ذكر خلافة أبي جعفر المنصور

ذكر خلافة أبي جعفر المنصور

وبويع أبوجعفر المنصور عبدُ اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن العباس ابن عبد المطلب وهو بطَرِيقِ مكة، أخَذَ له البيعة عَمُّه عيسى بن علي ثم لعيسى بن موسى من بعده، يوم الأحد لاثنتَيْ عَشَرَةَ ليلةً خَلَتْ من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، والمنصور يومئذ ابن إحدى وأربعين سنة، وكان مولده في ذي الحجة سنة خمس وتسعين، وكانت أُمه أم ولد يقال لها سلامة بربرية، وكانت وفاته يوم السبت لست خَلَوْنَ من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة فكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة إلا تسعة أيام، وهو حاجٌ عند وصوله إلى مكة في الموضع المعروف ببستان بني عامر من جَاّدةِ العراق، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودُفن بمكة مكشوف الوَجْهِ لأنه كان مُحْرِماً، وقيل: إنه مات بالبطحاء عند بئر ميمون، ودُفن بالحجُون، وهو ابن خمس وستين سنة، واللّه أعلم.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

رؤيا أم المنصور

ذكر عن سلامة أُم المنصور أنها قالت: رأيت لما حملت بأبي جعفر المنصور كأنَّ أسداً خرج من قبُلي فأقْعَى وزَار وضرب بذنبه، فأقبلت إليه الأسْدُ من كل ناحيةٍ، فكلما انتهى إليه أسدٌ منها سَجَدَ له.

المنصور ورفيق سفر ضرير شاعر

وحدث علي بن محمد المدائني أن المنصور قال: صحبت رجلاً ضريراً إلى الشام وكان يريد مروان بن محمد بشعر قاله فيه، قال: فسألته أن ينشدني فأنشدني:

ليت شعري أفـاح رائحةُ الـم

 

سك وما إن إخال بالخيف إنسي

حين غابَتْ بنـوأمـية عـنـهُ

 

والبَهَاليل من بني عبد شمـس

خطباءُ على المنـابـرفُـرْسـا

 

نٌ عليها، وقَالةٌ غـير خُـرْس

لا يُعابـون قـائلـين، وإن قـا

 

لوا أصابوا، ولم يقولوا بلبـس

وحُلُوم إذا الحلوم اسْتُـخِـفّـت

 

ووجوه مثل الدنإنـير مُـلْـس

قال المنصور: فواللهّ ما فرغ من شعره حتى ظننت أن العمى قد أدركَنِي، وكان واللهّ ممتع الحديث حسن الصحبة.

قال: وحججت سنة إحدى وأربعين ومائة، فنزلت على الحمارة في جبلي زَرُود في الرمل أمشي لنذرٍ كان عليَّ، فإذا أنا بالضرير، فأومأت إلى من كان معي أن يتأخروا، فتأخروا، ودنوت منه، فأخذت بيده فسلمت عليه: فقال: من أنت جعلني اللّه فداك فما أثبتك معرفة؟ قلت: رفيقك إلى الشام في أيام بني أمية وأنت متوجه إلى مروان، فسلم عليّ وتنفس وأنشأ يقول:

آمَتْ نساءُ بني أمية منهـم

 

وبناتهم بمـضـيعة أيتـامُ

نامت جدودهُمُ وأسقط نهمهم

 

والنجم يسقط والجدود نـيام

خَلَتِ المنابر والأسِرَّةُ منهم

 

فعليهمُ حتى الممات سـلام

فقلت له: كم كان مروان أعطاك؟ فقال: أغنإني فلا أسال أحداً بعده، فقلت: كم؟ فقال: أربعة ألاف دينار وخلع وحملان، قلت: وأين ذاك؟ قال: بالبصرة، قلت: أتثبتني معرفَةً؟ فقال: أما معرفة الصحبة فقد لعمري وأما معرفة النسب فلا، فقلت: أنا أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، فوقِع عليه الإفكل، وقال: يا أمير المؤمنين اعذر فإن ابن عمك محمداَ صلى الله عليه وسلم قال "حُبِلَت النفوسُ على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها"، قال أبو جعفر: فهمَمْت واللّه به ثم تذكرت الحرمة والصحبة، فقلت للمسيب: أطلقه فأطلق ثم بدا لي في مُسَامرته رأي، فأمرت بطلبه فكأن البيداء أبادته.

المنصور وأهله يتحدثون عن سير بني أمية

وحدث الربيع قال: اجتمع عند المنصور عيسى بن علي، وعيسى بن موسى، ومحمدبن علي، وصالح بن علي، وقُثَم بن العباس، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن إبراهيم، فذكروا خلفاء بني أمية وسيرهم وتدبيرهم، والسبب الذي به سُلِبُوا عزهم، فقال المنصور: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي ما صنع، وأما سليمان فكانت همته بطنه وفرجه، وأما عمر بن عبد العزيز فكان أعْوَرَ بين عُمْيَان، وكان رجل القوم هشام، ولم تزل بنو أمية ضابطين لما مُهِّدَ لهم من السلطان يحوطونه ويحفظونه، ويصونون ما وهب اللّه لهم منه مع كسبهم معالي الأمور ورفضهم أدإنيها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم قصد الشهوات، وركوب اللذات، من معاصي اللّه عز وجل، جهلاً منهم باستدراجه، وأمْناً منهم لمكره، مع اطّرَاحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم بحق اللهّ تعالى وحق الرياسة، وضعفهم عن السياسة، فسلبهم اللّه العز، وألبسهم الذل، ونَفَى عنهم النعمة، فقال صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد اللّه بن مروان لما دخل أرض النُّوبَةِ هارباً فيمن اتبعه سال ملك النوبة عن حالهم وهيئتهم وما نزل بهم، وكيف كانت سيرتهم، فأخبره بجميع ذلك، فركب إلى عبد اللّه ليسأله عن شيء من أمورهم، والسبب الذي به زالت النعمة عنهم، وكلمُه بكلام سقط عني حفظه، ثم أشْخَصَه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به ليحدثه عن أمره فعل، فأمر المنصور بإحضاره في مجلسه، فلما مَثَلَ بين يديه قال له: يا عبد اللّه قصَّ عليَّ قصتك وقصة ملك النُّوبَة، قال: يا أمير المؤمنين، قدمت إلى النُّوبَةِ، فأقصت بها ثلاثاً، فأتإني ملكها، فقعد على الأرض وقد أعددت له فراشاً له قيمة فقلت له: ما منعك من القعود على فراشنا؟ فقال: لإني ملك، وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله عز وجل إذ رفعه اللهّ، ثم قال: لم تشربوا الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا، قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم والفسادُ محرم عليكم في كتابكم. فقلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا لجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير والذهب وهو محرم عليكم في كتابكم ودينكم، فقلت ذهب منا الملك فانتصرنا بقوم من العجم دَخلُوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منه، فأطرق إلى الأرض يقلب يده مرة وينكت في الأرض أخرى ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا علينا في ديننا، ثم رفع رأسه فقال ليس كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرَّم اللّه، وركبتم ما عنه نُهِيتم، وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم اللّه العز، والبسكم الذلَّ بذنوبكم، وللّه فيكم نقمة لم تبلغ غايتَهَا فيكم، وأنا خائف أن يحلَّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالذي معكم، وإنما حق الضيافة ثلاث، فتزوَّدْ ما احتجْتَ إليه وارحل عن أرضي ففعلت، فتعجب المنصور وأطرق ملياً، فرقَّ له وها بإطلاقه، فأعلمه عيسى بن علي أن في عنقه بيعة له، فأعاده إلى الحبس.

