ذكر خلافة المعتصم

ذكر خلافة المعتصم

 وبويع المعتصمُ في اليوم الذي كانت فيه وفاة المأمون على عين الديدون، وهو يوم الخميس لثلاثَ عَشَرَةَ ليلةً بَقِيتْ من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، واسمه محمد بن هارون، ويكنى أبا إسحاق، وكان بينه وبين العباس بن المأمون في ذلك الوقت تنازع في المجلس، ثم إنقاد العباسُ إلى بيعته، والمعتصم يومئِذٍ ابن ثمان وثلاثين سنة وشهرين، وأُمه يُقال لها ماردة بنت شبيب، وقيل: إنه بويع سنة تسع عشرة ومائتين، وتوفي بسُرَّ مَنْ رأى سنة سبع وعشرين، وهو ابن ست وأربعين سنة وعشرة أشهر، فكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر، وقبره بالجَوْسَقِ بُسَّر مَنْ رأى على ما ذكرنا.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

ابن الزيات وزير المعتصم وأحمد بن أبي دؤاد

واسْتَوْزَرَ المعتصمُ محمدَ بن عبد الملك إلى آخر أيامه، وغلب عليه أحمد بن أبي دؤُاد، ولم يزل محمد بن عبد الملك في أيام المعتصم والواثق إلى أن ولي المتوكل، وكان في نفسه عليه شيء، فقتله، وسنذكر لمعاً من خبر مقتله فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار المتوكل، وإن كنا قد أتينا على ذلك ملخصاً في الكتاب الأوسط.

حب المعتصم للعمارة

وكان المعتصم يحب العمارة، ويقول: إن فيها أموراً محمودة، فأولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه . 

بأس المعتصم وقوته

وكان المعتصم ذا بأس وشدة في جسمه، وشجاعة في قلبه، فذكر أحمد بن أبي دُؤَاد- وكان به أنساً- قال: لما أنكر المعتصم نفسه وقوته دخلت عليه يوماً وعنده ابن ماسويه، فقال المعتصم فقال لي: لا تبرح حتى أخرج إليه، فقلت ليحيى بن ماسويه: ويحك!! إني أرى أمير المؤمنين قد حال لونه، ونقصت قوته، وذهبت سَوْرَته، فكيف تراه أنت؟ قال: هو واللهّ زبرة من زُبَرِ الحديد، إلا أن في يديه فأساً يضرب بها تلك الزبرة، فقلت: وكيف ذاك؟ قال: كان قبل ذلك إذا أكل السمك اتخذ له صباغاً من الخل والكراويا والكمون والسذاب والكرفس والخردل والمجوز فأكله بذلك الصباغ، يدفع أذى السمك وأضراره بالعصب، وإذا أكل الرؤوس اتخذت له أصباغ تدفع أذاها وتلطفها، وكان في أكثر أموره يلطف غذاءه ويكثر مشورتي، فصار اليوم إذا أنكرت عليه شيئاً خالفني، وقال: آكل هذا على رغم أنف ابن ماسويه فما أقدر أن أصنع، قال: وهو خلف الستر يسمع ما نحن فيه، فقلت: ويلك يا أبا يحيى!! أدخل أصبعك في عينيه، قال: جعلت فداك، ما أقْدِرُ أرُده ولا أجترئ عليه في خلاف، فلما فرغ من كلامه خرج علينا المعتصم، فقال لي: ما الذي كنت فيه مع ابن ماسويه. قلت: ناظرته يا أمير المؤمنين في لونك الذي أراه حائلاً، وفي قلة طعمك الذي قد هَدَّ جوارحي وَأنْحَلَ جسمي، قال: فما قال لك؟ قلت: شكا أنك كنت تقبل منه ما يشير به عليك وكنت ترى في ذلك على ما يحب، وأنك الآن تخالفه، قال: فما قلت له أنت. قال: فجعلت أصرف الكلام، قال: فضحك وقال: هذا بعد ما دخل في عيني أو قبل ذلك. قال: فَارْفَضَضْتُ عَرَقاً، وعلمت أنه قد سمع ما كنا فيه، ورأى ما قد داخلني، فقال: يغفر اللهّ لك يا أحمد، لقد فرحت بما ظننت أنه أحزنك إذ سمعته وعلمت أنه نوع من أنواع الانبساط والأنس.

المعتصم وعلي بن الجنيد

وكان المعتصم بأنس بعلي بن الجنيد الإِسكافي، وكان عجيب الصورة عجيب الحديث، فيه سلامة أهل السواد، فقال المعتصم يوماً لمحمد بن حماد: اذهب بالغَدَاة إلى علي بن الجنيد، فقل له تهيأ حتى يزاملني، فأتاه، فقال: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تُزَامله، فتهيأ لشروط مزاملة الخلفاء ومعادلتهم فقال علي بن الجنيد: وكيف أتهيأ؟ أهيئ لي رأساً غير رأسي؟ أأشتري لحية غير لحيتي! أأزيد في قامتي! أنا متهيئ وفضلة، قال: لست تحري بعدُ ما شروط مزاملة الخلفاء ومعادلتهم! فقال عليُّ بن الجنيد: وما هي؟ هات يا من تَدرِي، قال له ابن حماد، وكان أديباً ظريفاً، وكان برسم الحجَّاب: شرط المعادلة الإِمتاع بالحديث والمذاكرة والمناولة، وأن لا يبزق، ولاَ يسعل، ولا يتنحنح، ولا يمخط، وألا يتقدم الرئيسَ في الركوب إشفاقاً عليه من المسل، وأن يتقدمه في النزول، فمتى لم يفعل المعادل هذا كان هو والمثقلة الرصاص التي تعدل بها القبة سَوَاءً، وليس له أن ينام وإن نام الرئيس، بل يأخذ نفسه بالتيقظِ، ومراعاة حال مَنْ هو معه وما هو راكبه؛ لأنهما إذا ناما جميعاً فمال جانب لا يشعر بميله كان في ذلك ما لا خفاء به، وعليُّ بن الجنيد ينظر إليه، فلما أكثر عليه في هذا الوصف والشروط قطع عليه كلامه وقال كما يقول أهل السوَاد: آه حرها، أذهب له فقل له: ما يُزَامِلك إلا مَنْ أمُّه زانية وهو كشخان، فرجع ابن حماد، فقال للمعتصم ما قال، فضحك المعتصم وقال: جئني به، فجاءه، فقال: يا عليُّ، أبعث إليك تزاملني فلا تفعل. فقال: إن رسولك هذا الجاهل الأزعر جاءني بشروط حَسان الشاشي وخالويه المحاكي فقال: لا تبزق، ولا تفعل كذا، وافعل كذا، وجعل يمطَطُ في كلامه، ويفرقع في صاداته، ويشْير بيديه، ولا تسعل، ولا تعطس، وهذا لا يقوم لي،. ولا أقدر عليه، فإن رضيت أن أزاملك فإن جاءني الفُسَاء فَسَوْتُ عليك وضَرَطْتُ، وإذا جاءك أنت فأده فافْسُ واضرط، وإلا فليس بيني وبينك عمل، فضحك المعتصم حتى فحص برجليه، وذهب به الضحك كل مذهب، وقال: نعم زاملني على هذه الشريطة، قال: نعم وكرامَةً، فزامَلَهُ فيِ قبة على بغلٍ، فسارا ساعة، وتوسَّطَا البر، فقال علي: يا أمير المؤمنين حضَر ذلك المتاعُ فما ترى؟ قال: ذلك إليك إذا شِئْتَ، قال: تحضر ابن حماد، فأمر المعتصم بإحضاره، فقال له عليٌ: تعالى حتى أسَارَكَ، فلما دنا منه فَسَا، وناوله كمه، وقال: أجدُ دبيب شيء في كُمِّي فانظر ما هو، فأدخل رأسه، فشم رائحة الكنيف، فقال: ما أرى شيئاً، ولكني لم أعلم أن في جوف ثيابك كنيفاً، والمعتصم قد غَطى فمه بكمه، وقد ذهب به الضحك كل مذهب، ثم جعل يفسو فُسَاء متصلاً، ثم قال لابن حماد: قلت لي لا تسعل ولا تبزق ولا تمخط، فلم أفعل ولكني أخْرَى عليك، قال: فاتصل فساؤه والمعتصم يخرج رأسه من العمارية، ثم قال للمعتصم: قد نضجت القدر، وأريد أخْرَى، فقال المعتصم ورفع صوته حين كثر ذلك عليه: وَيْلَكَ! يا غلام الأرض، الساعة أموت.

ودخل عليٌّ بن الجنيد الإِسكافي يوماً على المعتصم فقال له بعد أن ضاحكه وهازَلَه: يا عليُّ، مالي لا أراك ويلك!؟ أنسيت الصحبة وما حَفِظْتَ الموثق. فقال له حينئذٍ: بالغ الكلام الذي أريد أن أقوله قلته أنت، ما أنت إلا إبليس، فضحك، ثم قال: لم لا تجيئني. قال: آه، كم أجيء فلا أصل إليك، أنت اليوم نبيل، فكأنك من بني مارية وبَنُو مَارَيةَ أناس من أهل السواد يَضْرِبُ بهم أهلُ السواد الأمثال لكبرهم في نفوسهم، فقال له المعتصم: هذا سندان التركي، وأشار إلى غلام على رأسه بيديه مِذَبةٌ، وقال له: يا سندان، إذا حضر عليّ فأعلمني وإن أعطاك رقعة فأوضحلها إليَ، وإن حَمَّلك رسالة فأخبرني بها، قال: نعم يا سيدي، وانصرف علي فأقام أياماً ثم جاء يطلب سندان فقالوا: هو نائم، فانصرف ثم عاد، فقالوا: هو داخل، ولا تصل إليه، فانصرف وعاد، فقالوا: هو عند أمير المؤمنين، فاحْتَالَ حتى دخل عند المعتصم من جهة أخرى، فضاحكه ساعة وعاتبه، وقال له: يا عليّ، ألك حاجة. قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن رأيت سندان التركي؛ فأقره مني السلام، فضحك وقال: ما حالُه. قال: حالُه أنك جعلْتَ بيني وبينك إنساناً رأيتك قبل أن أراه، وقد اشتقْتُ إليه فأسألك أن تبلغه مني السلام، فغلب المعتصمَ الضحكُ، وجمع بينه وبين سندان ثانية وأكد عليه في مراعاة أمره، فكان لا يمنع منه.

