ذكر خلافة المهدي

ذكر خلافة المهدي

محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس

ويكنى أبا عبد اللّه، وأمه أم موسى بنت منصوربن عبد اللّه بن ذي سهم بن أبي سَرْح، من ولد في رُعَيْنٍ من ملوك حِمْيَر.


أخذا له البيعة بمكة الرَّبيعُ مولاه يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وأتاه بنعي أبيه وبيعته منارةُ مولاه، فأقام يومين بعد ذلك، ثم خطب الناس فنعى أباه ودعا إلى بيعته وبويع بيعة العامة، وكان مولده سنة سبع وعشرين ومائة، وخرج منِ مدينة السلام في سنة تسع وستين ومائة يريد بلاد قرماسين من بلاد الدِّينورِ، وقد وصف له طيب ما سبذان من بلاد السيروان وجرجان، فعدل إلى الموضع المعروف بأرزن والران، فمات بقرية يقال لها ردين ليلة الخميس لسبعِ بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة، فكانت خلافته عشرسنين وشهراً وخمس عشر يوماً، وقبض وله ثلاث واربعون سنة، وصلى عليه هرون الرشيد، وكان موسى الهادي غائباً بجرجان، وقيل: أنه مات مسموماً في قطائف أكلها، ولبست حُسنة جاريتُه وغيرها من حَشمه المسوحَ والسواد جزعاً عليه، فقال في ذلك أبو العتاهية :

رحْنَ في الوَشْي وأصبحنَ عليهنَ المسُوحُ

كل نطَّاح وان عاش، له يوماً نَطُوحُ

لستَ بالباقي ولوعُمِّرْتَ ما عُمِّرَنوحُ

فَعَلَى نفسكَ نحْ ان كنت لا بُدَّ تنوحُ

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

المهدي وشريك القاضي

ذكر الفضل بن الربيع قال: دخل شريك القاضي على المهديِّ يوماً: فقال له: لا بد ان تجيبني إلى خَصْلَة من ثلاث خصال قال: وما هن يا أمير المؤمنين. قال: أما ان تلي القضاء، او تحدِّثَ وَلدِي وتعلمهم، او تأكل عندي أكلة، ففكر ثم قال: الأكلة اخفهنّ على نفسي فاحتبسه وقدم إلى الطباخ ان يصلح له الوانا من المخ المعقود بالسكر الطيرزذ والعسل، فلما فرغ من غَذَائه قال له القيم على المطبخ: يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبداً، قال الفضل بن الربيع: فحدثهم واللهّ شريك بعد ذلك، وعَلّم أولادهم، وولي القضاء لهم، ولقد كتب بأرزاقه إلى الجهبذ فضأيقه في النقص، فقال له الجهبذ: انك لم تبع بزاً، قال له شريك: بلى والله لقد. بعت أكبرمن البز، لقد بعت ديني.

المهدي وعمرو بن الربيع يجوعان في طريقهما للصيد

وقال الفضل بن الربيع: خرج المهدي متنزها ومعه عمرو بن ربيع مولاه، وكان شاعراً، فانقطع عن العسكر، والناس في الصيد، وأصاب المهدفيَ جوع شديد، فقال لعمرو: ويحك ا رْتَدْ لي إنساناً نجد عنده ما نأكل، فما زال عمرو يطوف إلى ان وجد صاحب مَبْقَلة وإلى جانبها كوخ له، فصعد إليه فقال له: هل عندك شيء يؤكل. قال: نعم، رقاق من خبن شعير ورثيثة، وهذا البقل والكراث، فقال له المهدي: ان كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، عندي فضلة منه، فقدم إليهما ذلك، فأكلا أكلاً كثيراً، وأمعن المهدي حتى لم يبق فيه فضلة، فقال لعمرو: قل شعراً تصف به ما نحن فيه، فقال عمرو:

إن من يُطْعِمُ الرثيثة بالزيت وخُبن الشعير بالكُرًاث

لحقيقٌ بِصَفْعَةٍ اوبثنتين لسوء الصنيع أو بـثـلاث

فقال المهدي: بئس واللّه ما قلت، ولكن أحسن من ذلك:

لحقيقٌ ببدرة اوبثنتين لحسن الصنيع او بثلاث

ووافى العسكر، ولحقته الخزائن والخَدَمُ والمواكب، فأمر لصاحب المبقلة بثلاث بدرٍ دراهم.

ومرة أخرى يجوع المهدي في طريقه للصيد

قال: وعارا به فرسُه مرة أخرى، وقد خرج للصيد، فدفع إلى خِبَاءٍ أعرابي وهو جائع، فقال: يا أعرابي هل عندك قِرىً فإني ضيفك. قال: أراك طريراً جسيماً عميماً، فإن احتملت الموجود قَرَّبْنَا لك ما يحضرنا، قال: هات ما عندك فأخرِج له خبز مَلّةٍ، فأكلها، وقال: طيبة، هات ما عندك، فأخرج إليه لبنا في كرش فسقاه، فشرب، وقال: طيب، هات ما عندك فأخرج له فضلة نبيذ في ركوة، فشرب الأعرابي واحداً وسقاه، فلما شرب قال المهدي: اتدري من أنا. قال: لا واللهّ، قال: أنا من خدم الخاصة: قال: بارك اللّه في موضعك وحَبَاك من كنت، ثم شرب الأعرابي قدحا وسقاه، فلما شرب قال له: يا أعرابي اتدري من أنا، قال: نعم ذكرت انك من خدم الخاصة، قال: لست كذلك قال: أنا أحد قوَّاد المهدي، قال: رَحُبَتْ دارك، وطاب مزارك، ثم شرب الأعرابي قدحا وسقاه، فلما شرب الثالث قال: يا أعرابي، اتدري من أنا. قال: نعم، زعمت انك أحد قُوَّاد المهدي، قال: فلست كذلك قال: فمن أنت؟ قال: أمير المؤمنين بنفسه، فأخذا الأعرابي ركوته فوكاها، فقال له المهدي: اسقنا، قال: لا واللّه لا تشرب منها جرعة فما فوقها، قال: ولم. قال: سقيتك قدحاً فزعمت أنك من خدم الخاصة، فاحتملناها لك، ثم سقيناك أخر فزعمت انك أحد قُوَّاد المهدي فاحتملناها لك، ثم سقيناك الثالث فزعمتَ أنك أمير المؤمنين، ولا والله ما أمنُ ان أسقيك الرابع فتقول: أنك رسول اللّه، فضحك المهدي، واحاطت به الخيل، فنزل إليه أبناء الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابي، فلم يكن همه الا النجاة بنفسه، وجعل يشتد في عدْوه فقال له المهدي: لا بأس عليك، وأمر له بصلة جزيلة من مال وكسوة وبزة وآلة، فقال: أشهد انك صادق، ولو ادعيت الرابعة والخامسة لخرجت منها، فضحك المهدي منه حتى كاد ان يقع عن فرسه حين ذكر الرابعة والخامسة، وجعل له رزقاً وألحقه بخواصه.

وزراء المهدي

وكان وزيره أبو عبيد اللّه معاوية بن عبد اللّه الأشعري، وهو جد محمد ابن عبد الوهاب الكاتب وكان كاتبه قبل الخلافة، فقتل المهدي ابناً لأبي عبيد اللّه على الزندقة، فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه فعزله وعاش أبو عبيد اللّه إلى سنة سبعين ومائة، ثم اختص المهدي يعقوب بن داود السلمي، وخرج كتابه على الدواوين: إن أمير المؤمنين قد آخاه، وكان يصل إليه في كل وقت دون الناس كلهم، ثم اتهمه بشيء من أمر الطالبيين، فَهَم بقتله، ثم حبسه فبقي في حبسه إلى أيام الرشيد، فاطلقه الرشيد، وقد قيل في أمره: أنه كان يرى الإمامة في الاكبر من ولد العباس، وإن غير المهدي من عمومته كان أحَق بها منه.