وفاة محمد بن جعفر الطالبي

قال المسعودي: ولعشر سنين خلت من خلافة المنصورتوفي أبوعبد اللّه محمدبن جعفربن محمدبن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، سنة ثمان وأربعين ومائة، ودفن بالبقيع مع أبيه وجدَه، وله خمس وستون سنة، وقيل: إنه سم، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه مبيد الأمم، ومحيى الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ومحمد بن علي، وجعفربن محمد رضي اللّه عنهم.

وزراء المنصور

واستوزر أبو جعفر المنصورا بْنَ عطية الباهلي، ثم استوزر أبا أيوب الموريإني الخوزي، وكان له بأبي جعفر أسباب: منها أنه كان يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلّب، وقد كان سليمان ضرب المنصور بالسوط في أيام الأمويين، وأراد هتكه، فخلصه كاتبه أبو أيوب من يده، فكان ذلك سبب الاتصال به، فلما استوزره اتُّهِمَ بأشياء منها احْتِجَان الأموال وسوء الذية، فكان على إلايقاع به، وتطاول ذلك، فكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به، ثم يخرج سالماً، فقيل: إنه كان معه دهن قد عمل فيه شيئاً من السح يطليه على حاجبيه إذا أراد الدخول على المنصور، فسار في العامة دهن أبي أيوب لما ذكرنا، ثم أوقع به، واستكتب أبان بن صدقة إلى أن مات.

المنصور يسأل عن تدبيرات هشام بن عبد الملك

وذكر لأبي جعفر تدبير هشام في حرب كانت له، فبعث إلى رجل كان ينزل برُصَافة هشام يسأله عن تلك الحرب، فقدم عليه الرجل، فقال له: أنت صاحب هشام، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا، قال: فعل رضي اللّه عنه فيها كذا وكذا، وفعل رحمه اللّه كذا وكذا، فأغاظ ذلك المنصور، فقال له: قم عليك غضب اللّه، تطأ بِساطي وتترحَّم على عدوي، فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي، ومنَّه في رقبتي لا ينزعها إلا غاسلي، فأمر المنصور برده، وقال: كيف قلت: قال: إنه كفإني الطلَبَ، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب عربي ولا عجمي منذ رأيته، أفلا يجب لي أن أذكره إلا بخير وأتبعه بثنائي: فقال: للّه نهضت عنك! أشهد أنك نهيض حرة وغِرَاسُ كريم، ثم أستمع منه، وأمر له بجائزة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذها لحاجة، وما هو إلا أن اتبجَّحَ بحبائك وأتشرف بصلتك، فأخذ الصلة، ققال له المنصور: مت إذا شئت، لله أنت لو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت لهم مجداً وقال لجلسائه بعد خروجه عنه: في مثل هذا تحسن الصَنِيعة، ويُوضع المعروف، وُيجَاد بالمَصُونِ، وأنّه في عسكرنا مثله.

المنصور ومعن بن زائدة

ودخل معن بن زائدة على المنصور، فلما نظر إليه قال: هِيهِ يا معن، تعطي مروان بن أبي حفصة مائة درهم على قوله:

مَعْنُ بن زائدة الذي زيدت به

 

شَرَفاً على شَرَفٍ بَنو شَيْبَان

فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله:

مازِلْتَ يومَ الهاشمية مُعْلِنـاً

 

بالسيف دونَ خليفةِ الرحمن

فمَنْعت حَوْزَتَهُ، وكُنت وِقَاءَه

 

مِنْ وَقْع كلِّ مُهَنَّدٍ وسِنَـان

فقال: أحسنت يا مَعْن، وكان مَعْن مِنْ أصحاب يزيد بن عمر بن هُبَيْرَة، وكان مستتراً حتى كان يوم الهاشمية- وقد كان سَعَت فيه عدة من أهل خراسان- فإنه حضر وهو مُعْتم متلثم، فلما نظر إلى القوم قد وَثَبوا على المنصور تقدم، ثم جعل يضربهم بالسيف قدامه، فلما أفرجوا وتفرق عنه قال: مَنْ أنتَ: فحسر عن وجهه، وقال: أنا طَلَبَتُكَ يا أمير المؤمنين مَعْن بن زائدة، فلما انصرف المنصور آمَنَهُ وحَبَاه وأكرمه وكساه ورتبه.

ودخل مَعْن بن زائدة يوماً على المنصور، فقال له: ما أسْرَعَ الناسَ إلى حسد قومك، فقال: يا أمير المؤمنين.

إن الغَرإنيقَ تَلْقَاها محسّـدة

 

ولن ترى للئام الناس حُسَّادا

المنصور يقع بين يديه سهم كتب عليه شعر وظلامة

وذكر ابن عياش المنتوف أن المنصور كان جالساً في مجلسه المبني على طاق باب خراسان من مدينته التي بناها وأضافها إلى اسمه، وسماها مدينة المنصور، مُشْرِفا على دجلة، وكانَ قد بنى على كل باب من أبواب المدينة في الاعلى من طاقه المعقود مجلساً يُشرِفُ منه على ما يليه من البلاد من ذلك الوجه، وكانت أربعة أبواب شوارع محدقة وطاقات معقودة، وهي باقية إلى وقتنا هذا الذي هو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، فأول أبوابها باب خراسان، وكان يسمى باب الدولة، لإقبال الدولة العباسية من خُرَاسان، ثم باب الشام، وهو تلقاء الشام، ثم باب الكوفة، وهو تلقاء الكوفة، ثم باب البصرة، وهوتلقاء البصرة، وقد أتينا على كيفية خبربناء تلك المدينة، واختيار المنصور لهذه البقعة بين دجلة والفرات ودُحَيْل والصَّرَاة، وهذه أنهار تأخذ من الفرات، وأخبار بغداد وعلة تسميتها بهذا الاسم، وما قاله الناسُ فىِ ذلك، وخبر القبة الخضراء وسقوطها في هذا العصر، وقصة قبة الحجاج الخضراء التي كان الحجاج بناها بواسط العراف، وبقاؤها إلى ذلك الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، في كتابنا الاوسط الذي كتابُنَا هذا تال له، فبينما المنصور جالس في هذا المجلس مِنْ أعالي باب خُرَاسان إذ جاء سهم عائر حتى سقط بين يديه، فذُعِرَ منه المنصور ذعراً شديداً ثم أخذه فجعل يقلبه فإذا هو مكتوب عليه بين الريشتين:

أتطمع فىِ الحياة إلى التَّنَاد

 

وتحسبَ أن مالك مِنْ مَعَادِ

ستسأل عن ذنوبكَ والخطَايَا

 

وتُسأل بعد ذاكَ عن العباد

ثم قرأ عند الريشة الأخرى:

أحسنْتَ ظَنَك بالأيام إذْ حَسُنَـت

 

ولم تَخَفْ سوء مايأْتي به القدر

وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بهـا

 

وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر

ثم قرأ عند الريشة الأخرى:

هي المقاديرُ تجرِي في أعِنَتـهـا

 

فاصبرفليس لها صَبْرٌ على حال

يوماً ثُرِ بك خَسِيس القوم ترفعـه

 

