ذكر خلافة المأمون

ذكر خلافة المأمون  

وبويع المأمونُ عبدُ اللّه بن هارُونَ الرشيد، وكُنْيته أبو جعفر، وأًمه باذغيسية، واسمها مراجل، وقيل: إن كُنْيته أبو العباس، وهو ابن ثمان وعشرين سنةً وشهرين، وتوفي بالبديدون على عين القشيرة، وهي عين يخرج منها النهر المعروف بالبديدون، وقيل: إن اسمها بالرومية أيضاً رقة، وحُمِلَ إلى طرسوس، فدفن بها على يسار المسجد، سنة ثمانيَ عَشَرَةَ ومائتين، وهو ابن تسع وأربعين سنةً، فكانت خلافته إحدى وعشرين سنة، منها أربعة عشر شهراً كان يحارب أخاه محمد بن زُبَيدَةَ على ما ذكرنا، وقيل: سنتان وخمسة أشهر، وكان أهل خُرَاسَان في تلك الحروب يُسَلَمُون عليه بالخلافة، وَيًدْعَى له على المنابر في الأمصار والحرمين والكور والسهل والجبل مما حَوَاه طاهر وَغَلَبَ عليه، وسلِّم على محمدٍ بالخلافة مَنْ كان ببغداد خاصة لا غيرها.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

المأمون والفضل بن سهل

وغلب على المأمون الفَضْلُ بن سهل، حتى ضايقه في جارية أراد شراءها، فقتله، وادعى قوم أن المأمون دَسَّ عليه من قتله، ثم سلّم عليه الوزراء بعد ذلك: منهم أحمد بن خالد الأحول، وعمرو بن مَسْعَدَة، وأبو عبادة، وكل هؤلاء سلّم عليهم برسم الوزارة.

ومات عمرو بن مَسْعَدَة سنة سبع عشرة ومائتين، فعرض لماله، ولم يعرض لمال وزير غيره.

وغلب على المأمون آخراً الفَضْلُ بن مروان، ومحمد بن يزداذ.

علي بن موسى الرضا

وفي خلافته قبض علي بن موسى الرضا مسموماً بِطُوس، ودُفن هنالك وهو يومئذ ابن تسع وأربعين سنةً وستة أشهر، وقيل غير ذلك.

المأمون وعمه إبراهيم

وهجا المأمونَ إبراهيمُ بن المهدي المعروف بابن شكلَة عَمُّه، وكان المأمون يظهر التشيع، وابن شِكْلَة التسنن، فقال المأمون:

إذا المُرْجِيُّ سَرَّكَ أن تراه

 

يَمُوتُ لحينه من قبل مَوْتهْ

فَجدد على ذِكْرى عَـلـيٍّ

 

وَصَلِّ عَلَى النبيِّ وآل بيته

فأجابه إبراهيم رَادّاً عليه:

إذا الشِّيعِيُّ جَمْجَمَ في مَقَالٍ

 

فَسَرَّكَ أن يبوح بذات نَفْسِهْ

فَصَلِّ عَلَى النبيِّ وَصَاحِبَيْهِ

 

وَزِيرَيْهِ وَجَارَيْهِ بِرَمْسِـهْ

ولِإبراهيم بن المهدي مع المأمون أخبار حسان، هي موجودة في كتاب الأخبار لِإبراهيم بن المهدي.

المأمون وأبو دلف

ودخل أبو دُلَف القاسمُ بن عيسى الْعِجْلِيُّ على المأمون، فقال له: يا قاسم، ما أحْسَنَ أبياتَكَ في صفة الحرب، ولذاذتَكَ بها، وزهدك في المغنيات! قال: يا أمير المؤمنين، أي أبيات هي؟ قال: قولك:

لِسَلِّ السيوف وشَقِّ الصفوف

 

ونَفْض التراب وضرب الْقُلَلْ

قال: ثم ماذا يا قاسم؟ قال:

ولبس العَجَاجة والخافقـات

 

تُريِكَ المنايا بروس الأسَـلْ

وقد كشفَتْ عن شَبَا نابـهـا

 

عروس المنية بين الشعَـلْ

وجاءت تَهَادىَ وأبـنـاؤهـا

 

كأنَّ عليهم شُرُوقَ الطفَـلْ

خَروس نَطُوق إذا استنطقت

 

جهول يطيش على من جهل

إذا خطبت أخذت مهـرهـا

 

رؤوسا تساقَطُ بين القُـلَـلْ

ألذ وأشهر من المسمـعـات

 

وشرب المدامة في يوم طَلّ

أنا ابن الحسام وتِرْبُ الصِّفَاح

 

ورَيْب المنون وقرب الأجل

ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه لذتي مِع أعدائك، وقوَتي مع أوليائك، ويدي معك، ولئن استلَذَّ مستلذ شيئاً من المعاقرة مِلْتُ إلى المصادمة والمحاربة، قال: يا قاسم، إذا كان هذا النمط من الأشعار شأنك واللذة لذتك فما ذا تركت للوسنان مما خلفت، وأظهرت له من قليل ما سترت؟ قال: يا أمير المؤمنين، وأي أشعاري؟ قال: حيث تقول:

أيها الرِاقد المؤرِّقُ عيني

 

نَمْ هنيئاً لك الرقاد اللذيذ

عَلِمَ اللَه أنَ قلبيَ مـمَّـا

 

قد جنت مُقْلَتَاكَ فيه وَقيذُ

قال: يا أمير المؤمنين، سهوة بعد سهرة غلبت، وذلك قسم متقدم، وهذا ظن متأخر، قال: يا قاسم، ما أحسن ما قال صاحبُ هذين البيتين:  

أذمُّ لـك الأيامَ فـي ذات بـينـنـــا

 

وما للَيَالي في الـذي بـينـنـا عُـذْرُ

إذا لم يكن بـين الـمـحـبـين زَوْرَة

 

سوى ذكر شيء قد مضى درَسَ الفكر

قال أبو دلف: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين!! هذا السيد الهاشمي والملك العباسي، قال: وكيف أدَتْكَ الفطنة، ولم تداخلك الظنَة، حتى تحقّقْتَ أني صاحبهما، ولم يداخلك الشك فيهما، قال: يا أمير المؤمنين، إنما الشعر بساط صوف، فعن خَلَط الشعر بنقيِّ الصوف ظهر رونقه عند التصنيف، ونار ضوءه عند التأليف.

من كلمات المأمون

وكان المأمون يقول: يغتفر كل شيء إلا القَدْح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.

وقال المأمون: أخرِ الحرب ما استطعت، فإن لم تجد منها بداً فاجعلها في آخر النهار.

وذكر أنه من كلام أنوشروان.

وكان المأمون يقول: أعْيَتِ الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يُدْبر، وإذا، أدبر أن يُقْبل.

ولما تأتى الملك للمأمون وخلص قال: هذا جسيم لولا أنه عديم، وهذا ملك لولا أنه بعده هُلْك، وهذا سرور لولا أنه غرور، وهذا يوم لو كان يوثق بما بعده.

وكان المأمون يقول: البشر مَنْظَرٌ مُونق، وخَلْقٌ مشرق، وزارع للقلوب، وحلٌّ مألوف، وفضل منتشر، وثناء بسيط، وتحَف للأحرار، وفَرْعٌ رحيب، وأول الحسنات، وذريعة إلى الجاه، وأحمد للشِّيَم، وباب لرضا العامة، ومفتاح لمحبة القلوب.

وكان المأمون يقول: سادة الناس في الدنيا الأسْخِياء، وفي الآخرة الأنبياء وإن الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة طعام على ميزاب البخل، لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان قميصاً ما لبسته.

وحضر المأمون إملاكاًً لبعض أهل بيته، فسأله بعض مَنْ حضر أن يخطب، فقال: الحمد للّه، الحمد اللّه، والصلاة على المصطفى رسول اللّه، وخَيْرُ ما عُمِلَ به كتابُ اللّه، قال اللّه تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقَرَاء يُغْنِهم اللّه مِن فضله، واللّه واسع عليم" ولو لم يكن في المناكحة آية محكمة ولا سنة مُتّبعة إلا ما جعل اللّه في ذلك من تأليف البعيد والقريب لَسَارَعَ إليه الموفَّقُ المصيب، وبادر إليه العاقل النجيب، وفلان مَنْ قد عرفتموه في نسب لم تجهلوه، خَطَب إليكم فتاتكم فلانة، وبذل لها من الصداق كذا وكذا، فشفّعوا شافعنا، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيراً تحمدوا عليه وتؤجَرُوا، أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم.

بين ثمامة ويحيى بن أكثم عند المأمون

وذكر ثُمَامَةُ بن أشْرَسَ قال: كنا يوماً عند المأمون، فدخل يحيى بن أكثم- وكان قد ثقل عليه موضعي منه- فتذاكرنا شيئاً من الفقه، فقال يحيى في مسألة دارت: هذا قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وجابر، قلت: أخطأوا كلهم، وأغفلوا وجه الدلالة، فاستعظم مني ذلك يحيى وأكبره، وقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يخطِّئ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلهم، فقال المأمون: سبحان اللّه!! أكذا يا ثُمَامة؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يبالي ما قاله ولا ما شَنَّع به، ثم أقبلت عليه فقلت: ألست تزعم أن الحق في واحد عند اللّه عزّ وجلّ. قال: نعم، قلت: فزعمت أن تسعة أخطأوا وأصاب العاشر، وقلت أنا: أخطأ العاشر، فما أنكرت. قال: فنظر المأمون إلي وتبسمَ، وقال: لم يعلم أبو محمد أنك تجيب هذا الجواب، قال يحيى: وكيف ذلك؟ قلت: ألست تقول: إن الحق في واحد. قال: بلى، قلت: فهل يخلِي اللّه عزّ وجلّ هذا الحق من قائل يقول به من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: أفليس من يخالفه ولم يقل به فقد أخطأ عندك الحق؟ قال: نعم، قلت: فقد دخلت فيما عِبْتَ، وقلت بما أنكرت وبه شنعت، وأنا أوضح دلالة منك، لأني خطأتهم في الظاهر، وكل مصيب عند اللّه الحق، وإنما خطأتهم عند الخلاف، وأدَّتْنِى الدلالة إلى قول بعضهم، فخطأت من خالفني، وأنت خطأت من خالفك في الظاهر وعند اللّه عزّ وجلّ.

وفد الكوفة والمأمون

وقدم وَفْدً الكوفة إلى بغداد، فوقفوا للمأمون، فأعْرَضَ عنهم، فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين، يدُكَ أحق يدٍ بتقبيل، لعلوها في المكارم، وبعدها من المآثم، وأنت يوسفي العفو في قلة التَّثرِيب، مَنْ أرادك بسوء جعله اللّه حَصِيدَ سيفك، وطريد خوفك، وذليل دولتك، فقال: يا عمرو، نِعْمَ الخطيب خطيبهم، اقْض حوائجهم فقضيت.

