ذكر خلافة هارون الرشيد

ذكر خلافة هارون الرشيد

بويع هارونُ الرشيد بنُ المهديِّ يومَ الجمعة صبيحةَ الليلةِ التي مات فيها الهادي، بمدينة السلام، وذلك لاثنتي عشرة ليلة بقِيَت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، ومات بِطُوسَ بقرية يقال لها سناباذ، يوم السبت لأربع لَيَال خَلَوْنَ من جمادي الاخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فكانت ولآيته ثلاثاً وعشربن سنة وستة اشهر، وقيل: ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً ووليَ الخلافة وهو ابن أحدى وعشرين سنة وشهرين ومات وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة اشهر.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

الرشيد يستوزر يحيى بن خالد البرمكي

ولما افْضَتِ الخلافة إلى الرشيد دعا بيحيى بن خالد فقال له: يا ابَتِ، أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ؤَيُمْنك وحسن تدبيرك، وقد قَلدْتك الأمر، وَدَفَعَ خاتمه إليه، ففي ذلك يقول الموصلي:

ألم ترأن الشمس كانت سَقِـيمَةً

 

فلما وَلَى هارونُ أشْرَقَ نورها

بيُمْنِ أمين اللَّه هارون ذي الندى

 

فَهرُونُ واليها، ويحيى وزيرها

وماتت رَيْطَة بنت أبي العباس السَّفاح لشهور خَلَتْ من أيام الرشيد، وقيل: في آخر أيام الهادي، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد في سنة ثلاث وسبعين ومائة، ومشى الرشيد أمام جنازتها، وكانت غلة الخيزران مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، وفيها مات محمد بن سليمان، وقَبَضَ الرشيد أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفاً وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع والدور والمستَغلات، وكان محمد بن سليمان يغل كل يوم مائة ألف درهم.

محمد بن سليمان وسوار القاضي يعترضهما مجنون

وحكي أن محمد بن سليمان ركب يوماً بالبصرة وسوَار القاضي يسايره في جنازة ابنة عم له، فأعترضه مجنون كان بالبصرة يعرف. برأس النعجة، فقال له: يا محمد، أمن العدل أن تكون نحلتك في كل يوم مائة ألف درهم وأنا اطلب نصف درهم فلا أقدر عليه؟ ثم التفت إلى سَوَّار فقال: إن كان هذا عدلاً فأنا أكفر به، فأسرع إليه غلمان محمد، فكَفّهُمْ عنه، وأمر له بمائة درهم، فلما انصرف محمد وسَوَّار معه اعترضه رأس النعجة فقال له: لقد كرم اللهّ منصبك، وشرف أبوتك، وحَسَّن وجهك، وعظم قدرك، وأرجو أن يكون ذلك لخير يريده اللّه بك، ولان يجمع اللّه لك الدارين، فدنا منه سَوَّار فقال: يا خبيث، ما كان هذا قولك في البداءة، فقال له: سألتك بحق اللّه وبحق الأمير إلاما أخبرتني في أي سورة هذه الآية: "فإن أعْطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون" قال: في براءة، قال: صدقت، فبرىء اللهّ ورسوله منك، فضحك محمد ابن سليمان حتى كاد يسقط عن دابته.

ولما بنى محمد بن سليمان قصره على بعض الأنهار دخل إليه عبد الصمد بن شيب بن شبة، فقال له محمد: كيف ترى بنائي؟ قال: بنيت أجل بناء، بأطيب فناء، وأوسع فضاء، وأرقِّ هواء، على احسن ماء، بين صراري وحسان وظباء، فقال محمد: بناء كلامك أحْسَنُ من بنائنا، وقيل: أن صاحب الكلام والباني للقصر هو عيسى بن جعفر، على ما حدث به محمد بن زكرياء الغلابي، عن الفضل بن عبد الرحمن بن شبيب بن شبة، وفي هذا القصر يقول ابن أبي عُيَيْنة:

زُرْواديَ القصر، نعم القصر والوادي

 

لا بُدَّ من زَوْرَة من غـير مـيعـاد

زره فلـيس لـه شـبـه يُقَـاربـه

 

من منزل حاضرٍ ان شـئت أو بـاد

ترقى قراقـيره والـعـيس واقـفة

 

والضب والنون والملاح والحـادي

وفي سنة خمس وسبعين ومائة مات الليث بن سعد، المصري، الفهمي، ويكنى أبا الحارث، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وكان قد حج سنة ثلاث عشرة ومائة وسمع من نافع.

موت شريك النخعي القاضي

وفي سنة خمس وسبعين ومائةَ مات شريك بن عبد اللّه بن سنان النَّخَعِيُّ القاضي، وكان يكنى أبا عبد اللّه، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وكان مولده ببخارى، وليس بشريك بن عبد اللّه بن أبي أنمر الليثي، لان ابن أبي أنمر مات في سنة أربعين ومائة، وإنما ذكرنا ذلك لأنهما يتشابهان في الأباء والأمهات، وبينهما تسع وثلاثون سنة، وكان شريك بن عبد اللهّ النخعي يتولّى القضاء بالكوفة أيام المهديِّ، ثم عزله موسى الهادي، وكان شريك مع فهمه وعلمه ذكياً فطناً، وكان قد جرى بينه وبين مصعب بن عبد اللّه كلام بحضرة المهدي فقال له مصعب: أنت تنتقص أبا بكر وعمرو، فقال: وللّه ما أنتقص صلَّكَ وهو دونهما.

وذُكِرَ معاوية عند شريك بالحلم، فقال: ليس بحليم من سَفِهَ الحقَّ وقاتل عليَّ بن أبي طالب.

وشم من شريك رائحة النبيذ، فقال له أصحاب الحديث: لوكانت هذه الرائحة منا لاستحيينا، فقال: لأنكم أهل الريبة.

موت مالك بن أنس الإمام

ومات في أيام الرشيد أبو عبد اللّه مالك بن انس بن أبي عأمر، الأصبحيُّ، وهو ابن تسعين سنة، وحمل به ثلاث سنين، وذلك في ربيع الأول، وقيل: أنه صلى عليه ابن أبي ذئب، على ما ذكر من التنازع في وفاة ابن أبي ذئب، وذكر الواقديُّ أن مالكاً كان يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمع والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ثم ترك ذلك كله، ثم قيل له فيه، فقال: ليس كل انسان يقدرأن يتكلم بُعذْرِه.

وسعى به إلى جعفربن سليمان، وقيل له: أنه لا يرى أيمان بيعتكم شيئاً فضربه بالسياط، ومُذَ لذلك حتى انخلع كتفأهُ.
وفي السنة التي مات فيها مالك كانت وفاة حَمَّاد بن زيد، وهي سنة تسع وسبعين ومائة.

وفي سنة إحدى وستين ومائة مات عبد الله بن المبارك، المروزي، الفقيه، بهَيْتَ بعد منصرفه من طرسوس.

القاضي أبو يوسف

وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة مات أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وهو ابن تسع وستين سنة، وهو رجل من الأنصار، وولي القضاء سنة ست وستين ومائة في أيام خروج الهادي إلى خرْجَان، وأقام على القضاء إلى ان مات خمس عشرة سنة.

قال المسعودي: وقد كانت أم جعفر كتبت مسألة إلى أبي يوسف تستفتيه فيها، فأفتاها بما وافق مرادها على حسب ما أوجبته الشريعة عنده وأداه اجتهاده إليه، فبعثت إليه بحق فضة فيه حقان من فضة في كل حق لون من الطيب، وجام ذهب فيه دراهم، وجام فضة فيه دنإنير، وغلمان وتخوت من ثياب، وحمار وبغل، فقال له بعض من حضره: قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم "من أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها" فقال أبو يوسف: تأولت الخبر على ظاهره، والاستحسان قد منع من إمضائه، ذاك إذ كان هدايا الناس التمر واللبن، لا في هذا الوقت وهدايا الناس اليوم العَيْنُ والوَرِقُ وغيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

بين عبد الله بن مصعب الزبيري وموسى بن عبد اللّه بن الحسن الطالبي

بحضرة الرشيد

وذكر الفضل بن الربيع قال: صار إليَ عبدُ اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللهّ بن الزبير، فقال: إن موسى بن عبد اللهّ بن الحسن بن الحسن بن علي قد أراداني على البَيعة له، فجمع الرشيد بينهما، فقال الزبيري لموسى: سعيتم علينا وأردتم نقض دولتنا، فالتفت إليه موسى فقال: ومَنْ أنتم؟ فغلب على الرشيد الضحك حتى رفع رأسه إلى السقف حتى لا يظهر منه، ثم قال موسى يا أمير المؤمنين، هذا الذي ترى المُشَنع عليَّ خرج واللهّ مع أخي محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسنبن علي عليَّ جدك المنصور، وهو القائل من أبيات:

قوموا ببيعتكم ننْهَضْ بطاعتنا

 

إن الخلافة فيكم يا بني حسن

في شعر طويل، وليس سعايته يا أمير المؤمنين حُبّاً لك، ولا مراعاة لدولتك، ولكن بُغْضاً لنا جميعاً أهل البيت، ولو وجد من ينتصر به علينا جميعاً لكان معه، وقد قال باطلاً وأنا مستحلفه، فأن حلف إني قلت ذلك فدمي لأمير المؤمنين حلال فقال الرشيد احلف له يا عبد اللّه، فلما أراده موسىِ على اليمين تلكأ وامتنع، فقال له الفضل: لم تمنع وقد زعمت آنفأ أنه قال لك ما ذكرته، قال عبد اللّه: فأنا أحلف له، قال موسى: قل تَقَلّدْتُ الحول والقوة دون حول اللّه وقوته إلى حولي وقوتي إن لم يكن ما حكيته عني حقاً، فحلف له، فقال موسى: اللّه اكبر، حدثني أبي عن جدي عن أبيه عن جده عليٍّ عن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم إنه قال "ما حلف أحد بهذه اليمين وهو كاذب إلا عجل اللّه له العقوبة قبل ثلاثة" واللّه ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، وها أنا يا أمير المؤمنين بين يديك وفي قَبْضَتك، فتقدم بالتوكيل علي، فإن مضت ثلاثة أيام ولم يحدث على عبد اللّه بن مصعب حادث فدمي لأمير المؤمنين حلال، فقال الرشيد للفضل: خذ بيد موسى فليكن عندك حتى أنظرفي أمره.

قال الفضل: فواللّه ما صليت العصر من ذلك اليوم حتى سمعتُ الصُّرَاخَ من دار عبد اللهّ بن مصعب، فأمرت من يتعرف خبره، فعرفت إنه قد أصابه الجُذَام، وإنه قد تورَم واسْودَ، فصرت إليه، فواللهّ ما كدت أعرفه لإنه صار كالزِّقِّ العظيم ثم اسودَّ حتى صار كالفحم، فصرت إلى الرشيد فعرفته خبره، فما إنقضى كلامي حتى أتى خبر وفاته، فبادرت بالخروج، وأمرت بتعجيل أمره والفراغ منه، وتوليت الصلاة عليه، فلما دَلّوْه في حفرته لم يستقر فيها حتى انخسفت به وخرجت منه رائحة مفرطة النتن، فرأيت أحمال شوك تمر في الطريق فقلت: علي بذلك الشوك، فأتيت به، فطرح في تلك الوهدة، فما استقر حتى انخسفت ثانية، فقلت عليَّ بألواح ساج، فطرحت على موضع قبره، ثم طرح التراب عليها، وانصرفت إلى الرشيد فعرفته الخبر وما عاينت من الأمر فأكثر التعجب من ذلك، وأمرني بتخلية موسى بن عبد اللّه رضي اللّه عنه، وإن أعطيه ألف دينار، وأحضر الرشيد موسى فقال له: لم عَدَلْت عن اليمين المتعارفة بين الناس؟ قال: لإنا رَوَيْنَا عن جَدِّنا رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "منْ حلف بيمين مَجدَ اللهّ فيها استحيا اللهّ من تعجيل عقوبته. وما من أحد حلف بيمين كاذبة نازع اللّه فيها حَوْلَه وقوته إلا عَجَّلَ اللّه له العقوبة قبل ثلاث".

وقيل: إن صاحب هذا الخبر هو يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي أخو موسى بن عبد اللّه، ورضوان اللّه عليهم!.

وكان يحيى قد سار إلى الدًيْلَم مستجيراً، فباعه صاحب الدَّيْلَم من عامل الرشيد بمائة ألف درهم، فقتل، رحمه اللّه!.
وقد روي من وجه آخر على حسب تباين النسخ وطرق الرواية في ذلك في كتب الأنساب والتواريخ إن يحيى ألقِيَ في بركة فيها سباع قد جُوِّعت، فأمسكت عن أكله، ولاذَتْ بناحية، وهابت الدُّنُوَّ إليه، فبنى عليه ركن بالجص والحجر وهو حَي.

ظهور محمد بن جعفر، ثم هربه إلى المغرب

وقد كان محمد بن جعفربن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي كرم اللّه وجهه سار إلى مصر، فطُلِبَ، فدخل المغرب، واتصل ببلاد تَهَرْتَ السفلى، واجتمع إليه خلق من الناس، فظهر فيهم بعدل وحسن استقامة، فمات هنالك مسموماً، وقد أتينا على كيفية خبره وما كان من أمره في كتاب حدائق الأذهان، في أخبار أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتفرقهم في البلدان.