إلى السماء، ويوماً تخفض العالي

وإذا على جانب السهم مكتوب: همذان منها رجل مظلوم في حبسك، فبعث مِنْ فَوْره بعدة مِنْ خاصته، ففتشوا الحبوس والمَطَابِقَ فوجدوا شيخاً في بَنِيَّةٍ من الحبس فيه سراج يسرج وعلى بابه بارية مسبلة، وإذا الشيخ مُوثَقٌ بالحديد متوجه نحو القبلة يردد هذه الآية " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون" فسألوه عن بلده، فقال همذان، فحمل، ووضع بين يدي المنصور، فسأله عن حاله فأخبره أنه رجل من أبناء مدينة همذان، وأرباب نعمها، وأن واليك علينا دخل بلدنا ولي ضَيْعَة في بلدنا تُسَاوي الف الف درهم، فأراد أخذهَا مني، فامتنعت فكبلني في الحديد، وحملني وكتب اليك إني عَاصٍ، فطرحت في هذا المكان، فقال: منذ كم لك في الحبس. قال: منذ أربعة أعوام، فأمر بفَكِّ الحديد عنه، وإلاحسان إليه، وإلاطلاق له، وأنزله أحسن منزل ورده إليه، فقال له: يا شيخ قد رَدَدنا عليك ضيعتك بخراجها ما عشت وعشنا، وأما مدينتك همذان فقد وليناك عليها، وأما الوالي فقد حكمناك فيه، وجعلنا أمره اليك، فجزاه خيرآ، ودعا له بالبقاء، وقال: يا أمير المؤمنين أما الضيعة فقد قبلتها، وأما الولاية فلا أصلح لها، وأما واليك فقد عفوت عنه، فأمر له المنصور بمال جزيل، وبر واسع، واستحلَّه وحمله إلى بلده مكرماً، بعد أن صرف الوالي وعاقبه على ما جنى من انحرافه عن سنة العدل وواضحة الحق، وسال الشيخ مكاتبته في مهماته وأخبار بلده، وإعلامه بما يكون من ولاته على الحرب والخراج، ثم أنشأ المنصور يقول:

من يصحب الدهر لا يأمن تَصَرفه

 

يوماً، وللدهر إحـلاء وإمـرار

لكل شيء وإن دامت سلامـتـه

 

إذا انتهى فله لا بـدَ إقـصـار

المنصور يستشير في أمر أبي مسلم

وقال المنصور يوماً لسالم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم. قال: لوكان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا، فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية.


وذكر ابن دأب وغيره عن عيسى بن علي قال: ما زال المنصور يشاورنا في جميع أموره حتى امتدحه إبراهيم بن هَرْمَة فقال في قصيدة له:

إذا ما أراد إلامر ناجى ضمـيره

 

فناجى ضميراً غير مختلف العقل

ولم يشرك الأذنين في سـرأمـره

 

إذا انتقضت بإلاصبعين قوى الحبل

ولما أراد المنصور قتل أبىِ مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشورة فيه، فأرقه ذلك، فقال:

تَقسمَني أمران لم أمتحنـهـمـا

 

بحزم، ولم تعرك قواي الكراكر

وما ساور إلاحشاء مثـل دفـينة

 

من الهم رَدَّتْهَا عليك المصـادر

وقد علمت آبناء عدنان أنـنـي

 

على مثلها مِقدامة متجـاسـر

خروج عبد اللهّ بن علي

وقد كان عبد اللّه بن علي خالف على المنصور، ودعا إلى نفسه مَنْ كان معه من أهل الشام وغيرهم، فبايعوه وزعم أن السفاح جعل الخلافة من بعده لمن انتدب لقتل مروان، فلما بلغ المنصور ذلك من فعل عبد اللهّ كتب إليه:

سأجعل نفسي منك حيث جعلتها

 

وللدهرأيام لهـنّ عـواقـب

ثم بعث إليه بأبي مسلم، فكانت له معه حروب كثيرة ببلاد نصيبين في الموضع المعروف بدير الاعور، وصبر الفريقان جميعاً شهوراً على حربها، واحتفروا الخنادق، ثم انهزم عبد اللّه بن علي فيمن كان معه، وسار في نفر من خواصه إلى البصرة، وعليها أخوه سليمان بن علي عم المنصور، فظفر أبومسلم بما كان في عسكر عبد اللهّ، فبعث إليه المنصور بيقطين بن موسى لقبض الخزائن، فلما دخل يقطين على أبي مسلم قال: السلام عليك أيها الامير، قال: لا سَلّم اللهّ عليك يا ابن اللَّخْناء، أؤتمن على الدماء ولا أؤتمن على الامور. فقال له: ما أبدى هذا منك أيها الأمير، قال: أرسلك صاحبك لقبض ما في يديَّ من الخزائن، فقال له: امرأته طالق ثلاثا إن كان أمير المؤمنين وَجَهَنِي إليك لغير تهنئتك بالظفر، فاعتنقه أبو مسلم، وأجلسه إلى جانبه، فلما انصرف قال لاصحابه: والله إني لأعلم انه قد طلق زوجته ثلاثا ولكنه وَفّي لصاحبه.

خلاف أبي مسلم للمنصور وقتله

وسار أبو مسلم من الجزيرة وقد أجمع على خلاف المنصور، واجتاز على طريق خراسان متنكباً للعراق يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار يريد المدائن، فنزل برومية المدائن التي بناها كسرى، وقد قدمنا ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب، وكتب الى أبي مسلم: إني قد اردت مذاكرتك باشياء لم يحتملها الكتاب، فاقبل فان مقا مَكَ عندنا قليل، فقرا الكتاب ومضى على حاله، فسرح إليه المنصور جرير بن يزيد بن جرير بن عبد اللّه البجيلي، وكان واحد اهل زمانه، وداهية عصره، وكانت المعرفة بينه وبين أبي مسلم قديمة بخراسان، فأتاه فقال: أيها الامير، ضربت الناس عن عرض لأهل هذا البيت، ثم تنصرف على هذه الحالة. ما آمَنْ ان يعيبك من هنَالك ومن ههنا، وان يقال: طلب بثأر قوم ثم نقض بيعتهم، فيخالفك مَنْ تأمن مخالفته إياك، وان الامر لم يبلغ عند خليفتك ما تكره، ولا أرى ان تنصرف على هذه الحال، فاراد ان يجيب إلى الرجوع، فقال له مالك بن الهيثم، لا تفعل، فقال لمالك: ويلك، لقد بليت بإبليس وما بليت بمثل هذا قط، يعني الجريري، فلم يزل به حتى اقبل به على المنصور، وكان أبو مسلم يجد خبره في الكتب السالفة ونعته وانه يقتل بالروم، وكان يكثر من قول ذلك، وانه يقتل بالروم على حسب ما وجد فىِ المَلاحم وانه يميت دولة ويحيي اخرى، فلما دخل على المنصور وقد تلقاه الناس رَحَّبَ به وعانَقَه وقال له: كِدْتَ ان تمضي قبل ان اقضي عليك بما أريد، قال: فقد أتيت يا أمير المؤمنين فأمر بامرك، فامر بالانصراف الى منزله، وانتظر فيه الفرص والغوائل، فركب أبو مسلم الى المنصور مرارا وهو لا يُظْهِر له شيئاً، ثم ركب وقد أظهر له التجنَيَ، فسار أبو مسلم الى عيسى بن موسى، وكان له فيه راي جميل، فسأله الركوب معه الى المنصور ليعذله بحضرته، فأمره ان يتقدمه الى المنصور فانه بالأثر، فتقدم أبو مسلم الى مَضْرب المنصور، وهو على دجلة برومية المدائن، فدخل وجلس تحت الشراع- وقيل الرواق - فأخبر ان المنصور يتوضأ للصلاة، وكان المنصور قد تقدم إلى صاحب حَرَسِه عثمان بن نهيك في عدة فيهم شبيب بن رواح المروروذي وابو حنيفة حَرْبُ بن قيس، وأمرهم أن يقوموا خلف السرير الذي كان وراء ابي مسلم وامرهم انه اذا عاتبه وظهر صوته لا يظهروا، فاذا صفق بيد على يد فليظهروا، وليضربوا عنقه وما ادركوا منه بسيوفهم، وجلس المنصور، فقام ابو مسلم من موضعه ودخل فسلم عليه، فردَّ عليه، واذن له بالجلوس، وحادثه ساعة، ثم اقبل يعاتبه ويقول: فعلت وفعلت، فمال أبو مسلم: ليس يقال هذا لي بعد بَلائي وما كان مني، فقال له: يا ابن الخبيثة وانما فعلت ذلك بِجَدِّنَا وحُظُوظنا، ولو كان مكانك أمة سوداء لأجْزَتْ، ألست الكاتب إليَّ تبدأ بنفسك، والكاتب إليَّ تخطب اسية بنت علي وتزعمِ انك ابن سليط بن عبد الله بن العباس، لقد ارتَقَيْتَ لا أمَّ لك مُرْتَقىً صعباً، فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال المنصور، وهو اخر ما كلمه به: قتلني اللّه إن لم اقتلك، وذكر له قتله لسليمان بن كثير، ثم صفق بإحدى يديه على الاخرى، فخرج إليه القوم، فَبدرَهُ عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف قطعت نجاد سيف أبي مسلم، وضربه شبيب بن رواح فقطع رجله، واعتورته السيوف، فخلطت اجزاؤه، واتوا عليه، والمنصور يصيح: اضربوا قطع اللّه أيديكم، وقد كان أبو مسلم عند أول ضربة قال: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، قال: لا أبقإني اللّه أبداً إن ابقيتك، وأي عدو أعدى لي منك.

