ذكر خلافة المتوكل على الله

ذكر خلافة المتوكل على اللّه

وبويع جعفر بن محمد بن هارون، ولقب المنتصر باللّه، فلما كان في اليوم الثاني لقبه أحمد بن أبي دُوَاد المتوكل على اللّه وذلك في اليوم الذي مات فيه الواثقُ أخوه، وهو يوم الأربعاء لست بَقِينَ من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ويكنى بأبي الفضل، وبويع له وهو ابن سبع وعشرين سنة وأشهر، وقُتل وهو ابن إحدى وأربعين سنة فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسع لَيَالٍ، وأمه أُم ولد خُوَارزمية يقال لها شجاع، وقُتل ليلة الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

أمره بترك الجدل وإظهار السنة

ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، وَالتَّرْك لما كان عليه الناسُ في أيام المعتصم والواثق والمأمون وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر شيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السف والجماعة، وأظهر لباس ثياب الملحمة، وفضل ذلك على سائر الثياب، وَاتَّبَعَهُ مَنْ في داره على لبس ذلك، وشمل الناس لبسه، وبالغوا في ثمنه اهتماماً بعمله، واصطنع الجيد منها؛ لمبالغة الناس فيها، وميل الراعي والرعية إليها، فالباقي في أيدي الناس إلى هذه الغاية من تلك الثياب يعرف بالمتوكلية، وهي نوع من ثياب الملحم نهاية في الحسن والصبغ وجودة الصنع.

أحدث اللعب والمضاحك

وكانت أيام المتوكل أحسن أيام وَأَنْضَرَهَا، من استقامة الملك، وشمول الناس بالأمن والعدل، ولم يكن المتوكل ممن يوصف في عطائه وبذله بالجود، ولا بتركه وإمساكه بالبخل، ولم يكن أحد ممن سلف مر خلفاء بني العباس ظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل مما قد استفاض في الناس تركه إلا المتوكل، فإنه السابق إلى ذلك وَالمُحْدِثُ له، وأحْدَثَ أشياء من نوع ما ذكرنا فاتبعه فيها الأغلب من خواصه وأكثر رعيته، فلم يكن في وزرائه والمتقدمين من كًتابه وقواده مَنْ يوصف بجود ولا إفضال، أو يتعالى عن مجون وطرب.

غلب عليه الفتح بن خاقان

وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه أغْلَبَ الناس عليه، وأقربهم منه، وأكثرهم تقدماً عنده، ولم يكن الفتح- مع هذه المنزلة من الخلافة- ممن يُرْجَى فضله ويخاف شره، وكان له نصيب من العلم، ومنزلة من الأدب، وألف كتاباً في أنواع من الأدب ترجمه بكتاب البستان.

أحدث البناء الحيري

وأحدث المتوكل في أيامه بناء لم يكن الناس يعرفونه، وهو المعروف بالحيري والكمين والأروقة، وذلك أن بعض سُمَّاره حَدَّثه في بعض الليالي أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نَصر أحدث بنياناً في دار قراره، وهي الحيرة، على صورة الحرب وهيئتها للهجهِ بها وميله نحوها لئلا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق فيه مجلس الملك وهو الصدرُ، والكمان ميمنه وميسرة، ويكون في البيتين اللذين هما الكمان من يقرب منه من خواصه، وفي اليمين منهما خزانة الكسوة، وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب، والرواق قد عم فضاؤه الصدر والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسمي هذا البنيان إلى هذا الوَقْت بالحيري والكمين، إضافة إلى الحيرة، واتبع الناس المتوكل في ذلك ائتماماً بفعله، واشتهر إلى هذه الغاية.

أخذه البيعة لأولاده الثلاثة

وبايع المتوكلُ لبنيه الثلاثة: محمد المنتصر باللّه، وأبي عبد اللهّ المعتز باللّه، والمستعين باللّه، وفي ذلك يقول ابن المدبر في ذكره لهذه البيعة:

يا بيعة مثل بيعة الشَّجَرَهْ

 

فيها لكل الخلائق الخِيَرَهْ

أكَّدَهَا جعفر وصيرهـا

 

إلى بنيه الثلاثة البَـرَرَهْ

وفي ذلك يقول علي بن الجهم:

قل للخليفة جعفر: يا ذا الندى

 

وابن الخلائف والأئمة والهدى

لما أردت صلاح دين محمـد

 

ولَيْتَ عهد المسلمين محمـدا

وثنيت بالمعتز بعد مـحـمـد

 

وجعلت ثالثهم أعَـزّ َمـؤيدا

وكان استخلاف المتوكل على اللّه بعد أن استخلف أبو العباس السفاح بمائة سنة، وبعد موت العباس بن عبد المطلب بمائتي سنة، وقد قيل غير ذلك، والله أعلم، على تفاوت التواريخ في كمية أوقاتهم وعَدَدِ سِنِيهِمْ والزيادة في الأيام والشهور ونقصانها من مدة ملكهم.