الرشيد يحج آخر حجة

وفي سنة ثمانية وثمانين ومائة حجَ الرشيد، وهي آخر حَجَّةٍ حَجهَا، فذكر عن أبي بكر بن عياش وكان من عليه أهل العلم إنه قال وقد اجتاز الرشيد بالكوفة فدب حال منصرفه من هذه الحجة: لا يعود إلى هذه الطريق، ولا خليفة من بني العباس بعده أبداً، فقيل له: أضَرب من الغيب؟ قال: نعم، قيل: بوَحْي؟ قال: نعم، قيل: إليك؟ قال: لا، إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك أخبر عنه علي رضي الله عنه المقتول في هذا الموضع، وأشار إلى الموضع الذي قتل فيه علي بالكوفة، رضي الله عنه

موت الكسائي ومحمد بن الحسن الشيباني

 وفي سنة تسع وثمانين ومائة وذلك في أيام الرشيد مات عليُّ بن حمزة الكسائي صاحب القراءات، ويكنى أبا الحسن، وكان قد شَخَصَ مع الرشيد إلى الري فمات بها، وكذلك مات محمد بن الحسن الشيباني القاضي، ويكنى أبا عبد اللّه، ودفن بالري وهو مع الرشيد، وتطير من وفاة محمد بن الحسن لرؤيا كان رأها في نومه.

يحيى بن خالد سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح

وفي هذه السنة كانت وفاة يحيى بن خالد بن بَرْمك.

وفي سنة ثمان وثمانين ومائة كان سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، فحدَّثَ يموت بن المزرع عن الرياشي، قال: سمعت الأصمعي يقول: كنت عند الرشيد، وأتى بعبد الملك بن صالح يَرْفُلُ في قيوده، فلما نظر إليه قال: هيه يا عبد الملك، كأني واللّه أنظر إليك وشؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، مهلاً مهلاً بني هاشم، واللّه سَهُل لكم الوَعْر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أزِمَّتَهَا، فخذوا حذركم مني قبل حلول داهية خَبُوط باليد والرجل، فقال له عبد الملك: أفذا أتكلم أم توأما؟ فقال: توأماً، قال: فاتق الله يا أمير المؤمنين فيما وَلاّك وراقبه في رعاياك التي استرعاك، قد سهلت لك واللّه الوعور، وجمعت على خوفك ورجائك الصدور، وكنت كما قال أخو جعفر بن كلاب.

ومقام ضَـيِّق فَـرَّجْـتـه

 

بلسـان أو بـيان أوجَـدَلْ

لو يقوم الـذيلُ أو فَـيَّالـه

 

زَلَّ عن مثل مقامي أوزَحل

قال: فأرادا يحيى بن خالد البرمكي أن يضع من مقام عبد الملك عند الرشيد، فقال له: يا عبد الملك، بلغني إنك حَقُود، فقال: أصلح اللّه الوزير!! إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي إنهما لباقيان في قلبي، فالتَفَتَ الرشيد إلى الأصمعي، فقال: يا أصمعي حررها فواللّه ما احتجَّ أحد للحقد بمثل ما احتجّ به عبد الملك، ثم أمر به فردَّ إلى محبسه، ثم التفت إلى الأصمعي، فقال: واللهّ والله يا أصمعيُّ لقد نظرتُ إلى موضع السيف من عنقه مراراً، يمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله.

أهديت للرشيد سمكة فمنعها عنه ابن يختيشوع الطبيب

حدث يوسف بن إبراهيم بن المهدي، قال: حدثني سليمان الخادم الخراساني مولى الرشيد، إنه كان واقفاً على رأس الرشيد بالحِيرَةِ وهو يتغدَّى إذ دخل عون العِبَادِيُّ، وكان صاحب الحيرة، وفي يده صحفة فيها سمكة منعوتة بالسمن فوضعها بين يديه ومعه محبس قد أتخذ لها، فحاول الرشيد أكل شيء منها فمنعه جبريل بن بختيشوع، وأشار جبريل إلى صاحب المائدة أن يشيلها عن المائدة ويعزلها له، ففطن له الرشيد، فلما رفعت المائدة وغسل الرشيد يده وخرج جبريل أمرني الرشيد باتباعه وإن أكبسه في منزله وهو يأكل فأرجع إليه بخبره، ففعلت ما أمرني به وأحسب إن أمري لم يَخْفَ على جبريل فيما تبينت من تحرزه، فإنه صار إلى موضع من دار عون، ودعا بالطعام فأحضر له، وفيه السمكة، فدعا بأقداح ثلاثة، فجعل في واحد منها قطعة من السمك وصب عليها خمراً من خمر طير ناباذ وهي قرية بين الكوفة والقادسية ذات كروم وأشجار ونخل ورياض تخرقها الأنهار من كل القاع من الفرات، شرابها موصوف بالجودة كوصف القطربلي فصبه على السمكة وقال: هذا أكل جبريل، وجعل في قدح آخر قطعة منها، وصَبَّ عليها ماء بثلج شديد البرودة، وقال: هذا أكل أمير المؤمنين أعزه اللّه إن لم يخلط السمك بغيره، وجعل في القَدَح الثالث قطعة من السمكة وجعل قطعاً من اللحم من الوان مختلفة، من شواء ومن حلوى ومن بوارد ويقول، ومن سائر ما قدم إليه من الألوان، من كل واحد منها جزأ يسيراً مثل اللقمة، واللقمتين، وصَبَّ عليها ماء بثلج، وقال:  هذا أكل أمير المؤمنين خلط السمك بغيره، من الطعام ودفع الثلاثة الأقداح إلى صاحب المائدة، وقال: احتفظ بها إلى أن ينتبه أمير المؤمنين أعزه اللّه، ثم أقبل جبريل على السمكة فأكل منها حتى تَضَلّع، وكان كلما عطش دعا بقدح من الخمر الصرف فشربه، ثم نام، فلما انتبه الرشيد من نومه سالذي عما عندي من خبر جبريل، وهل أكل من السمكة شيئا أم لم يأكل، فأخبرته بالخبر، فأمر بإحضار الأقداح الثلاثة فوجد ما في القدح الأول وهو الذي ذكر جبريل إنه أكله وصَبَّ عليه الخمر الصرف قد تفتت وانماع واختلط، ووجد ما في القدح الثاني الذي قال جبريل إنه أكل أمير المؤمنين وصب عليه الماء بالثلج قد ربا وصار على النصف مما كان، ونظر إلى القدح الثالث الذي قال جبريل وهذا أكل أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره قد تغيرت رائحته وحدثت له سُهُوكة شديدة كاد الرشيد أن يتقايأ حين قرب منه، فأمرني بحمل خمسة آلاف دينار إلى جبريل وقال: من يلومني على محبة هذا الرجل الذي يدبرني بهذا التدبير؟ فأوصْلتُ إليه المال.

رؤيا للرشيد يؤمر بالتخلية عن موسى بن جعفر

وذكر عبد اللهّ بن مالك الخزاعي وكان على دار الرشيد وشرطته قال:أاتاني رسول الرشيد في وقت ما جاءني فيه قط، فانتزعني من موضعي، ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك منه فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم، فعرَّفَ الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه، فدخلت، فوجدته قاعداً على فراشه، فسلمت، فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعَفَ الجزع عليَّ ثم قال لي: يا عبد اللّه، أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حَبَشِيّاً قد أتاني ومعه حربة فقال لي: إن تَخَلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهبْ فخلّ عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين أطلق موسى بن جعفر؟ ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى ابن جعفر واعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قِبَلَنَا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضيَّ إلى المدينة فالإذن في ذلك إليك قال: فمضيت إلى الحبس لآخرجه، فلما رأني موسى وثب إلي قائماً وظن إني قد أمرت فيه بمكروه. فقلت: لا تخف، وقد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك، وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك: إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت الإنصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مُطْلَق إليك. وأعطيته الثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله، وقلت لقد رأيت من أمرك عجباً، قال: فإني أخبرك: بينما أنا نائم إذ اتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى، حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت: بأبي وأمي ما أقول؟ فقال: قل يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوْت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسنى وبإسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يُقْوي على أناته ياذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ولا يُحْصَى عمداً، فرج عني، فكان ما ترى.

إبراهيم بن المهدي يغني لأسود

وذكر حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: قال إبراهيم و المهدي: حججت مع الرشيد، فبينا نحن في الطريق وقد إنفردتُ أسير وحدي وأنا على دابتي، إذ غلبتني عيناي، فسلكَتْ بي الدابة غير الطريق، فانتبهت وأنا على غير الجادَّة، فاشتدَّ بي الحر، فعطشْتُ عطث شديداً، فارتفع لي خباء، فقصدته، فإذا بِقبَّةٍ وبجنبها بئر ماء بقرب مَزْرَعة، وذلك بين مكة والمدينة، ولم أر بها إنسياً، فاطلعت في القبة فإذا أنا بأسود نائم، فأحَسً بي ففتح عينيه كأنهما إجانتا دم، فاستوى جالساً، وإذا هو عظيم الصورة، فقلت: يا أسود، اسقني من هذا الماء،: فقال يا أسود اسْقِنِي من هذا الماء، محاكياً لي، وقال: إن كنت عطشاناً فأنزل واشرب، وكان تحتي برذون خبيث نَفُور، فخشيت أن أنزل عنه فينفر، فضربت رأس البرذون، وما نفعنيِ الغناء قط إلا في ذلك، وذلك إني رفعت عقيرتي وأنا أغني:

كفنونيِ إن مت في دِرْع أروَى

 

واستقوا لي من بئرعُرْوةَ ماء

فلها مربع بـجـنـب أجـاج

 

ومصيف بالقصر قصر قبـاء

سخنة في الشتاء، باردة في ال

 

صيف، بدْز في الليلة الظلماء

فرفع الأسود رأسه إلي، وقال: أيما أحب إليك: إن أسقيك ماء،وحده أو ماء وسويقاً، قلت: الماء والسويق، فآخرج قَعْباً له فصب السويق في القدح فسقاني، وأقبل يضرب بيده على رأسه وصدره، ويقول: واحر صَدْرَاه، وانارات اللهب في فؤادي، يا مولاي زدني وأنا ازيدك، وشربت السويق، ثم قال لي: يا مولاي، إن بينك وبين الطريق أميالاً،ولست أشك إنك تعطش، لكن أملأ قربتي هذه واحملها قدامك، فقلت: افعل قال: فملأ قربته وسار قُداَأمي وهو يحجل في مشيته غير خارج عن الإيقاع، فإذا أمسكت لاستريح أقبل علي فقال: يا مولاي، أما عطشت، فأغنيه النصب، إلى إن أوقفني على الجادة، ثم قال لي: سِرْ رعاك اللّه ولا سلبك ما كساك من هذه النعم، بكلام عجمي معناه هذا الدعاء، ضقت بالقافلة والرشيد كان قد فَقَدَني، وقد بَثَ البُخْتَ والخيل في البر يطلبونني، فسُرَّ بي حين رأني، فأتيته، فقصصت عليه الأمر، فقال: علي بأسود، فما كان إلا هنيهة حتى مثل بين يديه، فقال له: ويلك!! ما حر صدرك، فقال: يا مولاي ميمونة، قال: ومَنْ ميمونة؟ قال: بنت حبشية، قال: ومن حبشية؟ قال: بنت بلال يا مولاي، فأمر من يستفهمه، فإذا الأسود عبد لبني جعفر الطيار، وإذا السوداء التي يهواها لقوم من ولد الحسن بن علي، فأمر الرشيد بابتياعها له، فأبى مواليها أن يقبلوا لها ثمناً، ووهبوها للرشيد، فاشترى الأسود وأعتقه، وزوجه منها، ووهب له من ماله بالمدينة حديقتين وثلثمائة دينار.

ودخل ابن السماك على الرشيد يوماً وبين يديه حمامة تلتقط حباً، فقال له: صفها وأوجز، فقال: كأنما تنظر من ياقوتتين، وتلتقط بدرتين، وتطأ على عقيقتين، وأنشدونا لبعضهم:

هتـفـت هــاتـــفة آ

 

ذَنَـهـا ألـف بـبــين

ذاتُ طَـوْقٍ مـثـــل عَ

 

طْف السنون أقنى الطرفين

وتـراهـا نــاظـــرة

 

نحوك مـن ياقـوتـتـين

ترجع الأنـفـاس مـن ث

 

قبـين كـالـلـؤلـؤتـين

وتـرى مـثـل الـــب

 

ساتين لـهـا قـادمـتـين

ولها لـحـيان كـالـصـد

 

غين مـن عـرعـرتـين

ولهـا سـاقـان حـمـرا

 

وان مـتـل الـوردتـين

نسـجـت فـوق جـنـاح

 

يها لهـا بـرنـوسـتـين

وهـي طـاووســية ال

 

لّون بنان الـمـنـكـبـين

تحت ظل من ظـلال الأي

 

ك صافـي الـكـتـفـين

فَقَدَتْ إلـفـاً فـنـاجـت

 

من تـبـاريح وبـــين

فَهْـيَ تـبـكـيه بـلا دم

 

ع جمود الـمـقـلـتـين

وهي لاتـصـبـغ عـينـا

 

ها كما تصبـغ عـينـي

بين الرشيد ومعن بن زائدة

ودخل مَعْنُ بن زائدة على الرشَيد وقد كان وجد عليه، فمشى فقارب الخطو فقال له هارون: كبرت واللّه يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين قال: وإن فيك على ذلك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك لجَلْدٌ، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. فرضي عنه وولاه.

قال: وعرض كلامه هذا على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة فقال: وَيْحَ هذا ا! ما ترك لربه شيئاً.

وقال الرشيد يوماً لمعن بن زائدة: إني قد أعددتك لأمر كبير، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعدَ لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك، ويداً مبسوطة بطاعتك، وسيفأ مشحوذاً عَلَى عدوك، فإن شئت فقل، وقيل: إن هذا الجواب من كلام يزيد بن مزيد.

