ذكر خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح

ذكر خلافة أبي العباس عبد اللّه بن محمد السّفّاح

وبويع أبو العباس السَّفاح- وهو عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب- ليلَةَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: إنه بويع يوم الأربعاء لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من شهرربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: في النصف من شهر جمادي الآخرة من هذه السنة، وامه رَيْطَة بنت عبيد اللّه بن عبد المَدَان الحارثية، وركب إلى المسجد الجامعِ في يوم الجمعة، فخطب على المنبر قائماً، وكانت بنوأمية تخطب قُعُوداَ، فضجَّ الناسُ وقالوا: أحييت السُّنة يا ابن عَمِّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وعشرين يوماً، ومات بالأنبار في مدينته التي بَنَاهَا، وذلك في يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل: ابن تسع وعشرين سنة، وكانت امه تحت عبد الملك بن مروان، فكان له منها الحجاج بن عبد الملك، فلما توفي عبد الملك تزوجها محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، فولدت منه عبد اللّه بن محمد السفاح، وعبيد اللّه، وداود، وميمونة.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

وصية إبراهيم الإمام له

ولما حبس إبراهيم الإمام بحرَّان، وعلم أن لا نجاة له من مروان، أثبت وصيته وجعلها إلى أخيه أبي العباس عبد اللّه بن محمد، وأوصاه بالقيام بالدولة والجدِّ والحركة وأن لا يكون له بعده بالحميمة لُبْثٌ ولا عَرَجَة حتى يتوجَّه إلى الكوفة فإن هذا الإمر صائر إليه لا محالة، وأنه بذلك أتتهمِ الرواية، وأظهره- على أمر الدُّعَاة بخراسان والنُّقَبَاء، ورسم له بذلك رسماَ أوصاه فيه أن يعمل عليه ولا يتعدَّاه، ودفع الوصية بجميع ذلك إلى سابق الخوارزمي مولاه، وأمره إنْ حَدَث به حَدَثٌ من مروان في ليل أو نهار أن يجدَّ السير إلى الحميمة حتى يدفع وصيته إلى أخيه أبي العباس، فلما قضى إبراهيم نَحْبَه أسرع سابق في السير حتى أتى الحميمة فدفع الوصية إلى أبي العباس ونَعَاه إليه، فأمره أبو العباس بستر الوصية وأن ينعاه، ثم أظهر أبو العباس أهلَ بيته على أمره، ودعا إلى مؤازرته ومكاشفته أخاه أبا جعفر عبد اللهّ بن محمد، وعيسى بن موسى بن محمد ابن أخيه، وعبد اللّه بن علي عمه، وتوجَّه أبو العباس إلى الكوفة مسرعاً، وهؤلاء معه في غيرهم ممن خَفَّ من أهل بيته، فلقيتهم أعرابية على بعض مياه العرب في طريقهم إلى الكوفة، وقد تقدمَ أبو العباس وأخوهُ أبو جعفر وعمه عبد اللهّ بن علي فيمن كان معهم إلى الماء، فقالت الأعرابية: تاللّه ما رأيت وجوهاً مثل هذه ما بين خليفة وخليفة وخارجي، فقال لها أبوجعفر المنصور: كيف قلت يا أمَةَ اللّه. قالت: واللهّ ليلينّهَا هذا، وأشارت إلى السفاح، ولتخلُفَنَّهُ أنت، وليخرجَنَّ عليك هذا، وأشارت إلى عبد اللّه بن علي، فلما انتهوا إلى دومة الجندل لقيهم داود بن علي وموسى بن داود، وهما منصرفان من العراق إلى الحميمة من أرض الشراة، فسأله داود عن مسيره، فأخبره بسببه، وأعلمه بحركة أهل خراسان لهم مع أبي مسلم، وأنه يريد الوثوب بالكوفة، فقال له داود: يا أبا العباس، تَثِبُ بالكوفة ومروان شيخ بني أمية وزعيمهم في أهل الشام والجزيرة مُطِلٌّ على أهل العراق، وابن هُبَيْرة شيخ العرب في جلّة العرب بالعراق، فقال أبو العباس: يا عَمَّاه، من أحب الحياة ذل، وتمثل بقول الأعشى:

فما مَيْتَةٌ إن مُتُّهَا غيرعـاجـز

 

بِعَار،إذا ما غالت النفسَ غُولُهَا

فالتفت داود إلى ابنه موسى، فقال: أيْ بني، صدق ابن عمك، ارجع بنا معه نحيا أعزاء أو نموت كراماً، فعطفا ركابهما معه، وسار أبو العباس حتى دخل الكوفة.

وقد كان أبو سَلَمة حفص بن سليمان- حين بلغه مقتل إبراهيم الإمام- أضْمَرَ الرجوع عما كان عليه من الدعوة العباسية إلى آل أبي طالب.

مقدم السفاح الكوفة

وقدم أبو العباس الكوفة فيمن ذكرنا من أهل بيته سراً، والمسودة مع أبي سلمة بالكوفة، فأنزلهم جميعاً دار الوليد بن سعد في بني أوْدٍ حي من اليمن، وقد ذكرنا مناقب أود وفضائلها فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار الحجاج، وبراءتهم من عليّ والطاهرين من ذريته، ولم أر إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- فيما دُرْتُ من الأرض وتغربت من الممالك رجلاً من أود الا وجدته- إذا استبطنت ما عنده- ناصبياً متولياً لآل مروان وحزبهم. وأخفى أبو سَلَمة أمر أبي العباس ومن معه، ووكل بهم وكيلاً، وكان قدوم أبي العباس الكوفة في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفيها جرىَ البريد بالكتب لولد العباس، وقد كان أبو سَلَمة لما قتل إبراهيم الإِمام خاف انتقاض الأمر وفساده عليه، فبعث بمحمد بن عبد الرحمن بن أسلم وكان أسلم مولىً لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد اللّه جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإلى أبي محمد عبد اللّه بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم أجمعين، يدعو كلَّ واحد منهما إلى الشخوص إليه. ليصرف الدعوة إليه، ويجتهد في بيعة أهل خراسان له، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ، فلا تكونَنَّ كوافد عاد، فقدم محمد بن عبد الرحمن المدينة على أبي عبد الله جعفربن محمد فلقيه ليلاً، فلما وصل إليه أعلمه أنه رسول أبي سَلَمة، ودفع إليه كتابه، فقال له أبو عبد اللهّ وما أنا وأبو سَلَمة. وأبو سَلَمة شيعة لغيري، قال: إني رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت، فدعا أبو عبد اللّه بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق، وقال للرسول: عرف صاحبك بما رأيت، ثم أنشأ يقول متمثلاً بقول الكميت بن زيد:

أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوءهـا

 