خصال المهدي وأعماله

وكان المهدي محبباً إلى الخاص والعام، لأنه افتتح أمره بالنظر في المظالم، والكف عن القتل، وأمنِ الخائف، وإنصاف المظلوم، وبَسَطَ يده في الإعطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور، وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، سوى ما جباه في أيامه، فلما فرغت بيوت الأموال أتى أبو حارثة النهري خازن بيوت أمواله، فرمى بالمفاتيح بين يديه، وقال: ما معنى مفاتيح البيوت فُرّغ. ففرق المهدي عشرين خادماً في جباية الأموال، فوردت الأموال بعد أيام قلائل فتشاغل أبو حارثة النهري بقبضها وتصحيحها عن الدخول على المهدي ثلاثة أيام فلما دخل عليه قال: ما آخّرَكَ. فقال: الشغل بتصحيح الأموال، فقال: أنت أعرابي احمق، كنت تظن ان الأموال لا تأتينا إذا احتجنا إليها، قال أبو حارثة: ان الحادثة إذا حدثت لم تنتظرك حتى توجِّة في استخراج الأموال وحملها، وقيل: أنه فَرَّقَ في عشرة أيام من صلب ماله عشرة آلاف ألف درهم، فعند ذلك قام شبة بن عقال على رأسه خطيباً فقال: وللمهدي أشباه، فمنها القمر الزاهر، والربيع الباكر، والأسد الخادر، والبحر الزاخر، فأما القمر الزاهر فاشبه منه حسنه وبهاه، وأما الربيع الباكر فأشبه منه طيبه وهواه، وأما الأسد الخادر فأشبه منه غرته ومضاه، وأما البحر الزاخر فاشبه منه جوده وسخاه.

الخيزران وأمراة مروان بن محمد

وكانت الخيزران أم الهادي والرشيد في دارها المعروفة اليوم بأشناس، وعندها أمهات أولاد الخلفاء وغيرهن من بنات بني هاشم، وهي على بساط أرمني وهُنَ على نمارق ارمنية، وزينب بنت سليمان بن علي أعلاهن مرتبة، فبيناهن كذلك إذ دخل خادم لها فقال: بالباب أمراة ذات حسن وجمال في أطمار رثّةٍ تأبى أن تخبر باسمها وشأنها غيركن، وتروم الدخول عليكن، وقد كان المهدي تقدم إلى الخيزران بأن تلزم زينب بنت سليمان بن علي، وقال لها: اقتبسي من آدابها، وخذي من أخلاقها، فأنها عجوز لنا قد ادركت أوائلنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذن لها، فدخلت أمراة ذات بهاء وجمال في أطمار رَثَّةٍ، فتكلمت فأوضحت عن بيان على لسان فقالوا لها: من انت، قالت: أنا مزنة أمراة مروان بن محمد، وقد أصارني الدهر إلى ما ترَيْنَ، وواللّه ما الأطمار الرثة التي عليَّ الا عارية، وانكم لما غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا لم نأمن مخالطة العامة على ما نحن فيه من الضرر على بادرة إلينا تزيل موضع الشرف، فقصدناكم لنكون في حجابكم على أية حالة كانت، حتى تاتي دعوة مَنْ له الدعوة، فاغرورقت عَيْنَا الخيزران ونظرت إليها زينب بنت سليمان بن على، فقالت لها: لاخَفّف الله عنك يا مزنة، اتذكرين وقد دخَلْتُ عليك بحَرَّان وأنت على هذا البساط بعينه، ونساء قرابتكم على هذه النمارق  فكلمتك في جُثَّة إبراهيم الإمام، فأنتهرِتِنِي وأمرتِ بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم. فواللهّ لقد كان مروان أرْعى للحق منك، لقد دخلْتُ إليه فحلف أنه ما قتله، وهو كاذب، وخيرني بين ان يدفنه او يدفع الي جثته فاخترت جثته وعَرَضَ عليَّ مالا فلم اقبله، فقالت مزنة: واللّه ما نظن هذه الحالة أدتني إلى ما ترينه إلا بالفعال التي كانت مني، وكإنك استحسنته فحرَّضْتِ الخيزران على فعل مثله، إنما كان يجب ان تحضيها على فعل الخير وترك المقابلة بالشر، لتحرز بذلك نعيمها، وتصون بها دينها، ثم قالت لزينب: يا بنت عم، كيف رأيت صنيع اللهّ بنا في العقوق فأحببت التأسَّيَ بنا، ثم وَلّتْ باكية وكرهت الخيزران أن تخالف زينب فيها فغمزت الخيزران بعض جواريها، فعدلت بها إلى بعض المقاصير، وأمرت بتغيير حالها والاحسان إليها، فلما دخل المهدي عليها- وقد انصرفت زينب وكان من شأنه الاجتماع مع خواص حرمه في كل عشية- قَصَّتْ عليه الخيزران قصتها، وما أمرت به من تغيير حالها، فدعا بالجارية التي ردتها، فقال لها: لما ردَدْتها إلى المقصورة ما الذي سمعتها تقول، قالت: لحقتها في الممر الفلاني وهي تبكي في خروجها مؤتسية وهي تقرأ "وضرب اللّه مثلًا قرية كانت أمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغَدا من كل مكان، فكفرت بأنعم اللّه، فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون"، ثم قال للخيزران: واللهّ واللّه لو لم تفعلي بها ما فعلت ما كلمتك أبداً، وبكى بكاء كثيراً، وقال: اللهم إني أعوذ بك من زوال النعمة، وانكَرَ فعل زينب، وقال: لولا أنها اكبر نسائنا لحلفت ألا اكلمها، ثم بعث إليها بعض الجواري إلى مقصورتها التي أخليت لها، وقال للجارية: اقرئي عليها السلام مني وقولي لها يا بنت عمر إن أخَوَاتِكِ قد اجتمعن عندي، ولولا إني أغمك لجئناك، فلما سمعت الرسالة علمت مراد المهدي، وقد حضرت زينب بنت سليمان، فجاءت مزنة تسحب اذيالها، فأمرها بالجلوس، ورحَّب بها واستداناها ورفع منزلتها فوق منزلة زينب بنت سليمان بن علي، ثم تفاوضوا أخبار أسلافهم، وأيام الناس، والدول وتنقلها، فما تركت لأحد في المجلس كلاماً، فقال لها المهدي: يا بنت عم، واللّه لولا إني لا احب أن أجعل لقوم أنت منهم من أمرنا شيئا لتزوجتك، ولكن لا شيء أصْوَنُ لك من حجابي، وكونك مع أخوتك في قصري: لك ما لهن، وعليك ما عليهن، إلى ان يأتيك أمر مَنْ له الأمر فيما حكم به على الخلق، ثم اقْطَعَها مثل ما لهن من الاقطاع واخدمها واجازها، فأقامت في قصره إلى أن قبض المهدي وأيام الهدي وصدراً من أيام الرشيد، وماتت في خلافته، لا يفرق بينها وبين نساء بني هاشمِ وخواص حرائرهم وجواريهم فلما قُبِضَتْ جزع الرشيد والحرم جزعاً شديداً.

