ذكر خلافة محمد الأمين

ذكر خلافة محمد الأمين

وبويع محمد بن هارون في اليوم الذي مات فيه هارون الرشيد، وهو يوم السبت لأربع ليال خَلَوْنَ من جمادي الأولى، بطُوسَ، سنة ثلاث وتسعين ومائة، وتقدم ببيعته رجاء الخادم، وكان القيم ببيعته الفضل بن الربيع، وكان محمد يكنى بأبي موسى. وأمه زُبَيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر بالرصافة وكان مولده بالرصافة. وَقُتل وهو ابن ثلاث وثَلاثين سنة وستة أشهر وثلاثة عشر يوماً. ودُفنت جثته ببغداد. وَحُمِل رأسه إلى خراسان. وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وقيل: تسعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر وستة أيام، على حسب ما وجدنا من اختلاف التواريخ وتباينها. وقيل: أن محمدا افْضَتِ الخلافة إليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة وسبعة أشهر وأحد وعشرين يوماً، وكان أصغر من المأمون بستة أشهر، وكانت أيامه في الحصار من خَلْعِه إلى مقتله سنة ونصفاً وثلاثة عشريوماً، حبس فيها يومين.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

كيف جاءه خبر الولاية

قبض الرشيد والمأمون بمَرْوَ، وبعث صالح بن الرشيد رجاء الخادم مولى محمد الأمين، إلى محمد، فأتاه بالخبر في اثني عشر يوماً إلى مدينة السلام يوم الخميس للنصف من جمادي الآخرة.

رؤيا زبيدة أيام خملت بالأمين وعند مولده وبعده

وذكر جماعة من الأخباريين وممن عُنِيَ بأخبار العباسيين كالمدائني، والعتبي وغيرهما أن زُبَيْدَةَ رأت في المنام ليلة عَلِقَتْ بمحمد كأن ثلاث نسوة دخلن عليها وهي بمجلس، قعدت اثنتان عن يمينها وواحدة عن يسارها، فدنت أحداهن، فجعلت يدها على بطن أم جعفر، ثم قالت: ملك فخم عظيم، ثقيل الحمل، نكد الأمر، ثم فعلت الثانية كما فعلت الأولى، وقالت: ملك ناقص الجد، مفلول الحد، ممذوق الود، تجور أحكامه، وتخونه أيامه، ثم فعلت الثالثة كما فعلت الثانية، وقالت: ملك قصاف، عظيم إلايلاف، كثير الخلاف، قليل الأنصاف، قالت: فأستيقظت وأنا فَزِعَة، فلما كان في الليلة التي وضعت فيها محمداً دخلن عَلًيَ وأنا نائمة كما كُنَ دخلن. فقعدن عند رأسي، ونظرن في وجهي، ثم قالت إحداهن: شجرة نضرة، وريحانة حسنة، وروضة زاهرة، ثم قالت الثانية: عين غدقة قليل لبثها سريع فناؤها عجل ذهابها وقالت الثالثة:عدو لنفسه، ضعيف في بطشه، سريع إلى غشه، مُزَال عن عرشه، فأستيقظت من نومي وأنا فَزِعَة بذلك، وأخبرت بذلك بعض قَهَارِمتي، فقالت: بعض ما يطرق النائم، وعبث من عبث التوابع، فلما تم فصاله أخذت مرقدي ليلة ومحمد أمامي في مهلى، إذ بهن قد وقفن على رأسي وأقبلن على ولدي محمد، فقالت أحداهن: ملك جبار، مِتْلاف مهذار، بعيد الآثار، سريع العثار، ثم قالت الثانية: ناطق مخصوم، ومحارب مهزوم، وراغب محروم، وشقي مهموم، وقالت الثالثة: احفروا قبره، ثم شقوا لحده، قدموا أكفانه، وأعدوا جهازه، فإن موته خير من حياته. قالت: فأستيقظت وأنا مضطربة وَجِلَة، وسألت مفسري الاحلام والمنجمين، فكل يخبرني بسعادته وحياته وطول عمره، وقلبي يأبى ذلك، ثم زجرت نفسي وقلت: وهل يدفع إلاشفاق والحذر وإلاحتراُز واقعَ القدر، أو يقدر أحد أن يدفع عن أحبابه الأجل؟.

موت ابن عياش وعزم الأمين على خلع أخيه

وفي سنة ثلاث وتسعين ومائة مات أبو بكر بن عياش الكوفي الأسدي وهوابن ثمان وتسعين سنة، بعد موت الرشيد بثماني عشرة ليلة. ولما هَمَّ محمد بخلع المأمون شاورَ عبد اللّه بن حازم، فقال له: أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين، إلا تكون أول الخلفاء نكث عهدي، ونقض ميثاقه. واستخف بيمينه، فقال: اسكت أسْكَتَ اللّه فاك، فعبد الملك بن صالح كان أفضل منك رأياً حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة. وَجَمَعَ القواد وشاورهم فأتبعوه في مراده إلى أن بلغ إلى هرثمة بن حازم، فقال: يا أمير المؤمنين: لن ينصحك من كذبك، ولن يغشك من صدقك، لا تجرىء القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فأن الغادر مخذول، والناكث مغلول. ودخل علي. بن عيسى بن ماهان، فتبسم محمد وقال: لكن شيخ هذه الدعوة، وباب هذه الدولة، لا يخالف إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعا إلى موضع ما رفعه إليه فيما مضى، فكان علي بن عيسى أول من أجاب إلى خلع المأمون، فَسَيَّرَه في عظيم نحو خراسان، فلما قرب من الري قيل له: إن طاهر بن الحسين مقيم بها، وقد كان يظن أن طاهراً لا يثبت له، فقال: واللّه ما طاهر إلا شوكة من أغصاني وشرارة من ناري، وما مثل طاهريؤمَّر على جيش، وما بينه وبين الموت إلا أن تقع عينه على سوادكم، فإن السِّخَال لا تقوى على نِطَاح الكِبَاش، والثعالب لا تقدر على لقاء الاسْدِ، فقال له ابنه: ابعث طلائع وَارْتَدْ موضعاً لعسكرك، فقال: ليس مثل طاهر يستعدُّ له بالمكايد ويستظهر له بالاحتراز والتحفظ، أن حال طاهر يؤدي إلى أمرين: إما أن يتحصَّنَ بالري فيثب به أهلها ويكفونا مؤنته، أو يخليها ويُدْبر راجعاً، لو قد قربت خيولنا منه، فقال له ابنه: إن الشرارة ربما صارت ضِرَاماً، فقال: اسكت إن طاهراً ليس قرنا في هذا الموضع، وأنما تحترس الرجال من أقرانها، وسار علي بن عيسى حتى دنت عساكره من الري، وتبين ما عليه طاهر من الجد وأهبة الحرب وضم الأطراف، فعدل إلى رُسْتَاق من رساتيق الري متياسراً عن الطريق، فنزل به، وانبسطت عساكره، وأقبل طاهر في نحو من أربعة آلاف فارس، فأشرف على عساكرعلي بن عيسى وتبين كثرتها وعدة ما فيها، فعلم أن لا طاقة له بذلك الجيش، فقال لخواص من معه: نجعلها خارجية، وَكَردَسَ خيله كراديس، وصمد في نحو القلب في سبعمائة من الخوارزمية وغيرهم من فراسن خراسان، وخرج إليه من القلب العباس بن الليث مولى المهدي، وكان فارساً، فقصده طاهر وضم يديه على سيفه فأنثنى العباس وأنضم المعروف بداود سياه إلى علي بن علي وقد اختلط الناس، فضربه ضربة فأتى عليه، وكان علي في ذلك الوقت على برذون كميت أرجل، وتمالأ على رأسه الرجال، وتنازعوا في خاتمه ورأسه، فذبحه رجل يعرف بطاهربن الراجي، وقبض آخر على خصلة من شعر لحيته، وآخر على خاتمه، وكان سبب هزيمة الجيش ضربة طاهر بيديه جميعاً للعباس بن الليث، وبذلك سمي طاهر ذا اليمينين، لجمعه يَدَيْه على السيف.