المعتصم وشيخ زلق حماره في الطين

وعَبَر المعتصم من سُر مَنْ رأى من الجانب الغربي- وذلك في يوم مَطِيرٍ، وقد تبع ذلك ليلة مطيرة- وانفردَ من أصحابه، وإذا حمار قد زلق ورمى بما عليه من الشوك، وهو الشوك الذي توقد به التنانير بالعراق، وصاحُبه شيخٌ ضعيف واقتص ينتظر إنساناً يمر فيعينه على حمله، فوَقف عليه، وقال: مالك يا شيخ؟ قال: فديتك! حماري وقع عنه هذا الحمل، وقد بقيت أنتظر إنساناً يعينني على حمله، فذهب المعتصم ليخرج الحمار من الطين، فقال الشيخ: جعلت فداك تفسد ثيابك هذه وطيبك الذي أشمه من أجل حماري هذا؟ قال: لا عليك، فنزل واحتمل الحمار بيد واحدة وأخرجه من الطين، فبهت الشيخ وجعل ينظر إليه ويتعجب منه، ويترك الشغل بحماره ثم شَدَّ عنان فرسه في وسطه وأهوى إلى الشوك وهو حُزْمَتَانِ فحملهما فوضعهما على الحمار، ثم دنا من غدير فغسل يديه واستوى على فرسه، فقال الشيخ السوادي: رضي اللّه عنك، وقال بالنبطية: أشقل غرمى تاحوتكا، وتفسير ذلك، فديتك يا شاب، وأقبلت الخيول، فقال لبعض خاصته: أعْطِ هذا الشيخ أربعة آلاف درهم، وكن معه حتى تجاوز به أصحاب المسالح، وتبلغ به قريته.

وفاة جماعة من العلماء

وفي سنة تسع عشرة ومائتين كانت وفاة أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْنِ مولى آل طلحة بن عبيد اللّه بالكوفة، وبشر بن غياث المريسي، وعبد اللّهَ ابن رجاء الغُدَاني.

محمد بن علي بن موسى بن جعفر

وفيها ضَرَب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القران.

وفي هذه السنة- وهي سنة تسع عشرة ومائتين- قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وذلك لخمس خلون من في الحجة، ودفن ببغداد في الجانب الغربي بمقابر قريش مع جده موسى بن جعفر، وصَلّى عليه الواثق، وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد أبن سبع سنين وثمانية أشهر، وقيل غير ذلك، وقيل: إن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمَتْه، وإنما ذكرنا من أمره ما وصفنا لأن أهل الإِمامة اختلفوا في مقدار سنه عند وفاة أبيه، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة البيان، في أسماء الأئمة وما قالت في ذلك الشيعةُ من القطعية.

محمد بن القاسم، العلوي

وفي هذه السنة- وهي سنة تسع عشرة ومائتين- أخاف المعتصم محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بِن علي بن أبي طالب رحمهم الله، وكان بالكوفة من العبادة والزهد والورع في نهاية الوصف، فلما خاف على نفسه هرب فصار إلى خراسان، فتنقَلَ من مواضع كثيرة من كُوَرِهَا كمرو وسرخس والطالقان ونَسَا، فكانت له هناك حروب وكوائن، وانقاد إليه وإلى إمامته خلق كثير من الناس، ثم حمله عبد اللّه بن طاهر إلى المعتصم، فحبسه في أزج اتخذه في بستان بسُرَّ مَنْ رأى، وقد تنوزع في محمد بن القاسم، فمن قائل يقول: إنه قتل بالسم، ومنهم من يقول: إن ناساً من شيعته من الطالقان أتوا ذلك البستان فتأتَّوْا للخدمة فيه من غَرْسٍ وزراعة، واتخذوا سلالم من الحبال واللبود والطالقانية ونقبوا الأزج وأخرجوه فذهبوا به، فلم يعرف له خبر إلى هذه الغاية، وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزَّيدية إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- ومنهم خلق كثير يزعمون أن محمداً لم يمت، وأنه حي يرزق، وأنه يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وأنه مهديُّ هذه الأمة، وأكثر هؤلاء بناحية الكوفة وجبال طبرستان والدَّيْلَم وكثير من كُوَرِ خراسان، وقول هؤلاء في محمد بن القاسم نحو قول رافضة الكيسانية في محمد بن الحنفية، ونحو من قول الواقفية في موسى بن موسى بن جعفر، وهم الممطورة، بهذا تعرف هذه الطائفة من بين فرق الشيعة، وقد أتينا على وصف قولهم في كتابنا في المقالات في أصول الديانات ووصف قول غُلاتهم من المعنوية وغيرهم من المحمدية وسائر فرق أهل الباطل ممن قال بتنقل الأرواح في أنواع الأشخاص من بهائم الحيوان وغيره في كتابنا المترجم بكتاب سر الحياة.

جمع المعتصم للأتراك

وكان المعتصم يحب جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم، فاجتمع له منهم أربعة آلاف، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده، وقد كان اصطنع قوماً من حوف مصر ومن حوف اليمن وحوف قيس، فسماهم المغاربة، واستعدَّ رجالَ خراسانَ من الفراغنة وغيرهم من الأشروسية، فكثر جيشه، وكانت الأتراك تؤذَي العوامَّ بمدينة السلام بجريها الخيولَ في الأسْوَاق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صَدْمِه لامرأةٍ أو شيخٍ كبير أو صبي أو ضرير، فعزم المعتصم على النقلة منهم، وأن ينزل في فضاء من الأرض، فنزل البراذان على أربعة فراسخ من بغداد، فلم يستطب هواءها، ولا اتسع له هواؤها، ففم يزل يتنقل ويتقرَّى الموضع والأماكن إلى دِجْلةً وغيرها حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالقاطول، فاستطاب الموضع، وكان هناك قرية يسكنها خلق من الجرامقة وناس من النَّبَطِ على النهر المعروف بالقاطول آخذاً من دجلة، فبنى هناك قصراً وبنى الناسُ وانتقلوا من مدينة السلام، وخلت من السكان إلا اليسير، وكان فيما قاله بعض العَيّارِينَ في ذلك معيراً للمعتصم بانتقاله عنهم:

أيا ساكن القَاطُول بين الْجَرَامِقَهْ

 

تركْتَ ببغداد الكِباشَ البَطَارِقَهْ

ونالت مَنْ مع المعتصم شدة عظيمة لبرد الموضع وصلابة أرضه، وتأذّوْا بالبناء؟ ففي ذلك يقول بعض من كان في الجيش:

قالوا لنا إن بالقاطول مَشْتَانـا

 

فنحن نأمل صنع اللّه مولانا

الناس يأتمرون الرأي بينهـمُ

 

واللّه في كل يوم مُحْدِثٌ شانا

تخطيط سامرا

ولما تأذى المعتصم بالموضع وتعفر البناء فيه خرج يتقرَّى المواضع، فانتهى إلى موضع سَامُرا، وكان هناك للنصارى دَيْر عادي، فسأل بعض أهل الدير عن اسم الموضع، فقال: يعرف بسامرا، قال له المعتصم: وما معنى سامرا؟ قال: نجدها في الكتب السالفة والأمم الماضية أنها مدينة سام بن نوح، قال له المعتصم: ومن أي بلادٍ هي؟ وإلام تضاف؟ قال: من بلاد طبرهان، وإليها تضاف، فنظر المعتصم إلى فَضَاء واسع تسافر فيه الأبصار، وهواء طيب، وأرض صحيحة، فاسْتَمْرَاها واستطاب هواءها، وأقام هنالك ثلاثاً يتصيد في يوم، فوجد نفسه تَتوقُ إلى الغذاء، وتطلب الزيادة على العادة الجارية، فعلم أن ذلك لتأثير الهواء والتربة والماء، فلما استطاب الموضع دعا بأهل الدَّيْرِ فاشترى منهم أرضهم بأربعة آلاف دينار، وارتاد لبناء قصره موضعاً فيها، فأسس بنيانه، وهو الموضع المعروف بالوزيرية بسُرَّ من رأى، وإليها يضاف التين الوزيري، وهو أعذب الأتيان وأرَقّها قشراً، وأصغرها حباً، لا يبلغه تين الشام، ولا يلحقه تين أرجان وحلوان، فارتفع البنيان، وأحضر له الفَعَلَة والصناع وأهل المهن من سائر الأمصار، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الغُروس والأشجار، فجعل للأتراك قطائع متحيزة، وجاورهم بالفراغنة والأشروسية وغيرهم من مدن خراسان على قدر قربهم منهم في بلادهم، وأقطع أشنان التركي وأصحابه من الأتراك الموضع المعروف بكرخ سامرا، ومن الفراغنة مَنْ أنزلهم الموضِعَ المعروف بالعمري والجسر، واختطت الخطط، واقتطعت، القطائع والشوارع والحروب، وأفْرِدَ أهْلُ كل صنعة بسوق، وكذلك التجار، فبنى الناس، وارتفع البناء، وشيدت الدور والقصور، وكثرت العمارة، واستنبطت المياه، وجرت من دجلة وغيرها، وتسامع الناس أن دار ملك قد اتخذت، فقصدوها وأجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس وغيرهم من الحيوان، وكثر العيش، واتسع الرزق، وشملهم الِإحسان، وعمهم العدل فاتسع الخصب، وأقبلت الأرض وكان بَدء ما وصفنا فيما فعله المعتصم سنة إحدى وعشرين ومائتين.

