إليك من بلدنا، نحمد اللّه الذي مَنَّ بك علينا، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلى بلدنا، وأما الرهبة فقد أمَّنَنَا اللّه بعدلك مِنْ جورك، فقال: عظنا يا غلام وأوجز، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم اللّه عنهم، وطول أملهم، وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنّكَ حلم اللّه عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك، فتزلَّ قدمك، فنظر عمر في سن الغلام، فإذا هو قد أتت عليه بِضْعَ عَشْرَةَ سنةً، فأنشأ عمر رحمه الله يقول:

تَعَلّم فليس المرء يولد عالـمـاً

 

وليس أخو علم كمن هو جاهل

وإن كبير القوم لا علم عـنـده

 

صغير إذا التفّتْ عليه المحافل

قصة جارية عند قاضي المدينة

وقد كان رجل من أهل العراق أتى المدينة في طلب جارية وصفت له قارئة قوَّالة، فسأل عنها فوجدها عند قاضي المدينة، فأتاه وسأله أن يعرضها عليه، فقال: يا عبد اللّه، لقد أبْعَدْتَ الشقّة في طلب هذه الجارية، فما رغبتك فيها، لما رأى من شدة إعجابه بها، قال: إنها تغني فتجيد، فقال القاضي: ما علمت بهذا، فألح عليه في عَرْضها، فعرضت بحضرة مولاها القاضي، فقال لها الفتى: هات، فغنت:

إلى خالد حتى انخْنَ بـخـالـد

 

فنعم الفتى يُرْجى ونعم المؤمَّلُ

ففرح القاضي بجاريته وسُر بغنائها، وغشيه من الطرب أمر عظيم حتى أقعدها على فخده، وقال: هات شيئاً بأبي أنت، فغنت:

أروح إلى القصَّاص كل عشـية

 

أرجِّي ثواب اللَّه في عدَد الخُطا

فزاد الطرب على القاضي، ولم يدر ما يصنع، فأخذ نعله فعلَقَهَا في أذنه، وجثا على ركبتيه، وجعل يأخذ بطرف أذنه والنعل معلقة فيها، وهو يقول: أهدوني إلى البيت الحرام، فإني بَدنة حتى أدْمى أذنه، فلما أمسكت أقبل على الفتى فقال له: يا حبيبي، أنصرف، قد كنا فيها راغبين قبل أن نعلم أنها تقول، فنحن الآن فيها أرغب، فانصرف الفتى، وبلغ ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فقال: قاتله الله لقد استرقّه الطرب، وأمر بصرفه من عمله، فلما صرف قال: نساؤه طوالق لو سمعها عمر لقال اركبوني فإني مطية، فبلغ ذلك عمر فأشخصه وأشخص الجارية، فلما دخلا على عمر قال له: أعِدْ ما قلت، قال: نعم، فأعاد ما قال: فقال للجارية: قولي، فغنت:

كأنْ لم يكن بين ا لْحَجُون إلى الصفا

 

إنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمـكة سـامـر

بل، نحن كنا أهلـهـا، فـأبـادنـا

 

صروف الليالي والجدود العواثـر

فما فرغت من هذا الشعر حتى طرب عمر طرباً بيناً، وأقبل يستعيدها، ثلاثاً، وقد بَلّتْ دموعُهُ لحيته، ثم أقبل على القاضي فقال: قد قاربْتَ في يمينك، ارجع إلى عملك راشداً.

بين فتى أموي وجارية لبعض قريش

حدثنا الطوسي والأموي الدمشقي وغيرهما، عن الزبير بن بكار، عن عبد اللّه بن أحمد المديني، قال: كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد عثمان، وكان ظريفاً يختلف إلى قَيْنة لبعض قريش، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم، ويحبها ولا تعلم، ولم تكن محبة القوم إذ ذاك لريبة ولا فاحشة، فأراد يوماً أن يبلو ذلك، فقال لبعض من عنده: امض بنا إليها، فانطلقا، ووافاهما وُجُوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، وما كان فيهم فتى يَجِدُ بها وَجْدَه، ولا تجد بواحد منهم وَجْدَها بالأموي، فلما أن أخذ الناس مواضعهم قال لها الفتى: أتحسنين أن تقولي:

أحبكُمُ حبا بكـل جـوارحـي

 

فهل عندكمِ علم بما لَكُمً عندي

أتجزون بـالـود الـمـضـاعـف

 

مثله فإن كريماَ مَنْ جَزَى الود بالود

قالت: نعم، وأحسن منه، وقالت:

للذي وَدَّنَا المودَّةُ بالضعـف،

 

وفَضْلُ البادي به لا يُجَـازَى

لو بدا ما بنا لكـم مـلأ الأر

 

ض وأقطار شامها والحجازا

قال: فعجب الفتى من حِذْقها مع حسن جوابها وجودة حفظها فازداد كَلَفَا بها، وقال:

أنت عذر الفتى إذا هتك الستر

 

وإن كان يوسفَ المعصومـا

فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فاشتراها بعشر حدائق ووهبها له بما يصلحها فأقامت عنده حَوْلاً ثم ماتت، فرثاها، وقضى في حاله تلك نَحْبَه فدفنا معاً، وكان من مَرثَيته لها قولُه:

قد تمنيت جنة الخلد للخلد فادْخِلْتُهَا بـلا اسـتـئهـال

ثم أخرجت إذ تطّمعْتُ بالنعمة منها والموتُ أحمَدُ حال

وقال أشعب الطامع المدني: هذا سيد شهداء أهل الهوى، نحروا على قبره سبعين بَدَنَة، وقال أبو حازم الأعرج المدني: أما محب لله يبلغ هذا.

عمر والخوارج

وقد كان خرج في أيام عمر شوذب الخارجي، وقوي أمره فيمن خرج معه من المحكمة من ربيعة وغيرها، فحدث عباد بن عباد المهلبي، عن محمد بن الزبير الحنظلي، قال: أرسلني عمر إليهم، وأرسل معي عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان خروجهم بالجزيرة، وكتب عمر معنا إليهم كتابإً، فأتيناهم كتابه ورسالته، فبعثوا معنا رجلين منهم أحدهما من بني شييان والأخر فيه حبشية وهو أحَدُّهما لساناً وعارضة، فقدمنا بهما على عمر بن عبد العزيز وهو بخناصرة، فصعدنا إليه إلى غرفة هو فيها ومعه ابنه عبد الملك وكاتبه مُزَاحم، فذكَرنا مكانهما، فقال: فَتَشوهما لئلا يكون معهما حديد، ففعلنا، فلما دخلا قالا: السلام عليك، ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبر إني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا، وما نَقَمتم علينا، فتكلم الذي فيه حبشية فقال: والله ما نقمنا عليك في سيرتك، وإنك تجري بالعدل والإِحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتَنَاه فلست منا ولسنا منك، فقام عمر: وما هو. قال: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها المظالم، وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، فتكلم عمر فقال: إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لِدُنْياً، ولكن أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها، وإني سائلكم عن أمور، فباللّه لتصدقنني عنها، أرأيتما أبا بكر وعمر، أليسا من أسلافكم وممن تتولونهما وتشهدون لهما بالنجاة، قالا: بلى، قال: فهل علمتم أن أبا بكر حين قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم و ارتدَّتْ العرب قاتلهم فسفك الدماء وأخذ الأموال وسَبَى الذراري. قال: نعم، قال: فهل علمتم أن عمر حين قام بعد أبي بكر در تلك السبايا إلى أصحابها. قال: نعم، قال: فهل برىء عمر من أبي بكر؟ قالا: لا، قال: أفرأيتم أهل النهروان، أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة، قالا: بلى، قال: فهل علمتم أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كَفُّوا أيديهم فلم يسفكوا دماً ولم يخيفوا آمناً ولم يأخذوا مالاً. قالا: نعم، قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع الشيباني وعبد اللّه بن وهب الراسبي وأصحابه استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد اللّه بن حًبّاب بن الأرتِّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صًبّحُوا حيَاً من أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يُلقوا الصبيان في قدور الأقِطِ وهي تفور، قالا: قد كان ذلك،. قال: فهل تبرأ أهل البصرة من أهل الكوفة وأهل الكوفة من أهل البصرة. قالا: لا، قال: فهل تَبرِّءون أنتم من إحدى الطائفتين، قالا: لا، قال: أرأيتم الدين واحداً أم اثنين. قالا: بل واحداً، قال: فهل يَسَعُكم فيه شيء يعجز عني، قالا: لا، قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر، وتولى أحدهما صاحبه، وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة، وتولى بعضهم بعضاً، وقد اختلفوا في أعظم الأشياء في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم. أرأيتم لَعْنَ أهل الذنوب فريضةً مفروضةً لا بَدّ منها، فإن كانت كذلك فأخبرني أيها المتكلم متى عَهدُك بلعن فرعون. قال: ما أذكر متى لعنته، قال: ويحك، لم لا تلعن فرعون وهو أخْبَثُ الخلق ويسعني فيما زعمت لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم، ويحكم، إنكم قوم جُهَّال، أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تردُون على الناس ما قَبِلَه منهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، قالا: ما نحن كذلك، قال عمر: بل سوف تقرون بذلك الآن، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بُعِث إلى الناس وهمِ عَبدَة أوثان فدعاهم إلى خَلْع الأوثان وشهادة أن لا إلهَ إلا اللّه وأن محمداَ رسول اللّه، فمن فعل ذلك حَقَنَ دمه، وأحْرَزَ ماله، ووجبت حرمته، وكانت له أسوة المسلمين، قالا: نعم، قال: أفلستم أنتم تَلْقَوْنَ من يخلع الأوثان ويشهد أن لا إلهَ إلا الله وأن محمداً رسول اللّه فتستحلوا دمه وماله، وتلقون مَنْ ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان فيأمن عندكم وتحرمون دمه، قال الحبشي: ما سمعت كاليوم قَطُّ حُجَّةً أبْيَنَ وأقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنا بريء ممن برىء منك، فقال عمر للشيباني: فأنت ما تقول، قال: ما أحْسَنَ ما قلت، وأبْيَنَ ما وصفت، ولكنني لا افتأت على المسلمين بأمر حتى أعرض قولك عليهم فأنظر ما حجتهم، قال: فأنت أعلم، فانصرف، وأقام الحبشي، فأمر له عمر بعطائه، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، ولحق الشيباني بأصحابه فقتل معهم بعد موت عمر رحمه اللّه تعالى. ولعمر مع الخوارج أخبار غير ما ذكرنا، ومراسلات، ومناظرات، وكذلك لمن سلف من بني أمية وغيرهم من ولاة الأمصار، وقد أتينا على ذكرها وذكر كل من سَمَّتَه الخوارج بأمير المؤمنين وخاطبته بالإِمامة من الأزارقة والأباضية والحمرية والنجدات والخلقية والصفرية وغيرهم من أنواع الحرورية، وذكرنا مواضعهم من الأرض في هذا الوقت مثل مَنْ سكن منهم من بلاد شهرزور وسجستان وإصطخر من بلاد فارس وبلاد كَرْمَان وأذربيجان،و بلاد مكران وجبال عمان وهراة من بلاد خراسان والجزيرة وتاهرت السفلى وغيرها من بقاع الأرض، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وما ذَكَرنا من الرد عليهم في التحكيم، وغير ذلك في كتابنا المترجم بكتاب الانتصار المفرد لفرق الخوارج، وفي كتاب الاستبصار.

بعض شعراء الخوارج

وقد ذكَرنا جماعة من شعرائهم ممن سلف من أئمتهم: من ذلك قول مَصْقَلة بن عتبان الشيباني، وكان من عِلْية الخوارج:

وأبلغ أمير المـؤمـنـين رسـالة

 

وذو النصح إن لم يرع منك قريب

فإنك إن لاتَرْضَ بكـر بـن وائل

 

يكن لك يوم بالعراق عـصـيب

فإن يك منكم كَان مروان وابـنـه

 

وعمرو ومنكم هاشـم وحـبـيب

فمنا سويد والبطـين وقـعـنـب

 

ومنَّا أميرُالمؤمـنـين شَـبـيب

غَزَالة ذات النذر منـا حـمـيدة

 

لها في سهام المسلمين نـصـيب

ولا صُلْحَ مادامت منابر أرضـنـا

 

يقوم عليها من ثَقـيفَ خـطـيبُ

وكذلك ذكرنا أخبار أم شبيب، وما كانت عليه من الاجتهاد في ديانة المحكمة، وفيها يقول الشاعر:

أمُّ شبيب وَلَدَتْ شبيباً

 

هل تلد الذئبة إلا ذِيبا

بعض علماء الخوارج

وأخبار علمائهم كاليماني، وله كتب مصنفة في مذاهبهم، وعبد الله بن يزيد الأباضي، وأبى مالك الحضرمي، وقعنب، وغير هؤلاء من علمائهم، وقد كان اليمان بن رباب منعلية علماء الخوارج، وأخوه علي بن رباب من علية علماء الرافضة، هذا مقدَم في أصحابه، وهذا مقدَم في أصحابه، يجتمعان في كل سنة ثلاثة أيام يتناظران فيها، ثم يفترقان، ولا يسلم أحدهما على الاخر ولا يخاطبة، وكذلك كان جعفر بن المبشر من علماء المعتزلة وحُذاقها زهادها، وأخوه حنش بن المبشر من علماء أصحاب الحديث ورؤساء الحشوية بالضد من أخيه جعفر، وطالت بينهما المناظرة والمباغضة والتباين، وآلى كل واحد منهما ألا يخاطب الآخر إلى أن لحق بخالقه، وجعفر بن المبشروجعفربن حرب من علماء البغداديين من المعتزلة، وكان عبد اللّه بن يزيد الأباضي بالكوفة تختلف إليه أصحابه يأخذون منه، وكان خرازاً شريكاً لهشام بن الحكم، وكان هشام مقدّماً في القول بالجسم والقول بالإِمامة على مذهب القطيعية يختلف إليه أصحابه من الرافضة يأخذون عنه، وكلاهما في حانوت واحد، على ما ذكرنا من التضاد في المذهب من التشري والرفض ولم يجر بينهما مُسَابة، ولا خروج عما يوجبه العلم وقضية العقل وموجب الشرع وأحكام النظر والسير.

وذكر أن عبد الله بن يزيد الأباضي قال لهشام بن الحكم في بعض الأيام، تَعْلَم ما بيننا من الموفدة ودوام الشركة، وقد أحببْتُ أن تُنْكِحني ابنتك فاطمة، فقال له هشام: إنها مؤمنة، فأمسك عبد اللّه، ولم يُعَاوده في شيء من ذلك، إلى أن فرَّقَ الموت بينهما.

وكان من أمر هشام مع الرشيد وابن بَرْمَك ما قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا.

وذكر عن عمرو بن عُبَيْد أنه يقول: أخذ عمر بن عبد العزيز الخلافة بغير حقها، ولا باستحقاق لها، ثم استحقّها بالعدل حين أخذها.

الفرزدق يرثي عمر

وفي وفاة عمر رضي الله عنه يقول الفرزدق من أبيات يَرْثيه بها:

أقول لًمّا نَعَى النَّاعُون لي عُمَـرا

 

لقَدْ نَعَيْتُمْ قَوَامَ الـحـق والـدين

قد غيبَ الرَامِسُون اليوم إذْ رَمَسُوا

 

بِدَيْرِ سِمْعَان قِسْطَاسَ المَـوَازِينِ

لم يُلْهِهِ عمْرَهُ عَيْنٌ يُفَـجِّـرُهَـا

 

ولا النخيل ولارَكْضُ البـراذين

ولعمررحمة اللّه عليه خطب وأخبار حسان غير ما ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الزهد وغيره، وقد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا، والحمد للّه رب العالمين.