سخطه على ابن الزيات

وقد كان سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلد مكانه أبا الوزير، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرِين والمغضوب عليهم تَنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخل قائمة مثل رؤوس المسَالِّ في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فأستأذن المتوكل في ذلك، فأذن له، فكتب:

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

 

كأنه ما تُرِيكَ العين في النوم

لأجزعَنَّ رويداً إنـهـا دُوَل

 

دنيا تنقل من قوم إلى قـوم

قال: وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تَصِل الرقعة إليه، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً، وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً، وهو القائل في تحريض المأمون على إبراهيم بن المهدي عمه حين خرج عليه:

ألم تر أن الشيءَ للشـيء عـلة

 

تكون له كالنار تقدح بالـزَّنْـدِ

كذلك جَرّبنا الأمـور، وإنـمـا

 

يدلُّكَ ما قد كان قبل على البعد

وظَنَي بإبراهـيم أن فـكـاكـه

 

سيبعث يوماً مثل أيامه النـكـد

تذكَرْ أمير المؤمنـين قـيامـه

 

وأيامه في الهزل منه وفي الجد

إذا هَزَّ أعواد المنابر باسـمـه

 

تغنَّى بليلي أو بمـيَّةَ أو هـنـد

في شعر طويل جداً.

ومن شعره قوله في مرثية للمعتصم باللّه:

وظل له سيف النـبـي كـأنـمـا

 

مدامعه من شدة الحزن تَـنْـرِفُ

حمائله والـبُـرْدُ تـشـهـد أنـه

 

هو الطيب الأولى الذي كان يعرف

أقول ومن حق الذي قلـت أنـنـي

 

أقول وأثني بعـد ذاك وأحـلـف

لما هابَ أهل الظلم مثلك سـائسـاً

 

ولا أنْصفَ المظلوم مثلُكَ منصف

وقد أتينا على أخباره وما استحسن من أشعاره في الكتاب الأوسط.

وزراؤه

فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجراني، ثم صرفه فاستكتب عبيد اللّه بن يحيى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين إلى أن قتل، وقد أتينا في الكتاب الأوسط على أخباره واتصاله بالمتوكل وأخبار الفتح بن خاقان.

المبرد ومجنون بدير هرقل

وذكر محمد بن يزيد المبرد قال: ذكرت للمتوكل لمنازعة جرت بينه وبين الفتح بن خاقان في تأويل آية وتنازَعَ الناسُ في قراءتها، فبعث إلى محمد بن القاسم بن محمد بن سليمان الهاشمي، وكانت إليه البصرة، فحملني إليه مكرماً، فلما اجتزت بناحية النعمان بين واسط وبغداد ذكر لي أن بدير هرقل جماعة من المجانين يُعالَجُونَ، فلما حاذيته دعتني نفسي إلى دخوله، فدخلته ومعي شات ممن يرجع إلى دين وأدب؛ فإذا أنا بمجنون من المجانين قد دنا إلي، فقلت: ما يقعدك بينهم وأنت بائن عنهم؟ فكسر جفنه ورفع عقيرته، وأنشأ يقول:

إن وصفوني فَناحِلُ الجَسَدِ

 

أو فَتْشوني فأبيض الكبد

أضْعَفَ وجدي وزاد في سَقَمِي

 

أن لست أشكو الهوى إلى أحد

وضعت كَفِّي على فؤاديَ مـن

 

حَرِّ الأسى وانطوْيت فوق يدي

آه من الحب آه مـن كـبـدي

 

إن لم أمت في غد فبعد غـد

كأن قلبي إذا ذكرتهمُ فـريسة

 

بين سـاعَـــدَيْ أسَـــدِ

فقلت: أحسنت للّه درك! زدني، فأنشأ يقول:

ما أقْتَلَ البين للنفـوس!! ومـا

 

أوْجعَ فقد الحبيب للـكـبـد!!

عَرضْتُ نفسي من البلاء لمـا

 

أسرف في مهجتي وفي جَلَدِي

يا حسرتي أن أموت معتـقـلاً

 

بين اعتلاج الهموم والكَـمِـدِ

في كل يوم تفـيض مـعـولة

 

عيني لعضو يموت في جسدي

فقلت: أحسنت للّه درك! ولا فضّ فوك! زدني، فأنشأ يقول:

اللَه يعلم أننـي كَـمِـدُ

 

لا أستطيع أبثُّ ما أجـد

نفسان لي نفس تضمنهـا

 

بلد، وأخرى حازها بلـد

وأرى المقيمة ليس ينفعها

 

صبر، وليس يُعِينها جَلَدُ

وأظنّ غائبتي كشاهدتـي

 

بمكانها تجد الذي أجـد

فقلت: واللّه أحسنت، فاستزتده، فقال: أراك كلما أنشدتك استزدتني، وما ذاك إلا لفرط أدب أو فراق شجن، فأنْشِدْنِي أنت أيضاً، فقلت للذي معي: أنشده، فأنشأ يقول:

عَذْلٌ وَبَيْن وتوديع ومرتـحـل

 

أي العيون على ذا ليس تَنْهَمِلُ؟

تألفَه ما جلدي من بعدهم جلـد

 

ولا اختزان دموعي عنهمُ بَخَلُ

بلى، وحرمة ما ألقيْنَ من خبـل

 

قلبي إليهنَ مشتاق وقد رحلـوا

وعدت أن البحار السبع لي مَدَدٌ

 

وأن جسمي دموع كلها همـل

وأنَ لي بدلاً من كل جـانـحة

 

في كل جارحة يوم النوى مُقَلُ

لا درَّ درُّ النوى لو صادفَتْ جبلاً

 