عبد اللّه بن عمرو بن عتبة يعزي المهدي ويهنئه

وحدثنا الرياشي عن الاصمعي: دخل عبد اللّه بن عمرو بن عتبة على المهدي يعزيه بالمنصور، فقال: أجر اللّه أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك اللّه له فيما خَلّفه فيه، ولا مصيبة أعظم من فقد إمام والد، ولا عُقْبى أجل من خلافة اللّه على أولياء اللهّ، فاقْبَلْ يا أمير المؤمنين من اللّه أفضل العطية، واحتسب عند اللهّ أفضل الرزية.

عتبة الجارية وأبو العتاهية

ولما كثر تَشْبِيبُ أبي العتافية بعتبةجارية الخيزران شكت إلى مولاتها ما يَلْحَقُهَا من الشناعة، ودخل المهديُّ وهي تبكي بين يدي الخيزران، فسألها عن خبرها، فأخبرته، فأمر بإحضار أبي العتاهية، فأدخل إليه، فلما وقف بين يديه قال: أنت القائل في عتبة:

اللّه بيني وبين مـولاتـي

 

أبدت لي الصَدَّ والملامات

ومتى وصلتك حتى تشكو صَدَّها عنك؟ قال: يا أمير المؤمنين ما قلت ذلك بل أنا الذي أقول:

يا ناق حُثِّي بنا ولاتَهِـنـي

 

نفسك فيما ترين راحـات

حتى تجيئي بنا إلى مـلـك

 

تَوَجَهُ الله بالـمَـهـابـاتِ

يقول للريح كلما عصفـتَ:

 

هل لك يا ريح في مُبَارَاتي

عليه تاجان فوق مَفْـرِقِـهِ

 

تاج جمال وتاج إ خْبَـاتِ

قال: فنكس المهديُ رأسه، ونكت بالقضيب الذي كان في يده ثم رفع رأسه فقال: أنت القائل:

ألا ما لسيدتـي مـالـهـا

 

أدلتْ فأحْمِـلَ إدلالـهـا؟

وجارية من جواري الملـو

 

ك قد أسْكِن الحسنُ سربالها

قال: وما علمك بما حواه سربالها. فأجابه معارضا له فيه:

أتته الخلافة منقـادة

 

إليه تجررُ أذيالهـا

فلم تك تَصْلُحُ إلا لـه

 

ولم يك يصلح إلا لها

ثم سأله عن أشياء، فأفحم أبو العتاهية في الجواب فأمر المهديُ بجلده نحواً من حد، وأخرج مجلوداً، فلقيته عتبة وهوعلى تلك الحال، فقال:

بَخ بَخ ياعتب من أجلكم

 

قدقَتَلَ المهديُّ فيكم قتيلا

فتغرغرت عيناها، وفاض دمعها، وصادفت المهديَّ عند الخيزران، فقال: ما لعتبة تبكي. قالوا له: رأت أبا العتاهية مجلوداً، وقال لها كيت وكيت، فأمر له بخمسين ألف درهم، ففرقها أبو العتاهية على مَنْ كان بالباب، فكتب صاحب الخبر بذلك، فوجَّه إليه: ما حملك على أن أكرمتك بكرامة فقسمتها. قال: ما كنت لأكل ثمن من أحببت، فوجَّهَ إليه بخمسين ألفاً أخرى، وحلف عليه ان لا يفرقها، فأخذاها وانصرف.

من أبي العتاهية إلى المهدي

قال المبرّد: أهدى أبو العتاهية إلى المهديِّ في يوم نوروز او مهرجان برنية صينية فيها ثوب ممسَّك فيه سطران مكتوبان عليه بالغالية :

نفسي بشيءمن الدنيا معلقة

 

اللَّه والقائم المهديُّ يكفيها

إني لأيأس منها ثم يُطْمِعني

 

فيها احتقارك للدنياوما فيها

فهمَّ أن يدفع إليه عتبه، فقالت له: أمير المؤمنين، مع حرمتي وحقي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار يكتسب بالشعر، فبعث إليه: أما عتبة فلا سبيل لك إليها، وقد أمرنا لك بملء البرنية مالاً، فخرجت عتبة هو يناظر الكتاب، ويقول: إنما أمر لي بدنانير، وهم يقولون: بدراهم، قالت: أما لو كنت عاشقاً لعتبة لشغلت عن العَيْن والوَرِقِ.

من طرف أبي العتاهية:

وكان أبو العتاهية وهو إسماعيل بن القاسم بائع جرار، وكان من سهل الناس لفظاً وأقدرهم على وزن الكلام، وكان حُلْوَ الألفاظ، حتى أنه يتكلمِ بالشعر في جميع حالاته، ويخاطب به جميع أصناف الناس قد جعله شعراً ونثاراً.

وأجتمع أبو نُوَاسٍ وجماعة، فدعا أحدهم بماء فشرب ثم قال:

عَذُبَ الماء وطابا

ثم قال: أجيزوا فترددوا فلم يحضرأحد ما يجانسه في سهولته وقرب مأخذه، حتى جاء أبو العتاهية فقال: فيم أنتم؟ فأعلموه وأنشدوه القسم، فقال:

حبذا الماء شراباً

ومن مختارشعره في عتبة:

باللَّه يا حلوة الـعـينـين زورينـي

 

قبل الممات، وإلا فاسـتـزيرينـي

هذان أمران، فأختاري أحبـهـمـا

 

إليك، أولا فداعي الموت يدعونـي

إن شئت موتاً فأنت الدَّهْرَ مـالـكة

 

روحي، وان شئت أن أحيا فأحييني

يا عُتْبَ ما أنت إلا بِدْعَة خـلـقـت

 

من غيرطين، وخَلْقُ الناس من طين

إني لأعجب من حـب يقـربـنـي

 

ممن يباعدني عنـه ويُقـصـينـي

لوكان ينصفني مما كـلـفـت بـه

 

إذا رضيت وكان النصف يرضيني

يا أهل وديَ إني قد لطفـت بـكـم

 

في الحب جهدي ولكن لا تُبَالونـي

الحمد للَه قـد كـنـا نـظـنـكُـمُ

 

من أرحم الناس طراً بالمسـاكـين

أما الكثير فلا أرجوه منـك، ولـو

 

أطمعتني في قليل كان يكـفـينـي

ومن مختارشعره فيها قوله:

ألا يا عتب يا قمر الرصـافـهْ

 

ويا ذات الملاحة والـنـظـافة

رُزِقْتِ مودتي، ورزقت عطفي،

 

ولم أرزق فديتك منـك رَافَـهْ

وصرتُ من الهوى دنفاً سقيمـاً

 

صريعاً كالصريع من السُّلافـهْ

أظَلُّ إذا رأيتك مـسـتـكَـينـاً

 

كأنك قد بعثـتِ عَـلَـي آفـه

ومما اخترناه من شعر واستحسنه ذوو الحجا قوله:

ما أغفَلَ الناسَ عن بلائي

 

وعن عنائي وعن شقائي

يلومُنِي الناسُ في حبيب

 

والناس لا يعرفون دائي

يالهذه نفسي على خلـيل

 

أصبح في كفه شفـائي

صيرني حُبّـه غـريبـاً

 

في غيرأرض، ولاسماء

قد بلغ الـجـد بـي مَـدَاه

 

فما اصطباري؟ وماعزائي؟

أنـت بـلائي، وأنـت دائي

 

وأنـت تـدْرِينَ مـا دَوَائِي

والـلَّـه مـا تُـذْكَـرِين إلا

 

فاضت دموعي على ردائي

تبارك اللَّـه، مـا دعـاكـم

 

يا أهل وُدِّي إلى جفـائي؟

فأنتم الهمُّ في صـبـاحـي

 

وأنتم الهمُّ فـي مـسـائي

إني على مالقيت مـنـكـم

 

لمعجَبٌ مـنـكـم بـدائي

شَتَّان ما بينـكـم وبـينـي

 