ذكر أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان

ومَلَكَ يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه عمر بن عبد العزيز، وهو يوم الجمعة لخمسٍ بِقين من رجب سنة إحدى ومائة، ويكنى أبا خالد وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وتوفي يزيد بن عبد الملك بإربد من أرض البلقاء من أعمال دمشق يوم الجمعة لخمسٍ بَقِين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، فكانت ولايته أربع سنين وشهراً ويومين.

ذكر لمع من أخباره وسيره وجمل من ما كان في أيامه

حبه سلامة القس

كان الغالِبُ على يزيد بن عبد الملك حُبَ جارية يقال لها سلامة القَسِّ، وكانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فاشتراها يزيد بثلاثة آلاف دينار، فأعجب بها، وغلبت على أمره، وفيها يقول عبد اللّه بن قيس الرقَيَّات:

لقد فتن الدنيا وسلامة القسـا

 

فلم يتركا للقس عقلاً ولا نفسا

فاحتالت أم سعيد العثمانية جَدَّلُه بشراء جارية يقال لها حَبَابة قد كان في نفس يزيد بن عبد الملك قديماً منها شيء، فغلبت عليه، ووهب سَلاَّمَة لأم سعيد، فَعَذَلَهُ مسلمة بن عبد الملك لما عم الناس من الظلم والجور، باحتجابه وإقباله على الشرب واللهو، وقال له: إنما مات عُمَر أمس، وقد كان من عدله ما قد علمت، فينبغي أن لَظهر للناس العدل، وترفض هذا اللهو، فقد اقتدى بك عُمَّالك في سائر أفعالك وسيرتك، فارتَدَعَ عما كان عليه، فأظهر الإِقلاع والندم، وأقام على ذلك مدة مديدة، فغلظ ذلك على حَبَابة، فبعثت إلى الأحوص الشاعر وَمَعْبد المغني: انظرا ما أنتما صانعان، فقاد الأحوص في أبيات له:

ألا لا تَلُمْـهُ الـيوم أن يَتـبـلـدا

 

فقد غلب المحزون أن يَتَجـلّـدَا

إذا كنت لم تعشق ولم تدرما الهوى

 

فكن حجراً من يابس الصّلدِ جَلْمَدَا

فما العيش إلا ما تلذ وتشـتـهـي

 

وإن لام فيه ذو الشنـانِ وَفـنـدَا

وغَنَّاه مَعْبد، وأخذته حَبَابة، فلما دخل عليها يزِيِد قالت: يا أمير المؤمنين اسمع مِنِّي صوتاً واحداً ثم افعل ما بَدَا لك، وغنَتْه، فلما فرغ منه جعل يردد قولها:

فما العيش إلا ماتلذوتشتهـي

 

وإن لام فيه ذو الشَّنَانِ وَفنداَّ

وعاد بعد ذلك إلى لَهْوِه وَقَصْفِه وَرفَضَ ما كان عليه.

يزيد وحبابة وشعر للفند الزماني

وذكر إسحاق بن إبراهيم المَوْصِلِيُّ قال: حدثني ابن سلام، قال: ذكر يزيد قول الشاعر:

ضَفَحْنَاعن بني ذُهْـل

 

وَقُلْنَا: القـوم إِخْـوَانُ

عسى الأيام أن اتَرْجِعْنَ

 

قَوْماً كالذي كـانـوا

فلما صَـرَّحَ الـشّـر

 

فَأَمْسى وَهْوَعُـرْيَان

مَشَيْنَا مِشْـيَة الـلّـيْثِ

 

غَدَا والليث غَضْبَـانُ

بِضرْب فِيهِ تَـوْهِـينٌ

 

وَتَخْضِـيع وإقـران

وَطَعْنًِ كَـفَـم الـزَقِّ

 

وَهَى وَالزِّقُّ مـلآن

وفي الـشـر نـجـاة

 

حِينَ لا يُنْجِيك إحْسَانُ

وهو شعر قديم يقال: إنه للفند الزماني في حرب البَسُوس، فقال لحبابة: غنيني به بحياتي، فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا شعر لا أعرف أحداً يغني به إلا الأحول المكي، فقال: نعم، قد كنت سمعت ابن عائشة يعمل فيه ويترك، قالت: إنما أخذه عن فلان بن أبي لهب، وكان حَسَنَ الأداء، فَوَجَّهَ يزيد إلى صاحب مكة: إذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى فلان ابن أبي لهب ألف دينار لنفقة طريقه واحمله على ما شاء من دَوَابِّ البريد، ففعل، فلما قدم عليه قال: غنّني بشعر الفِنْدِ، فغناه فأجاد وأحسن، وقال: أعدهُ، فأعاده فأجاد وأحسن وأطرب يزيد، فقال له: عَمَّن أخذت هذا الغناء. فقال: يا أمير المؤمنين، أخذته عن أبي، وأخذه أبي عن أبيه، فقال: لو لم تَرِثْ إلا هذا الصوت لكان أبو لهب قد وَرَّثكم خيراً كثيراً، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا لهب ماتِ كافراً مؤذياً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أعلم ما تقول، ولكني دخلتني له رقة إذ كان مجيداً للغناء، ووصله وكَساه ورده إلى بلده مكرماً. وكتب في عهد عمر إلى يزيد: إذا أمكنتك القدرة بالعزة فاذكر قدرة اللّه عليك، وقيل: إن هذا الكلام كتب به عمر إلى بعض عماله، وفيه زيادة- على ما ذكره الزبير بن بكار- وهي: إذا أمكنتك القدرة من ظلم العباد فاذكر قدرة الله عليك بما تأتي إليهم، وأعلم أنك لا تأتي إليهم أمراً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك، وأن اللّه يأخذ للمظلوم من الظالم، ومهما ظلمت من أحد فلا تظلمنَّ من لا ينتصرعليك إلا باللّه تعالى.

موت حبابة وجزع يزيد عليها

واعتلت حبابة فأقام يزيد أياماً لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياماً لا يدفنها جزعاً عليها حتى جيَّفَتْ، فقيل: إن الناس يتحدثون بجزعك، وإن الخلافة تجلُّ عن ذلك، فدفنها وأقام على قبرها، فقال:

فإن تَسْلُ عنك النفس أو تدع الهَوَى

 

فباليأس تَسْلُو النَّفْسُ لا بالتجـلـد

ثم أقام بعدها أياماً قلائل ومات.

حدث أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسحاق الموصلي، عن أبي الحُويرث الثقفي قال: لما ماتت حَبَابة حزن عليها يزيد بن عبد الملك حزناً شديداً، وضَمَّ إليه جويرية لها كانت تحدثها فكانت تخدمه، فتمثلت الجارية يوماً:

كفى حَزَناً للهائم الصب أن يَرَى

 

منازل من يهوى مُعًطّلة فقرا

فبكى حتى كاد أن يموت، ولم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حَبَابة حتى مات.

وكان يزيد ذات يوم في مجلسه وقد غنَّته حبابة وسَلاّمة فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حَبَابة: يا مولاي، فعلى مَنْ تَدعَ الأمة وتدعنا.

وكان أبو حمزة الخارجي إذا ذكَرَ بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبد الملك فقال: أقعد حَبَابة عن يمينه وسَلاَّمة عن يساره، ثم قال: أريد أن أطير، فطار إلى لعنة اللّه وأليم عذابه.

يزيد بن المهلب يخرج على يزيد بن عبد الملك

قال المسعودي: وقد كان يزيد بن المهلَّب بن أبي صًفْرة هرب من سجن عمر بن عبد العزيز، حين أثقل، وذلك في سنة إحدى ومائة، وصار إلى البصرة وعليها عَدِيُّ بن الفَزَاري، فأخذه يزيد بن المهلب، فأوثقه ثم خرج يريد الكوفة مخالفاً على يزيد بن عبد الملك، وحشدت له الأزد أحلافها، وانحاز إليه أهله وخاصته، وعظم أمره، واشتدت شَوْكته فبعث إليه يزيد أخاه مَسْلمة بن عبد الملك، وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، في جيش عظيم، فلما شَارَفَاه رأى يزيد بن المهلب في عسكره اضطرابا، فقال: ما هذا الاضطراب. قيل: جاء مَسْلمة والعباسَ قال: فوالله ما مَسْلمة إلا جرادة صفراء، وما العباس إلا نسطوس بن سطوس، وما أهل الشام إلا طَغَام قد حشدوا ما بين فلاح وزراع ودباغ وسفلة، فأعيروني أكفكم ساعة واحدة تصفعون بها خراطيمهم، فما هي لا غدوة أو روْحَة حتى يحكم اللّه بيننا وبين القوم الظالمين، علي بفرسي، فأتي بفرس أبلق، فركب غير متسلح، فالتقى الجيشان اقتتلوا قتالاً شديداً، وولى أصحاب يزيد عنه، فقتل يزيد في المعركة، وصبر وإخوته أنفسهم، فقتلوا جميعاً، ففي ذلك يقول الشاعر:

كل القبائل بايعوك على الـذي

 

تَدْعُو إليه طائعـين وسـاروا

حتى إذا حضرا لْوَغَى وجعلتهم

 

نُصْبَ الأسنة أسُلَمُوكَ وطاروا

إن يقتلوك فإن قتلك لـم يكـن

 

عاراً عليك وبَعْضُ قتل عـارُ

فلما ورد الخبر على يزيد بن عبد الملك استبشر، وأخذ الشعراء جميعاً يهجون آل المهلب، إلا كثيراً، فإنه امتنع من ذلك فقال له يزيد: حَرَّكتك الرحم يا أبا صخر، لأنهم يمانيون، ففي ذلك يقول جرير يمدح يزيد، ويهجو آل المهلب:

يا رُبَّ قوم وقوم حاسدين لـكـم

 

مافيهُم بَدَلٌ منكـم ولا حـلـف

آل المهلّب جَزَّ اللَّـه دابـرهـم

 

أمسوا رماداً فلا أصْلٌ ولا طرف

ما نالت الأزد من دعوى مُضِلِّهـم

 

إلا المعاصم، والأعناق تختطـف

والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهـم

 

فَقَتًلتهُمْ جنود اللَّه، وانتُـسِـفـوا

وهي طويلة، وفي ذلك يقول جرير أيضاً ليزيد من كلمة:

لقد تركت فلا نَعْدَمْكَ إذ كفـروا

 

آل المهلب عَظْماً غير مجبـور

يا ابن المهلب، إن الناس قد علموا

 

أن الخلافة للشُّمِّ الـمـغـاوير

صنيع يزيد في آل المهلب

وبعث يزيد هلال بن أحْوَزَ المازني في طلب آل المهلب، وأمره أن لا يلقى منهم من بلغ الحلم إلا ضرب عنقه، فأتبعهم حتى أتى قندابيل من أرض السند وأتى هلال بغلامين من آل المهلب، فقال لأحدهما: أدركت. قال: نعم، ومدَّ عنقه، فكان الآخر أشفق عليه فَعَضَّ شفته لئلا يظهر فضرب عنقه، وأثخن القتل في آل المهلب حتى كاد أن يفتيهم، فذكر أن آل المهلب مكثوا بعد إيقاع هلال بهم عشرين سنة يُولد فيهم الذكور فلا يموت منهم أحد، وفي مدح هلال بن أحْوَزَ وما فعَلَ يقول جرير:

أقول لها من ليلة ليس طولـهـا

 

كطول الليالي: لَيْتَ صُبْحك نَوَّرا

أخاف على نفسي ابن أحْوَزَ،إنـه

 

جلا كل هَمٍّ في النفوس فأسْفَرَا

جعلت بقبر بالحسـان ومـالـك

 

وقبر عدي في المقابر أقـبـرا

فلم يبق منهم راية تعرفـونـهـا

 

ولم يبق من آل المهلب عسكرا

وهي أبيات.

بين ابن هبيرة والشعبي وابن سيرين والحسن البصري

وقد كان يزيد بن عبد الملك- حين ولي عمر- بن هبيرة الفزازي العراق، وأضاف إليه خراسان واستقام أمره هنالك- بعث ابن هُبَيْرة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري وعامر بن شرحبيل الشعبي ومحمد بن سيرين، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد بن عبد الملك خليفة اللهّ استخلفه على عباده، وأخذ ميثاقهم بطاعته، وأخذ عَهْدَنا بالسمع والطاعة، وقد وَلإني ما ترون، يكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذه، وأقلده ما تقلّدَه من ذلك، فما ترون، فقال ابن سيرين والشعبي قَوْلاً فيه تقية، فقال عمر: ما تقول يا حسن. فقال الحسن: يا ابن هُبَيْرة خَفِ اللّه في يزيد، ولا تَخَفْ يزيد في اللّه، إن اللّه يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من اللّه، وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعَة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة،. إني أحذرك أن تعصي الله، فإنما جعل اللهّ هذا السلطان ناصراً لدين اللهّ وعباده، فلا تتركَنَ دين.اللّه وعباده بسلطان اللّه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وحكي في هذا الخبر أن ابن هبيرة أجازهم، وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي: سفسفنا فسفسف لنا.

بين يزيد وأخيه هشام

وذكر أن يزيد بن عبد الملك بلغه أن أخاه هشام بن عبد الملك ينتقصه، ويتمنَّى موته، ويعيب عليه لهوه بالقَيْنات، فكتب إليه يزيد: أما بعد فقد بلغني استثقالك حياتي، واستبطاؤك موتي، ولعمري إنك بعدي لواهي الجناح، أجْذَمُ الكف، وما استوجَبْت منك ما بلغني عنك، فأجابه هشام: أما بعد، فإن أمير المؤمنين متى فَرغ سمعه لقول. أهل الشنآن وأعداء النعم يوشك أن يقدح ذلك في فساد ذات البين، وتقطع الأرحام، وأمير المؤمنين بفضله وما جعله اللهّ أهْلاً له أولى أن يتغمد ذنوب أهْل الذنوب، فأما أنا فمعاذ اللهّ أن أستثقل حياتك أو أستبطىء وفاتك، فكتب إليه يزيد نحن مغتفرون ما كان منك، ومكذِّبون ما بلغنا عنك، فاحفظ وصية عبد الملك إيانا، وقوله لنا في ترك التباغي والتخاذل، وما أمر به وحَضَّ عليه من صلاح ذات البين واجتماع الأهواء، فهوخيرلك، وأمْلَكُ بك، وإني لأكتب إليك وأنا أعلم أنك كما قال الأول :

وإني على أشياء منك تَـرِيبـنـي

 

قديماً لذوصَفْحٍ على ذاك مُجْمِـل

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتـنـي

 

يمينَكَ، فانظـرأي كـف تـبـذل

وإن أنت لم تنصف أخاك وجـدتـه

 

على طرف الهجران إن كان يعقل

فلما أتى الكتاب هشاماً ارتحل إليه، فلم يزل في جواره مخافة أهل البغي والسعاية حتى مات يزيد.

وفاة عطاء بن يسار

وممن مات في أيام يزيد بن عبد الملك عطاء بن يَسَار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا محمد، وهو ابن أربع وثمانين سنة، وذلك في سنة ثلاث ومائة.

موت جماعة من العلماء

وفيها مات مجاهد بن جبر، مولى قيس بن السائب المخزومي، ويكنى أبا الحجاج، وهو ابن أربع وثمانين سنة. وجابر بن زيد، مولى الأزد، من أهل البصرة، ويكنى أبا الشَّعْثَاء. ويزيد بن الأصم، من أهل الرقة، وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن وَثَّاب الأسدي، مولى بني كنانة كان. وأبو بُردَةَ بن أبي موسى الأشعري، واسمه عامر، كوفي.

وفي سنة أربع ومائة مات وهب بن مُنَبِّه، ويقال: مات سنة عشر ومائة وفي سنة أربع ومائة هذه أيضاً مات طاوس.