ويا حاطباً في غيرحبلك تحطب

فخرج الرسول من عنده وأتى عبد اللّه بن الحسن فدفع إليه الكتاب فقبله وقرأَه وابتهج به، فلما كان من غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتابُ ركب عبد اللّه حماراً حتى أتى منزل أبي عبد اللّه جعفربن محمد الصادق، فلما راه أبو عبد اللّه أكبر مجيئه، وكان أبو عبد اللّه أسَنِّ من عبد اللهّ، فقال له: يا أبا محمد، أمْرٌ ما أتى بك، قال: نعم وهوأجَلُّ من أن يوصف، فقال: وما هو يا أبا محمد. قال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله، وقد تقدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان، فقال له أبو عبد اللّه: يا أبا محمد، ومتى كان أهل خراسان شيعة لك. أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان، وأنت أمرته بلبس السواد. وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وَجَّهت فيهم، وهل تعرف منهم أحداً. فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام، إلى أن قال: إنما يريد القوم ابني محمداً لأنه مهديُّ هذه الأُمة، فقال أبو عبد اللهّ جعفر: واللّه ما هو مهدي هذه الأُمة، ولئن شهر سيفه ليقتلن، فنازعه عبد اللهّ القول، حتى قال له: واللّه ما يمنعك من ذلك الا الحسد، فقال أبوعبد اللّه: واللّه ما هذا نصح مني لك، ولقد كتب اليً أبوسلمة بمثل ما كتب به اليك، فلم يجد رسوله عندي ما وجد عندك، ولقد أحرقْتُ كتابه من قبل أن أقرأه، فانصرف عبد اللّه من عند جعفر مغضباً، ولم ينصرف رسول أبي سلمة إليه إلى أن بويع السفاح بالخلافة وذلك أن أبا حميد الطوسي دخل ذات يوم من المعسكر إلى الكوفة فلقي سابقاً الخوارزمي في سوق الكناسِة فقال له: اسابق، قال: سابق فسأله عن إبراهيم الإِمام، فقال: قتله مروان في الحبس، وكان مروان يومئذ بحرَّان، فمال أبو حميد: فإلى مَنِ الوصية، قال: إلى أخيه أبي العباس، قال: وأين هو، قال: معك بالكوفة هو وأخوه وجماعة من عمومته وأهل بيته، قال: مُذْ متى هم هنا، قال: من شهرين، قال: فتمضي بنا إليهم، قال: غداً بيني وبينك الموعد في هذا الموضع، وأراد سابق أن يستأذن أبا العباس في ذلك، فانصرف إلى أبي العباس فأخبره، فلامه إذ لم يأت به معه إليهم، ومضى أبو حميد فأخبر جماعة من قوَّاد خراسان في عساكر أبي سَلَمة بذلك، منهم أبو الجهم وموسى بن كعب، وكان زعيمهم، وغدا سابقٌ إلى الموضع، فلقي أبا حميد، فمضَيَا حتى دخلا على أبي العباس ومن معه فقال: أيكم الإمام، فأشار داود بن علي إلى أبي العباس، وقال: هذا لخيفتكم، فأكبَّ على أطرافه يقبلها، وسَلّم عليه بالخلافة، وأبو سلمة لا يعلم بذلك، وأتاه وجوهُ القواد فبايعوه، وعلم أبو سلمة بذلك فبايعه، ودخلوا إلى الكوفة في أحسن زي، وضربوا له مصافاً، وقُدِّمت الخيول، فركب أبو العباس ومن معه حتى أتوا قصر الإمارة، وذلك في يوم الجمعة لاثنتي عشرَةَ ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب تنازُعَ الناس في أي شهر بويع له من هذه السنة. ثم دخل المسجد الجامع من دار الإمارة، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر تعظيم الرب ومننه، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهت إليه، ووعَدَ الناس خيراً، ثم سكت، فتكلم عمه داود بن علي وهو على المنبر دون أبي العباس، فقال: إنه واللّه ما كان بينكم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، خليفة الا عليٌّ عليه السلام وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي، ثم نزلا.

ثم خرج أبو العباس إلى عسكر أبي سَلَمة فنزل في حجرته، واستخلف على الكوفة وأرضها عَمَّه داود بن علي، وبعث بعمه عبد اللهّ بن على إلى أبي عون عبد الملك بن يزيد، فسارا معاً إلى مروان، فكان من أمرهم ما قدمنا ذكره من التقائهم على الزاب، وهزيمة مروان بن محمد.

عامر بن إسماعيل قاتل مروان

واتصل بأبي العباس السفاح ما كان من عامر بن إسماعيل وقتله لمروان ببوصير وقيل: إن ابن عم لعامر يِقال له نافع بن عبد الملك كان قتله في تلك الليلة في المعركة وهو لا يعرفه، وإن عامراً لما احتز رأس مروان واحتوى على عسكره دخل إلى الكنيسة التي كان فيها مروان، فقعد علي فرشه وأكل من طعامه، فخرجت إليه ابنة مروان الكبرى، وتعرف بأم مروان، وكانت أسَنَّهُنَّ، فقالت: يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن فُرُشه حتى أقعدك عليها فأكلت من طعامه واحتويت على أمره، وحكمت في مملكته، لقادرأن يغيرما بك من نعمة.

بين السفاح وعامر بن إسماعيل

وبلغ السفاح فعلُه وكلامها، فاغتاظ من ذلك، وكتب إليه: ويلك أما كان لك في أدب الله عز وجل ما يزجرك عن أن تأكل من طعام مروان وتقعد على مهاده، وتتمكن من وساده. أما واللّه لولا أن أمير المؤمنين تأول ما فعلت على غير اعتقاد منك لذلك ولا شهوة لمَسَّك من غضبه وأليم أدبه ما يكون لك زجراً، ولغيرك واعظاً، فإذا أتاك كتابُ أمير المؤمنين فتقرب إلى اللّه تعالى بصدقة تطفىء بها غَضَبه، وصلاة تظهربها الاستكانة، وصُمْ ثلاثة أيام، ومُرْ جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك.

رأس مروان بينِ يدي السفاح

ولما أتي أبو العباس برأس مروان ووضع بين يديه سجد فأطل السجود ثم رفع رأسه فقال: الحمد للّه الذي لم يبق ثأري قبلك رهطِك، والحمد للّه الذي أظفرني بك، وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني المرت، قد قتْلتً بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم. وتمثل:

لويشربون دمي لَمْ يُرْوِشاربهم

 

ولادماؤهُم للغيظ تـروينـي

ثم حَوَّلَ وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقوله العباس بن عبد المطلب من أبيات له:

أبى قومُنَا أن ينصفونا، فأنْصَفَتْ

 

قَوَاطِعُ في أيماننا تقطر الدمـا

تورثن من أشياخ صدق تقربوا

 

بهن إلى يوم الوغى فتقـدمـا

إذا خالطَتْ هام الرجال تركنها

 