في نصح حبي، وفي وفائي

منحتكم صَـبْـوتـي وودي

 

فكان ذا منـكـمُ جـزائي

وحدث المبرد محمد بن يزيد أن رَيْطَةَ ابنة أبي العباس السفاح وجَّهت إلى عبد اللّه بن مالك الخزاعي في شراء رقيق للعتق، وأمرت جاريتها عتبة- وكانت لها ثم صارت إلى الخيزران بعدها- ان تحضُرَ ذلك، فأنها لجالسة إذا جاء أبو العتاهية في زي متنسك فقال: جعلني اللّه فداك!! أنا شيخ ضعيف كبير لا يَقْوى على الخدمة، فأن رأيت اعزك اللّه ان تأمري بشرائي وعتقي فعلت مأجورة، فأقبلت على عبد اللهّ فقالت: إني لأرى هيئة جميلة، وضعفاً ظاهراً، ولساناً فصيحاً ورجلاً بليغاً، فاشتره وأعتقه، فقال: نعم، فقال أبو العتاهية: أتأذنين لي أصلحك اللّه في تقبيل يدك شكراً لك على جميل فعلك وما أوليتني فأذنت له، فقَبَّلَ يدها وانصرف، فضحك عبد اللهّ بن مالك، وقال. اتدرين مَنْ هذا. قالت: لا، قال: هذا أبو العتاهية، وإنما احتال عليك حتى قَبَّلَ يدك فَسَتَرَتْ وجهها خجلا، وقالت: سَوأة لك يا أبا العباس، أمثلك يعبث. إنما اغتررنا بكلامك، وقامت فلم تَعُدْ إليه.

ولأبي العتاهية اشعار حسان سنذكرها في أخبار مَنْ يرد من الخلفاء، وسنذكر لمعاً من أخباره وما استحسناه من اشعاره وذكر وفاته ولو لم يكن لأبي العتاهية سوى هذه الأبيات التي أبان فيها عن صدق الإخاء ومحض الوفاء لكان مبرزا على غيره، ممن كان في عصره وهي:

إن أخاك الصدقَ من كَان معك

 

ومن يَضُرُّنفسه لينـفـعـك

ومن إذا رَيْبً الزمان صدعك

 

شَتَّتَ شمل نفسه كي يجمعك

وهذه الصفه في عصرنا معدومة، ومستحيل وجودها، ومتعذر كونها ومتعسررؤيتها.

محمد المهدي والشرقي بن القطامي

وروى ابن عياش وابن داب ان المنصور كان قد ضم الشَّرْقِي بن القَطَامي إلى المهدي، حين خَلَّفَه بالري، وأمره ان يأخذاه بحفظ أيام العرب، ومكارم الاخلاق، ودراسة الأخبار، وقراءة الأشعار، فقال له المهدي ذات ليلة: يا شرقي أ رِحْ قلبي بشيء يُلْهِيه، قال: نعم أصلح اللهّ الأمير، وذكروا أنه كان في ملوك الحيرة ملك له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة مَكِينة، وكأنا لا يُفارِقانه في لهوه وأنسه ومنامه ويقظته، ومُقامه وظعنه وكان لا يقطع أمراً دونهما، ولا يصدر إلا عن رأيهما، فغبر بذلك دهراً طويلاً، فبينا هو ذات ليلة في شربه ولهوه إذ غلب عليه الشرابُ فأزال عقله، فدعا بسيفه وأنتضاه، وَشَدَّ عليهما فقتلهما، وغلبته عيناه فنام، فلما أصبح سأل عنهما، فأخْبِرَ بما كان منه، فأكبَّ على الأرض عاضا لها تاسفاً عليهما وجزعاً لفراقهما، وأمتنع من الطعام والشراب، ثم حلف لا يشرب شراباً يزعج قلبه ما عاش، وواراهما، وبنى على قبريهما قُبَّة، وسَمَّاهما الغريَّيْنِ، وَسَنَ أن لا يمر بهما أحد من الملك فمن دونه الا سجد لهما، وكانا إذا سَنَّ الملك منهم سُنَّة توارثوها، وَاحيَوْا ذكْرها ولم يميتوها، وجعلوها عليهم حكماً واجباً، وفرضاً لازماً، وأوصى بها الأباء أعْقَابَهُمْ، فغبر الناس بذلك دهراً طويلاً، لا يمر بقبريهما أحد من صغير ولا كبير الا سجد لهما، فصار ذلك سُنَّة لازمة وأمرا كالشريعة والفريضة، وحكم فيمن أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد ان يحكم له بخصلتين يجاب إليهما كائنا ما كانتا. قال: فمرَّ يوماً قَصَار معه كَارة ثياب وفيها مُدَقَته. فقال الموكلون بالغريَّيْنِ للقَصار: اسجد فأبى ان يفعل، فقالوا له: إنك مقتول ان لم تفعل، فأبى، فرفعوه إلى الملك واخبروه بقصته، فقال: ما منعك أن تسجد. قال: سجدت ولكن كَذبوا عليَّ، قال: الباطِلَ قلت، فأحتكم في خصلتين فأنك مُجَابٌ إليهما، وإني قاتلك بعد، قال: لا بد من قتلي بقول هؤلاء عليَّ، قال: لا بد من ذلك قال: أحتكم ان اضرب رقبة الملك بمدقتي هذه، قال له الملك: يا جاهل، لوحكمت على ان أجري على من تخلف وراءك ما يغنيهم كان اصلح لهم، قال: ما أحكم الا بضربةٍ لرقبة الملك، فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم به هذا الجاهل. قالوا: نرى ان هذه سنة أنت سننتها وأنت أعلم بما في نقض السنن من العار والنار وعظم الاثم، وأيضا انك متى نقضت سنة نقضت أخرى. ثم يكون ذلك لمن بعدك كما كان لك، فتبطل السنن قال: فارغبوا إلى القَصَار ان يحكم بما شاء ويعفيني من هذه، فإني أجيبه إلى ما شاء اللهّ ولو بلغ حكمه شَطْر مُلْكي، فرغبوا إليه، فقال: ما أحكم إلا بضربةٍ في عنق الملك قال: فلما رأى الملك ذلك وما عزم عليه القَصار قعد له مقعدا عاماً وأحضر القَصَّار فأبدى مُدُقَّته وضرب بها عنق الملك فأوهنه وَخَرِّ مغشيا عليه، فأقام وقيذاً ستة اشهر، وبلغت به العلة إلى ان كان يسقى الماء بالقطر، فلما أفاق وتكلم واكل وشرب واستقَلَّ سأل عن القصَار، فقيل: أنه محبوس، فأمر باحضارَه فحضر، فقال: لقد بقيت لك خصلة فأحكم بها، فأني قاتلك لا محالة إقامة للسنة قال القَصَّار: فاذا كان لا بد من قتلي فإني أحكم ان اضرب الجانب الأخر من رقبة الملك مرة أخرى، فلما سمع ذلك خَرَّ على وجهه من الجزع، وقال: ذهبت نفسي واللّه إذا، ثم قال للقصَار: وَيْلَك! دع عنك مالا ينفعك فأنه لم ينفعك منه ما مضى، وأحكم بغيره وانفذه لك كائناً ما كان، قال: ما أرى حقي الا في ضربةٍ أخرى، فقال الملك لوزرائه: ما ترون. قالوا: تموت على السنة اصلِح لك، قال: ويلكم! ان ضرب الجانب الاخر ما شربت " الماء البارد أبداً لإني أعلم ما قد نالذي، قالوا: فما عندنا حيلة، فلما رأى ما قد اشرف عليه قال للقصَار: أخبرني، ألم أ كُن قد سمعتك تقول يوم أتى بك الموكلون بالغَرِيَّيْنِ انك قد سجدت وأنهم كذبوا عليك، قال: قد كُنت قلت ذلك فلم أصدق، قال: فكنت سجدت. قال: نعم، فوثب الملك من مجلسه وقبل رأسه، وقال: أشهد انك صادق، وأنهم كذبوا عليك، وقد وليتك موضعهم، وجعلت إليك بأسهم، وأمرهم في تأديبهم فضحك المهدي حتى فحص برجليه، وقال: احسنت، وَوَصَلَه.