وكان قتله في شعبان من سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها كانت بيعة المنصور، وهزيمة عبد اللّه بن علي، وأعرج أبو مسلم في بساط. ودخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم، فقال: قد كان ههنا آنفاً، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت طاعته ونصيحته، ورأي إبراهيم الإمام فيه، فقال له المنصور: يا أنوك خلق اللّه ما أعلم في الأرض عدواً أعْدى لك منه، هاهو ذاك في البساط، فقال عيسى: إنا للّه وإنا إليه راجعون. ودخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم فقال: يا أمير المؤمنين، ان كنت اخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال المنصور: وفقك اللّه، ها هو في البساط، فلما نظر إليه قتيلاً قال: يا أمير المؤمنين، عُدِّ هذا اليوم أول خلافتك، وقد كان السفاح هم بقتله برأي المنصورثم رجع عن قتله، وأقبل المنصور علىمن حضره وأبومسلم بين يديه طريحاً فقال:

زعمت أن الدَّيْنَ لا ينقضي

 

فا سْتَوْفِ بالكيل أبا مجرم

اشرب بكأس كنت تسقي بها

 

أمرَّفي الحلق من العلقـم

ودعا المنصور بنصر بن مالك، وكان على شرطة أبي مسلم، فقال: استشارك أبو مسلم بالمسير إليَّ فنهيته. قال: نعم، ولم. قال: سمعت أخاك إبراهيم الإمام يحدث عن أبيه قال: لا يزال المرء يزداد في عقله اذا ما مَحَضَ النصيحة لمن شاوره، فكنْتُ له كذلك، وأنا الآن لك كذلك.

واضطرب أصحاب أبي مسلم ففرقت فيهم الأموال، وعلموا بقتله، فأمسكوا رَغْبَةً ورَهْبَةً.

خطبة المنصور بعد قتل أبي مسلم

وخطب المنصور الناسَ بعد قتله أبا مسلم فقال: أيها الناس، لاتخرجوا عن أنس الطاعة إلى وَحْشة المعصية، ولا تُسِرُّوا غِشَّ الأئمة، فان من أسرَ غش إمامه أظهر اللهّ سريرته في فَلَتَان لسانه، وسقطات أفعاله، وأبداها اللّه لِإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به، وإعلاء حقه بفلجه، إنا لم نَبْخَسكم حقوقكم، ولم نبخس الدين حقه عليكم، إن من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه ما في هذا الغمد، وإن أبا مسلم بأيعَنَا وبايع لنا على إنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه، ثم نكث بيعته هو، فحكمنا عليه لإنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه.

الخرمية الفرقة التي تتولى أبا مسلم

ولما نمي قتل أبي مسلم إلى خُرَاسإن وغيرها من الجبال اضطربت الخرمية، وهي الطائفة التي تدعى بالمسلمية القائلون بأبي مسلم وإمامته، وقد تنازعوا في ذلك بعد وفاته: فمنهم من راى إنه لم يمت ولن يموت حتى يظهر فيملأ الأرض عدلاً، وفرقة قطعت بموته وقالت بإمامة ابنته فاطمة، وهؤلاء يُدْعَوْنَ الفاطمية، واكثر الخرمية في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- الكردكية واللود شاهية وهاتان الفرقتان أعظم الخرمية، ومنهم كان بابك الخرمي الذي خرج على المأمون والمعتصم بالبدين من أرض الران وافر بيجان، وسنأتي على خبره وخبر مقتله في أخبار المعتصم فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء اللّه، وأكثر الخرمية ببلاد خراسان والري واصبهان وأذربيجان وكرج أبي دلف والبرج الموضع المعروف بالرذ والورسنجان ثم ببلا الصيروان والصيمرة واريوجان من بلاد ما سبذان وغيرها من تلك الأمصار، وأكثر هؤلاء في القرى والضياع، وسيكون لهم عند أنفسهم شأن وظهور يراعونه وينتظرونه في المستقبل من الزمان، ويعرفون هؤلاء بخراسان وغيرها بالباطنية، وقد اتينا على مذاهبهم وذكر فرقهم في كتابنا المقالات، في أصول الديانات وان كان قد سبقنا إلى ذلك مؤلفو الكتب في المقالات.

فاجتمعت الخرمية- حين علمت بقتل أبي مسلم- بخراسان، فخرج فيهم رجل يقال له بسنفاد من نيسابور يطلب بدم أبي مسلم فسار في عسكر عظيم من بلاد خراسان إلى الري، فغلب عليها وعلى قومه وما يليها، وقبض على ما كان بالري من خزائن أبي مسلم، فكثر جمع بسنفاد بمن حوله من أهل الجبال وطبرستان، ولما اتصل خبر مسيرهم بالمنصور سَرَّحَ إليه جهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف رجل، وتلاه بالعساكر، فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعاً، فقتل بسنفاد، وولى أصحابه، فقتل منهم ستون ألفاً وسبى منهم سبايا وفراري كثيرة، وكان بين خروجه إلى مقتله سبعون ليلة، وذلك في سنة ست وتلاثين ومائة بعد قتل أبي مسلم بأشهر.