وفي سنة خمس ومائة مات عبد اللّه بن جبير، مولى العباس بن عبد المطلب، ويُقال: إنه مولى مولى العباس.

وقيل: إن طاوس بن كَيْسَان- ويكنى أبا عبد الرحمن- مولى بجير الحميري مات بمكة سنة ست ومائة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك.

وفي سنة سبع ومائة مات سليمان بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عَطَاء بن يسار ويكنى أبا أيوب، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، بالمدينة، وقيل: إنه مات في سنة ثمان ومائة.

وفي سنة ثمان ومائة مات القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ومات الحسن بن أبي الحسن البصري، ويكنى أبا سعيد، في سنة عشر ومائة، واسم أبيه يَسَار مولى لامرأة من الأنصار، ومات وله تسع وثمانون سنة وقيل: تسعون سنة، وكان أكبر من محمد بن سيرين، ومات محمد بعده بمائة ليلة في هذه السنة وهو ابن إحدى وثمانين سنة، وقيل: ابن ثمانين.

محمد بن سيرين وإخوته

وكان أولاد سيرين خمسة إخوة: محمد، وسعيد، ويحيى، وخالد، وأنس بن سيرين، وسيرين مولى أنس بن مالك، والخمسة قد رَوَوْا السنن، ونقلت عنهم.

ووجدت أصحاب التواريخ متباينين ومختلفين غير متفقين في وفاة وهب ابن مَنَبِّه، ويكنى أبا عبد اللّه، فمنهم من ذكر وفاته على حسب ماقدَمنا في هذا الباب، ومنهم مَنْ رأى أنه مات سنة عشر ومائة بصنعاء، وكان من الأبناء، وهو ابن تسعين سنة.

وفي سنة خمس عشرة ومائة مات الحكم بن عتبة الكندي، وقيل: إنه مات فيها عَطَاء بن أبي رباح. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة مات أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب الزهريّ، وذكر الواقدي أنه مات سنة أربع وعشرين ومائة.

وليزيد بن عبد الملك أخبار حسان، ولما كان في أيامه من الكوائن والأحداث، وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما ذكرنا وفاة من سمينا من أهل العلم ونَقَلَة الآثار وحَمَلَة الأخبار ليكون ذلك زيادة في فاتحة الكتاب، فتكون فوائده عامة، إذ كان الناس في أغراضهم متباينين، وفيما يتيممونه من مآخذ العلم مختلفين، فمنهم طالبُ خَبَر، ومقلد لأثر، ومنهم ذو بحث ونظر، ومنهم صاحب حديث، ومُنقر عن علل، ومُرَاعٍ لوفاة مثل من ذكرنا، فجعلنا فيه لكل في رأي نصيبَاَ، وباللّه التوفيق.

ذكر أيام هشام بن عبد الملك بن مروان

وبويع هشام بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه أخوه يزيد بن عبد الملك، وهو يوم الجمعة بَقِينَ من شوال سنة خمس ومائة، وقُبض يزيد وله يومئذ ثمان وثلاثون سنة، وقيل: أربعون سنة، وتوفي هشام بن عبد الملك بالرُّصَافة من أرض قنسرين يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فكانت ولايته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وإحدى عشرة ليلة.

ذكر لمع من أخباره وسيره

أوصافه وأخلاقه

وكان هشام أحْولَ خشناً فظاً غليضاً، يَجْمَع الأموال، ويعمر الأرض، ويستجيد الخيل، وأقام الحلْبَة فاجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يُعْرَفْ ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل، واستجاد الكُسَي والفُرَشَ، وعدَدَ الحرب ولأمتها واصطنع الرجال، وقَوَّى الثغور، واتخذ القُنِيّ والبِرَكَ بطريق مكة، وغير ذلك من الآثار التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدولة العباسية.

وفي أيامه عُمِل الخز والقُطُف الخز، فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه، ومنعوا ما في أيديهم، فقل الإِفضال، وانقطع الرِّفْدُ، ولم ير زمان أصعب من زمانه.

استشهاد زيد بن علي

وفي أيامه استشهد زيد بن علي بن الحسين بن علي كرم اللّه وجهه، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل بل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقد كان زيد بن علي شَاوَرَ أخاه أبا جعفر بن علي بن الحسين بن علي، فأشار عليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة، إذ كانوا أهل غَدْر ومَكْر، وقال له: بها قتل جدُّكَ علي، وبها طعن عمك الحسن وبها قتل أبوك الحسين وفيها وفي أعمالها شتمنا أهْلَ البيت، وأخبره بما كان عنده من العلم في مدة ملك بني مروان، وما يتعقبهم من الدولة العباسية، فأبى إلا ما عزم عليه من المطالبة بالحق، فقال له: إني أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوبَ بَكُنَاسة الكوفة وودَّعة أبو جعفر، وأعلمه أنهما لا يلتقيان.

وقد كان زيد دخل على هشام بالرُّصَافَة، فلما مَثَلَ بين يديه لم ير موضعاً يجلس فيه، فجلس حيث انتهى به مجلسه، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه، ولا يصغر دون تقوى اللّه، فقال هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسُكَ في الخلافة، وأنت ابن أمَةٍ، قال: يا أمير المؤمنين، إن لك جوابً إن أجبتك به، وإن أحببت أمسكت عنه، فقال: بل أجِبْ، قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمَةً لأم إسحاق صلى الله عليهما وسلم، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبياً، وجعله للعرب أباً، فأخرج من صُلْبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول:

شَردًهُ الخـوف وأ زْرَى بـه

 

كذاك من يكره حر الجـلاد

منخرق الكفين يشكو الجـوى

 

تنكثه أطراف مَـرْوٍ حِـدَاد

قد كان في الموت لـه راحة

 

والموت خَتْم في رقاب العباد

إن يُحْـدِث الـلـه لـه دولة

 

يترك آثارالعدا كـالـرمـاد

فمضى عليها إلى الكوفة وخرج عنها، ومعه القراء والأشراف، فحاربه يوسف بن عمر الثقَفِي، فلما قامت الحرب انهزم أصحاب زيد، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال، وهو يقول متمثلاً:

أُلذَ الحياة وعـز الـمـمـات

 

وكلا أراه طـعـامـاً وبـيلا

فإن كـان لا بـدَ مـن واحـد

 

فَسِيرِي إلى الموت سيراً جميلا

وحال المساء بين الفريقين، فراح زيد مُثْخَناً بالجراح، وقد أصابه سهم في جبهته، " فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره، فاستخرج النصل، فمات من ساعته، فدفنوه في ساقيه ماء، وجعلوا على قبره! التراب والحشيش، وأجرى الماء على ذلك، وحضر الحجَّامُ مواراته فعرف الموضع، فلما أصبح مضى إلى يوسف متنصحاً، فدلَه على موضع قبره، فاستخرجه يوسف، وبعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن اصلبهُ عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية يخَاطب آل أبي طالب وشيعتهم من أبيات:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

 

ولم أرمَهْدِيّاً على الجذع يصلب

وبَنَى تحت خشبته عموداً، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذَرْوِه في الرياح.

صنيع العباسيين بقبور الأمويين

قال المسعودي: وحكى الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانىء، قال: خرجت مع عبد اللّه بن علي لنْبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح، فانتهينا إلى قبر هشام، فاستخرجناه صحيحاً ما فقدنا منه إلا خورمة أنفه، فضربه عبد اللّه بن علي ثمانين سوطاً، ثم أحْرَقَه، واستخرجنا سليمان من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلا صُلْبه وأضلاعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية، وكانت قبورهم بقنسرين، ثم انتهينا إلى دمشق، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك، فما وَجَدْنا في قبره قليلاً ولا كثيراً، واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شؤون رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا فيه إلا عظماً واحداً، ووجدنا مع لحمه خطاً أسود كأنما خط بالرماد في الطول في لحده، ثم اتبعنا قبورهم في جميع البلدان، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم.

وإنما ذكرنا هذا الخبر في هذا الموضع لقتل هشام زَيْدَ بن علي، وما نال هشاماً من المُثْلَة بما فعل بسلفه من الإحراق كفعله بزيد بن علي. وقد ذكر أبو بكر بن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيداً مكث مصلوباً خمسين شهراً عرياناً، فلم ير له أحد عورة، ستراً من اللّه له، وذلك بالكُنَاسة بالكوفة، فلما كان في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك وظهر ابنه يحيى بن زيد بخراسان كتب الوليد إلى عامله بالكوفة: أن أحرق زيداً بخشبته، ففعل ذلك به، وأذرى رماده في الرياح على شاطىء الفرات.

فرق الزيدية من الشيعة

وقد أتينا في كتابنا المقالات، في أصول الديانات على السبب الذي من أجله سميت الزيدية بهذا الاسم، وأن ذلك بخروجهم مع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، هذا، وقد قيل غير ذلك مما قد أتينا عليه فيما سلف من كتبنا، والخلاف بين الزيدية والإمامية، والفرق بين هذين المذهبين، وكذلك غيرهم من فرق الشيعة وغيرهم وقد ذكر جماعة من مصنفي كتب المقالات والآراء والديانات من آراء الشيعة وغيرهم كأبي عيسى محمد بن هارون الوَرَّاق وغيره، أن الزيدية كانت في عصرهم ثماني فرق: أولها الفرقة المعروفة بالجارودية وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي، وذهبوا إلى أن الإمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين، دون غيرهما، ثم الفرقة الثانية المعروفة بالمرئية، ثم الفرقة الثالثة المعروفة بالأبرقية، ثم الفرقة الرابعة المعروفة باليعقوبية، وهم أصحاب يعقوب بن علي الكوفي، ثم الفرقة الخامسة المعروفة بالعقبيَّة، ثم الفرقة السادسة المعروفة بالأبترية، وهم أصحاب كثير الأبتر والحسن بن صالح بن يحيى، ثم الفرقة السابعة المعروفة بالجريرية، وهم أصحاب سليمان بن جرير، ثم الفرقة الثامنة المعروفة باليمانية، وهم أصحاب محمد بن اليمان الكوفي، وقد زاد هؤلاء في المذهب، وفَرعُوا مذاهب على ما سلف من أصولهم، وكذلك فرق أهل الإِمامة فكانوا على ما ذَكَرَ مَنْ سلف من أصحاب الكتب ثلاثاً وثلاثين فرقة، وقد ذكرنا تنازع القطيعية بعد مضي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وما قالت الكيسانية، وما تباينت فيه وغيرها من سائر طوائف الشيعة، وهم ثلاث وسبعون فرقة، دون ما تباينوا فيه من التفريع، وتنازعوا فيه من التأويل، والغُلاَة أيضاً ثمان فرق: المحمدية منهم أربع، والمعتزلة أربع، وهم العلوية، ولولا أن كتابنا هذا كتاب خبر لبسطنا من مذاهبهم ووصفنا من آرائهم ما تقدم قبلنا وحَدَثَ في وقتنا هذا، وما قالوه من دلائل ظهور المنتظر الموعود بظهوره، وما ذهب إليه كل فريق منهم في ذلك من أصحاب الدور والسرو والتشريق، وغيرهم من أهل الإِمامة.

بين هشام ورجل من أهل حمص

وعرض هشام يوماً الجند بحمص، فمربه رجل من أهل حمص على فرس نَفَور، فقال له هشام: ما حملك على أن تربط فرساً نفورا، فقال الحمصي: لا والرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين، ما هو بنَفور، ولكنه أبصر حَولتك فظن أنها عين غزوَان البيطار، فقال له هشام: تنخَ فعليك وعلى فرسك لعنة اللّه، وكان عزوان البيطار نصرانياً ببلاد حمص كأنه هشام في حولته وكشفته.

هشام والأبرش الكلبي وجارية من جواري هشام

وبينما هشام ذات يوم جالساً خالياً وعنده الأبرش الكلبي إذ طلعت وصيفة لهشام عليها حُلّة، فقال للأبرش: مازحها، فقال لها الأبرش هَبي لي حُلّتك، فقالت له: لأنت أطمع من أشْعَب، فقال لها هشام: ومن أشعب؟ فقالت: كان مضحكاً بالمدينة، وحدثته بعض أحاديثه، فضحك هشام، وقال: اكتبوا إلى إبراهيم بن هشام وكان عامله على المدينة في حَمْله إلينا، فلما ختم الكتاب أطرق هشام طويلاً، ثم قال: يا أبرش، هشام يكتب إلى بلد رسول صلى الله عليه وسلم ليحمل إليه منه مضحك؟ لاها اللّه، ثم تمثل:

إذا أنت طَاوَعْتَ الهوى قَادكَ الهوى

 

إلى بعض ما فيه علـيك مـقـال

وأوقف الكتاب.

أمثلة من بخل هشام

وذكر أن هشاماً أهدى له رجل طائرين، فأعجب بهما، فقال له الرجل: جائزتي يا أمير المؤمنين، قال ويلك وما جائزة طائرين؟ قال له: ما شئت، قال: خذ أحدهما، فقصد الرجل لأحسنهما فأخذه، فقال له هشام: وتختار أيضاً؟ قال: نعم واللّه أختار، فقال: دَعْه، وأمر له بدريهمات. ودخل هشام بستاناً له ومعه ندماؤه فطافوا به، وبه من كل الثمار، فجعلوا يأكلون ويقولوَن: بارك اللهّ لأمير المؤمنين، فقال: وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه؟! ثم قال: أدع قيمه، فدعا به، فقال له: اقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل منه أحد شيئاً.

وكتب إليه ابنه سليمان: إن بَغْلَتِي قد عجزت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة، فكتب إليه هشام: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظن أن ذلك من قلّة تعاهدك لعلفها. وضياع العلف، فقم عليها بنفسك، ولعلَّ أمير المؤمنين يرى رأيه في حملانك.

ونظر هشام إلى رجل على برذَوْن طخاري، فقال: من أين لك هذا؟ قال: حَمَلَنِي عليه الجنيد بن عبد الرحمن، قال: وقد كثرت الطخارية حتى ركبها العامة؟ لقد مات عبد الملك وفي مربطه برذون واحد طخاري، فتنافس فيه ولده، حتى ظن مَنْ فاته أن الخلافة فاتته، قال الرجل: فحسدني إياه.

وقد كان أخوه مسلمة مازحة قبل أن يلي الأمر، فقال له: يا هشام، أتؤمل الخلافة وأنتَ جبان بخيل! فقال: واللّه إني عليم حليم.

السواس من بني أمية: وذكر الهيثم بن عديّ والمدائني وغيرهما أن السُّوَاس من بني أمية ثلاثة: معاوية، وعبد الملك، وهشام، وختمت به أبواب السياسة وحسن السيرة، وأن المنصور كان في أكثر أموره وتدبيره وسياسته متبعاً لهشام بن عبد الملك في أفعاله، لكثرة ما كشفه عن أخبار هشام وسيره.

وقد أتينا على غُرَرِ أخباره وسيره وسياسته، وما حفظ من أشعاره وخطبه، وما كان في أيامه، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وكذلك ذكرنا بَدء الكلام الذي أثار تصنيف الكتاب، المعروف بكتاب الواحدة في مناقب العرب ومَثَالبها مفرعة لا يشاركها فيها غيرها، وما أضيف إلى كل حي من أحياء العرب من قَحْطَان وغيرهم من نِزَار، وما جرى في مجلس هشام في أوقات مختلفة بين الأبْرَش الكلبي والعباس بن الوليد بن عبد الملك وخالد بن مَسْلَمة المخزومي والنضر بن مريم الحميري، وما أورده الحميري من منَاقب قومه من حِمْيَر وكَهْلاَن، وما أورده المخزومي من مَنَاقب قومه من نزار بن معد بن عدنان، وما ذكره كل واحد منهم من المَثَالبِ فيما عدا قومه، وبان عن عشيرته ورَهْطه، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألفه أبو عبيدة معمر بن المُثَنَّى مولى آل تَيْم بن مرة بن كعب بن لُؤَيّ، على لسان مَنْ ذكرنا، وعزاه إلى من وصفنا، أو غيره من الشعوبيه.