لا نهدَّ منها وشيكا ذلك الجبـل

الهجر والبين والواشون والإِبـل

 

طلائع يتراءى أنـهـا الأجـل

فقال المجنون: أحسنت، وقد حضرني في معنى ما أنشدت إلى شعر، أفأنشده؟ قلت: هات: فأنشأ يقول:

ترحًلُوا ثم نيطت دونهـم سُـجُـفٌ

 

لو كنت أملكهم يوماً لما رحـلـوا

يا حادِيَ العِيس مهلاكي نودعـهـا

 

رفقاً قليلاً ففي توديعهـا الأجـل

ما راعني اليوم شيء غير فقدهـم

 

لما استقلّت وسارت بالدُّمى الإِبـل

إني على العهد لم أنْقُضْ مودتهـم

 

فليت شعري وطال الدهر ما فعلوا

قال المبرد: فقال الفتى الذي معي: ماتوا، فقال المجنون: آه آه، إن ماتوا فسوف أموت، وسقط ميتاً، فما برحْتُ حتى غسل وكفن وصليت عليه ودفنْتُه.

البحتري ينشد المتوكل

ووردتُ سر من رأى، فأدخلت على المتوكل وقد عمل فيه الشراب، فسئلت عن بعض ما وردتُ له؛ فأجبت، وبين يدي المتوكل البحتريُ الشاعر، فابتدأ ينشده قصيدة يمدح بها المتوكل، وفي المجلس أبو العنبس الصيمري، فأنشد البحتري قصيدته التي أولها:

عن أي ثـغـر تـبــتـــســـم؟

 

وبـأي طـرف تـحـتـــكـــم؟

حسـن يضـيء بـحـســـنـــه

 

والـحـسـن أشـبـه بـالـكـــرم

قل للخليفة جعفر

 

المتوكل ابن المعتصم

المرتَضَى ابن المجتبى

 

والـمـنـعـم ابـن الـمـنـتـقــم

أمـا الـرعـية فَـهْـــي مـــن

 

أمَـنَـاتِ عـدلـك فــي حَـــرَمْ

يابـانـي الـمـــجـــد الـــذي

 

قد كـان قـوض فـانـــهـــدمْ

اسْـلـمْ لـدين مـــحـــمـــد

 

فإذا سـلـمـت فـقـد ســلـــم

نلـنـا الـهـدى بـعـد الـعـمــى

 

بك، والـغـنـى بـعـد الـعَـــدَمْ

فلما انتهى إلى ذلك مشى القهقرى للانصراف، فوثب أبو العنبس فقال: يا أمير المؤمنين، تأمر برده، فقد واللّه عارضته في قصيدته هذه، فأمر برده، فأخذ أبو العنبس ينشد شيئاً لولا أن في تركه بَتْراً للخبر لما ذكرناه، وهو:

من أي سَلْح تلـتـقـم

 

وبأي كف تلـتـطـم

أدخلت رأس البحـتـر

 

يِّ أبي عُبَادة في الرَّحِمْ

ووصل ذلك بما أشبهه من الشَّتْم، فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه، وفحصَ برجله اليسرى، وقال: يُدْفع إلى العنبس عشرة آلاف درهم، فقال الفتح: يا سيدي البحتري الذي هُجي وأسمع المكروه ينصرف خائباً؟ قال: ويدفع للبحتري عشرة آلاف درهم، قال: يا سيدي وهذا البصريُ الّذي أشخصناه من بلده، لا يشركهم فيما حصلوه. قال: ويدفع إليه عشرة آلاف درهم، فانصرفنا كلنا في شفاعة الهزل، ولم ينفع البحتريَ جده واجتهاده وحزمه. 

حمار أبي العنبس

ثم قال المتوكل لأبي العنبس: أخبرني عن حمارك ووفاته وما كان من شعره في الرؤيا التي أريتها، قال: نعم يا أمير المؤمنين، كان أعقل من القضاة، ولم يكن له جريرة ولا زلّة، فاعتلَّ علة على غفلة، فمات منها، فرأيته فيما يرى النائم، فقلت له: يا حماريِ، ألم أبرد لك الماء، وأنق لك الشعير، وأحسن إليك جَهْدِي. فلم مُت على غفلة؟ وما خبرك؟ قال: نعم، لما كان في اليوم الذي وقَفْتَ على فلان الصيدلاني تكلمه في كذِا وكذا مرت بي أتان حسناء، فرأيتها فأخذَتْ بمجامع قلبي؟ فعشقتها واشتد وجدي بها، فمتُّ كمداً متأسفاً، فقلت له: يا حماري، فهل قلت في ذلك شعراً. قال: نعم، وأنشدني:

هامَ قـلـبـي بـــأتـــان

 

عنـد بـاب الـصـيدلانــي

تيمـتـنـي يوم رُحْــنَـــا

 

بثـنـاياهـا الـحـســـان

وبخذَيْنِ أسيلين كلون الشنقراني

 

 

فبها مُتَّ ولو عشت إذاً طَالَ هواني

 

 

قال: قلت: يا حماري، فما الشنقراني؟ فقال: هذا من غريب الحمير، فطرب المتوكل وأمر الملهين والمغنين أن يغنوا ذلك اليوم بشعر الحمار، وفرح في ذلك اليوم فرحاً شديداً، وسُرَّ سروراً لم يُرَ مثله، وزاد في تكرمة أبي العنبس وجائزته.