بين الرشيد والكسائي

وقال الكسائي : دخلت على الرشيد، فلما قضيت حقَّ التسليم والدعاء وثَبْتُ للقيام، فقال: اقعد، فلم أزل عنده حتى خَفَّ عامة من كان في مجلسه، ولم يبق إلا خاصته، فقال لي: يا عَلِي، ألا تُحِب أن ترى محمداً وعبد اللّه، قلت: ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين، وأسرنىِ بمعاينة نعمة اللّه عَلَى أمير المؤمنين فيهما، فأمر بإحضارهما، فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هدوء ووقار، وقد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما حتى وقفا عَلَى باب المجلس، فسلما عَلَى أبيهما بالخلافة، ودَعَوَا له بأحسن الدعاء. فأمرهما بالدُّنو منه فدنَوَا فصيَّرَ محمداً عن يمينه وعبد اللّه عن يساره، ثم أمرني ان استقرئهما وأسألهما، ففعلت، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه والخروج منه، فسر بذلك الرشيد حتى تبينته فيه. ثم قال لي: يا عليُّ، كيف ترى مذهبهما وجوابهما. فقلت: يا أمير المؤمنين هما كما قال الشاعر:

أرى قَمَريْ مَجْدٍ وفرعَيْ خلافة

 

يزينهما عرق كريم ومحـتـد

يا أمير المؤمنين هما فرع زكا أصله، وطاب مَغْرِسه، وتمكنت في الثرى عروقه، وعذبت مشاربه، أبوهما أغر، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم، يحكمان بحكمه، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته، فأمتع اللّه أمير المؤمنين بهما، وأنس جميع الأمة ببقائه وبقائهما ثم قلت لهما: هلى ترويان من الشعر شيئاً؟ فقالا: نعم، ثم أنشدني محمد:

وإني لَعف الفقر مشترك الغـنـى

 

وتارك شكل لايوافقـه شـكـلـي

وأجعل مالي دون عِرْضِـيَ جـنَّة

 

لنفسي، ومفضال بما كان من فضل

ثم انشد عبد الله:

بكرت تلومُكَ مَطْلَعَ الفجر

 

ولقد تلوم بغير ماتـدري

مَلَكَ الأمورعليّ مقـتـدر

 

يُعْطِي إذا ماشاء من يُسْر

ولربَّ مغتبط بـمـرزئة

 

ومفجع بنوائب الـدهـر

وترى قَنَاتِي حين يغمدهـا

 

عَضُّ الثقاف بطيئَةَ الكسر

فما رأيت أحداً من أولاد الخلفاء وأغصان هذه الشجرة المباركة أذرب السنا ولا أحسن ألفاظاً ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا منهما، ودعوت لهما دعاء كثيراً، وأمنَ الرشيد على دُعَائِي، ثم ضمهما إليه، وجمع يده عليهما، فلم يبسطها حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج، فلما خرجا أقبل عليَّ فقال: كأنك بهما وقد حمَّ القضاء، ونزلت مقادير السماء، وبلغ الكتاب أجله، شد تشتّتتْ كلمتهما، واختلف أمرهما، وظهر تعاديهما، ثم لم يبرح ذلك بهما حتى تسفك الدماء، وتقتل القتلى، وتهتك ستور النساء، ويتمنى كثير من الأحياء أنهم في عداد الموتى، قلت: أيكون ذلك يا أمير المؤمنين لأمر رؤي في أصل مولدهما أو لأثر وقع لأمير المؤمنين في مولدهما، فقال: لا واللهّ إلا بأثر واجب حملته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء.

وصية الرشيد لمؤدب الأمين الأحمر النحوي

قال الأحمر النحوي: بعث إليَ الرشيدُ لتأديب ولده محمد الأمين، فلما دخلت قال: يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصَيَّر َيدك عليه مبسوطَة، وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، اقرئه القرآن، وعرفه الأثار، وَرَوه ِالأشعار، وعلمه السنن، وبصره مواقع الكلام وبدأه، وامنعه الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا إليه، وَرَفْع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها، من غير أن تَخْرُق به فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فَيَسْتَحْلِيَ الفراغ ويألفه، وقوِّمْهُ ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهُمَا فعليك بالشدة والغلظة.

العماني عند الرشيد يحرضه على تجديد العهد للأمين

ويقال: أن العمانيَ الشاعر قام بحضرة الرشيد خطيباً فلم يزل يقرظ محمداً ويُحَرضه على تجديد العهد له، فلما فرغ من كلامه قال له: أبشر يا عماني بولاية العهد له، فقال: إي واللّه يا أمير المؤمنين سُرُور العُشْبِ بالغيث، والمراة البنورِ بالولد، والمريض المدنف بالبرء، لأنه نسيجُ وَحْدِه، وحامي مجده، وشبيه حده، قال: فما تقول في عبد الله؟. قال: مَرْعًى ولا كالسَّعْدَان فتبسم الرشيد وقال: قاتله الله! من أعرابي ما أعرفه بمواضع الرغبة، أما واللهّ إني لأتعرف في عبد الله حَزْمَ المنصور، ونسك المهدي، وعز نفس الهادي، واللهّ لو شاء اللهّ أن أنسبه إلى الرابعة لنسبته إليها.

حرص الرشيد على ولاية عهده

قال الأصمعي: بينما أنا أسامر الرشيد ذات ليلة إذ رأيته قد قلق قلقاً شديداً فكان يقعد مرة ويضطجع مرة ويبكي آخرى ثم أنشا يقول:

قَلِّد أمورعباد الـفـه ذا ثـقة

 

موحَّدَ الرأي لا نكس ولا برم

واترك مقالة أقوام ذوي خطل

 

لا يفهمون إذا ما معشر فهموا

فلما سمعت منه ذلك علمت أنه يريد أمراً عظيماً، ثم قال لمسرور الخادم: علي بيحيى، فما لبث أن أتاه فقال: يا أبا الفضل، إن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مات في غير وصية والإسلام جَذَع، والإيمان جديد، وكلمة العرب مجتمعة، قد آمنَهَا اللهّ تعالى بعد الخوف، وأعَزَهَا بعد الذل، فما لبث إن ارْتَدَّ عامة العرب على أبي بكر، وكان من خبره ما قد علمت، وأن أبا بكر صير الأمر إلى عمر، فسلّمتِ الأمة له، ورضيت بخلافته، ثم صيرها عمر شُورَى فكان بعده ما قد بلغك من الفتن حتى صارت إلى غير أهلها، وقد عنيت بتصحيح هذا العهد وتصييره إلى مَنْ أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وأمن ضعفه ووَهنه، وهو عبد اللّه، وبنو هاشم مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه من الإنقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوته يده، ومشاركة النساء والإماء في رأيه، وعبد الله المرضِيُّ الطريقة، الأصيل الرأي، الموثوق به في الأمر العظيم، فإن مِلْتُ إلى عبد اللّه أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمدا أبالأمر لم أمن تخليطه على الرعية. فأشِرْ عليَّ في هذا الأمر برأيك مشورة يعم فضلها ونفعها، فإنك بحمد اللّه مُبَارك الرأي لطيف النظر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كل زلة مستقالة وكل رأي يتلافى خلا هذا العهد، فإن الخطأ فيه غير مأمون، والزلة فيه لا تستدرك، وللنظر فيه مجلس غير هذا، فعلم الرشيد أنه يريد الخلوة، فأمرني بالتنحي، فقمت وقعدت ناحية بحيث أسمع كلامهما، فما زالا في مناجاة ومناظرة طويلة حتى مضى الليل، وافترقا على إن عقد الأمر لعبد الله بعد محمد.

ودخلت أم جعفر على الرشيد فقالت: ما أنصفت ابنك محمداً حيث وَلّيتْه العراق وأعْرَيته عن العمد والقواد، وصيرت ذلك إلى عبد اللّه دونه، فقال لها: وما أنت وتميز الاعمال واختبار الرجال؟ إني وَلّيت ابنك السِّلْم، وعبد اللّه الحرب، وصاحب الحرب أحْوَجُ إلى الرجال من المسالم، ومع هذا فإنا نتخوف ابنك على عبد اللّه، ولا نتخوف عبد اللّه على إبنك إن بويع.

الرشيد يعلق كتاب العهد في الكعبة

وفي سنة ست وثمانين ومائة خرج الرشيد حاجاً ومعه وَلِيَّا عَهْدِهِ: الأمين والمأمون، وكتب الشرطين بينهما وعَلَّقهما في الكعبة.

وحكي عن ابراهيم الحَجَبيِّ إن الكتاب لما رفع ليعلق بالكعبة وقع، فقلت في نفسي: وقع قبلَ أن يرتفع، إن هذا الأمر سريع إنتقاضه قبل تمامه.

وحكي عن سعيد بن عامر البصري قال: حججت في هذه السنة وقد استعضم الناسُ أمر الشرط والإيمان في الكعبة، فرأيت رجلاً من هُذَيْلٍ يقود بغيره وهو يقول:

وبيعة قد نكثت أيمَانهـا

 

وفتنة قد سُعِّرَت نيرانها

فقلت له: وَيْحك ما تقول؟! قال: أقول إن السيوف سَتُسَل، والفتنة ستقع، والتنازع في الملك سيظهر قلت: وكيف ترى ذلك؟ قال: أما ترى البعير واقفاً والرجلان يتنازعان والغُراأبان قد وقعا على الدَّم والتطخا به، واللّه لا يكون آخر هذا الأمر إلا محاربة وَشَرّاً.

ويروى إن الأمين لمَّا حلفَ للرشيد بما حلفَ له به، وأرادا الخروج من الكعبة رَدَّ جعفر بن يحيى، وقال له: فإن غدرتَ بأخيك خَذَلَك الله حتى فعل ذلك ثلاثاً في كلها يحلف له، وبهذا السبب اضطغنت أم جعفر على جعفر بن يحيى، فكانت أحد من حَرَّض الرشيد على أمره وبعثته على ما نزل به.

قال المسعودي: وفي سنة سبع وثمانين ومائة بايع الرشيد لإبنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، فإذا افضت الخلافة إلى المأمون كان أمره إليه، إن شاء إن يقرّه أقرّه، وإن شاء أن يخلعه خلعه.

وفاة الفضيل بن عياض

وفي هذه السنة وهي سنة سبع وثمانين ومائة توفي الفضَيْلُ بن عياض ويكنى أبا علي، وكان مولده بخراسان، وقدم الكوفة، وسمع من المنصور ابن المعتمر وغيره، ثم تعبد وانتقل إلى مكة فأقام بها إلى أن مات.

حدث سفيان بن عُيَيْنَةَ قال: دعانا الرشيد، فدخلنا عليه ودخل الفضيل أخرنا مقنعاً رأسه بردائه، فقال لي: يا سفيان، أيهم أمير المؤمنين؟ فقلت: هذا، وأومأت إلى الرشيد، فقال له: أنت يا حَسَنَ الوجه، الذي أمر هذه الأمة في يدك وعنقك، لقد تَقَلَّدْتَ أمراً عظيماً، فبكى الرشيد، ثم أتى كل رجل منا ببدرة، فكلٌ قبلها إلا الفضيل، فقال له الرشيد: يا أبا علي، إن لم تستحلها فأعطها ذادين، وأشبع بها جائعاً واكْسً بها عرياناً، فاستعفى منها، فلما خرجنا قلت له: يا أبا علي، اخطأت، ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البر، فأخذا بلحيتي ثم قال: يا أبا محمد، أنت فقيه البلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط؟ لو طابت لأولئك لطابت لي.

موت موسى بن جعفر الطالبي

وقبض موسى بن جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ببغداد مسموماً، لخمس عشرة سنة خلت من ملك الرشيد، سنة ست وثمانين ومائة، وهو ابن أربع وخمسين سنة، وقد ذكرنا في رسالةِ بيان أسماء الأئمة القطعية من الشيعة: أسماءهم، وأسماء أمهاتهم، ومواضع قبورهم، ومقادير أعمارهم، وكم عاش كل واحد منهم مع أبيه ومن أدرك من أجداده رضي الله عنهم.

من شعر العتابي في الرشيد.

ولكلثوم العتابي في الرشيد من أبيات:

إمام لَهُ كَـفٌّ يَضُـمًّ بَـنَـانـهـا

 

عَصَا الدِّينِ ممنوع مِنَ البر عُودُهَا

وَعَين مُحِيط بالبَـرِيّةِ طَـرْفُـهَـا

 

سَوَاءٌ عليها قُرْبًهَـا وبـعـيدهـا

وأسمعَ يقظاناً يبـيت مُـنَـاجِـياً

 

له في الحشا مُسْتَوْدَعات يكيدهـا

سَمِيعٌ إذا ناداه مِنْ قَـعْـرِ كُـرْبَةٍ

 

مُنَادٍ كَفَتْـهً دعـوة لا يُعـيدهـا

حدث يموت بن المزرع قال: حدثني خالد عن عمرو بن بحر الجاحظ قال:

العتابي ينال من أبي نواس

كان كلثوم يضع من قدر أبي نُوَاسٍ، فقال له راوية أبي نوَاس يوماً: كيف تضع مِنْ قدر أبي نُوَاس وهو الذي يقول:

إذا نَحْنُ أثنـينـا عـلـيكَ بِـصَـالـح

 

فأنت الذي نُثْنِي وَفَوْقَ الذي نُثْنِي لغيركَ

وإن جَرَتِ الألفـاظُ مِـنَّـا بِـمِـدْحَة

 

لغيرك إنسَاناً فأنـت الـذي نَـعْـنِـي

قال العتابي: هذا سرقَهُ، قال: ممن؟ قال: من أبي الهذيل الجمحي قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول:

وإذا يقال لبعضهم نِعْمَ الفتى

 

فإبْنُ المُغِيرَة ذلك النـعـم

عَقُمَ النسَاءُ فلا يجِئن بمثله

 

إن النِّسَاءَبمثـلـه عُـقْـمُ

قال: فقد أحسن في قوله:

فَتَمَشَّتْ في مفاصلهـم

 

كَتَمَشِّي البرء في السَّقَم

قال: سرقَةُ أيضاً، قال له: وممن؟ قال: من شَوْسَة الفقعسي، قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول:

إذا ماسَقِيمٌ حَلَّ عنها وكَـاءَهَـا

 

تَصَعَّدَفِيهِ بُـرْؤُهَ اوَتَـصَـوّبَـا

وإان خَالطَتْ منه الحشا خِلْت أنه

 

على سالف الأيام لم يَبْقَ موصبَا

قال: فقد أحسن في قوله:

وما خُلِقَتْ إلا لِبَذْلٍ أكُفُّهُم

 

وأقْدَامهُمْ إلا لأعْوَادِ مِنْبِرِ

قال: قد سرقَهُ أيضاً، قال: ممن؟ قال: من مَرْوان بن أبي حفصة، قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول:

وماخُلِقَتْ إلا لبَذْلٍ أكُفُّهُم

 

وأالسُنُهُمْ إلالتَحْبِير ِمَنْطِق

فيوماً يُبَارُونَ الرِّيَاحَ سَمَاحَة

 

ويوماً لِبَذْل الخَاطِبِ المُتَشدق

قال: فسكت الرَّاوية، ولو أتى بشعره كله لقال سرقَهُ.