وذكر أحمد بن هشام- وكان من وجوه القواد- قال: جئت إلى مضرب طاهروقد توهم أني قُتِلتُ في المعركة ومعي رأس عليّ وقد شد، فقال: البشرى، هذه خصلة من رأس عليّ مع غرمي في المخلاة، فطرحة قدامه، ثم أتى بجثته، وقد شُدَّت يداه ورجلاه، كما يفعل بالدوابِّ إذ مالت، فأمر به طاهر فألقي في بئر، وكتب إلى في الرياستين الفضل بن سهل بالخبر، فكان في الكتاب: أطال اللّه بَقَاءَكَ، وَكَبَتَ أعداءك، كتابي إليك، ورأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في أصبعي، والحمد لله ربّ العالمين، فسر المأمون بذلك، وَسُلّم عليه في ذلك الوقت بالخلافة. وقد كانت أم جعفر لا تعلق من الرشيد، فشاور بَعْضَ مجالسيه من الحكماءِ وشكا ذلك إليه، فأشار عليه بأن يُغِيرَها، فأن إبراهيم الخليل عليه السلام كانت عنده سارة، فلم تكن تعلق منه، فلما وهبت له هاجر علقت منه بإسماعيل فغارت سارة عند ذلك، فعلقت بإسحاق، فأشتر الرشيد أم المأمون، فاستخلاها، فعلقت بالمأمون، فغارت أم جعفر عند ذلك فعلقت بمحمد.

قال المسعودي: وقد قَدَّمنا التنازع في ذلك- أعني قصص إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام، وقول من ذهب إلى أن إسحاق هو المأمور بذبحه، ومن قال: بل إسماعيل، وما ذكر كل فريق منهم في ذلك، وقد تناظر في ذلك السلف والخلف، فمن ذلك ما جرى بين عبد اللّه بن عباس وبين مولاه عِكْرِمَة، وقد قال عكرمة: مَنِ المأمور بذبحه، فقال: إسماعيل، واحتجَّ بقول اللّه عزّ وجلّ: "ومن وراء إسحاق، يعقوب" إلا ترى أنه بَشّرَ إبراهيم بولادة إسحاق فكيف يأمره بذبحه فقال له عِكْرِمَة:أنا أوجدك أن الذبيح إسحاق من القرآن، واحتجَّ بقول الله عز وجل: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق" فنعمته على إبراهيم: أن نجاه من النار، ونعمته على إسحاق: أن فَدَاه بالذِّبْح، وكانت وفاة عكرمة مولى ابن العباس سنة خمس ومائة، ويكنى أبا عبد اللّه، مات في اليوم الذي مات فيه كُثَيِّر عزة، فقال الناس: مات عظيم الفقهاء وأهل العلم وكبير الشعراء، وفيها كانت وفاة الشعبي.

الأمين ينصب مجلس غناء وهومحاصر

وحدث يوسف بن إبراهيم الكاتب قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال: بعثَ إلي الأمين محمد، وهو محاصَرٌ، فصرت إليه، فإذا هوجالس في طارمة خشبها من عود وصندل عشرة في عشرة، وإذا سليمان بن أبي جعفر المنصور معه في جوف الطارمة، وهي قبة كان أتخذ لها فراشاً مُبَطّناً بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهمب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبريسم، فسلمت فإذا قُدامة قدح بلور مخروز فيه شراب ينفذ مقداره خمسة أرطال، وبين يحيى سليمان قدح مثله، فجلست بإزاء سليمان، فأتيت بقدح كالأول والثاني، قال: فقال: أنما بعثت إليكما لما بلغني قدوم طاهر بن الحسين إلى النهروان، وما قد صنع في أمرنا من المكروه، وقابَلَنَ! به من الإساءة، فدعوتكما لافرج بكما وبحديثكما، فأقبلنا نحدثه ونؤنسه حتى سَلا عما كان يجده وفرح، ودعا بجارية من خواص جواريه تسمى ضعفاً، قال: فتطيَّرْتُ من اسمها ونحن على تلك الحال، فقال لها: غنَينا، فوضعت العود في حجرها وغنت:

كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كان أكثرناصراً

 

وأكثرحزماً منك ضُرِّج بالدم

فتطير من قولها، ثم قال لها: اسكتي قبحك اللّه، ثم عاد إلى ما كان عليه من الغم والإقطاب فأقبلنا نحادثه ونبسطه، إلى أن سلا وضحك، ثم أقبل عليها وقال لها: هات ما عندك، فغنت،

هُممُ قَتَلُوه كي يكونوا مـكـانـه

 

كما غدرَتْ يوماً بكسرى مَرازِبه

فأسكتها وزأرها وعاد إلى الحالة الأولى، فسليناه حتى عاد الى الضحك، فأقبل عليها الثالثة فقال: غني، فغنت:

كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصَّفا

 

أنيس ولم يَسْمُرْبمـكة سـامـر

بلى نحن كنَّا أهلـهَـا فـأبـادَنَـا

 

صُرُوفُ الليالي والجدُودُ العوائر

وقيل: بل إنها غنت:

أما وربِّ السُّكُون والحَرَكِ

 

إن المنايا كثيرة الشّـرَكِ

فقال لها: قومي عني فعل اللّه بك كذا وكذا وصنع بك، فقامت فعثرت بالقدح الذي كان بين يديه فكسرته، فأنهرق الشراب، وكانت ليلِ قمراء، ونحن على شاطىء دجلة في قصره المعروف بالخلد: فسمعنا قائل يقول قُضَيَ الأمر الذي فيه تستفتيان قال ابن المهدي: فقمت وقد وثب. فسمعت منشداً من ناحية القصر ينشد هذين البيتين:

لاتـعـجـبَـنَّ مـن الـعَـجَـــبْ

 

قدجـاءمـايقـضـي الـعـجـــب

قد جاء أمر فادِخ فيه لذي عجب عجب

 

 

قال: فما قعدنا معه بعدها إلى أن قتل.

وكان الأمين معجباً بأم ولده نظم وهي أم موسى الذي كان سما الناطق بالحق، وأرادا خِلع المأمون والعَقْد له من بعده، فهلكت أم موسى نظم، فجزع عليها جزعااً شديداً، فلما اتصل الخبر بأم جعفر زبيدة قالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، فحملت إليه، فأستقبلها وقال: يا سيدتي ماتت نظم، فقالت:

نفسي فداؤك لا يذهب بك اللّهف

 

ففي بقائِك مماقدمضى خـلَـفُ

عُوِّضْت موسى فهانت كل مرزئة

 

مابعدموسى على مفقودة أسَـفُ

لهو الأمين وقت الحصار

وذكر إبراهيم بن المهدي قال: استأذنت على الأمين يوماً، وقد اشتد الحصار عليه من كل وجه، فأبوا أن يأذنوا لي بالدخول عليه، إلى أن كاثرت ودخلت، فإذا هو قد تطلع إلى دجلة بالشباك، وكان في وسط قصره بركة عظيمة لها مخترق إلى الماء في دجلة، وفي المخترق شباك حديد، فسلمت عليه وهو مقبل على الماء والخدم، والغلمان قد أنتشروا إلى تفتيش الماء، وهو كالواله، فقال لي وقد ثنيت بااسلام وكررت: لا تدري يا عمي، فمقرطتي قد ذهبت في البركة إلى دجلة، والمقرطة: سمكة كانت قد صيدت له وهي صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حَبَّتَا در وقيل: ياقوت قال: فخرجت وأنا آيس من فلاحه، وقلت: لو ارتدع من وقت لكان هذا الوقت.

صفات الأمين

وكان محمد في نهاية الشدة والقوة والبطش والبهاء والجمال، إلا أنه كان عاجز الرأي ضعيف التدبير، غير مفكر في أمره.

وحكي أنه اصطبح يوماً، وقد كان خرج أصحاب اللبابيد والحراب على البغال- وهم الذين كانوا يصطادون السباع- إلى سبع كان بلغهم خبره بناحية كوثى والقصر، فاحتالوا في السبع إلى أن أتوا به في قفص من خشب على جمل،بخْتي، فَحُطَّ بباب القصر وأدخل، فمثل في صحن والأمين مصطبح، فقال: خلوا عنه وشيلوا باب القفص، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أنه سبع هائل أسود وحش، فقال: خلوا عنه، فشالوا باب القفص، فخرج سبع أسود له شعرعظيم مثل الثور، فزأروضرب بذنبه إلى الأض، فتهارب الناس، وغلقت الأبواب في وجهه، وبقي الأميز وحده جالساً في موضعه غير مكترث بالأسد، فقصده الأسد حتى دنا منه، فضرب الأمين بيده إلى مرفقة أرمنية، فأمتنع منه بها، ومًدّ السبع يد إليه، فجذبها الأمين وقبض على أصل إذنيه، وغمزه ثم هَزَّه أو دفع به الى خلف فوقع السبع ميتاً على مؤخره، وتبادر الناسُ الأمين فإذا أصابعا ومفاصل يديه قد زالت عن مواضعها، فأتى بمجبر بند عظام أصابعه الى مواضعها، وجلس كأنه لم يعمل شيئاً، فشقوا بطن الأسد فإذا مرارته قد أنشقت عن كبده.