كَبَيْض نعام في الوغى متحطما

وقالت الشعراء في أمر مروان فأكثرت. وذكر أبو الخطاب عن أبي جعدة بن هبيرة المخزومي- وكان أحَدَ وزراء مروان وسُمَّاره، وقد كان لما ظهر أمر أبي العباس انضاف إلى جملته وصار في عداد أصحابه وخواصه الذين اتخذهم- أنه كان في ذلك اليوم حاضراً لمجلس أبي العباس ورأسُ مروان بين يديه، وهو يؤمئذ بالحميمة،و أن أبا العباس التفت إلى أصحابه فقال: أيكم يعرف هذا. قال أبو جعدة: فقلت أنا أعرفه، هذا رأس أبي عبد اللّه مروان بن محمد خليفتنا، بالأمس رضي اللّه عنه، قال: فحدقت اليَّ الشيعة فأخذتني بأبصارها، قال لي أبو العباس: في أي سنة كان مولده، قلت: سنة ست وسبعين، فقام وقد تغير لونه غيظاً علي، وتفرق الناس من المجلس، وانصرفْتُ وأنا،نادم على ما كان مِني، وتكلم الناس في ذلك وتحدثوا به، فقلت: هذه زلة واللّه لا تُستقال ولا ينساها القوم أبداً، فأتيت منزلي، فلم أزل باقي يومي أعهد وأوصي، فلما كان الليل اغتسلت وتهيأت للصلاة، وكان أبو العباس إذا هَم بأمر بعث فيه ليلاً، فلم أزل ساهراً حتى أصبحت، فلما أصبحت ركبت بغلتي واستعرضت بقلبي إلى مَنْ أقصد في أمري، فلم أجد أحداً أوْلى من سليمان بن خالد مولى بني زُهْرَةَ، وكانت له من أبي العباس منزلة عظيمة، وكان من شيعة القوم، فأتيته، فقلت: أذَكَرني أمير المؤمنين البارِحَةَ. فقال: نعم، جرى ذكرك، فقال: هو ابن أختنا، وَفّي لصاحبه، ونحن إن أوليناه خيراً كان لنا أ شْكَرَ، فشكرت ذلك له، وجزيته خيراً، ودعوت له، وانصرفت، فلم أزل آتي أبا العباس على ما كُنْتَ عليه لا أرى الا خيراً، ونُمِيَ الكلام الذي كان في مجلس أبي العباس- حين أتي برأس مروان- فبلغ أبا جعفر وعبدَ اللهّ بن علي، فكتب عبدُ اللهّ بن علي إلى أبي العباس يًعْلمه بما بلغه من كلامي، وأنه ليس هذا يحتمل، وكتب أبو جعفر يخبر بما بلغه من ذلك، ويقول: هو ابن أختنا، ونحن أولى باصطناعه واتخاذ المعروف عنده، وبلغني ما كان منهما فأمسكت، وضرب الدهرضرباته، فبينا أنا ذات يوم عند أبي العباس بعد حين وقد تزايدت حالي عنده وأحْظَإني، فنهض الناس ونهضتُ، فقال لي أبو العباس: على رِسْلِكَ يا ابن هُبَيْرة، اجلس، ونهض ليدخل فقمت لقيامه، فقال: اجلس، فرفع الستر ودخل، وثبتُّ في مجلسي، فأقام مَلِيّاً ثم رفع الستر فخرج في ثوبَيْ وَشْي رادء وجبة، فما رأيت أحسن منه ولا مما عليه قَطُّ، فلما رفع الستر نهضت، فقال: اجلس، فقال: يا ابن هُبَيْرة، إني ذاكر لك أمراً فلا يخرجَنَّ من رأسك إلى أحَدٍ من الناس، ثم قال: قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر وولاية العهد لمن قَتَلَ مروان، وعبد اللّه بن علي عمي هو الذي قتله، لأن ذلك كان بجيشه وأصحابه، وأخي أبو جعفر- مع فضله وعلمه وسنه وإيثاره لأمر اللهّ- كيف يسوغ إخراجه عنه. قال: فأطال في مديح أبي جعفر، فقلت: أصلح اللهّ أمير المؤمنين لا أشير عليك، ولكني أحدثك حديثاً تعتبره، فقال: هاته، فقلت: كنا مع مَسْلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية إذ ورد عليه كتاب عمر بن عبد العزيز بنعي سليمان ومصير الأمر إليه، فبعث إلى فدخلتً عليه، فرمى بالكتاب الي فقرأته، ثم اندفع يبكي، فقلت: أصلح اللّه الأمير لا تَبْكِ على أخيك، ولكن ابْكِ على خروج الخلافة من ولد أبيك إلى ولد عمك، فبكى حتى اخضلتْ لحيته، قال: فلما فرغت من حديثي قال لي أبو العباس: حسبك قد فهمت عنك، ثم قال: إذا شئت فانهض، فما مضيت غيربعيد حتى قال لي: يا ابن هبيرة، فالتفت،راجعاً، فقال لي: امْض، أما إنك قد كافأت هذا، وأدركت بثأرك من هذا، قال: فما أدري من أي الأمرين أعجب، أمن فِطْنته أم من ذكره لما كان.

وأبوجعدة بن هُبَيْرة هذا هو من ولد جعدة بن هبيرة المخزومي من فاختة ام هانىء بنت أبي طالب، وعليٌ وجعفر وعقيل أخْوَاله، وقد قدمنا خبَرَه فيما سلف من هذا الكتاب.

بين عبد اللّه بن علي وأخيه داود في ولاية عهد السفاح

قال المسعودي: ووجدت في أخبار المدائني، عن محمد بن الأسود، قال: بينما عبد اللّه بن علي يُسَاير أخاه داود بن علي ومعهما عبد اللّه بن الحسن بن الحسن: فقال داود لعبد اللّه: لم لا تأمر ابنيك، بالظهور، فقال عبد اللّه: هيهات لم يَئِنْ لهما بعدُ فالتفت إليه عبد اللهّ بن علي فقال: كأنك تحسب أن ابنيك هما قاتلا مروان، فقال: إن ذلك كذلك، فقال عبد اللّه: هيهات، وتمثل:  

سيكفيك المقالةَ مستمـيت

 

خفيف اللحم من أولاد حام

أنا واللّه قاتله.

وقيل لعبد اللّه بن علي: إن عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز يذكر أنه قرأ في بعض الكتب أنه يقتل مروان عَيْنٌ ابن عين، وقد أمَّلَ أن يكون هو، فقال عبد اللّه بن علي: أنا واللّه ذلك، ولي عليه فضل ثلاثة أعين، أنا عبد اللّه بن علي بن عبد اللهّ بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وهو عمروبن عبد مناف.

فلما صافَّ مروان عبد اللّه بن علي أقبل مروان على رجل إلى جنبه فقال: من الرجل الذي كان يخاصم عندك عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر الأقنى الحديد البصر الحسن الوجه. فقلت: يرزق اللّه البيان من يشاء، قال: إنه لهو، قلت : نعم، قال: من ولد العباس بن عبد المطلب هو، قلت: أجَلْ، فقال مروان: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ويحك، إني ظننت أن الذي يحاربني من ولد أبي طالب وهذا الرجل من ولد العباس واسمه عبد اللّه أتدري لم صيرت الأمر بعدي لابني عبيد اللهّ بعد عبد اللّه ومحمد أكبر من عبد اللّه. قلت: لم. قال: لأنا خُبِّرْنَا أن الأمر صائر بعدي إلى عبد اللّه وعبيد اللّه، فنظرت فإذا عبيد اللّه أقرب إلى عبد اللّه من محمد، فوليته دونه.
قال: وَبَعَثَ مروان بعد أن حدَث صاحبه بهذا الحديث إلى عبد اللّه ابن عليَ في خِفية: إن الأمر يا ابن عم صائر اليك فاتق اللّه في الحرم، قال: فبعث إليه عبد اللّه: إن الحق لنا في دمك، والحق علينا في حرمك.