خروج بابك الخرمي

واشتد أمر بابك الخرمي ببلاد الران والبيلقان، وكثرت عترته في تلك البلاد وسار عساكره نحو تلك الأمصار، ففرق الجيوش، وهزم العساكر، وقتل الوُلاةَ، وأفنى الناس، فسير إليه المعتصم الجيوش وعليها الأفشين، وكثرت حروبه واتصلت، وضاق بابك في بلاده حتى انفضَ جمعه، وقتل رجاله، وامتنع بالجبل المعروف بالبدين من أرضَ الران، وهي بلاد بابك، وبه يعرف هذا الموضع إلى هذا الوقت، فلما استشعر بابك ما نزل به وأشرف عليه هرب من موضعه، وزال عن مكانه، فتنكر هو وأخوه وولده وأهله ومَنْ تبعه من خواصه، وقد تزيَّا بزي السفر وأهل التجارة والقوافل، فنزل موضعاً من بلاد أرمينية من أعمال سهل بن سنباط من بطارقة أرمينية على بعض المياه، وبالقرب منهم راعي غنم، فابتاعوا منه شاة، وساموا شراء شيء من الزاد لهم، فمضى من فَوْرِه إلى سهل بن سنباط الأرميني، فأخبره الخبر، وقال: هو بابك لا شك فيه، وقد كان الأفشين لما هرب بابك من موضعه وزال عن جبله خشي أن يعتصم ببعض الخبال المنيعة أو يتحصن ببعض القلاع، أو ينضاف إلى بعض الأمم القاطنة ببعض تلك الديار فيكثر جمعه وينضاف إليه فُلاّل عسكره، فيرجع إلى ما كان من أمره، فأخنه الطرق، وكاتب البطارقة في الحصون والمواضع من بلاد أرمينية وأذربيجان والران والبيلقان، وضمن في ذلك الرغائب، فلما سمع سهل بن سنباط من الراعي ما أخبره به سار من فَوْرِه فيمن حَضَره من عدده وأصحابه حتى أتى الموضع الذي فيه بابك، فترجَّل له، ودَنَا منه، وسلم عليه بالملك، وقال له: أيها الملك، قُمْ إلى قصرك الذي فيه ولِيُّكَ وموضع يمنعك اللّه فيه من عدوك، فسار معه إلى أن أتى قلعته، وأجلسه على سريره، ورفع منزلته، ووطأ له منزله ومن معه، وقدّمت المائدة، وقعد سهل يأكل معه، فمال له بابك، بجهله وقلة معرفته بما هو فيه وما دفع إليه-: أمثلك يأكل معي. فقام سهل عن المائدة، وقال: أخطأت أيها الملك، وأنت أحق من احتمل عبده إذ كانت منزلتي ليست بمنزلة من يأكل مع الملوك، وجاءه بحداد، وقال له: مُدَّ رجلك أيها الملك، وأوْثَقَه بالحديد، فقال له بابك: أغدراً يا سهل! قال: يا ابن الخبيثة إنما أنت راعي غنم وَبَقَر، ما أنت والتدبير للملك ونظم السياسات وتدبير الجيوش! وقيد مَنْ كان معه، وأرسل إلى الأفشين يخبره الخبر، وأن الرجل عنده، فسرَّحَ إليه الأفشين أربعة آلاف فارس عليهم الحديد، وعليهم خليفة يُقال له بوماد، فتسلموا بابك ومن معه، وأتي به إلى الأفشين ومعه سهل بن سنباط، فرفع الأفشين منزلة سهل، وخلع عليه، وجمله، وتَوّجه، وقاد بين يديه، وأسقط عنه الخراج، فأطلقه، وأطلقت الطيور إلى المعتصم، وكتب إليه بالفتح، فلما وصل إليه ذلك ضَج الناس بالتكبير، وعَمَّهم الفرح، وأظهروا السرور، وكتبت الكتب إلى الأمصار بالفتح، وقد كان أفنى عساكر السلطان، فسار الأفشين ببابك، وتنقل بالعساكر، حتى أتى سُرَّ مَنْ رأى، وذلك سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتلقى الأفشينَ هارونُ بن المعتصم وأهلُ بيت الخلافة ورجال الدولة، ونزل بالموضع المعروف بالقاطول على خمسة فراسخ من سامرا، وبعث إليه بالفيل الأشْهَبِ، وكان قد حمله بعض ملوك الهند إلى المأمون، وكان فيلاً عظيماً قد جلل بالديباج الأحمر والأخضر وأنواع الحرير الملون، ومعه ناقة عظيمةٌ بُخْتِية قد جللت بما وصفنا، وحمل إلى الأفشين دُرَاعَة من الديباج الأحمر منسوجة بالذهب قد رُصِّعَ صدرها بأنواع الياقوت والجوهر، ودراعة دونها، وقلنسوة عظيمة كالبرنس ذات سفاسك بألوان مختلفة، وقد نظم على القلنسوة كثير من اللؤلؤ والجوهر، وألبس بابك الدراعة الجليلة، وألبس أخوه الأخرى، وجعلت القلنسوة على رأس أخيه نحوها، وقُدِّمَ إليه الفيل، وإلى أخيه الناقة، فلما رأى صورة الفيل استعظمه وقال: ما هذه الدإبة العظيمة؟ واستحسن الدراعة، وقال: هذه كرامة ملك عظيم جليل، إلى أسير فقد العز ذليل، أخطأته الأقدار، وزالت عنه الجدود، وتَوَرَّطته المحن، إنها لفرجة تقتضي ترحة، وضرب له المصاف صفين في الخيل والرجال والسلاح والحديد والرايات والبنود، من القاطول إلى سَامُرَّا، ملا واحد متصل غير منفصل، وبابك على الفيل وأخوه وراءه على الناقة، والفيل يخطر بين الصفين به، وبابك ينظر إلى ذات اليمين وذات الشمال، ويميز الرجال والعُمَد، ويظهر الأسف والحنين على ما فاته من سفك دمائهم، غير مستعظم لما يرى من كثرتهم، وذلك يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ولم ير الناس مثل ذلك اليوم، ولا مثل تلك الزينة، ودخل الأفشين على المعتصم فرفع منزلته، وأعلى مكانه، وأتى ببابك فَطَوَّفَ به بين يديه، فقال له المعتصم: أنت بابك؟ فلم يجب، وكررها عليه مراراً، وبابك ساكت، فمال بليه الأفشين وقال: الويل لك! أمير المؤمنين يخاطبك وأنت ساكت؟ فقال: نعم أنا بابك، فسجد المعتصم عند ذلك، وأمر بقطع يديه ورجليه.

قال المسعودي: ورأيت في كتاب أخبار بغداد أنه لما وقف بابك بين يديه لم يكلمه مَلِيّاً، ثم قال له: أنت بابك. قال: نعم، أنا عبدك وغلامك، وكان اسم بابك الحسن، واسم أخيه عبد اللّه، قال: جَرِّدُوه، فسَلَبَه الخَدامُ ما عليه من الزينة، وقطعت يمينه، وضرب بها وجهه، وفعل مثل ذلك بيساره، وثلث برجليه، وهو يتمرغ في النطع في دمه، وقد كان تكلم بكلام كثير يرغب في أموال عظيمة قبله، فلم يلتفت إلى قوله، وأقبل يضرب بما بقي من زنديه وجهه، وأمر المعتصم السّيَاف أن يدخل السيف بين ضلعين من أضلاعه أسفل من القلب ليكون أطول لعذابه، ففعل، ثم أمر بجز لسانه وصلب أطرافه مع جسده فصلب ثم حمل الرأس إلى مدينة السلام، ونصب على الجسر، لما كان في نفوس الناس من استفحال أمره، وعظم شأنه، وكثرة جنوده، وإشرافه على إزالة مُلكٍ وقلب ملة وتبديلها، وحمل أخوه عبد اللّه مع الرأس إلى مدينة السلام، ففعل به إسحاق بن إبراهيم أميرها ما فعل بأخيه بابك بسامرا، وصلبت جثة بابك على خشبة طويلة في أقاصي سامرا، وموضعه مشهور إلى هذه الغاية يعرف بخشبة بابك، وإن كانت سامرا في هذا الوقت قد خلا منها ساكنها، وبَانَ عنها قاطنها، إلا يسيراً من الناس في بعض المواضع بها.

ولما قتل بابك وأخوه وكان مرت أمره ما تقدم ذكره قام في مجلس المعتصم الخطباء فتكلموا، وقالت الشعراء: فمن قام في ذلك اليوم إبراهيم بن المهدي فقال شعراً بدلاً من الخطبة، وهو:

يا أمين اللّه، إن الحمد للَّه كثـيرا

 

هكذا النصر فلا زا

 

ل لـك اللَّــه نصـيرا

وعلى الأعداء أعطيت من اللَّه ظَهِيرَا

 

 

وهنيئاً هَيّأ اللَّه لك الفتح الخطيرا

 

 

فَهْوَ فتح لم ير الناس له فتحاً نظيرا

 

 

وَجَزَى الأفْشِينَ عبدا

 

للَّـه خـيراً وَحُـبُـورَا

فلـقــد لاقَـــى بــه بَــا

 

بَكُ يومـاً قَـــمْـطَـرِيرَا

ذاك مولاك الذي ألْفَيْتَهُ جَلْداً صَبُـورَا

 

 

لك حَتى ضَرَجَ السيْف له خداً نَضِيرَا

 

 

ضَرْبَةً ألقت عَلَى الدَّهْرِ له في الوَجه نُورَا

 

 

وتوج الأفشين بتاج من الذهب مرصع بالجوهر، وإكليل ليس فيه من الجوهر إلا الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر قد شبك بالذهب، وألبس وشاحين، وزوج المعتصم الحسن بن الأفشين بأترجة بنت أشناس، وزفت إليه، وأقيم لها عُرْسٌ يجاوز المقدار في البهاء والجمال، وكانت توصف بالجمال والكمال، ولما كان من ليلة الزفاف ما عم سروره خواصَ الناس وكثيراً من عوامهم، قال المعتصم أبياتاً يصف حسنهما وجمالهما واجتماعهما، وهي:

زفت عَرُوسٌ إلى عَرُوس

 

بنـت رئيس إلـى رئيس

أيهما كان ليت شـعـري

 

أجَلَّ في الصدر والنفوس

أصاحب المُرْ هذه المحلى

 

أم ذو الوشاحين وَالشّمُوس

غزو الروم زبطرة

وفي هذه السنة- وهي سنة ثلاث وعشرين ومائتين- خرج توفيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغر والصقالبة، وغيرهم ممن جاورهم من ملوك الأُمم، حتى نزل على مدينة زِبَطْرَةَ من الثغر الخزري، فافتتحها بالسيف، وقتل الصغير والكبير وسبى وأغار على بلاد ملطية، فضج الناس في الأمصار، واستغاثوا في المساجد والديار، فدخل إبراهيم بن المهدي على المعتصم، فأنشده قائماً قصيدةً طويلةً يذكر فيها ما نزل بمن وصفنا ويحضه على الانتصار ويحثه على الجهاد، فمنها:

يا غارة اللّه قد عاينت فانتهكي

 

هتك النِّسَاء وما منهن يرتكـب

هَبِ الرجال على أجرامها قتلت

 

ما بال أطفالها بالذبح تنتـهـب

هزيمة الروم

وإبراهيم بن المهدي أول من قال في شعره يَا غَارَةَ اللَّه.