نبوءة بخلع الأمين

وحكي أن المنصور جلس ذات يوم ودخل إليه بنو هاشم من أهله، فقال لهم وهو مستبشر، أما علمتم أن محمداً المهدي ولد البارحة له ولى ذكر، وقد سميناه موسى، فلما سمع القوم ذلك وجموا وكأنما حَثَا في وجوههم الرماد، وسكتوا ولم يحيروا جوابا، فنظر إليهم المنصور فقال لهم: هذا موضع دعاء وتهنئة، وأراكم قد سكتم، ثم استرجع، فقال لهم: كأني بكم لما أخبرتكم بتسميتي أياه موسى اغتممتم به، لأن المولود المسمى بموسى ابن محمد هو الذي على رأسه تختلف الكلمة وتسفك الدماء وتنتهب الخزائن، ويضطرب الملك، ويقتل أبوه، وهو المخلوع من الخلافة، ليس هو ذا، لا، ولا هذا زمانه، واللّه أن جَدَّ هذا المولود يعني هرون الرشيد- لم يولد بعد، قال: فدعوا له وهنوه وهنوا المهدي. وكان هذا موسى الهادي أخا الرشيد.

وكان العهد الذي كتبه الرشيد بين الأمين والمأمون وأودعه الكعبة أن الغادر منهما خارجٌ من الأمر، أيهما غدر بصاحبه، والخلافة للمغدور وذكر ياسر خادم أم جعفر، وكان من خَوَاصها أنه لما أحيط بمحمد دخلت عليه أم جعفر باكيه، فقال لها: مه، أنه ليس بجزع النساء وهلعهن عُقِدَتْ التيجان، وللخلافة سياسة لا تسعها صدور المراضع، وراءك وراءك.

ويقال: أن محمداً قصف عند طاهر، فبينا طاهر في بستانه إذ ورد كتاب من محمد بخطه، فإذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم، أعلم أنه ما قام لنا مذ قمنا قائم بحقنا وكان جزاؤه منا إلا السيف، فأنظر لنفسك أو دع قال: فلم يزل واللّه يتبين موقع الكتاب من طاهر، فلما رجع إلى خراسان آخرجه إلى خاصته، وقال لهم: واللّه ما هذا كتاب مضعوف، ولكنه كتاب مخذولي.

ولم يكن فيمن سلف من الخلفاء إلى وقتنا هذا- وهوسنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- مَنْ أبوه وأمه من بني هاشم، إلا عليُّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، ومحمد بن زُبَيْدَة.

وفي محمد بن زُبَيدَة يقول أبو الغول:

ملك أبوه وَأمه مـن نَـبْـعَة

 

منهاسرَاجُ الأمة الـوَهَّـاجُ

شربت بمكة من ذرى بطحائها

 

ماءالنبوة ليس فـيه مِـزَاجُ

وفي سنة أربع وتسعين ومائة كان ابتداؤه بالغدر بالمأمون.

عبد الملك بن صالح بن علي

وفي سنة سبع وتسعين ومائة مات بالرقة عبدُ الملك بن صالح بن علي في أيام الأمين، وكان عبد الملك أفْصَحَ ولد العباس في عصره، يقال: أن الرشيد لما أجتاز ببلاد مَنْبج من أرض الشام نظر إلى قصر مشيد، وبستان مُعْتَمّ بالأشجار كثير الثمار، فقال لعبد الملك: لمن هذا القصر. قال: هو لك ولي بك يا أمير المؤمنين، قال: فكيف بناء القصر. قال: دون منازلك وفوق منازل الناس، قال: فكيف مدينتك. قال: عَذْبه الماء، باردة الهواء، صلبة الموطأ، قليلة الأعواء، قال: كيف ليلها. قال: سَحَر كله، وقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما أحسن بلادكم، ثم قال: فكيف لا تكون كذلك وهي تربة حمراء، وسنبلة صفراء، وشجرة خضراء، فَيَافِي فِيحٌ، وجبال وضيح، بين قيصوم وشيح، فألتفت الرشيد إلى الفضل بن الربيع فقال: ضربُ السياط أهْوَنُ عَلًي من هذا الكلام.

ولما سمى محمد ابنه موسى الناطق بالحق وأخذا له العهد على الناس الفضل بن الربيع وزيرُه، وموسى يومئذ لا ينطق بأمر، ولا يعرف حسناً ولا يعقل قبيحاً، ولا يخلو من الحاجة إلى من يخدمه في ليله ونهاره ويقظته ومنامه وقيامه وقعوده، وأحْضَنَه علي بن عيسى بن ماهان، قال في ذلك رجل أعمى من أهل بغداد يعرف بعده بن أبي طالب:

أضاع الخلافة غِشًّ الـوزير

 

وَفِسْقُ الإمام وَرأي المشير

وما ذاك إلا طريق الغُـرُور

 

وشر المسالك طُرْقُ الغُرُور

فعال الخـلـيفة أعـجـوبة

 

وأعجب منه فعال الـوزير

وأعجب مـن ذا وذا أنـنَـا

 

نبايع للطفل فينا الصـغـير

ومَنْ ليس يُحْسِن مسح أنفـه

 

ولم يخل من نتنه حِجْرُظِيرْ

وما ذاك إلا بـبـاغٍ وغـاو

 

يريدان نَقْضَ الكتاب المنير

وهذان لولا انقلاب الزمـان

 

أفي العيرهذان أم في النفير

ولكنها فِـتَـنٌ كـالـجـبـا

 

ل نرتع فيها بصنع الحقـير

ولما قتل طاهربن الحسين علي بن عيسى بن ماهان سار فنزل حلوان، وذلك على خمسة أيام من مدينة السلام، فتعجب الناس من زيادة أمره، وإدبار أصحاب الأمين وهزيمتهم على كل حال، وأيقنت القلوب بغلبة طاهر وظهور المأمون، وأسقط في يدي الفضل بن الربيع وأصحابه، فقال الشاعرالأعمى في ذلك، وكان مأمونيَاً متعصباً على محمد بن زُبَيْدة مع المأمون، وكان من أهل بغداد، ومقامه بها، من أبيات:

عجبتُ لمعشريَرْجُون نُجْحاً

 

لأمر ما تتم لـه الأمـور

وكيف يتم ماعَقدُوا ورامـوا

 

وأسُ بنائهم منه الفـجُـور

أهَابَ إلى الضلال بهم غَوي

 

وشيطان مواعـده غـرور

يصيب بهم ويلعب كل لعب

 

كمالعبت بشاربها الخمـور

وكادوا الحق والمأمون غدرا

 

وليس بمفلح أبـداً غَـدُور

هوالعدل النجيب البَرُّفـينـا

 

تضمن حبه مِنا الصـدور

وعاقبة الأمور لـه يقـينـا

 

به شهد الشريعة والزبـور

فيملِك أربعينَ لـهـا وفـاء

 

تتم به الأهلةُ والشـهـور

فكيدوا أجمعين بكـل كـيد

 

وكيدكم له فيه السسـرور

وبلغ محمداً فجمع قواده وبطانته عندما ظهر من أمر طاهر، وشاورهم وقال: أحضروا لي غناءكم كما أحضرت خراسان لعبد اللّه غناءها، وكانت كما قال أعشى ربيعة:

ثم ما هابوا ولكن قـدمـوا

 

كبش غارات إذا لاقى نَطح

أما والله حدَثْتُ بأحاديث الأمم السالفة، وقرأت كتب حروبها وقصص من أقام دولها، فما رأيت في حديثهم حديثاً لرجل منهم- وأبي- كهذا الرجل في إقدامه وسياسته، وقد قصدني وأجترأ عليَّ، وتملى الهامة العظيمة من الجند ومجمع القواد وساسة الحروب، فهاتوا اليوم ما عندكِم، فقالوا: يُبْقِي الله أمير المؤمنين، يكفيه كما كَفَى الخلفاء قبله بَغيَ من بَغى عليهم.