المتوكل وعلي بن محمد العلوي

وحدث أبو عبد اللّه محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: قال المتوكل لأبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي اللهّ عنه، ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب؟ قال: وما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل افترض اللّه طاعة بنيه على خلقه وافترض طاعته على بنيه؟ فأمر له بمائة ألف درهم، وإنما أراد أبو الحسن طاعة اللّه على بنيه، فعرَّضَ.

وقد كان سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم مَنْ هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده مغلق عليه وعليه مِدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مِلحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأخذ على ما وجد عليه، وحمل إلى المتوكل في جَوْفِ الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعْظَمه وأجلسه إلى جَنبِه، ولم يكن في منزله شيء مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليها بها فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط، فأعْفِنِي منه، فعافاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني فأنشده:

باتوا على قُلَل الأجْبَال تحرسـهـم

 

غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُـلَـلُ

واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلـهـم

 

فأودعوا حُفَراً، يا بئس ما نزلـوا

ناداهمُ صارخ من بعد ما قبـروا

 

أين الأسرة والتيجان والحـلـل؟

أين الوجوه التي كانت مُـنَـعَّـمة

 

من دونها تضرب الأستار والكِلَلُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهـم

 

تلك الوجوه عليها الدود يقتـتـلُ

قد طالما أكلوا دهراً وما شربـوا

 

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكِلُوا

وطالما عمروا دوراً لتحصنـهـم

 

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلـوا

وطالما كنزوا الأموال وادَّخـروا

 

فخلفوها على الأعداء وارتحلـوا

أضحت مَنَازِلُهم قفْراً مُـعَـطـلة

 

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

قال: فأشفق كل من حضر على عَلِيٍّ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه، قال: واللّه لقد بكى المتوكل بكاءً طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى مَنْ حضره، ثم أمر برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَيْنٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً.

وفاة ابن سماعة القاضي الحنفي

قال: وكانت وفاة محمد بن سماعة القاضي محمد بن الحسن- وصاحب أبي حنيفة في خلافة المتوكل، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وهو ابن مائة سنة، صحيح الجسم والعقل والحواس، يفتض الأبكار، ويركب الخيل التي تقطف وتعنق، لم ينكر من نفسه شيئاً. وحكى ابنه سماعة بن محمد قال: قال لي أبي محمد بن سماعة: وجدت في حياة سَوَار بن عبد اللّه قاضي المنصور كتاباً له بخطه أراه من شعره أو أبيات استحسنها، وهي:

سَلَبْتِ عظامي لحمَها فتـركـتِـهـا

 

عوارِيَ في أجلادها تـتـكـسـر

وأخْلَيْتِ منها مُخّـهَـا فـكـأنـهـا

 

قوارير في أجوافها الريح تَصْفِـرُ

إذا سمعت ذكر الفـراق تـرعّـدت

 

فرائصها من خوف ما تـتـحـذر

خذي بيدي، ثم ارفعي الثوب وانظري

 

ضَنَى جَسَدي لكنـنـي أتـسـتـر

ولمحمد بن سماعة تصنيفات حسان في الفقه، وروايات عر محمد بن الحسن وغيره، منها كتاب نوادر المسائل عن محمد بن الحسن في أُلوف أوراق. 

موت يحيى بن معين وجماعة من الأنباه

وفي هذه السنة- وهي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين- مات يحيى بن معين، وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين مات أبو بكر بن أبي شيب والقواريري، وكانا من عِلْيَةِ أصحاب الحديث وحُفاظهم، وفيها مات إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكان على بغداد، وولي ابنه مكانه، وله أخبار حسان قد أتينا على غررها في كتابنا أخبار الزمان.