المأمون والزنادقة ومعهم طفيلي

وذكر ثُمَامة بن أشْرَسَ قال: بلغ المأمون خبر عشرة من الزنادقة ممن يذهب إلى قول مانِي، ويقول بالنور والظلمة، من أهل البصرة، فأمر بحملهم إليه بعد أن سُمُّوا واحداً واحداً، فلما جًمِعُوا نظر إليهم طُفَيْلي فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فدخل في وَسَطهم، ومضى معهم، وهو لا يعلم بشأنهم، حتى صار بهم الموكلون إلى السفينة، فقال الطفيلي: نزهة لا شك فيها، فدخل معهم السفينة، فما كان بأسرع من أن جيء بالقًيُود، فقيد القوم والطفيلي معهم، فقال الطفيلي: بلغ أمر تطفيلي إلى القيود، ثم أقبل على الشيوخ فقال: فَدَيْتكم أيش أنتم؟ قالوا: بل أيش أنت. ومن أنت من إخواننا؟ والله ما أثري غير أني واللّه رجل طفيلي خرجت في هذا اليوم من منزلي فلقيتكم فرأيت منظراً جميلاً وعَوَارِضَ حسنة وبزة ونعمة فقلت: شيوخ وكهول وشَبَابٌ جمعوا لوليمة، فدخلت في وسطكم، وحاذبت بعضكم كأني في جملة أحدكم، فصرتم إلى هذا الزورق، فرأيته قد فُرِش بهذا الفرش ومهد ورأيت سفراً مملوءة وجُرُباً وسلالاً، فقلت: نزهة يمضون إليها إلى بعض القصور والبساتين، إن هذا اليوم مبارك، فابتهجت سروراً، إذ جاء هذا الموكل بكم فقيدكم وقيدني معكم، فورد علي ما قد أزال عقلي، فأخبروني ما الخبر، فضحكوا منه وتبسموا وفرحوا به وسُرُّوا، ثم قالوا: الآن قد حصلت في الِإحصاء، وأوثقت في الحديد، وأما نحن فمانية غُمز بنا إلى المأمون، وسندخل إليه، ويسائلنا عن أحوالنا، ويستكشفنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة والرجوع عنه بامتحاننا بضروب من المحن: منها إظهار صورة ماني لنا، ويأمرنا أن نَتْفُلَ عليها، ونتبرأ منها، ويأمرنا بذبح طائر ماء، وهو الحُّرَّاج، فمن أجابه إلى ذلك نجا، ومن تخلف عنه قتل، فإذا دعيت وامتحنت فأخبر عن نفسك واعتقادك على حسب ما تؤدِّيك الدلالة إلى القول به، وأنت زعمت أنك طفيلي، والطفيلي يكون معه مدَاخلات وأخبار، فاقْطَعَ سَفَرَنا هذا إلى مدينة بغداد بشيء من الحديث وأيام الناس، فلما وصلوا إلى بغداد وأدخلوا على المأمون جعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلًا فيسأله عن مذهبه، فيخبره بالِإسلام، فيمتحنه ويدعوه إلى البراءة من ماني ويظهر له صورته، ويأمره أن يَتْفُلَ عليها والبراءة منها، وغير ذلك، فيأبون، فيمرهم على السيف، حتى بلغ إلى الطفيلي بعد فراغه من العشرة، وقد استوعبوا عدة القوم، فقال المأمون للموكلين: مَنْ هذا. قالوا: واللّه ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به، فقال له المأمون: ما خبرك؟ قال: يا أمير المؤمنين، امرأتي طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئاً، وإنما أنا رجل طفيلي، وقَصَ عليه خبره من أوله إلى آخره، فضحك المأمون، ثم أظهر له الصورة، فلعنها وتبرأ منها، وقال: أعطونيهَا حتى أسْلَحَ عليها، واللّه ما أدري ما ماني: أيهودياً كان أم مُسْلماً، فقال المأمون: يؤدَّبُ على فرط تطفله ومخاطرته بنفسه.

إبراهيم بن المهدي يتطفل

وكان إبراهيم بن المهدي قائماً بين يدي المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هَبْ لي ذنبه وأحدثك بحديث عجب في التطفيل عن نفسي، قال: قل يا إبراهيم. قال: يا أمير المؤمنين، خرجت يوماً فمرت في سِكَكِ بغداد متطرفاً، حتى انتهيت إلى موضع، فشممت رائحة أبازير من جناح في دار عالية، وقدور قد فاح قتارها، فتاقت نفسي إليها، فوقفت على خيّاط فقلت: لمن هذا الدار. فقال: لرجل من التجار من البزازين، قلت: ما اسمه. قال: فلان بن فلان، فرفعت طرفي إلى الجناح، فإذا فيه شباك، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك وَمِعْصَم ما رأيت أحْسَنَ منهما قط، فشغلني يا أمير المؤمنين حُسْنُ الكف والمعصم عن رائحة القدور، فبقيت باهتاً وقد ذُهِلَ عقلي، ثم قلت للخياط: هو ممن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، ولا ينادم إلا تجاراً مثله مستورين فأنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الحرب، فقال لي الخياط: هذان منادماه، قلت: ما أسماهما. وما كُنَاهُمَا؟ فقال: فلان وفلان، فحركت دابتِي حتى دخلت بينهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأ كما أبو فلان أعَزَّه اللّه، وسايرتهما حتى انتهينا إلى الباب، فَقَدَّمَانِي، فدخلت وَدَخَلا، فلما رآني صاحبُ المنزل لم يَشُك إلا أني منهما بسبيل، فرحَّبَ وأجلسني في أجَلَ موضع، فجيء يا أمير المؤمنين بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم، ثم رفع الطعام فغسلنا أيدينا، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنْبَلُ مجلس وَأجَلُ فرش، وجعل صاحب المجلس يلطف بي ويقبل عليَّ بالحديث، والرجلان لا يشكان أنه مني بسبيل، وإنما كان ذلك الفعل منه بي لمَا ظَنَّ أني منهما بسبيل، حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية تتثنى كأنها غُصْنُ بَانٍ، فسلّمت غير خَجِلَة، وهيئت لها وسادة، وأتي بعُودٍ فوضع في حجرها، فجسًتْهُ فتبينت الحذق في جسها، ثم اندفعت تغني:

توهَّمها طَرْفِي فـآلَـمَ خَـدَّهـا

 

فصار مكان الوهم من نظري أثْرُ

وَصافحها كَفِّي فـآلـم كـفـهـا

 

فمن لَمْس كفي في أناملها عقـرُ

ومَرَّتْ بقلبي خاطراً فجرحتـهـا

 

ولم أر شيئاً قَط يَجْرحُه الفكـر

فهيجت واللّه يا أمير المؤمنين عليّ بلابلي، وطربت لحسن غنائها وحذقها، ثم اندفعت تغني:

أشَرْتُ إليها: هل علمـت مـودتـي

 

فردَّتْ بطرف العين: إني على العهد

فحدث عن الإِظهار عمداً لسـرهـا

 

وحادت عن الإِظهار أيضاً على عمد

فصحت: السلامة، وجاءني من الطرب ما لا أملك معه النفس ولا المصبر، واندفعت تغني:

أليس عجيباً أن بيتاً يضـمـنـي

 

وإياك لا نخلو ولا نـتـكـلَّـمُ

سوى أعْيُنٍ تشكو الهوى بجفونها

 

وترجيع أحشاء على النار تضرم

إشارة أفواه وغَمْـزً حـواجـب

 

وتكسير أجفان وكـفّ يسـلّـم

فحسدتها واللّه يا أمير المؤمنين على حِذْقها، ومعرفتها بالغناء، وإصابتها معنى الشعر، وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأته، فقلت: بقي عليك يا جارية شيء، فغضبت وضربت بعودها الأرض، ثم قالت: متى كنتم تُحْضِرُون مجالسكم البُغَضَاء؟ فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم قد تغيروا إليَّ، فقلت: أليس ثَمَّ عُودٌ؟ قالوا: بلى يا سيدنا، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ما أردت، واندفعت أغني:

ما للمنازل لا يُجِبْنَ حزينـا؟

 

أصممن أم بَعُدَ المَدَى فبلينا؟

رَاحُوا العشيَّةَ روحة مذكورة

 

إن متن متن، وإن حيين حيينا

فما استتممته جيداً حتى خرجت الجارية فأكَبَّتْ على رجلي تقبلها، وهي تقول: المعذرة واللهّ لك يا سيدي، فما سمعت مَنْ يغني هذا الصوت مثلك، وقام مولاها وكل من كان عنده فصنعوا كصنعها، وطرب القوم، واستحثوا الشرب فشربوا بالطاسة ثم اندفعت أغني:

أبا للّه هل تُمْسِينَ لا تذكـرينـنـي

 

وقد سَجمَتْ عيناي من ذكرك الدَمَا

إلى اللّه أشكو بُخْلَهَا وسَمَاحـتـي

 

لها عسل مني وتبذل عـلـقـمـا

فردِّي مصَاب القلب أنت قتلـتـه

 

ولا تتركيه ذاهل العقل مغـرمـا

إلى اللّه أشكو أنـهـا أجـنـبـية

 

وأنِّي لها بالود ما عشت مكرمـا

فجاء من طرب القوم يا أمير المؤمنين ما خشيت أن يخرجوا من عقولهم، فأمسكت ساعة، حتى إذا هدأ القوم اندفعت أغني الثالثة:

هذا محبك مَطْوِيٌّ على كـمـده

 

صَبٌّ مدامعُه تجري على جَسدهْ

له يَدٌ تسأل الرحْمـنَ راحـتـه

 

مما به ويَدٌ أخرى على كـبـده

يا من رأى كَلِفاً مستهتراً أسفـاً

 

كانت منيته فـي عـينِـهِ ويده

فجعلت الجارية يا أمير المؤمنين تصيح: السلامة، هذا واللّه الغناء يا مولاي، وسكر القوم، وخرجوا من عقولهم، وكان صاحب المنزل جيد الشراب ونديماه عونه، فأمر غلمانه مع غلمانهم بحفظهم وصرفهم إلى منازلهم، وخلوت معه فشربنا أقداحاً، ثم قال: يا سيدي، ذهب واللّه ما خَلَا من أيامي باطلاً، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولاي. فلم يزل يلح عليّ حتى أخبرته فقام فقبل رأسي، وقال: يا سيدي، وإني أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وإذا أنا منذ اليوم مع الخلافة ولا أعلم، وسألني عن قصتي وكيف حَمَلْتُ نفسي على ما فعلته، فأخبرته خبر الطعام والكف والمعصم، فقال: يا فلانة، لجارية له، قولي لفلانة تنزل، فجعل ينزل إليَّ جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفها وأقول: ليست هي، حتى قال: واللّه ما بقي غير أمي وأختي، ولأنزلِنَّهُما إليك، فعجبت من كرمه وسَعَةِ صدره، فقلت له: جعلت فداك، أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون صاحبتي، فقال: صدقت، ففعل، فلما رأيت كفَهَا ومعصمها قلت: هي هي، جعلت فداك، فأمر غلمانه من فَوْرِه فصاروا إلى عشرة مشايخ من جِلّةِ جيرانهم فأحضروا، وجيء ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثم قال: هذه أختي فلانة، وأنا أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلتُ النكاح، ودفعت إليها البدرة الواحدة، وفرقت الأخرى على المشايخ، وقلت لهم: اعذروا فهذا الذي حضرني في هذا الوقت، فقبضوها وانصرفوا، ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت تنام مع أهلك، فأحْشَمَنِي واللّه يا أمير المؤمنين ما رأيت من كرمه وسعة صدره، فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي، فقال: افعل ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاق عنه بعض دوري.

فتعجب المأمون من كرم ذلك الرجل، وأطلق الطفيلي، وأجازه بجائزة حسنة وأمر إبراهيمَ بإحضار ذلك الرجل، فصار بعدُ من خواص المأمون وأهل مودته، ولم يزل معه على أفضل الأحوال السارة في المنادمة وغيرها.