ولما انهزم جيش محمد بين يدي طاهر، ولم يقم له قائمة منهم قال سليمان بن أبي جعفر: لعن الله الغدار، ماذا جلب على الأمة بغدره وسوء رأيه، وأبعد الله نسبه من أهل الفضل، ما أسْرَعَ ما أنتصر اللّه للمأمون بكبش المشرق يعنى طاهراً وفي ذلك يقول الشاعر:

تبا لدى الآثام والمـتـزنـدق

 

ماذا دَعَاه إلى العظيم الموِبِقِ

والغدر بالبر الزكيِّ أخي التقى

 

والسائس المأمون غير الأخرق

زين الخلافة والإمامة والنهـى

 

أهل السماحة والندى المتدفـق

أن تغدروا جهلاً بوارث أحمـد

 

ووصِي كل مُسدَّدٍ ومـوفّـق

فالله للمأمـون خـير مُـوَازر

 

والماجد القممام كبش المشرق

من الأمين إلى طاهر بن الحسين

ولما أحيط بمحمد من الجانب الشرقي والغربي، وكان هرثمة بن أعْيَنَ نازلا مما يلي النهروان بالقرب من باب خراسان، وثلاثة أبواب، وطاهر من الجانب الغربي مما يلي الياسرية وباب المحول والكُنَاسة، جمع قواده فقال: الحمد للّه الذي يَضَعُ من يشاء بقدرته ويرفع، والحمد لله الذى يعطى بقدرته من يشاء ويمنع، والحمد لله الذي يقبض ويبسط وإليه المصير، أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الحال، وكسوف البال، وصلى. اللّه على محمد رسوله وآله وسلم، وقال: إني لأفارقكم بقلب مُوجَع، ونفس حزينة، وحَسْرَة عظيمة، وأني محتال لنفسي، فأسأل الله أن يلطف بي بمعونته، ثم كتب إلى طاهر: أما بعد، فإنك عبد مأمور تنصحت فنصحت، وحاربت فنصرت وقد يُغْلَب الغالب، ويخذل المفلح، وقد رأيت الصلاح في معاونة أخي، والخروج إليه من هذا السلطان، إذا كان أولى به وأحَق، فأعطِنِي الأمان على نفسي وولدي وأمي وجدتي وخدمي وحاشيتي وأنصاري وأعواني حتى آخرج إليك وأتبرأ من هذا الأمر إلى أخي، فأن رأى الوفاء لي بأمانك، وإلا كان أولى وأحق، قال: فلما قرأ طاهر الكتاب قال: الأن لما ضيق خناقه، وهِيض جناحه، وانهزم فسَّاقُه، لا والذي نفسي بيده حتى يضع يده في يدي، وينزل على حكمي، فعند ذلك كتب إلى هرثمة يسأله النزول على حكم أمانه.

وقد كان المخلوع جَهَزَ جماعة من رجاله من الأبناء وغيرهم ممن استأمن إليه لدفع المأمونية عنه، فمالوا نحو هرثمة، وكان طاهر بن الحسين يمد هرثمة بالرجال، ولم يلق هرثمة مع ذلك كثيرَ كَيْدٍ، فلما مال مَنْ ذكرنا إلى حرب هرثمة وعلى الجيش بشر وبشير الأزْديان بعث إليهما طاهر يتوعَدُهما، فلم يأمنا صَوْلته، لإشرافه على الفتح، فخليا عن الجيش وأنفضَّ الجمع، وكان طاهر قد نزل في البستان المعروف بباب الكباش الطاهري، ففي ذلك يقول بعض العَيارين من أهل بغداد ومن أهل السجون:

لنا من طـاهـر يومٌ

 

عظيم الشأن والخَطْب

علينا فيه بـالأنـجـا

 

د عن هَرْثمه الكَلْبِ

منا لأبـي الـطـيب

 

يوم صادق الكَـرْبِ

أتـاه كـل طــرار

 

ولص كان ذا نقـب

وعريان على جنبـيه

 

آثار من الـضـرْبِ

إذا ما حل من شـرق

 

أتيناه من الـغَـرْبِ

وضاق الأمر بمحمد الأمين ففرق في قُوَّاده المحدَثِينَ دون غيرهم خمسمائة ألف درهم وقارورة غالية، ولم يُعْطِ قدماء أصحابه شيئاً، فأتت طاهراً عيونه وجواسيسه بذلك، فراسلهم وكاتبهم، ووعَدَهم ومَناهم، وأغرى الاصاغر بالقادة حتى غضبوا لذلك، وشَغَّبُوا على الأمين، وذلك يوم الاربعاء لست ليال خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائه، فقال رجل من المشعَبة على الأمين:

قل لأمـين الـنـاس فـي نـفـــســـه

 

ما شَـتّـتَ الـجُـنْـد سـوى الـغـالـيه

وطاهر نفسي فى طاهر

 

برُسْلِه والعدَّةِ الكافيِه

أضحى زِمَائم الملك في كفه

 

مقـابـلا لـلـفـئة الــبـــاغـــيه

يا نـاكـثـاً أسْـلَـمـه نــكـــثـــه

 

عيوبـه مـن حـيَنْـــه فـــاشـــيه

قدجـاءك الـلــيث بـــشـــداتـــه

 

مسـتـكـلـبـاً فـي أسُــدٍ ضـــاريه

فاهـرب فـلا مـهـرب مـن مـثـلــه

 

إلا إلـى الـنـــار أو الـــهـــاويه

ونقل طاهر من الياسرية، فنزل بباب الأنبار، وحاصر أهل بغداد، وغادى القتال وراوحَهُ، حتى تواكل الفريقان، وخربت الديار، وعفت الآثار، وغلت الأسعار، وذلك في سنة ست وتسعين ومائة، وقاتل الأخ أخاه، والابن أباه، هؤلاء محمدية وهؤلاء مأمونية، وهدمت المنازل،وأحرقت الديار، وانتهبت الأموال، فقال الأعمى في ذلك المعروف بعده بن أبي طالب:

تقطعت الأرحام بين العـشـائر

 

وأسلمهم أهل التقى والبصـائر

فَذَاكَ انتقام الله من خلقه بـهـم

 

لما اجترموه من ركوب الكبائر

فلا نحن أظهرنا من الذنب توبة

 

ولا نحن أصلحنا فساد السـرائر

ولم نستمع مـن واعـظ ومُـذَكَـرَ

 

فينجع فـينـا وعْـظُ نـاه وآمـر

فنبكي على الإسلام لما تقـطـعـت

 

رجاه، ورَجّى خَيْرَهَا كـل كـافـر

فأصبح بعض الناس يقتل بعضـهـم

 

فمن بين مقهـور ذلـيل وقـاهـر

وصاررئيس القوم يحمل نفـسـه

 

وصار رئيساً فيهـمُ كُـلُّ شـاطـر

فلا فاجر للـبـريحـفـظ حـرمة

 

ولا يستطيع البَر دفعـاً لـفـاجـر

فمن قائم يدعو إلى الجهـد عـامـدا

 

ومن أول قـد سـن عـنـا لآخـر

تراهم كأمثـال الـذئاب رأت دَمـا

 

فأمتهُ لا تلوي على زجـر زاجـر

إذا هـم الأعـداء أول مـنــزل

 

بسعيهمُ قـامـوا بِـهَـدْم الأواخـر

فأصبحتِ الأغتـام بين بـيوتـهـم

 

تَحًثهم بالمـرْهـفـات الـبَـواتـر

وأصبح فُسَّاق القـبـائل بـينـهـم

 

تشدُّ على أقرانها بـالـخـنـاجـر

فنبكي لقتلى من صـديق ومـن أخ

 

كريم، ومن جار شفـيق مـجـاور

ووالدة تبكي بحزن علـى ابـنـهـا

 

فيبكي لها من رحـمةٍ كـلُّ طـائر

وذات حليل أصبـحـت وهْـيَ أيم

 

وتبكي عليه بالـدمـوع الـبـوادر

تقول له: قد كنت عـزاً ونـاصـراَ

 

فَغُيِّبَ عني اليوم عِزَي ونـاصـري

وأبْـتُ لإحـراق وهـدْم مـنـازل

 

وقتل وإنهاب اللُّـهـى والـذخـائر

وإبراز رَبات الخـدور حَوَاسـراً

 

خرجن بلا خُـمْـرٍ ولا بـمـآزر

تراهَا حَيارى ليس تعرف مـذهبـاً

 

نوافر أمثال الظـبـاء الـنـوافـر

كأن لم تكن بغداد أحسن مـنـظـراً

 

ومَلْهًى رأتـه عـينُ لاهِ ونَـاظـر

بلى، هكذا فـإذهـب حـسـنـهـا

 

وبدَّر منها الشمل حكَم الـمـقـادر

وحَلَّ بهم ما حَل بالناس قـبـلـهـم

 