قصة سجين

ومن ظريف أخباره والمستحسن مما كان في أيامه وسيره ببغداد ما حدث به عنه موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي أنه رأى في منامه كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: "أطلق القاتل"، فارتاع لذلك رَوْعاً عظيماً، ونظم في الكتب الواردة لأصحاب الحبوس فلم يجد فيها ذكر قاتل، فأمر بإحضار السندي وعباس، فسألهما: هل رفع إليهما أحد ادعى عليه بالقتل. فقال له العباس: نعم، وقد كتبنا بخبره، فأعاد النظر، فوجد الكتاب في أضعاف القراطيس، وإذا الرجل قد شهد عليه بالقتل وأقربه، فأمر إسحاق بإحضاره، فلما دخل عليه ورأى ما به من الارتياع قال له: إن صدقتني أطلقتك، فابتدأ يخبره بخبره، وذكر أنه كان هو وعدَّة من أصحاب يرتكبون كل عظيمة، ويستحلُّونَ كل محرم، وأنه كان اجتماعهم في منزل بمدينة أبي جعفر المنصور يعتكفون فيه على كل بلية، فلما كان في هذا اليوم جاءتهم عجوز كانت تختلف إليهم للفساد، ومعها جارية بارعة الجمال، فلما توسطت الجارية الدار صرخت صرخة، فبادرْتُ إليها من بين أصحابي، فأدخلتها بيتاً وسَكَّنْتُ روعها، وسألتها عن قصتها، فقالت: اللهّ اللّه فيَّ، فإن هذه العجوز خدعتني وأعلمتني أن في خزانتها حُقاً لم يُر مثله، فشوقتني إلى النظر إلى ما فيه، فخرجت معها واثقة بقولها، فهجمت بي عليكم، وجَدِّي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأمي فاطمة، وأبي الحسن بن علي، فاحفَظُوهُمْ فيَ، قال الرجل: فضمنت خلاصها، وخرجت إلى أصحابي فعرفتهم بذلك فكأني أغريتهم بها، وقالوا: لمَا قضيت حاجتك منها أردت صرفنا عنها، وبادروا إليها، وقمت دونها أمنع عنها، فتفاقم الأمر بيننا إلى أن نالتني جراح، فعمدت إلى أشدهم كان في أمرها وأكلبهم على هتكها فقتلته، ولم أزل أمنع عنها إلى أن خَلصتها سالمة، وتخلصت الجارية آمنة مما خافته على نفسها، فأخرجتها من الدرا، فسمعتها تقول: سترك اللّه كما سترتني، وكان لك كما كنت لي، وسمع الجيران الضجة فتبادروا إلينا والسكين في يدي والرجل يتشخَطُ في دمه، فرفعتُ على هذه الحالة، فقال له إسحاق: قد عرفت لك ما كان من حفظك للمرأة، ووهبتك للّه ورسوله، قال: فوحقِّ من وهبتني له لا عاودت معصية ولا دخلت في ريبة حتى ألقىِ اللّه، فأخبره إسحاق بالرؤيا التي رآها، وأن الله لم يضيع له ذلك، وعَرَض عليه براً واسِعاً، فأبى قبول شيء من ذلك.

رضاه عن يحيى بن أكثم

وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين رضي المتوكل عن أبي محمد يحيى ابن أكثم الصيفي، فأشخص إلى سر من رأى، وولي قضاء القضاة، وسخط على أحمد بن أبي دواد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد، وكان على القضاء، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجوهراً بأربعين ألف دينار، وأحضر إلى بغداد، وقد كان أبو عبد اللّه أحمد بن أبي عُوَاد فُلِج بجد موت عدوه ابن الزيات بسبعة وأربعين يوماً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

وفاة ابن أبي دؤاد

وفي سنة أربعين ومائتين كانت وفاة أبي عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد بعد وفاة ولده أبي الوليد محمد بن أحمد بعشرين يوماً، وكان ممن أجْرَى اللّه الخير على يديه على ما اشتهر من أمره، وسَهَل اللّه سبيله إليه، وحَبِّب إليه المعروف وفعله.

منزلة ابن أبي دؤاد عند المعتصم

وذكر أن المعتصم كان بالجوسق يوماً مع نُدمَائه- وقد عزم على الإصطباح، وأمر كل واحد منهم أن يطبخ قِدْراً- إذ بصر بسلامة غلام ابن أبي دؤاد، فقال: هذا غلام ابن أبي دواد يتعرف خبرنا، والساعة يأتي فيقول: فلان الهاشمي، وفلان القرشي، وفلان الأنصاري، وفلان العربي، فيعطلنا بحوائجه عما عزمنا عليه، وأنا أشهدكم أني لا أقضي اليوم له حاجة، فلم يكن بين قوله وبين استئذان الأتباع لأبي عبد اللّه إلا هنيهة، فقال لجلسائه: كيف ترون قولي؟ قالوا: فلا تأذن له، قال: سوءاً لكم، حُمَّى سنة أهْوَنُ عليَ من ذلك، ودخل، فما هو إلا أن سلم وجلس وتكلم حتى أسْفَرَ وجه المعتصم وضحكتَ إليه جوارحه، ثم قال له. يا أبا عبد اللّه قد طبخ كل واحد من هؤلاء قِدْراً، وقد جعلناك حكماً في طبخها، قال: فلتحضر ثم آكل ثم أحكم بحكم بعلم، فحملت إليه القُدُورُ ووضعت بين يديه، فجعل يأكل من أول قدر أكلاً تاماً، فقال له المعتصم: هذا ظلم، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني أراك قد أمعنت في هذا اللون، وستحكم لصاحبه، قال: يا أمير المؤمنين عليَ أن آكل من هذه القدور كلها كما أكلت من هذا القدر، فتبسم له المعتصم وقال له: شأنك إذا، فأكل كما قال، ثم قال: أما هذه فقد أحْسَنَ طابخها إذا كثر فلفلها وأقل كمونها، وأما هذه فقد أجاد طابخها إذ أكثر خَلّها وأقل زَيتَهَا، وأما هذه فقد طيبها طابخها باعتدال توابلها، وأما هذه فقد حقق مَنْ عملها بقلة مائها وكثرة مرقها، حتى وصف القدور كلها بصفاتٍ سُرَّ أهلها بها، ثم أكل مع القوم كما أكلوا أنْظَفَ أكْلٍ وأحسنه، مرة يحدثهم بأخبار الأكَلَةِ في صدر الِإسلام: معاوية بن أبي سفيان، وعبيد اللّه بن زياد، والحجاج بن يوسف، وسليمان بن عبد الملك، ومرة يحدثهم عن أكَلَة دهره مثل ميسرة التَّضَار، ودورق القصاب، وحاتم الكيال، وإسحاق الحمامي، فلما رفعت الموائد قال له المعتصم: ألك حاجة يا أبا عبد الله. قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اذكرها فإن أصحابنا يريدون أن يتشاغلوا، قال: نعم يا أمير المؤمنين رجل من أهلك وَطئِه الدهر فغير حاله وخشن معيشته، قال: ومَنْ هو؟ قال: سليمان بن عبد اللّه النوفلي، قال: قدر له ما يصلحه، قال: خمسين ألف درهم، قال: أنفذت ذلك له، قال: وحاجة أخرى، قال: وما هي؟ قال: ضِيَاعُ إبراهيم بن المعتمر تردُهَا له، قال: قد فعلت، قال: وحاجة أخرى، قال: قد فعلت، قال: فواللّه ما خرج حتى سأل ثلاث عشرةَ حاجَةَ لا يردُّه عن شيء منها، حتى قام خطيباً فقال في خطبته: يا- أمير المؤمنين، عمرك الله طويلًا، فبعمرك تُخْصِب جنات رعيتك، ويلين عيشهم، وتثمر أموالهم، ولا زلت ممتعاً بالسلامة، مَحْبُوّاً بالكرامة، مرفوعاً عنك حوادث الأيام وغِيَرُها، ثم انصرف؛ فقال المعتصم: هذا والله يتزين بمثله، ويبتهج بقربه، ويعدل ألوفاً من جنسه، أما رأيتم كيف دخل؟ وكيف سلم؟ وكيف تكلم؟ وكيف أكل؟ وكيف وصف القدور ثم انبسط في الحديث؟ وكيف طاب به أكلنا؟ ما يردُّ هذا عن حاجة إلا لئيم الأصل خبيث الفرع، واللّه لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ألف درهم ما رَعَدْته عنها، وأنا أعلم أنه يكسبني بها في الدنيا حمداً وفي الآخرة ثواباً.