أبو العتاهية وعتبة

وحدث أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان أبو العتاهية قد أكثر مسألة الرشيد في عُتْبَة، فوعده بتزويجها أانه يسألها في ذلك: فإن أجابت جهزها وأعطاه مالاً عظيماً، ثم إن الرشيد سَنَحَ له شغل استمر به، فَحُجِبَ أبو العتاهية عن الوصول إليه، فدفع إلى مسرور الخادم الكبير ثلاث مراوح، فدخل بها على الرشيد وهو يتبسم، وكانت مجتمعة، فقرأ على واحدة منها مكتوباً:

ولقد تَنَسَّمْتُ الرياحَ لحاجَتِي

 

فإذا لها مِنْ رَاحَتَيْهِ شَمِـيمُ

فقال: أحسن الخبيث، وإذا على الثانية:

أعْلَقْتُ نفسي من رجائك ماله

 

عَنَق يحثُّ إليك بي ورسـيم

فقال: قد أجاد، وإذا على الثالثة:

ولربما اسْتَيأسْتُ ثم أقول: لا

 

إن الذي ضَمِنَ النجاحَ كريم

فقال: قاتله اللهّ!! ما أحسن ما قال، ثم دعا به، وقال: ضمنت لك يا أبا العتاهية وفي غد نقضي حاجتك إن شاء اللهّ، وبعث إلى عتبة إن لي إليك حاجة فانتظريني الليلة في منزلك، فأكبرت ذلك وأعظمته، وصارت إليه تستعفيه، فحلف أن لا يذكر لها حاجته إلا في منزلها، فلما كان في الليل سار إليها ومعه جماعة من خَوَاصِّ خدمه، فقال لها: لست أذكر حاجتي أو تضمنين قضاءها، قالت: أنا امتُكَ وأمرك نافذ فيّ ما خلا أمر أبي العتاهية فإني حلفت لأبيك رضي اللّه عنه بكل يمين يحلف بها بر وفاجر وبالمشي إلى بيت الله الحرام حافية كلما انقضت عني حجة وجبت عليَّ أخرى لا أقتصر منها على الكفارة، وكلما أفدت شيئاً تصدقت به إلا ما أصلي فيه، وبكت بين يديه، فَرَقَّ لها ورحمها وانصرف عنها، وغدا عليه أبو العتاهية وهو لا يشك في الظفر بها فقال له الرشيد: واللهّ ما قصَرْتُ في أمرك، ومسرور وحسين ورشيد وغيرهم شُهُودٌ لي بذلك، وشرح له الخبر، قال أبو العتاهية: فلما أخبرني بذلك مكثت ملياً لا أدري أين أنا، ثم قلت: الآن يئست منها إذ رَدَّتكَ، وعلمت إنها لا تجيب أحداً بعدك، فلبس ابو العتاهية الصوف، وقال في ذلك من أبيات:

قَطّعَتُ مِـنْـكِ حَـبَـائِلَ الآمـال

 

وَحَطَطْتُ عن ظَهْرِ المَطِيِّ رِحَالِي

وَوَجَدْتُ بَرْدَ اليأس بَيْنَ جَوَانـحِـي

 

فَغَنِيتُ عن حِلً وعـن تَـرْحَـال

وذكر إنه لما اتصل بالرشيد قول أبي العتاهية في عُتْبة:

ألا إن ظَبْياً للـخـلـيفةِ صـادنـي

 

ومالي على ضبي الخليفة مِنْ عدوى

غضب الرشيد وقال: أسخر منا فعبث، وأمر بحبسه، فدفعه إلى تنْجَاب صاحب عقوبته، وكان فَظّاً غليظاً، فقال أبو العتاهية:

تَنْجَـاب لا تَـعْـجَـل

 

علي فليسَ ذَا مِنْ رائهِ

ماخِلْت هذا في مَخَـا

 

يِل ضَوْ ءِبَرقِ سمَائِهِ

وكان من أشعاره في الحبس بعد ما طال مكثه:

إنمـا أنـت رَحْـمَةٌ وَسَـلامـه

 

زادكَ اللَّهُ غِـبْـطَةً وَكَـرَامـه

قيل لي: قد رَضِيت عَنَي، فمن لي

 

أن أرى لي على رِضَاكَ عَلامه

فقال الرشيد: للّه أبوه! لو رأيته ما حبسته، وإنما سمحت نفسي بحبسه لأنه كان غائباً عني، وأمر بإطلاقه: وأبو العتاهية الذي يقول:

نُرَاعُ لِذِكْرِ الموتِ ساعةَ ذِكْره

 

وَنَغْتَرُّ بالدُّنْيَا فَنَلْهُو وَنَلْـعَـبُ

ونحن بَنُو الدنيا خُلِقْنَا لغيرهـا

 

وماكُنْت فيهِ فهوشَيْءٌ مُحَبَّبُ

وهو الذي يقول أيضاً:

حُتُوفُهَارَصَد، وعيشُهَا رَنَق

 

وَكَدًّهَا نكَد، وَمُلْكًهَـا دوَلُ

وهو الذي يقول:

المَرْءُ في تأخِيرِ مُدَّتِه

 

كالثوب يَبْلَى بعد جِدَّتِهِ

عجباً لمنتبه يُضَيِّعُ مـا

 

يحتاج فيه ليوم رَقْدَتِهِ

 وقال:

لا تأمن الدنيا على غدرها

 

كم غَدَرَتْ قَبْلُ بأمثالكـا

قد أجْمَعَ الناسُ على ذمها

 

وما أرى منهم لها تاركا

إنما أنت مستعير لما سَو

 

فَ تردَّنَ، والمُعارُ يُرَدُّ

 كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا

 

مٍ عليه الانفاس فيها تُعَدَّ

 وقال:

حياتك أنفاسٌ تعـدُّ، فـكـلـمـا

 

مضى نَفَسٌ منهانقصت به جُزْءَا

يميتًكَ ما يحييك في كـل سـاعة

 

ويحدوك حادٍ ما يريد بك الهزءا

ألا يا موت لـم أر مـنـك بـدا

 

أتيت بما يخيف ولا تُـحَـابـي

كأنك قد هجمت على مَشِـيبِـي

 

كما هجم المشيب على شبابـي

نسيت الموت فيما قـد نـسـيت

 

كأني لـم أجِـدْ أحـداً يمـوت

أليس الموت غـاية كـل حـي

 

فمالـي لا أبـادر مـا يفـوت

 وقال:

وعَظَتْكَ أجْـدَاثٌ صُـمُـت

 

وبكتك سـاكـنة خـفـت

وتكلَـمـت عـن أعـظـم

 

تَبْلَى وعن صـور سـبـت

وأرَتْكَ قبرك في الـقـبـو

 

ر وانت حَيئٌ لـم تـمـت

ومُشَيِّدٍ داراً ليسكن ظلـهـا

 

سكن القبورَ، ودَارَهُ لم يَسْكُنِ

إسحاق الموصلي يغني للرشيد: حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا ذات ليلة عند الرشيد أغنيه إذ طرب لغنائي، وقال: لا تبرحْ، ولم أزل أغنيه حتى نام، فأمسكت، ووضعت العود في حجري،، جلست مكاني، فإذا بشاب صبيح الوجه حسن القَدِّ عليه مقطَّعأت خز وهيئة جميلة، فدخل وسلم وجلس، فجعلت أعجب من دخوله في ذلك الوقت إلى ذلك الموضع بغير استئذان، ثم قلت في نفسي: عسى بعض ولد الرشيد ممن لا نعرفه ولم نره، فضرب بيده إلى العود، فأخذه ووضعه في حجره وجَسَّه، فرأيت أنه جس أحسن خلق اللهّ، ثم أصلحه إصلاحاً ما أدري ما هو، ثم ضرب ضرباً، فما سمعت أذني صوتاً أجود منه، ثم إندفع يغني:

ألا عَلِّلاني قـبـل إن نـتـفـرَّفـا

 

وهات اسقني صرفاً شراباً مُرَوَّقـاً

فقد كاد ضوء الصبح أن يَفْضَحَ الدجى

 

وكاد قميص اللـيل أن يتـمـزَّقَـا

ثم وضع العود من حجره، وقال: يا عاضَّ بَظْرِ أمه، إذا فنيت فغن هكذا، ثم خرج، فقمت على أثره، فقلت للحاجب: من الفتى الذي خرج الساعة؟ فقال: ما دخل هنا أحد ولا خرج قلت: نعم الساعة مرَّ بين يَدَيَّ فَتًى صفته كيت وكيت، قال: لا واللّه ما دخل أحد ولا خرج فبقيت متعجباً، فبقي متعجبا، وقال: لقد صادَفتَ شيطاناً، ثم قال: أعِدْ عليً الصوت، فأعدته عليه، فطرب طرباً شديداً، وأمر لي بجائزة، وانصرفت.

جماعة المغنين عند الرشيد

وحدث إبراهيم الموصلي قال: جمع الرشيد ذات يومٍ المغنين، فلم يبق أحد من الرؤساء إلا حضر، وكنت فيهم، وحضر معنا مسكين المدني، ويعرف بأبي صدقة، وكان يوقع بالقضيب، مطبوعاً حذذقاً، طيب العشرة، مليح البادرة، فاقترح الرشيد وقد عمل فيه النبيذ صوتاً، فأمر صاحب الستارة ابنَ جامعٍ أن يغنيه، ففعل، فلم يطرب عليه، ثم فعل مثل ذلك بجماعة ممن حضر، فلم يحرك منه أحد، فقال صاحب الستار لمسكين المدني: يأمرك أمير المؤمنين إن كنت تحسن هذا الصوت فغنيه؟ قال إبراهيم: فاندفع فغناه، فأمسكنا جميعاً مُتعجبين من جراءة مِثله على الغناء بحضرتنا في صوت قد قصرنا فيه عن مراد الخليفة، قال إبراهيم: فلما فرغ منه سمعت الرشيد يقول وقد رفع صوته: يا مسكين أعده، فأعاده بقوة ونشاط واجتماع قلب، فأحسن فيه كل الإحسان فقال الرشيد: أحسنت واللّه يا مسكين وأجملت، ورفعت الستارة بيننا وبينه قال مسكين: يا أمير المؤمنين إن لهذا الصوت خبراً عجيباً قال: وما هو؟ قال: كنت عبداً خيّاطاً لبعض آل الزبير، وكان لمولاي عليَّ ضريبة أدفع إليه كل يوم درهمين، فإذا دفعت ضريبتي تصرفت في حوائجي، وكنى مُولَعاً بالغناء محباً له فخطت يوماً قميصاً لبعض الطالبِيِّينَ، فدفع إلي درهمين وتغديت عنده وسقاني أقداحاً، فخرجت وأنا جذلان، فلقيتني سوداء على رقبتها جَرَّة وهي تغني هذا الصوت، فأذهلني عن كل مُهِمٍّ وأنساني كل حاجة، فقلت: بصاحب هذا القبر والمنبر إلا ألقيْتِ عليَّ هذا الصوتَ، فقالت: وحق صاحب هذا القبر والمنبر لا ألقيته عليك! إلا بدرهمين، فأخرجت واللّه يا أمير المؤمنين الدرهمين فدفعتهما إليها فأنزلت الجرة عن عاتقها واندفعت، فما زالت تردده حتى كأنه مكتوب في صدري، ثم انصرفتُ إلى مولاي، فقال لي هَلمَّ خراجك، فقلت: كان وكان، فقال: يا ابن اللخناء. ألم أتقدم إليك إني لا أقبل لك عذراً في حبة تكسرها. وبَطَحَنِي وضربني خمسين جريدة بأشد ضرب يكون وحلق لحيتي ورأسي، فبتُّ يا أمير المؤمنين من أسوأ خلق اللّه حالاً، وأنسيت االصوت مما نالذي فلما أصبحت غدوت نحو الموضع الذي لقيتها فيه وبقيت متحيراً لا أعرف اسمها ولا منزلها، إذ نظرتُ بها مقبلة، فانسيت كل ما نالذي وملت إليها، فقالت: أنسِيت الصوت ورَبِّ الكعبة، فقلت: الأمر كما ذكرت، وعرفتها ما مر بي من حلق الرأس واللحية، فقالت: وحق القبر ومن فيه لا فعلت إلا بدرهمين، فأخرجت جلمي ورهنته على درهمين، فدفعتهما إليها، فأنزلت الجرة عن رأسها واندفعت، فمرت فيه ثم قالت: كأني بك وقد أخذات مكان الآربعة دراهم أربعة ألاف دينار، من الخليفة، ثم إندفعت تغنيه وتوقع على جرتها، فلم تَزَل تردده حتى رسخ في صدري، ثم مضت، وانصرفت إلى مولاي وَجِلاً، فقال: هلم خراجك، فلويت لساني، فقال: يا ابن اللخناء، ألم يكفك ما مر عليك بالأمس، فقلت: إني أعرفك إني اشتريت بخراجي أمس واليوم هذا الصوت، واندفعت أغنيه، فقال لي: ويحك معك هذا الصوت منذ يومين ولم تعلمني، امرأته طالق لو كنت قلته أمس لاعتقتك فأما حلق الرأس واللحية فلا حيلة لي فيهما، وأما خراجك فقد وهبه اللهّ لك إلى إن ينبت شعرك، قال: فضحك الرشيد وقال: ويلك!! ما أدري أيما أحسن: حديثك، أم غناؤك؟ وقد أمرت لك بما ذكرته السوداء، فقبضه وانصرف! والشعر:

قف بالمنازل ساعة فـتـأمـل

 

هل بالديار لرائد من منـزل؟

ما بالديار من البلى فلقـد أرى

 

فلسوف أحمل للبلى في محمل

الرشيد يجري حلبة الخيل

واجرى الرشيد الخيل يوماً بالرقة، فلما أرسلت صار إلى مجلسه في صدر الميدان حيث توافى إليه الخيل، فوقف على فرسه وكان في اوائلها سوابق من خيله يقدمها فرسان في عنان واحد لا يتقدم أحدهما صاحبه، فتأملها فقال: فرسي والله، ثم تأمل الأخر فقال: فرس ابني المأمون، قال: فجاءا يحتكان أمام الخيل، وكان فرسه السابق وفرس المأمون الثانية، فسر بذلك، ثم جاء الخيل بعد ذلك، فلما إنقضى المجلس وهَمَّ بالانصراف قال الأصمعي وكان حاضراً وقد تبيَّنَ سرور الرشيد للفضل بن الربيع: يا أبا العباس، هذا يوم من الأيام فأحب أن توصلني إلى أمير المؤمنين، وقام الفضل فقال: يا أمير المؤمنين، هذا الأصمعي يذكر شيئاً من أمر الفرسين يزيد الله به أمير المؤمنين سروراً، قال: هاته، فلما دنا قال: ما عندك يا أصمعي؟ قال: يا أمير المؤمنين، كنت وابنك اليوم في فرسيكما كما قالت الخنساء :

جَارى أباه فأقبلا وهـمـا

 

يتنازعان مُلاءَةَ الحُضْـر

وهما كأنهمـا وقـد بَـرَزا

 

صَقْرَان قد حَطا على وكر

برزت صفيحة وجه والـده

 

ومضى على غُلَوَائِهِ يجري

أولى فأولـى أن يقـاربـه

 

لولا جلال السن والكـبـر

طبق سمك يتكلف ألف درهم

حدث إبراهيم بن المهدي قال: استزرت الرشيد بالرقة، فزارني، وكان يأكل االطعام الحار قبل البارد، فلما وضعت البوارد رأى فيما قرب إليه منها جام قريص مثل قريص السمك، فاستصغر القطع، وقال: لم صَغر طباخك تقطيع السمك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ألسنة السمك، قال: فيشبه أن يكون في هذا الجام مائة لسان، فقال مراقب خادمه: يا أمير المؤمنين، فيها أكئر من مائة وخمسين، فاستحلفه عن مبلغ ثمن السمك، فأخبره إنه قام بأكثر من ألف درهم، فرفع الرشيد يده وحلف أن لا يطعم شيئاً دون أن يُحْضِره ألف درهم فلما حضر المال أمر أن يتصدق به. وقال: أرجو أن يكون كفارة لسَرَفِكَ في إنفاقك على جام سمك ألف درهم، ثم ناول الجام بعض خدمه وقال: أخرج من دار أخي، ثم إنظر أول سائل تراه فادفعه إليه، قال إبراهيم: وكان شراء الجام على الرشيد بمائتين وسبعين دينارا، فغمزت بعض خدمي للخروج مع الخادم ليبتاع الجام ممن يصير إليه، وفطن الرشيد فقال له: يا غلام إذا دفعته إلى سائل فقل له يقول لك أمير المؤمنين إحذر أن تبيعه بأقل من مائتي دينار فإنه خير منها، ففعل الخادم ذلك، فوالله ما أمكن خادمي أن يخلصه من السائل إلا بمائتي دينار.

أحسن الأسماء وأسمجها

وقال إبراهيم بن المهدي: كنت أنا والرشيد على ظهر حَرَّاقة وهو يريد نحو الموصل والمدادون يمدون، والشطرنج بين أيدينا، فلما فرغنا قال لي الرشيد: يا إبراهيم ما أحسن الأسماء عندك؟ قلت: اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما الثاني بعده؟ قلت: اسم هرون اسم أمير المؤمنين، قال: فما أسمجها، قلت: إبراهيم، فزارني وقال: ويلك!! أليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن جل وعز، قلت بشؤم هذا الإسم لقي ما لقي من نمرود، قال: وإبراهيم ابن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قلت: لا جَرَمَ لما سمي بهذا الاسم لم يعِشْ، قال: فإبراهيم الإمام، قلت: بحرفة اسمه قتله مروان الجعدي في جراب النورة، وأزيدك يا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد خلع، وإبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن قتل، ولم أجد أحداً سمي بهذا الاسم إلا رأيته مقتولاً أو مضروباً أو مطروداً، فما انقضى كلامي حتى سمعت مًلاحاً على بعض الحَرَّاقات يهتف بأعلى صوته: يا إبراهيم يا عاض كذا وكذا من أمه مدَّ، فالتفت إلي الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، أصدقت قولي إن اشأم الأسماء إبراهيم فضحك حتى فحص برجله.

أدب مخاطبة الأمراء

قال: وكنت يوماً عنده فإذا رسول عبد اللّه قد أتى، ومعه أطباق خيزران عليها مناديل، ومعه كتاب، فجعل الرشيد يقرأ الكتاب ويقول: بَرَّه اللّه ووصله فقلت: يا أمير المؤمنين من هذا الشي أطنبت في شكره حتى نشركك في جميل شكره؟ قال: هذا عبد اللّه بن صالح، ثم كشف المنديل، فإذا أطباق بعضها فوق بعض: في أحدها فستق، وفي الأخر بندق، إلى غير ذلك من الفاكهة، فقلت: يا أمير المؤمنين ما في هذا البر ما يستحق به هذا الدعاء، إلا أن يكون في الكتاب شيء قد خفي عليَّ، فنبذه إلي، فإذا فيه: دخلت يا أمير المؤمنين بستاناً لي في داري عمرته بنعمتك، وقد أينعت فواكهه، فأخذت من كل شيء، وصيرته في أطباق قُضْبَان ووجهته إلى أمير المؤمنين ليصل إلي من بركة دعائه مثل ما وصل إليَ من نوافل بره، قلت: ولا واللّه ما في هذا أيضاً ما يستحق به هذا، فقال: يا غبي أما ترى كيف كنى بالقضبان عن الخيزران إعظاماً لأمنَا رحمها اللّه تعالى.

رجل يتعرض للرشيد بقصة فيثيبه بأربعة ألاف دينار

ويروي إنه وقف رجل من بني أمية للرشيد على الطريق وبيده كتاب كالقصة، فإذا فيه أربعة أبيات، وهي:

يا أمين اللَّـه، إنـي قـائل

 

قَوْلَ في لب وصدق وحَسَبْ

لكُمُ الفضل علينـا، ولـنـا

 

بكُمُ الفضل على كل العرب

عبد شمس كان يتلو هاشمـاً

 

وهـمـا بـعـدُ لأم ولأب

فصِل الأرحام منـا، إنـمـا

 

عبدُ شمسٍ عمُّ عبد المطلب

فاستحسن ذلك الرشيد فأمر له لكل بيت بألف دينار، وقال: لو زدتنا لزدناك.

السكر أطيب أو المشان

وكان الرشيد ذات يوم وأبو يوسف القاضي وعبد الوهاب الكوفي في مجلسه، فتذاكروا الرطَبَ، فقال أبو يوسف: السكر أطيب من المشان، وقال عبد الوهاب: المشان أطيب، فقال الرشيد، ليحضر الطعام، ودعا بعدة من بني هاشم كانوا هناك، فاقبلوا جميعاً على السكر، وتركوا المَشَان، فقال الرشيد: قَضَوْا عليك يا أبا عبد الرحمن وهم لا يعلمون، فقال أبو عبد الرحمن: إني لم أر مشان قط أردأ من هذا، فقال له أبو يوسف: هكذا هما إذا اجتمعا.

ودخل عبد الملك بن صالح عَلَى الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب في هذه الليلة بولد وولد له ولد، فعزِّوهَنَ، فلما مثل قال: يا أمير المؤمنين، سرك الله فيما ساءك، وجعل هذه لهذه ثواباً للصابر وجزاء للشاكر.

علة الرشيد

ولما اشتدت علة الرشيد وصار إلى طوس سنة ثلاث وتسعين ومائة هَوَّنَ عليه الأطباء علَّته، فأرسل إلى متطبب فارسي كان هناك، فأراه ماءه مع قوارير شتى، فلما إنتهى إلى قارورته قال: عَرَفُوا صاحب هذا الماء إنه هالك فليوص فإنه لا براء له من هذه العلة، فبكى الرشيد وجعل يردد هذين البيتين:

إن الطبـيب بـطـبـه ودوائه

 

لايستطيع دفاع محذور القضـا

ماللطبيب يموت بـالـداء الـذي

 

قد كان يبرىء مثله فيما مضى؟

واشتد ضعفه، وأرْجَفَ الناس بموته، فدعا بحمار ليركبه، فلما صار عليه سقطتَ فخذاه فلم يثبت على السرج، فقال: إنزلوني صدق المرجفون، ثم دعا بأكفان فاختار منها ما أرادا، وأمر بحفر قبر، فلما اطلع فيه قال: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه ثم دعا بأخي رافع، فقال: أزعجتموني حتى تجشّمْتُ هذه الأسفار مع علتي وضعفي، وكان أخو رافع ابن الليث ممن خرج عليه، قال: لأقْتُلَنّكَ قتلة ما قتل مثلها أحد قبلك، ثم أمر ففصل عضوا عضواً، واستأمن من رافع بعد ذلك على المأمون، وقد ذكرنا خبره في غير هذا الكتاب، ثم دعا من كان بعسكره من بني هاشم فقال: إن كل مخلوق ميت، وكل جديد بَال، وقد نزل بي ما ترون وأنا أوصيكم بثلاث: الحفظ لأمانتكم، والنصيحة لأئمتكم، واجتماع كلمتكم وانظروا محمداً وعبد اللّه فمن بغى منهما على صاحبه فردُوهُ عن بغيه وقبحوا له بغيه ونكثه، وأقطع في ذلك اليوم أموالاً كثيرة وضياعاً ورباعاً.

شعر لأبي العتاهية يبكي الرشيد

قال الرياشي: قال الأصمعي: دخلت علىِ الرشيد وهو ينظر في كتاب ودموعُه تنحدر على خَدَّيْه، فظللت قائماً حتى سكن، وحان منه التفاتة فقال: أجلس يا أصمعي، أرأيت ما كان؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أما واللّه لو كان لأمر الدنيا ما رأيت هذا، ورمى بقرطاس فإذا فيه شعر لأبي العتاهية بخط جليل، وهو:

هل أنـت مُـعـتـبـرٌ بـمـن خَـلِـــيَت

 

منـه غَـدَاةَ مـضـــى دســـاكـــره

وبـمـن أذلَّ الـمـوت مـصـــرعـــه

 

فتـبـرأت مـــنـــه عـــشـــائره

وبـمـن خَـلَـتْ مـنــه أسِـــرتُـــه

 

وبـمـن خـلـت مـنـه مـنـــابـــره

أين الـمــلـــوك وأين غـــيرهُـــم؟

 

صاروا مـصـــيراً أنـــت صـــائره

يا مُـؤثـر الـدنـــيا بـــلـــذتـــه

 

والـمـسـتـعـد لـمـن يفـــاخـــره

نَلْ ما بدا لك إن تنال من

 

الدنيا فإن الموت آخره

ثم قال الرشيد: كأني واللّه أخاطَبُ بذلك دون الناس فلم يلبث بعد إلا يسيراً حتى مات.

قال المسعودي: قد ذكرنا جملاً وجوامع من أخبار الرشيد فيما سلف من كتبنا، وفي هذا الكتاب، ولم نذكر فيما سلف من أخبار الرشيد في هذا الكتاب شيئاً من أخبار البرامكة، فلنذكر الأن جملاً من أخبارهم في باب نفرعه له، نذكر فيه السعود من أيامهم والنحوس، وإن كنا قد أتينا على سائر أخبارهم والزُهْر من أيامهم فيما سلف من كتبنا واللّه ولي التوفيق.

ذكر جمل من أخبار البرامكة وما كان منهم في أيامهم

أسماهم خالد بن برمك

لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جودة رأيه وبأسه وجميع خلاله، لا يحيى في رأيه ووفور عقله ولا الفضل في جوده وبراعته ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحته، ولا محمد بن يحيى في سروه وبعد همته، ولا موسى بن يحيى في شجاعته وبأسه، وفيمن ذكرنا يقول أبو الغول الشاعر:

أولاد يحيى بن خالد وهُم

 

أربعة سيد ومتـبـوع

الخير فيهم إذا سألت بهم

 

مُفَرقٌ فيهمُ ومجمـوع

سبب نكبتهم

ولما أفْضَتِ الخلافة إلى الرشيد استوزر البرامكة، فاحتازوا الأموال دونه حتى كان يحتاج إلى اليسير من المال فلا يقدر عليه، وكان إيقاعه بهم في سنة سبع وثمانين ومائة، واختلف في سبب ذلك: فقيل احتياز الأموال، وأنهم أطلقوا رجلاً من آل أبي طالب كان في أيديهم، وقيل غير ذلك، واللهّ أعلم.