المهدي ومروان بن أبي حفصة

قال الهيثم بن عدي: كُنت في مجلس المهدي، فأتاه الحاجب فقال: ابن أبي حَفصَة بالباب، فقال: لا تأذن له فأنه منافق كَذاب، فكلمه الحسن بن قَحْطَبة فيه، فأدخله، فقال له المهدي: يا فاسق ألست القائل في معن:

جَبَل تلوذ به نزار كـلـهـا

 

صَعْبُ الذَّرَى متمنع الأرْكَان

قال: بل أنا الذي أقول فيك يا أمير المؤمنين:

يَا ابن الذي ورث النبيَّ محمـداً

 

دون الاقَارِب من ذوي الأرْحام

وأنشده الأبيات كلها، فرضي عنه وأجازه.

بين المهدي وسفيان الثوري

وقال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي، واتى سفيان الثوري، فلما دخل عليه سَلّمَ تسليم العامة، ولم يسلم تسليم الخلافة، والربيع قائم على رأسه متكىء على سيفه يرقب أمره، فأقبل المهدي بوَجْهٍ طَلْق وقال له: يا سفيان، تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لواردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الان، أفما تخشى ان نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: ان تحكم فيَ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل ان يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي ان أضرب عنقه، فقال له: اسكت ويلك، ما يريد هذا وأمثاله الا ان نقتلهم فنشقى بسعادتهم، اكتبوا بعهده على قضاء الكوفة، على ان لا يُعْتَرَض عليه في حكم، فكتب عهمه ودفعه إليه، فأخذه وخرج ورمى به في الدجلة وهرب، فطلب في كل بلد، فلم يوجد. 

رؤيا المهدي قبيل وفاته

وقال علي بن يقطين: كُنا مع المهدي بما سبذان، فقال لي يوماً: أصبحت جائعا فأتني بأرغِفَةٍ ولحم بارد، ففعلت، فأكل ثم دخل البهو ونام، وكُنَا نحن في الرواق، فأنتبهنا لبكائه، فبادرنا إليه مسرعين، فقال أما رأيتم ما رأيت. قلنا: ما رأينا شيئا، قال: وقف علي رجلٌ لو كان في ألف رجل ماخفي على صوته ولا صورته فقال:

كأني بهذا القصر قد بَادَ أهلـه

 

وَاوْحَشَ منه رَبْعُه وَمَنَازِلُـهْ

وصارعميد القوم من بعد بهجة

 

وَمُلْكٍ إلى قبرعليه جَنَـادِلُـهْ

فلم يبق إلاذكْـره وحـديثـه

 

تنادي عليه مُعْوِلاتٍ حَلائِلُـهْ

قال علي: فما أتت على المهدي بعد رؤياه إلا عشرة أيام حتى توفي.

وفاة زفر بن الهذيل وجماعة من العلماء

قال المسعودي: وكانت وفاة زفر بن الهُذَيْل ألفقيه صاحب أبي حنيفة النعمان بن ثابت سنة ثمان وخمسين ومائة، وفيها كانت بيعة المهديِّ كما قدمناه.

ومات سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري بالبصرة، وكان من تميم، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ويكنى أبا عبد الله، في أيام المهدي، وذلك في سنة احدى وستين ومائة.

ومات ابن أبي ذئب، وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، ويكنى أبا الحارث، بالكوفة سنة تسع وخمسين ومائة، وذلك في أيام المهدي.

وفي سنة ستين ومائة مات شعبة بن الحجاج، ويكنى أبا بسطام، وهو مولى لبني شقرة من الأزد، وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد اللّه المسعودي، وفي سنة ست وستين ومائة مات حماد بن سَلَمة في أيام المهدي.

قال المسعودي: وللمهدي أخبار حسان، ولما كان في أيامه من الكوائن والحروب وغيرها، قد أتينا على مبسوطه في الكتاب الأوسط، وكذلك مَنْ مات في سُلْطانه من الفقهاء وأصحاب الحديث وغيرهم، وباللّه التوفيق.

ذكر خلافة موسى الهادي

وبويع موسى بن محمد الهادي يوم الخميس لسبع بَقِينَ من المحرم، وهو ابن أربع وعشرين سنة وثلاثة اشهر، صَبِيحَةَ الليلة التي كانت فيها وفاة ولده المهدي، وذلك في سنة تسع وستين ومائة، وتوفي بعيسا باذ نحو مدينة السلام سنة سبعين ومائة، لاثنتي عشرة ليلة بَقِيَتْ من شهر ربيع الأول من هذه السنة، وكانت خلافته سنةً وثلاثة اشهر، وكان يكنى أبا جعفر، وأمه الخيزران بنت عطاء، أم ولد حرشية، وهي أم الرشيد، وأتته البيعة وهو ببلاد طبرستان وجرجان في حرب كانت هناك، فركب البريد وقد أخذا له أخوه هارون البيعة. وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

لما أ تَتْ خَيْر بني هاشم

 

خِلافَهُ اللَّه بجرجـان

شَمَّرَللحربِ سَرابيلَـه

 

برأي لا غُمْرولا وَان

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

أوصاف الهادي

كان موسى قاسي القلب، شرس الاخلاق، صعب المرام، كثير الأدب، محباً له، وكان شديداً، شجاعاً بطلاً جوادا، سخياً. حدث يوسف بن إبراهيم الكاتب وكان صاحب إبراهيم بن المهدي، عن إبراهيم، أنه كان واقفاً بين يديه وهو على حمارٍ له ببستانه المعروف به ببغداد إذ قيل له: قد ظفر برجل من الخوارج، فأمر بادْخَاله، فلما قرب منه الخارجي أخذا سيفاً من بعض الحرس، فأقبل يريد موسى، فتنحيت وكلُّ مَنْ معي عنه، وأنه لواقف على حماره ما يتحلحل، فلما أن قرب منه الخارجي صاح موسى: أضربا عنقه، وليس وراءه أحد، فأوهمه، فألتفت الخارجي لينظر، وجمع موسى نفسه ثم ظهر عليه فصرعه، فأخذ السيف من يده، فضرب عنقه، قال: فكان خوفنا منه أكثر من الخارجي، فواللهّ ما انكر علينا تنحيّنا، ولا عَذَلنَا على ذلك، ولم يركب حمارا بعد ذلك اليوم، ولا فارقه سيفه.

بين المهدي وعيسى بن دأب

وكان عيسى بن دأب يجالسه، وكان من أهل الحجاز، وكان أكثر أهل عصره أدباً وعلماً ومعرفة بأخبار الناس، وأيامهم، وكان المهدي يدعو له مُئكأ ولم يكن غيره يطمع منه في ذلك، وكان يقول له: يا عيسى، ما استطلت بك يوماً ولا ليلة، ولا غِبْتَ عني الا ظننت إني لا أرى غيرك.