إسحاق الموصلي وكلثوم العتابي عند المأمون

وذكر المبرد وثعلب قالا: كان كلثوم العَتَابي واقفاً بباب المأمون، فجاء يحيى بن أكثم، فقال له العتَّابي: إنْ رأيت أن تعلم أمير المؤمنين بمكاني، قال: لست بحاجب، قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل مِعْوَانٌ، قال: سلكت بي غير طريق، قال: إن اللّه قد ألحقك بجاه ونعمة منه، فهما مقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، وبالتقتير إن كفرت، وأنا لك اليوم خَيْرٌ منك لنفسك، أدعوك لما فيه زيادة نعمتك وأنت تأبى ذلك، ولكل شيء زكاة، وزكاة الجاه بَذْلُه للمستعين، فدخل يحيى فأخبر المأمون الخبر، فأدخل إليه العتابي، وفي المجلس إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأمره بالجلوس، وأقبل يسأله عن أحواله وشأنه، فيجيبه بلسان ناطق، فاستظرفه المأمون، وأخذ في مُدَاعبته، فظن الشيخ أنه قد استخَص به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإِيناس قبل الإِبساس، فاشتبه عليه قولُه، فنظر إلى إسحاق فغمزه بعينه ثم قال: ألف دينار، فأتى بها فوضعت بين يدي العَتَّابي، ثم دعا إلى المفاوضة، وأغْرَى المأمونُ إسحاقَ بالعبث به، فأقبل إسحاق يعارضه في كل باب يذكره ويزيد عليه، فعجب منه، وهو لا يعلم أنه إسحاق، ثم قال: أيأذن أمير المؤمنين في مسألة هذا الرجل عن اسمه ونسبه. فقال: افعل، فقال له العتابي: من أنت. وما اسمك. قال: أنا من الناس واسمي كل بصل! فقال له العتابي: أما النسبة فقد عرفت، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقَلّ إنصافَكَ، وما كلثوم؟ والبصل أطيب من الثوم، قال العتابي: قاتلك اللّه! ما أمْلَحَكَ!! ما رأيت كالرجل حلاوة، أفيأذن أمير المؤمنين في صِلَته بما وصلني به فقد واللّه غلبني، فقال له المأمون: بل ذلك مُرَفّر عليك ونأمر له بمثله، فانصرف إسحاق إلى منزله، ونادمه بقية يومه.

العتابي

وكان العتابي من أرض جند قنسرين والعواصم، وسكن الرقة من ديار مُضَرَ، وكان من العلم والقراءة والأدب والمعرفة والترسل وحسن النظم للكلام وكثرة الحفظ وحسن الإِشارة وفصاحة اللسان وبراعة البيان وملوكية المجالسة وبراعة المكاتبة وحلاوة المخاطبة وجَوْدَة الحفظ وصحة القريحة على ما لم يكن كثير من الناس في عصره.


وذكر أنه قال: كاتبُ الرجل لسانُه، وحاجبه وَجْهُه، وجليسه كله، ونظم في ذلك شعراً، فقال:

لسان الْفَتَى كاتبـه

 

وَوَجْهُ الفتى حاجبه

وَنَدْمَـانـه كـلُّـه

 

وكل له واجـبـه

وذكر عنه أنه قال: إذا وليت عملاً فانظر مَنْ كاتبك، فإنما يعرف مقدارك مَنْ بعد عنك بكاتبك، واستعقل حاجبك، فإنما يقضي عليك الوفود قبل الوصول إليك بحاجبك، واستكرم واستظرف جليسك ونديمك، فإنما يُوزَنُ الرجل بمن معه.

بين كاتب ونديم

وقد فاخر كاتب نديماً فقال الكاتب: أنا معونة وأنت مؤونة، وأنا للجد وأنت للهزل، وأنا للشدة وأنت للذة، وأنا للحرب وأنت للسلم، فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للنقمة، وأنا للحُظْوَة وأنت للمهنة، وتقوم وأجلس، وتحتشم وأنا مؤنس، تدأب لحاجتي، وتَشْقَى بما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت معين، وأنا قرين وأنت تابع، وإنما سميت نديماً للنَّدَم على مفارقتي.

وللعتابي أخبار حسان، وتصنيفات مِلَاحٌ، في ذكرها خروجٌ عما إليه قصدنا، ونحوه يَمَّمنا، وإنما ذكرنا عنه هذه الفصول لتغلغل الكلام بنا إليها وتشعبه نحوها.

رجل يرفع قصة للمأمون

وحكى الجوهري عن العتبي، عن عباس الديري، قال: رفع رجل قصة إلى المأمون، وسأله أن يأذن له في الدخول عليه، والاستماع منه، فأذن له، فدخل فسلّم، فقال له المأمون: تكلم بحاجتك، قال: أخبر أمير المؤمنين أن مصائب الدهر وأعاجيب الأيام ومحن الزمان قصدتني فأخذت مني ما كانت الدنيا أعطتني، فلم تبق لي ضيعة إلا خربت ولا نهر إلا اندقر، ولا منزل إلا تهدَّمَ، ولا مال إلا ذهب، وقد أصبحْتُ لا أملك سَبَداً ولا لَبَداً، وعليً دَيْن كثير، ولي عيال وأطفال وصبية صغار، وأنا شيخ كبير، قد قَعَدَت بي المطالب، وكبرت عني المكاسب، وبي حاجة إلى نظر أمير المؤمنين وعطفه، قال: فبينما هو في الكلام إذ ضرَطَ، فقال: وهذا يا أمير المؤمنين من عجائب الدهر ومحنته، ولا واللّه ما ظهر مني قط إلا في موضعه، فقال المأمون لجلسائه: ما رأيت قط أقوى قلباً ولا أرْبَطَ جأشاً ولا أشَدَّ نفساً من هذا الرجل، ثم أمر له بخمسين ألف درهم مُعَجًلة.

المأمون وأبو العتاهية

قال أبو العتاهية: وَجَّه إليَّ المأمون يوماً فصِرْتُ إليه، فألفيته مُطْرِقاً متفكراً مغموماً، فأحجمت عن الدنو إليه وهو على تلك الحال، فرفع رأسه وأشار بيده: أن ادْنُ، فدنوت، فأطْرَقَ ملياً ثم رفع رأسه فقال: يا إسماعيل، شأن النفس الملَلُ، وحُبًّ الاستطراف، والأنس بالوحدة، كما نأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت شعر، قال: وما هو؟ قلت:

لا يُصْلح النَّفْسَ إذ كان مُصَرّفة

 

إلا التنقُّلُ من حال إلى حـال

قال: أحسنت زدني، فقلت: لا أقدر على ذلك، وآنسته بقية يومه، وأمر لي بمال، فانصرِفت.

المأمون ورجل عامي

ويحكى أن المأمون أمر بعض خواصِّهِ من خَدَمِه أن يخرج فلا يرى أحداً في الطريق إلا أتى به كائناً مَنْ كان من رفيع أو خسيس، فأتاه برجل من العامة، فدخل وعنده المعتصم أخوه ويحيى بن أكثم ومحمد بن عمرو الرومي، وقد طبخ كل واحد منهم قِدْراً، فقال محمد بن إبراهيم الطاهري للرجل العامي: هؤلاء من خواص أمير المؤمنين فأجبهم عما يسألون، فقال المأمون: إلى أين خرجت في هذا الوقت وقد بقي عليك من الليل ثلاث ساعاتٍ؟ فقال: غرني القمر، وسمعت تكبيراً فلم أشك أنه أذان، فقال له المأمون: اجلس، فجلس، فقال له المأمون: قد طبخ كل واحد منا قِدْراً هو ذا يقدِّمُ إليك من كل واحد منها قَدْراً فذق ذلك فأخبر عن فضائلها وما ترى من طيبها، فقال: هاتوا، فقدمت في طبق كبير كلها موضوعة عليه لا تمييز بينها، ولكل واحدة ممن طبخها علامة، فبدأ فذاق قِدْراً طبخها المأمون فقال: زه، وأكل منها ثلاث لقمات، وقال: أما هذه فكأنها مسكة وطباخها حكيم نظيف ظريف مليح، ثم ذاق قدر المعتصم، فقال: هذه واللّه فكأنها والأولى من يد واحدة خرجَتَا، وبحكمة متساوية طبختا، ثم ذاق قدر محمد بن عمرو الرومي فقال: وهذه قِدْرُ طباخٍ ابن طباخ أجاد، ما أحكمه، ثم ذاق قدر يحيى بن أكثم القاضي فأعرض بوجهه، وقال: شه، هذه واللّه جعل طباخها فيها مكان بصلها خرا، فضحك القوم وذهب بهم الضحك كلَّ مَذْهَب، وقعد يحادثهم ويطايبهم ويتلهَّى معهم، وطابوا معه، فلما برق الفجر قال له المأمون: لا يخرجَنَّ منك ما كنا فيه، وعلم أنه علم بهم، فوَصَله بأربعة آلاف دينار، وقَسَّط له على أصحاب القدور كل واحد منهم على قدر مرتبته، وقال: إياك أن تعود إلى الخروج في مثل هذا الوقت مرةَ أخرى، فقال: لا أعدمكم الله الطبيخ ولا أعدمني الخروج، فسألوه عن تجارته، وعرفوا منزله، وجعل يعدُّ في خدمة المأمون وخمدة الجميع، وصار في جملتهم. 

عيّ المأمون عن جواب ثلاثة

 وحدث أبو عباد الكاتب- وكان خاصّاً بالمأمون قال: قال لي المأمون: ما أعياني إلا جواب ثلاثة أنفس: صرت إلى أم ذي الرياستين أعزيها عنه فقلت: لا تأسَيْ عليه ولا تَحْزَنِي لفقده، فإن اللّه قد أخْلَفَ عليك مني ولداً يقوم لك مقامه، فمهما كنت تنبسطين إليه فيه فلا تنقبضين عني منه، فبكت، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحزن على ولد أكسبني ولداً مثلك. وأتيت برجل قد تنبأ فقلت له: مَنْ أنت؟ قال: موسى بن عمران عليه السلام، فقلت: ويحك!! إن موسى بن عمران عليه السلام كانت له آياتٌ ودلالاتٌ بَانَ بها أمره، منها أنه ألقى عصاه فابتعلت كَيْدَ السَّحَرة، ومنها إخراجه يَدَه من جيبه وهي بيضاء، وجعلت أعدد عليه ما أتى به موسى بن عمران عليه السلام من دلائل النبوة، وقلت له: لو أتيتني بشيء واحدٍ من علاماته أو آية من آياته كنت أول من آمن بك، وإلا قتلتك، فقال: صدقت، إلا أني أتيت بهذه العلامات لما قال فرعون أنا ربكم الأعلى، فإن قلت أنت كذلك أتيتك من العلامات بمثل ما أتيته به، والثالثة أن أهل الكوفة اجتمعوا يَشْكُونَ عاملاً كنت أحمد مذهبه وأرتضي سيرته، فوجَّهت إليهم إني أعلم سيرة الرجل، وأنا عازم على القعود لكم في غداة غَدٍ، فاختاروا رجلاً يتولى المناظرة عنكم، فأنا أعلم بكثرة كلامكم، فقالوا: ما فينا من نرتضيه لمناظرة أمير المؤمنين، إلا رجل أطروش، فإن صبر أمير المؤمنين عليه تفضل بذلك، فوعدتهم الصبر عليه، وحضروا من الغد، فأمرت بالرجال فدخلوا والأطروش، فلما مثل بين يديَّ أمرتهم بالجلوس، ثم قلت له: ما تشكون من عاملكم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو شر عامل في الأرض، أما في أول سنة ولينا فإنا بعنا أثاثاتنا وعَقَارنَا، وفي السنة الثانية بعنا ضياعنا وذخائرنا، وفي السنة الثالثة خرجنا عن بلدنا فاستغثنا بأمير المؤمنين ليرحم شكوانا ويطَوَّلَ علينا بالأمر بصَرْفِه عنا، فقلت له: كذبت لا أمان لك، بل هو رجل أحمدْتُ سيرتَهُ ومذهبه، وارتضيت دينه وطريقته، واخترته لكمِ لمعرفتي بكثرة سخطكم على عمالكم، قال: يا أمير المؤمنين، صدقْت وكذبْت أنا! ولكن هذا العامل الذي ارتضيت دينه وأمانته وعفته وعدله وانصافه، كيف خصصتنا به هذه السنين دون البلاد التي قد ألزمك اللّه عز وجل من العناية بأمورها مثل ما ألزمك من العناية بأمرنا؟ فاستعمله على هذه البلاد حتى يشملهم من إنصافة وعدله مثل الذي شملنا، فقلت له: قم في غير حفظ الله، فقد عزلته عنكم.