ذكر أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان

وبويع الوليد بن يزيد في اليوم الذي توفي فيه هشام، وهو يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، ثم قُتل بالبخراء يوم الخميس لليلتين بَقِيَتا من شهر جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، فكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً، وقُتل وهو ابن أربعين سنة، والموضع الذي قُتل فيه دُفن فيه، وهي قرية من قرى دمشق تعرف بالبخراء، على ما ذكرنا، وقد أتينا على خبر مقتله في كتابنا الأوسط. 

ذكر لمع من أخباره وسيره

ظهور يحيى بن زيد ومقتله

ظهر في أيام الوليد بن يزيد: يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رض الله عنهم، بالجوزجان من بلاد خراسان، مُنْكِراَ للظلم وما عَئمَ الناسَ من الجور، فسير إليه نَصْرُ بن سيار سَلْمَ بن أحْوَزَ المازني، فقتل يحيى في المعركة بقرية يقال لها أرعونة، ودفن هنالك، وقبره مشهور مَزُورٌ إلى هذه الغاية، وليحيى وقائع كثيرة، وقتل في المعركة بسهم أصابه في صُدْغه، فولّى أصحابه عنه يومئذ، واحتُزً رأسه، فحمل إلى الوليد، وصلب جسده بالجوزجان، فلم يزل مصلوباً إلى أن أخرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية، فقتل أبو مسلم سَلْم بن أحوز، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها في جماعة أصحابه ودفنت هناك، وأظهر أهل خراسان الذياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أمية، ولم يُولَدْ في تلك السنة بخراسان مولود إلا وسمي بيحيى أو بزيْدٍ، لما داخل أهل خراسان من الجزع والحزن عليه.

وكان ظهور يحيى فىِ أخر سنة خمس وعشرين، وقيل: في أول سنة ست وعشرين ومائة، وقد أتينا على أخباره وما كان من حروبه في الكتاب الأوسط، وفي غيره مما سلف من كتبنا، فأغنى ذلك عن إعادته. وكان يحيى يوم قتل يكثر من التمثل بشعر الخنساء:

نهِينُ النفوس، وَهون النفو

 

س يوم الكريهة أوفر لها

لهو الوليد وخلاعته

وكان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حَمَلَ المغنين من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشرب والملاهي وَالعَزْف، وفي أيامه كان ابن سُرَيج المغني، وَمَعْبَد، وَالغَريض، وابن عائشة، وابن مُحْرز، وَطُويَس، ودحمان، وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه، وعلى الخاص والعام، واتخذ القِيَان، وكان متهتكاً ماجناً خليعاً، وطرب الوليد لليلتين خلتا من ملكه وأرق فأنشأ يقول:

طَال لَيْلِي وَبِتُّ أسقَى السُّلاَفَه

 

وأتاني نَعِيُ مَنْ بِالرُّصَـافَةْ

وأتاني بـبـردة وقـضـيب

 

وأتاني بخاتم لِلْـخِـلافَـه

ومن مجونه قوله عند وفاة هشام، وقد أتاه البشير بذلك، وسَلّم عليه بالخلافة، فقال:

إني سمعت، خليلي،

 

نحو الرُّصَافة رَنَهْ

أقبلت أسْحَبُ ذَيلِي

 

أقول: ما حَالهنـه

إذا بنـات هـشـام

 

يَنْدُبْنَ وَالدَهـنـه

يدعون ويلاً وَعَوْلأ

 

وَالوَيْلُ حَلَّ بِهنـه

أنا المُخَنَثُ حَـقّـاً

 

إن لم أنيكنهـنـه

وقيل للوليد: ما بقي من لذاتك؟ قال: محادثة الإِخوان في الليالي القُمْر، على الكثبان العَفْر.

الوليد وشراعة بن زيد

وبلغ الوليد عن شراعة بن زيد ورود حسن عشرة وحلاوة مجالسة، فبعث في إحضِاره، فلما أدخل إليه قال: إني ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب ولا سُنَة، قال: ولست من أهلهما، قال: إنما أسألك عن القهوة، قال: سل عن أي ذلك شئت يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول في الشراب؟ قال: عن أية تسأل؟ قال: ما تقول في الماء؟ قال: يشاركني فيه البغل والحمار، قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: خُمَار وَأذىَ، قال: فنبيذ التمر؟ قال: ضُراط كله، قال: فالخمر؟ قال: شقيقة روحي، وأليفه نفسي، قال: فما تقول في السًمَاع؟ قال: يبعث مع التأني على ذكر الأشجان، ويجدِّدُ اللهو على مواقع الأحزان، ويؤنس الخليَ الوحيد، ويَسرُّ العاشق الفريد، ويبرد غليل القلوب، ويثير من خواطر الضمائر خطرة ليست من الملاهي لغيره، يسرع ترقيها في أجزاء الجسد، فتهيج النفس، وتقوي الحس، قال: فأي المجالس أحب إليك؟ قال: ما رأيت فيه السماء من غير أن ينالني فيه أذى، قال: فما تقول في الطعام؟ قال: ليس لصاحب الطعام اختيار ما وجده أكله، فاتخذه الوليد نديماً.

من قوله في الشراب

ومن مليح قوله في الشراب من أبيات:

وَصَفْرَاءَ في الكأس كالزعْفَرَان

 

سَبَاهَا لنا التَجْرُمِنْ عسـقَـلاَن

تُرِيك القَـذَاةَ وعـرض الإنـا

 

ء سَتْرٌ لها دون مسَ البَـنَـان

لها حَبَبٌ كلـمـا صُـفِّـقَـت

 

تراها كلمعة بَـرْقٍ يمـانـي

ومن مجونه أيضاً على شرابه قوله لساقيه:

آسْقِنِي يا يزيد بالقرقـاره

 

قَدْ طَرِبْنَا وَحَنَت الزمَارَه

اسقني اسقني، فإن ذنوبي

 

قد أحاطت فما لها كَفَّارَه

سمير الوليد يتحدث عنه

وأخبَرَنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي القاضي، عن محمد بن سلام الجمحي، قال: حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن أبيه، قال: كنت سميراً للوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة القرشي عنده وقد قال له: غنني، فغناه:

إني رأيت صبيحة النَـحْـر

 

حُوراً نَفَيْنَ عزيمة الصَّبْـر

مثل الكواكب في مطالعهـا

 

عند العشاء أطَفْنَ بالـبـدْر

وخرجت أبْغِي الأجر محتَسِباً

 

فرجعت مَوْقُوراً من الوزْر

فقال له الوليد: أحسنت واللّه يا أميري، أعِدْ بحقِّ عبدِ شمس، فأعاد، فقال: أحسنت واللّه، بحق أمية أعد، فأعاد، فجعل يتخطىّ من أب إلى أب ويأمره بالإِعادة، حتى بلغ نَفْسَه، فقال: أعد بحياتي، فأعاد، فقام إلى ابن عائشة فأكَبَّ عليه ولم يُبْق عضواً من أعضائه إلا قَبَّله، وأهْوَى إلى أيره يقبله، فجعل ابن عائشة يضم ذكره بين فخذيه، فقال الوليد: واللّه لا زلت حتى أقَبِّلَهُ، فأبرأه فقبل رأسه وقال: واطرباه واطرباه، ونزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقى مجرداً إلى أن أتوه بثياب غيرها، ودعا له بألف دينار فدفعت إليه، وحمله على بغلة له وقال: اركبها على بساطي، وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغَضَى.

ورث الوليد الخلاعة عن يزيد أبيه

قال المسعودي: وقد كان ابن عائشة عَنَى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك أباهُ فأطربه، وقيل: إنه ألحد وكفر في طربه، وكان فيما قال لساقيه: اسقنا بالسماء الرابعة، فكأن الوليد بن يزيد قد ورث الطرب في هذا الشعر عن أبيه، والشعر لرجل من قريش، والغناء لابن سريج، وقيل: لمالك، على حسب ما في كتب الأغاني من الخلاف في ذلك مما ذكره إسحاق بن إبراهيم الموصلي في كتابه في الأغاني وإبراهيم بن المهدي المعروف بابن شَكْلة في كتابه في الأغاني أيضاً، وغيرهما ممن صنف في هذا المعنى، والوليد يُدْعَى خليع بني مروان.

فعله بالمصحف وقد استفتح به

وقرأ ذات يوم ماله "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد" فدعا بالمصحف فنصبه غَرَضاً للنشّاب، وأقبل يرميه وهو يقول:

أتُوعِدُ كلُّ جبار عـنـيد

 

فها أنَا ذاك جبار عنـيد

إذا ماجِئْتَ ربك يوم حَشْر

 

فَقُلْ يارب خَرَّقَنِي الوليد

وذكر محمد بن يزيد المبرد النحوي أن الوليد ألحد في شِعْرٍ له ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأن الوحي لم يأته عن ربه، كَذَبَ أخزاه اللّه!! من ذلك الشعر:

تلعبَ بالخلافة هاشمـي

 

بلاوَحْيٍ أتاه ولا كتـاب

فقل للَّهِ يمنعني طعامي،

 

وقل للَّهِ يمنعنى شرابي!

فلم يُمْهَلْ بعد قوله هذا إلا أياماً حتى قتل.

وأم الوليد بن يزيد: أًم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثَّقَفِيَّة، ويكنى أبا العباس.

من خواص اليشب

وقد كان حمل إليه جفنة من البلور وقيل: من الحجر المعروف باليشسب وقد ذهب جماعة من الفلاسفة إلى أن مَنْ شَرِبَ فيه الخمر لا يسكر، وقد ذكرنا خاصية ذلك في كتاب القضايا والتجارب وأن من وضع تحت رأسه منه قطعةً أو كان فص خاتمه منه لم ير إلا رؤياً حسنة، فأمر الوليد فملئت خمراً وطلع القمر وهو يشرب وندماؤه معه، فقال: أين القمر الليلة؟ فقال بعضهم: في البرج الفلإني، فقال له آخر منهم: بل هو في الجفنة وقد كان القمر تبين في شعاع الجوهر وصورته في ذلك الشراب فقال له الوليد: واللّهِ ما تَعَدَّيت ما في نفسي، وطرب طرباً شديداً، وقال: لأصطبحَنَّ، هفت هفته، وهذا كلام فارسي تفسيره لأصطبحن سبعة أسابيِع، فدخل عليه بعض حجابه فقال: يا أمير المؤمنين، إن بالباب جمعاَ من وفود العرب وغيرهم من قريش، والخلافة تجلُّ عن هذه المنزلة، وتبعد عن هذه الحال، فقال: آسقوه، فأبى، فوضع في فمه قمح وجعلوا يسقونه حتى خَرِّما يعقل سكراً.

وقد كان أبوه أراد أن يعهد إليه، فلاستصغاره لسنه عهد إلى أخيه هشام، ثم إلى الوليد من بعده.

وكان الوليد مُغْرىً بالخيل وحبها وجمعها، وإقامة الحَلْبة، وكان السندي فرسه جواد زمانه، وكان يسابق به في أيام هشام، وكان يقصر عن فرس هشام المعروف بالزائد، وربما ضَامَّه، وربما جاء مُصَلِّياً.

مراتب خيل الحلبة

وهاك مراتب السوابق من الخيل إذا جَرَتْ، فأولُها السابقُ، ثم المصَلّي، وذلك أن رأسه عند صَلاَ السابق، ثم الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، والعاشر السُّكَّيت، مشحد، وما جاء بعد ذلك لم يعتد به، والفسكل: الذي يجيء في الحَلبة آخِرَ الخيل.

وأجرى الوليد الخيل بالرصافة، وأقام الحَلبة، وهي يومئذ ألفُ قارِح، ووقف بها ينتظر الزائد، ومعه سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وكان له فيها جواد يُقال له المصباح، فلما طلعت الخيل قال الوليد:

خَيْلِي وَرَبِّ الكَعبة المحرمـه

 

سبقْنَ أفرَاس الرِّجَال اللُّوَّمَه

كمَا سبقناهم وَحُزنا المكْرُمَه

 

 

كذاك كُنَّا في الدُّهُور القدمه

 

أهل العُلاَ والرتب المعظّمَه

فأقبل فرس ابن الوليد ويقال له: الوضاح أمام الخيل فلما دنا صرع فارسه، وأقبل المصباح فرسُ سعيدٍ يتلوه وعليه فارسه، وهو فيما يرى سعيد يعد سابقاً، فقال سعيد والوليد يسمع:

نحن سبقنا اليوم خيل اللُّوَّمَه

 

وَصَرَفَ اللَّه إلينا المكُرُمَه

كذاك كُنَا في الدُّهُورِ القدمه

 

أهل العًلاَ والرًّتَب المعظمة

فضحك الوليد لما سمعه، وخشي أن تسبق فرس سعيد، فركض فرسَهُ حتى ساوى الوضاح، فقذف بنفسه عليه، ودخل سابقاً، فكان الوليد أول من فعل ذلك وَسَنَّه في الحلبة، ثم تلاه في الفعل كذلك المهديّ في أيام المنصور، والهادي في أيام المهدي، ثم عرضت على الوليد الخيل في الحَلَبة الثانية، فمرّ به فرس لسعيد، فقال: لا نسابقك يا أبا عنبسة، وأنت القائل:

نَحْنُ سَبَقْنَا اليوم خيل اللومه

فقال سعيد: ليس كذا قلت يا أمير المؤمنين، وإنما قلت:

نَحْنُ سَبَقْنَا اليوم خيلا لومه

فضحك الوليد، وضمه إلى نفسه، وقال: لا عدمَتْ قريش أخاً مثلك.

وللوليد بن يزيد أخبار حسان في جمعه الخيولَ في الحلْبَة، فإنه اجتمع له في الحلبة ألف قارع، وجمع بين الفرس المعروف بالزائد والفرس المعروف بالسندي، وكانا قد برزا في الجري على خيول زمانهما، وقد ذكر ذلك جماعة من الأخباريين وأصحاب التواريخ، مثل ابن عفير والأصمعي وأبي عبيدة وجعفر بن سليمان، وقد أتينا على الغُرَر من أخباره في أخبار الخيل، وأخبار الحَلْبَات، وخبر الفرس المعروف بالزائد والسندي وأشقر مروان، وغير ذلك من أخبار من سلف من الأمويين، ومن تأخر، في كتابنا المترجم بالأوسط، وإنما الغرض من هذا الكتاب إيراده جوامع تاريخهم، ولُمَع من أخبارهم وسيرهم، وكذلك أتينا على ذكر ما يستحب من معرفة خلق الخيل وصفاتها من سائر أعضائها وعيوبها وخلقها، والشاب منها والهرم، ووصف ألوانها ودوائرها، وما يستحسن من ذلك، ومقادير أعمارها، ومنتهى بقائها، وتنازع الناس في أعداد هذه الدوائر، والمحودة منها والمذمومة، وَمَنْ رأى أنها ثماني عَشَرَةَ أو أقل من ذلك أو أكثر على حسب ما أدرك من طرق العادات بها والتجارب، ووصف السوابق من الخيل، وغير ذلك مما تكلم الناس به في شأنها وأعرافها، فيما سلف من كتبنا.

وفاة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين

وفي أيام الوليد بن يزيد كانت وفاة أبي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقد تنوزع في ذلك: فمن الناس من رأى أن وفاته كانت في أيام هشام، وذلك سنة سبعَ عشرةَ ومائة، ومن الناس من رأى أنه مات في أيام يزيد بن عبد الملك، وهو ابن سبع وخمسين سنة، بالمدينة، ودُفن بالبقيع مع أبيه علي بن الحنسين، وغيره مِنْ سَلَفِه رضي الله عنهم، مما سنورد ذكرهم فيما يرد من هذاالكتاب إن شاء اللّه تعالى، واللهّ ولي التوفيق.