ظهور محمد بن عبد اللّه بن الحسن النفس الزكية

وفي سنة خمس واربعين ومائة كان ظهور محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم بالمدينة، وكان قد بويع له في كثير من الأمصار، وكان يُدْعَى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور، ولم يظهر حتى قَبَضَ المنصور على أبيه عبد اللّه بن الحسن وعمومته وكثير من أهله وعدتهم، ولما ظهرمحمد بن عبد اللّه بالمدينة دعا المنصور اسحاق بن مسلم العقيلي، وكان شيخا ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر عليَّ في خارجي خرج علي، قال: صف لي الرجل، قال: رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو علم وزهد وورع، قال: فمن تبعه، قال: ولد علي وولد جعفر عَقِيل وولد عمر بن الخطاب وولد الزبير بن العوام وسائر قريش وأولاد الأنصار، قال له: صف لي البلد الذي قام به، قال: بلد ليس به زَرْع ولا ضَرْع ولا تجارة واسعة، ففكر ساعة ثم قال: اشحن يا أمير المؤمنين البصرة بالرجال، فقال المنصور في نفسه: قد خَرِق الرجل، أسأله عن خارجي خرج بالمدينة يقول لي اشحن البصرة بالرجال، فقال له: انصرف يا شيخ، ثم لم يكن إلا يسير حتى ورد الخبر ان إبراهيم قد ظهر بالبصرة، فقال المنصور: علي بالعقيلي، فلما دخل عليه أدناه ثم قال له: إني كنت قد شاورتك في أمر خارجي خرج بالمدينة فأشرت على أن أشحن البصرة بالرجال أو كان عندك من البصرة علم. قال: لا، ولكن ذكرت لي خروج رجل أذا خرج مثلُه لم يتخلف عنه أحد، ثم ذكرت لي البلد الذي هو فيه فاذا هو ضيق لا يحتمل الجيوش، فقلتُ: إنه رجل سيطلب غيرموضعه، ففكرت في مصر فوجدتها مضبوطة، والشام والكوفة كذلك، وفكرت في البصرة فخفت عليها منه لخلوها، فأشرت بشحنها، فقال له المنصور، أحسنت، وقد خرج بها أخوه، فما الرأي في صاحب المدينة. قال: ترميه بمثله، إذا قال: أنا ابن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، قال هذا: وأنا ابن عمر رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، فقال المنصور لعيسى بن موسى: أما أن تخرج إليه وأقيم أنا أمدُّكَ بالجيوش، وإما ان تكفيني ما أخف ورائي وأخرج أنا إليه، فقال عيسى: بل أقيك بنفسي يا أمير المؤمنين، وأكون الذي يخرج إليه، فاخْرَجَه إليه من الكوفة في أربعة آلاف فارس والذي راجل، وتبعه محمد بن قحطبة في جيش كثيف، فقاتلوا محمدا بالمدينة حتى قتل وهو ابن خمس واربعين سنة، ولما اتصل بإبراهيم قتل اخيه محمد بن عبد اللهّ وهو بالبصرة صعد المنبر فنعاه وتمثل:

أبا لمنـازل يا خـير الـفـوارس

 

من يُفْجَعْ بمثلك في الدنيا فقد فُجِعَا

اللَّه يعلم أنـىِ لـوخـشـيتـهـم

 

وأوْجَسَ القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلـم أخَـيَّ لـهـم

 

حتى نموت جميعا اونعيش مـعـا

تفرق إخوة محمد بن عبد اللّه في البلاد

" وقد كان تفرق اإوة محمد وولده في البلدان يدعون إلى إمامته ة فكان فيمن توجه ابنه علي بن محمد إلى مصر، فقتل بها، وسار ابنه عبد الله إلى خراسان فهرب لما طلب إلى السند، فقتل هناك، وسار ابنه الحسن إلى اليمن، فحبس فمات في الحبس، وسار أخوه موسى إلى الجزيرة، ومضى أخوه يحيى إلى الري ثم إلى طبرستان، فكان من خبره في أيام الرشيد ما سنورده فيما يرد من هذا الكتاب، ومضى أخوه الحريس بن عبد اللّه إلى المغرب فأجابه خلق من الناس، وبعث المنصور من اغتاله بالسم فيما احتوى عليه من مدن المغرب، وقام ولده إدريس بن إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن مقامه، فَعُرِفَ البلد بهم، فقيل: بلد إدريس بن إدريس، وقد اتينا على خبرهم عند ذكرنا لخبر عبيد اللهّ صاحب المغرب وبنائه المدينة المعروفة بالمَهْدِية، وخبر أبي القاسم ابنه بعده، وانتقالهم من مدينَةَ سلمية من أرض حمص إلى المغرب، في الكتاب الاوسط، ومضى إبراهيم أخوه إلى البصرة وظهر بها، فأجابه أهل فارس والاهواز وغيرهما من الأمصار وسار من البصرة في عساكر كثيرة من الزَّيْدِية وجماعة ممن يذهب إلى قول البغداديين من المعتزلة وغيرهم، ومعه عيسى بن زيدبن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، فسير إليه المنصور عيسى بن موسى وسعيد بن سلم في العساكر، فحارب حتى قتل في الموضع المعروف بباخَمْرى، وذلك على ستة عشر فرسخا من الكوفة من أرض الطفّ، وهو الموضع الذي ذكرته الشعراء ممن رثى إبراهيم، فممن ذكر ذلك دِعْبِلُ بن علي الخزاعي، فقال في قصيدة له أولها:

مدارس أياتٍ خَلَتْ من تـلاوة

 

ومنزل وَحْيٍ مُقْفِر العرصات

ومنهاقوله فيهم:

قبور بكوفان، وأخرى بـطـيبة

 

وأخرى بفَخٍّ، يا لها صـلـوات

وأخرى بأرض الجوزجان محلها

 

وقبر بباخَمْرَى لدى الغَرَبَـاتِ

وقتل معه من الزيدية من شيعته اربعمائة رجل، وقيل: خمسمائة رجل.

وروي بعض الأخباريين عن حماد التركي قال: كان المنصور نازلاً في دَيْرٍ على شاطىء دجلة في الموضع الذي يسمَّى اليوم الخلد، ومدينة السلام، إذ أتى الربيع في وقت الهاجرة، والمنصور نائم في البيت الذي هو فيه، وحماد قاعد على الباب والخريطة بيد الربيع، بخروج محمد بن عبد اللّه فقال: يا حماد افتح الباب، فقلت: الساعة هجع أمير المؤمنين، فقال: افتح ثَكلَتْكَ أمك، قال: فسمع المنصور كلامه،. فنهض يفتح الباب بيده وتناول منه الخريطة، فقرأ ما فيها من الكتب وتلا هذه الأية : "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه، ويَسْعَوْنَ في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين" ثم أمر بإحضار الناس والقواد والموالي وأهل بيته وأصحابه، وأمر حماداً التركي بإسراج الخيل، وأمر سليمان بن مجلد بالتقدم، والمسيب بن زهير فأخرج الأقوات ثم خرج فصعد المنبر، فحمد اللهّ واثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

مالي أكَفْكِف عن سعد ويشتمني

 

وإن شتمت بني سعد لقد سكنوا

جهلاعلينا وجُبْناً عن عـدوهـم

 

لبئست الخَصْلَتان الجهلُ والجُبُنُ

أما واللّه لقد عجزوا عن أمرٍ قمْنَا له، فما شكروا القائم ولا حمدوا الكافي، ولقد مهدوا فاستوعروا، وغبطوا فغمطوا، فماذا تحاول مني، أسقى رنقاً على كدر. كلا واللّه، لان أموت معززاً أحب إلي من أن أحيا مستذلًا، ولئن لم يرض العفو مني ليطلبَنَّ ما لا يوجد عندي، والسعيد من وعظ بغيره، ثم نزل، فقال: يا غلام، قدم، فركب من فوره إلى معسكره، وقال: "اللهم لا تَكِلْنَا إلى خلقك فنضيع، ولا إلى أنفسنا فنعجز فلا تكلنا إلا إليك.