زواج السفاح بأم سلمة بنت يعقوب

وذكر مصعب الزبيري عن أبيه قال: كانت ام سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد اللّه بن الوليد بن المغيرة المخزومي عند عبد العزيزبن الوليد بن عبد الملك، فهلك عنها، ثم كانت عند هشام فهلك عنها، فبينا هي ذات يوم جالسة إذ مر بها أبو العباس السفاح، وكان جميلاً وسيماً،  فسألت عنه، فنسب لها، فأرسلت له مولاةً لها تعرض عليه أن يتزوجها، وقالت لها: قولي له هذه سبعمائة دينار أوجه بها إليك، وكان معها مال عظيم وجوهر وحشم، فأتته المولاة فعرضت عليه ذلك، فقال: أنا ممْلِقُ لا مال عندي، فدفعت إليه المال، فأنعم لها، وأقبل إلى أخيها فسأله التزويج فزوجه إياها، فأصدقها خمسمائة دينار، وأهدى مائتي دينار، ودخل عليها من ليلته، وإذا هي عَلَى مِنَصَّةٍ، فصعد عليها، فإذا كل عضو منها مكلل بالجواهر فلم يصل إليها، فدعت بعض جواريها فنزلت وغيرت لبسها ولبست ثياباً مصبغة وفرشت له فراشاً عَلَى الأرض دون ذلك، فلم يقدر يصل إليها، فقالت: لا يضرك هذا، كذلك الرجال كان يصيبهما مثل ما أصابك، فلم تزل به حتى وصل إليها من ليلته، وحَظِيت عنده، وحلف أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، فولدت منه محمداً ورَيْطَة، وغلبت عليه غلبة شديدة، حتى ما كان يقطع أمراً الاَ بمشورتها وبتأميرها حتى أفضت الخلافة إليه، فلم يكن يدنو إلى النساء غيرها لا إلى حرة ولا إلى أُمة، ووفى لها بما حلف أن لا يغيرها، فلما كان ذات يوم في خلافته خلا به خالد بن صفوان فقال: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، وسعة ملكك، وقد مَلَّكْتَ نفسك امرأة واحدة واقتصرت عليها، فإن مرضت ومرضت، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذذ باستظراف الجواري ومعرفة أخبار حالاتهن والتمتع بما تشتهي منهن فإن منهن يأ أمير المؤمنين الطويلة الغَيْداء، وإن منهن البَضَّة البيضاء، والعتيقة الأدْمَاء، والدقيقة السمراء، والبربرية العَجْزاء، من مولدات المدينة تفتن بمحادثتها، وتلذ بخلوتها، وأين أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن وحسن الحديث منهن. ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء، والسمراء واللعساء، والصفراء العجزاء، والمولدات من البصريات والكوفيات، ذَوَات الالسن العَذبة، والقدود المهذهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المًزَرْفَنَة، والعيون المكحلة، والثدي المحققة وحسن زيهن وزينتهن وشكلهن، لرأيت شيئاً حسناً، وجعل خالد يجيد في الوصف، ويكثرفي الإطناب بحلاوة لفظه وجودة وصفه، فلما فرغ كلامه قال له أبو العباس: ويحك يا خالد ما صَكَّ مسامعي واللّه قط كلام أحسن مما سمعته منك، فأعِدْ علي كلامك فقد وقع مني موقعاً، فأعاد عليه كلامه خالد أحسن مما ابتدأه، ثم انصرف، وبقي أبو العباس مفكراً فيما سمع منه، فدخلت عليه ام سلمة امرأته، فلما رأته مفكراً مغموماً قالت: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حَدَث أمر تكرهه، أو أتاك خبر فارتَعْتَ له. قال: لم يكن من ذلك شيء، قالت: فما قصتك. فجعل ينزوي عنها، فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد له، فقالت: فما قُلْت لابن الفاعلة. قال لها: سبحان اللهّ ينصحني وتشتمينه. فخرجت من عنده مُغْضَبة، وأرسلت إلى خالد جماعة من النجارية ومعهم الكامر كوبات، وأمرتهم أن لا يتركوا منه عضواً صحيحاً، قال خالد: فانصرفت إلى منزلي، وأنا على السرور بما رأيت من أمير المؤمنين، وإعجابه بما ألقيته إليه، ولم أشك أن صلته ستأتيني، فلم ألبث حتى صار إلى أولئك النجارية وأنا قاعد على باب داري، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوى أيقنت بالجائزة والصلة، حتى وقفوا عَلَيَّ، فسألوا عني، فقلت: ها أنا ذا خالد، فسبق إلى أحدهم بهَرَاوة كانت معه فلما أهْوَى بها الي وَثَبْتُ فدخلت منزلي، وأغلقت الباب عَلَيَ، واستترت، ومكثت أياماً على تلك الحال لا أخرج من منزلي، ووِقع في خَلَدِي إني أوتيت من قبل أم سَلَمة، وطلبني أبو العباس طلباً شديداَ، فلم أشعر ذات يوم الا بقوم قد هجموا  عليَ، وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأيقنت بالموت، فركبت وليس عليَّ لحم ولا دم، فلم أصل إلى الدار حتى استقبلني عدة رسل، فدخلت عليه فالذيته خالياً، فسكنت بعض السكون، فسلمت فأومأ الي بالجلوس، ونظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد أرخيت، وحركة خلفها، فقال لي: يا خالد، لم أرك منذ ثلاث، قلت: كنت عليلاً يا أمير المؤمنين، قال: ويحك إنك كنت وصفت لي في اخر دَخْلة من أمر النساء والجواري ما لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه، فأعده عليَّ، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب اشتقت اسم الضرة من الضر، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة الا كان في جَهْد، فقال: ويحك لم يكن هذا في الحديث، قلت: بلى واللهّ يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأثافيَ القدرِ يُغْلَى عليهن، قال أبو العباس: برئت من قرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،إن كنت سمعت هذا منك في حديثك، قال: وأخبرتك أن الأربعة من النساء شر مجموع لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه ويسقمنه، قال: ويلك واللّه ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت، قال خالد: بلى واللّه، قال: ويلك وتكذبني. قال: وتريد أن تقتلني يا أمير المؤمنين، قال: مُرّ في حديثك، قال: وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال، ولكن لاخصي لهنَّ، قال خالد: فسمعت الضحك من وراء الستر، قلت: نعم وأخبرتك أيضاً أن بني مخزوم رَيْحَانَةُ قريش، وأن عندك ريحانة من الرياحين، وأنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإِماء، قال خالد: فقيل من وراء الستار: صدقت واللّه يا عماه وبَرِرْتَ، بهذا حَدَّثْتَ أمير المؤمنين، ولكنه بدل وغير ونطق عن لسانك، فقال لي أبو العباس: مالك قاتلك اللّه وأخزاك وفعل بك وفعل، قال: فتركته وخرجت وقد أيقنت بالحياة، قال خالد: فما شعرت الا برسل ام سلمة قد صاروا اليَّ ومعهم عشرة الاف درهم وتَخْتٌ وبرذون وغلام.

كان السفاح يحب مسامرة الرجال

ولمِ يكن أحد من الخلفاء يحب مسامرة الرجال مثل أبي العباس السفَّاح وكان كثيراَ ما يقول: إنما العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلاً، فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين، قال: يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفاً، ويروي نقصاً، فقال له الهذلي: لذلك فضلكم اللّه على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.

السفاح وأبو نخيلة

ودخل عليه أبونخيلة الشاعر، فسلم عليه، وانتسب له، وقال: عبدك يا أمير المؤمنين شاعرك، أفتأذن. لي في إنشادك. فقال له: لعنك اللّه ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بن مروان:

أمَسْلَمَ، إني يا ابن كـل خـلـيفة

 

ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض

شكرتك، إن الشكرحَبْلٌ من التقـى

 

وماكان من أوليته نعمة يقضـي

واحييْتَ لي ذِكْرِي وما كان خامل

 

ولكنَّ بعض الذكرأنبهُ من بعض

قال: فأنا يا أمير المؤمنين الذي أقول:

لما رأينا استمسـكـت يداكـا

 

كنا اناساً نَرْهَبُ الـمـلاكـا

ونركب الأعجـاز والأوراكـا

 

من كل شيء ما خلا الإشراكا

فكلما قد قلت فـي سـواكـا

 

زُورٌ، وقد كَفَّـرَ هـذا ذاكـا

إنا انتظرنا قبـلـهـا أبـاكـا

 

ثم انتظرنا بعـدهـا أخـاكـا

ثم انتظـرنـاك لـهـا إياكـا

 

فكنت أنت للـرجـاء ذاكـا

قال: فرضي عنه ووَصَله وأجازه.

وكان أبو العباس إذا حضر طعامه أبْسَطَ ما يكون وجهاً، فكان إبراهيم ابن مَخْرَمَةَ الكندي إذا أراد أن يسأله حاجة أخرها حتى يحضر طعامه ثم يسأله، فقال له يوماً: يا إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن طعامي بحوائجك. قال: يدعوني إلى ذلك التماس النُّجْح لما أسال، قال أبو العباس: إنك لحقيق بالسؤعد لحسن هذه الفِطنَة.

بعض عادات وسياسات السفاح.

وكان إذا تعادى رجلان من أصحابه وبطانته لم يسمع من أحدهما في الآخر شيئاً ولم يقبله، وإن كان القائل عَدْلاً في شهادته، وإذا اصطلح الرجلان لم يقبل شهادة واحد منهما لصاحبه ولا عليه، ويقول: إن الضغينة القديمة تولد العداوة المُمِضَّة، وتحمل على إظهار المسالمة، وتحتها الأفعى التي إذا تمكنت لم تُبْقِ. وكان في أول أيامه يَظْهَر لندمائه، ثم احتجب عنهم، وذلك لسنة خلت من ملكه، لأمر قد ذكرناه فيما سلف من كتبنا، وكان قعوده من وراء الستارة، على حسب ما ذكرناه فيما سلف من هذا الكتاب في سيرة أردشير بن بابك وأيامه.

وكان يطرب من وراء الستر على حسب ما ذكرنا، ويَصيحُ بالمطرب له من المغنين: أحسنت والله، أعِدْ هذا الصوت.