وفي أحمد بن أبي دواد يقول الطائي:

لقد أنْسَتْ مساويَ كلِّ دهرٍ

 

مَحَاسنُ أحمد بْنِ أبي دواد

فما سافرتُ في الآفـاق إلا

 

ومن جَدْواه راحلتي وزادي

مقيم الظَنِّ عندك والأمانـي

 

وإن قَلِقَتْ ركَابي في البلاد

المتوكل يشتهي قدراً طبخها ملاحون

وحكي عن الفتح بن خاقان قال: كنت عند المتوكل وقد عزم على الضَبُوح بالجعفري، وقد وَجَّه خلف الندماء والمغنين، قال: فجعلنا نطوف وهو متكئ علي وأنا أحادثه، حتى وصلنا إلى موضع يشرف منه على الخليج، فدعا بكرسي فقعد عليه، وأقبل يحادثني، إذ بصر بسفينة مشدودة بالقُرْب من شاطئ الخليج، ومَلّاح بين يديه قدر كبيرة يطبخ فيها سكباج من لحم بقر، وقد فاحت روائحها، فقال: يا فتح رائحة قدر سكباج واللّه، ويحك، أما ترى ما أطيب رائحتها، عليَّ بها على حالها، فبادر الفراشون فانتزعوها من بين يدي الملاحين، فلما عاين الملاحون أصحاب السفينة ما فعل بهم ذهبت نفوسهم فَرَقاً وخوفاً، وجاءوا المتوكل بالقدر تفور كهيئتها، فوضعت بين أيدينا، فاستطاب ريحها واستحسن لونها، ودعا برغيف فكسر منه كسرة ودفعها إليَّ، وأخذ هو منه مثلها، وأكل كل واحد منا ثلاث لُقم، وأقبل الندماء والمغنون، فجعل يلقم كل واحد منهم لقمة من القدر، وأقبل الطعام ووضعت الموائد، فلما فرغ من أكله أمر بتلك القدر ففرغت وغسلت بين يديه، وأمر أن تملأ دراهم، فجيء بَبَدره ففرغت فيها، فَفَضَلَ من الدراهم مقدار ألفي درهم، فقال لخادم كان بين يديه: خذ هذه القدر فامض بها حتى تدفعها لأصحاب السفينة، وقل لهم: هذا ثمن ما أكلنا من قدركم، وادفع إلى مَنْ طبخها ما فضل من هذه البَدْرَة منِ الدراهم هِبَةً له على تجويده طبخها، قال الفتح: فكان المتوكل كثيراً ما يقول إذا ذكر قدر الملاح: ما أكلت أحسن من سكباج أصحاب السفينة في ذلك اليوم.

وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه بجهينة، وكان من حديثة الموصل: قال: حدثنا أبو الحسن الصالحي، قال: قال الجاحظ: ذُكرتُ لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب بعض ولده، فلما راني استبشع مَنْظَرِي، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وَصَرَفَنِي، وخرجت من عنده، فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الإِنصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والإِنحدار في حَرَّاقته، فركبنا فيها، فلما أتينا كم نهر القاطول وخرجنا من سامرا نصب ستارته وأمر بالغناء، فاندفعت عَوَّادة فغنت:

كلَّ يوم قطـيعة وعـتـاب

 

ينقضي دهرنا ونحن غِضَاب

ليت شعري أنا خُصِصْتُ بهذا

 

دون ذا الخلق أم كذا الأحباب

وسكتت، فأمر الطنْبُورية فغنت:

وارحمتا للعاشـقـينـا

 

ما إنْ أرى لهمُ مُعِينـا

كم يُهْجَرُونَ ويصرمو

 

ن ويقطعون فيصبرونا

قال: فقالتَ لها العَوَادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبَرَزَتْ كأنها فلقة قمر فزجَتْ بنفسها إلى الماء، وعلى رأس محمد غلامٌ يضاهيها في الجمال وبيده مِذَبّة، فلما رأى ما صنعت ألقى المِذَبة من يده وأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء فأنشأ يقول:

وأنا الذي غرقتنـي

 

بعد القضا لو تعلمينا

فزج بنفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة فإذا هما معتنقان، ثم غاصا فلم يُرَيَا، فهال ذلك محمداً واستعظمه، وقال: يا عمرو لتحدثني حديثاً يسليني عن فقد هذين وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه اللّه أن يخرج جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل، فاغتاظ يزيد، وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أمر بأن يتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يُدْخِلَ إليه الرجل، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عُودُهَا، فقال لها الفتى: غني:

أفاطم مَهْلاً بعـض هـذا الـتـدلـل

 

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني:

تألقَ البَرْقُ نجديّاً، فقلـت لـه:

 

يا أيها البرق إني عنك مشغول

يكفيك عني عدو ثائر حـنـق

 

في كفه صارم كالملح مسلول

فغنته، فقال: قل: قال: تأمر لي برطل خمر، فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد فرمى بنفسه على دماغه، فمات، فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى مالي، يا غلمان، خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفرة في دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشأت تقول:

من مات عشقاً فليمت هكذا

 

لا خير في عشق بلا موت

فزختْ بنفسها على دماغها فماتت، فسري عن محمد وأحسن صلتي، وقيل: إن هذا الخبر إنما كان مع سليمان بن عبد الملك وليس هذا عن يزيد بن عبد الملك قال: فذكرت هذا الحديث لأبي عبد اللّه محمد بن جعفر الأنباري بالبصرة فقال: أنا أخبرك بنحو من هذا الحديث الذي حدثتني به، حدثني فائق الخادم، وكان مولى لمحمد حُمَيْد الطوسي، أن محمد بن حُمَيْد كان جالساً مع ندمائه يوماً، فغنت جارية من وراء الستارة:

يا قَمَرَ القصر متى تطـلـع

 

أشْقَى وغيري بك يستمـتـع

إن كان رَبِّي قد قضى ما رأى

 

منك على رأسي فما أصنـع

وعلى رأس محمد غلام بيده قَدَحٌ يسقيه، فرمى بالقدح عن يده وقال: تصنعين هكذا، ورمى بنفسه من الدار إلى دجلة، فهتكت الجارية الستارة، ثم رَمَتْ بنفسها على إثره، فنزلت الغلمة خلفهما، فلِم يجدوا أحداً منهما، فقطع محمد الشراب، وقام عن مجلسه.

سخط المتوكل على الرخجي

قال المسعودي: وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين سخط المتوكل علىِ عمر بن الفرج الرخجي، وكان من عِلْيَةِ الكتاب، وأخذ منه مالاً وجوهراً نحو مائة ألف وعشرين ألف دينار، وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف ألف دينار، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم على أن يرد إليه ضياعه، ثم غضب عليه غضبة ثانية، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، وألبسه جبة صوف، ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثة، وأحدر إلى بغداد، وأقام بها حتى مات.

وأهدى الموبذان إلى المتوكل قارورة دهن، وكتب إليه: إن الهدية إذا كانت من الصغير إلى الكبير فلطفت ودقت كان أبهى لها وأحسن، وإن كانت من الكبير إلى الصغير فعظمت كان أرفع لها وأنفع.

وفاة الِإمام أحمد بن حنبل

قال المسعودي: وكانت وفاة أحمد بن حنبل في خلافة المتوكل بمدينة السلام، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودُفن بباب حَرْبِ في الجانب الغربي، وصلى عليه محمد بن طاهر، وحضر جنازته خلقَ من الناس لم ير مثل ذلك اليوم والاجتماع في جنازة مَنْ سلف قبله، وكان للعامة فيه كلام كثير جرى بينهم بالعكس والضد في الأًمور: منها أن رجلاً منهم كان ينادي: الْعَنُوا الواقف عند الشبهات، وهذا بالضد عما جاء عن صاحب الشريعة عليه السلام في ذلك، وكان عظيم من عظمائهم ومقدم فيهم يقف موقفَاَ بعد موقف أمام الجنازة وينادي بأعلى صوته:

وأظلمت الدنيا لفقد محـمـد

 

وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل

يريد بذلك أن الدنيا أظلمت عند وفاة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنها أظلمت عند موت ابن حنبل، كظلمتها عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم.