ذكر أيام يزيد وإبراهيم ابني الوليد

ابن عبد الملك بن مروان

ولي يزيد بن الوليد بدمشق ليلة الجمعة لسبع بَقِين من جمادي الآخرة، فبايعه الناس بعد قتل الوليد بن يزيد، وتوفي يزيد بن الوليد بدمشق يوم الأحد هلال ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فكانت ولايته من مقتل الوليد بن يزيد إلى أن مات خمسة أشهر وليلتين، وقد كان إبراهيم بن الوليد أخوه قام بالأمر من بعده، فبايعه الناس بدمشق أربعة أشهر، وقيل: شهرين، ثم خُلِعَ، وكانت أيامه عجيبة الشأن من كثرة الهرج والاختلاط، واختلاف الكلمة، وسقوط الهيبة، وفيه يقول بعض أهل ذلك العصر:

نبايع إبراهيم في كلِّ جمـعة

 

إلا إن أمْراً أنت وَإليه ضائع

ودُفن يزيد بن الوليد بدمشق بين باب الجابية وباب الصغير، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ويقال: ابن ست وأربعين سنة على الخلاف في ذلك.

ذكرلمع مما كان في أيامهما

وصف يزيد الناقص

كان يزيد بن الوليد أحْوَلَ، وكان يلقب بيزيد الناقص، ولم يكن ناقصاً في جسمه ولا عَقْله، وإنما نَقصَ بعض الجندِ من أرزاقهم، فقالوا: يزيد الناقص، وكان يذهب إلى قول المعتزلة وما يذهبون إليه في الأصول الخمسة: من التوحيد، والعدل، والوعيد، والأسماء والأحكام وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قول المعتزلة في التوحيد

وتفسير قولهم فيما ذهبوا إليه من الباب الأول وهو باب التوحيد وهو ما اجتمعت عليه المعتزلة من البصريين والبغداديين وغيرهم، وإن كانوا في غير ذلك من فروعهم متباينين، من أن اللّه عز وجل لا كالأشياء وأنه ليس بجسم ولاعَرَضٍ ولاعنصر ولاجزء ولاجوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وأن شيئاً من الحواس لا يدركه في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنه لا يحصره المكان، ولا تحويه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حَدّ، وأنه الخالق للأشياء المُبْدِع لها لا من شيء، وأنه القديم، وأن ما سواه محدث. 

قولهم في العدل

وأما القول بالعدل وهو الأصل الثاني فهو أن اللهّ لا يحبُّ الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أمروا به وَنُهُوا عنه بالقدرة التي جعلها اللّه لهم وركبها فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد، ولم ينه إلا عما كره، وأنه وليُّ كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم مالا يطيقونه، ولا أراد منهم مالا يقدرون عليه، وأن أحداً لا يقدر على قَبْض ولا بَسْط إلا بقدرة اللّه التي أعطاهم إياها. وهو المالك لها دونهم يُفْنِيها إذا شَاءَ، وَيُبْقِيها إذا شَاءَ، ولو شاء لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطرارياً عن معصيته، ولكان على ذلك قادراً، غير أنه لا يفعل، إذ كان في ذلك رفع للمحنة، وإزالة البلوى.

قولهم في الوعيد

أما القول بالوعيد وهو الأصل الثالث فهو أن الله لا يغفر لمرتكب الكبائر إلا بالتوبة، وإنه لصادق في وعده ووعيده، لا مُبَدِّلَ لكلماته.

قولهم في المنزلة بين المنزلتين

وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع فهو أن الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمى فاسقاَ، على حسب ما ورد التوقيف بتسميته، وأجمع أهل الصلاة على فسوقه.

قال المسعودي: وبهذا الباب سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام، مع ما تقدم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار.

قولهم في الأمر بالمعروف

وأما القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأصل الخامس فهو أن ما ذكر على سائر المؤمنين واجب، على حسب استطاعتهم في ذلك، بالسيف فما دونه، وإن كان كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق.

فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة، ومن أعتقد ما ذكرنا من هذه الأصول الخمسة كان معتزلياً، فإن اعتقد الأكثر أو الأقل لم يستحق اسم الاعتزال، فلا يستحقه إلا باعتقاد هذه الأصول الخمسة، وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم. 

الاختلاف في الإِمامة

وقد أتينا على سائر قولهم في أصولهم وفروعهم وأقاويلهم وأقاويل غيرهم من فرق الأمة من الخوارج والمرجئة والرافضة والزيدية والحشوية وغيرهم في كتابنا المقالات في أصول الديانات وأفردنا بذلك كتابنا المترجم بكتاب الإبانة اجتبيناه لأنفسنا، وذكرنا فيه الفرق بين المعتزلة وأهل الإمامة، ومابان به كل فريق منهم عن الآخرة إذ كانت المعتزلة وغيرها من الطوائف تذهب إلى أن الإمامة اختيار من الأمة، وذلك أن الله عز وجل لم ينص على رجل بعينه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم و لا اجتمع المسلمون عندهم على رجل بعينه، وأن اختيار ذلك مفوَّضُ إلى الأمة تختار رجلاً منها ينفِّذُ فيها أحكامه، سواء كان قرشياً أو غيره من أهل ملّة الإسلام وأهل العدالة والإِيمان، ولم يراعوا في ذلك النّسَبَ ولا غيره، وواجب على أهل كل عصر أن يفعلوا ذلك.

والذي ذهب إلى أن الإِمامة قد تجوز في قريش وغيرهم من الناس هو المعتزلة بأسرها، وجماعة من الزيدية مثل الحسن بن صالح بن يحيى، ومن قال بقوله، على حسب ما قدمنا من ذكرهم فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار هشام. ويوافق على هذا القول جميع الخوارج من الأباضية وغيرهم، إلا النجدات من فرق الخوارج، فزعموا أن الإمامة غير واجب نصبها، ووافقهم على هذا القول أناس من المعتزلة ممن تقدم وتأخّر، إلا أنهم قالوا: إن عدلت الأُمة ولم يكن فيها فاسق لم يحتج إلى إمام.

وذهب من قال بهذا القول إلى دلائل ذكروها منها قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: لو أن سالماً حَيٌّ دخلتني فيه الظنون، وذلك حين فَوضَ الأمر إلى أهل الشُورَى، قالوا: وسالم مولى أمرأة من الأنصار، فلو لم يعلم عمر أن الإِمامة جائزة في سائر المؤمنين لم يطلق هذا القول، ولم يتأسف على موت سالم مولى أبي حذيفة.

قالوا: وقد صح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة، منها قوله "اسمعوا واطيعوا ولو لعبد أجْدَعَ " وقد قال اللّه عزّ وجلّ: "إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم".

وذهب أبو حنيفة، وأكثر المرجئة، وأكثر الزيدية من الجارودية وغيرها، وسائر فرق الشيعة والرافضة والراوندية، إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش فقط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإمامة في قريش" وقوله عليه السلام: " قَدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها" ولما احتج المهاجرون به على الأنصاو يوم ثقيفة بني ساعدة من أن الإمامة في قريش لأنهم إذا ولوا عدلوا، ولرجوع كثير من الأنصار إلى ذلك.

ولما انفرد به أهل الإِمامة من أن الإِمامة لا تكون إلا نصاً من اللهّ ورسوله على عَيْنِ الإمام واسمه واشتهاره كذلك، وفي سائر الأعصار لا تخلو الناس من حجةٍ للّه فيهم ظاهراً أو باطناً، على حسب استعمالة التقية والخوف على نفسه، واستدلوا بالنص على الإمامة، وبدلائل كثيرة من العقول وجوامع من النصوص في وجوبها، وفي النص عليهم، وفي عصمتهم، من ذلك قوله عز وجل مخبراً عن إبراهيم: "إني جاعلك للناس إماما"ومسالة إبراهيم بقوله: "ومن ذريتي" و إجابة اللهّ له بأنه "لا ينال عهدي الظالمين".

قالوا: ففيما تلونا دلائل على أن الإمامة نص من اللّه، ولو كان نصها إلى الناس ما كان لمسألة إبراهيم ربه وجه، ولما كان اللة قد أعلمه أنه اختاره، وقوله "لا ينال عهدى الظالمين" دلالة على أن عهده يناله من ليس بظالم.

ووصف هؤلاء الإمام فقالوا: نعت الإمام في نفسه: أن يكَون معصوماً من الذنوب، لأنه إن لم يكن معصوماً لم يؤمن أن يدخل فيما يدخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج أن يقام عليه الحد، كما يقيمه هو على غيره، فيحتاج الإِمام إلى إمام، إلى غير نهاية، ولم يؤمن عليه أيضاً أن يكون في الباطن فاسقاً فاجراً كافراً، وأن يكون أعلم الخليقة، لأنه إن لم يكن عالماً لم يؤمن عليه أن يقلب شرائع اللهّ وأحكامه، فيقطع من يجب عليه الحد، ويحد من يجب عليه القطع، ويضع الأحكام في غير المواضع التي وضعها اللهّ، وأن يكون أَشْجَعَ الخلق، لأنهم يرجعون إليه في الحرب، فإن جبن وهرب يكون قد باء بغضب من اللّه، وأن يكون أسْخَى الخلق، لأنه خازن المسلمين وأمينهم، فإن لم يكن سخياً تاقت نفسه إلى أموالهم، وشَرِهَتْ إلى ما في أيديهم، وفي ذلك الوعيد الشديد بالنار، وذكروا خصالاً كثيرة ينال بها أعلى درجات الفضل لا يشاركه فيما أحد، وأن ذلك كله وجد في علي بن أبي طالب وولده رضي اللهّ عنهم من السبق إلى الإِيمان، والهجرة، والقرابة، والحكم بالعدل، والجهاد في سبيل اللّه، والورع، والزهد، وأن اللّه قد أخبر عن بواطنهم وموافقتها لظواهرهم بقوله عز وجل، ووصفه لهم فيما صنعوه من الإِطعام للمسكين واليتيم والأسير، وأن ذلك لوجهه تعالى خالصاً، لا أنهم أبْدَوه بألسنتهم فقط وأخبر عن أمرهم في المنقلَبِ، وحسن المَوئل في المحشر، ثم إخباره عز وجل عما أذهب عنهم من الرجس، وفعل بهم من التطهير، وغير ذلك مما أوردوه دلائل لما قالوه، وأن علياً نص على ابنه الحسن، ثم الحسين، والحسين على علي بن الحسين، وكذلك مَنْ بعده إلى صاحب الوقت الثاني عشر، على حسب ما ذكرنا وسمينا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.
ولأهل الإِمامة من فرق الشيعة في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- كلام كثير في الغيبة واستعمال التقية، وما يذكرونه من أبواب الأئمة والأوصياء، لا يسعنا إيراده في هذا الكتاب، إذ كان كتاب خبر، وإنما تغلغل بنا الكلام إلى إيراد لمع من هذه المذاهب والآراء. وكذلك ما عليه غير أهل الإِمامة من أصحاب الدور والسيرورة، وما يراعونه من الظهور، وقد أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا، وما وصفنا فيها من الأقاويل في الظاهر والباطن والسائر والدائر والوافر، وغير ذلك من أمورهم وأسرارهم.

قال المسعودي: وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع شائعة من المعتزلة وغيرهم من أهل دَارَيّا والمِزَّة من غوطة دمشق على الوليد بن يزيد، لما ظهرمن فسقه، وشمل الناس من جوره، فكان من خبرمقتلِ الوليد ما قد ذكرناه فيما سلف من كتبنا مفصلاً، وذكرناه في هذا الكتاب مجملاَ.

أم يزيد أم ولد

وكان يزيد بن الوليد أول من ولي هذا الأمر وأمُهُ أم ولد، وكانت أمه سارية بنت فيروز بن كسرى، وهو الذي يقول في ذلك: أنا ابْنُ كِبسْرى، وأبي مَرْوان وَقَيْصَرٌ جدَي، وجدِّي خَاقَان.

وكان يكنى بأبي خالد، وأم أخيه إبراهيم أم ولد تدعى بدبرة، والمعتزلة تفضل في الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز، لما ذكرناه من الديانة.

ظهور مروان بن محمد الحمار

وفي سنة سبع وعشرين ومائة أقبل مَرْوَان بن محمد بن مروان من الجزيرة فدخل دمشق، وخرج إبراهيم بن الوليد هارباً من دمشق، ثم ظفر به مروان فقتله وصلبه، وقتل مَنْ مالأه ووالاه، وقتل عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد القَسْري، وبدأ أمر بني أمية يؤول إلى ضعف. وذكر اليحصبي عن الخليل بن إبراهيم السبيعي، قال: سمعت ابن الجمحي يقول: قال لي العلاء ابن بنت ذي الكلاع: إنه كان مؤانساً لسليمان بن عبد الملك لا يكاد يفارقه، وكان أمر المُسَودة بخراسان، والمشرق قد بان، ودنا من الجبل، وقرب من العراق، واشتد إرْجَافُ الناس، ونطق العدو بما أحب في بني أمية وأوليائهم، قال العلاء: فإني لَمَعَ سليمان وهو يشرب حذاء رصافة أبيه، وذلك في آخر أيام يزيد الناقص، وعنده حَكَم الوادي، وهو يغنيه بشعر فبعرجيَّ :

إن الحَبِيب تَرَوَّحَتْ أحمَاله

 

اصُلاً، فدمعك دائم إِسْبَالهُ

آقْنَ الحَيَاءَ فقد بكيْتَ لِعَوْلَةٍ

 

لوكان ينفع باكياً إِعْوَالـهُ

يا حبذَا تلك الحمول، وحبَّذَا

 

شَخْص هُنَاك، وحبًذَا أمثَالهُ

فأجاد بما شاء، فشرب سليمان بالرطل، وشربنا معه، حتى توسدنا أيدينا، فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي، فقمت إليه مسرعاً، فقلت له: ما شأن الأمير. فقال لي: على رِسْلِكَ، رأيت كإني في مسجد دمشق، وكأن رجلاً في يده خنجر وعليه تاج أرى بصيص ما فيه من جوهر، وهو رافع صوته بهذه الأبيات:

أبَنِي أمية قَدْ دَنَا تَشتيتـكـم

 

وذَهَابُ مُلْكِكُمُ وأن لا يرجع

وينال صفوتَهُ عدو ظـالـم

 

للمحسنين إليه ثمة يفـجـع

بعد الممات بكل ذكرصالـح

 

ياوَيْلَهُ من قُبْح ماقديَصْنَـعُ

فقلت: بل لا يكون ذلك، وعجبت من حفظه، ولم يكن من أصحاب ذلك، فَوَجَم ساعة ثم قال: يا حميري، بَعِيدُ ما يأتي به الزمان قريبٌ، قال: فما اجتمعنا على شرابٍ بعد ذلك.

ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان من أمر المُسَوِّدة ومروان بن محمد الجَعْدي ما كان. 

سبب زوال ملك الأمويين

وذكر المنقري قال: سئل بعض شيوخ بني أمية وَمُحصَليها عقيب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: ما- كان سبب زوال ملككم، قال: إنا شُغِلْنَا بِلَذَّاتِنَا عن تفقدِ ما كان تَفَقده يلزمنا فَظَلَمْنَا رعيتنا، فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة مِنَّا، وتحومل على أهل خراجنا، فَتَخَلّوْا عنا، وخربت ضياعنا، فخلَتْ بيوتُ أموالنا، ووثقنا بوزرائنا، فاثَرُوا مرافقهم على منافعنا، وَأَمْضوْا أموراً دوننا أَخْفَوْا علمها عنا، وتأخّرَ عطاء جندنا، فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا، فتظافروا معهم على حربنا، وَطَلَبنَا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوْكَدِ أسباب زوال ملكنا.