وذكر ان المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها، فقال: أراد إبراهيم ان يحرمني هذا وأ شْبَاهَه. وذكر ان المنصور قال يوماً لجلسائه بعد قتل محمد وإبراهيم: تاللّه ما رأيتُ رجلًا أنصح من الحجاج لبني مروان، فقام المسيب بن زهير الضبي فقال: يا أمير المؤمنين ما سبقَنَا الحجاج بأمر تخلّفْنَا عنه، واللّه ما خلق اللّه على جديد الأرض خلقا أعز علينا من نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد أمرتَنَا بقتل أولاده فأطعناك، وفعلنا ذلك، فهل نصحناك أم لا، فقال له المنصور: أجلس لا جلست. وقد ذكرنا أنه كان قبض على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي رضي اللّه عنه ومحمد وإبراهيم ابني عبد اللّه وعلى كثير من أهل بيته، وذلك في سنة اربعِ واربعين ومائة في مُنْصَرَفِهِ من الحج، فحملوا من المدينة إلى الربَذةِ من جادةِ العراق، وكان ممن حمله مع عبد اللّه بن الحسن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وأبو بكر بن الحسن بن الحسن، وعلي الخير، وأخوه العباس، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن والحسن بن جعفربن الحسن بن الحسن ومعهم محمد بن عبد اللهّ بن عمروبن عثمان بن عفان أخوعبد اللّه بن الحسن بن الحسن لأمه فاطمة ابنة الحسين بن علي وجدتهما فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فجرد المنصور بالربَذَةِ محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان فضربه ألف سوط، وسأله عن ابنَيْ أخيه محمد وإبراهيم، فأنكر ان يعرف مكأنهما، فسألت جدته العثمانية في ذلك الوقت، وارتحل المنصور عن الربذة وهو في قبة، وأوهن القوم بالجهد فحملوا على المحأمل المكشوفة، فمربهم المنصور في قبته على الجمازة فصاح به عبد اللّه بن الحسن: يا أبا جعفرما هكذا فعلنا بكم يوم بدر فصيرهم إلى الكوفة، وحبسوا في سرداب تحت الأرض لا يفرقون بين ضياء النهار وسواد الليل، وخَلّى منهم سليمان وعبد اللهّ ابنَيْ داود بن الحسن بن الحسن وموسى بى عبد اللّه بن الحسن والحسن بن جعفر، وحبس الاخرين ممن ذكرناهم حتى ماتوا، وذلك على شاطىء الفرات بالقرب من قنطرة الكوفة، ومواضعهم بالكوفة تُزَار في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكان قد هدم عليهم الموضع، وكانوا يتوضؤن في مواضعهم فاشتدت عليهم الرائحة، فاحتال بعض موإليهم حتى أدخل إليهم شيئا من الغالية فكانوا يدفعون بشمها تلك الروائح المنتنة، وكان الورم يبدو في اقدامهم فلا يزال يرتفع حتى يبلغ ألفؤاد فيموت صاحبه.

وذكر من وجه آخر أنهم لما حبسوا في هذا الموضع أشكل عليهم أوقات الصلاة فجزؤا القرآن خمسة اجزاء، فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كلِّ واحد منهم من حزبه، وكان عدد من بقي منهم خمسة، فمات إسماعيل بن الحسن، فترك عندهم حتى جَيَّف، فصعق داود بن الحسن فمات وأتى برأس إبراهيم بن عبد اللهّ فوجه به المنصور مع الربيع إليهم، فوضع الرأس،بين أيديهم وعبد اللّه يصلي، فقال له إدريس، أخوه: أسرع فى صلاتك يا أبا محمد، فالتفت إليه واخذ الرأس فوضعه في حجره وقال له: أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم، واللّه لقد كنت- ما علمتًكَ- من الدين قال اللهّ عز وجل فيهم: "الذين يوفُونَ بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق، والذين يَصِلُون ما أمر اللّه به أن يوصل" إلى اخر الآية فقال له الربيع: كيف أبو القاسم في نفسه، قال: كما قال الشاعر:

فتى كان يحميه من الذل سَيْفه

 

ويكفيه أن يأتي الذنًوبَ اجْتِنَابها

ثم التفت إلى الربيع فقال له: قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا أيام، ومن نعيمك أيام، والملتقى يوم القيامة: قال الربيع: فما رأيت المنصور قطُّ أشد انكسارا منه في الوقت الذي بلغته فيه هذه الرسالة، فأخذ هذا المعنى العباس بن الأحنف فقال:

فإن تلحظي حالي وحَـالـكِ مَـرَّةً

 

بنظرة عين عن هَوى النفس تحجب

تَرَى كل يوم مَرَّمن بؤس عيشتـي

 

تمر بيوم من نعـيمـك يُحْـسـب

قال المسعودي: ولما أخذ المنصور عبد اللّه بن الحسن وأخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر بالهاشمية، فحمد اللهّ واثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أهل خُرَاسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دعوتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيرا منا، ان ولد ابن أبي طالب تركناهم والذي لا اله الا هو والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير، فقام فيها علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فما أفلح، وحكم الحكمين، فاختلفت عليه الأمة، وافترقت الكلمة، ثم وَثَبَ عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه، ثم قام بعده الحسن بن علي رضي اللهّ- عنه فواللهّ ما كان برجل، عرضت عليه الأموال فقبلها، ودَسَ إليه معاوية إني أجعلك وليَّ عهدي، فخلعه وانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي رضي اللّه عنه، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرَة السوء، وأشار إلى الكوفة، فوالله ما هي لي بحرب فأحاربها ولا هي لي بسلم فأسالمها، فرق اللهّ بيني وبينها، فخذلوه وابرؤوا أنفسهم منه، فأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي فخدَعه أهل الكوفة وغروه، فلما أظهروه واخرجوه أسلَمُوه، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده اللّه في الخروج، وقال له: لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فأنا نجد في علمنا أن بعض أهل بيتنا يُصْلَبُ بالكُنَاسة، واخشى ان تكون ذلك المصلوب وناشده اللهّ بذلك عمي داود وحَنّره رحمه اللّه غَدْرَ أهل الكوفة. فلم يقبل وتم على خروجه، فقتل وصلب بالكُنَاسة، ثم وثب بنو أمية علينا فأبتزو شرفنا، وأذهبوا عزنا، واللهّ ما كان لهم عندنا تِرَةٌ يطلبونها، وما كان ذلك. كله إلا فيهم وبسبب خروجهم، فنفونا عن البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالسَّرَاة، حتى ابتعثكم اللهّ لنا شيعة وأنصارا، فأحيا اللهّ شرفنا وعزنا بكم، يا أهل خراسان، ودفع بحقكم أهل الباطل وأظهر لنا حقنا، وأصار الينا أمرنا وميراثنا من نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق في قراره، وأظهر اللهّ مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للهّ رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل اللهّ وحكمه العدل وثَبُوا علينا حسدا منهم لنا وبغيا علينا، بما فضلنا اللّه به عليهم، وأكرمنا من خلافته ميراثنا من نبيه، وجبناً من بني أمية، وجراءة علينا، إنىِ واللهّ يا أهل خراسان ما اتيت من هذا الأمر من جهالة ولاعن ظنة ولقد كنت تبلغني عنهم بعض السقم ولقد كنت سميت لهم رجالاًفقلت: قم أنت يا فلان، فخذ معك من المال كذا وكذا، وقم أنت يا فلان فخذ معك من المال كذا وكذا، وحذوت لهم مثالًا يعملون عليه فخرجوا حتى أتوا المدينة فلقوهم فدسوا ذلك المال، فواللّه ما بقي منهم شيخ ولا شاب ولا صغير ولا كبير الا بايعهم لي، فاستحللت به دماءهم، جَلّتْ عند ذلك بنقضهم بيعتي وطلبهم الفتنة والتماسهم الخروج علي، ثم قرأ في درج المنبر وحيل بينهم وبين ما يشتهون، كما فعل بأشياعهم من فبل، أنهم كانوا في شك مريب.