مناظرة المأمون للفقهاء

وكان يحيى بن أكثم يقول: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء، فإذا حضر الفقهاء ومَنْ يناظره من سائر أهل المقالات أُدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا أخفافكم، ثم أحضرت الموائد، وقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشراب وجَددوا الوضوء، ومن خُفّه ضيق فلينزعه، ومن ثقلت عليه قَلَنْسوته فليضعها، فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فبخروا وطيبوا، ثم خرجوا فاستدناهم حتى يدنوا منه، ويناظرهم أحسن مناظرة، وأنْصَفَهَا وأبعدَهَا من مناظرة المتجبرين، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس، ثم تُنْصَبُ الموائد الثانية فيطعمون وينصرفون، قال: فإنه يوماً لَجَالِسٌ إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثياب بيض غلاظ مشمرة، ويطلب الدخول للمناظرة، فقلت: إنه بعض الصوفية، فأردت بأن أشير أن لا يؤذن له، فبدأ المأمون فقال: ائذن له، فدخل رجل عليه ثيابٌ قد شمرها ونعله في يده، فوقف على طرف البساط فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال المأمون: وعليك السلام، فقال: أتأذن لي في الدنو منك. قال: ادْن، فدنا، ثم قال: اجلِسْ، فجلس، ثم قال: أتأذن في كلامك. فقال: تكلم بما تعلم أن للّه فيه رِضاً، قال: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت قد جلسته أباجتماع من المسلمين عليك، ورضاً منك، أم بالمغالبة لهم والقوة عليهم بسلطانك؟ قال: لم أجلسه باجتماع منهم ولا بمغالبة لهم، إنما كان يتولَّى أمر المسلمين سلطان قبلي أحْمَدَه المسلمون إما على رضا وإما على كره، فعقد لي ولآخر معي ولاية هذا الأمر بعده في أعناق مَنْ حضرهُ من المسلمين، فأخذ على من حضر بيتَ الله الحرام من الحاجِّ البَيْعَةَ لي ولآخر معي فأعطوه ذلك إما طائعين وإما كارهين، فمضى الذي عقد له معي على هذه السبيل التي مضى عليها، فلما صار الأمر إليَّ علمت أني أحتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على الرضا، ثم نظرت فرأيت أني متى تخلّيْتُ عن المسلمين اضطرب حبل الإِسلام ومرج عهدهم، وانتقضت أطرافه، وغلب الهرج والفتنة، ووقع التنازع، فتعطلَتْ أحكام اللّه سبحانه وتعالى، ولم يحجَّ أحد بيته، ولم يجاهد في سبيله، ولم يكن لهم سلطان يجمعهم ويَسُوسهم، وانقطعت السبل، ولم يؤخذ لمظلوم من ظالم، فقمت بهذا الأمر حياطة للمسلمين، ومجاهداً لعدوهم، وضابطاً لسبلهم، وآخذاً على أيديهم إلى أن يجتمع المسلمون على رجل تتفق كلمتهم على الرضا به فأسلِّم الأمر إليه، وأكون كرجل من المسلمين، وأنت أيها الرجل رسولي إلى جماعة المسلمين، فمتى اجتمعوا على رجل ورَضُوا به خرجت إليه من هذا الأمر، فقال: السلام عليكم ورحمة اللهّ وبركاته، وقام، فأمر المأمون علي بن صالح الحاجب بأن ينفذ في طلبه مَنْ يعرف مقصده، ففعل ذلك، ثم رجع وقال: وَجَّهت يا أمير المؤمنين من اتبع الرجل فمضى إلى مسجد فيه خمسة عشر رجلاً في هيئته وزيه فقالوا له: لقيت الرجل. فقال: نعم! قالوا: فما قال لك. قال: ما قال لي إلا خيراً، ذكر أنه ضَبَطَ أمور المسلمين إلى أن تأمن سُبُلُهم، ويقوم بالحج والجهاد في سبيل اللّه، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ولا يعطل الأحكام، فإذا رضي المسلمون برجل سلّم الأمر إليه وخرج منه، وقالوا: ما نرى بهذا بأساً، وافترقوا، فأقبل المأمون على يحيى، فقال: كفينا مؤونة هؤلاء بأيسر الخطب، فقلت: الحمد للّه الذي ألهمك يا أمير المؤمنين الصواب والسداد في القول والفعل.

يحيى بن أكثم قاضي البصرة

قال المسعودي: وكان يحيى بن أكثم وقد ولي قضاء البصرة قبل تأكد الحال بينه وبين المأمون، فرفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه، فقال المأمون: لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم، قالوا: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر، واستفاض ذلك عنه، وهو القائل يا أمير المؤمنين في صفة الغِلْمَان وطبقاتهم ومراتبهم في أوصافهم قوله المشهور فقال المأمون: وما الذي قال. فدفعت إليه القصة فيها جُمَلٌ مما رمى به وحكى عنه في هذا المعنى، وهو قوله:

أربعة تَفْتِنُ ألحاظـهـم

 

فعين من يَعْشَقهم ساهره

فواحد ذنياه في وجـهـه

 

منافق ليست له آخـره

وآخر دنياه مـفـتـوحة

 

من خَلْفِهِ آخره وافـره

وثالث قد حاز كلتيهـمـا

 

قد جمع الدنيا مع الآخره

ورابع قد ضاع ما بينهـم

 

ليست له دنيا ولا آخـره

فأنكر المأمون ذلك في الوقت واستعظمه، وقال: أيكم سمع هذا منه؟ قالوا: هذا مستفاض من قوله فينا يا أمير المؤمنين، فأمر بإخراجهم عنه، وعَزَلَ يحيى عنهم.

وفي يحيى وما كان عليه بالبصرة يقول ابن أبي نعيم:

يا ليت يحيى لم يلده أكْثَـمُـهْ

 

ولم تطأْ أرضَ العراق قَدَمُهْ

ألْوَط قاضٍ في العراق نَعْلَمه

 

أي دواة لم يلفها قـلـمـه

وأي شِعْبٍ لم يَلِجْهُ أرقمـه

 

 

وضرب الدهر ضرباته فاتصل يحيى بالمأمون ونادمه، ورخَّصَ له في أمور كثيرة، فقال له يوماً: يا أبا محمد، من الذي يقول:

قاضٍ يري الحدَّ في الزناء، ولا

 

يرى على من يلوط من بـأس

 

قال: ذلك ابن أبي نعيم يا أمير المؤمنين، وهو القائل:

أمِيرُنَا يرتـشـي وحـاكـمـنـا

 

يلوط والـرأس شـر مـا راس

قاضٍ يرى الحدَّ في الـزنـاء ولا

 

يرى على من يلوط مـن بـاس

ما أحسب الجور ينقضي وعلى ال

 

أمة وَالٍ مـن آل عـبـــاس

فأطرق المأمون خجلاً ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يُنْفَى ابن أبي نعيم إلى السند.

وكان يحيى إذا ركب مع المأمون في سفر ركب معه بمنطقة وقَبَاء وسيف بمعاليق وساسية، وإذا كان الشتاء ركب في أقْبِيَةِ الخز وقلانس السمُّور والسروج المكشوفة، وبلغ من إذاعته ومجاهرته باللواط أن المأمون أمره أن يفرض بنفسه فرضاً يركبون بركوبه ويتصرفون في أُموره، ففرض أربعمائة غلام مُرْداً اختارهم حسان الوجوه، فافتضح بهم، وقال في ذلك راشد بن إسحاق يذكر ما كان من أمر يحيى في الفرض:

خليليَّ انظرا متـعـجِـبَـيْنِ

 

لأظرف منظر مَقَلَتْهُ عَيْنِـي

لفرض ليس يقبـل فـيه إلا

 

أسيل الخدّ ِحلوُ المُقْـلَـتـين

وإلا كلّ أشقَـر أكْـثَـمِـيٍّ

 

قليلُ نبات شعرِ العارِضَـيْن

يُقَدَّم دونَ موقفِ صَاحِـبـيه

 

بقدر جمالِهِ وبـقـبـح ذين

يقودُهُمُ إلى الهيجـاءِ قـاض

 

شديد الطعن بالرمح الرُّدَيْنِي

إذا شهد الوَغى منهم شجـاعُ

 

تجدَّل للجـبـين ولـلـيدين

يقودهم على عِلْـمٍ وحِـلْـمٍ

 

ليوم سـلامة لا يوم حَــيْنِ

وصار الشـيخ مـنـحـنـياً

 

عليه بمدمجه يجوزُ الركبتين

يغادرهم إلى الأذهان صَرْعى

 

وكلهم جريحُ الخـصـيتـين

وفيه يقول راشد أيضاً:

وكنا نرجِّي أن نرى العدل ظاهراً

 

فأعقبنا بعد الـرجـاء قُـنُـوطُ

متى تَصْلُح الدنيا ويصلح أهْلُهَـا

 

وقاضي قضاة المسلمين يلـوط

وكان يحيى بن أكثم بن عمرو بن أبي رباح من أهل خراسان من مدينة مَرْوَ، وكان رجلاً من بني تميم، وسخط عليه المأمون في سنة خمس عشرة ومائتين وذلك بمصر، وبعث به إلى العراق مغضوبَاً عليه، وكان قد كتب الحديث وتفقّه للبصريين كعثمان البَتَيِّ وغيره وله مصنفات في الفقه وفي فروعه وأصوله، وكتاب أفرده سماه بكتاب التنبيه يردُّ فيه على العراقيين وبينه وبين أبي سليمان أحمد بن أبي عُوَاد بن علي مناظرات كثيرة.

وفاة الِإمام الشافعي

وفي خلافة المأمون كانت وفاة أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف الشافعي، في رجب ليلة الجمعة، وذلك سنة أربع ومائتين، ودفن صبيحة الليلة، وِهو ابن أربع وخمسين سنة، وصلى عليه السري بن الحكم أميرُ مصر يومئذَ، كذلك ذكر عكرمة بن محمد بن بشر عن الربيع بن سليمان المؤذن، وذكر أيضاً محمد بن سفيان بن سعيد المؤذن وغيرهما عن الربيع بن سليمان مثل ذلك، ودفن الشافعي بمصر بحومة قبور الشهداء في مقبرة بني عبد الحكم، وبين قبورهم وعند رأسه عمود من الحجر كبير، وكذلك عند رجليه، وعلى العالي الذي عند رأسه حفر قد كتب فيه في ذلك الحجر هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي أمين الله وما ذكرنا فمشهور بمصر، والشافعي يتفق نسبه مع بني هاشم وبني أمية في عبد مناف، لأنه من ولد المطلب بن عبد مناف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن وبنو المطلب كهاتين" وأشار بإصبعيه مضمومتين، وقد كانت قريش حاصَرَتْ بني المطلب مع بني هاشم في الشِّعْبِ.
وحدثني فقير بن مسكين عن المزني بهذا، وكان فقير يحدث عن المزني، وكان سماعنا من فقير بن مسكين بمدينة أسوان بصعيد مصر، قال: قال المزني: دخلت على الشافعي غداة وفاته، فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عبد اللّه. قال: أصبحت من الدنيا رَاحِلاً، ولإخواني مفارقاً، وبكأس المنية شارباً، ولا أدري إلى الجنة تصير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيها، وأنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي

 

جَعَلْتُ الرجا مني لعفوك سُلّما

تَعَاظَمَنِي ذنبي فلما قـرنـتـه

 

بعفوك ربي كان عفوك أعظما

وفاة أبي داود الطيالسي وابن الكلبي

وفي هذه السنة التي مات فيها الشافعي- وهي سنة أربع ومائتين- مات أبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، وفيها مات هشام بن محمد بن السائب الكلبي.