وكان لا ينصرف عنه أحد من ندمائه ولا من مُطْرِبيه الا بصلة من مال أو كسوة، يقول: لا يكون سرورنا معجلاً، ومكافأة من سرنا وأطربنا. مؤجلاً، وقد سبقه إلى هذا الفعل ملك من الملوك التي للفرس، وهو بَهْرَام جور.

وحضره أبو بكر الهذلي ذات يوم، والسفاح مُقْبِل عليه يحادثه بحديث لأنوشروين في بعض حروبه بالمشرق مع بعض ملوك الأمم، فعصفت الريح فأذْرَت تراباً وقطعاً من الاجر من أعلى السطح إلى المجلس، فجزع من حضر المجلس لوقوع ذلك، وارتاع له، والهذلي شاخص نحو أبي العباس لم يتغير كما تغير غيره، فقال له أبو العباس: للهّ أنت يا أبا بكر، لم أر كاليوم، أما راعَكَ ما راعَنَا ولا أحسست بما ورد علينا، فقال: يا أميرالمؤمنين، ما جعل اللهّ لرجل من قلبين في جَوْفهِ، وإنما جُعل للرجل قلب واحد، فلما غمره السرور بفائدة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، واللّه عز وجل إذا أفرد بكرامته أحداً وأحب أن يبقى له ذكرها جعل تلك الكرامة على لسان نبي أو خليفة، وهذه كرامة خُصِصْت بها فمال إليها ذهني، وشغل بها فكري، فلوا انقلبت الخضراء على الغَبْراء ما احسست بها، ولا وَجَمْتُ لها، إلا بما يلزمني من نفسي لأمير المؤمنين أعزه اللّه تعالى، فقال له السفاح: لئن بقيتُ لك لأرفعنَّ منك وضيعاً لا تُطِيفً به السباع، ولا ينحطُّ عليه العقاب.

وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب وصية عبد الملك للشعبي في فضل الإنصات للملوك.

من النصائح في مخالظة الملوك

وقد حكي عن عبد اللّه بن عياش المنتوف أنه قال: لم تتقرب العامة إلى الملوك بمثل الطاعة، ولا العبيد بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع.

وقد حكي عن روح بن زنباع الجذامي أنه كان يقول: إذا أردْتَ أن يمكنك الملك من أذنه فأمكن أذنك من الإِصغاء إلى حديثه، ولا يتعتب الرجل عندي إذا كان يصغي إلى حديثه، ولا يقدح ما قيل فيه في قلبي لما تقدم له من حسن الاستماع عندي.

وقد حكى عن معاوية أنه كان يقول: يُغْلَب الملك حتى يُرْكَب لشيئين: بالحلم عند سَوْرَته، والأَصغاء إلى حديثه. ووجدت في سير الملوك من الأعاجم أن شيروَيْةِ بن أبرويز بينا هو في بعض منتزهاته بأرض العراق، وكان لا يسايره أحد من الناس مبتدئاً، وأهل المراتب العالية خَلْفَ ظهره على مراتبهم، فإن التفَتَ يميناً دنا منه صاحب الجيش، وإن التفت شمالاً دنا منه المُوبِذَانُ، فأمر مَنْ دنا منهما بإحضار مَنْ أراد مسامرته، فالتفت في مسيره هذا يميناً، فدنا منه صاحب الجيش، فقال: أين شداد بن جرثمة؟ فأحضر، فسايره، فقال له شيرويه: أفكَرْتُ في حديث جَدِّنَا أردشير بن بابك حين واقع ملك الخزر، فحدثْنِي به إن كنت تحفظه، وكان شداد قد سمع هذا الحديث من أنو شروان، وعرف المكيدة، وكيف كان أردشير أوقعها بملك الخزر، فاستعجم عليه شداد، وأوهمه أنه لا يعرفه، فحدثه شيرويه بالحديث، فأصغى إليه الرجل بجوارحه كلها، وكان مسيرهم على شاطىء نهر، فترك الرجل لإِقباله على شيرويه النَّظَرَ إلى موطىء حافر دابته، فزلّتْ إحدى قوائم الدابة، فمالت بالرجل إلى اليمين، فوقع في الماء، ونفرت الدابة، فابتدرها حاشية الملك وغلمانه فأمالوها عن الرجل، وجذبوه فحملوه على أيديهم حتى أخرجوه فاغتمَّ الملك لذلك، ونزل عن دابته وبسط له هنالك حتى تغذَى في موضعه، ودعا بثياب من خاص كسوته فألقيت على شداد وأكل معه، وقال له: غفلت عن النظر إلى موضع حافر دابتك، فقال: أيها الملك، إن اللّه إذا أنعم على عبد نعمةَ قابلها بمحنة، وعارضها ببلية، وعلى قدر النعم تكون المحن، وإن اللهّ أنعم عليَّ بنعمتين عظيمتين هما إقبال الملك عليَّ بوجهه من بين هذا السواد الأعظم وهذه الفائدة وهي تدبير الحرب حتى حدذَثَ بها عن أردشير حتى إني لو دخلت إلى حيث تطلع الشمس أو تغرب لكنت رابحأ، فلما اجتمعت نعمتان جليلتان في وقت واحد قابلتهما هذه المحنة، ولولا أساورة الملك ويُمْن جده لكنت بعرض هلكة، وعلىِ ذلك فلو غرقت حتى ذهبت عن جديد الأرض لكان قد أبقى لي الملكُ ذكراَ مخلداً ما بقي الضياء والظلام والجنوب والصَبا فسُر الملك بذلك، وقال: ما ظننتك بهذا المقدار الذي أنت فيه، فحشا فاه جوهراً ودراً رائقاً ثميناً، واستبطنه حتى غلب على أكثر أمره.

وإنما ذكرنا هذا الخبر من أخبار من سلف منْ ملوك الفرس ليعلم أن أبا بكر الهذلي لم يبتدىء بحال لم يسبقه إليها غيره، ويتقدمه بها سواه.

أحسن المواقع من الملوك

وأحسن المواقع من الملوك الاستماعُ منها، والأخذ عنها، وقد كانت حكماء اليونإنيين تقول: إن الواجب على من أقبل عليه ملك أو ذو رياسة بحديث أن يصرف قلبه كله إلى ذلك، وإن كان يعرف الحديث الذي يسمعه من الملك، كأنه لم يسمعه قط، ويظهر السرور بالفائدة من الملك والاستبشار بحديثه، وإن في ذلك أمرين: أحدهما ما يظهر من حسني أدبه، فإنه يعطي الملك حقه بحسن الاستماع لحديثه والاستغراب له منه كأنه لم يسمعه، وإظهار السرور والاستفادة منه، فالنفس إلى الفوائد من الملوك والحديت عنهم أشْهَى وأقرب منها إلى فوائد السوقة وما أشبهها.

معاوية وابن شجرة الرهاوي

وقد ذكر جماعة من الأخباريين كابن دأب وغيره نحو هذا المعنى عن معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن شجرة الرهاوي، وهو أن ابن شجرة كان يُسَاير ذات يوم معاوية وكان آنساً به، وإلى حديِثه تائقاً، ومعاوية مقبل عليه يحدثه عن جزعان يوم كان لبني مخزوم وغيرهم من قريش، كان فيه حرب عظيمة فني فيه خلق من الناس، وذلك قبل الإِسلام، وقيل: إن ذلك كان قبل الهجرة، وكانت لأبي سفيان فيه مكرمة وسابقة في الرياسة، وهو أنه لما أشرف الفريقان على الفَنَاء صعد على نَشَزٍ من الأرض ثم صاح بالفريقين، وأشار بكمه، فانصرف الفريقان جميعاَ انقياداً إلى أمره، وكان معاوية مُعْجَباً بهذا الحديث، فبينما هو يحدثه به ويزيد بن شجرة مقبل عليه، وقد استخفتهما لذة المحدث والمستمع إذ صك جبين يزيد بن شجرة حجر عائر فأدماه، فجعلت الدماء تسيل على وجهه ولحيته وثوبه، وغير ذلك، ولم يتغير عما كان عليه من الاستماع، فقال له معاوية: للّه أنت يابن شجرة، أما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا دَمٌ يسيل على ثوبك، قال: أعتق ما أملك إن لم يكن حديث أمير المؤمنين الهإني حتى غمر فكري وغَطّى على قلبي، فما شعرت بشيء مما حَدَثَ، حتى نبهني عليه أمير المؤمنين، فقال معاوية: لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء، وأخرجك عن عطاء أبناء المهاجرين والجماهير ممن حضر معنا بِصِفينَ، ثم أمر له وهو في مسيره بخمسمائة ألف درهم، وزاده في عطائه ألفاً من الدراهم، وجعله بين جلده وثوبه.