الفضل بن يحيى يتشاغل بالصيد فيزجره أبوه بأمر الرشيد

ويحكى أنه ورد على الرشيد يوماً كتاب صاحب إلي يد بخراسإن، ويحيى بن خالد بين يديه، يذكر فيه إن الفضل بن يحيى تشاغَلَ بالصيد وادمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به ليحيى، وقال له: يا أبت اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه كتاباً يَرْدَعُه عن مثل هذا، فمدَّ يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى الفضل على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك اللّه يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزيَنُ بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به، والسلام، وكتب في أسفله هذه الأبيات:

أنصَبْ نهاراً في طِلاب العلا

 

واصبرعلى فقد لقاء الحبيب

حتى إذا الليل بدا مُـقْـبِـلاً

 

واستترت فيه وجوه العيوب

فبادِرِ الليل بما تـشـتـهـي

 

فإنما الليل نـهـار الأريب

كم من فَتًى تحسبه ناسـكـا

 

يستقبل الليل بأمرعـجـيب

ألقَى عليه اللـيلُ أسـتـاره

 

فبات في لهو وعيش خصيب

ولذة الأحمـق مـكـشـوفَة

 

يسعى بها كل عدو رقـيب

والرشيد ينظر إلى ما يكتب يحيى فلما فرغ قال له: أبلغت يا أبت، فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن إنصرف عن عمله قال إسجاق بن إبراهيم الموصلي: كنت عند الرشيد يوماً، وأحضر البرامكة الشراب، وأحضر يحيى بن خالد جارية فغنت:

أرِقْتُ حتى كأني أعشـق الأرَقَـا

 

وذُبْتُ حتى كان السقم لي خُلِـقَـا

وفاض دمعي على قلبي فأغرقـه

 

يا من رأى غرقاً في الماء محترقا

فقال الرشيد: لمن هذا، فقيل: لخالد بن يزيد الكاتب قال: علي به قال خالد: فأحضرت، فقال للجارية: أعيدي، فأعادت، فقال لي: لمن هذا؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين، فبينا نحن كذلك إذ أقبلت وصيفة معها تفاحة عليها مكتوب بغإلية:

سرورك ألهاك عن مَوْعدِي

 

فصيرتُ تفاحتي تَذْكُـرَه

فأخذ الرشيد تفاحة آخرى وكتب عليها:

تقاضيت وعدي ولم أنسه

 

فتفاحتي هذه معـذره

ثم قال له: ياخالد، قل في هذا شيئاً، فقال:

تفأحة خرجت بالدرمن فيهـا

 

أشْهى إليَ من الدنيا وما فيها

بيضاء في حمرة غلت بغالية

 

كأنما قطفت من خَد مهديها

جعفر البرمكي عند الأصمعي: حدث الجاحظ عمن أخبره عن أنس بن أبي شيخ، قال: ركب جعفر بن يحيى ذات يوم، وأمر خادماً له أن يحمل معه ألف دينار، وقال له: سأجعل طريقي على الأصمعي، فإذا حدثني فرأيتني ضحكت فأجعلها بين يديه، ونزل جعفر عند الأصمعي، فجعل الأصمعي يحدثه بكل أعجوبة ونادرة تطرب وتضحك، فلم يضحك.، وخرج من عنده، فقال له أنس بن أبي شيخ: رأيت منك عجبَاً، أمرت بألف دينار للأصمعي وقد حركك بكل مضحكة، وليس من عادتك أن ترد إلى بيت مالك ما قد خرج عنه، فقال له: ويحك!! إنه قد وصل إليه من أموالنا مائة ألف درهم قبل هذه المرة، فرأيت في داره حُبّاً مكسوراً وعليه دراعة خَلَق، ومقعداً وسخاً، وكل شيء رأيته عنده رثاً، وأنا أرى إن لسان النعمة أنطق من لسانه، وإن ظهور الصنيعة أمدح وأهجى من مدحه وهجائه، فعلى أي وجه أعطيه إذا كانت الصنيعة لم تظهر عنده ولم تنطق النعمة بالشكر عنه.

وفي الرشيد وجعفر بن يحيى يقول الشَاعر:

ليهن الرشيد خـلافـاتـه

 

وأمر الذي قد وهى عقده

أضاف إلى بـيعة بـيعة

 

فقام بها جعفـر وَحـده

بنو بَرْمَكٍ أَّسسوا ملـكـه

 

وَشدوا لوارثه عـهْـدَهُ

مجلس عند يحيى بن خالد

وقد كان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من أهل الأراء والنحل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعوا عنده: قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور، والقدم والحدوث، والإثبات والنفي، والحركة والسكون، والمماسَّة والمباينة، والوجود والعدم، والجر والطفرة، والأجسأم والأعراض، والتعديل والتجريح ونفي الصفات وإثباتها، والاستطاعة والأفعال والكمية والكيفية، والمضاف، والإمامة أنصٌ هي أم اختيار، وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول والفروع، فقولوا الآن في العشق عَلَى غير منازعة، وليورد كل واحد منكم ما سنح له فيه، وخطر إيراده بباله.

حديث لهم عن العشق

فقال علي بن هيثم وكان أماميَّ المذهب من المشهورين من متكلمي الشيعة: أيها الوزير، العشق ثمرة المشاكلة، وهو دليل تَمَازُج الروحين، وهومن بحر اللطافة، ورقة الصنيعة، وصفاء الجوهر وليس يحدُّ لسعته، والزيادة فيه نقصان من الجسد.

وقال أبو مالك الحضرمي، وهو خارجي المذهب وهم الشراة: أيها الوزير، العشق نَفْثُ السحر، وهو أخفى وأحر من الجمر، ولا يكون إلا بازدواج الطَّبْعَين، وامتزاج الشكلين، وله نفوذ في القلب كنفوذ صَيَب المُزْنِ في خلل الرمل وهو ملك على الخصال تنقاد له العقول، وتستكين له الأراء.

وقال الثالث: وهو محمد بن الهذيل العَلاف، وكان معتزليّ المذهب وشيخ البصريين: أيها الوزير، العشق يَختم على النواظر، ويطبع على آلأفئدق، مرتقى في الأجساد، ومسرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون، متغير الأوهام، لا يصفو له، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت، وبقية من حياض الثكل، غير إنه من أريحية تكون في الطبع، وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جَوَاد لا يُصْغِي إلى داعية المنع، ولا يسنح به نازعُ العذل. وقال الرابع: وهو هشام بن الحكم الكوفي شيخ الأمامية في وقته وكبير الصنعة في عصره: أيها الوزير، العشق حِبَالةٌ نَصَبَهَا الدهر فلا يصيد بها إلا أهل التخالص في النوائب، فإذا عَلِقَ المحب في شبكتها ونشب في اثنائها فأبعد به أن يقوم سليماً أو يتخلص وشيكاً، ولا يكون إلا من اعتدال الصورة، وتكافؤ في الطريقة، وملاءمة في الهمة، له مقتل في صميم الكبد، ومهجة القلب، يعقد اللسان الفصيح، ويترك المالك مملوكاً والسيد خَوَلا حتى يخضع لعبد عبده.

وقال النَّظام إبراهيم بن يَسَار المعتزلي وكان نُظَّار البصريين في عصره: أيها الوزير العشق أرَقُّ من السراب، وأدبُّ من الشراب، وهو من طينة عَطِرَة عجنت في إناء الجلالة، حلو المجتنى ما اقصد، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلأ، وفساداً معضلأ، لا يطمع في إصلاحه، له سحابة غزيرة تهمي على القلوب، فَتُعْشِب شعفا، وَتُثْمر كلفا، وصريعُه دائم اللوعة، ضيق المتنفس، مُشَارف الزمن، طويل الفكر، إذا أجَنَّه الليل أرق، وإذا أوضحه النهار قلق، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى.

ثم قال السادس والسابع والثامن والتاشع والعاشر وَمَنْ يليهم، حتى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب، وفيما مر دليل عليه.

العشق وعلة وقوعه

قال المسعودي: تنازع الناس ممن تقدم وتآخر في ابتداء وقوع الهوى وكيفيته، وهل ذلك من نظر وسماع، واختيار واضطرار، وما علة وقوعه بعد إن لم يكن، وزواله بعد كونه، وهل ذلك فعل النفس الناطقة أو الجسم وطباعه، فقال بقراط: هو امتزاج النفسين، كما لو امتزج الماء بماء مثله عسر تخليصه بحيلة من الإحتيال، والنفس ألطف من الماء، وَأرَقُّ مسلكاً، فمن أجل ذلك لا تزيله الليإلي، ولا تخلقه الدهور ولا يدفعه دافع دق عن الأوهام مَسْلَكه، وخفىِ عن الأبصار موضعه وحارت العقول عن كيفية تمكنه غير أن ابتداء حركته من القلب، ثم تسير إلى سائر الأعضاء، فتظهر الرِّعدَة في الأطراف، والصفرة في الألوان، واللجلجة في الكلام، والضعف في الرأي والويل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى النقص.

وذهب بعض الأطباء إلى أن العشق طمع يتولد في القلب وينمى وتجتمع إليه مواد من الحرص فإذا قوي زاد بصاحبه الإهتياج واللجاج والتمادي والتفكر والأماني والهيمان والأحزان وضيق الصدر وكثرة الفكر وقلة الطعم وفساد العقل ويبس الدماغ، وذلك إن التمادي في الطمع للدَّم محرق، " فإذا احترق استحال إلى السوْدَاء، فإذا قويت جلبت الفكر فتستعلي الحرارة، وتلتهب الصفراء، ثم تستحيل الصفراء إلى الفساد فتلحق حينئذ بالسوداء، وتصير مادة لها، فتقوى، ومن طبائع السوداء الفكر، فإذا فسد الفكر اختلطت الكيموسات بالفساد، ومع الإختلاط تكون الفدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون ولا يتمٍ فحينئذ يشتد ما به، فيموت أو يقتل نفسه، وربما شهق فتخفى روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظن إنه مات فيقبرونه حَياً، وربما تَنَفَّسَ الصُّعَدَاء فتخفى روحه في تامور قلبه، وينضم القلب ولا ينفرج حتى يموت، وربما ارتاح وتشوق بالنظر، ويرى من يحب فَجْاة، وأنت ترى العاشق إذا سمع ذِكْرَ من يحب كيف يهرب دمه ويَحُولُ لونه.

وقال بعضهم: إن الله خلق كلِ روح مدورة على هيئة الكرة، وجزأها أنصافاً، وجعل في كل جسد نصفأ، فكلُّ جسدٍ لقي الجسد فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه كان بينهما عِشْق ضرورة للمناسبة القديمة. وتفاوت أحوال الناس في ذلك من القوة والضعف على قدر طبائعهم.

ولأهل هذه المقالة خَطْب طويل فيما ذكرنا. وإن النفوس نورية جوهر بسيط نزل من علو إلى هذه الأجساد فسكنها، وإن النفوس تلي بعضا على حسب مجاورتها في عالم النفس في القرب والبعد، وذهب إلى هذا المذهب جماعة ممن يظهر الإسلام، واعتلُّوا بدلائل من القرآن والسنن ودلائل القياس عند أنفسهم. من ذلك قوله عز وجل: "يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" قالوا: فالرجوع إلى الحال لا يكون إلا بعد كون متقدم، ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".

وذهب إلى هذا القول جماعة من الأعراب، ففي ذلك يقول جميل ابن عبد اللهّ بن مَعْمَر العُذْرِي في بُثَيْنة:

تَعَلّقَ روحي رُوحَهَا قبل خَلْقنـا

 

وَمِنْ قبل ماكُنا نطَافاً، وفي المهد

فزاد كما زِدْنَا، فأصبـح نـامـيا

 

وليس وإن مُتْنَا بمنتقض العهـد

ولكنه بَاقٍ عـلـى كـلَ حـالة

 

وزائرنا في ظلمة القَبْرِ واللحـد

وقال جالينوس: المحبة تقم بين العاقلين لتشاكلهما فى العقل، ولا تقع بين الأحمقين وإن كانا شكلين في الحمق، لأن العقل يجري على ترتيبِ، فيجوز أن يتفق فيه إثنان على طريق واحدة، والحمق لا يجري على ترَتيبٍ، ولا يجوز أن يتفق فيه إثنان.


وَقَسَّمَ بعض العرب الهوى فقال:

ثلأثة أحباب، فحبٌّ عَلأقَةٌوَحُبٌّ تِمِلاق، وَحُبٌّ هو القَتْل

وقال الصوفية من البغداديين: إن اللّه عز وجل إنما امتحن الناس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه، ليشق عليهم سخطه، وَيَسُرَّهم رضاه. فيسبتدل بذلك على قدر طاعة اللّه، إذ كان لا مثل له، ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم، ورازقهم مبتدئاً بالمنِّ عليهم فإذا أوجبوا على أنفسهم طاعة سواه، كان تعالى أحْرَى أن يتبع رضاه.

وللباطنية المتصوفة في هذا كلام كثير وخطب طويل.

وقال أفلاطون: ما أدري ما الهوى، غير إنه جنون إلهي، والهوى لا محمود ولا مذموم.

وكتب بعض ظًرَفاء الكُتَّاب إلى أخ له: إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الإنقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضاً.

وللناس ممن خلف وسلف من الفلاسفة والفلكيين والإسلاميين وغيرهم كلام كثير في العشق، وقد أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، من الامم الماضية والأجيال الخالية، والممالك الداثرة وإنما خرجنا مما كُنَّا فيه أنفاً من أخبار البرامكة عند ذكرنا العشق، فتغلغل بنا الكلام إلى إيراد لُمَع مما قيل في ذلك.

فلنرجع الآن إلى ما كنا فيه من أخبارهم، واتسَاق أيامهم، وانتظامها لهم بالسعود، ثم انعكاسها إلى النحوس.