وادَّعى رجل النبوة بالبصرة أيام المأمون، فحمل إليه مُوثَقاً بالحديد، فمثل بين يديه، فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فأنا مُوثَقٌ، قال: ويلك! مَنْ غرك. قال: أبهذا تُخَاطَبُ الأنبياء؟ أما واللّه لولا أني مُوثَقٌ لأمرت جبريل أن يُدمْدِمها عليكم؛ قال له المأمون: والموثَقَ لا تجَاب له دعوة. قال: الأنبياء خاصة إذا قُيدَتْ لا يرتفع دعاؤها، فضحك المأمون، وقال: من قيدك. قال: هذا الذي بين يديك، قال: فنحن نطلقك وتأمر جبريل أن يدمدمها، فإن أطاعك آمنَا بك وصدقناك، فقال: صدق اللّه إذ يقول: "فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم". إن شئت فافعل، فأمر بإطلاقه، فلما وجد راحة العافية قال: يا جبريل، ومَدَّ بها صوته، ابعثوا من شئتم فليس بيني وبينكم الآن عمل، غيري يملك الأموال وأنا لا شيء معي، ما يذهب لكم في حاجة إلا كشخان فأمر بإطلاقه والإِحسان إليه.

المأمون ورجل يدعي أنه إبراهيم الخليل

وحدث ثُمَامة بن أشرس قال: شهدت مجلساً للمأمون وقد أتى برجل ادعى أنه إبراهيم الخليل، فقال له المأمون: ما سمعت بأجرأ على اللّه من هذا قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في كلامه، قال: شأنك وإياه، قلت: يا هذا إن إبراهيم عليه السلام كانت له براهين، قال: وما براهينه؟ قلت: أضْرِمَتْ له النار وألقي فيها فكانت برداً وسلاماً، فنحن نُضْرِمُ لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك بَرْداً وسلاماً كما كانت عليه آمَنَّا بك وصدقناك، قال: هات ما هو ألْيَنُ عليّ من هذا، قلت: فبراهين موسى عليه السلام، قال: وما هي؟ قلت: ألْقَى العصا فإذا هي حية تسعى تَلْقَفُ، ما يأفكون، وضرب بها البحر فانفلق، وبياض يده من غير سوء، قال: هذا أصعب، ولكن هات ما هو ألين عليّ من هذا قلت: فبراهين عيسى عليه السلام، قال: وما براهينه؟ قلت: إحياء الموتى، فقطع الكلام في براهين عيسى وقال: جِئْتَ بالطامَّةِ الكبرى، دعني من براهين هذا، قلت: فلا بد من براهين، قال: ما معي من هذا شيء، وقد قلت لجبريل إنكم توجهونَنِي إلى شياطين فأعطوني حجة أذهب بها وإلا لم أذهب، فغضب جبريل عليه السلام عليّ، وقال: جئت بالشر من ساعة، اذهب أولاً فانظر ما يقول لك القوم، فضحك المأمون وقال: هذا من الأنبياء التي تصلح للمنادمة.

وفي سنة ثمان وتسعين ومائة خَلَعَ المأمون أخاه القاسم بن الرشيد من ولاية العهد.

خروج أبي السرايا وابن طباطبا وقوم من العلويين

وفي سنة تسع وتسعين ومائة خرج أبو السَّرَايَا السري بن منصور الشيباني بالعراق، واشتدَّ أمره، ومعه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو ابن طَبَاطَبا، ووثب بالمدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن على رحمهم اللّه، ووثب بالبصرة علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن على بن الحسن بن علي عليهم السلام، وزيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، فغلبوا على البصرة.

وفي هذه السنة مات ابن طباطبا الذي كان يدعو إليه أبو السَّرَايَا، وأقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي.

وظهر في هذه السنة باليمن- وهي سنة تسع وتسعين ومائة- إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي، وظهر في أيام المأمون بمكة ونواحي الحجاز محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رحمهم اللّه، وذلك في سنة مائتين، ودعا لنفسه، وإليه دعت السبطية من فرق الشيعة وقالت بإمامته، وقد افترقوا فرقاً: فمنهم مَنْ غَلاَ، ومنهم من قصر، وسلك طريق الإمامية، وقد ذكرنا في كتاب المقالات في أصول الديانات وفي كتاب أخبار الزمان من الأًمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الداترة، في الفن الثلاثين من أخبار خلفاء بني العباس ومن ظهر في أيامهم من الطالبيين، وقيل: إن محمد بن جعفر هذا دعا في بْدء أمره وعنفوان شبابه إلى محمد بن إبراهيم بن طَبَاطَبَا صاحب أبي السرايا، فلما مات ابن طَبَاطَبَا- وهو محمد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن- دعا لنفسه، وتَسَمَّى بأمير المؤمنين، وليس في آل محمد ممن ظهر لِإقامة الحق ممن سلف وخَلَفَ قبله وبعده مَنْ تَسَمَّى بأمير المؤمنين غير محمد بن جعفر هذا، وكان يسمى بالديباجة، لحسنه وبهائه، وما كان عليه من البهاء والكمال، وكان له بمكة ونواحيها قصص حمل فيها إلى المأمون بخراسان، والمأمون يومئِذٍ بِمَرْو، فأمنه المأمون، وحمله معه إلى جرجان فلما صار المأمون مات محمد بن جعفر، فدفن بها، وقد أتينا على كيفية وفاته وما كان من أمره وغيره مم آل أبي طالب ومقاتلهم ببقاع الأرض في كتابنا حدائق الأذهان في أخبار آل أبي طالب ومقاتلهم في بقاع الأرض.

ظهور ابن الأفطس

وظهر في أيام المأمون أيضاً بالمدينة الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي، وهو المعروف بابن الأفْطَس، وقيل: إنه دعا في بدء أمره إلى ابن طَبَاطَبَا، فلما مات ابن طَبَاِطَبَا دعا إلى نفسه والقول بإمامته وسار إلى مكة فأتى الناس وهم بِمِنَى، وعلى الحاج داود بن عيسى بن موسى الهاشمي، فهرب داود، ومضى الناس إلى عرفة، ودفعوا إلى مُزْدَلفة بغير إنسان عليهم من ولد العباس، وقد كان ابن الأفْطَس وَافى الموقف بالليل، ثم صِار إلى المزدلفة والناس بغير إمام، فصلى بالناس، ثم مضى إلى منَى، فنحَرَ ودخل مكة، وجَرَّد البيت مما عليه من الكسوة إلا القَبَاطي البيض فقط.

الظفر بأبي السرايا

وفي سنة مائتين ظفر حماد المعروف بالكندغوش بأبي السرايا، فأتى به الحسن بن سهل، فقتله وصلبه على الجسر ببغداد، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على خبر أبي السرايا وخروجه وما كان منه في خروجه وقتله عبدوس بن محمد بن أبي خالد ومن كان معه من قواد الأبناء واستباحته عسكره.

قال المسعودي: وفي سنة مائتين بعث المأمون برَجَاء بن أبي الضحاك وياسر الخادم إلى علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي الرضا لإِشخاصه، فحمل إليه مكرماً، وفيها أمر المأمون بإحصاء ولد العباس من رجالهم ونسائهم وصغيرهم وكبيرهم، فكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً.

المأمون وعلي بن موسى الرضا

ووصل إلى المأمونُ أبو الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بمدينة مَرْوَ، فأنزله المأمون أحسنَ إنزال، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس، وولد علي رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحداً أفْضَلَ ولا أحَقَّ بالأمر من علي بن موسى الرضا، فبايَعَ له بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وزوّج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته أم الفضل، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام وأظهر بدلاً من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك ونمي ذلك إلى مَنْ بالعراق من ولد العباس، فأعْظَمُوهُ إذ علموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، وَحَجَّ بالناس إبراهيم بن موسى بن جعفر أخو الرضا بأمر المأمون، واجتمع مَنْ بمدينة السلام من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم على خلع المأمون ومبايعة إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شِكْلَةَ، فبويع له يوم الخميس لخمس ليالٍ خَلَوْنَ من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وقيل: إن ذلك في سنة ثلاث ومائتين.

مقتل الفضل بن سهل

وفي سنة اثنتين ومائتين قتل الفضل بن سهل ذو الرياستين في حمامٍ غِيلَةً، وذلك بمدينة سرخس من بلاد خُرَاسان، وذلك في دار المأمون في مسيره إلى العراق فاستعظم المأمون ذلك وقتل قَتَلَتَه، وسار المأمون إلى العراق.

موت علي بن موسى الرضا

وَقُبِضَ عليُّ بن موسى الرضا بطوس لعنب أكله وأكثر منه، وقيل: إنه كان مسموماً، وذلك في صفر سنة ثلاث ومائتين، وصلى عليه المأمون، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وقيل: سبع وأربعين سنة وستة أشهر. وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، وكان المأمون زَوَّجَ ابنته أم حبيبة لعلي بن موسى الرضا، فكانت إحدى الأختين تحت محمد بن علي بن موسى، والأخرى تحت أبيه علي بن موسى. 

إبراهيم بن المهدي يخرج على المأمون

واضطربت بغداد في أيام إبراهيم بن المهدي، وثارت الرويبضة، وسموا أنفسهم المطوعة، وهم رؤساء العامة والتوابع، ولما قرب المأمون من مدينة السلام صلى إبراهيم بن المهدي بالناس في يوم النحر، واختفى في يوم الثاني من النحر، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، فخلعه أهْلُ بغداد، وكان دخوله المأمون بغداد سنة أربع ومائتين، ولباسه الخضرة، ثم غير ذلك، وعاد إلى لباس السواد، وذلك حين قدم طاهر بن الحسين من الرقة إليه.

خروج بابك الخرمي

وفي سنة أربع ومائتين كان القحط العظيم ببلاد المشرق والوباء بخراسان وغيرها، وفيها كان خروج بابك الخَرّمِيِّ ببلاد البدين في أصحاب جاويذان بن شهرك، وقد قَدَمنا ذكرنا بلاد بابك، وهي البدين من أرض أذربيجان والران والبيلقان فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لجبل القبخ والباب والأبواب ونهر الراس وجريانه نحو بلاد البدين.