تعليق

وقد قال بعض أهل المعرفة والأدب من مصنفي الكتب في هذا المعنى وغيره مما حكيناه عن معاوية وابن شجرة: لئن كان ابن شجرة خَدَعَ معاوية في هذا ومعاوية ممن لا يخادع فما مثله إلا كما قال الأول:

من يَنِكِ العير ينك نياكا

وإن كان قد بلغ من بلادة ابن شجرة، وقلة حسه، ما وصف به نسه فما كان جديرآ بخمسمائة ألف درهم صِلة، وزيادق ألف في عطائه، وما أظن ذلك خفي عن معاوية.

حسن الاستماع

قال المسعودي: وقد قالت الحكماء في هذا وأكثرت، وأمرت بحسن الاستماع والصمت وأطْنَبْتُ، فقالوا: لا تحسن المحادثة إلا بحسن الفهم، وقالوا: تعلم حسن إلاستماع كما تتعلم حسن الكلام، وحسن إلاستماع هو إمهال المحدث حتى ينقضي حديثه.

من أدب الحديث

ومن أدب الحديث وواجباته: أن لا يقتضب اقتضاباً، ولا يهجم عليه، وأن يتوصل إلى إجرائه بما يشاكله، وأن يستنسب له ما يحسن أن يجري في عرضه حتى يكون بعض المفاوضة متعلقاً ببعض، على حسب ما قالوا في المثل: إن الحديث ذو شجون، يريدون بذلك تشعبه وتفرعه عن أصل واحد إلى وجوه من المعانىِ كثيرة، إذ كان العيش كله في الجليس الممتع، وقال رجل: واللّه ما أمَل الحديث، فقال السامع: إنما يمل العتيق لا الحديث.

وقد أكثرت الشعراء من إلاغراق في هذا المعنى، ومن ذلك قول علي بن العباس الرومي:

وسئمت كل مآربـي

 

فكأنَّ أطيبها غَثِـيتُ

إلا الحـديث فـإنـه

 

مثل اسمه أبداً حديث

وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول إبراهيم بن العباس:

إن الزمان وما تَرَيْنَ بِمَفْـرِقِـي

 

صَرَفَ الغواية فانصرفْتُ كريماً

وضَجِرْتُ إلامن لقاء مـحـدث

 

حسن الحديث يزيدني تعلـيمـا

 وقد ذكر بعض المحدثين من أهل الأدب أن من الأدب عَدَمَ إطالة الحديث من النديم، وأن أحْلَى الحديث وأحْسَنَه موقعاً أن تجتنب منه الأحاديث الطِّوَال ذات المعإني المغلغلة والألفاظ الحَشْوِية التي ينقضي باقتصاصها زمان المجلس، وتتعلق بها النفوس، وتحتسى على أواخرها الكؤوس، فإن ذلك بمجالس القًصَّاص، أشبه منه بمجالس الخواص.


وقد ذكر هذا المعنى فأجاد فيه عبد الله بن المعتز باللهّ، ووصف ذلك من أصحاب الشراب على المعاقرة، فقال:

بين أقْدَاحهم حديث قصير

 

هو سحر، وما عَدَاهُ كلام

وكأن السُّقَاةَ بين الندامـى

 

ألفَات بين السطورقـيام

وهذه طريقة مَنْ ذهب ني هذا المعنى إلى استماع الملح.

أول وزير في الدولة العباسية

وكان أول من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العباس أبو سَلَمة حفص بن سليمان الخَلال الهمدإني، مولى لسبيغ، وكان في نفس أبي العباس منه شيء، لأنه كان حاول في رد الأمر عنهم إلى غيرهم، فكتب أبو مسلم إلى السفاح يشير عليه بقتله، ويقول له: قد أحَلَّ اللّه لك دمه، لأنه قد نكث وغير وبدل، فقال السفاح: ما كنت لأفتتح دولتى بقتل، رجل من شيعتي، لاسيما مثل أبي سَلَمة، وهو صاحب هذه الدعوة، وقد عرض نفسه، وبذل مهجته، وأنفق ماله، وناصح إمامه، وجاهد عدوه، وكلمه أبو جعفر أخوه وداود بن علي عمه في ذلك، وقد كان أبو مسلم كَتب إليهما يسألهما أن يشيرا على السفاح بقتله، فقال أبو العباس: ما كنت لأفسد كثير إحسانه وعظيم بلائه وصالح أيامه بزلّةٍ كانت منه، وهي خَطْر من خطرات الشيطان، وغفلة من غفلات إلانسان، فقالا له: فينبغي يا أمير المؤمنين أن تحترس منه، فإنا لا نأمنه عليك، فقال: كلا إني لآمنه في ليلي ونهاري وسري وجهري ووحدتي وجماعتي، فلما اتصل هذا القول من أبي العباس بأبي مسلم كبره وأعظمه، وخاف من ناحية أبي سَلَمة يقصده بمكروه، فوجَّه جماعة من ثقات أصحابه في إعمال الحيلة في قتل أبي سَلَمة، وقد كان أبو العباس يأنس بأبي سَلَمة ويسمر عنده، وكان أبو سَلَمة فكهاً ممتعاً أديباً عالماً بالسياسة والتدبير، فيقال: إن أبا سَلمة انصرف ليلة من عند السفاح من مدينته بالأنبار، وليس معه أحد، فوثب عليه أصحاب أبي مسلم فقتلوه، فلما اتصل خبره بالسفاح أنشأ يقول:

إلى النار فليذهب، ومن كان مثله

 

على أي شيء فَاتَنَا منه نأسَـف

وكان أبو مسلم يقال له: أمين آل محمد، وأبو سَلَمة حفص بن سليمان يدعى وزيرآل محمد، فلما قتل غيلة على ما ذكرنا قال في ذلك الشاعر من أبيات:

إن المساءَة قد تسرُّ، وربـمـا

 

كان السرور بما كرهت جديرا

إن الوزير وزير آل محـمـد

 

أوْدَى، فمن يَشْنَاكَ كان وزيرا

وقد أتينا على خبر مقتله وكيفية أمره في الكتاب الأوسط.

مسامرات السفاح

وكان السفاح يعجبه المحادثة، ومفاخرات العرب من نزار واليمن والمذاكرت بذلك، ولخالد بن صفوان ولغيره من قحطان أخبار حسان، ومفاخرات ومذاكرات ومنادمات ومسامرات مع أبي العباس السفاح قد أتينا على مبسوطها وما أخترناه من غررها في كتابَيْنَا أخبار الزمان والأوسط فأغنى ذلك عن ذكرها.