فخرج المعتصم من فَوْرِه نافراً عليه دُرَّاعَةٌ من الصوف بيضاء، وقد تعمم بعمامة الغُزَاة، فعسكر في غربي دجلة، وذلك يوم الاثنين، لليلتين خَلَتَا من جمادى الأولى من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ونصبت الأعلام على الجسر، ونوعي في الأمصار بالنفير والسير مع أمير المؤمنين، فسارت إليه العساكر والمطوعة من سائر الإِسلام، وجعل على مقدمته أشناس التركي، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ التركي، وعلى ميسرته جعفر بن دينار الخياط وعلى سَاقَتِهِ بُغَا الكبير ويتلوه دينار بن عبد اللّه وعلى القلب عجيف، وسار المعتصم من الثغور الشامية، ودخل من درب السلامة، ودخل الأفْشِينُ من درب الحدث، ودخل الناس من سائر الدروب، فلم يكن يحصي الناس العدد، ولا يضبطون كثرة، فمن مكثر ومقلل؛ فالمكثر يقول: خمسمائة ألف، والمقل يقول: مائتي ألف؛ ولقي ملك الروم الأفْشِين، فحاربه فهزمه الأفْشين، وقتل أكثر بطارقته وأصحابه، وحَمَاهُ رجل من المتنصرة يقال له نصير في خلق من أصحابه، وقد كان الأفشين قصر عن أخذ الملك في ذلك اليوم حين ولّي، وقال: هو ملك، والملوك تُبْقِي بعضاً على بعض، وفتح المعتصم حصوناً كثيرة، ونزل على مدينة عمورية، ففتحها اللّه على يديه، وخرج إليه لاوي البطريق منها، وَسَلَّمَهَا إليه، وأسر البطريق الكبير منها، وهو باطس، وقتل منها ثلاثين ألفاً، وأقام المعتصم عليها أربعة أيام يهدم ويحرق، وأراد المسير إلى القسطنطينية، والنزول على خليجها، والحيلة في فتحها بَرّاً وبحراً، فأتاه ما أزعجه وأزاله عما كان عزم عليه من أمر العباس بن المأمون، وأن ناساً قد بايعوه، وأنه كاتب طاغية الروم، فأعجل المعتصم في مسيره وحبس العباس وشيعته.

وفي هذه السنة مات العباس بن المأمون.

خروج المازيار صاحب طبرستان وموته

وفي سنة خمس وعشرين ومائتين أدخل بن قارن بن بندارهرمس صاحب جبال طبرستان إلى سامرا وقد كان أصطنعه المأمون، فعصى في أيام المعتصم، وكثرت عساكره، واتسعت جيوشه، وكتب المعتصم إليه يأمره بالحضور، فأبى، فكتب المعتصم إلى عبد اللّه بن طاهر يأمره بحربه، فسير إليه من نيسابور عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، فنزل مدينة السارية من بلاد طبرستان، بعد حروب كثيرة كانت له مع المازيار، وأتت الحسن بن الحسين عيونُه بركوب محمد بن قارن- وهو المازيار- إلى الصيد في نفر يسير، فبادره الحسن وناوشه الحرب، فأسر وحمل إلى سامرا فأقر على الأفشين: أنه بعثه على الخروج والعصيان، لمذهبٍ كانوا اجتمعوا عليه، وَدِينٍ اتفقوا عليه من مذاهب الثنوية والمجوس، وقبض على الأفشين قبل قدوم المازيار بسامرا بيوم، وأقر عليه كاتب له يقال له: سابور، فضرب المازيار بسوط حتى مات، بعد أن شهر وصلب إلى جانب بابك، وقد كان المازيار رَغَبَ المعتصم في أموال كثيرة يحملها إليه إن هو مَنَّ عليه بالبقاء، فأبى قبول ذلك، وتمثل:

إنَّ الأسود أسود الغيل همـتـهـا

 

يوم الكريهة لي المَسْلُوب لا السلب

ومالت خشبة مازيار إلى خشبة بابك، فتدانت أجسامهما، وقد كان صلب في ذلك الموضع باطس بَطْرِيق عمورية، وقد انحنت نحوهما خشبته، ففي ذلك يقول أبو تمام حبيب بن أوس من كلمة له:

ولقد شفَى الأحشاء من بُرَحَائِهَا

 

إذ صار بَاَبَكُ جَـارَ مَـازِيارِ

ثانيه في كَبِدِ السماء ولم يكـن

 

لاثنين ثَانٍ إذ هُمَا في الغـار

فَكأنَمَا انْحَنَيَا لكيمـا يَطْـوِيَا

 

عن باطس خبراً من الأخْبَارِ

ومات الأفشين في الحبس بعد أن جمع بينه وبين مازيار، فأقر عليه، وأخرج الأفشين ميتاً، فصلب بباب العامة، وأحضرت أصنام زعموا أنها كانت حملت إليه، فألقيت عليه، وأضرمت النار، فأتَتْ على الجميع.

موت أبي دلف العجلي

وفي سنة ست وعشرين ومائتين مات أبو دُلَفَ القاسم بن عيسى العجلي، وكان سيد أهله، ورئيس عشريته، من عجل وغيرها من ربيعة، وكان شاعراً مجيداً، وشجاعاً بطلاً، مغنياً مصيباً، وهو القائل:

يوماً تراني عَلَى طِـمِـرٍّ

 

أجَلَّ في الصدر والنفوس

ويوم لهو أحـثّ كـاسـا

 

وخلف أذني قضيب آس

وذكر أن أبا دُلَفَ طعن فارساً، فنفذت الطعنة إلى أن وصل السنان إلى فارس أخر كان من خلفه فقتلهما ففي ذلك يقول بكر بن النطاح من كلمة له:

قالوا: وينظم فارسَيْنِ بطعنة

 

يوم الهياج ولا نراه كلـيلا

لا تعجبوا فَلَوَ أنَّ طول قنالَه

 

ميل إذا نَظَمَ الفوارس ميلا

وذكر عيسى بن أبي دُلَف أن أخاه دُلَفَ- وبه كان يكنى أبوه أبا دُلَفَ- كان ينتقص علي بن أبيِ طالب، ويضع منه ومن شيعته، وبنسبهمِ إلى الجهل، وأنه قال يوماً- وهو في مجلس أبيه، ولم يكن أبوه حاضراَ-: إنهم يزعمون أن لا ينتقص عليّاً أحد إلا كان لغير رشدةٍ، وأنتم تعلمون غيرة الأمير، يعني أباه، وأنه لا يتهيأ الطعن على أحد من حرمه، وأنا أبغض عليّاً، قال: فما كان بأوْشَكَ من أن خرج أبو دُلَفَ، فلما رأيناه قُمْنَا له، فقال: قد سمعت ما قاله دُلَفُ، والحديث لا يكذب، والخبر الوارد في هذا المعنى لا يختلف، هو وَاللَّهِ لزَنْيَةٍ وَحَيْضَة، وذلك أني كنت عليلاً فبعثت إلَيَّ أختي جاريةً لها، كنت بها معجباً، فلم أتمالك أن وقعت عليها وكانت حائضاً فعلقت به، فلما ظهر حَمْلها وَهَبتها لي.

عداوة أبي دلف وابنه

فبلغ من عداوة دُلف هذا لأبيه ونصبه ومخالفته له لأن الغالب على أبيه التشيع والميل إلى علي أن شنع عليه بعد وفاته، وهو ما حدث به حمد بن علس القُوهِسْتَانِي قال: حدثنا دُلَفُ بن أبي دلف، قال: رأيت في المَنَام آتياً أتاني بعد موت أبي، فقال لي: أجبِ الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وَحْشَة وَعْرَة، وأصعدني على درج منها، ثم أدخلني غرفة في حيطانها أثر النار، وفي أرضها أثر الرماد، وإذا به عُريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال كالمستفهم: دُلف. قلت: دُلف، فأنشأ يقول:

فلو أنا إذا مُتْنَـا تُـرِكْـنَـا

 

لكان الموت رَاحَة كل حَيِّ

ولكِنَّا إذا متْنَـا بُـعِـثْـنـا

 

وَنسْأَل بعده عَنْ كل شـي

ثم قال: أفهمت؟ قلت: نعم، وانتبهت.

موت جماعة من العلماء

وفي خلافة المعتصم- وذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين- مات جماعه من نقلَة الأخبار وعِلْيَة أصحاب الحديث: منهم عمرو بن مرزوق الباهليّ البصريّ، وأبو النعمان حازم بن الفضل السدوسي، وأبو أيوب سليمان بن حرب الواشجي البصري من الأزد، وسعيد بن الحكم بن أبي مريم البصري، وأحمد بن عبد اللّه الغُدَاني، وسليمان الشاذ كوني، وعلي المدني.

وفي سنة سبع وعشرين ومائتين مات بِشْرٌ الْحَافِي ببغداد، وكان من بلاد مَرْوَ، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطياليسي بالبصرة، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وعبد اللهّ بن الوهاب الجمحي، وإبراهيم بن يسار الرَّمَادِي، وقيل: إن فيها كانت وفاة محمد بن كثير العبدي، والصحيح أن وفاته كانت في سنة ثلاث وعشرين ومائتين.

قال المسعودي: وفي سنة سبع وعشرين ومائتين كانت وفاة المعتصم، على دجلة في قصره المعروف بالخاقاني، يوم الخميس لثماني عشرة ليلة بَقِيَت من شهر ربيع الأول، وقيل: لساعَتين من ليلة الخميس: وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وقل: ست وأربعين سنة، على ما قَدَّمنا في صدر هذا الباب، وكان مولده بالخلد ببغداد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن من السنة، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، ومات عن ثمانية بنين، وثمان بنات. وللمعتصم أخبار حسان، وما كان من أمره في فتح عَمُورِيَّةَ، وما كان من حُرُوبه قبل الخلافة في السفارة نحو الشام ومصر، وغير ذلك، وما كان منه بعد الخلافة، وما حَكَى عنه من حُسْن السيرة واستقامة الطريقة أحمدُ بن أبي دُؤَاد القاضي، ويعقوب بن إسحاق الكندي، في لمع أوْرَدَها في رسالته المترجمة بسبيل الفضائل، وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا في أخبار الزمان والكتاب الأوسط، وقد ذكرنا في هذا لمعاً مُنَبِّهَة على ما سلف، وباعثة على دَرْس ما تقدم.

ذكر خلافة الواثق باللّه

وبويع هارونُ بنُ محمدِ بن هارونَ الواثقُ باللهّ، ويكنى بأبي جعفر، وأُمه أُمًّ ولد رومية، وتسمى قَرَاطِيسَ، وذلك في اليوم الذي كانت فيه وفاة المعتصم، وهو يوم الخميس لثماني عشرة ليلة خَلَتْ من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وبُويع وهو ابن إحدى وثلاثين سنة وتسعة أشهر وتوفي بسامرا وهو ابن سبع وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وقيل: إنه توفي في يوم الأربعاء لست بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، ووزيره محمد بن عبد الملك، على حسب ما قدَّمنا في أيام المعتصم من هذا الكتاب، والتواريخ متباينة في مقادير أعمارهِم وأيامهم في الزيادة والنقصان.

ذكر لمع من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

صفات الواثق

كان الواثق كثير الأكل والشرب، واسع المعروف، متعطفاً على أهل بيته، متفقداً لرعيته، وسلك في المذهب مذهب أبيه وعمه من القول بالعدل.