الظفر بإبراهيم

وَبَثَّ المأمون عيونه في طلب إبراهيم بن المهدي، وقد علم باختفائه فيها، فظفر به ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خَلَتْ من شهر ربيع الآخر سنة سبع ومائتين في زيّ امرأة، ومعه امرأتان، أخذه حارس بن أسود في الدرب المعروف بالطويل ببغداد، فأدخل إلى المأمون فقال: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين، وليُّ الثأر مُحَكَّم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الزمان واستولى عليه الاغترار بما مدَ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك اللّه فوق كل ذي عفو، كما جعل كل في ذنب دوني، فإن تُعَاقِبْ فبحقك، وإن تَعْفُ فبفضلك، قال: بل العفو يا إبراهيم، فكَبَّرَ ثم خَرَّ ساجداً، فأمر المأمون فصيرت المقنعة التي كانت عليه على صدره ليرى الناس الحال التي أخذ عليها، ثم أمر به فصير في دار الحرس أياماً ينظر الناسُ إليه، ثم حول إلى أحمد بن أبي خالد، ثم رضي عنه من بعد أن كان وكَلَ به، فقال إبراهيم في ذلك من كلمة له:

إن الذي قَسَمَ المكارم حَازَهَـا

 

من صُلْبِ آدم للإمام السابـع

جمع القلوبَ عليك جامعُ أهلها

 

وَحَوَى ودادك كل خير جامـع

فبذلتَ أعظم ما يقوم بحمـلـه

 

وُسْعُ النفوس من الفعال البارع

وَعَفَوْتَ عَمَّنْ لم يكن عن مثله

 

عفو ولم يشفع إليك بشـافـع

زواج المأمون ببوران بنصَ الحسن بن سهل

وانحدر المأمون إلى فم الصلح في شعبان سنة تسع ومائتين، وأمْلَكَ بخديجة ابنة الحسن بن سهل التي تسمى بوران، ونثر الحسن في ذلك الِإملاك من الأموال ما لم ينثره ولم يفعله ملك قط في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه نثر على لهاشميين وَالقُوَّاد والكُتَّاب والوُجُوه بَنَادقَ مسكٍ فيها رِقَاعٌ بأسماء ضِيَاعٍ وأسماء جَوَارٍ وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقية إذا وقعت في يد الرجل فتحها، فقرأ ما فيها فيجد على قدر إقباله وسعوده فيها، فيمضي إلى الوكيل الذي نصب لذلك، فيقول له: ضيعة يقال لها فلانة الفلانية من طَسُّوج كذا من رُسْتَاق كذا، وجارية يقال لها فلانة الفلانية، ودابة صفتها كذا، ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم وَنَوافِجَ المسك وبَيْضَ العنبر، وأنفق على المأمون وَقُوَّاده وعلى جميع أصحابه ومن كان معه من جنوده أيام مقامه عنده حتى المكارين والحمالين والملاحين وكل من ضمه العسكر من تابع ومتبوع مرتزق وغيره، فلم يكن أحد من الناس يشتري شيئاً في عسكر المأمون مما يطعم ولا مما تعتلفه البهائم، فلما أراد المأمون أن يصعد في دجلة منصرفاً إلى مدينة السلام قال للحسن: حَوَائِجَكَ يا أبا محمد، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أسألك أن تحفظ عَلَي مكاني من قلبك، فإنه لا يتهيأ لي حفظه إلا بك، فأمر المأمون بحمل خراج فارس وكور الأهواز إليه سنة، فقالت في ذلك الشعراء فأكثرت، وأطنبت الخطباء في ذلك وتكلمت، فمما استظرف مما قيل في ذلك من الشعر قولُ محمد بن حازم الباهلي:

بارك اللّه للحَـسَـنْ

 

وَلبُورَانَ في الْخَتَـنْ

يا ابن هارون قد ظَفِرْ

 

تَ ولكن ببنت مـن

فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: واللهّ ما ندري خيراً أراد أم شَرّاً.

أهل المأمون يحملونه على قتل إبراهيم بن المهدي

ودخل إبراهيم بن المهدي يوماً على المأمون بعد مدة من الظفر به، فقال: إن هذين يحملانِنِي على قتلك- يعني المعتصم أخاهُ والعباس بن المأمون- فقال: ما أشارا عليك إلا بما يُشَار به على مثلك، ولكن تَدَعُ ما تخاف لما نرجو، وأنشد:

ردَدْتَ مالي ولم تَبْخَلْ عَلَيَّ بـه

 

وقبل رَدِّكَ مالي قد حَقَنْتَ دمي

فبؤت منها وما كافيتـهـا بِـيَدٍ

 

هما الحياتان من موت ومن عدم

البر وَطّأ منك العذر عندك لـي

 

فيما أتيت ولم تعذل ولـم تـلـم

وقام عُذْرُكَ بي فاحْتَجَّ عندك لِي

 

مقام شاهد عدل غير مُـتَّـهَـم

ولإِبراهيم أخبار حسان، وأشعار ملاح، وما كان من أمره في حاك اختفائه في سويقة غالب ببغداد، وتنقله من موضع إلى موضع بها، وخبره في الليلة التي قبض عليه فيها، قد أتينا على جميعها فيما سمينا من كتبنا التي كتابُنَا هذا تَالٍ لها ومنبه عليها.

وقد صَنَّف يوسف بن إبراهيم الكاتب صاحب إبراهيم بن المهدي كتباً منها كتابه في أخبار المتطببين مع الملوك في المأكل والمشارب والملابس، وغير ذلك، وكتابه المعروف بكتاب إبراهيم بن المهدي في أنواع الأخبار، وغير ذلك من كتبه.

من أخبار إبراهيم بن المهدي

 ومن أحسن ما اختير من أخبار إبراهيم في حال تنقله واختفائه ببغداد خبره مع المزين، وهو أن المأمون لما دخل بغداد على ما ذكرنا فيما سلف من هذا الباب من بَثِّهِ العيون طالباً لإِبراهيم بن المهدي، وجعل لمن دَلَّ عليه جُعْلاً خطيراً من المال، قال إبراهيم: فخرجت في يوم صائف في وقت الظهر لا أدري أين أتَوَجَّهُ، فصرت إلى زُقَاق ولا مَنْفَذَ له، فرأيت أسْوَدَ على باب دارٍ، فصرت إليه وقلت له: أعندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار؟ فقال: نعم، وفتح بابه، فدخلت إلى بيت فيه حصير نظيف ووسادة جلد نظيفة، ثم تركني وأغلق الباب في وجهي وَمَضَى، فتوهمته قد سمع الجعالة فِيَّ، وأنه خرج ليدل عَلَيَ، فبينما أنا كذلك إذ أقبل ومعه طبق عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم، وقدر جديد وآلتها، وَجَرَة نظيفة، وكيزان نظاف، كل ذلك جديد، وقال لي: جعلني اللهّ فداك، إني حَجَّام، وإني أعلم أنك تَتَقَذّر ما أتَوَلاّهُ، فشأنك بما لم تقع عليه يدي، وكانت بي حاجة شديدة إلى الطعام، فقمت فطبخت لنفسي قدراً ما أذكر أني أكلت أطيَبَ منها، ثم قال لي بعد ذلك: هل لك في النبيذ؟ فقلت: ما أكره ذلك، ففعل مثل فعله في الطعام، وأتاني بكل شيء نظيف لم يَمَسَّ شيئاً منه بيده، ثم قال لي بعد ذلك: أتأذن لي جعلني اللّه فداك أن أقعد ناحية منك، فأتي بنبيذ فأشرب منه سروراً بك؟ قال: فقلت: أفْعَلْ ذلك، فلما شرب ثلاثاً دخل خزانة له وأخرج منها عُوداً وقال: يا سدي، وليس من قدْرِي أن أسألك أن تغني، ولكن قد وجبت عليك حرمتي، فإن رأيت أن نشرف عبدك بأن تغنيه، قال: فقلت: وكيف توهمت عَلَيَّ أني أحسن الغناء. فقال متعجباً: يا سبحان اللّه!! أنت أشهر من أن لا أعرفك، أنت إبراهيم بن المهدي الذي جعل المأمون لمن دَلَّ عليك مائة ألف درهم، قال: فلما قال لي ذلك تناولْت. العود، فلما هممت بالغناء قال: يا سيدي أتجعل ما تغنيه ما أقترحه عليك؟ قلت: هات، فاقترح ثلاثة أصوات أتَقَدَّمُ فيها كلَّ مَنْ غَنَّى، قلت: هَبْكَ عرفتني، هذه الأصوات من أين لك بمعرفتها؟ قال: أنا أخدم إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكثيراً ما كنت أسمعه يذكر المحسنين وما يُجِيدُونَة، ولم أتوهم أني أسمع ذلك منك في منزلي، فغنيته، وأنست به، واستظرفته. فلما كان الليلُ خرجت من عنده، وقد كنت حملت معي خريطة فيها دنانير، فقلت له: خذها فاصرفها في بعض مُؤْنتك، ولك عندنا مزيد إن شاء اللّه تعالى. فقال: ما أعجب هذا!! واللّه عزمت على أن أعرض عليك جملة ما عندي، وأسألك أن تتفضل بقبولها، ثم أجللتك عن ذلك، وامتنع من قبول شيء، ومضى حتى دَلّنِي على الموضع الذي احتجت إليه، وانصرف، وكان آخر العهد به.

يزيد بن هارون

وفي سنة ست ومائتين- وذلك في خلافة المأمون- مات يزيد بن هارون بن زادان الواسطي، وله تسع وثمانون سنة، وكان مولده سنة سبعَ عشرَةَ ومائةٍ وهو مولى لبني سُلَيم، وكان أبوه يخدم في مطبخ زياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد ومصعب بن الزبير والحجاج بن يوسف، ويزيد هذا عند أهل الحديث من عِلْيتهم، وعظيم من عظمائهم، وكانت وفاته بواسط العراق.

موت جماعة من أهل العلم

وفيها مات جرير بن خًزَيمة بن حازم، وشيبة بن سَوَّار المدني، والحجاج بن محمد الأعور الفقيه، وعبد اللّه بن نافع الصائغ المدني مولًى لبني مخزوم، ووهب بن جرير، ومؤمل بن إسماعيل، وروح بن عبادة، وفيها مات الهيثم بن عديٍّ وكان يغمز عليه نسبه، وفيه يقول القائل:

إذا نَسَبْتَ عَدِيّاً في بني ثُـعَـل

 

فقدِّم الدال قبل العين في النسب

قصة وفاء وإيثار

وفي سنة تسع ومائتين مات الواقدي، وهو محمد بن عمرو بن واقد مولًى لبني هاشم، وهو صاحب السير والمغازي، وقد ضعف في الحديث، وذكر ابن أبي الأزهر قال: حدثني أبو سهل الرازي، عمن حدثه، عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضَيْقة شديدة، وحضر العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قَطعوا قلبي رحمة لهم؛ لأنهم يَرَوْنَ صبيان الجيران قد تَزَئنُوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثّةِ، فلوا احْتَلْتَ بشيء تصرفه في كسوتهم، قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليَ لما حضر، فوجه إليّ كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى كتب إليَّ الصديقُ الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصْدُقْنِي عما فعلته فيما وجهت إليك، فعرفته الخبر على جهته، فقال: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثْتُ به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجه بكيسي بخاتمي، قال: فتواسينا الألف ثلاثاً بعد أن أخرجنا إلى المرأة قبل ذلك مائة درهم، ونمي الخبر إلى المأمون، فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار: لكل واحد ألفا دينارٍ، وللمرأة ألف دينار، وقُبِضَ الواقدي وهو ابن سبع وسبعين سنة.

وفيها كانت وفاة يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ببغداد، وصلى عليه المأمون، وقد أتينا على خبره فيما سلف من كتبنا.