جريمة غلام سندي

وذكر عيسى بن دأب أنه رفع إلى الهادي أن رجلاً من بلاد المنصورة- من بلاد السند من أشرافهم وأهل الرياسة فيهم من آل الملهب بن أبي صفرة- رَبَّى غلاماً سندياً او هندياً، وان الغلام هَوِيَ مولاته، فراودها عن نفسها فأجابته فدخل مولاه فوجدها معه بجبَّ ذَكَرَ الغلام وخَصَاه، ثم عالجه إلى ان برىء فأقام مدة، وكان لمولاه ابنان أحدهما طفلٌ والاخر يافع، فغاب الرجل عن منزله وقد أخذا السنديّ الصبيين فصعد بهما إلى أعالي سور الدار إلى ان دخل مولاه فرفع رأسه فأذا هو بابنيه مع الغلام على السور، فقال: يا فلان، عرضت ابنيَّ للهلاك، فقال: دع ذا عنك، واللّه لو لم تَحُبَّ نفسك بحضرتي لارمينَّ بهما، فقال له: اللهّ اللهّ فيَّ وفي ابنيَّ، قال: دع عنك هذا، فواللّه ماهي الا نفسي، وإني لاسمح بها من شربة ماء، واهوى ليرمي بهما، فأسرع مولاه فأخذا مُدْية فجبَّ نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل رمى بالصبيين فتقطعا، وقال: ذاك الذي فعلت لفعلك بي، وقَتْلُ هذين زيادةٌ، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السند بقتل الغلام وتعذيبه بأفظع ما يمكن من العذاب، وأمر باخراج كل سندي في مملكته، فرخص في أيامه حتى كانوا يتداولون بالثمن اليسير.

وزراء الهادي

وكان الهادي قد استوزر الربيع، وضم إليه ما كان لعمر بن بزيع من الزمام ثم إنه ولى عمر بن بزيع الوزارة وديوان الرسائل، وافرد الربيع بالزمام، فمات الربيع في هذه السنة، وقيل: ان الهادي سقاه شربة لأجل جارية كان قد وهبها له المهدي قبل ذلك للربيع، وقيل غير ذلك.

ظهور الحسين بن علي بن الحسين

وظهر في أيامه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهو المقتول بفخ، وذلك على ستة أميال من مكة، يوم التَّرْوِية وكان على الجيش الذي حاربه جماعة من بني هاشم: منهم سليمان بن أبي جعفر، ومحمد بن سليمان بن علي، وموسى بن عيسى، والعباس بن محمد بن علي، في أربعة آلاف فأرس، فقتل الحسين وأكثر مَنْ كان معه، وأقاموا ثلاثة أيام لم يواروا حتى أكلتهم السباع والطير، وكان معه سليمان بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي، فأسِرَ في هذا اليوم وضربت رقبته بمكة صبرا، وقتل معه عبد اللّه بن إسجاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي، وأسر الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وضرب عنقه صبرا، وأخذا لعبد اللّه بن الحسن بن علي وللحسين بن علي الأمان، فحبسا عند جعفربن يحى بن خالد بن بَرْمَكٍ، وقتلا بعد ذلك، فسخط الهادي على موسى بن عيسى لقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن وترك المَصِيرِ به إليه ليحكم فيه بما يرى وقبض أموال موسى، وأظهر الذين أتوا بالرأس الاستبشار، فبكى الهادي وزَجَرَهم، وقال: أتيتموني مستبشرين كأنكم أتيتموني برأس رجلٍ من الترك او الديلم، أنه رجل من عِتْرَةِ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ألا إن اقل جزائكم عندي ألا اثيبكم شيئاً.

من مراثي الحسين بن علي صاحب فخ

وفي الحسين بن علي صاحب فَخً، يقول بعض شعراء ذلك العصر من أبيات:

فلأ بكينَّ عَلَ الحسين بِعَوْلَةٍ وعلى الحَسَنْ

 

وعلى ابن عاتكة الذي

 

أ ثْـوَوْهُ لـيس لـــه كَـــفَـــنْ

ترِكُـــوا بـــفـــخّ غُــــدْوة

 

في غـيرمـنــزلة الـــوطـــن

كانـوا كـرامــاقـــتـــلـــوا

 

لاطـــائشـــين ولاجُـــبُـــنْ

غَسَـلـوا الـمـذلّةَ عــنـــهـــمً

 

غسـل الـثـياب مـــن الـــدرَنْ

هُدِيَ الـعـبـادُ بـــجـــدهـــم

 

فلـهـم عـلـى الـنـاس الـمِـنَــنْ

طاعة الهادي لأمه الخيزران

وكان الهادي كثير الطاعة لأمه الخيزران، مجيبا لها فيما تسأل من الحوائج للناس، فكانت المواكب لا تخلو من بابها، ففي ذلك يقول أبو المعافي:

يا خيزران هَنَاكِ ثم هَنَاكِ

 

أن العباك يسوسهم إبناك

فكلمتْهُ ذات يوم في أمر، فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا، فاعتل عليها بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فأني قد ضمنت هذه الحاجَةَ لعبد اللّه بن مالك، فغضب الهادي، وقال: وَيل لابن الفاعلة، قد علمت أنه صاحبها، واللّه لاقضيتها لك، قالت: إذا واللّه لا أسالك حاجة أبداً، قال: إذا واللّه لا أبالي وحميَ وقامت وهي مُغْضبة، فقال: مكانك، فأستوعبي كلامي، واللّه، وإلا نُفِيتُ من قَرَابتي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قُوَّادى، او من خاصتي، او من خدمي، لاضربنَّ عنقه، ولاقبضَنَّ ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم، أما لك مِغْزَلٌ يَشغلك، او مُصْحَف يذكرك، او بيت يصونك. أياك ثم أياك ان تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولاذمّي، فأنصرفت وما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلو ولا مر بعدها.

أخذا العباسيون ثأر بني هاشم من بني مروان

وذكر ابن دأب، قال: دعاني الهادي في وقت من الليل لم تجْرِ العادة أنه يدعوني في مثله، فدخلت إليه، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي، وقدامه جزء صغيرينظر فيه، فقال لي: يا عيسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني أرقت في هذه الليلة، وتداعت الي الخواطر، واشتملت علي الهموم، وهاج لي ما جرت إليه بنو أمية من بني حَرْب وبني مَرْوان في سَفْك دمائنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا عبد اللّه بن علي قد قتل منهم على نهرأبي فطرس فلاناً وفلاًناً حتى أتيت على تسمية أكثرمن قتل منهم، وهذا عبد الصمد بن علي قد قتل منهم بالحجاز في وقت نحو ما قتل عبد اللّه بن علي، وهو القائل بعد سَفْكه دماءهم:

ولقد شَفَى نَفْسِي وأبرأ سُقْمَـهَـا

 

أخذي بثأري من بنـي مـروان

ومِنَ آل حرب، ليت شيخي شاهد

 

سفكي دماء بني أبي سـفـيان

قال ابن دأب: فسُر واللّه الهادي، وظهرت منه أريحية، فقال: يا عيسى داود بن علي هو ألف القائل ذلك والقاتل لمن ذكرت بالحجاز، ولقد اذكرتنيهما، حتى كإني ما سمعتهما، قلت: يا أمير المؤمنين، وقد قيل: أنهما لعبد الله بن علي قالهما على نهرأبي فطرس، قال: قد قيل ذلك. 