وغلب عليه أحمد بن أبي دُؤَاد، ومحمد بن عبد الملك الزيات، فكان لا يَصْدُر إلا عن رأيهما، ولا يعتب عليهما فيما رَأيَاه، وقلدهما الأمر وفوّض إليهما ملكه.

أعرابي يصف الواثق وأعوانه

وذكر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الجاسمي، نسبة إلى جاسم- وهي قرية من أعمال دمشق بين بلاد الأردن ودمشق بموضع يعرف بالجولان، ويعرف بجاسم على أميال من الجابية وبلاد نوى، وهي من مراعي أيوب عليه السلام- قال: خرجت في أول أيام الواثق إلى سُر من رأى، فلما قربت منها لقيني أعرابي، فأردت أن أعلم خبر العسكر منه، فقلت: يا أعرابي، ممن أنت؟ قال: من بني عامر، فقلت: وكِيف علمك بعسكر أمير المؤمنين قال: قَتَلَ أرضاً عالمها، قلت: ما تقول في أمير المؤمنين؟ قال: وَثقَ بالله فكفاه، أشْجَى العاصية، وَقَصَم العادية، وعدل في الرعية، ورغب عن كل في جناية، قلت: فما تقول في أحمد بن أبي دُؤَاد؟ قال: هَضَبَة لا ترَام، وجبل لا يضام، تشحذ له المدى، وتنصب له الحبائل، حتى إذا قيل قد هلك وثب وَثْبَة الذئب، وَخَتَل خَتْلَة الضب، قلت: فما تقول في محمد بن عبد الملك الزيات؟ قال: وسع الداني شره، ووصل إلى البعيد ضره، له في كل يوم صريع لا يرى فيه أثر نَابِ ولا مِخْلَب، قلت: فما تقول في عمرو بن فرج؟ قال: ضخم نهم، استَعذب الدم، ينصبه القوم تُرْساً للوغى، قلت: فما تقول في الفضل بن مروان؟ قال: رجل نُبِشَ بعد ما قبر، ليس تعدُّ له حياة في الأحياء، وعليه خَفْتة الموتى، قلت: فما تقول في أبي الوزير؟ قال: تخاله كبش الزنادقة، أما تراه إذا أخمله الخليفة سَمِن وَرَتَع، وإذا هزه أمطر فأمْرَعَ، قلت: فما تقول في أحمد بن الخصيب؟ قال: ذاك أكل أكلة نهم، لزرق زرقة بشم، قلت: فما تقول في إبراهيم أخيه؟ قال: أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّانَ يبعثون، قلت: فما تقول في أحمد بن إبراهيم. قال: للّه دره! أي فاعل هو؟ وأي صابر هو؟ اتخذ الصبر دِثَاراً، والجود شعاراً، وأهون عليه بهم، قلت: فما تقول في المُعَلى بن أيوب؟ قال: ذاك رجل خير، نصيح السلطان، عفيف اللسان، سلم من القوم وسلموا منه، قلت: فما تقول في إبراهيم بن رَبَاح؟ قال: ذاك رجل أوثقه كرمه، وأسلمه فَضْله، وله دعاء لا يسلمه، صرب لا يخله، وفوقه خليفة لا يظلمه، قلت: فما تقول في الحسن ابنه؟ قال: ذاك عود نُضَار، غُرِس في منابت الكرم، حتى إذا اهتز حصدوه، قلت: فما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: للّه دره!! أي طالب وِتر، ومدرك ثأر؟ يلتهب كأنه شعلة نار، له من الخليفة في الأحيان جلسة تزيل نعماً، وتُحِلُّ نقماً، قلت: يا أعرابي، أين منزلك حتى آتيك؟ قال: اللهم غَفْراً مالي منزل، أنا أشتمل النهار، وألتحف الليل، فحيثما أدركني الرقاد رقَدْت، قلت: فكيف رضاك عن أهل العسكر. قال: لا أخلق وجهي بمسألتهم، إن أعطوني لم أحمدهم، وإن منعوني لم أفهم، وإني كما قال هذا الغلام الطائي:

وما أبالي وَخَيْرُ القـول أصْـدَقُـه

 

حَقَنْتَ لي ماء وجهي أو حقنت دمي

قلت: فأنا قائل هذا الشعر، قال: أئنك أنت الطائي؟ قلت: نعم، قال: للّه أبوك، وأنت القائل:

ماجُودُ كَفِّكَ إن جادت وإن بخلـت

 

من ماء وجهي وقد أخلقته عِوَضُ

قلت: نعم، قال: أنت أشعر أهل زمانك.

وفي رواية أُخرى ليست في الكتاب: قلت: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشدني:

أقول وجنح الدجا مُلْـبَـدُ

 

وللّيّل في كـلِّ فَـجٍّ يَدُ

ونحن ضجيعان فيِ مُجْسَد

 

فاللَّه ما ضمِّنَ المجسَـدُ

فيا غَدُ إن كنْت بي مُحْسِناً

 

فلا تَدْنُ من ليلتي يا غَدُ

ويا ليلة الوصل لا تنفدي

 

كما ليلة الهجر لا تنفـدُ

فقلت: لله أبوك!! ورددته معي حتى لقيت ابن أبي عُوَادٍ وحدثته بخبره، فأوصله إلى الواثق، فأمر له بألف دينار، وأخذ له من سائر الكتَّاب وأهل الدولة ما أغناه به، وأغنى عقبه بعده.

وهذا الخبر فمخرجه عن أبي تمام، فإن كان صادقاً فيما قال، ولا أراه، فقد أحسن الأعرابي في الوصف، وإن كان أبو تمام هو الذي صنعه وَعَزَاه إلى هذا الأعرابي فقد قَصَر في نظمه، إذ كانت منزلته أكبر من هذا.

أبو تمام الطائي

وكانت وفاة أبي تمام بالموصل سنة ثمان وعشرين ومائتين، وكان خليعاً ماجناً فيِ بعض أحواله، وربما أداه ذلك إلى ترك موجبات فرضه، تماجناً لا إعتقاداً. وحدث محمد بن يزيد المبرد، عنِ الحسن بن رجاء، قال: صار إليَ أبو تمام وأنا بفارس، فأقام عندي مقاماً طويلاً، ونمي إليَّ من غير وجه أنه لا يصلي، فوكلت به مَنْ يراعيه، ويتفقده في أوقات الصلاة، فوجدت الأمر على ما اتصل بي عنه، فعاتبته على فعله ذلك، فكان من جوابه أن قال: أتراني أنشط للشخوص إليك من مدينه السلام وأتجشم هذه الطرقاتْ الشاقة، وأكسل عن ركعات لا مئونة عليَّ فيها، لو كنت أعلم أن لمن صلاها ثواباً أو على مَنْ تركها عقاباً، قال: فهممت واللّه بقتله، ثم تخوَّفْتُ أن يصرف الأمر إلى غير جهته، وهو القائل:

وأحق الأنَام أن يَقْضِيَ الدَّيْنَ

 

امْرُؤ كَانَ لِلإِله غَـرِيمَـاً

وهذا قول مباين لهذا الفعل، والناس في أبي تمام في طرفَيْ نقيض: متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ويتجاوز به في الوصف قدره، ويرى أن شعره فوق كل شعر، أو منحرف له معاند، فهو ينفي عنه حسنه، ويعيب مختاره، ويستقبح المعاني الظريفة التي سَبَقَ إليِها وتفرد بها.وذكر عبد اللّه بن الحسن بن سعد، أن المبرد قال: كنت في مجلس القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، وحضر جماعة سَمَّاهم منهم لحارثي الذي قال فيه علي بن الجهم الشامي:

لم يَطْلـعـا إلا لآبـدة

 

الحارثِيُّ وَكَوْكَب الذنب

فجرى ذلك الشعر وإن كان الكلام تسلسل إلى ذكر أبي تمام وشعره، وأن الحارثي أنشد لأبي تمام معاتبة أحسن فيها، وأن المبرد استحيا أن يستعيد الحارثي الشعر، أو يكتبه منه لأجل القاضي، قال ابن سعد: فأعلمت المبرد أني أحفظ الشعر، فأنشدته إياه، فاستحسنه واستعاده مني مراراً حتى حفظه مني، وهو:

جعلت فداك! عبد اللَّه عنـدي

 

بعقب النأي عنه والـبـعـاد

له لُمَة من الفـتـيان بـيض

 

قَضَوْا حق الصداقة والـوداد

دعوتهُم عليك وَكُنْتُ ممن أنَادِيه

 

علـى الـنّـوَبِ الـشــداد

قال: وسألته عن أبي تمام والبحتري أيهما أشعر؟ قال: لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعان ظريفة، وجيدة أجود من شعر البحتري، ومن شعر مَنْ تَقَدَّمه من المحدَثِينَ، وشعر البحتري أحسن استواء من شعر أبي تمام، لأن البحتري يقول القصيدة كلها، فتكون سليمة من طعن طاعن أو عيب عائب، وأبو تمام يقول البيت النادر ويتبعه البيت السخيف، وما أشبهه إلا بغائص البحر يخرج الحرة والمَخْشلبة فيجعلهما في نظام واحد، وإنما يؤتي هو وكثير من الشعراء من البخل بأشعارهم، وإلا فلو أسقط من شعره على كثرة عدده ما أنكر منه لكان أشعر نظرائه، فدعاني هذا القول منه إلى أن قرأت عليه شعر أبي تمام، وأسقطت خواطئه وكل ما ذُمَّ من شعره، وأفردت جيده، فوجدت ما يتمثل به ويجري على ألسنة العامة وكثير من الخاصة مائة وخمسين بيتاً، ولا أعرف شاعراً جاهليّاً ولا إسلاميّاً يتمثل له بهذا المقدار من الشعر، ثم قال المبرد: وبالبحتري يُخْتَمُ الشعر، وأنشدني له بيتين زعم المبرد أنهما لو أضيفا إلى شعر زهير لجازا فيه، وهما:

وما سَفَهُ السفيه وإن تَعَدَى

 

بأنْجَعَ فيك من حلم الحلـيم

متى أحْفَظْتَ ذا كرمٍ تَخَطّى

 

إليك ببعض أفعال اللـئيم

قال: وكان مما ذكرناه من شعر البحتري في هذا المجلس وَقدمّه محمد بن يزيد على نظرائه قولُه في أبني صاعد بن مخلد:

وإذا رأيت مخايل ابْنَيْ صَاعِدٍ

 

أدَتْ إليك مخايل ابني مَخْلَـدِ

كالفرقدين إذا تأمـل نـاظـر

 

لم يَعْلُ موضع فرقد من فرقد

وقوله:

مَنْ شاكِرٌ عني الْخَلِيفَةَ لِلـذِي

 

أولاهُ مِنْ بِرٍّ وَمِنْ إحـسـان؟

حتى لقد أفْضَلْتُ من إفْضَالِـه

 

وأريت نهج الجود حيث أراني

أغْنَتْ يداه يدي، وَشَـر جـوده

 

بخلي فأفقرني كما أغنـانـي

ووثقت بالخلق الجميل معجـلا

 

منه وأعطيت الذي أعطانـي

وقوله:

وددتُ بياضُ السيفِ يوم لقيتننـي

 

مكان بياض الشيب كان بمفرقي

وقوله:

دنوتَ تواضعاً وعلوت قدراً

 

فَشأنَاكَ انحدار وارتـفـاع

كذاك الشمس تَبْعُدُ أن تًسَامى

 

ويدنو الضوء منها والشعاع

وقوله في الفتح بن خاقان، وقد نزل إلى أسَد فقتله:  

حملت عليه السيف، لا عَزْمُكَ انثنى

 

ولا يَدُكَ ارتدَّتْ، ولا حَـدُّه نَـبَـا

فأحجم لما لم يجد فيك مطـمـعـاً

 

وصَمَّم لما لم يجد منك مـهـربـا

وكنت متى تجمع يمينك والـعـلا

 

لدى ضيْغَم لم تبق للسيف مضربـا

وقوله:

ما زال صرف الدهر يؤيس صَفْقتِي

 

حتى رَهَنْتُ على المشيب شَبَابِـي

وقوله في المنتصر:

وإن علـيّاً لأوْلـى بـكـم

 

وأزكى بداً عندكم من عمر

وكلٌّ له فَضْلُه والحـجـو

 

لُ البراذين دون الـغُـرَرْ

وقوله:

تعيب الغانيات عليَّ شيبي

 

ومن لي أن أمَتَّعُ بالمشيب

ثم ذكر انتقاض الصلح بين عشيرته فقال:

إذا ما الجرح زمَّ على فساد

 

تبيَّنَ فيه تفريطُ الطبـيبِ

وقوله:

وللسهْمُ الشـريد أخَـفُّ عِـبْـئاً

 

على الرامي من السهم المصيب

وقوله:

وما منع الفَتْحُ بن خاقـان نـيلَـهُ

 

ولكنها الأيام تُعْطِـي وتـحـرم

سحاب خَطَابِي جوعه وهو مُسْبِلِ

 

وبحر عَدَانِي فيضه وهو مُفْعـمُ

وبحر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً

 

ومَوْضِعُ رُجلي منه أسور مظلم

أأشكو نداهُ بعد أن وَسِـعَ الـورى

 

ومن ذا يذم الغيث إلا مـذمـم؟

وذكر محمد بن أبي الأزهر قال: كان إبراهيم بن المدبر- مع محلِّهِ في العلم والأدب والمعرفة- يُسيء الرأي في أبي تمام، ويحلف أنه لا يحسن شيئاً قط، فقلت له يوماً: ما تقول في قول مَنْ يقول:

غدا الـشـيب بـفَـوْدَيَّ خـطة

 

سبيل الردى منها إلى النفس مَهْيَعُ

هو الزور يجفو والمعاشر يجتوي

 

وَذو الِإلف يُقْلَى والجـديد يرقّـعُ

له منظر في العين أبيض ناصـع

 

ولكنه في القلب أسْـي أسْـفَـعُ

ونحن نرجِّيه على الكره والرضـا

 

وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع

وفيمن يقول:

فإن ترم عن عمرو تداعى به المدى

 

فخانَكَ حتى لم تَجِدْ فيه متـرعـا

فما كنت إلا السيف لاقَى ضـريبة

 

فقَطعها ثم انثنى فـتـقـطـعـا

وفيمن يقول:

شرف على أول الزمان وإنما ال

 

شرف المناسب ما يكون كريما

وفيمن يقول:

إذا أحسن الأقوام أن يَتَطَاولوا

 

بلا نعمة أحْسَنْتَ أن تتطَوَّلاَ

وفيمن يقول:

ممطر لي الحياة والمال لا

 

ألقاك إلا مستوهباً أو وَهُوبَا

وإذا ما أردت كنت رِشاءَ

 

وإذا ما أردت كنـت قَليبـا

وفي القائل:

خشعوا لصولتك التي عًوّدْتهـم

 

كالموت يأتي ليس فيه عثـار

فالمشي همس والنداء إشـارة

 

خوف انتقامك والحديث سِرَارُ

أيامنا معقـودة أطـرافُـهَـا

 

بك، والليالي كُلَّهَا أسـحـار

تَنْدى عُفَاتك للعُفَاة ويغـتـدى

 

رفقاً إلـى زوارك الـزوار

وفيمن يقول:

إذا أوْهَدْت أرضاً كان فيها

 

رضاك فلا نحنُّ إلى رُبَاهَا

قال ابن أبي الأزهر: فواللّه لكأني أغريت ابن المدبر بأبي تمام، حتى سَبَّه ولعنه، فقلت: إذا فعلت ذلك لقد حدثني المعروف بأبي عمرو بن الحسن الطوسي الراوية أن أباه وَجَّه به إلى ابن الأعَرابي يقرأ عليه أشعار هُذَيْل، قال: فمرت بنا أراجيز، فأنشدته أرجوزة لأبي تمام، لم أنسبْهَا إليه، وهي:

وعاذِلٍ عذلتـه فـي عـذلـه

 

فظن أني جاهل من جهـلـه

ما غبن المغبون مثل عقـلـه

 

مَنْ لك يوماً بأخـيك كـلـه

لبست رَيْعَانِي فدعنـي أبْـلـهِ

 

ومَلكٍ في كبـره ونـبـلـه

وسوقة في قولـه وفـعـلـه

 

بذلْتُ مدحي فيه باغي بذلـه

فجزَّ حبل أملي من وصـلـه

 

من بعدما استعبدني بمَطْـلِـهِ

ثم اغتدى معتذراً بجهله ذا عَنَقٍ

 

في الـجـهـل لـم يخـلِّـه

يَلْحَظُنِي في جـده وَهَـزْلـه

 

يعجب من تعجبي من بخلـه

لحظ الأسير حلقات كَبْلـهِ

 

حتى كأني جئته بعـذلـه

يا واحداً منفرداً بـعـدلـه

 

أكسبتُكَ المالَ فلا تمـلّـه

ما يصنع الغِمْدُ بغير نصله

 

والمدح إن لم يك عند أهله

فقال لابنه: أكتبها، فكتبها على ظهر كتاب من كتبه، فقال له: جعلت فداك! إنها لأبي تمام، فقال: خرق خرق.
وهذا من ابن المدبر قبيح مع علمه، لأن الواجب أن لا يُدْفَعَ إحسان محسن عدُوّاً كان أو صديقاً، وأن تؤخذ الفائدة من الوضيع والرفيع، فقد روي عن أمير المؤمنين على أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن؛ فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك. وقد ذكر عن بزرجمهر بن البختكان- وكان من حكماء الفرس، وقد قدمنا ذكره فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار ملوك ساسان وهم الفرس الثانية. أنه قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه، حتى من الكلب والهرة والخنزير والغراب، قيل له: ما أخذت من الكلب؟ قال: إلْفَهُ لأهله، وذَبَّه عن صاحبه، قيل: فما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره، قيل: فمن الخنزير؟ قال: بكوره في حوائجه، قيل: فمن الهرة؟ قال: حسن نغمتها وتملّقَها لأهلها عند المسألة.

ومَنْ عاب مثلَ هذه الأشعار التي ترتاح لها القلوب، وتُحَرِّك بها النفوس، وتصغي إليها الأسماع، وتشحذ بها الأذهان، ويعلم كل من له قريحة وفضل ومعرفة أن قائلها قد يبلغ في الِإجادة أبعد غاية وأقصى نهاية، فإنما غَضَّ من نفسه، وطعن على معرفته واختياره.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الهوى إلهٌ معبود، واحتج بقوله تعالى: "أْفَرَأَيْتَ مَنِ اْتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ".

ولأبي تمام أشعار حسان، ومعانٍ لطافٌ، واستخراجات بديعة.

وحكي عن بعض العلماء بالشعر أنه سئل عن أبي تمام، فقال: كأنه جمع شعر العالم، فانتخب جوهره، وقد كان أبو تمام ألّفِ كتاباً وسَمَّاه: الحماسة وفي الناس من يسميه كتاب الخبية انتخب فيه شعر الناس ظهر بعد وفاته.

وقد صنف أبو بكر الصولي كتاباً جمع فيه أخبار أبي تمام وشعره وتصرفه في أنواع علومه ومذاهبه، واستدل الصولي على ما وصف عن أبي تمام بما يوجد من شعره، من ذلك قوله في صفة الخمر:

جَهْمية الأوصاف، إلا أنهم

 

قد لَقّبوها جوهر الأشياء

وقد رثته الشعراء بعد وفاته، والأدباء من إخوانه: منهم الحسن بن وهب الكاتب، وكان شاعراً ظريفاً له حظّ في المنثور والمنظوم، فقال:

سقى بـالـمـوصِـل الـجَـدَثَ الـغـريبا

 

سحـائِبُ ينـتـحـبـن لـه نــحـــيبـا

إذا أطـلـلـنـه أطـــلـلـن فـــيه

 

شعـيب الـمـزن يتـبـعـهـا شـعـيبـــا

ولَـطـمـت الــبـــروقُ لـه خــدودا

 

وشَـقّـقـت الـوعـودُ لـــه جـيوبـــاً

فإنَّ تـراب ذاك الـــقـــبـــر يحـوي

 

حبـيبـا كـان يدعـى لـي حــبــيبـــا

لبـيبـاً شـاعـراً فـــطـــنـــاً أديباً

 

أصـيل الـرأي فـي الْـجُــلّـــى أريــا

إذا شـــاهَـــدتْـــه رواك فـــيمـا

 

يســـرك رقة مـــنـــه وطـــيبــا

أبــا تـــمـــام الـــطـــائِيّ، إنَّا

 

لقـينـا بـعـدك الـعـجـب الـعـجــيبـا

فقـدْنَـا مـنـك عـلـقـــا لا تـــرانـــا

 

نصـيب لـه مـدى الـدنــيا ضـــريبـــا

وكـنـت أخـاً لـنـا أبْـلَـــى إلـــينـــا

 

ضمـيرَ الـود والـنـسـب الــقـــريبـــا

فلـمـا بِـنْـتَ كــدرت الـــلـــيالـــي

 

قريب الـدار والأقـصـى الــغـــريبـــا

وأبـدى الـدهـر أقـبـح صَـفْـحَـــتـــيه

 