بين أزهر وأبي جعفر المنصور

وفيها مات أزْهَرُ السمان، وكان صديقاً لأبي جعفر المنصور في أيام بني أمية وكانا قد سافرا جميعاً وسمعا الحديث، وكان المنصور يألفه، ويأنس إليه، ويكبر عنده، فلما أفْضَتِ الخلافة إليه أشْخَصَ إليه من البصرة، فسأله المنصور عن زوجته وبناته، وكان يعرفهنَّ بأسمائهم، وأظهر بره وإكرامه، ووَصَله بأربعة آلاف درهم، وأمره أن لا يقدم إليه مستمحاً، فلما كان بعد حَوْلٍ صار إليه، فقال له: ألم آمرك أن لا تسير إليّ مستميحاً، فقال له: ما صرت إليك إلا مسلماً ومجدداً بك عهداً، قال: ما أرى الأمر كما ذكرت، فأمر له بأربعة آلاف درهم، وأمره أن لا يصير إليه مسلماً ولا مستميحاً، فلما كان بعد سنة صار إليه، فقال: إني لم أقدم عليك للأمرين اللذين نهيتني عنهما، وإنما بلغني أن علة عرضت لأمير المؤمنين فأتيته عائداً، فقال: ما أظنك أتيت إلا مستوصلاً، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما كان بعد الحول ألح عليه بناتُه وزوجتُه، وقلن له: أمير المؤمنين صديقُكَ فارجِع إليه، فقال: ويحكن!! ماذا أقول له وقد قلت له أتيتك مستميحاً ومسلماَ وعائداً؟ ماذا أقول في هذه المرة؟ وبم أحتجُّ؟ فأبوا على الشيخ إلا الِإلحاح، فخرج فأتى المنصور وقال: لم آتك مسترفداً، ولا زائراً، ولا عائداً، وإنما جئت لسماع حديث كنا سمعناه جميعاً في بلد كذا من فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم و فيه اسم من أسماء اللهّ تعالى مَنْ سأل اللّه به لم يرده ولم يخيب دعوته، فقال له المنصور: لا تُرِده فإني قد جَرَّبْته فليس هو بمستجاب، وذلك أني مذ جئتني أسأل اللّه به أن لا يردَّك إلي، وها أنت ترجع لا تنفك من قولك مسلماً أو عائداً أو زائراً؟ ووصله بأربعة آلاف درهم، وقال له: قد أعيتني فيك الحيلة فصر إني متى شئت

مقتل ابن عائشة

وفي سنة تسع ومائتين ركب المأمون إلى المطبق بالليل حتى قتل ابن عائشة، وهو رجل من ولد العباس بن عبد المطلب، واسمه إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الِإمام أخي أبي العباس والمنصور، وقتل معه محمد بن إبراهيم الإفريقي وغيره، وابن عائشة هذا أول عباسي صُلِبَ في الإِسلام، وتمثل المأمون حين قتله بقول الشاعر:

إذا النار في أحجارها مُسْتَكِنَّة

 

متى ما يُهِجْهَا قادح تتضرم

وكان رجل من ولد العباس بن علي بن أبي طالب فو مال وثروة وعز ومنعة وفهم وبلاغة، وهو العباس العلوي، بمدينة السلام، وكان المعتصم يَشْنؤه لحالٍ كانت بينهما، فمكن في نفس المأمون أنه شانئ له ولدولته، ماقِتٌ لأيامه، فلما كان في تلك الليلة لحق العباس بالمأمون على الجسر فقال له المأمون: ما زلت تنتظرها حتى وقعت، فقال: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين، ولكني ذكرت قول اللّه عزّ وجلّ "ما كان لأهل المدينة ومَنْ حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، ولا يركبوا بأنفسهم عن نفسه" هذه فحسن موقع ذلك منه، ولم يزل يسايره حتى بلغ المطبق، فلما قتل ابن عائشة قال: يأذن أمير المؤمنين في الكلام. قال: تكلم، قال: اللّه اللّه في الدماء، فإن الملك إذا ضَرِيَ بها لم يصبر عنها، ولم يُبْقِ على أحد، قال: لو سمعت هذا الكلام منك قبل أن أركب ما ركبت ولا سفكت دماً، وأمر له بثلاثمائة ألف درهم.

وقد أتينا على خبر ابن عائشة هذا، وما أراد من الإِيقاع بالمأمون، وما كان من أمره في كتابنا شي أخبار الزمان.

موت أبي عبيدة معمر بن المثنى

وفي سنة إحدى عشرة ومائتين عات أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى بالبصرة، وكان يرى رأي الخوارج، وبلغ نحواً من مائة سنة، ولم يحضر جنازته أحد من الناس، حتى أكترى لها من يحملها، ولم يكن يسلم عليه شريف ولا وضيع إلا تكلم فيه، وله مصنفات حِسَان في أيام العرب وغيرها: منها كتاب المثالب، ويذكر فيه أنصاب العرب وفسادها، ويرميهم بما تسيء الناسَ ذِكْره، ولا يحسن وصفه، وكان أبو نُوَاسٍ الحسن بن هانئ كثير العبث به، وكان أبو عبيدة يقعد في مسجد البصرة إلى سارية من سَوَارية، فكتب أبو نُوَاس عليها في غيبته عنها بهذين البيتين يُعَرِّضُ به:

صَلّى الإِلهُ عَلَى لوطٍ وشيعتـه

 

أبا عُبيدة قل بالـلّـه آمـينـا

وأنت عندي بلا شك يقيتُـهـمْ

 

مذ احتلمت وقد جاوزت تسعينا

فلما جاء أبو عُبيدة ليجلس في مجلسه ويستند على تلك السارية رأى ذلك، فقال: هذا فعلُ الماجِنِ اللواط أبي نواس، حُكّوه وإن كان فيه صلاة على نبي.

موت أبي العتاهي وشيء من أخباره

وفي هذه السنة- وهي سنة إحدى عشرة ومائتين- مات أبو العتاهية إسماعيلُ بن القاسم، الشاعر، متنسكاً لابساً للصوف، وكان له مع الرشيد أخبار حسان: من ذلك ما قدمنا ذكره فيما سلف من هذا الكتاب، ومنها أن الرشيد أمر ذات يوم بحمله إليه، وأمر أن لا يكلم في طريقه، ولا يعلم ما يراد منه، فلما صار في بعض الطريق كتب له بعض مَنْ معه في الطريق: إنما يراد قتلك، فقال أبو العتاهية من فوره:

ولعل ما تخشاه ليس بكـائن

 

ولعل ما ترجُوهُ سوف يكون

ولعل ما هَوَّنْتَ ليس بهـين

 

ولعل ما شَدَّدْتَ سوف يهون

وحج في بعض الحجج مع الرشيد، فنزل الرشيد يوماً عن راحلته، ومشى ساعة، ثم أعيا، فقال: هل لك يا أبا العتاهية أن تستند إلى هذا الميل؟ فلما قعد الرشيد أقبل على أبي العتاهية وقال له: يا أبا العتاهية، حركنا، فقال:

هب الدنيا توَاتيكـا

 

أليس الموت يأتيكا؟

ألا يا طالِبَ الدنـيا

 

دع الدنيا لشانيكـا

وما تصنع بالـدنـيا

 

وظل الميل يكفيكا

ولأبي العتاهية أخبار وأشعار كثيرة حسان، قد قدمنا فيما سلف من كتبنا جملاً مما اختير من شعره وما انتخب من قوافيه، وكذلك قدمنا من ذلك لمعاً فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار خلفاء بني العباس، ومما استحسن من ذلك قوله:

أحْـمَدٌ قال لي ولم يدْرِ ما بي:

 

أتحب الغداة عـشـية حـقـا؟

فتنفّسْتُ ثم قلت: نعم حُبّاً

 

جرى فِي العروق عِرْقاً فعرقـا

ليتني مُتُّ فاسترحْتُ فإني

 

أبـداً مـا حـييت منها مُلَـقـى

لا أراني أبقى ومن يَلْـقَ ما لا

 

قَيْتُ من لوعة الجوى لـيس يبـقـى

فاحْتَسِبْ صحبتي، وقل: رحمة

 

اللّه على صاحِب لنا مات عشقا

أنا عَبْدٌ لها وإن كنت لا أر

 

زَقُ منهـا والحًمد للَّـه عتقـا

ومما استحسن من شعره أيضاً قوله:

يا عُتْبَ مالي ولَـكِ

 

يا ليتنِي لـم أرَكِ

ملكتني فانتهـكـي

 

ما شئت أن تنتهكي

أبِيِتُ ليلي سـاهـراً

 

أرعى نجوم الفَلَـكِ

مفترشاً جَمْرَ الغَضَى

 

ملتحفاً بالْحَـسَـكِ

ومن قوافيه الغريبة وأشعاره المستحسنة قوله:

أخِلاي بي شَجْوٌ، وليس بكـم شَـجْـوُ

 

وكل امرئ من شَجْوِ صاحبه خِـلْـوُ

رأيت الهوى جَمْرَ الغضى، غـير أنـه

 

على حَرِّه في صدر صاحبـه خُـلْـوُ

أذاب الهوى جسـمـي وعـظـمـي

 

وقُوتي فلم يَبْقَ إلاَّ الروِحُ والبدن النِّضْو

وما من حبيب نـال مـمـن يحـبـه

 

هوى صـادقـاً إلا يداخِـلـه زَهْـوُ

إني لنائي الطًرفِ مِنْ غير خُـلَّـتـي

 

ومالي سواها من حـديثٍ ولا لَـهْـوُ

لها دون إخْـوَانـي وأهـل مـودتـي

 

من الود مني فَضْلَة، ولها الـعـفْـوُ

ومما انتخب من شعره واستحسنه الناس من قولهِ قولُه:

يا لهذه نفسي عَلَى الذِي اجتنبت

 

بأي جرْم ترونهـا عَـتَـبَـتْ

جارك اللَهُ بِئس ما صَـنَـعَـتُ

 

بي في هواهَا وبِئس ما ارتكبت

أتيتها زائراً فمـا انـتـجـزت

 

وَعْدِيَ إذْ جئتها وما احتسبـت

كم من ديونٍ واللَهُ يعلـمـهـا

 

لنا عليها لم تُقْضَ إذ وجـبـت

ما وهبَتْ لي مِنْ فضلها عِـدَةً

 

إلا استرد تْ جميع ما وهبـت

فأيُ خَـيْرٍ وأيُّ مَـنْـفَـــعَةٍ

 

لِذَاتِ دَلٍّ تريقِ ما حـلـبـت؟

اللًه بيني وبـين ظـالـمـتـي

 

طلبتُ منها وصالهـا فـأبَـت

ماذا عليها لو أنهـا بـعـثـت

 

منها رسولاً إليَّ أو كـتـبـت

رغبت في وصلها وقد زَهِـدَتْ

 

عتبة في وصلنا وما رغـبـت

وكان أبو العتاهية قبيح الوجه، مليح الحركات، حلو الإِنشاد، شديد الطرب، ومن مليح شعره أيضاً قولُهُ:

من لم يذُقْ لصبَابة طعـمَـاً

 

فلقد آحَطْتُ بطعمها علمَـا

إني منحت مودتي سَـكَـنـاً

 

فرأيته قد عَدَهـا جًـرْمـاً

يا عُتْبَ ما أبقيت من جسدي

 

لحماً ولا أبقيت لي عظمـا

يا عتب ما أنا من صنيعك بي

 

أعمى ولكنً الهوى أعمـى

إن الذي لم يدر ما كلَـفِـي

 

ليرى عَلَى وجهي به وَسْمَا

وله أشعار خرج فيها عن العَرُوض مثل قوله:

هُم القاضي بيت يطرب

 

قال القاضي لما عوتب

ما في الدنيا إلا مـذنـب

 

هذا عذر القاضي واقلب

وزنه فَعْلُنْ فعلن أربع مرات، وقد قال قوم: إن العرب لم تقل على وزن هذا شعراً، ولا ذَكَره الخليل ولا غيره من العروضيين .

الزيادة في العروض على الخليل

قال المسعودي: وقد زاد جماعة من الشعراء على الخليل بن أحمد في العروض: من ذلك المديد، وهو ثلاثة أعاريض وستة ضروب عند الخليل، وفيه عروض رابع وضربان مُحْدَثان؛ فالضرب الأول من العروض الرابعة المحدثة قول الشاعر:

مَنْ لعين لا تنـام

 

دمعها سَحٌّ سجام

والضرب الثاني من العروض الرابعة المحدثة قول الشاعر:

يا لبكر لا تَنُـوا

 

ليس ذا حين ونا

وغير ذلك مما قد تكلموا فيه، وذكروه في هذا المعنى من الزيادات مما قد أتينا على وصفه وقدمنا من ذكره في كتابنا في أخبار الزمان.