ذكر السبب في العصبية بين النزارية واليمانية

الكميت يعرض شعره على الفرزدق

ذكر أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي قال: لما قال الكميت بن زيد الأسدي- من أسد مضر بن نزار- الهاشمياتِ قَدِمَ البصرة ة فأتى الفرزدق فقال: يا أبا فراس، أنا ابن أخيك، قال: ومَنْ أنت. فانتسب له. فقال: صدقت فما حاجتك. قال: نُفِثَ على لساني، وأنت شيخ مضر وشاعرها، وأحببت أن أعرض عليك ما قلت، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان غير ذلك أمرتني بسَتْرِهِ وَسَتَرْتَه عَلَيَّ، فقال: يا ابن أخي، أحسب شعرك على قدر عقلك، فهات ما قلت راشداً، فأنشده:

طَرِبْتُ وَمَا شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

 

ولالعباً مِنِّي، وذُو الشيب يَلْـعَـبُ

قال: بلى فَالعَبْ، فقال:

وَلَمْ يُلْهِنِي دَارٌ، ولا رَسْمُ مَنْزِل

 

ولم يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَصَّـبُ

قال: فما يُطْرِبك إذاً. قال:

وما أنَا مِمَّنْ يَزْجُرُ الطيرهَمُّـهُ

 

أصاح غُرَابٌ أو تَعَرَّض ثعلَبُ

 

قال: فما أنت وَيْحك، وإلى مَنْ تَسْمُو، فقال:

وَمَا السانحات البَارِحَاتُ عَشِيَّةً

 

أمَرَّ سليمُ القَرْنِ أم مَر أعْضب

قال: أما هذا فقد أحسنت فيه، فقال:

ولكن إلى أهل الفضائل وَالنّهـى

 

وَخيْرِ بني حَوَّاء، وَالخَيْرُ، يطْلَبُ

 قال: ومَنْ هم وَيْحك. قال:

إلى النَّفَرِ البِيض الذِينَ بحبهم

 

إلى اللَّهِ فيما نابني أتقـرب

قال: أرِحْنِي وَيْحك مَنْ هؤلاء، قال:

بني هاشم رَهْطِ النبي، فإنـنـي

 

بِهِمْ وَلَهُمْ أرْضَى مِرَاراً وأغْضَبُ

قال: للَّهِ دَرُّك يا بُنَيَّ، أصبت فأحسنت، إذ عدلت عن الزعانف والأوباش، إذاً لا يُصرَّد سهمك، ولا يُكًذّبُ قولك، ثم مَرَّ فيها، فقال: أظهر ثم أظهر وكِدِ الأعداء، فأنت واللّه أشعر مَنْ مضى وأشعر عَنْ بقِيَ.

الكميت يعرض شعره على أبي جعفر محمد بن علي

فحينئذ قدم المدينة، فأتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، فأذن له ليَلاَ وأنشده، فلما بلغ من الميِمية قوله:

وقتيلٍ بالطَّفِّ غُودِرَ منهم

 

بين غوغاء أمة وَطَغَام

بكى أبو جعفر، ثم قال: يا كميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك، ولكن لك ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لحسان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذبيت عنا أهْلَ البيت، فخرج من عنده.

ثم يعرضه على عبد اللّه بن الحسن

فأتى عبد الله بن الحسن بن علي، فأنشده، فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة قد أعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشْهَدْتُ لك بذلك شهوداً، وناوله إياه فقال. بأبي أنت وأُمي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا واللهّ ما قلت فيكم شيئاً إلا للّه، وما كنت لاخُذَ على شىِء جعلته للهّ مالا ولا ثمناً، فألح عبد اللّه عليه، وأبى من إعفائه، فأخذ الكميت الكتاب ومضى، فمكث أياماً، ثم جاء إلى عبد اللّه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه إن لي حاجة، قال: وما هي، وكل حاجة لك مَقْضية، قال: كائنة ما كانت، قال: نعم، قال: هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة، ووضع الكتاب بين يديه،فقبله عبد اللّه.

عبد اللّه بن جعفر يثيب الكميت

ونهض عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم، ويقول: يا بني هاشم، هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمَتَ الناسُ عن فضلكم، وعًرّض دَمَه لبني أمية، فأثيبوه بما قدرتم، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، وأعلم النساء بذلك، فكانت المرأة تبعث ما أمكنها، حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها، فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة آلف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال: يا أبا المستهل، أتيناك بجهد المُقِلِّ، ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا لك هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك، فقال: بأبي أنت وآمي، قد أكثرتم وأطيبتم، وما أردت بمدحي إياكم إلا اللهّ ورسوله، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا، فاردده إلى أهله، فجهد به عبد اللّه أن يقبله بكل حيلة، فأبى، فقال: إن أبيت آن تقبل فإني رأيت أن تقول شيئاً تغضب به بين الناس، لعلّ فتنةً تحدث فيخرج من بين أصابعها بعض ما تحب، فابتدأ الكميت وقال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه من مضر بن نزار بن مَعَدّ وربيعة بن نزار وإيادٍ وأنمار ابني نزار، ويكثر فيها من تفضيلهم، ويُطْنُب في وصفهم، وأنهم أفضل من قَحْطَان، فغضب بها بين اليمانية والنزارية فيما ذكرناه وهي قصيدته التي أولها:

ألا حييتِ عَنَّا يا مـدِينـا

 

وَهَلْ نَاسٌ نقول مُسَلّمينا

إلى أن انتهى إلى قوله تصريحاً وتعريضَاَ باليمن فيما كان من أمر الحبشة وغيرهم فيها، وهو قوله:

لنا قمر السماء وكل نـجـم

 

تشير إليه أيدي المهـتـدين

وجدت الله إذ سمى نـزاراً

 

وأسْكَنَهُمْ بمكة قاطـنـينـا

لنا جَعَلَ المكَارِمَ خالصـاتٍ

 

وللناس القَفَا ولنا الجبـينـا

وما ضربت هجائن من نزار

 

فوالج من فُحُول الأعجمينا

وماحملوا الحمير على عِتَاقٍ

 

مُطَهَّرَة فيلفوا مُبْلِـغـينـا

وما وجَدت نساء بني نـزار

 

حلائل أسودين وأحمـرينـا

دعبل الخزاعي يرد على الكميت

وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزَاعِي هذه القصيدة على الكميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرها، وصَرَّح وعَرَّض بغيرهم، كما فعل الكميت، وذلك في قصيدته التي أولها:

أفيقي من ملامِكِ يَا مِعـينـا

 

كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأربَعِـينَـا

ألم تحزنكِ آحداث اللـيالـي

 

يشيبن الذوائب والـقـرونـا

أحيى الغُرَّ من سَرَوَات قومي

 

لقد حُيِّيتِ عَنَّا يا مَـدينـا؟؟؟

فإن يَكُ آل إِسرائيل منـكـم

 

وكُنتُم بالأعاجم فَـاخِـرِينَـا

فلا تَنْسَ الخنازير اللَّـواتـي

 

مُسِخْنَ مع القُرُودِ الخَاسِئِينَـا

بأيلة والخليج لـهـم رُسُـوم

 

"وآثار قدُمْنَ وما مُـحِـينَـا

وَمَا طلبُ الكميت طِلابُ وتْر

 

ولكنَّا لنصرتنـا هُـجِـينَـا

لقد علمت نِزَارٌ أن قـومـي

 

إلى نصْرِ النبوة فاخِـرِينَـا

كانت العصبية من دواعي زوال ملك بني أمية

وهي طويلة. ونمى قول الكميت في النزارية واليمإنية، وافتخرت نزار على اليمن، وافتخرت اليمن على نزار، وأدْلى كل فريق بماله من المناقب، وتحزبت الناس، وثارت العصبية في البدو والحضر فنتج بذلك أمر مَرْوَان بن محمد الجعدي، وتعصبه لقومه من نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية، وتغلغل الأمر إلى انتقال الدولة عن بني أمية، ثم ما تلا ذلك من قصة مَعن بن زائدة باليمن، وَقَتْلِهِ أهلها تعصباً لقومه من ربيعة وغيرها من نزار، وَقطْعه الحلف الذي كان بين اليمن وربيعة في القِدَم، وفعل عقبة بن سالم بعُمَان والبحرين، وقتله عبد القيس وغيرهم من ربيعة وسائر نزار ممن بأرض البحرين وعُمَان كياداً لمعن، وتعصباً من عقبة بن سالم لقومه من قحطان، وغير ذلك مما تقدم وتأخرمما كان بين نزار وقحطان.

ذكرأيام مروان بن محمد بن مروان ابن الحكم وهو الجعدي

وبويع مروان بن محمد بن مروان بدمشق يوم الأثنين لأرْبَعَ عَشَرَةَ ليلةً خَلَتْ من صفر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: إنما دعا إلى نفسه بمدينة حًران من ديار مُضَر، وبويع له بها، وأمه أم ولد يُقال لها ريا، وقيل: طرونة، كانت لمصعب بن الزبير، فصارت بعد مقتله لمحمد بن مروان أبيه، وكان مروان يكنى أبا عبد الملك، واجتمع أهْلُ الشام على بيعته، إلا سليمان بن عبد الملك وغيره من بني أمية، فكانت أيامه منذ بويع بمدينة دمشق من أرض الشام إلى مقتله خمس سنين وعشرة أيام، وقيل: خمس سنين وثلاثة أشهر، وكان مقتله في أول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومنهم مَنْ رأى أن ذلك كان في المحرم، ومنهم مَنْ رأى أن ذلك كان في صفر، وقيل غير ذلك مما تنازع فيه أهل التواريخِ والسير على حسب تنازعهم في مقدار ملكه فمنهم من ذهب إلى أن مدَته خمس سِنِينَ وثلاثة أشهر، ومنهم من قال: خمساً وشهرين وعشرة أيام، ومنهم من قال: خمساً وعشرة أيام، وكان مقتله ببوصير قريةٍ من قرى الذيوم بصعيد مصر، وقد تنوزع في مقدار سنه كتنازعهم في مقدار ملكه، فمنهم من زعم أنه قُتل وهو ابن سبعين سنة، ومنهم من قال: ابن تسع وستين، ومنهم من قال: اثنتين وستين، ومنهم من قال: ثمان وخمسين، وإنما نذكر هذا الخلاف من قولهم لئلا يظن ظَانٌ أننا قد أغْفَلْنَا ما ذكروه أو تركنا شيئاً مما وصفوه، مما إليه قصدنا في كتابنا هذا، وإن كنا قد أتينا على مبسوط ما قيل في ذلك، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.

وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب جُمَلاً من كيفية مَقْتَله وأخباره، وجوامع من سيره وحروبه، وما كان من أمر الدولتين في ذلك من الماضية وهي الأموية والمستقبلة في ذلك الزمان وهي العباسية مع إفرادنا باباً نذكر فيه جَوَامِعَ تاريخ ملك االأمويين، وهو الباب المترجم بذكر مقدار المدة من الزمان، وما ملكت فيه بنو أمية من الأعوام، ثم نُعَقَبُ ذلك بلمع من أخبار الدولة العباسية وأخبار أبي مُسْلم، وخلافة أبي العباس السَّفّاح ومَنْ تلا عَصْره من خلفاء بني العباس، إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من خلافة أبي إسحاق المتقي للّه إبراهيبم بن المقتدر بالله، إن شاء اللّه تعالى، واللّه ولي التوفيق.

ذكر مقدار المدة من الزمان وما ملكت فيه بنو أمية من الأعوام

كان جميع مُلك بني أمية إلى أن بويع أبو العباس السَّفَّاح ألف شهر كاملة لا تزيد ولا تنقص لأنهم ملكوا تسعين سنة، وأحد عشرشهراً، وثلاثة عشر يوماً.

قال المسعودي: والناس متباينون في تواريخ أيامهم، والمعَوَّلُ على ما نورده، وهو الصحيح عند أهل البحث وَمَنْ عُنِيَ بأخبار هذا العالم، وهو أن معاوية بن أبي سفيان مَلَك عشرين سنة، ويزيد بن معاوية ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً، ومعاوية بن يزيد شهراً وأحد عشر يوماً، ومروان بن الحكم ثمانية أشهر وخمسة أيام، وعبد الملك بن مروان إحدى وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً، والوليد بن عبد الملك تسع سنين وثمانية أشهر ويومين، وسليمان بن عبد الملك سنتين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً، وعمربن عبد العزيز رضي اللّه عنه سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، ويزيد بن عبد الملك أربع سنين وثلاثة عشريوماً، وهشام بن عبد الملك تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام، والوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة وثلاثة أشهر، ويزيد بن الوليد بن عبد الملك شهرين وعشرة أيام، وأسقطنا أيام إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك كإسقاطنا أيام إبراهيم بن المهدي أن يعد في الخلفاء العباسيين، ومروان بن محمد بن مروان خمس سنين وشهرين وعشرة أيام، إلى أن بويع السفّاح، فتكون الجملة تسعين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشريوماً، يضاف إلى ذلك الثمانية أشهر التي كان مروان يقاتل فيها بني العباس إلى أن قتل، فيصير مُلْكُهم إحدى وتسعين سنة وسبعة أشهروثلاثة عشر يوماً.

يُوضَع من ذلك أيام الحسن بن علي وهي خمسة أشهر وعشرة أيام وتوضع أيام عبد اللّه بن الزبير إلى الوقت الذي قتل فيه وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيام فيصير الباقي بعد ذلك ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، يكون ذلك ألف شهر سواء.

وقد ذكر قوم أن تأويلَ قوله عزّ وجلّ: "لَيْلَةُ القدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألفِ شَهْر" ما ذكرناه من أيامهم. وقد روى عن ابن عباس أنه قال: واللّه ليملكَنَّ بنو العباس ضعف ما ملكته بنو أمية: باليوم يومين، وبالشهر شهرين، وبالسنة سنتين، وبالخليفة خليفتين.

مدة ملك بني العباس

قال المسعودي: فملك بنو العباس في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانقضى مُلْك بني أمية، فَلِبَنِي العباس من وقت ملكهم إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة مائتا ستة، وذلك أن أبا العباس السفاح بويع له بالخلافة في ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانتهينا من تصنيفنا من هذا الكتاب إلى هذا الموضع في شهرربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في خلافة أبي إسحاق المتَقي لله والله أعلم بما يكون من أمرهم فيما يأتي به الزمان المستقبل بعد هذا الوقت من الأيام. وقد أتينا بحمد اللهّ فيما سلف من كتابينا أخبار الزمان والأوسط على الغُرَرِ من أخبارهم، والنوادر من أسمائهم، والطرائف مما كان في أيامهم وعهودهم، ووصاياهم، ومكاتباتهم، وأخبار الحوادث والخوارج في أيامهم من الأزارقة والأباضية وغيرهم، ومن ظهر من الطالبيين طالبأ بحق أوآمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، فقتل في أيامهم، وكذلك مَنْ تلاهم من بني العباس إلى خلافة المتقي للّه من سنتنا هذه وهي سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة وما ذكرنا في هذا الباب من جوامع التاريخ قد يخالف ما تقدم بسطه باليوم. أو العشرة أو الشهر عند ذكرنا لدولة كل واحد منهم وأيامه وهذا هو المُعَوَّل عليه من تاريخهم وَسِنِيهِمْ، والمفصل من مدتهم، واللّه أعلم، ومنه التوفيق.