ووجـهـا كــالـــحـــا قـــطـــرياً

فأحْر بأن يطيب الموت فيه

 

وأحر بعيشنا أن لا يطيبا

وللحسن أشعار حسان ومعان جياد؛ منها قوله:

أبـت مـقـلـتـاك لـفـرط الـــحَـــزَنْ

 

علـيك الـرُّقَـادَ وبـــرد الـــوَسَـــنْ

وحـق لـعـينــي أن لا تـــنـــامـــا

 

وقـلـبـك مـخـتـلـس مـرتـــهـــن

وبــين الـــجـــوانـــح داء دفـــين

 

لعـمـرك مـسـتـتـر قـد كَـــمَـــنْ

نجـيّ الـهـمـوم وقـرن الـكـــلـــوم

 

ووهـي الـحـلـوم وبـعـد الــوطَـــنْ

شديد الـنـفـار، كـثـير الــعـــثـــار

 

خلـيع الـعـذار يجـــرُّ الـــرسَـــنْ

أفـي كـل يوم تُـطِـــيلُ الـــوقـــوف

 

تنـاجـي الـديار وتـبـكـي الــدِّمَـــنْ؟

وتـسـتـخـير الـدار عـن أهـلـــهـــا

 

وَتُـذْرِي الـدمـوع عـلـى مـن ظَـعَـــنْ

كأنك لم تر فيما مضى

 

من الدهر ذا صَبوَة مفتتن

عذرتك أيام شَرْخ الشـبـاب

 

وفرعك فرع نضير الغُصَنْ

 

فأما وقد زال ظل الـشَّـبَـا

 

بِ عنك وَوَلّى كأنْ لم يكـن

 

وألبسك الشيب بعد الشَبَـاب

 

قناعِ بياض كلون القُـطُـنْ

 

وصرت قَنًى في عيون الحساَ

 

نِ يَخُنكَ عهداً وإن لم تَخَـنْ

 

وَيَصْدِفْنَ عنك إذا رمتـهـنَّ

 

وَكُنْتَ لهم زَمَانـاً سـكـن

 

فما لك عُذْر وأنـت امْـرؤٌ

 

بما فيه رشدك طَبٌّ فطـن

 

           

وفي خلافة الواثق مات عليّ بن الْجَعْد مولى بني مخزوم، وكان من عليّة أصحاب الحديث وأهل النقل، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين.

وفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين قَتَلَ الواثِقُ أحمد بن نصر الخزاعي في المحنة على القرآن.

قال المسعودي: وكان يحضر مجلس الواثق فتى برسم الندماء وكان يقوم قائماً لصغر سنه، ولم يكن لذلك يُلْحَقُ في الجلوس بمراتب ذوي الأسنان وكان ذكيّاً مأفوناً له في الِإفاضة مع الجلساء في كل ما يعرض لهم الكلام فيه، والتكلم بما يسنح ويختلج في صدره: من مثل سائر، وبيت شاعر، وحديث ممتع، وجواب مُسْرع، قال: وكان الواثق من شدة الشهوة للطعام والنهمة فيه على الحالة المشهورة المتعالمة، فقال لهم الواثق يوماً: ما تختارون من النَقْل؟ فبعض، قال: نبات السكر، وبعض قال: رمان، وبعض قال: تفاح، وبعض قال: قصب السكر ينضج بماء الورد، وبعض أخرجته الفلسفة إلى النقيض، فمال: ملح يغلي، وبعض قال: صبر يمحى بمذاب النبيذ، ويجلى على سَوْرَة الشراب ومرارة النقل، قال: ما صنعتم شيئاً، ولكن ما تقول أنت يا غلام. قال: خشكنانج مسير، فوافق ذلك مراد الواثق وقرع به ما في نفسه، وقال: أصبت وأحسنت بارك اللّه لكم، وكان ذلك أول جلوسه.

محمد بن علي بن موسى

وقيل: إن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا عليهم الرضوان توفي في خلافة الواثق، وقد بلغ من السن ما قَدَّمناه في خلافة المعتصم من هذا الكتاب، وقيل: إنه كتب إلى الواثق: يا أمير المؤمنين! ليس من أحد وإن ساعَدَتْهُ المقادير بمستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه، ومَنْ ترك معاجلة الدرك انتظار مؤاجلة الأشياء سلبته الأيام فرصته، فإن شرط الزمان الآفات، وحكم الدهر السلب.

عبد اللّه بن طاهر: وفي سنة ثلاثين ومائتين- وذلك في خلافة الواثق- توفي أبو العباس عبد اللّه بن طاهر بن الحسين في ربيع الأول من هذه السنة، وفيه يقول الشاعر، وَقتَ كون عبد اللّه بن طاهر بمصر:

يقول أنَاس: إنَّ مصـر بـعـيدة

 

وما بعدت مصر وفيها ابنُ طاهِر

وأبعد من مصر رجال تَـرَاهُـمُ

 

بحضرتنا معروفُهُمْ غير حاضـر

عن الخير مَوْتَى، ما تبالي أزرتهم

 

على طمع أم زرت أهل المقابر

مجلس للواثق في الفلسفة والطب

وكان الواثق باللّه محباً للنظر، مكرماً لأهله، مبغضاً للتقليد وأهله، محباً للِإشراف على علوم الناس وآرائهم، ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشرعيين، فحضرهم ذات يوم جماعة من الفلاسفة والمتطببين، فجرى بحضرته أنواع من علومهم في الطبيعيات وما بعد ذلك من الِإلهيَّات، فقال لهم الواثق: قد أحببت أن أعلم كيفية إدراك معرفة الطب ومأخذ أصوله أذلك من الحس أم من القياس والسنة؟ أم يدرك بأوائل العقل؟ أم على ذلك وطريقه يعلم عندكم من جهة السمع، كما يذهب إليه جماعة من أهل الشريعة؟ وقد كان ابن بختيشوع وابن ماسويه وميخائيل فيمن حضر، وقيل: إن حنين بن إسحاق وسلمويه فيمن حضر في هذا المجلس أيضاً. فقال منهم قائل: زعم طوائف من الأطباء وكثير من متقدميهم أن الطريق الذي يدرك به الطب هو التجربة فقط، وحَدُّوه بأنه علم يتكرر الحس على محسوس واحد في أحوال متغايرة، فيوجد بالحس في آخر الأحوال كما يوجد في أولها، والحافظ لذلك هو المجرب، وزعموا أن التجربة ترجع إلى مَبَادٍ أربعة هن لها أوائل ومقدمات، وبها علمت وصحت، وإليها تنقسم التجربة، فصارت بذلك أجزاء لها، فزعموا أن قسماً من تلك الأقسام طبيعي، وهو ما تفعله الطبيعة في الصحيح والمريض: من الرعاف، والعرق، والِإسهال، والقيء التي تُعْقِبُ في المشاهدة منفعة أو ضرراً. وقسماً عرضياً، وهو ما يعرض للحيوان من الحوادث والنوازل، وذلك كما يعرض للِإنسان أن يجرح أو يسقط فيخرج منه دم قليل أو كثير، أو يشرب في مرضه أو صحته ماء بارداً أو شراباً، فيعقب في المشاهدة منفعة أو ضرراً، وقسماً إرادياً، وهو ما يقع من قبل النفس الناطقة، وذلك كمثل منام يراه الِإنسان،. وهو أن يرى كأنه عالج مريضاً به علة مشاهدة معقولة بشيء من الأشياء معروف فيبرأ ذلك المريض من مرضه، أو يخطر مثل ذلك بباله في حال فكره، فيتردد ويعطب ظنه بعطبه فيجربه بأن يفعله كما يرى في منامه، فيجده كما يرى أو يخالف ذلك، ويفعله مراراً، فيجده كذلك. وقسماً هو نقل، وهو على ثلاثة أقسام: إما أن ينقل الدواء الواحد من مرض إلى مرض يشبهه، وذلك كالنقلة من ورم الحمرة إلى المعروف بالنَّمْلَة، وإما من عضو إلى عضو يشبهه، وذلك كالنقلة من العضد إلى الفخد، وإما من دواء إلى دواء يشبهه، كالنقلة من السفرجل إلى الزعرور في علاج انطلاق البطن، وكل ذلك لا يعمل به عندهم إلا بالتجربة.

وذهبت طائفة أُخرى منهم إلى أن الحيلة في تقريب أمر صناعة الطب وتسهيلها أن تُرَدَّ أشخاص من العلل ومُوَلّداتها إلى الأصول الحاضرة الجامعة لها، إذ كان لا غاية لتولدها، وأن يستدل على الَدواء من نفس الطبيعة والمرض الحاضر الموجود في الحال والوقت، عون الأسباب المؤثرة الفاعلة التي عدمت، ودون الأزمان والأوقات والأسباب والعادات، ومعرفة طبائع الأعضاء وحدودها، والرصد والتحفظ لكل ما يكون في كل علّة وجدت أو لم توجد، وَبَرْهَنُوا بأن زعموا أن من المعلومات الظاهرة التي لا ريب فيها أن الضدين لا يجوز اجتماعهما في حال، وأن وجود أحدهما ينفي وجود الآخر في الحال لا محالة، قالوا: وليس هذا كشيء ظاهر يستدل به على كل شيء خفي، والشيء الظاهر يحتمل الوجود، فيختلف في الاِستدلال، فيكون القطع على ما يوجبه غير بين، وهذا قول جماعة من حذاق المتطببين وأهل التقدم في اليونانيين مثل نامونيس وساساليس وغيرهما، وهم قوم يعرفون بأصحاب الطب الجبلي. قال الواثق لهم جميعاً: فأخبروني عن جمهورهم الأعظم إلامِ يذهبون في ذلك. فقالوا: إلى القياس، قال: وكيف ذلك. قالوا جميعاَ: زعمت هذه الطائفة أن الطريق والقانون إلى معرفة الطب مأخوذ من مُقَدِّمات أوَّلَّية، فمنها طبائع الأبدان والأعضاء وأفعالها، ومنها معرفة الأبدان في الصحة والمرض، ومعرفة الأهْوِيَةِ واختلافها، والأعمال والصنائع، والعادات والأطعمة والأشربة والأسفار، ومعرفة قُوَى الأمراض، وقالوا: ثبت في الشاهد أن الحيوان يختلف في صورته وطباعه، وكذلك أعضاؤه مختلفة في طباعها وَصُوَرها، وأن الأجساد الحيوانية تتغير بالأهْوِيَة المحيطة بها وبالحركة والسكون والأغذية من المأكول والمشروب والنوم واليقظة واستفراغ ما يخرج من الجسد واحتباسه والأعراض النفسانية من الغم والحزن والغضب والهم، قالوا: والغرض بالطب في تدبير الأجسام حفظ الصحة الموجودة في البدن الصحيح، واجتلابها للعليل، فالواجب أن يكون حفظ الصحة إنما هو بمعرفة الأسباب المصححة، فالواجب على الطبيب لا محالة من هذه المقدمات التي قد صحت إذا أراد علاج المريض النظر في طبائع الأمراض والأبدان والأغذية والعادات والأزمان والأوقات الحاضرة والأسباب ليستدل بجميع ذلك، وهذا يا أمير المؤمنين قول أبقراط وجالينوس فيمن تقدم وتأخر عنهم، قالوا: وقد اختلفت هذه الطائفة في كثير من الأغذية والأدوية، مع اتفاقهم على ما وصفنا، وذلك لاختلافهم في كيفية الاستدلال؛ فمنهم من زعم أنه يستدل على طبيعة الشيء من الأغذية والأدوية بطعمه أو ريحه أو لونه أو قوامه أو فعله أو تأثيره في الجسد، وزعموا أن الوثيقة في الاستدلال بالأجزاء إذا كانت الألوان والأرايح وسائر ما ذكرنا من أفعال الطبائع الأربع، كما أن الإسخان والتبريد والتليين فعل لها، وزعمت طائفة أخرى منهم أن أصح الشهادات وأثبت القضايا في الحكم على طبيعة الدواء والغذاء بما أخذ من فعله في الجسد دون الطعم والرائحة، وما سوى ذلك، فإن الاستدلال بما سوى الفعل والتأثير لا يقطع به، ولا يعول في الحكم على طبيعة الدواء المفرد والمركب.