بعض فضائل مصر وبعض أخبارها وبعض عيوبها

قال ابن دأب: ثم تغلغل بنا الكلام والحديث إلى أخبار مصر وعيوبها وفضائلها وأخبار نيلها، فقال لي الهادي: فضائلها أكثر، قلت: يا أمير المؤمنين هذه دعوى المصريين لها بغير برهان اوْرَدوه، والبينة على الدعوى، وأهل العراق يأبونَ هذه الدعوى، ويذكرون ان عيوبها أكثر من فضائلها، قال: مثل مإذا. قلت: يا أمير المؤمنين من عيوبها أنها لا تمطر، وإذا أمطرت كرهوا ذلك، وابتهلوا إلى اللّه بالدعاء وقد قال عز وجل: "وهو الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بين يدَي ْرحمته " فهذه رحمة مجللة لهذا الخلق وهم لها كارهون، وهي لهم ضارة غير موافقة لا يزكو عليها زرعهم ولا تخضب عليها أرضهم، ومن عيوبها الريح الجنوبية التي يسمونها المَرِيسَيّةَ، وذلك ان أهل مصر يسمون أعالي الصعيد إلى بلاد النوبة مَرِيس، فإذا هبت الريح المريسية- وهي الجنوبية- ثلاثَةَ عَشَرَ يوماً تباعاً اشترى أهل مصر الأكفان والحنوط وأيقنوا بالوباء القاتل، والبلاء الشامل،.ثمِ من عيوبها اختلاف هوائها، لأنهم في يوم واحد يغيرون ملابسهم مرارا كثيرة، فيلبسون القُمُص مرة، والمبطنات أخرى، والحشو مرة، وذلك لاختلاف جواهر الساعات بها، ولتباين مَهَابِّ الهواء فيها في سائر فصول السنة من الليل والنهار، وهي تمير ولا تمتار، فأذا اجدبوا هلكوا. وأما نيلها نكفاك الذي هو عليه من الخلاف لجميع الأنهار، من الصغار والكبار، وليس بالفرات ولا الدجلة ولا نهر بلخ ولا سيحان ولا جيحان شيء من التماسيح، وهي في نيل مصرضارة بلامنفعة، ومفسدة غير مصلحة، وفي ذلك يقول الشاعر:

أظهرتُ للنيل هِجْرانـاً ومَـقْـلِـية

 

إذ قيل لي إنما التمساح في النـيل

فمن رأى النيل رَأي الحين من كَثَبٍ

 

فما أرَى النيل إلا في النـواقـيل

قال: ويحك!! ما النواقيل التي ترى النيل فيها. قلت: القلال والكِيزَان يسمونها بهذا الاسم، قال: وما مراد الشاعر فيما وصف، قال: لأنه لا يتمتع بالماء إلا في الآنية، لخوف مباشرة الماء في النيل من التمساح، لأنه يختطف الناس وسائر الحيوان، قال: ان هذا النهر قد منع هذا النوع من الحيوان مصالح الناس منه، وقد كنت متشوقَا إلى النظر إليها، فلقد زهدتني عنها بوصفك لها.

قال ابن دأب: ثم سالذي الهادي عن مدينة دنقلة، وهي دار مملكة النوبة، كم المسافة بينها وبين اسوان، قلت: قد قيل أربعون يوماً على شاطىء النيل عمائرمتصلة.

بين البصرة والكوفة:

قال ابن دأب: ثم قال لي الهادي: أيها يا ابن دأب، دع عنك ذكر المغرب وأخباره، وهلم بنا إلى ذكر فضائل البصرة والكوفة وما زادت به كل واحدة منهما على الأخرى، قال: ذكر عن عبد الملك بن عمير، أنه قال: قدم علينا الاحنف بن قيس الكوفة مع مصعب بن الزبير، فما رأيت شيخاً قبيحاً إلا ورأيت في وجه الاحنف منه شبهاً، كان صَعْل الرأس، أجْخَى العين، أعْصَف الاذن، باخِقَ العين، ناتىءَ الوجه، مائل الشدْق، متراكب الاسنان، خفيف العارضين، أحْنَف الرِّجْل، ولكنه كان إذا تكلم جَلّى على نفسه، فجعل يفاخرنا ذات يوم بالبصرة ونفاخره بالكوفة، فقلنا الكوفة اغْذَى وأمرا وافسح وأطيب، فقال له رجل: واللهّ ما اشبه الكوفة الا بشابة صبيحة الوجه كريمة الحسب ولا مال لها، فإذا ذكرت ذكرت حاجتها، فكفَّ عنها طالبها، وما أشبه البصرة إلا بعجوز ذات عَوارض موسرة، فإذا ذكرت ذكر يسارها، وذكرت عوارضها، فكَفَّ عنها طالبها، فقال الأحنف: أما البصرة فإن أسفلها قَصَب، وأوسطها خَشَب، وأعلاها رُطَب، نحن أكثر ساجَاً وعاجاً وديباجاً، ونحن أكثر قنداً، ونقداً، واللّه ما أتي البصرة إلا طائعاً، ولا أخرج منها الا كارهاً، قال: فقام إليه شاب من بكربن وائل فقال: يا أبا بحر، بِمَ بلغت في الناس ما بلغت. فواللّه ما أنت بأ جْمَلِهم، ولا بأ شْرَفهم، ولا بأشْجَعِهم، قال: يا ابن أخي، بخلاف ما أنت فيه، قال: وما ذاك، قال: بتركي ما لا يَعْنِيني كما عناك من أمري ما لا ينبغي ان يعنيك.

قال المسعودي: ولابن دأب مع الهادي أخبار حِسَان يطول ذكرها، ويَتّسع علينا شرحها، ولا يتأتى لنا أيراد ذلك في هذا الكتاب، لاشتراطنا فيه على أنفسنا الإختصار والإيجاز بحذف الاسإنيد وترك إعادة الألفاظ. ولأهل البصرة وأهل الكوفة ومَنْ شرب من دجلة مناظرات كثيرة في مياههم ومنافعها ومضارها، منها ما عاب به أهل الكوفة أهل البصرة، فقالوا: ماؤكم كَدر زَهِك زَفِر، فقال لهم أهل البصرة: من أين يأتي ماءَنا الكدرُوماء البحر صافٍ وماء البطيحة صاف، وهما يمتزجان وسط بلادنا، قال الكوفيون: من طباع الماء العذب الصافي إذا خالط ماء البحر صارا جميعاً إلى الكدورة، وقد يرَوِّق الإنسان ماء أربعين ليلة، فإن جعل شه شيئاً في قارورة أ زْبَدَ وتكدَّر.
وقد افتخر أهل الكوفة بمائهم- الذي هو الفرات- على ماء دجلة، -هو ماء البصرة! فقالوا: ماؤنا أعْذَبُ المياه وأغذاها، وهو أصح للاجسام من ماء دجلة، والفرات خير من النيل، فأما دجلة فأن ماءها يقطع شهوة لرجال، ويذهب بصهيل الخيل، ولا يذهب بصهيلها إلا مع ذهاب نشاطها، ونقصان قواها، وان لم يتدسم النازلون عليها اصابهم قحول في عظامهم ويبس في جلودهم، وسائر من نزل من العرب على دجلة لا يكادون يسقون خيلهم منها ويسقونها من الأبار والرِّكاء، لاختلاط مياهها -واختلاف أنواعها إذ ليست بماء واحد لمصَبِّ الأنهار إليها كالزابينِ غيرهما، وسبيل المشروب غير المأكول، لان اختلاف الماكل غير ضار، واختلاف الأشربة كالخمر والنبيذ وغيره من الأنبذة إذا شربه الإنسان كان ضاراً، وإذا كان فضيلة مائنا على دجلة فما ظنك بفضيلته على ماء البصرة هو يختلط بماء البحر، ومن الماء المستنقع في أصول القصب الهروي،وقد قال اللهّ تعإلى: "هذا عذب فُرات، وهذا ملح أجاج" والفرات أعذب المياه عذوبة، وإنما اشتق الفرات لكل ماء عذب من ماء الكوفة.