أبو العباس الناشئ

وقد صنف أبو العباس عبد اللّه بن محمد الناشئ الكاتب الأنباري على الخليل بن أحمد في ذلك كتاباً ذكر فيه أنواعاً من هذا المعنى مما خرج فيه الخليل بن أحمد عن تقليد العرب إلى باب التعسف والنظر ونصب العلل عن أوضاع الجدل، كان ذلك له لازماً، ولما أورده كاسراً، وللناشئ أشعار كثيرة حسان: منها قصيدة واحدة نحو من أربعة آلاف بيت قافية واحدة نونية منصوبة يذكر فيها أهل الآراء والنحل والمذاهب والملل، وأشعار كثيرة ومصنفات واسعة في أنواع من العلوم، فمما جوَّد فيه قولُه حين سار من العراق إلى مصر، وبها كانت وفاته، وذلك في سنة ثلاث " وتسعين ومائتين على حسب ما قدمنا ذكره:  

يا ديار الأحـبـاب هَـلْ مِــنْ مُجـــيب

 

عنك يشـفـي غـلـيل نـائي الـمـــزار؟

ما أجـابـت ولـكِـنِ الـصـمـتُ منهـاَ

 

فيه للـسـائلـين طـول اعــتـــبـــار

إن تـكـن أوحَـشَـتْ فـبــعـد أنـيسٍ

 

أو خَلَـتْ مـنـهـمُ فـبـعـــد قـــرار

قد لـهـونـا بـهـا زمـانــاً وحيناً

 

ووصلـنـا الأسـحـار بـالأســـحـــار

واغـتـبـقـنـا عـلـى صَـبُـوحٍ ولهـوٍ

 

وحـنـــين الـــنـــايات والأوتــار

بين وَرْدٍ ونرجِسٍ وخزَامى

 

وبنفس وسوسن وبَهَارِ

وأقاح وكل صنف من النَّوْ

 

ر الشهـيِّ الْـجَـنَـى والْـجُـلّــنَــارِ

فرمتنا الأيامُ أحسن ما كنا على حين غَفْلة واغترار

 

 

فافترقنا من بعد طول اجتماع

 

ونـأينـا بـعــد اقـتـراب الــديار

نداء المأمون في أمر معاوية وسببه

وفي سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون: برئت الذمة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم: وتكلم في أشياء من التلاوة أنها مخلوقة، وغير ذلك، وتنازعَ الناس في السبب الذي من أجله أمر بالنداء في أمر معاوية؛ فقيل في ذلك أقاويل: منها أن بعض سُمّاره حَدَّث بحديث عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي، وقد ذكر هذا الخبر الزبير بن بكار في كتابه في الأخبار المعروفة بالموفقيات التي صنفها للموفق، وهو ابن الزبير، قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وَفَدْتُ مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدث عنه ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العَشَماء، فرأيته مغتماً، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة. قال: يا بني، إني جئت من عند أخْبَثِ الناس، قلت له: وما ذاك. قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عَدْلاً وبسطت خيراً فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصَلْتَ أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، فقال لي: هيهات هيهات!! مَلَكَ أخوتَيْمٍ فعدل وفعل ما فعل، فواللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عَدِيٍّ، فاجتهد وشَمَّر عشر سنين، فواللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجلٌ لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعلَ به، وإن أخا هاشم يُصْرَخُ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أمَ لك؛ والله ألا دفنا دفنا، وإن المأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وصفنا، وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر، فأعْظَمَ الناسُ ذلك وأكبروه، واضطربت العامة منه فأشير عليه بترك ذلك، فأعرض عما كان هَمَّ به.

وفاة أبي عاصم النبيل، وجماعة من أهل العلم

وفي خلافة المأمون كانت وفاة أبي عاصم النبيل، وهو الضحاك بن مخلد بن سنان الشيباني، وذلك في سنة اثنتي عشرة ومائتين، وفيها مات محمد بن يوسف الفارابي.

وفي سنة خمس عشرة ومائتين- وذلك في خلافة المأمون- مات هوذة بن خليفة بن عبد اللّه بن أبي بكر، ويكنى بأبي الأشهب، ببغداد، وهو ابن سبعين سنة، ودفن بباب البردان، في الجانب الشرقي، وفيها مات محمد بن عبد اللّه بن المثنىِ بن عبد اللّه بن أنس بن مالك الأنصاري، وفيها مات إسحاق بن الطباع، بأذنَةَ من الثغر الشامي، ومعاوية بن عمرو، ويكنى بأبي عمرو، وقبيصة بن عقبة، ويكنى بأبي عامر، من بني عامر بن صَعْصَعْةَ.

وفي سنة سبعَ عشرَةَ ومائتين دخل المأمون مصر، وقتل بها عبدوس، وكان قد تغلب عليها.

غزو الروم

وفي سنة ثمان عشرة ومائتين غزا المأمون أرض الروم، وقد كان شرع في بناء الطوانة، مدينة من مدنهم على فم الدرب، مما يلي طرسوس، وعمد إلى سائر حصون للروم، ودعاهم إلى الإِسلام، وخيرهم بين الإِسلام والجزية والسيف، وذلل النصرانية، فأجابه خلق من الروم إلى الجزية.

علة المأمون وموته

قال المسعودي: وأخبرنا القاضي أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن زيد الدمشقي بدمشق، قال: لما توجَّه المأمون غازياً، ونزل البديدون، جاءه رسول ملك الروم فقال له: إن الملك يخيرك بين أن يَرُدَّ عليك نفقتك التي أنفقتها في طريقك من بلدك إلى هذا الموضع، وبين أن يخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم بغير فداء ولا درهم ولا دينار، وبين أن يعمر لك كل بلد للمسلمين مما خربت النصرانية ويرعَّه كما كان، وترجع عن غَزَاتِكَ، فقّام المأمون ودخل خيمة، فصلى ركعتين، واستخار اللهّ عزّ وجلّ وخرج، فقال للرسول: قل له، أما قولك تَرُدًّ عليَّ نفقتي، فإني سمعت اللّه تعالى يقول في كتابه، حاكياً عن بلقيس: "وإنِّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال: أتمدونني بمال؟ فما أتاني اللّه خيرٌ مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون" وأما قولك: إنك تخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم، فما في يدك إلا أحد رجلين: إما رجل طلب اللّه عز وجل والدار الآخرة، فقد صار إلى ما أراد، وإما رجل يطلب الدنيا، فلا فَكَّ اللّه أسْرَهُ، وأما قولك: إنك تعمر كل بلد للمسلمين قد خربته الروم، فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما اعتضت بامرأة عثرت عثرة في حال أسرها، فقالت: وامحمداه وامحمداه، عُدْ إلى صاحبك، فليس بيني وبينه إلا السيف، يا غلام اضرب الطبل، فرحل، فلم ينثن عن غَزَاتِهِ، حتى فتح خمسة عشر حصناً، وانصرف من غزاته، فنزل على عَيْن البديدون، المعروفة بالقشيرة على حسب ما قدمنا في هذا الكتاب، فأقام هنالك حتى ترجع رُسُله من الحصون، فوقف على العين ومنبع الماء، فأعجبه بَرْدُ ماتها وصفاؤه وبياضه وطيب حسن الموضع وكثرة الخضرة، فأمر بقطع خشب طوال وأمر به فبسط على العين كالجسر، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر، وجلس تحت الكنيسة التي قد عقدت له والماء تحته، وطرح في الماء درهم صحيح فقر أكتابته وهو في قرار الماء لصفاء الماء، ولم يقدر أحد يدخل يده في الماء من شدة بَرْده، فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنها سبيكة فضة، فجعل لمن يخرجها سَبْقاً، فبحر بعض الفراشين فأخذها وصعد، فلما صارت على حرف العين أو على الخشب الذي عليه المأمون اضطربت وأفلتت من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وتَرْقُوتهِ فبلّتْ ثوبه، ثم انحدر الفراش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال المأمون: تُقْلَى الساعة، ثم أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرك من مكانه، فغطى باللحف والدواويج، وهو يرتعد كالسعفة، ويصيح: البرد البرد، ثم حول إلى المضرب ودثر وأوقدت النيرانُ حوله، وهو يصيح: البرد البرد، ثم أتى بالسمكة وقد فرغ من قلبها فلم يقدر على الذوق منها، وشَغَله ما هو فيه عن تناول شيء منها، ولمَّا اشتد به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدل عليه علم الطب من أمره؟ وهل يمكن برؤه وشفاؤه؟ فتقدم ابن ماسويه، فأخذ إحدى يديه وبختيشوع الأخرى، وأخذا المجسة من كلتا يديه، فوجدا نبضة خارجاً عن الاعتدال، مُنْنِراً بالفناء والإِنحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لِعَرَقٍ كان يظهر منه من سائر جسمه، كالزيت، أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك، فأنكرا معرفته، وأنهما لم يجدا في شيء من الكتب، وأنه دال على انحلال الجسد، وأفاق المأمون من غَشْيته، وفتح عينيه من رَقْدته، فأمر بإحضار أناس من الروم، فسألهم عن اسم الموضع والعين، فأحضر له عدة من الأساري والأدلة، وقيل لهم: فسروا هذا الاسم القشيرة، فقيل له: تفسيره مُدّ رجليك، فلما سمعها اضطرب من هذا الفال وتَطَيَّرَ به، وقال: سَلُوهم ما أسم الموضع بالعربية، فقالوا: الرقة، وكان فيما عمل من مولد المأمون أنه يموت بالموضع المعروف بالرقة، وكان المأمون كثيراً ما يحيد عن المقام بمدينة الرقة فرقا من الموت، فلما سمع هذا من الروم علم أنه الموضع الذي وُعِدَ فيه فيما تقم من مولده، وأن فيه وفاته، وقيل: إن اسم البديدون تفسير مُدَ رجليك، والله أعلم بكيفية ذلك، فأحضر المأمون الأطباء حوله يؤمل خلاصه مما هو فيه، فلما ثقل قال: أخرجوني اشْرِفُ على عسكري، وأنظر إلى رجالي، وأتبين ملكي، وذلك في الليل، فأخرج فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقد من النيران، فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ثم رُدَّ إلى مرقدي وَأجْلَسَ المعتصم رَجُلاً يشهده لما ثقل، فرفع الرجل صوته ليقولها، فقال له ابن ماسوية: لا تَصِحْ فواللّه ما يفرق بين ربه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح المأمون عينيه من ساعته، وبهما من العظم والكبر الاحمرار ما لم يُرَ مثله قط، وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسوية، ورام مخاطبته، فعجز عن ذلك، فرمي بطرفه نحو السماء، وقد امتلأت عيناه دموعاً، فانطلق لسانه من ساعته، وقال: يا مَنْ لا يموت أرحم مَنْ يموت، وقضى من ساعته، وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بَقِيَت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وحمل إلى طرطوس، فدفن بها، على حسب ما قدمنا في أول أخباره من هذا الكتاب.

قال المسعودي: وللمأمون أخبار حسان وَمَعَانٍ وسير ومجالسات وأشعار وأخلاق جميلة، قد أتينا على مبسوطها فيما سلف من كتبنا، فأغنى ذلك عن ذكرها.

وفي المأمون يقول أبو سعيد المخزومي:

هل رأيت النجوم أغنت عَنِ المأ

 

مُون شيئاً وَمُلْكِهِ المَـأْنُـوس

خلفوهً بعرصتي طـرسـوس

 

مِثل ما خَلّفُوا أبـاه بِـطُـوس

وكان المأمُون كثيراً ما ينشد هذه الأبيات:

وَمَنْ لا يزل غَرَضَاَ للمنو

 

ن يَترُكْنَهُ ذات يوم عميدا

فإن هن أخطأنـه مـرة

 

فيوشك مخطئها أن يعودا

فبينا يحيد وتخـطـينـه

 

قصدن فأعجلنه أن يحيدا