فأضحوا أحاديثاً لِـبَـادٍ وحـاضـر

أبغداد، يا دار الملوك، ومجـتـنـى

 

صنوف المنى، يا مستقرَّ المنـابـر

ويا جنة الدنيا، ويا مَطْلَبَ الغـنـى

 

ومستنبط الأموال عند المـتـاجـر

أبيني لنا: أين الذين عـهـدتـهـم

 

يحلون في روض من العيش زاهر؟

وَأين الملوك في المواكب تغـتـدي

 

تشبه حسناً بالنـجـوم الـزواهـر؟

وأين القُضَاة الحاكمـون بـرأيهـم

 

لورد أمور مشـكـلات الأوامـر؟

أو القائلون الناطقـون بـحـكـمة

 

وَرَصْفِ كلام من خطيب وشاعـر

وأين مراح للملـوك عـهـدتـهـا

 

مزخرفة فيهاصنوف الـجـواهـر

تُرَشُّ بماء المسك وَالوَرْد أرضـهـا

 

يفوح بها من بعد ريح المـجـامـرِ

ورَاحَ الندامى فـيه كـل عـشـية

 

إلى كل فَياضٍ كريم العـنـاصـر

ولهو قِيان تستجـيب لـنـغـمهـا

 

إذا هو لَبَّاهَا حـنـين الـمـزاهـر

فما للملوك الغُـرِّمـن آل هـاشـم

 

وأشياعهم فيها اكتفوا بالمـفـاخـر

يروحون في سلطانهـم وكـأنـهـم

 

يروحون في سُلْطان بعض العشائر

تخاذل عما نَالـهُـمْ كـبـراؤهـم

 

فَنَالهُمُ بالـكـره أيدي الأصـاغـر

فأقسم لوأن الملـوك تَـنَـاصَـرُوا

 

لَذَلًتْ لها خوفاً رقاب الـجـبـابـر

وبعث هرثمة بن أعين بن زهيربن المسيب الضبي من الجانب الشرقي، فنزل الماطر مما يلي كالواذا، وَعَشّر ما في السفن من أموال التجار الواردة من البصرة وواسط، ونصب على بغداد المنجنيقات، ونزل في رقة كلواذا والجزيرة، فتأذى الناس به، وصمد نحوه خلق من العَيَّارين وأهل السجون، وكانوا يقاتلون عُرَاةً في أوساطهم التبابين والميازر، وقد أتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص وسموها الخوذ، وَدرَقاً من الخوص والبواري قد قُيِّرَت وحشيت بالحصى والرمل، على كل عشرة منهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل في مرتبة من المركوب على مقدارما تحت يده،فالعريف له أناس مركبهم غير ما ذكرنا من المقاتلة، وكذلك النقيب والقائد والأمير، ونادى عُرَاة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصوف الأحمر والأصفر، ومقاود قد اتخذت لهم، ولجم وأذناب من مكانس ومَذَابَّ، فيأتي العريف وقد أركب واحداً وقدامه عشرة من المقاتلة على رؤوسهم خوذ الخوص وَعَرَقُ البواري، ويأتي النقيب والقائد والأمير كذلك، فتقف النظارة يتظرون إلى حربهم مع أصحاب الخيول الفرةِ الجواشن والدروع والتجافيف والسواعد والرماح والدرق التبتية، فهؤلاء عراة وهؤلاء على ما ذكرنا من العدَة فكانت للعُرَاة على زهير، وأتاه المدَدُ من هرثمة، فأنهزمت العُرَاة، ورمت بهم خُيُولُهم، وتحاصروا جميعاً، وأخذهم السيف، فقتل منهم خلق، وقتل من النظارة خلق، فقال في ذلك الأعمى، وذكر رَمْيَ زهير بالمنجنيق:

لا تـقرب الـمنجنيق والـحَـجَرَا

 

وقـد رأيت القـتيل إذ قبـرا

بَاكَـرَكــيلا يفـوتــه خبـر

 

راح قَــتِـيلاوخَلّفَ الخـبرا

أرادا ألا يقال: كـان لـهـم

 

أمر، فـلم يدر ما بـه أمـرا

ياصاحـب المـنجـنيق مـافعلت

 

كفــاك؟ لم تُـبْقِـيا ولـم تـذرا

كان هواه سوى الذي أمرا

 

هيهات أن يغلب الهوى القدرا

فلما ضاق الأمر بالأمين في أرْزَاقِ الجند ضرب أنية الذهب والفضة سِراً، وأعطى رجاله، وتحيز إلى طاهر الحربيةُ وغيرها من الأرباض مما يلي باب الأنبَار، وباب حرب، وباب قطر بل، فصارت الحرب في وسط الجانب الغربي، وعملت المنجنيقات بين الفريقين، وكثر الحريق وَالهَدْم ببغداد وَالكَرْخ وغيره من الجانبين، حتى درست محاسنها، واشتد الأمر، وتنقل الناس من موضع إلى موضع، وعم الخوف، فقال الشاعر:

من ذا أصابَكِ يا بغداد بالعين

 

ألم تـكونـي زمانـاً قُـرة العـين؟

ألم يكن فـيك قوم كان قـربهـمُ

 

وَكان مـسـكنهـم زينـاً من الزين؟

صَاحَ الزمان بهـم بالبـين فـانقرضوا

 

ماذا لقيت بهـم مـن لـوعة الـبين؟

أسـتورع الـلّه قَوْماً ماذكرتـهـمُ

 

إلاتحـدَّرَمـاء الدمـع مـن عـينـي

كانوا ففـرقهـم دهروَصَـدعـهـم

 

والدهـريصـدع ما بـين الفـريقـين

ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين أربعةَ عَشَرَ شهراً، وضاقت بغداد بأهلها، وتعطلت المساجد، وتركت الصلاة، ونزل بها ما لم ينزل بها قط مثله، مذ بناها أبو جعفر المنصور، وقد كان لأهل بغداد في أيام حرب لمستعين والمعتز حرب نحو هذا من خروج العًيّارين إلى الحرب وقد أتخذوا خيلاً منهم وأمراء كالملقب بنينويه خالويه وغيرهم، يركب الواحد منهم على واحد من العَيَّارين ويسير إلى الحرب في خمسين ألف عُرَاة، ولم ينزل بأهل بغداد شر من هذا الحرب حرب المأمون والمخلوع، وقد استعظم أهل بغداد ما نزل بهم في هذا الوقت في سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة من خروج أبي إسحاق المتقي للّه عنهم، وما كان قبل هذا الوقت من البريديين، وابن رائق وتوزون التركي، وما دفعوا إليه من الوَحْشَة بخروج أبي محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد اللّه بن حمدان الملقب بناصر الدولة، وأخيه علي بن عبد اللهّ الملقب بسيف الدولة عليهم، لبعد العهد مما حلَّ بالمنازل بها، وطول السنين، وغيبة ذلك عنه وبُعْدِهم منه، وتقدم مثل أولئك العيارين الذين كانوا في ذلك العصر، واشتد الأمر بين المأمونية والعراة وغيرهم من أصحاب المخلوع، وَحُوصِر محمد في قصره من الجانب الغربي، فكان بينهم في بعض الأيام وقعة تَفانى فيها خلق كثير من الفريقين، فقال في ذلك حُسَيْن الخليع:  

لنا النصر بعون اللـه

 

والكَرَّة لا الـفـرَّهْ

وللـمـرَّاقِ أعـدائك

 

يَوْمُ السُّوء وَالـبـرهْ

وكأس تلفظ المـوت

 

كريه طعمها مـرهْ

سَقَوْنَا وسقـينـاهـم

 

ولكن لـهـم آخـرهْ

أمينَ اللِّه ثق بالـلَّـه

 

تُعْطَ الصبر وَالنُّصْرَهْ

كِل الأمر إلى الـلّـه

 

كَلاكَ اللَّه ذو القدْرِهْ

كذاك الحرب أحْيانـاً

 

علينا ولـنـا مَـرَهْ

وقعة دار الرقيق

وكانت وقعة آخرى عظيمة بشارع دار الرقيق هلك فيها خلق كثير، وكثر القتل في الطرق والشوارع، ينادي هذا بالمأمون والأخر بالمخلوع، ويقتل بعضهم بعضاً، وأنتهبت الدور، فكان الفوز لمن نجا بنفسه من رجل وامرأة بما يسلم معه إلى عسكر طاهر فيأمن على نفسه وماله، وفي ذلك يقول الشاعر:

بَكَتْ عيني عَلَى بغـداد لـمـا

 