بين المنصور والربيع

قال المسعودي: وقال المنصور للربيع يوماً: اذكر حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تحب الفضل ابني فقال له، ويحك! ان المحبة إنما تقع بأسباب، قال: يا أمير المؤمنين، قد أمكنك اللهّ من أيقاع لسبب، قال: وما ذاك. قال: تُفْضِل عليه، فإنك إذا فعلت ذلك حبك، وإذا أحببته قال: واللّه قد أحببته قبل أيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء، قال: لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير حسانه، وصغر عندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك كحاجة الشفيع العريان.

وقال المنصور يوماً للربيع: ويحك يا ربيع! ما أطيب الدنيا لولا الموت، قال له: ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف ذلك. قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، قال: صدقت.

بين المنصور وعمرو بن عبيد

وذكر إسحاق بن الفضل قال: بينا أنا على باب المنصور إذ أتى عمرو بن عبَيْدٍ فنزل عن حماره، وجلس، فخرج إليه الربيع، فقال له: قم أبا عثمان، بأبي أنت وأمي. فلما دخل على أبي جعفر أمر أن تفرش له لبود بقربه، وأجلسه إليه بعد ما سلم، ثم قال: يا أبا عثمان، عِظْنِي بموعظة، فوعظه بمواعظ، فلما اراد النهوض قال: أمرنا لك بعشر آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال أبو جعفر: واللهّ لتأخذَنهَا، قال: لا واللهّ لا آخذها، وكان المهدي حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت. فالتفت عمرو إلى أبي جعفر فمال: مَنْ هذا الفتى، قال. هذا محمد ابني، وهو المهديُّ، وهو وليُّ عهدي، قال: أما واللهّ لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار، ولقد سميته باسم ما استحقَّه عملاً. ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه، ثم أقبل عمرا على المهدي فقال: نعم يا أبن أخي، إذا حلف أبوك أحنثه عمك: لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك، فقال له المنصور: هل لك من حاجة يا أبا عثمان. قال: نعم، قال: ما هي. قال: ان لا تبعث إلي حتى أتيك، قال: إذا لا نلتقي، قال: هي حاجتي، فمضى واتبعه المنصور بطرفه، ثم قال:

كلكم يَمْـشِـي رُوَيْدْ

 

كلكم يطلـب صـيدْ

غير عمرو بن عُبَيْدْ

 

 

ودخل عمرو بن عبيد على المنصور بعد ما بايع للمهدي، فقال له: يا أبا عثمان هذا ابن أمير المؤمنين، ووليُّ عهد المسلمين، فقال لى عمرو: يا أمير المؤمنين، أراك قد وطَّدْتَ له الأمور، وهي تصير إليه. وأنت عنه مسؤول، فاستعبر المنصور وقال له: عظني يا عمرو، قال: يا أمير المؤمنين، إن اللّه قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشْتَرِ نفسك منه ببعضها. وان هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يد غيرك لم يصل إليك، فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده، وأنشد:

يا ذا الـذي قـد غَـرَّهُ الأمــل

 

ودون ما يأمل التنغيص والأجـل

ألا ترى إنما الدنـيا وزينـتـهـا

 

كمنزل الركب حَلًّوا ثُمَّتَ ارتحلوا

حُتُوفها رَصَدٌ،وعيشـهـا نـكـد

 

وصفوها كدر، وملـكـهـا دول

تظل تقرع بالروعات ساكـنـهـا

 

فما يسـوغ لـه لـين ولاجـذل

كأنه للمنـايا والـردى غَـرَضٌ

 

تظل فيه بنات الدهرتنـتـضـل

والنفس هاربة، والموت يَرْصُدُها

 

وكل عثرة رِجْل عندهـا زلـل

والمرء يسعى لما يبقى لـوارثـه

 

والقبر وارث ما يسعى له الرجل

موت عمرو بن عبيد

ومات عمرو بن عبيد في أيام المنصور سنة أربع وأربعين ومائة وقيل: سنة خمس وأربعين ومائة ويكنى أبا عثمان، وهو عمرو بن عبيد بن باب، مولى بني تميم، وكان جده باب من سَبْي كابل من رجال السند، وكان شيخ المعتزلة في وقته ومفتيها، وله خُطَب ورسائل، وكلام كثير في العدل والتوحيد وغير ذلك. وقد أتينا على أخباره والغرر من كلامه ومناظراته في كتابنا في المقالات في أصول الديانات.

وفي سنة" إحدى وأربعين ومائة شخص المنصور إلى بيت المقدس فصلّى فيه لنذركان عليه وانصرف.

موت هاشم بن عروة

وفي سنة ست وأربعين ومائة مات هشام بن عروة بن الزبير وهو ابن خمس وثمانين، وكان إذا اسمعه رجل كلاماً قال: أنا أرفع نفسي عنك، ثم نازع علي بن الحسن، فأسرع إليه هشام، فقال له علي: إني أدعوك إلى ما كنت تدعو إليه.

موت أبي حنيفة النعمان وجماعة

وفي سنة خمسين ومائة مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت مولى تَيْم اللات من بكر بن وائل في أيام المنصور ببغداد، توفي وهو ساجد في صلاته، وهو ابن تسعين سنة وفيها مات عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريجْ المكيُّ، مولى خالد بن أسيد، ويكنى أبا الوليد، وهو ابن سبعين سنة وفيها مات محمد بن إسجاق بن يَسَارمولى قيس بن مَخرَمَة من بني المطلب، ويكنى أبا عبد اللهّ، ويقال: مات سنة إحدى، ويقال: سنة اثنتين وخمسين ومائة.

وفي سنة سبع وخمسين مات الأوزاعي، ويكنى أبا عمر عبد الرحمن بن عمرو من أهل الشام، وإنما كان منزله فيهم- أعني الأوزاع- ولم يكن منهم- وذلك بدمشق فأضيف إليهم، وكان من سبي أهل اليمن في آخر أيام المنصور، وله تسعون سنة. وفي أيام المنصور مات ليث بن أبي سُلَيم الكوفي، مولى عَنْبَسة بن أبي سفيان، سنة ثمان وخمسين ومائة وفي سنة ست وخمسين ومائة مات سًوّار بن عبد اللّه القاضي، وفي سنة أربع وخمسين ومائة مات أبو عمروبن العلاء في أيام المنصور.