وقد طعن أيضا أهل الكوفة على أهل البصرة، فقالوا: البصرة أسرع الأرض خراباً، وأخبثها تراباً، وأبعدها من السماء، وأسرعها غرقاً.

وقد أجاب أهل البصرة أهل الكوفة عما سألوا عنه وعابوهم به، وكذلك من شرب من دجلة، وعابوا أهل الكوفة، وذكروا عيوبها، وما يؤثَرُ عن سكانها من الشح على المأكول والمشروب والغدر وقلة الوفاء.

وقد أتينا على وصف جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان وكذلك أتينا على خواص الأرض والمياه، وفصول السنة، وانقسام الآقاليم، وما لحق بهذه المعاني، فيما سلف من كتبنا على الشرح والإيضاح، وذكرنا في هذا الكتاب من جميع ذلك لمعاً.

فلنزجع الآن إلى أخبار الهادي ونعدل عن هذا السانح.

رغبة الهادي في خلع الرشيد من ولاية العهد

وقد كان الهادي أرادا ان يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، ويجعلها لابنه جعفر بن موسى، وحبس يحيى بن خالد البرمكي، وأرادا قتله، فقال له يحيى وكان القيم بأمر الرشيد: يا أمير المؤمنين، أرأيت ان كان ما أسال اللّه ان يُعِيذَنَا منه، وان لا يبلغناه، ويَنْسأ في أجل أمير المؤمنين، أيظن ان الناس يُسَلمون لجعفربنِ أمير المؤمنين الأمر ولم يبلغ الحِنث، ويرضون به لصَلاتهم وحَجِّهم وغزْوهم. قال: ما اظن ذلك، قال: فثأمن أن يسموا إليها جِلُة أهل بيتك فتخرج من ولد أبيك إلى غيرهم. فتكون قد حملت الناس على النَّكْثِ، وهوَنت عليهم أيمانهم، ولو تركت بيعة أخيك على حالها، وبُويعَ لجعفر بعده كان آكَدَ، فإذا بلغ مبلغ الرجال سألت أخاك أن يقدمه على نفسه، قال: نبهتني واللهّ على أمر لم اكن قد أنتبهت له، ثم عزم بعد ذلك على خَلْعه رضي أم كره، وأمر بالتضييق عليه في الأكثر من أموره، فأشار عليه يحيى أن يستأذنه في الخورج إلى الصَّيْد، وان يطيل التشاغل بذلك، فإن مدة موسى قصيرة على ما أوجبته قضية  المولد، واستأذنه الرشيد، فأذن له، فسار إلى شاطىء الفرات من بلاد الأنبار وهَيْتَ، وتوسط البر مما يلي السماوة، وكتب الهادي إليه يأمره بالقدوم فأكثر الرشيد التعلل، وبسط الهادي لسانه في شتمه، وسنح للهادي الخروج نحو بلاد الحديثة، فمرض هناك، وانصرف وقد ثقل في العلة، فلم يجسر أحد من الناس على الدخول عليه إلاصغار الخدم، ثم أشار إليهم أن يحضروا الخيزران أمه، فصارت عند رأسه، فقال لها: أنا هالك في هذه الليلة، وفيها يلي أخي هارون، وأنت تعلمين ما قضى به أصل مولدي بالري، وقد كنت أمرتك بأشياء ونهيتك عن أخرى، مما اوجبته سياسة الملك، لا موجبات الشرع من برك، ولم اكن بك عاقاً، بل كنت لك صائناً وبرا واصلاً، ثم قضى قابضاً على يدها، واضعاً لها على صدره. وكان مولده بالري: وكذلك مولد هرون الرشيد، فكانت تلك الليلة فيها وفاة الهادي، وولآية الرشيد، ومولد المأمون.

الهادى ورجل ذو ذنوب

ويقال: إن الهادي أوْقَفَ بين يديه رجلاً من أولياء الدولة ذا أجرام كثيرة، فجعل الهادي يذكره ذنوبه، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رَدّ عليك، وإقراري بما ذكرت يوجب ذنباً علي، ولكني أقول:

فإن كُنْتَ تَرْجُو في العُقُوبةِ رَاحَة

 

فلا تَزْهَدَنْ عِنْدَ المُعَافاةِ في الأجر

فأطلقه ووصله.

بين الهادي والرشيد

وحدث عدة من الأخباريين من ذوي المعرفة بأخبار الدولة، أن موسى قال لهارون أخيه: كأنى بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت عنه بعيد، ومن دون ذلك خرْطُ القَتَاد، فقال له هارون: يا أمير المؤمنين من تكبر وضع، ومن تواضع رفع، ومن ظلم خذل، وإن وصل الأمر إلي وَصَلْتُ مَنْ قطعت، وبررت من حرمت، وصيرت أولادك أعلى من أولادي، وزوجتهم بناتي، وقضيت بذلك حقَّ الإمام المهدي، فأنجلى عن موسى الغضب، وبان السرور في وجهه، وقال: ذلك الظن بك يا أب جعفر، ادْنُ مني، فقام هارون فقبَّلَ يده، ثم ذهب ليعود إلى مجلسه، فقال موسى: والشيخ الجليل، والملك النبيل، لا جلستَ إلا معي في صدر المجلس، ثم قال: يا خَزاني! احمل إلى أخي الساعة ألف ألف دينار، فإذا فتح الخراج فاحمل إليه نصفه، فلما أرادا هارون الانصراف قدَمت دابته إلى البساط.

رؤيا المهدي لولديه الهادي والرشيد

قال عمرو الرومي: فسألت الرشيد عن الرؤيا، فقال: قال المهدي: رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيباً، وإلى هارون قضيباً، فأما قضيب موسى فأورَقَ أعلاه قليلاً: وأما قضيب هارون فأورق من أوله إلى آخره، فقَصَّ الرؤيا على الحكيم بن إسجاق الصيمريّ، وكان يَعْبُرها، فقال له: يملكان جميعاً، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ أخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن الأيام، ودهره احسن الدهور.


قال عمرو الرومي: فلما أفضت الخلافة إلى هارون زَوَّج حمدونة ابنته من جعفربن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى له ما وعده.

حاز الهادي سيف عمرو بن معد يكرب الصمصامة

المهدي موسى الهادي سيف عمرو بن معد يكرب الصمصامة فدعا به موسى بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، وملء مِكْتَل دنإنير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال:

حَازَ صَمْصَأمةَ الزُّبْيَدِي عمروٍ

 

مِنْ جَمِيع الأنام مُوسَى الأمين

سَيْفُ عمرو، وكان فِيمَا سَمِعْنَا

 

خَيْرَمَا أغْمِدَتْ عَلَيْهِ الجُفُـونُ

اوْقَدَتْ فَوْقَهُ الصَّوَاعِقُ نَـاراً

 

ثُمَّ شَابَتْ فِيهِ الذُّعَافِ المَنُونُ

وَإذا مَا شَهرْتَهُ تَبْهَرُ الشَّمْـسَ

 

ضِيَاءً فَلَمْ تَكَدْ تَـسْـتَـبِـين

وكأن الفرِنْدَ والجوهر الـجَـا

 

رِيَ في صفحتيه ماء مَعِـينُ

ما يُبَالي إذا الضريبة حانـت

 

أشمال سَطَتْ بِـهِ أم يمـين

وهي أبيات كثيرة، فقال له الهادي: لك السيف والمكتل، فخذهما، ففرق المكتل على الشعراء، وقال: دخلتم معي وَحُرِمْتُمْ من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي فأشترى منه السيف بخمسين ألفاً. وللهادي أخبار حسان وإن كانت أيامه قَصُرَتْ، وقد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وباللّه التأييد.