قال الواثق لحنين من بين الجماعة: ما أول آلات الغذاء من الِإنسان؟ قال: أول آلات الغذاء من الإِنسان الفم، وفيه الأسنان، والأسنان اثنتان وثلاثون سناً، منها في اللّحْي الأعلى ستة عشر سناً، وفي اللّحْي الأسفل كذلك، ومن ذلك أربعة في كل واحد من اللحيين عِرَاضٌ محدود الأطراف تسميها الأطباء من اليونانيين القواطع وذلك أن بها يقطع ما يحتاج إلى قطعه من الأطعمة اللينة، كما يقطع هذا النوع من المأكول بالسكين، وهي الثنايا والرَّبَاعِيَاتُ، وعن جنبي هذه الأربعة في كل واحد من اللحيين سِنَانٍ رؤوسهما حَافَةٌ وأصولهما عريضة، وهي الأنياب، وبها يكسر كل ما يحتاج إلى تكسيره من الأشياء الصلبة مما يؤكل، وعن جَنْبَي النابين في كل واحد من اللحْيَيْنِ خمس أسنان أخر عوارض خشن، وهي الأضراس، ويسميها اليونانيون الطواحن، لأنها تطحن ما يحتاج إلى طحنه مما يؤكل، وكل واحد من الثنايا والربَاعِيَاتِ والأنياب له أصل واحد، وأما الأضراس فما كان منها في اللَّحْي الأعلى فله ثلاثة أصول، خلا الضرسين الأقصيين، فإنه ربما كان لكل واحد منهما أصول أربعة، وما كان من الأضراس في اللّحْي الأسفل فلكل واحد منها أصلان، نجلا الضرسين الأقْصَيَيْنِ؛ فإنه ربما كان لكل واحد منهما أصول ثلاثة، وإنما احتج إلى كثرة أصول الأضراس عون سائر الأسنان لشدة قوة العمل بها، وخصت العليا منها بالزيادة في الأصول لتعلقها بأعلى الفم.

قال الواثق: أحسنت فيما ذكرت من هذه الآلات، فصنف لي كتاباً تذكر فيه جميع ما يحتاج إلى معرفته من ذلك، فصنف له كتاباً جعله ثلاث مقالات، يذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء والمسهل وآلات الجسد.

الواثق وحنين بن إسحاق أيضاً

وقد ذكر أن الواثق سأل حُنَيْناً في هذا المجلس وفي غيره عن مسائل كثيرة، وأن حُنَيْناً أجاب عن ذلك، وصنف في كل ذلك كتاباً ترجمه بكتاب المسائل الطبيعية يذكر فيه أنواعاً من العلوم، فكان مما سأل الواثق حُنَيْناً من المسائل، وقيل: بل أحْضَرَ له الواثق نديماً من ندمائه فكان يسأله بحضرتا والواثق يسمع ويتعجب مما يوِرده السائل والمجيب، إلى أن قال: في الأشياء المغيرة للهواء. قال حُنيْنٌ: خمس، وهي أوقات السنة، وطلوع الكواكب وغروبها، والرياح والبلدان، والبحار.

أوقات السنة

قال السائل: فكم هي أوقات السنة؟ قال حُنَيْن: أربع: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء؛ فمزاج الربيع معتدل في الحرارة والرطوبة، ومزاج الصيف حار يابس، ومزاج الخريف بارد يابس، ومزاج الشتاء بارد رطب.

الكواكب: قال السائل: أخبرني عن كيفية تغيير الكواكب للهواء، قال حنين: إن الشمس متى قربت منها أو قربت هي من الشمس كان الهواء أزيد سُخُونةً، وخاصة كلما كانت أعظم، ومتى بعدت الشمس أو بعدت هي من الشمس كان الهواء أزيد برداً.

الرياح

قال السائل: أخبرني عن كيفية أعداد الرياح، قال حنين: أربع: الشَّمَال، والجنوب، والصَبَا، والدَّبور، فأما قوة الشّمال فباردة يابسة، وأما الجنوب فحارة رطبة، وأما الصَبا والدًبور فمعتدلان، يخر أن الصَبا أمْيَلُ إلى الحرارة واليبس، والدًبور أميل إلى البرودة والرطوبة من الصبا.

البلدان

قال: فأخبرني عن أحوال البلدان في ذلك، قال: هي أربع؛ الأول الارتفاع، والثاني الانخفاض، والثالث مجاور الجبال والبحار، والرابع طبيعة تربة الأرض، والنواحي أربع، وهي: الجنوب، والشمال، والمشرق، والمغرب، فناحية الجنوب أسْخَنُ، وناحية الشمال أبرد، وأما ناحيتا المشرق والمغرب فمعتدلتان، واختلاف البلدان بارتفاعها وانخفاضها؛ لأن ارتفاعها يجعلها أبرد، وانخفاضها يجعلها أسخن، والبلدان تختلف بحسب مجاورة الجبال لها؛ لأن الجبل متى كان من البلد في ناحية الجنوب جعل ذلك البلد أزيد برداً لأنه يستره من الرياح الجنوبية، وإنما تهبُّ فيه الريح الشمالية فقط، ومتى كان الجبل من البلد في ناحية الشمال جعل ذلك البَلَدَ أسْخَنَ.

تأثير البحار في البلدان

قال: فأخبرني عن اختلاف البلدان عند مجاورتها البحار كيف اختلفت؟.

قال حنين: إن كان البحر من البلد في ناحية الجنوب، فإن ذلك البلد يسخن ويرطب، وإن كان في ناحية الشمال كان ذلك البلد أبرد.

قال السائل: فأخبرني عن البلدان كيف اختلفت بحسب طبيعة تربتها، قال: إن كانت أرضها حَجَرِيّةً جعلت ذلك البلد أبرد وأخف وإن كانت تربة البلد حصبانية جعلت ذلك البلد أخف وأسخن وإن كانت طيناً جعلته أبرد وأرطب.

قال: فَلِمَ اختلف الهواء من قبل البحار. قال: إذا جاورت نقائع ماء أو جيفاً أو بُقُولاً عَفِنَةً أو غير ذلك مما يتعفن تغير هواؤها.

فلما كثر هذا الكلام من السائل والمجيب أضْجَرَ ذلك الواثقَ، فقطع ذلك، وأجاز كل واحد ممن حضر، ثم أمرهم أن يخبر كل واحد منهم عما حضره في الزهد في هذا العالم الذي هو عالم الدُثُورِ والفناء والغُرور فذكر كل واحد منهم ما سَنَحَ له من الأخبار عن زهد الفلاسفة من اليونانيين والحكماء المتقدمين كسقراط وديوجانس.

نطق الحكماء على جدث الإسكندر

قال الواثق: قد أكثرتم فيما وصفتم، وقد أحسنتم الحكاية فيما ذكرتم، فليخبرني كل واحد عن أحسن ما سمع من نطق الحكماء الذين حضروا وفاة الإسكندر، وقد جعل في التابوت الأحمر.

فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، كل ما ذكروه حَسَنٌ، وأحْسَنُ ما نطق به مَنْ حضر ذلك المشهد من الحكماء ديوجانس، وقد قيل: إنه لبعض حكماء الهند، فقال: إن الإسكندر أمس أنْطَقُ منه اليوم، وهو اليومَ أوْعَظُ منه أمس.

وقد أخذ هذا المعنى من قول الحكيم أبو العتاهية حيث قال:

كَفَى حَزَناً بدفنك ثَـم إنِّـي

 

نَفَضتُ تراب قبرك مِنْ يَدَيَّا

وكانت في حياتك لي عظات

 

وأنت اليوم أوْعَظُ منك حَيَّا

فاشتد بكاء الواثق، وعلا نحيبه، وبكى معه كل من حضر من الناس، ثم قام من فَوْرِه ذلك وهو يقول:

وصروف الدهر في تقـديره

 

خُلِقَتْ فيها انخفاضٌ وَانْحِدَارْ

بينما المَرْءُ على إعـلائهـا

 

إذْ هَوَى في هُوةٍ منها فَحَارْ

إنما مـتْـعَةُ قـوم سـاعة

 

وحياة المَرْءُ ثوب مُسْتَعَـارْ

قال المسعودي: وللواثق أخبار حِسَانٌ مما كان في أيامه من الأحداث وما كان يجري من المباحثة في مجلسه الذي عَقَده للنظر بين الفقهاء والمتكلمين في أنواع العلوم من العقليات والسمعيات في جميع الفروع والأصول، وقد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا، وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب في باب خلافة القاهر باللّه بن المعتضد باللّه جُمَلاً من الأخبار في أخلاق الخلفاء من بني العباس لمعنى أْوجَبَ إيرادها في باب خلافة القاهر.

واعتلَّ الواثق فصلَّى بالناس يوم النحر أحمد بن أبي دُوَاد، وكان قاضي القُضاة، فدعا في خطبته للواثق، فقال: اللهم اشفه مما ابتليته، وقد قَدَّمنا ذكر وقت وفاته فيما سلف من أخباره في هذا الباب، فأغنى ذلك عن إعادته.