فَقَدْت غضارة العـيش الأنـيق

تَبذَلنا همـومـاً مـن سـرور

 

ومن سَعَةِ تَبَدًلـنـا بـضـيق

أصابتنا من الـحُـسَّـادِ عَـين

 

فأفنت أهلها بالـمـنـجـنـيق

فقوم أحرقوا بالنـار قـصـرا

 

ونائحة تَنُـوح عَـلَـىغـريق

وصائحة تنادي: يا صـحـابـى

 

وقائلة تنـادي: يا شـقـيقـي

وَحَوْرَاء الـمـدامـع ذات دل

 

مُضَمًخَة المجاسد بالـخـلُـوق

تنادي بالشفـيق، فـلا شـفـيق

 

وقد فقد الشفيق مع الـرفـيق

وقوم أخرجوا مـن ظـل دنـيا

 

متاعهمُ يبـاع بـكـل سُـوق

ومغترب. بعيد الدار مـلْـقًـى

 

بلا رأس بقـارعة الـطـريق

توسَطَ من قتالهكـمُ جـمـيعـاَ

 

فما يَدرُونَ مـن أي الـفـريق

فلا ولـد يقـيم عَـلَـى أبـيه

 

وقد هرب الصديق عن الصديق

ومهما أنسَ من شـيء تَـوَلـى

 

فأنـي ذاكـر دار الـرقـيق

صرامة العراة

وسأل قائد من قوَاد خراسان طاهراً أن يجعل له الحرب في يومها له فيه، ففعل طاهر له ذلك، فخرج القائد وقد حقرهم، وقال: ما يبلغ من كيد هؤلاء، ولا سلاح معهم، مع ذوي البأس والنجدة والسلاح والعدَّة، فبصر به بعض العراة وقد راماه مدة طويلة حتى فنيت سهام القائد، وظن أن العريان فنيت حجارته، فرماه بحجر بقيت في المخلاة، وقد حمل عليه القائد، فما أخطأ عينه، وثناه بحجرآخر، فكاد يصرع القائد عن فرسه، ووقعت البيضة عن رأسه، فكَر راجعاً وهو يقول: ليس هؤلاء بناسٍ، هؤلاء شياطين، ففي ذلك يقول أبويعقوب الخريمي:

الكَرْخ أسواقُه مُعَـطَّـلَة

 

يستن عَيًارُهَا وعابـرهـا

خَرَّجَتِ الحربُ من أراذلهم

 

أسُود غِيل عَلَتْ قساورها

وقال علي الأعمى :

خَرًجَتْ هذه الـحُـرُوبُ رجـال

 

لا لقحـطـان، لا، ولا لـنـزار

معشر في جواشن الصوف يغـدو

 

ن إلى الحرب كالليوث الضوَارِي

ليس يدْرُونَ ما الـفـرار إذا مـا

 

الأبطال عاذوا من الفنا بالفـرَار

واحد منهمُ يشـدُ عـلـى الـذين

 

عرْيان مـا لـه مـــن إ زَار

ويقول الفتى إذا طعن الطـعـنة:

 

خُذْهَا من الـفـتـى الـعـيارِ

الوقائع الحاسمة

واشتَدّ القتال في كل يوم، وصبر الفريقان جميعاً، وصار حامية المخلوع وجنده العُرَاة أصحاب خُوَذ الخوص ودرق البواري، وضايق طاهر القوم، وأقبل يقتطع من بغداد الشارع بعد الشارع، ويصير في حيزه أهل تلك الناحية معاونين له في حربه، وأقبل الهدم يكثر فيما ليس من حيزه، ثم جعل يحفر الخنادق بينه وبين أصحاب المخلوع في مواضع الدور والمنازل والقصور، وأصحاب طاهر في قوة وإقبال، وأصحاب المخلوع في نقص وإدبار، وأصحاب طاهر يهدمون، وأصحاب المخلوع يأخذون بعض الدور من خشب وأثواب وغير ذلك، وينهبون المتاع، فقال رجل من المحمدية:

لنا كل يوم ثلمة لانسـدُّهَـا

 

يزيدون فيما يطلبون وننقص

 

إذا هَدَمُوا داراً أخذنا سُقُوفها

 

ونحن لأخرى مثلها نتربص

 

يثيرون بالطبل الـقـنـيص، وإن بـدا

 

لهم وَجْهُ صيدٍ من قريب تقـنَّـصـوا

وقـد أفـسـدوا شـرق الــبـــلاد

 

وغربها علينا فما ندْرِي إلى أين نشخص

إذا حَضَرُوا قالوا بـمـا يبـصـرونـه

 

وإن لم يروا شيئاً قبيحـاً تـخـرصـوا

وقد رخصت قراؤنا فـي قـتـالـهـم

 

وما قتل المقـتـول إلا الـمـرخـص

           

ولما نظرطاهر إلى صبر أصحاب المخلوع على هذه الحال الصعبة قطع عنهم مَوَادَّ الأقوات وغيرها من البصرة وواسط وغيرهما من الطرق، فكان الخبز في حد المأمونية عشرين رطلاً بدرهم، وفي حد المحمدية رطل بدرهم.، وضاقت النفوس وَأيسُوا من الفرج، واشتد الجوع، وسر من سار إلى حيز طاهر، وأسف من بقي مع المخلوع، وتقدم طاهر في سائر أصحابه من مواضع كثيرة، وقصد باب الكباش فأشتدَ القتال، وتبادرت الرؤوس، وعمل السيف والنار، وصبر الفريقان، وكان القتل أعم في أصحاب طاهر، وَفَني خلق من العراة أصحاب مخالى الحجارة والآجر وخوذ الخوص ودرق الحصر والبواري ورماح القصب وأعلام الخرق وبوقات القصب وقرون البقر، وكان ذلك في يوم الأحد، ففي ذلك يقول الأعمى:

وقـعة يَوْم الأحـد

 

كانت حَدِيثَ الأبـد

كم جَسَدٍ أبَصرتـه

 

مُلْقًى وكم من جَسَدِ

وناظر كانـت لـه

 

مَنية بـالـرصـد

أتاه سَـهْـمٌ عـائر

 

فَشَقَّ جوف الكبـدِ

وآخر ملـتـهـب

 

مثل التهاب الأسـد

وقائل: قد قتـلـوا

 

ألفـاً ولـمَّـا يَزِدِ

فقائل: أكثـر، بـل

 

مالهُمُ مـن عـدد

قلت لمطعون وفيه

 

طعـنة لـم تـئد؟

من أنت، ياويلـك يا

 

مسكين من محمـد

فقال: لامن نسـب

 

دَان، ولا من بلـد

ولاأنا للـغـي قـا

 

تَلْتُ ولا للـرَّشَـد

ولا لشيء عاجـل

 

يصيرمنه في يدي

ولما ضاق بمحمدٍ الحال واشتدَ به الحصار أمر قائداً من قواده يقال له ذريح أن يتبع أصحاب الأموال والودائع والذخائر من أهل الملة وغيرهم، وقَرَن معه آخر يعرف بالهرش، فكانا يهجمان على الناس، ويأخذان بالظنَة، فأجتبيا بذلك السبب أموالاً كثيرة، فهرب الناس بعلة الحج، وَفَر الأغنياء من ذريح والهرش ففي ذلك يقول علي الأعمي:

أظهروا الحج وما يَبْـغُـونَـه

 

بل من الهرش يريدون الهرب

كم أناس أصبحوا في غبـطة

 

رَكَضَ الليل عليهم بالعَطَـبْ

كل مَـنْ زار ذريح بـيتــه

 

لَقِيَ الذل ووافـاه الـحَـرث

في شعر له طويل.