ذكر الدوله العباسية ولمع من أخبار مروان ومقتله وجوامع من حروبه، وسيره

قول الراوندية في الخلافة

قد قدَّمْنَا في الكتاب الأوسط ما ذكرته الراوندية وهم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب، من أهل خراسان وغيرهم من أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قُبِضَ، وأن أحق الناس بالإمامة بعده العباس بن عبد المطلب لأنه عمفُه ووارثة. وعَصَبَته، لقول الله عز وجل: "وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه" وأن الناس اغتصبوه حقه، وظلموه أمره، إلى أن رَفَهُ اللّه إليهم، وتبرؤا من أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وأجازوا بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإزجاته لها، وذلك لقوله: يا ابن أخي، هَلُمَّ إلى أن أبايعك فلا يختلف عليك اثنان، ولقول داود بن عليّ على منبر الكوفة يوم بويع لأبي العباس: يا أهل الكوفة، لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم يعني أبا العباس السفاح.

من حوار فاطمة الزهراء وأبي بكر الصديق

وقد صنف هؤلاء كتباً في هذا المعنى الذي ادَّعَوْهُ هي متداولة في أيدي أهلها وَمُنْتَحِليها، منها كتاب صَنَفه عمرو بن بحر الجاحظ، وهو المترجم بكتاب إمامة ولد العباس يحتج فيه لهذا المذهب، ويذكر فعل أبي بكر في فدَكَ وغيرها وقصته مع فاطمة رضي اللّه عنها، ومطالبتها بإرثها من أبيها صلى الله عليه وسلم، واستشهادها ببعلها وابنيها وام أيْمَنَ، وما جري بينها وبين أبي بكر من المخاطبة، وما كثر بينهم من المنازعة، وما قالت، وما قيل لها عن أبيها عليه السلام، من أنه قال: "نحن معاشر الأنبياء نَرث ولا نورث" وما احتجت به من قوله عز وجل: "وورث سليمان داوُد" على أن النبوة لا تورث، فلم يبق إلا التوارث، و غير ذلك من الخطاب، ولم يصنف الجاحظ هذا الكتاب، ولا استقصى فيه الحَجَاجَ للراوندية، وهم شيعة ولد العباس، لأنه لم يكن مذهبه، ولا كان يعتقده، ولكن فعل ذلك تماجناً وتطربَاَ.

العثمانية للجاحظ

وقد صنف أيضاً كتاباً استقصى فيه الحِجَاجَ عند نفسه، وأيده بالبراهين وَعَضّده بالأدلة فيما تصوره من عقله، وترجمه بكتاب العثمانية، يحل فيه عند نفسه فضائل علي رضي الله عنه ومناقبه، ويحتج فيه لغيره، طلباً لإماتة الحق، ومضادة لأهله، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

كتب أخرى للجاحظ

ثم لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب العثمانية حق أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروإنية وأقوال شيعتهم، ورأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، في الانتصار له من علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وشيعته الرافضة، يذكر فيه رجال المروإنية، ويؤيد فيه إمامة بني أمية وغيرهم.

ثم صنف كتاباً اخر بكتاب مسائل العثمانية، يذكر فيه ما فاته ذكرأ ونقضه عند نفسه، من فضائل أمير المؤمنين علي ومناقبه فيما ذكرنا.

وقد نقضتُ عليه ما ذكرنا من كتبه ككتاب العثمانية وغيره، وقد نقضها جماعة من متكلمي الشيعة: كأبي عيسى الوراق، والحسن بن موسى النخعي، وغيرهما من الشيعة ممن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعاً ومفترقاً.

وقد نقض على الجاحظ كتاب العثمانية أيضاً رجل من شيوخ المعتزلة البغداديين ورؤسائهم، وأهل الزهد والديانة منهم، ممن يذهب إلى تفضيل علي والقول بإمامة المفضول وهو أبو جعفر محمد بن عبد اللّه الإسكافي وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين، وفيها مات أحمد بن حنبل، وسنذكر وفاة الجاحظ فيما يرد من هذا الكتاب، ووفاة غيره من المعتزلة، وإن كنا قد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا.

رأي الجريإنية في الإمامة

والذي ذهب إليه مَنْ تأخر من الراوندية وانتقل وتحبر عن جملة الكيسانية القائلة بإمامة محمد بن الحنفية وهم الجريإنية أصحاب أبي مسلم عبد الرحمن بن محمد صاحب الدولة العباسية، وكان يلقب بجريان أن محمد بن الحنفية هو الإمام بعد علي بن أبي طالب، وأن محمداً أوصى إلى ابنه أبي هاشم، وأن أبا هاشم أوصى إلى علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، وأن علي بن عبد اللّه أوصى إلى ابنه محمد بن علي، وأن محمداً أوصى إلى ابنه إبراهيم الإمام المقتول بحران، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس بن عبد الله بن الحارثية المقتول.

أصل أبي مسلم الخراسإني

وقد تنوزع في أمر أبي مسلم: فمن الناس من رأى أنه كان من العرب، ومنهم من رأى أنه كان عبداً فأعتق، وكان من أهل البرس والجامعين من قرية يُقال لها خرطينة، وإليها تضاف الثياب البرسية المعروفة بالخرطينية، وتلك من أعمال الكوفة وسَوَادها، وكان قهرماناً لإدريس بن إبراهيم العجلي، ثم آل أمره ونمت به الأقدار إلى أن أتصل بمحمد بن علي، بإبراهيم بن محمد الإِمام، فأنفذه إبراهيم إلى خُرَاسان، وأمر أهل الدعوة بإطاعته والإنقياد إلى أمره ورأيه، فقوي أمره وظهر سلطانه، وأظهم السواد، وصار زينة في اللباس والأعلام والبنود، وكان أول من سَوَّدَ من أهل خراسان بنيسابور وأظهر ذلك فيهم أسيد بن عبد اللّه، ثم نمى ذلك في الأكثر من المحن والكُوَر بخراسان، وقوي أمر أبي مسلم، وضعف أمر نصر بن سَتار صاحب مروان بن محمد الجعدي على بلاد خراسان، وكانت له مع أبي مسلم حروب أكثر فيها أبو مسلم الحَيَل والمكايد من تفريقه بين اليمإنية والنزارية بخراسان وغير ذلك مما احتال به على عدوه، وقد كان لنصر بن سَيَّار حروب كثيرة مع الكرمإني إلى أن قتل، أتَيْنَا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وذكرنا بدء أخبار الكرمإني جديع بن علي، وما كان بينه وبين سلم بن أحْوَزَ صاحب نصر بن سَيَّار، وما كان من أمر خالد بن بَرْمَك، وقَحْطبة بن شبيب، وغيرهما من الدُّعَاة والمقيمين بخراسان للدعوة العباسية: كسليمان بن كثير، وأبي داود خالد بن إبراهيم، ونظرائهم، وما كان من شعارهم عند إظهار الدعوة، وندائهم حين الحروب: محمد يا منصور، والسبب الذي له ومن أجله أظهروا استعمال السواد دون سائر الألوان.

بين نصر بن سيار ومروان بن محمد الجعدي

وطالت مكاتبة نصر بن سَيَّارٍ مروانَ، وإعلامه بما هو فيه، وإظهار أمر العباسية، وتزايده في كل وقت فكان فيما كتب به إليه إعلامه بحال أبي مسلم وحال مَنْ معه، وأنه كشف عن أمره وبحث عن حاله، فوجده يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس، وضمن كتابه أبياتاً من الشعر، وهي:

أرى بين الرَّمَادِ وميض جَمْر

 

ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تُـذْكَـى

 

وإن الحرب أولها الـكـلام

فإن لم تطفؤها تَجْنِ حـربـاً

 

مشمرة يشيب لها الـغـلام

أقول من التعجب: ليت شعري

 

أأيقـاظٌ أمـية أم نـــيام؟

فإن يَكُ قومنا أضحوا نـيامـاً

 

فقل: قوموا فقد حان القـيام

ففري عن رحالك، ثم قولـي:

 

على الإسلام والعرب السلام

فلما ورد الكتاب على مروان وَجده مشتغلاً بحروب الخوارج بالجزيرة وغيرها، وما كان من خبره في حروبه مع الضحاك بن قيس الحَرُوري حتى قتله مروان بعد وقائع كثيرة بين كفر توثي ورأس العين، وكان الضحاك خرج من بلاد شهرزور، ونضبت الخوارج بعد قتل الضحاك عليها الحري الشيبإني فلما قتل الحري ولًتِ الخوارج عليها أبا الذلفاء شيبان الشيبإني، وما كان من حروب مروان مع نعيم بن ثابت الجذامي، وكان خرج عليه ببلاد طبرية والأردن من بلاد الشام حتى قتله مروان، وذلك في سنة ثمانية وعشرين ومائة، فلم يدر مروان كيف يصنع في أمر نصر بن سَيَّار وخراسان وإنجازه لما هو فيه من الحروب والفتن، فكتب إليه مروان مجيباً عن كتابه: إن الشاهد يَرَى ما لا يراه الغائب فاحسم الثؤلولَ قَبَلَكَ، فلما ورد الكتاب على نصر قال لخواص أصحابه: أمَّا صاحبكم فقد أعلمكم أن لانَصْرَعنده،

بعض خلال وأعمال مروان بن محمد الجعدي

وأقامَ مروان أكثر أيامه لا يدنو من النساء إلى أن قتل، وبرزت له جارية من جواريه، فقال لها واللّه لادنوت منك، ولا حَللَتُ لك عقدة، وخراسَانُ ترجُفُ وتتضرم بنصر بن سيار، وأبو مجرم قد أخذ منه بالمخنَّق.

وكان مع ما هو فيه يُدِيم قراءة سير الملوك، وأخبارها في حروبها، من الفرس وغيرها من ملوك الأمم.

وَعَذَله بعضُ أوليائه ممن كان يأنس إليه في ترك النساء والطيب وغير ذلك من اللذات، فقال له مروان: يمنعني منهن ما منع أمير المؤمنين عبد الملِك، فقال له الرجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ حَمَل صاحب إفريقية إليه جارية ذات بهاء وكمال، تامة المحاسن، شهية للمتأمِّل، فلما وقَفَتْ بين يديه تأمل حسنها وبيده كتاب ورد من الحجاج وهو بدير الجماجم مُوَاقعاً لابن الأشْعَثِ، فرمى بالكتاب عن يده، وقال لها: أنت واللهّ منية النفس، فقالت الجارية: ما يمنعك يا أمير المؤمنين إذ كنتُ بهذا الوصف؟ قال: يمنعني واللّه منك بَيْتٌ قاله الأخطل:

قوم إذا حَارَبُوا شدوا مَآزِرَهُم

 

دونَ النساءِ ولو بَاتَتْ بأطْهَار

أألتذ بالعيش وابن الأشعث مُصَافٌّ لأبي محمد وقد هلكَتْ فيه زعماء العرب؟ لاها الله إداً، ثم أمر بصيانتها، فلما قتل ابن الأشعث كانت أول جارية خلابها.

نصريكتب لابن هبيرة يستنجده

ولما يئس نصر بن سَيَّار من إنجاد مروان كتب إلى يزيد بنٍ عمر هُبَيرة الفَزَاري عامل مروان على العراق يستمدُّه، ويسأله النّصْرَة على عدوه، وضَمّن كتابه أبياتاً من الشعر، وهي:

ابْلِعْ يزيد، وخيرُ القول أَصْـدَقُـه

 

وقدتَبَيَّنْتُ أن لاَ خَيْرَ في الكَـذب

بأنَّ أرضَ خُرَاسان رأيتُ بـهـا

 

بَيْضاً لَوَ افْرَخ قد حدثت بالعجب

فِرَاخُ عامينِ إلا أنَهَـا كـبِـرَت

 

لما يَطِرْنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّعَـب

فإنْ يَطِرْنَ ولم يًحْتَلْ لَهُنَّ بـهـا

 

يُلْهِبْنَ نيرانَ حرب أيما لـهـب

فلم يجبه يزيد بن عمر عن كتابه، وتشاغل بدفع فتن العراق.

دعاة إلى طالب الحق بالحجاز

ودخلت خوارج اليمن مكة والمدينة وعليهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة الأزدي، وهما فيمن معهما يدعون إلى عبد الله بن يحيى الكندي، وكان قد سمى نفسه بطالب الحق، وخُوطِبَ بأمير المؤمنين، وكأن أباضِيَّ المذهب من رؤساء الخوارج، وذلك في سنة تسع وعشرين ومائة.

مروان يجهز لحرب الخوارج

وفي سنة ثلاثين ومائة جَهَّز مروان بن محمد جيشاً مع عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، فلقي الخوارج بوادي القرى، فقُتِلَ بلخ، وفَرَّ أبوحمزة في بقيتهم إلى مكة، فلحقه عبد الملك، فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من الخوارج، وسار عبد الملك في جيش مروان من أهل الشام يريد اليمن، وخرج عبد اللّه بن يحي الكندي الخارجي من صنعاء، فالتقَوْا بناحية الطاثف وأرض جرش، فكانت بينهبم حرب عظيمة قتل فيها عبد اللّه بن يحيى وأكثر من كان معه من الأباضية، ولحق بقية الخوارج ببلاد حضرموت، فأكثرها أباضية إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ولا فرق بينهم وبين من بعُمَانَ من الخوارج في هذا المذهب، وسار عبد الملك في جيش مروان فنزل صنعاء، وذلك في سنة ثلاثين ومائة، وقد كان سليمان بن هشام بن عبد الملك اتصل بالخوارج بالجزيرة خوفاً من مروان، واحتوى عبدُ اللّه بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على بلاد إصْطَخْرَ وغيرها من أرض فارس، إلى أن رفع عنها وصار إلى خراسان، فقبض عليه أبو مسلم، وقد ذكرنا من يقول بإمامته، وينقاد إلى دعوته، في كتابنا "المقالات، في أصول الديانات " في باب تفرق الشيعة ومذاهبهم.

موت نصر بن سيار

وقوي أمر أبي مسلم، وغلب على أكثر خراسان، وضعف أمر نصربن سيار من عدم النَّجْدة، فخرج عن خراسان حتىِ أتى الريَّ، وخرج عنها، فنزل ساوة بين بلاد همذان والري، فمات بها كمداَ.

وقد كان نصر بن سيار لما صار بين الريِّ وخُرَاسان كتب كتاباً إلى مروان يذكر فيه خروِجه عن خراسان، وأن هذا الأمر الذي أزْعَجه سينمو حتى يملأ البلاد، وضمَّن ذلك أبياتاً من الشعر، وهي:

إنا وما نكْتُـمُ مـن أمـرنـا

 

كالثور إذ قُرِّبَ للـنـاخـع

أوكالتي يحسبهـا أهـلـهـا

 

عَنْراء بكرا ًوَهْيَ في التاسع

كفا نَرفِّيهَا فـقـد مُـزِّقَـت

 

واتسع الخرق على الراقـع

كالثَّوْب إذ أنهج فيه البـلـى

 

أعياعلى في الحيلة الصانع

خديعة مروان للقبض على إبراهيم الإمام

فلم يستتم مروان قراءة هذا الكتاب حتى مثل أصحابه بين يديه ممن كان قد وكل بالطرق رسولاً من خراسان من أبي مسلم إلى إبراهيم بن محمد الإِمام يخبره فيه خبره، وما آل إليه أمره، فلما تأمل مروان كتاب أبي مسلم قال للرسول: لا تُرَعْ، كم دفع لك صاحبك؟ قال: كذا وكذا، قال فهذه عشرة آلاف درهم لك، وإنما دفع اليك شيئاً يسيراً، وامْض بهذ الكتاب إلى إبراهيم، ولا تعلمه بشيء مما جرى، وخذ جوابه فائتِنِي به ففعل الرسول ذلك، فتأمل مروان جواب إبراهيم إلى أبي مسلم بخطه يأمر فيه بالجد والاجتهاد والحيلة على عدوه وغير ذلك من أمره ونَهْيِه، فاحتبس مروان الرسول، وكتب إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء فيسير إلى القرية المعروفة بالكرار والحُمَيْمة ليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقاً، ويبعث به إليه في خيل كثيفة، فوجهَ الوليد إلى عامل البلقاء فأخذ إبراهيم وهو جالس في مسجد القرية فأخذ وهو مُلَفف، وحمل إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه في السجن شهرين، وقد كان جرى بين إبراهيم ومروان خطب طويل حين مَثَلَ بين يديه، وأغلظ له إبراهيم، وأنكر كل ما ذكره له مروان من أمر أبي مسلم، فقال له مروان: يا منافق، اليس هذا كتابك إلى أبي مسلم جواباً عن كتابه اليك، وأخرج إليه الرسول، وقال: أتعرف هذا؟ فلما رأى ذلك إبراهيم أمْسَكَ، وعلم أنه أتى من مَأْمَنِهِ.