ومما ذكر من أخباره واستفاض من أسماره، ما ذكره البهلول بن العباس عن الهيثم بن عدي الطائي، عن يزيد الرقاشي، قال: كان السفاح يعجبه مسامرة الرجال، وإني سمرت عنده ذات ليلة، فقال: يا يزيد، أخبرني بأظْرَفِ ما سمعته من الأحاديث، فقلت: يا أمير المؤمنين، وإن كان في بني هاشمِ. قال: ذلك أعجب إلي، قلت: يا أمير المؤمنين، نزل رجل من تَنُوخ بحي من بني، عامر بن صَعْصَعَة، فجعل لا يحط شيئاً من متاعه إلا تمثل بهذا البيت:

لعمرك ما تَبْلَى سرائرعـامـرٍ

 

من اللؤم ما دامت عليها جلودها

 فخرجت إليه جارية من الحي، فحادثته وآنسته، وسألته حتى أنس بها، ثم قالت: ممن أنت مُتِّعْت بك؟! قال: رجل من بني تميم، فقالت: أتعرف الذي يقول:

تميمٌ بِطُرْقِ اللؤم أهْدَى من القطا

 

ولو سلكت سُبْلَ المكارم ضَلّتِ

ولوأن برغوثاًعلى ظهر قَـمْـلة

 

يكر على جَمْعَيْ تميم لـولـتِ

ذبحنا فسمينا فـتـم ذبـيحـنـا

 

وماذبحت يوماً تميم فـسـمـت

أرى الليل يَجْلوه النهار، ولا أرى

 

عظام المخازي عن تميم تجلت

فقال: لا واللهّ ما أنا منهم، قالت: فممن أنت؟ قال: من عِجْلٍ، قالت: أتعرف الذي يقول:

أرى الناس يُعْطُونَ الجزيل، وإنما

 

عطاء بني عجل ثلاث وأربـع

إذا مات عجليٌّ بأرض فإنـمـا

 

يشق له منهـا ذراع وإصـبـع

قال: لا واللّه ما أنا من عجل، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني يشكر، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا يشكريٌ مَسَّ توبَكَ ثوبـه

 

فلا تذكرن اللّه حتى تطهرا

قال: لا واللّه ما أنا من يشكر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبد القيس، قالت: أتعرف الذي يقول:

رأيت عبدالقيس لاقـت ذلا

 

إذا أصابوا بصلا وخـلا

ومالحاً مصنعاً قـد طـلا

 

باتوا يسلون النساء سـلا

سَلَّ النبيط القَصَبَ المبتلا

 

 

قال: لا واللّه ما أنا من عبد القيس، قالت: فممن أنت؟ قال رجل من باهلة، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا ازدحم الكرام على المعالي

 

تنحَّى الباهليُّ عن الـزحـام

فلو كان الخلـيفة بـاهـلـياً

 

لقصرعن منـاوأة الـكـرام

وعِرْضُ الباهلي وإن تَوَقّـى

 

عليه مثل منديل الـطـعـام

قال: لا واللّه ما أنا من باهلة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني فَزَارَة، قال: أتعرف الذي يقول:

لا تأمننَّ فـزاريَاَ خَـلَـوْت بـه

 

على قَلُوصِكَ، واكْتُبْهَا بـأسـيار

لا نأمننَ فزارياً عـلـى حـمـر

 

بعد الذي امتلَّ أير العير في النار

قوم إذا نزل الأضياف ساحتـهـم

 

قالوا لأمهم: بولي على الـنـار

قال: لا والله ما أنا من فزارة، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا رجل من ثقيف، قالت: أتعرف الذي يقول:

أضل الناسبون أبا ثقـيف

 

فما لهمُ أبٌ إلا الضـلال

فإن نُسِبَتْ أو انتسبت ثقيف

 

إلى أحد فذاك هوالمحال

خنازيرالحُشًوش فقتِّلوهـا

 

فإن دماءها لكـم حـلال

قال: لا واللهّ ما أنا من ثقيف، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبس، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا عَبْسِية ولدت غلاماً

 

فبشِّرها بلؤم مستفـاد

قال: لا واللّه ما أنا من عبس، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من ثعلبة، قالت: أتعرف الذي يقول:

وثعلبة بن قيس شر قوم

 

وألأمهم وأغدرهم بجار

قال: لا واللّه ما أنا من ثعلبة، قالت: فممن أنت؟ قاك: رجل من غنيٍّ، قالت أتعرف الذي يقول:

إذا غنَوِية ولدت غلاماً

 

فبشرها بخياط مجيد

قال: لا واللّه ما أنا غنيٍّ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني مرة، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا مُرِّية خضبت يداهـا

 

فزوجها ولا تأمن زناها

قال: لا واللّه ما أنا من بني مرة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني ضبة، قالت: أتعرف الذي يقول:

لقد زَرِقت عيناك يا ابن مكعبر

 

كما كل ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرق

قال: لا واللّه ما أنا من بني ضبة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بجيلة، قالت: أتعرف الذي يقول:

سألناعن بجيلة حين حَلـت

 

لنخبر أين قرَّبها القـرار؟

فماتدري بجيلة حين تُدْعَـى

 

أقحطان أبوها أم نـزار؟

فقد وقَعت بجيلة بين بـين

 

وقد خلعت كما خلع العذار

قال: لا واللّه ما أنا من بجيلة، قالت: فممن أنت ويحك؟! قال: رجل من بني الأزْدِ، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا أزدية ولدت غلأماً

 

فبشرها بملاح مجيد

قال: لا والله ما أنا من الأزد، قالت: فممن أنت ويلك؟! أما تستحي؟! قل الحق، قال: أنا رجل من خُزَاعة، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا افتخرت خزاعة في قديم

 

وَجَدْنَا فخرها شرب الخمور

وباعت كعبة الرحمن جهرا

 

بزقّ، بئس مفتخر الفخـور

قال: لا واللّه ما أنا من خُزَاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سليم، قالت: أتعرف الذي يقول:

فما لِسُلَيْم شتَت الله أمرها

 

تنيك بأيديها وتَعْيا أيورها

قال: لا واللّه ما أنا من سليم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من لقيط، قالت: أتعرف الذي يقول:

لعمرك ما البحار ولا الذيافي

 

بأوسع من فِقَاح بني لقـيط

لقيطٌ شرمَنْ ركب المطـايا

 

وأنذل من يدب على البسيط

ألالعن الإلهُ بنـي لـقـيط

 

بقايا سبية من قـوم لـوط

قال: لا واللّه ما أنا من لقيط، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كندة، قالت أتعرف الذي يقول:

إذا ما افتخرالكندي

 

ذو البهجة والطُّرهْ

فبالنسج وبالـخـف

 

وبالسدل وبالحفرهْ

فدع كِنْدَةَ للنـسـج

 

فأعلى فخرها عُرَّهْ

قال: لا واللهّ ما أنا كِنْدَةَ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من خَثْعَم، قالت: أتعرف الذي يقول:

وَخَثْعَم لو صَفَرْتَ بها صفيراً

 

لَطَارَتْ في البلاد مع الجرَاد

قال: لا واللّه ما أنا من خَثْعَم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من طيء، قالت: أتعرف الذي يقول:

وماطيء إل نَبِيطٌ تجمَّـعَـت

 

فقالت طيانا كلمة فاستمرت

ولو أن حُرْقوصاً يمدُّ جناحـه

 

على جبلَيْ طي إذا لاستظلت

قال: لا واللّه ما أنا من طيء، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُزَينة، قالت: أتعرف الذي يقول:

وهل مزينة إلامن قَبَـيِّلة

 

لايُرْتَجَى كرم فيها ولادين

قال: لا واللّه ما أنا من مُزَينة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من النَّخَع، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا النخع اللئام غدَوْا جمـيعـاً

 

تأذّى الناس من وفر الزحـام

وما تسمو إلى مـجـد كـريم

 

وما هم في الصميم من الكرام

قال: لا واللّه ما أنا من النَّخَع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أوْدٍ، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا نَزَلْتَ بأوْدٍ فـي ديارهـم

 

فاعلم بأنك منهم لست بالناجي

لاتركنَنَ إلى كهل ولاحَـدَث

 

فليس في القوم إلا كل عفّاج

قال: لا واللّه ما أنا من أوْدٍ، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من لخم، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا ما أنتمى قوم لفخر قديمهم

 

تباعَدَ فخرالقوم من لخم أجمعا

قال: لا واللّه ما أنا من لخم، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من جُذَام، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا كأسُ المُدَام أدِيرَيوماً