الرشيد يزوج اخته العباسة لجعفر البرمكي

ذكر ذو معرفة بأخبار البرامكة أنه لما بلغ جعفر بن يحيى بن خالد بن بَرْمَك ويحيى بن خالد والفضل وغيرهم من آل برمك ما بلغوا من الملك، وتناهوا إليه من الرياسة، واستقامت لهم، الأمور، حتى قيل: أن أيامهم عَرُوسٌ وسرور دائم لا يزول، قال الرشيد لجعفر بن يحيى: وَيْحك يا جعفر!! إنه ليس في الأرض طلعة أنا بها آنس، ولا إليها أميل، وأنا بها أشد استمتاعاً وآنساً مني برؤيتك وأن للعباسة أختي مني موقعاً ليس بدون ذلك، وقد نظرت في أمري معكما، فوجدتني لا أصبر عنك ولا عنها، ورأيتني ناقص الحظ والسرور منك يوم أكون معها، وكذاك حكمي منك في يوم كوني معك دونها، وقد رأيت شيئاً يجتمع لي به السرور، وتتكاثف لي به اللذة والآنس، فقال: وفقك اللّه يا أمير المؤمنين! وعزم لك على الرشد في أمورك كلها! قال الرشيد: قد زوجتكما تزويجاً تملك به مجالستها والنًظَرَ إليها والاجتماع بها في مجلس أنا معكما فيه لا سوى ذلك فزوجه الرشيد بعد امتناع كان من جعفر إليه في ذلك، وأشهد له مَنْ حضره من خدمه وخاصة مَواليه، وأخذ الرشيد عليه عهد اللّه ومواثيقه وغليظ أيمانه أنه لا يخلو بها، ولا يجلس معها، ولا يظله وأياها سَقْفُ بيتٍ إلا وأمير المؤمنين الرشيد ثالثهما، فحلف له جعفر على ذلك، ورضي به، وألزمه نفسه، وكانوا يجتمعون على هذه الحالة التي وصفناها وجعفر في ذلك صارف بصره عنها، مزوَرٌّ بوجهه هيبة لأمير المؤمنين، ووفاء بعهده وأيمانه ومواثيقه على ما وافقه الرشيد عليه وعَلِقَتْه العباسة، وأضمرت الاحتيال عليه وكتبت إليه رقعة، فردَ رسولها وشتمه وتهدده، وعادت فعاد لمثل ذلك، فلما استحكم اليأس عليها قصدت لأمه، ولم تكن بالحازمة، فاستمالتها بالهَدايا من نفيس الجواهر والألطاف، وما أشبه ذلك من كثرة المال وألطاف الملوك، حتى إذا ظننت أنها لها في الطاعة كالأمةِ، وفي النصيحة والإشفاق كالوالدة، ألقت إليها طَرَفأ من الأمر الذي تريده، وأعلمتها ما لها في ذلك من حميد العاقبة، وما لإبنها من الفخر والشرف بمصاهرة أمير المؤمنين، وأوهمتها أن هذا الأمر إذا وقع كان به أمان لها ولولدها من زوال النعمة وسقوط مرتبته، فاستجابت لها أم جعفر، ووعدتها بأعمال الحيلة في ذلك، وأنها تلطف لها حتى تجمع بينهما، فأقبلت على جعفر يوماً فقالت له: يا بنيَ، قد وُصفت لي وصيفة في بعض القصورمن تربية الملوك قد بلغت من الأدب والمعرفة والظرْفِ والحلاوة مع الجمال الرائع والقَدِّ البارع والخصال المحمودة ما لم يُرَ مثله، وقد عزمت على اشترائها لك، وقد قرب الأمر بيني وبين مالكها، فاستقبل جعفر كلامها بالقبول، وعلفقت بذلك قلبه، وتطلعت إليها نفسُه، وجعلت تمطله، حتى اشتد شوقه، وقويت شهوته، وهو في ذلك يلح عليها بالتحريك والإقتضاء، فلما علمت أنه قد عجز عن الصبر واشتد به القلق قالت له: أنا مُهْدِيتها إليك ليلة كذا وكذا. وبعثَتْ إلى العباسة فأعلمتها بذلك، فتأهَبَتْ بمثل ما تتأهب به مثلها وسارت إليها في تلك الليلة، وانصرف جعفرفي تلك الليلة من عند الرشيد، وقد بقيَ في نفسه من الشراب فضلة لما قد عزم عليه، فدخل منزله، وسأل عن الجارية، فخبر بمكانها، فأدخلت على فتى سكران لم يكن بصورتها عالماً، ولا على خَلْقها واقفاً، فقام إليها فواقعها، فلما قضى حاجته منها قالت له: كيف رأيت حيل بنات الملوك، قال: وأي بنات الملوك تعنين، وهو يرى أنها منِ بعض بنات الروم، فقالت له: أنا مولاتك العباسة بنت المهدي، فوثب فزِعاً قد زال عنه سكره ورجع إليه عقله، فأقبل على أمه وقال: لقد بِعْتِنِي بالثمن الرخيص، وحملتني على المركب الوَعْرِ، فانظري ما يؤول إليه حالي، وانصرفت العباسة مشتملة منه على حَمْلٍ، ثم ولدت غلاماً، فوكلت به خادماً من خدمَها يُقال له رياش وحاضنة تسمى برة، فلما خافت ظهور الخبر وانتشاره وجَّهت الصبيَّ والخادم والحاضنة إلى مكة، وأمرتهما بتربيته، وطالت مدة جعفر، وغلب هو وأبوه وأخوته على أمر المملكة، وكانت زبيدةُ أم جعفر زوجُ الرشيد من الرشيد بالمنزلة التي لا يتقدمها أحد من نظرائها، وكان يحيى بن خالد لا يزال يتفقد أمر حرم الرشيد ويمنعهن من خدمة الخدم، فشكت زبيدة إلى الرشيد. فقال ليحيى بن خالد: يا أبت، ما بال أم جعفر تشكوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أمتَّهم أنا في حرمك وتدبير قصرك عندك، فقال: لا واللّه، لا تقبل قولها، قال الرشيد: فلست أعاودك، فازداد يحيى لها منعاً، وعليها في ذلك غِلْظَة، وكان يأمر بقَفْل أبواب الحرم بالليل، ويمضي بالمفاتيح إلى منزله، فبلغ ذلك من أم جعفر كل مبلغ، فدخلت ذات يوم على الرشيد فقالت: يا أمير المؤمنين، ما يحمل يحيى على ما لا يزال يفعله من منعه إياي من خدمي ووضْعه إياي في غيرموضعي، فقال لها الرشيد: يحيى عندي غيرمتهم في حرِمي، فقالت: إن كان كذلك لحفظ ابنه مما ارتكبه، فقال: وما ذاك؟ فَخبرَته بالخبر وقصَت عليه قصة العباسة مع جعفر، فسقط في يده، وقال لها: هل لك على ذلك من دليل أو شاهد؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين الولد؟ قالت: قد كان ههنا، فلما خافت ظهور أمره وَجَّهته إلى مكة، فقال لها: أفيعلم هذا أحد غيرك؟ قالت: ما في قصرك جارية إلا وقد علمت به، فأمسَكَ عن ذلك، وطَوَى عليه كَشْحاً، وأظهر أنه يريد الحج، فخرج هو وجعفر بن يحيي، وكتبت العباسة إلى الخادم والحاضنة أن يخرجا بالصبي إلى اليمن.

فلما صار الرشيد إلى مكة وَكَّلَ مَنْ يثق به بالفحص والبحث عن أمر الصبي والداية والخادم فوجد الأمر صحيحاً، فلما قضى حجه ورجع أضمر في البرامكة على إزالة نعمهم، فأقام ببغداد مُدَيدَة، ثم خرج إلى الأنبار، فلما كان في اليوم الذي عزم فيه على قتل جعفر دعا بالسندي بن شاهك، فأمره بالمضي إلى مدينة السلام والتوكيل بدور البرامكة ودور كُتَّابهم وأبنائهم وقراباتهم، وأن يجعل سراً من حيث لا يكلم به أحداً حتى يصل إلى بغداد، ثم يُفضي بذلك لمن يثق به من أهله وأعوانه، فامتثل السندي ذلك، وقعد الرشيد وجعفر عنده في موضع يعرف في الأنبار بالعمر، فأقاما يومهما بأحسن هيئة وأطيب عيش، فلما انصرف جعفرمن عنده خرج الرشيد حتى ركب مشيعاً له ثم رجع الرشيد فجلس على كرسي، وأمر بما كان بين يديه فرفع فمضى جعفر إلى منزله وفيه فضلة من الشراب، ودعا بأبي زكار المغني الطنبوري وابن أبي شيخ كاتبه ومدَت ستارة، وجلس جواريه خلفها يضربن ويغنين، وأبو زكار يغنيه:

مايريدُ الناس مِنّـا

 

ما ينام الناس عَنَا

إنما هَمّتـهـم أن

 

يُظهروا ما قد دَفَنَّا

وأمر الرشيد من ساعته ياسراً خادِمَهُ المعروف برخلة فقال له: إني أندبك لأمر ما أرى محمداً ولا القاسم له أهلاً ولا موضعاً، ورأيتك به مستقلاً ناهضاً، فحقق ظني، واحذر أن تخالف أمري فيكون ذلك سبباً لسقوط منزلتك عندي وفساد حالك لديَ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أمرتني أن أدْخِلَ السيف في بطني وآخرجه من ظهري بين يديك لفعلت، فمُرْني بأمرك فإني والله مسرع، فقال: ألست تعرف جعفر بن يحيى البرمكي؟ قال: يا أمير المؤمنين وهل أعرف سواهُ، أو يُنكر مثل جعفر؟ قال: ألم تر تشييعي إياه عند خروجه؟ قال: بلى، قال: فامض الساعة إليه فأتني برأسه على أي حالة تجلى عليها، فأرتج على ياسر الكلام وأخذته رعدحَة ووقف لا يحير جواباً، فقال: يا ياسر، ألم أتقدم إليك بترك الخلاف عليّ؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن الخطب أجل من ذلك، والأمر الذي نَدَبَنِي إليه أمير المؤمنين وددت لو أني كنت مت قبل أن يجري على يدي منه شيء فقال: دع عنك هذا وامض لما قد أمرتك فمضى ياسرٌ حتى دخل على جعفر وهو على حال لهوه، فقال له: إن أمير المؤمنين قد أمرني فيك بكيت وكيت، فقال جعفر: إن أمير المؤمنين يمازحني بأصناف من المزاح فأحسب أن هذا جنس منه، فقال: والله ما رأيته إلا جاداً، قال: فإن يكن الأمر كما قلت فهو إذاً سكران، قال: لا واللهّ ما افتقدت من عقله شيئاً، ولا ظننته شرب نبيذاً في يومه مع ما رأيت من عبادته، قال له: فإن لي عليك حقوقاً لم تجد لها مكافأة في وقت من الأوقات إلا هذا الوقت، قال: تجدني إلى ذلك سريعاً إلا فيما خالف أمير المؤمنين، قال: فارجع إليه فأعلمه أنك قد نفذت ما أمرك به فإن أصبح نادماً كانت حياتي على يديك جارية، وكانت لك عندي نعمة مجددة، وان أصبح على مثل هذا الرأي نفذت ما أمرت به في غد، قال: ليس إلى ذلك سبيل، قال: فأصبر معك إلى مضرب أمير المؤمنين حتى أقف بحيث اسمع كلامه ومراجعته أياك، فإذا ابديت عذراً ولم يقنع إلا بمصيرك إليه برأسي خرجت فأخذت رأسي من قرب، قال له: أما هذا فنعم، فمضَيَا جميعاً إلى مضرب الرشيد فدخل إليه ياسر فقال: قد أخذت رأست، يا أمير المؤمنين، وها هو ذا بالحضرة، فقال له: ائتني به وإلا واللهّ قتلتك قبله، فخرج فقال له: أسمعت الكلام، قال: فشأنك وما أمرت به، فأخرج جعفر من كمه منديلاً صغيراً فعصب به عينيه ومَدَّ رقبته فضربها ياسر وأدخل رأسه إلى الرشيد فلما رأى الرأس بين يديه أقبل عليه، وجعل يذكره بذنوبه، ثم قال: يا ياسر ائتني بفلان وبفلان، فلما أتى بهم قال لهم: اضربوا عنق ياسر، فإني لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر.

وقال الاصمعي: وَجَّهَ إلي الرشيدُ في تلك الليلة، فلما أدخلت إليه قال: يا أصمعي، قد قلتُ شعراً فأسمعه، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأنشد:

لو ان جعفر هاب أسباب الردى

 

لَنَجَا بمهجته طِمِـرمُـلْـجَـمُ

ولكان من حَذَرِ المنون بحيث لا

 

يسمو إليه به العُقَابُ القَشْعَـمُ

لكنه لمـا تـقـارَبَ وقـتـه

 

لم يَدْفَع الحَدَثَان عنه مُنـجِّـمُ

مدة سلطان البرامكة ورثاء الشعراء لهم

قال الأصمعي: ورجعت إلى منزلي فلم أصل إليه حتى تحدث الناس بقتل جعفر، وأصيب على باب قصر علي بن عيسى بن ماهان بخراسان في صبيحة الليلة التي قتل فيها جعفروأوقع بالبرامكة مكتوب بقلم جليل:

إن المساكين بنو بَرْمَك

 

صُبَّتْ عليهم غِيَرُالدهْرِ

إن لنا في أمرهم عبرة

 

فليعتبرساكنُ ذا القصر

قال المسعودي: وكان مدة دولة البرامكة وسلطانهم وأيامهم النضرة الحسنة من استخلاف هارون الرشيد إلى أن قتل جعفر بن يحيى بن خالد ابن بَرْمَكٍ سبع عشرة سنة وسبعة أشهروخمسة عشريوماً، وقد رثتهم الشعراء بمَرَاثٍ كثيرة، وذكرت أيامهم فمن ذلك قول علي بن أبي معاذ:

يا أيهَا المغتَـرُّ بـالـدَّهْـرِ

 

والدهر ذو صَرْفٍ وذو غدْرِ

لا تامنِ الدَّهْـرَ وصَـوْلاتـه

 

وكن مِنَ الدهر على حِـذْرِ

إن كنت ذا جهل يتصـريفـه

 

فانظر إلى المصلوب بالجسر

فإن فيه عِبْرة،فـاعـتـبـر

 

يا ذا الحِجَا والعقل والفكْـرِ

وخذ من الدنيا صفا عيشهـا

 