ولما عَمَّ البلاد أهل الستر أجتمع التجار بالكرخ على مكاتبة طاهر أنهم ممنوعون منه ومن الخروج إليه، ومغلوبٌ عليهم وعلى أموالهم، وأن العُرَاة والباعة هم آلافة، فقال بعضهم: أنكم أن كاتبتم طاهراً لم تأمنوا صَوْلة المخلوع بذلك، فدعوهم فإن اللّه مهلكهم، وقال قائلهم:

دعوا أهل الطريق فعن قريب

 

تنالهمُ مخاليب الـهَـصُـورِ

فتهتك حُجْبَ أكـبـاد شـداد

 

وشيكا ما تصير إلى القبـور

فإن اللّه مهلكهم جـمـيعـاً

 

لأسباب التمرد والفـجـور

وثارت العُرَاة ذات يوم في نحو مائة ألف بالرِّماح والقصب والطرادات من القراطيس على رؤوسها، ونفخوا في بوقات القصب وقرون البقر، ونهضوا مع غيرهم من المحمدية، وزحفوا من مواضع كثيرة نحو المأمونية، فبعث إليهم طاهر بعدة قُوَّاد وأمراء من وجوه كثيرة، فأشتد الجلاد، وكثر القتل، وكانت للعُرَاة على المأمونية إلى الظهر، وكان يوم الأثنين، ثم ثارت المأمونية على العُرَاة من أصحاب محمد، فغرق منهم وقتل وأحرق نحو عشرة آلاف، وفي ذلك يقول الشاعر الأعمى:

بالأمير الطاهربن الحـسـين

 

صبحُونَا صبـيحة الأثـنـين

جمعوا جمعهم فثـار إلـيهـم

 

كل صُلْب القناة والساعـدين

يا قتيل العُرَاة مُلْقَى على الشط

 

تَطَاهُ الخيول في الجـانـيين

ما الذي كان في يديك إذا مـا

 

اصطلح الناس أية الخلـتـيْنِ

أوزير أم قـائد، بـل بـعـيد

 

أنت من ذين موضِعَ الفرْقَدَين

كم بَصِير غدا بعـينـين كـي

 

ينظر ما حالهم فراح بعـين

ليس يخطُونَ ما يريدون، ما إن

 

يقصدوا منهمُ سوى الناظرين

واشتد الأمر بمحمد المخلوع، فباع ما في خزائنه سراً، وفرق ذلك أرزاقاً فيمن معه، ولمِ يبق معه ما يعطيهم، وكثرت مطالبتُهم أياه، وضيق عليه طاهر، وكان نازلاً بباب الأنبار في بستان هنالك، فقال محمد: وورت أن اللّه قتل الفريقين جميعاًَ، فما منهم إلا عدو، مَنْ مَعِي، ومن عليُّ، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي، وقال:

تَفَرَّقـوا ودَعُـونـي

 

يا معشـرالأعـوان

فكلـكـم ذو وجـوه

 

كثـيرة الألــوان

وما أرى غيرإ فْـكٍ

 

وتُرهات الأمـانـي

ولست أملـك شـيئاً

 

فسألـوا إخـوانـي

فالويل فيما دهـانـي

 

أني من نازل البستان

يعني طاهربن الحسين.

ولما اشتدَّ الأمر عليه وجدّ به ونزل هرثمة بن أعين بالجانب الشرقي، وطاهر بالجانب الغربي، وبقي محمد في مدينة أبي جعفر، شاور من حضره من خواصه في النجاة بنفسه، فكل أدلى برأى، وأشار بوجه، فقال قائل منهم: تكاتب ابن الحسين وتحلف له بما يثق به أنك مفوض أمرك إليه، لعله أن يجيبك إلى ما تريد منه، فقال: ثكلتك أمك! لقد أخطأت الرأي في طلبي المشورة منك، أما رأيت ثار رجل لا يؤول إلى عذر. وهل كان المأمون لو اجتهد لنفسه وتولّى الأمر برأيه بالغاً عُشْرَ ما بلغه له طاهر. ولقد د سَسْت وفحصتُ عن رأيه، فما رأيته يطلب إلا تأثيل ر المكارم وبُعْدَ الصيت والوفاء، فكيف أطمع في استذلاله بالأموال وفي غدره والاعتماد في عقله؟ ولو قد أجاب إلى طاعتي وأنصرف إلي، ثم ناصَبَنِي جميعُ الترك والديلم ما اهتممت بمناصبتهم، ولكنت كما قال أبو الأسود الدؤلي في الأزد عند إجارتها زياد بن أبيه:

فلمّا رآهم يطـلـبـون وزيره

 

وساروا إلية بعد طول تَـمَـارِ

أتى الأزْدَ إذ خاف التي لا بَقَالها

 

عليه، وكان الـرأي رأي زياد

فقالوا له: أهلاً وسهلاً ومرحباً

 

أصَبْتَ فكاشِفْ من أرَدْتَ وعَادِ

فأصبح لا يخشى من الناس كلهم

 

عدواً، ولو ما لوا بقـوة عـاد

واللّه لوددت أنه أجابني إلى ذلك بأبحته خزائني، وفَوَّضْتُ إليه ملكي، ورضيت بالمعاش تحت يديه، ولا أظنني مُفْلِته، ولوكانت لي ألف نفس. فقال السندي: صدقت واللّه يا أمير المؤمنين، ولو أنك أبوه الحسين بن مصعب ما استبقاك، فقال محمد: وكيف لنا بالخلاص إلى هَرْثَمة ولات حين مناص؟ وراسلَ هرثمة، ومال إلى جنبته، فوعده هرثمة بكل ما أحب، وأنه يمنعه ممن يريد قتله، وبلغ ذلك طاهراً، فأشتد عليه وزاد غيظه وحنقه، ووعده هرثمة أن يأتيه في حَرَّاقة إلى مَشْرَعة باب خراسان فيصير به إلى عسكره هو ومن أحب، فلما همَّ محمد بالخروج في تلك الليلة- وهي ليلة الخميس، لخمس ليال بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة- دخل إليه الصعاليك من أصحابه، وهم فتيان الأبناء والجند، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ليس معك من ينصحك، ونحن سبعة آلاف رجل مقاتلة، وفي إصطبلك سبعة آلاف فرس يحمل كل منه على فرس وتفتح بعض أبواب المدينة، ونخرج في هذه الليلة، فما يُقْدِم علينا أحد إلى أن نصير إلى بلد الجزيرة وديار ربيعة، فَنجْبِي الأموال، ونجمع الرجال، ونتوسط الشام، وندخل مصر، ويكثر الجيوش والمال، وتعود الدولة مقبلة جديدة، فقال: هذا واللّه الرأي، فعزمِ على ذلك وهَمَّ. به وجَنَح إليه، وكان لطاهر في جوف دار الأمين غلمان وخدَم من خاصة الأمين يبعثون إليه بالأخبار ساعة فساعة، فخرج الخبر إلى طاهر من وقته، فخاف طاهر، وعلم أنه الرأي أن فعله، فبعث إلى سليمان بن أبي جعفر وإلى ابن نهيك والسندي بن شاهك- وكانوا مع الأمين- أن لم تزيلوه عن هذا الرأي لأخربَنَ دياركم وضياعكم ولأزيلًنّ نعمكم. ولأتلفنَّ نفوسكم، فدخلوا على الأمين في ليلتهم، فأزالوه عن ذلك الرأي، وأتاه هرثمة في الحرَّاقة إلى باب خراسان، ودعا الأمين بفرس يقال له الزهيري، أغر محجل أدهم محذوف، ودعا الأمين بابنيه موسى وعبد اللهّ فعانقهما وشمهما وبكى، وقال: اللّه خليفتي عليكما، فلست أدري أألتقي معكما بعدها أو لا،وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود وقُدامه شمعة، حتى أتى باب خراسان إلى المشْرَعة والحراقة قائمة فنزل ودخل الحراقة، فقبَّل هرثمة بين عينيه، وقد كان طاهر نمي إليه خروجه، فبعث بالرجال من الهرَوِية وغيرهم والملاحين في الزوارق على الشط، فدفعت الحراقة، ولم يكن مع هرثمة عدة من رجاله، فأتى أصحاب طاهر عُرَاة فغاصوا تحت الحراقة فأنقلبت بمن فيها، فلم يكن لهرثمة شاغل إلا أن نجا بِحُشَاشة نفسه، فتعلق بزورق وصعد إليه من الماء ومضى إلى عسكره من الجانب الشرقي، وشق محمد ثيابه عن نفسه وسَبَحَ فوقع نحو السراة إلى عسكر قرين الديراني غلام طاهر، فأخذه بعض السواس حين شم منه رائحة المسك والطيب، فأتى به قريناً فأستاذن فيه طاهراً، فأتاه الإذن في الطريق وقد حمل إلى طاهر، فقتل في الطريق وهو يصيح: إنا للّه وإنا إليه راجعون،أنا ابن عَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأخو المأمون، والسيوفُ تأخذه حتى بَرَدَ، وأخذوا رأسه، وكانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة. وذكر أحمد بن سلام- وقد كان مع الأمين في الحَراقة حين انقلبت- فسبح فقبض عليه بعض أصحاب طاهر وأرادا قتله، فأرغبه في عشرة آلاف درهم، وأنه يحملها إليه في صبيحة تلك الليلة، قال: فأدخلتُ بيتاً مظلماً فبَيْنَاأنا كذلك إذ دخل عَليَ رجل عُرْيان عليه سراويل وعمامة قد تلثم بها، وعلى كتفه خِرْقَة، فجعلوه معي، وتقدموا إلى مَنْ في الدارفي حفظنا، فلما استقر في الدار حَسَر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي، وجعل ينظر إلي ثم قال: أيهم أنت؟. قلت:أنا مولاك يا سيدي، قال: وأي الموالي أنت، قلت: أحمد بن سلام، قال: أعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرّقة، قلت: نعم، يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي، قال: أدنُ مني وَضُمَنِي إليك فأني أجد وَحْشَة شديدة، قال: فضممته إليَ، فإذا قلبه يخفق خفقاناً شديداً، ثم قال: أخْبِرْنِي عن أخي المأمون أحَي هو؟ قلت له: فهذا القتال عمن أذَن؟ قال: قبحهم اللّه، ذكروا أنه مات، قلت: قبح اللّه وزراءك! فهم أوردوك هذا الموْرِدَ، فقال لي: يا أحمد ليس هذا موضع عتاب، فلا تقل في وزرائي إلا خيراً فما لهم ذنب، ولست بأول مَنْ طلب أمراً فلم يقدر عليه، قلت: ألبس إزاري هذا وَارْم بهذه الخرقة التي عليك، فقال: يا أحمد مَنْ كان حاله مثل حالي فهذه له كثير، ثم قال لي: يا أحمد ما أشُكُّ أنهم سيحملونني إلى أخي أفَترَى أخي قاتلي؟ قلت: كلا، أن الرحم ستعطفه عليك، فقال لي: هيهات؟! الملك عقيم لا رحم له، فقلت له: أن أمان هرثمة أمان أخيك، قال فلقنته الأستغفار وذكر اللّه، فبينا نحن كذلك إذ فتح باب البيت فدخل علينا رجل عليه سلاح فاطلَع في وجه محمد مستثبتاً له، فلما أثبته معرفَةً خرج وأغلق الباب، وإذا هومحمد الطاهري، قال: فعلمت أن الرجل مقتول، وقد كان بقي عَلَيَّ من صرتي الوتر، فخفت أن أقتل ولم أوتر، فقمت لأوتر، فقال لي: يا أحمد لا تبعد منّي وَصَل بقربي، فأني أجد وَحْشَة شديدة، فدنوت منه، فقلً ما لبثنا حتى سمعنا حركة الخيل وَدقَّ باب الدار، ففتح الباب فإذا قوم من العجم بأيديهم السيوف مُصْلَتة، فلما أحَسَ بهم محمد قام قائماً وقال: إنا لله وأنا إليه راجعون، ذهبت واللّه نفسي في سبيل اللّه، أما من حيلة؟ أما من مُغِيث؟ وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضاً ة فأخذ محمد بيده وسادة وجعل يقول: أنا ابن عمّ رسول الله،أنا ابن هارون الرشيد،أنا أخو المأمون، الله الله في دمي، فدخل عليه رجل منهم مولى لطاهر فضربه بالسيف ضربة وقعت في مقدم رأسه، وضرب محمد وجهه بالوساة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذا السيف من يده، فصاح بالفارسية: قتلني الرجل، فدخل منهم جماعة فنَخَسَه أحدهم بسيفه في خاصرته، وَكَبُّوه فذبحوه من قَفاه، وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر.