مقتل إبراهيم وجماعة معه

واشتد أمر أبي مسلم، وكان في الحبس مع إبراهيم جماعة من بني هاشم وبني أمية: فمن بني أمية عبد اللّه بن عمربن عبد العزيز بن مروان، والعباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان مروان قد خافهما على نفسه وخشي أن يخرجا عليه، ومن بني هاشم: عيسى بن علي، وعبد اللّه بن علي، وعيسى بن موسى، فذكر أبو عبيدة الثعلبي- وكان معهم في الحبس- أنه هَجَمَ عليهم في الحبس وذلك بحران جماعة من موالي مروان من العجم وغيرهم فدخلوا البيت الذي كان فيه أبراهيم والعباس وعبد اللّه، فأقاموا عندهم ساعة، ثم خرجوا وأغلق باب البيت، فلماِ أصبحنا دخلنا عليهم، فوجدناهم قد أتى عليهم، ومعهم غلامان صغيران من خدَمهم كالموتى، فلما رأونا أنسوا بنا، فسألناهم الخبر، فقالا: أما العباس وعبد اللّه فجعل على وجوههما مخاد وقعد فوقهما فاضطربا ثم بردا، وأما إبراهيم فإنهم جعلوا رأسه في جراب كان معهم فيه نورة مسحوقة، فاضطرب ساعة تم خمد.
وكان في الكتاب الذي قرأه مروان من إبراهيم إلى أبي مسلم أبيات من الرجز بعد خطب طويل، منها:

دونك أمراً قد بَدَتْ أشْرَاطـه

 

إن السبيل واضح صِرَاطُـه

لم يَبْقَ إلا السيف واخْتِرَاطُه

 

 

وقد ذكر في كيفية قتل إبراهيم الإمام من الوجوه غيرها ما ذكرنا، وقد أتينا على جميع ما قيل في ذلك في الكتاب الأوسط، وكذلك ما كان من قَحْطَبة وابن هُبَيْرة على الفرات، وغرق قحطبة فيه، ودخول ابنه الحسن بن قحطبة الكوفة.

موقعة الزاب بين عبد اللّه بن علي ومروان

وسار مروان حتى نزل على الزاب الصغير، وعقد عليه الجسر، وأتاه عبد اللّه بن علي في عساكر أهل خراسان وقوَادهم، وذلك لليلتين خلتا من جمادي الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فالتقى مروان وعبد اللّه بن علي، وقد كَرْدَسَ مروان خيله كراديس الفاً والذين، فكانت على مروان، فانهزم، وقتل وغرق من أصحابه خلق عظيم، فكان فيمن غرق في الزاب من بني أمية ذلك اليوم ثلثمائة رجل، دون من غرق من سائر الناس، وكان فيمن غرق في الزاب في ذلك اليوم من بني أمية إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وهو أخو يزيد الناقص، وقد قيل في رواية آخرى: إن مروان كان قد قَتَلَ إبراهيم بن الوليد قبل هذا الوقت وصَلَبه، وكانت هزيمة مروان من الزاب في يوم السبت لإِحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

أهل حران ومروان

ومضى مروان في هزيمته حتى أتى الموصل فمنعه أهلها من الدخول إليها، وأظهروا السواد لما رأوه من توليه الأمر عنه، وأتى حران وكانت داره، وكان مقامه بها وقد كان أهل حران قاتلهم اللّه تعالى حين أزيل لعن أبي تراب يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن المنابر يوم الجمعة امتنعوا من إزالته، وقالوا: لا صلاة إلا بلعن أبي تراب، وأقاموا على ذلك سنة حتى كان من أمر المشرق وظهور المسودة ما كان، وامتنع مروان من ذلك لانحراف الناس عنهم، وخرج مروان في أهله وسائر بني أمية عن حران، وعَبَرَ الفرات، ونزل عبد اللّه بن علي على باب حران، فهدم قصر مروان، وقد كان أنفق عليه عشرة ألاف ألف درهم، واحتوى على خزائن مروان وأمواله، وسار مروان فيمن معه من خواصه وعياله حتى انتهى إلى نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين والأردن فنزل عليه، وسار عبد اللّه بن علي حتى نزل دمشق فحاصرها وفيها يومئذ الوليد بن معاوية بن عبد الملك في خمسين ألف مقاتل، فوقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار ونزار على اليمن فقتل الوليد بن معاوية، وقد قيل: إن أصحاب عبد اللّه بن علي قتلوه.

مقتل مروان

وأتى عبد اللّه بن علي يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، فحملهما إلى أبي العباس السفاح، فقتلهما وصلبهما بالحيرة، وقَتَلَ عبد اللّه بن علي بدمشق خلقاً كثيراً، ولحق مروان بمصر، ونزل عبد اللّه بن عليّ عَلَى نهر أبي فطرس، فقتل من بني أمية هناك بضعاً وثمانين رجلأ، وذلك في يوم الأربعاء للنصف من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقتل بالبلقاء سليمان بن يزيد بن عبد الملك، وحمل رأسه إلى عبد اللّه بن عليّ، ورحل صالح بن علي في طلب مروان ومعه أبو عوف عبد الملك بن يزيد، وعامر بن إسماعيل المذ حِجي، فلحقوه بمصر وقد نزل بُوصِيرَ، فبايتوه، وهجموا على عسكره وضربوا بالطبول، وكبروا ونادوا: يالثارات إبراهيم، فظن مَنْ في عسكر مروان أن قد أحاط بهم سائر المسوّدة فقتل مروان، وقد اختلف في كيفية قتله في المعركة في تلك الليلة، وكان قتله ليلة الأحد لثلاث بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

ولما قَتَلَ عامرُ بن إسماعيل مروانَ وأراد الكنيسة التي فيها بنات مروان ونساؤه إذا بخادم لمروان. "شاهر السيف يحاول الدخول عليهن، فأخفوا الخادم، فسئل عن أمره، فقال: أمرني مروان إذا هو قُتِل أن أضرب رقاب بناته ونسائه فلا تقتلوني فإنكم واللّه إن قتلتموني ليفقدن ميراث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا له: انظر ما تقول، قال: إن كذبت فاقتلوني، هلموا فاتبعوني، ففعلوا، فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل، فقال: اكشفوا هنا، فكشفوا، فإذا البُرْد وَالقَضِيب ومِخْصَر قد دفنها مروان لئلا تصير إلى بني هاشم، فوجَّه بها عامر ابن إسماعيل إلى عبد اللّه بن علي، فوجهَ بها عبد اللّه إلى أبي العباسَ السفاح، فتداولت ذلك خلفاء بني العباس إلى أيام المقتدر، فيقال: إن البُرْد كان عليه في يوم مقتله، ولست أدري أكل ذلك باق مع المتقي للّه إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في نزوله الرقَّة أم قد ضَيع ذلك.

بنات مروان بين يدي صالح بن علي

ثم وجه عامر بنات مروان وجواريه والأسارى إلى صالح بن علي، فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى، فقالت: يا عَمَّ أمير المؤمنين، حفظ اللّه لك من أمرك ما يحبُّ لك حفظه، وأسعدك في الأمور كلها بخواص نعمه، وَعَمَّك بالعافية في الدنيا والآخرة، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا، قال: إذا لا نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة ألم يقتل أبوك بالأمس ابْنَ أخي إبراهيمَ بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس الإِمام في محبسه بحران؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين بن علي وصلبه في كُنَاسة الكوفة، وقتل امرأة زيد بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ ألم يقتل عبيد اللّه بن زياد الدعيُّ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسينَ بن عليّ عَلَى يدي عمربن سعد مع من قتل بين يديه من أهل بيته؟ ألم يخرج بحُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سَبَايَا حتى ورد بهنَّ على يزيد بن معاوية وقبل مَقْدَمِهِنَ بعث إليه برأس الحسين بن عليّ قد ثقب دماغه على رأس رُمْحٍ يُطَاف به كورَ الشام ومدائنها حتى قدموا به على يزيد بدمشق كأنما بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك.؟ ثم أوقف حُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم موقف السبي يتصفحهن جنودُ أهل الشام الجُفَاةُ الطَّغْام ويطلبون منه أن يهب لهمِ حُرَم رسول الله صلى الله عليه وسلم، استخفافا بحقه صلى الله عليه وسلم، وجراءةً على اللّه عز وجل، وكفراَ لأنْعُمِهِ، فما الذي استبقيتم منا أهل البيت؟ لو عدلتم فيه علينا!! قالت: يا عَمَّ أمير المؤمنين ليسعنا عفوكم إذاً، قال: أما العفو فنعم قد وسعكم، فإن أحببت زوجتك من الفضل بن صالح بن علي، وزوجت أختك من أخيه عبد اللّه بن صالح، فقالت: يا عم أمير المؤمنين، وأيّ أوان عرس هذا؟ بل تلحقنا بحرَّان، قال: فإذاً أفعل ذلك بكُنَّ إن شاء اللّه، فالحقهنَ بحرَّان، فَعَلَتْ أصواتهن عند دخولهن بالبكاء على مروان، وشَقَقْنَ جيوبهن، وَأعْوَلْنَ بالصياح والنحيب، حتى ارتج العسكر بالبكاء منهم على مروان. فكان مُلك مروان إلى أن بويع أبو العباس السَّفاح خمس سنين وشهرين وعشرة أيام على حسب ما قَدَّمنا ذكره في هذا الكتاب من التنازع في مدة أيامه، ومن وقت أن بويع أبو العباس السًفاح إلى أن قتل ببوصير ثمانية أشهر، فكانت مدة أيامه إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشْهُر وعشرة أيام، وقدمنا ما تنازعوا فيه من مقدار سنة وغير ذلك من أخباره، وقد أتينأ على مبسوط أخباره فيما سلف من كتبنا.

عبد الحميد بن يحيى الكانب

وكان كاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعد صاحب الرسائل والبلاغات، وهو أول من أطال الرسائل، واستعمل التحميدات في فصول الكتب، واستعمل الناسُ ذلك بعده.


وذكر أن مروان قال لكاتبه عبد الحميد حين أيْقَنَ بزوال ملكه: قد احْتَجْتُ أن تصير مع عدوي وتظهر الغدرَ بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حُرَمِي بعد وفاتي، فقال له عبد الحميد: إن الذي أشرتَ به عليَّ أنْفَعُ الأمرين لك، وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبرحتى يفتح اللّه أو أُقتل معك، وقال:

أسِر وَفَـاء ثـم أظـهـر غـدره

 

فمن لي بعذرٍ يُوسِعَ الناس ظاهره؟

وقد أتينا على خبر أبي الوِرد ومقتله، وخبر بشربن عبد اللّه الواحدي ومقتله، في كتابنا الأوسط، فأغْنى ذلك عن ذكره.
وذكر إسماعيل بن عبد الله القشيري قال: دعإني مروان وقد وافى على الهزيمة إلى حران، فقال: يا أبا هاشم، وما كان يكنيني قبلها، قد ترى ما جاء من الأمر وأنت الموثوق به، ولا مخبأ لِعِطْرٍ بعد عَرُوس، فما الرأي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، علام أجْمَعْت؟، قال: على أن أرتحل بموالي ومَنْ تبعني من الناس حتى أقطع الدَّرْبَ وأميل إلى مدينة في مدن الروم فأنزلها، وأكاتب صاحبها، وأستوثق منه، فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم، وليس هذا عاراً بالملوك، فلا يزال يأتيني من أصحابي الخائفُ والهارب والطامعُ فيكثر مَنْ معي، ولا أزال على ذلك حتى يكشف اللّه أمري وينصرني على عدوي، فلما رأيت ما أجمع عليه وكانَ الرَّأْيَ، ورأيت أثاره في قومي من قحطان وبلاءه عندهم، فقلت: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين من هذا الرأْي، تحكم أهل الشرك في بناتك وحرمك، وهم الروم، ولا وفاء لهم، ولا تدري ما تأتي به الأيام، وأنت إن حدث عليك حادث بأرض النصرإنية ولا يحدث عليك الا خير ضاع مَنْ بعدك، ولكن اقطع الفرات، ثم استنفر أهل الشام جنداً جنداً فإنك في كنف وعزة، ولك في كل جند صنائع، يسيرون معك حتى تأتي مصر، فإنها أكثر أرض اللهّ مالاً وخيلاً ورجالاً، ثم الشام أمامك وإفريقية خلفك، فإن رأيت ما تحبُّ انصرفت إلى الشام، وإن كانت الآخرى مضيت إلى إفريقية قال: صدقت، وأستخير اللّه، فقطع الفرات، واللّه ما قطعه معه من قيس إلا رجلان: ابن حمزة السلمي، وكان أخاه من الرضاعة، والكوثر بن الأسود الغنوي، ولم ينفع مروان تعصبه مع النزارية شيئاً، بل غدروا به وخذلوه، فلما اجتاز ببلاد قنسرين وَخُنَاصرة أوقعت تَنُوخُ القاطنةُ بقنسرين بساقته، ووثب به أهل حمص، وسار إلى دمشق، فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمرو القيسي، والمذحجيون جميعاً، ثم مر بفلسطين فوثب الحكم بن صنعان بن روح بن زنباع، لما رأوا من إدبار الأمر عنه، وعلم مروان أن إسماعيلِ بن عبد اللّه القشيري قد غَشًه في الرأي ولم يمحضه النصيحة، وأنه فرّط في مشورته إياه، إذ شاور رجلاً من قحطان موتوراً متعصباً مع قومه على أضدادهم مننزار، وأن الرأي كان الذي هَمَّ بفعله من قطع الدرب ونزول بعض حُصُون الروم ومكاتبته ملكها إلى أن يرتئي في أمره. وذكر المدائني والعتبي وغيرهما أن مروان حين نزل على الزاب جَردَ من رجاله، وَمَنِ اختاره من سائر جيشه من أهل الشام والجزيرة وغيرهم، مائة الفِ فارس على مائة الف قارح، فلما كان يوم الوقعة وأشرف عبد اللّه بن عليّ في المسودة، وفي أوائلهم البنود السُّودُ يحملها الرجال على الجمال البُخْت، وقد جعلت أقتابها من خشب الصفصاف والغرب، قال مروان لمن قَرُبَ منه: أما ترون رماحهم كأنها النخل غلظاً. أما ترون إلى أعلامهم فوق هذه الإبل كأنها قطع من الغمام سود. فبينا هو كذلك إذ طار من أفرجة هنالك قطعة من الغرابيب سود، فاجتمعت على أول رايات عبد اللّه بن عليّ، واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود، ومروان ينظر، فتطير من ذلك فقال: أما ترون السواد قد اتصل بالسواد، وكأنَّ الغرابيب كالسحب سواداً، ثم نظر إلى أصحابه المحاربين- وقد استشعروا الجزَعَ والفزع والفَشَل- فقال: إنها لعُدَّة، وما تنفع العدة إذا. انقضت المدة.

ولمروان على الزاب أخبار غير هذه قد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، فأغْنَى ذلك عن إعادة ذكرها، واللّه ولي التوفيق.