مقتل عبد اللّه بن علي، عم المنصور

وطال حبس عبد اللّه بن علي بأمر المنصور، وأقام في محبسه تسع سين، وقيل غير ذلك فلما أرادا المنصور الحجَّ في سنة تسع وأربعين وما حَوَّله من عنده إلى عيسى بن موسى، وأمره بقتله، وان لا يعلم بذلك أحدا، فبعث عيسى بن موسى إلى ابن أبي ليلى وابن شبرمة، فشاورهما في ذلك، فقال ابن أبي ليلى: أمض بما أمرك به أمير المؤمنين، وقال ابن شبرمة: لا تفعل، فأبى أن يقتله، وأظهر لأبي جعفر أنه قتله، وشاع ذلك فكلم بنوعلي المنصور في أخيهم عبد اللّه، فقال لهم: هوعند عيسى بن موسى، فلما قدموا مكة أتوا عيسى بن موسى فسألوه عنه، فقال: قد قتلته، فرجعوا إلى أبي جعفر، فقالوا: زعم عيسى أنه قد قتله، فأظهر أبو جعفر الغضب على عيسى، وقال: يقتل عمي. واللّه لأقتلنه، وكان أبو جعفر أحب ان يكون عيسى قتله فيقتله به فيستريح منهما جميعاً، قال: فدعا به، فقال: لِمَ قتلت عمي، قال: أنت أمرتني بقتله، قال: لم أمرك بذلك، فقال: هذا كتابُكَ إليَّ فيه، قال: لم اكتبه، فلما راى الجدً من المنصور، وتخوف على نفسه قال: هو عندي لم أقتله، قال: ادفعه إلى أبي الازهر المهلب بن أبي عيسى، فدفعه إليه، فلم يزل عنده محبوساً، ثم أمره بقتله، فدخل عليه ومعه جارية له فبدأ بعبد اللّه فخنقه حتى مات، ثم مَدَّهُ عَلَى الفراش، ثم أخذا الجارية ليخنقها فقالت: يا عبد اللّه، قِتْلَةَ غير هذه، فكان أبو الأزهر يقول: ما رحمت أحدا قتلته غيرها، فصرفت وجهي عنها، وأمرت بها فخنقت، ووضعتها معه في الفراش، وأدخلت يدها تحت جنبه ويده تحت جنبها كالمعتنقين، ثم أمرت بالبيت فهدم عليهما، ثم احضرنا القاضي ابن علاثة وغيره فنظروا إلى عبد اللهّ والجارية معتنقين على تلك الحال، ثم أمر به فدفن في مقبرة أبي سويد بباب الشام من بغداد في الجانب الغربي.

قال المسعودي: وذكر عبد اللهّ بن عياش المنتوف قال: قال المنصور يوماً ونحن عنده: اتعرفون جباراً أول اسمه عين قتل جباراً أول اسمه عين، وجباراً أول اسمه عين، وجباراً أول اسمه عين، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد بن العاص، وعبد اللّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال المنصور: أتعرفون خليفة أول اسمه عين قتل جباراً أول اسمه عين، وجبارا أول اسمه عين، وجباراً أول اسمه عين، قلت: نعم، أنت يا أمير المؤمنين، قتلت عبد الرحمن بن مسلم، وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وعمك عبد اللهّ ابن على سقط عليه البيت، قال: فما ذنبي ان كان سقط عليه البيت، قلت: لا ذنب لك، فتبسم ثم قال: هل تحفظ الأبيات التي قالتها زوجة الوليد ابن عبد الملك اخت عمرو بن سعيد حين قتل عبد الملك أخاها، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، خَرَجَت في اليوم الذي قتل فيه أخوها عمرو وهي حاسرة تنشد:

أيا عين جوعي بالدموع على عمـرو

 

عَشِيَّةً يُبْتَزُّ الخـلافة بـالـقـهـر

غدرتم بعمرٍ ويابني خـيط بـاطـل

 

وكلكُم يبني البيوت عـلـى غـدْر

وما كان عمرو عاجـزا،غـيرأنـه

 

أتته المنأيا بَـغْـتَةً وَهْـوَ لا يدري

كأن بني مـروان اذ يقـتـلـونـه

 

خَشَاشٌ من الطيراجتمعن على صَقْر

لحى اللًه دنيا تعقب النـارأهـلـهـا

 

وتهتك ما بين القرابة مـن سـتـر

ألا يا لقومي للـوفـاء ولـلـغـدر

 

وللمُغْلِقينَ الباب قَسْراًعلى عمـرو

فرُحْنَا وراح الشامـتـون عَـشِـيةً

 

كأن على أعناقهم فلق الـصـخـر

قال ابن عياش: فقال المنصور: فما الأبيات التي بعث بها عمرو بن سعيد إلى عبد الملك بن مروان. قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين كتب إليه:

يريد ابن مروان أموراً أظـنـهـا

 

ستحمله مني على مركب صَعْـب

لينقض عهداً كـان مـروان شـده

 

وأدرك فيه بالقطـيعة والـكـذب

فقدمته قبلي، وقد كنـت قـبـلـه

 

ولولا انقيادي كان كرب من الكرب

وكان الذي اعطيت مروان هفـوَة

 

غلبت بهارأيا، وَخَطْباً من الخطب

فإن تُنْفِذُ الأمر الذي كان بـينـنـا

 

فَقَلْنَا جميعاً بالسُّهَولة والـرَّحْـب

وإن يُعْطَهَا عَبْدُ العـزيز ظـلامة

 

فأولى بها مِنَّا ومنه بنـو حَـرْبِ

وفاة المنصور

وكان مولد المنصور في السنة التي مات فيها الحجاج بن يوسف، وهي سنة خمس وتسعين، وكان يقول: ولدت في ذي الحجة، واعذرت في ذي الحجة، ووليتَ الخلافة في ذي الحجة، وأحسب المنية تكون في في الحجة، فكان كما ذكر.
وحدث الفضل بن الربيع قال: كنت مع المنصور في السفر الذي مات فيه فنزل منزلاً من المنازل، فبعث إليَّ وهو في قبة ووجههُ إلى الحائط، فقال لي: ألم أنهكَ ان تَدَعَ العامة يدخلون هذه المنازل فيكتبوا فيها مالا خير فيه. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين، قال: أما ترى على الحائط مكتوباً.

أبا جعفرٍ حانت وفاتكَ، وانقَضَتْ

 

سِنُوكَ، وأمرُ اللَّهِ لا بًدَّ نَـازِلُ

أباجعفرٍ، هل كاهِنٌ مـنَـجِّـم

 

يرد ُّقضاء اللهّ، أم أنت جاهـل

قال: قلت: واللهّ ما أرى على الحائط شيئاً، وأنه لنقيٌّ أبيض، قال: واللّه، قلت: اللهّ، قال: أنها واللّه إذا نفسي نعيت إلى الرحيل، بادر بي إلى حَرَم ربي وأمنِهِ هارباً من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فرحلنا وقد ثقل، حتى إذا بلغنا بئر ميمون، قلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم قال: الحمد للهّ فتوفي بها.

صفات المنصور

وكان المنصور من الحزم وصواب الرأي وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف، وكان يعطي الجزيل والخطير ما كان عطاؤه حزماً، ويمنع الحقير اليسير ما كان إعطاؤه تضييعاً، وكان كما قال زياد: لو ان عندي ألف بعير وعندي بعير أجرب لقمت عليه قيام مَنْ لا يملك غيره، وخلف أبو جعفر ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وكان مع هذا يضن بماله، وينظر فيما لا ينظر فيه العوام، ووافق صاحب مطبخه على أن له الرؤوس والأكارع والجلود، وعليه الحطب والتوابل، ومن كرمه أنه وصل عمومته وهم عشرة في يوم واحد بعشرة آلاف درهم، وأسماؤهم: عبد اللّه بن علي، وعبد الصمد بن علي، وإسماعيل بن علي، وعيسى بن علي، وداود بن علي، وصالح بن علي، وسليمان بن علي، وإسحاق بن علي، ومحمدبن علي، ويحيى بن علي، وكان يعمل في بناء مدينة بغداد التي بناها وعرفت به في كل يوم خمسون ألف رجل.

أولاده: وكان له من الولد: المهدي وجعفر، وأمهما أم موسى الحميرية، وتوفي جعفر في حياة أبيه المنصور، وسليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الاصغر، من كردية، وصالح الملقب بالمسكين، وبنت تسمى عالية.

قال المسعودي: وللمنصور أخبار حسان مع الربيع وعبد اللّه بن عياش وجعفربن محمد وعمروبن عبيد وغيرهم، وله خطب ومواعظ وسير وسياسات في الملك، وقد أتينا على أكثرها في كتابنا أخبار الزمان والأوسط، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً تَدُلُكَ على ما سبق في كتبنا، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.