 

لمكرمة تنحَى عن جُذَام

قال: لا واللّه ما أنا من جُذَام، قالت: فممن أنت ويلك؟!! أما تستحي، أكثرت من الكذب!! قال: أنا رجل من تَنوخ، وهو الحق، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذا تَنُوخٌ قَطَعَت مَنْـهـلا

 

في طلب الغارات والثار

آبَتْ بِخِزْيٍ من إلهِ العلى

 

وشهرة في الأهل والجار

قال: لا واللهّ ما أنا من تَنُوخَ، قالت: فممن أنت ثَكلَتْكَ أُمك؟! قال: أنا رجل من حِمْير، قالت: أتعرف الذي يقول:

نبئْت حِمْير تهجوني، فقلت لهم:

 

ما كنت أحسبهم كانوا ولا خُلِقُوا

لأن حِمْير قومٌ لا نصاب لـهـم

 

كالعود بالقاع لا ماء ولا وَرَق

لا يكثروِن وإن طالت حياتُـهُـم

 

ولو يبول عليَهم ثعلب غرقـوا

 قال: لا واللّه ما أنا من حِمْير: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من يُحَابر، قالت: أتعرف الذي يقول:

ولو صَرَّصَرَّار بأرض يُحَـابـر

 

لماتوا وأضْحَوْا في التراب رميما

قال: لا والله ما أنا من يُحَابر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قُشَيْر، قالت: أتعرف الذي يقول:

بني قشير قَتَلْتُ سيدكم

 

فاليوم لافِدْيَة ولاقَوَدُ

قال: لا واللهّ ما أنا من قُشَيْر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أمية، قالت: أتعرف الذي يقول:

وَهى من أمية بـنـيانُـهَـا

 

فهان على اللَّه فقـدَانـهـا

وكانت أمية فيمـا مـضـى

 

جريء على اللَّه سلطانهـا

فلا آل حرب أطَاعُوا الرَّسُول

 

ولم يَتَّقِ اللَـه مَـرْوانـهـا

قال: لا واللّه ما أنا من بني أمية، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني هاشم، قالت: أتعرف الذي يقول:

بني هاشم عُوعدوا إلى نَخَـلاَتِـكُـم

 

فقد صار هذا التمرصاعاً بدرهـم

فإن قُلتمُ رَهْطُ النـبـي مـحـمـد

 

فإن النصارى رهط عيسى بن مريم

قال: لا والله ما أنا من بني هاشم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من هَمْدَان، قالت: أتعرف الذيى يقول:

إذا هَمْدَانُ دارت يوم حَرْب

 

رحاها فَوْقَ هامات الرجال

رأيتهمُ يحثونَ الـمـطـايا

 

سراعاً هاربين مِنَ القتـال

قال: لا والله ما أنا من هَمْدَانَ، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قُضَاعَة، قالت: أتعرف الذي يقول:

لايفخرَنَ قضاعيٌّ بـأسـرتـه

 

فليس من يَمَنِ محضاً ولامُضَر

مُذَبْذَبين فلا قَحْطَانُ والدهـم

 

ولا نزار، فَخلوهم إلى سقر

قال: لا والله ما أنا من قُضَاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من شيبان، قالت: أتعرف الذي يقول:

شيبان قومٌ لهم عديدٌ

 

فكلهم مُقْرِف لـئيم

مافيهمُ ماجدٌ حسيب

 

ولا نجيب ولا كريم

قال: لا واللّه ما أنا من شَيْبَان، قالت: فممن أنت؟ قالت: رجل من بني نُمَيْر، قالت: أتعرف الذي يقول:

فغضَّ الطرف إنك من نمير

 

فلا كعباً بلغت ولا كِلابَـا

فلو وضعت فِقَاحُ بني نُمير

 

على خَبَثِ الحديد إذاً لَذَابَـا

قال: لا واللهّ ما أنا من نُمير، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَغْلب، قالت: أتعرف الذي يقول:

لا تطلبنَ خؤولة في تغلب

 

فالزنج أكْرَمُ منهمُ أخوالا

والتغلبيُّ إذا تنحنح للقرى

 

حَكَّ اسْتَه وتمثَّلَ الأمثالا

قال: لا واللّه ما أنا من تغلب، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُجَاشع، قالت: أتعرف الذي يقول:

تبكي المُغِيبَةُ من بنات مُجَاشع

 

ولها إذا سُمِعت نهيقُ حمارِ

 قال: لا واللّه ما أنا من مُجَاشع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كَلْب، قالت: أتعرف الذي يقول:

فلا تَقْرَبَا كلـبـا ولا بَـاب دارهـا

 

فما يطمع الساري يرى ضوء نارها

قال: لا واللّه ما أنا من كلب، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَيْم، قالت: أتعرف الذي يقول:

تَيْمية مثلُ أنف الذيل مقبلهـا

 

تهدي الرحا ببنان غيرمخدوم

قال: لا والله ما أنا من تَيْم، قالت، فممن أنت؟ قال: رجل من جَرْم، قالت: أتعرف الذي يقول:

تُمَنِّينِي سَوِيقَ الكَرْمِ جَـرْم

 

وماجَرْم وماذاك السويق؟

فماشربوه لما كَـان حِـلا

 

ولا غَالوْا به في يوم سوق

فلمَّا أنزل التحريمُ فـيهـا

 

إذا، لجرمِيُ منها لا يفيق

قال: لا واللّه ما أنا من جَرْم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سُلَيم، قالت: أتعرف الذي يقول:

إذاسُلَـم جـئتَـهَـا لـغـدائهـا

 

رَجَعْت كما قد جئت غَرثانَ جائعا

قال: لا واللّه ما أنا من سُلَم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من الموالي، قالت: أتعرف الذي يقول:

ألا من أراد الفُحْشَ وَاللُّؤْمَ والخنا

 

فعند الموالي الجِيدُ وَالطّرَفَـان

قال: أخطأتُ نسبي وربِّ الكعبة، أنا رجل من الخوز، قالت: أتعرف الذي يقول:

لا بارك اللَّـه رَبِّـي فِـيكُـمُ أبـداً

 

يا معشر الخُوزِ، إن الخوز في النار

قال: لا واللّه ما أنا من الخوز، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أولاد حام، قالت: أتعرف الذي يقول:

فلا تنكحَنْ أولاد حام، فـإنـهـم

 

مَشَاويبهُ خلق اللَّه حَاشَا ابن أكْوَع

قال: لا واللّه ما أنا من ولد حام، لكني من ولد الشيطان الرجيم، قالت: فلعنك اللهّ ولعن أباك الشيطان معك، أفتعرف الذي يقول:

ألا يا عباد اللَّه هذا عدوكـم

 

وهذا عدُوُّ الله إبليس فاقتلوا

فقال لها: هذا مقام العائذ بك، قالت: قم فارْحَلْ خاسئاً مذموماً، وإذا نزلْتَ بقوم فلا تنشد فيهم شعراً حتى تعرف مَنْ هم، ولا تتعرض للمباحث عن مساوي الناس، فلكل قوم إساءة وإحسان، إلا رسول رب العالمين، ومن اختاره اللهّ على عباده، وعَصَمه عن عدوه، وأنت كما قال جرير للفرزدق:

وكُنْتَ إذا حَلَلتَ بدار قـوم

 

رحلْتَ بِخَزْيَةٍ وتركت عَاراً

فقال لها: واللّه لا أنشدت بيت شعر أبداً، فقال السفاح: لئن كُنْت عملتَ هذا الخبر ونظمت فيمن ذكرت هذه الأشعار فلقد أحسنت، وأنت سيد الكاذبين، وإن كان الخبر صدقاً وكنت فيما ذكرته محقاً فإن هذه الجارية العامرية لمن أحْضَرِ الناس جواباً، وأبصرهم بمثالب الناس.

قال المسعودي: وللسفاح أخبار غير هذه وأسمار حسان قد أتينا على مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.