وأجر مع الدَّهْرِ كما يَجْرِي

كان وزيرَ القائم المُرْتضـى

 

وذا الحَجَا والفضل والذكْـرِ

وكانت الدنيا بأقـطَـارِهـا

 

إليه في البَرِّوفي البَـحْـرِ

يشَـيِّدُ الـمُـلْـكَ بــآرائه

 

وكان فـيه نـافـذ الأمـر

فبينما جعفر في مـلـكـه

 

عشية الجمعة بالـعـمـر

يطيرُفي الدنيا بأجـنـاحِـه

 

يأملُ طولَ الخُلدِ والعـمْـرِ

إذ عَثَرَ الدهْرُ به عَـثْـرَة،

 

يا ويلنا مِنْ عثرةِ الـدهْـرِ

وزَلَّتِ الـنَـعْـلُ بـهِ زَلّة

 

كانت له قاصِمَة الظـهْـر

فَغُودِرَالبائسُ فـي لـيلةِ ال

 

سبت قتيلاً مطْلع الفـجْـرِ

وأصبح الفضل بن يحيى وقد

 

أحِيطَ بالـشـيخ ومـايدرِي

وجيءَ بـالـشـيخ وأولادهِ

 

يحيى معاً في الغلِّ والأسْر

والبَرْمَكِيِّينَ وأتـبـاعـهـم

 

مَنْ كان في الآفاقِ والمِصْر

كأنما كانوا علـي مَـوْعِـدٍ

 

كموعد الناس إلى الحشْـرِ

وأصبحوا للـنـاس أحـدُوثَة

 

سبحان ذي السلطان والأمر

وممن رثاهم فا سْتُحسن قولُهُ أشجعُ السُّلَمِي، فقال من قصيدة:

ألان أرَحْنَا واستراحَتْ رِكـابُـنَـا

 

وأمسَكَ مَنْ يُجْدِي وَمَنْ كان يَجْتَدِي

فَقُل لِلمطايا: قد أمنْتِ مِنَ السُّـرَى

 

وطَيِّ الذيافي فَدْفَداً بعـدَ فَـدْفَـدِ

وقل العطايا بعد فَضْلٍ: تَعًطّـلِـي

 

وقل للرزايا: كـل يوم تَـجـددِي

ودونكِ سيفاً برْمَـكِـياً مُـهَـنَّـداً

 

أصيبَ بسيفٍ هاشِمِيٍّ مُـهَـنَّـدِ

وقال فيهم سَلْم الخاسر:

خَوَت أنجُمُ الجدوى وشلّتْ يَدُ النَّدَى

 

وغَاضَتْ بحَارُالجُودِ بعد البَرَامكِ

هَوَتْ أنجُمٌ كانت لأبناءِ بَـرْمَـكٍ

 

بها يَعْرِفُ الهادي قَوِيمَ المسالـك

وقال فيهم صالح الأعرابي:

لقد خان هذا الدهرأبناء بـرمـكٍ

 

وأي مُلوكٍ لم تَخُنْهَا دُهُورُهـا؟

ألم يَكُ يحيى والي الأرض كلهـا

 

فأضحَى كمن وارَتْهُ منها قُبُورُهَا

وقال فيهم أبو حزرة الأعرابي، وقيل أبو نُوَاس:

مارَمَى الدهْرُآل برمك لمَّا

 

أن رَمَى مُلْكَهُمْ بأمربديع

إن دهْراً لم يَرْعَ حقاً ليحيى

 

غيرُرَاعٍ حقاً لآل الربـيع

وقال فيه بعض الشعراء فأحسن:

يابني برمك واهاً لكُـم

 

ولأيامكُمُ المقْتَـبَـلَـهْ

كانت الدنيا عَرُوساً بكُمُ

 

وَهِيَ اليوم ثَكُول أرْمَلَه

وقال أشْجَعُ فيهم:

ولّى عن الدنيا بنو بَرْمـك

 

فلو تَوالى الناس مـا زادا

كأنما أيامـهـم كـلـهـا

 

كانت لأهل الأرض أعيادا

ولآخر فيهم من أبيات:

كأن أيامهم من حُسْن بَهْجَتِهَـا

 

مواسم الحج والأعياد والجُمَع

وقال منصور النمري:

أندُبْ بني برمك لدنـيا

 

تبكي عليهم بكـلِّ واد

كانت بهم بُرْهَةً عَرُوساً

 

فاضحَتِ إليوم في حِدَاد

وقال دعبل الخزاعي:

ألم تَرَصَرْفَ الدهرفي آل برمـك

 

وفي ابن نهيك والقُرُون التي تخلو

لقد غَرَس القوم النخيل تمـكـنـاً

 

فماحصدوا إلاكماحصد البـقـل

وقال أشْجَعُ فيهم أيضاً:

قد سَارَدهْر ببني بَرْمَـكٍ

 

ولم يَدَعْ فيهم لنا بُـقْـيا

كانوا أولي الخيرِوهم أهله

 

فارتفع الخيرعن الدنـيا

ولما قتل جعفروقبض على يحيى والفضل، وضيق عليهما المحابس، واشتد بهما الجهد،وترادف عليهما البلاء قال الفضل بن يحيى يذكرماهما فيه:

إلى اللَّه فيما نابَنَا نَرْفَعُ الشـكـوى

 

ففي يده كشفُ المضَرَّة والبَـلْـوَى

خرجنا من الدنيا ونحن مِنَ أهلـهـا

 

فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجِّان يوماً لحـاجةٍ

 

عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا

وكان الرشيد كثيرا ما ينشد بعد نكبة البرامكة:

إن استهانتها إذاوقعَـت

 

لَبِقدْرِما تعلو بها رُتَبُهْ

وإذا بَدَتْ للنمل أجنحة

 

حتى يطيرفقددَنا عَطَبُهْ

وقال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي: دخلت علىِ والدتي يوم نَحْرٍ، فوجدتها وعندها أمراة بَرْزَةٌ متكلمة في اثواب رَثةٍ فقالت لي: أتعرف هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى، فأقبلت عليها بوجهي أحدثها وأعظمها ثم قلت لها: يا أماه ما اعْجَبُ ما رأيت؟ قالت: يا بني لقد أتى عيدٌ مثلُ هذا وأنا على رأسي أربعمائة وصيفة، وإني لأعدُّ ابني عاقالي ولقد أتى عليَّ هذا العيد وما أتمنى سوى جلد شاتين افترش أحدهما وألتحف الآخر، قال: فدفعت إليها خمسمائة درهم، فكادت تموت فرحاً بها، ولم تزل تختلف إلينا حتى فَرَّق الموت بيننا.

وحكي عن بعض عمومة الرشيد انه صار إلى يحيى بن خالد عند تغيّر الرشيد له قبل الايقاع بهم، فقال له: ان أمير المؤمنين قد أحب جمع الأموال، وقد كثر ولده فهو يريد ان يعقد لهم الضياع، وقد كثر عليك وعلى أصحابك عنده فلو نظرت إلى ضياعهم واموالهم فجعلتها لولد أمير المؤمنين، وتقربت إليه بها رَجَوْتُ أن يكون لك السلامة، وان يرجع لك أمير المؤمنين، فقال له يحيى: واللّه لأن تزول النعمة عني أحب إلي من أن أزيلها عن قوم كنت سببها إليهم. وذكر الخليل بن الهيثم الشعبي- وكان قد وكله الرشيد بيحيى والفضل في الحبس- قال: أتاني مسرور الخادمُ ومعه جماعة من الخدم، ومع خادم منهم منديل ملفوف، فسبق إلى نفسي ان الرشيد قد تعطَّفَ عليهم، فوجَّه إليهم بلطف، فقال لي مسرور: آخرج الفضل بن يحيى، فلما مثل بين يديه قال له: ان أمير المؤمنين يقول لك: إني قد أمرتك ان تصدقني عن أموالكم فزعمت أنك قد فعلت، وقد صح عندي أنك ابقيت لك أموالاً، وقد أمرت مسرورا ان لم تطلعه عليها ان يضربك مائتي سوط، فقال له الفضل: قُتِلْتُ واللّه يا أبا هاشم، فقال له مسرور: يا أبا العباس أرى لك أنك لا تؤثر مالك على مهجتك، فأني لا آمن أن أنفذ ما أمرت به فيك أن إلي على نفسك، فرفع الفضل رأسه إلى السماء وقال له: يا أبا هاشم، ما كذبت بأمير المؤمنين، ولو كانت الدنيا لي وخيرت بين الخروج منها وبين أن اقرع مقرعة لا خترت الخروج منها، وأمير المؤمنين يعلم. وأنت تعلم أنا كنا نصون أعراضَنَا بأموالنا، وكيف صرنا اليوم نصون أموالنا منكم بأنفسنا، فأن كنت أمرت بشيء فامض له، فأمر بالمنديل فنفض، فسقط منه أسواط بأثمارها، فضرب مائَتْي سوط، وتولّى ضربه أولئك الخدم، فضربوه أشد الضرب الذي يكون بغير معرفة، فكادوا يأتون على نفسه، فخافنا عليه الموت، فقال الخليل بن الهيثم لوكيله المعروف بأبي يحيى: أن هنا رجلاً قد كان في الحبس، وهو بَصِيرٌ بالعلاج لمثل هذا أو شبهه، فصر إليه وأسأله أن يعالجه، قال: فأنهيت إليه ذلك، فقال: لعلك تريد أن تعالج الفضل بن يحيى، فقد بلغني ما صنع به. فقلت: أياه أريد، قال: فامض بنا إليه حتى اعالجه، فلما رآه قال: أحسبه ضربه خمسين سوطاً، قال: أنه ضربه مائتي سوط، قال: ما اظن الا أن هذا اثر خمسين سوطاً، ولكن يحتاج أن ينام على بارِيّةٍ وأدوس صدره ساعة، فجزع الفضل من ذلك، ثم أجاب إليه، ففعل ذلك به، ولم يزل يدوس صدره، ثم أخذا بيده فجذبه حتى أقامه عن البارية، فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير، ثم جعل يختلف إليه ويعالجه إلى أن نظريوماً إليه فخر ساجداً، فقلت: ما لك. فقال: يا أبا يحيى، قد برىء أبو العباس،ادْنُ مني حتى ترى، قال: فدنوت منه فأراني في ظهره لحما نابتاً، ثم قال لي: أتحفظ قولي هذا اثَرُ خمسين سوطاً. قلت: نعم، قال: واللهّ لو ضُرِبَ ألف سوط ما كان اثرها بأشد من ذلك الاثر، وأنما قلت ذلك لكي تقوى نفسه فيعينني على علاجه، فلما خرج الرجل قال لي الفضل: يا أبا يحيى، قد احتجت عشرة آلاف درهم، فسِرْ إلى المعروف بالنسائي وأعلمه حاجتي إليها، قال: فأتيته بالرسالة، فأمر بحملها إليه، فقال: يا أبا يحيى، أحب أن تمضي بها إلى هذا الرجل، وتعتذر إليه، وتسأله قبول ما وجهت به، قال: فمضيت إليه فوجدته قاعدا على حصير وطنبور له معلق ودساتيج فيها نبيذ وأداة رثة، فقال: ما حاجتك يا أبا يحيى: فأقبلت أعتذر عن الفضل، واذكر ضيق الأمر عليه، وأعلمته بما وَجَّه به إليه، فامتعض من ذلك ونحر حتى أفزعني، وقال: عشرة آلاف درهم، يرددها، فجَهَدْت كل الجهد أن يقبلها، فأبى، فصرت إلى الفضل، فأعلمته، فقال لي: استقلَّها واللّه، ثم قال لي الفضل: أحب أن تعود إلى النسائي ثأنية وتعلمه أني احتجت إلى عشرة آلاف درهم آخرى، فإذا دفعها إليك فسر بالكل إلى الرجل، قال: فقبضت من النسائي عشرة آلاف آخرى ورجعت إلى الرجل ومعي المال، وعَرَّفْته الخبر، فأبى أن يقبل شيئاً منه، فقال:أنا أعالج فتى من الأبناء بِكِرَاء. إذهب عني، فواللّه لو كانت عشرين ألف ما قبلتها، فرجعت إلى الفضل واخبرته الخبر، فقال لي: يا أبا يحيى، حدثَني بأحسن ما رأيت أو بلغك من أفعالنا، قال: فجعلت أحدثه ملياً، فقال: دع عنك هذا، فواللّه أن ما فعله هذا الرجل أحسن من كل ما فعلناه في أيامنا كلها.

وقتل جعفربن يحيى وهو ابن خمس وأربعين سنة، وقيل اقل من ذلك ومات يحيى بن خالد بالرقة في سنة تسع وثمانين ومائة على ما قدمنا.

قال المسعودي: وللرشيد أخبار حسان وسير، وقد قدمنا ذكرها فيما سلف من كتبنا في ذكر أخبار ملوك الروم بعد ظهور الاسلام، وما كان بينه وبين نَقْفُورفيما تقدم من هذا الكتاب. وللبرامكة أخبار حسان، وما كان منهم من الإفضال بالمعروف واصطناع المكارم، وغير ذلك من عجائب أخبارهم وسيرهم وما مدحتهم الشعراء به، ومراثيهم، وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان والكتاب الأوسط، وأنما نورد في هذا الكتاب لمعاً من الأخبار لم يتقدم لها أيراد في ما تقدم من كتبنا، وكذلك ذكرنا بدء أخبارهم قبل ظهور الاسلام. وكونهم على بيت النوبهار، وهو بيت النار ببلخ المقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب، وعلة تسميته بَرْمَك، وخبر برمك الأكبر مع ملوك الترك، وخبرهم بعد ظهور الإسلام، وما كان منهم في أيام بني أمية كهشام بن عبد الملك وغيره، وما كان منهم في أيام المنصور، واكتفينا بما ذكرناه في هذا الكتاب من هذه التلويحات من أخبارهم واللمع من آثارهم.