وقد قيل في كيفية قتله غير هذا، وقد أتينا على التنازع في ذلك في الكتاب الأوسط.

وأتى بخادمه كوثر وكان حَظِيّه، معه الخاتم وَالبُرْدُ والسيف والقضيب، فلما أصبح طاهر أمر برأسه فنصب على باب من أبواب بغداد يعرف بباب الحديد نحو قُطْربلَ في الجانب الغربي، إلى الظهر، ودُفنت جثته في بعض تلك البساتين. ولما وضع رأس الأمين بين يدي طاهر قال: اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاءُ، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزمن تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، أنك على كل شيء قدير وَحُمِل الرأس إلى خراسان إلى المأمون في منديل والقطنُ عليه والأطْلِيَةُ، فاسترجع المأمون وبكى واشتد تأسفه عليه، فقال له الفضل بن سهل: الحمد لله يا أمير المؤمنين على هذه النعمة الجليلة، فإن محمداً كان يتمنى أن يراك بحيث رأيته، فأمر المأمون بنصب الرأس في صَحْنِ الدار على خشبة، وأعطى الجند، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس، فقبض بعض العجم عَطَاءه، فقيل له: العن هذا الرأس، فقال: لعن اللّه هذا ولعن والديه وما ولدا وأدخلهم في كذا وكذا من أمهاتهم، فقيل له: لعنت أمير المؤمنين، وذلك بحبث يسمعه المأمون منه فتبَسَّمَ وتغافل، وأمر بحَطِّ الرأس، وترك ذلك المخلوع، وطيب الرأس وجعله في سَفَطٍ، وردهُ إلى العراق فدفن مع جثته، ورحم اللّه أهل بغداد وخلصهم مما كانوا فيه من الحصار والجزع والقتل، ورثاه الشعراء، وقالت زبيمة أم جعفر والدته:

أودى بإلفك من لم يترك الناسـا

 

فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا

لًمّا رأيتُ المنايا قد قَصَدْنَ لـه

 

أصَبْنَ منه سواد القلب وَالراسا

فبتُ متكئاً أرْعَى النُّجُـومَ لَـه

 

إخَال سنته في الليل قِرْطَاسَـا

والموت دان له، وَالهَم قـارنـه

 

حتى سَقَاه التي أودت بها الكَاسَا

رزئته حين بَاهَيْتُ الرِّجَال بـه

 

وقد بنيت به للدهـرأسـاسـا

فليس مَنْ مات مَردوداً لنا أبـداً

 

حتى يَرُدَّ علينا قبـلـه نَـاسَـا

ورَثَتْهُ زوجته لُبَابة ابنة علي بن المهدي، ولم يكن دخل بها، فقالت:

أبكيك لا للنـعـم وَالأنـس

 

بل للمعالي والسيف والترس

أبكي على سيد فُجِعْـتُ بـه

 

أرْمَلَنِي قبل ليلة الـعـرس

يا مالكاً بالعَرَاءِ مُطَّـرَحـا

 

خانته أشْرَاطه مع الحرس

ولما قتل محمد دخل إلى زبيدة بعضُ خدمها، فقال لها: ما يجلسك وقد قتل أمير المؤمنين محمد،! فقالت: وَيْلَك!! وما أصنع؟ فقال: تخرجين فتطلبين بثأره كما خرجَتْ عائشة تطلب بدم عثمان، فقالت: أخسأ لا أم لك، ما للنساء وطلب الثِّأْر ومنازلة الأبطال؟ ثم أمرت بثيابها فسودت، ولبست مسحاً من شَعَرٍ، ودعت بدواة وقرطاس، وكتبت إلى المأمون:

لخير إمام قام من خـيرعُـنْـصُـر

 

وَأفضل رَاق فوق أعواد مـنـبـر

ووارث علم الأولـين وفـخـرهـم

 

وللملك المأمون من أم جـعـفـر

كَتَبْتُ وعيني تستهـلُّ دمـوعُـهَـا

 

إليك ابن عمي من جُفُوني ومحجري

أصِبْتُ بأدنى الناس مـنـك قـرابة

 

وَمَنْ زال عن كبدي فقَلَّ تَصبـرِي

أتى طاهر، لا طهَرَ الله طـاهـراً،

 

وما طاهر في فعله بـمُـطـهَـر

فأبرزني مكشوفة الوجـه حـاسـراً

 

وأنهبَ أمـوالـي وَآخـربَ أدؤري

يعزُّعَلَى هارون مـا قـد لَـقِـيتُـهُ

 

وما نالذي من ناقص الخلق أعـور

فإن كان ما أسْدَى لأمـر أمـرتـه

 

صبرتُ لأمـرمـن قـديرمـقـدَر

فلما قرأ المأمون شعرها بكى ثم قال: اللهم إني أقول كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه لما بلغه قتلُ عثمان: والله ما قتلت، ولا أمرت، ولا رضيت اللهم جلَلْ قلب طاهرحزنَاً! قال المسعودي: وللمخلوع أخبار وسير غير ما ذكرنا قد أتينا عليها في كتابينا في أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن ذكرها في هذا الكتاب، والله-سبحانه- ولي التوفيق.