انقضاض الكواكب

وفي هذه السنة انْقَضّتِ الكواكب الانقضاض الذي لم ير مثله قط، وذلك في ليلة الخميس لستٍ خَلَوْنَ من جمادى الآخرة، وقد كان في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة انقضاض لكوكب عظيم هائل، وهي الليلة التي وقعت فيها القرامطة بحاجِّ العراق من طريق الكوفة، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

وفاة جماعة من أهل العلم

وفي السنة التي مات فيها ابن حنبل كانت وفاة محمد بن عبد اللّه بن محمد الِإسكافي، وكان من أهل النظر والبحث ومن عِلْيَةِ أهل العدل، وكانت وفاة جعفر بن المبشر سنة أربع ومائتين، وكان من كبار أهل العَدْلية وأهل الديانة من البغداديين، ومات جعفر بن حرب سنة ست وثلاثين ومائتين، وهو رجل من هَمْدَانَ وَوُجُوه قحطان، وإلى أبيه يضاف شارع باب حرب في الجانب الغربي من مدينة السلام، وهو شيخ البغداديين من المتكلمين ومات عيسى بن طغج سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان من حُذاقهم وأهل الديانات منهم، وذكر أبو الحسن الخياط أن أبا الهذيل محمد بن الهذيل كانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائتين، ثم تنازع أصحابه في مولده فقال قوم: سنة إحدى وثلاثين ومائة وقال قوم: سنة أربع وثلاثين ومائة، وقد كان أبو الهذيل هذا اجتمع مع هشام بن الحكم الكوفي الحرار، وكان هشام شيخ المجسمة والرافضة في وقته ممن وافقه على مذهبه، وكان أبو الهذيل يذهب إلى نفي التجسيم ورفع التشبيه، وإلى ضد قول هشام في التوحيد والإِمامة، فقال هشام لأبي الهذيل: إذا زعمت أن الحركة ترى فَلِمَ لا زعمت أنها تلمس؟ قال: لأنها ليست بجسم فيلمس؛ لأن اللمس إنما يقع على الأجسام، فقال له هشام: فقل أيضاً إنها لا ترى؛ لأن الرؤية إنما تقع على الأجسام، فرجع أبو الهذيل سائلًا فقال له: من أين قلت إن الصفة ليست الموصوفَ ولا غيره. قال هشام: من قبل أنه يستحيل أن يكون فعلي أنا يستحيل أن يكون غيري؟ لأن التغاير إنما أوقِعُهُ على الأجسام والأعيان القائمة بأنفسها، فلما لم يكن فعلي قائماً بنفسه، ولم يجز أن يكون فعلي أنا وجب أنه لا أنا ولا غيري، وعلة أخرى أنت قائل بها: زعمت يا أبا الهذيل أن الحركة ليست مماسة ولا مباينة؟ لأنها عندك مما لا يجوز عليه المماسة ولا المباينة، فلذلك قلت أنا: إن الصفة ليست أنا ولا غيري، وعتبي في أنها ليست أنا ولا غيري علتًكَ في أنها لا تماس ولا تباين، فانقطع أبو الهذيل ولم يردَ جواباً.

وفاة جماعة من المعتزلة

وكانت وفاة أبي موسى الفَرَّاء سنة ست وعشرين ومائتين، وكان من شيوخ العَدْلية وكبار المتكلمين من البغداديين، ومات واصل بن عطاء- ويكنى بأبي حذيفة- في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وهو شيخ المعتزلة وقديمها، وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر، وبه سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وقد قدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار بني أمية قول المعتزلة في الأصول الخمسة، فأغنى ذلك عن إعادته، وكذلك فيما سلف من كتبنا على الشرح والِإيضاح، وقد بينا فيما سلف من هذا الكتاب خبر عمرو بن عُبَيْد ووفاته، وكان شيخ المعتزلة والمقدَّمُ فيها، وأن وفاته كانت سنة أربع وأربعين ومائة، وقد كان عمرو بنِ عُبَيْد اجتمع مع هشام بن الحكم، وهشام يذهب إلى القول بأن الإِمامة نصٌ من اللّه ورسوله على عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه، وعلى مَنْ يلي عصره من ولده الطاهرين كالحسن والحسين، ومن يلي أيامهم، وعمرو يذهب إلى أن الإمامة اختيار من الأمة في سائر الأعصار فقال هشام لعمرو بن عبيد: لم خلق اللّه لك عينين؟ قال: لأنظر بهما إلى ما خلق اللّه من السموات والأرض وغير ذلك فيكون ذلك دليلاً لي عليه، فقال هشام: فلم خلق اللّه لك سمعاً؟ قال: لأسمع به التحليل والتحريم والأمر والنهي، فقال له هشام: لم خلق اللّه لك لساناً؟ فقال عمرو: لأعبر به عما في قلبي وأخاطب به من افترض عليّ أمره ونهيه، قال هشام: فلم خلق اللّه لك قلباً؟ قال عمرو: لتكون هذه الحواسُ مؤدية إليه فيكون مميزاً بين منافعها ومضارها، قال هشام: فكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسك ولا يخلق لك قلباً تؤدي هذه الحواسُّ إليه. قال عمرو: لا، فقال هشام: ولم. قال: لأن القلب باعث لهذه الحواس على ما يصبحِ له، فلو لم يخلق الله فيها انبعاثاً من نفسها استحال أن لا يخلق لها باعثاً يبعثها على ما خلقت له إلا بخلق القلب، فيكون هو الباعث لها على ما تفعله، والمميز لها بين مضارها ومنافعها، ويكون الإِمام من الخلق بمنزلة القلب من سائر الحواس إذ كانت الحواس راجعة إلى القلب لا إلى غيره، ويكون سائر الخلق راجعين إلى الِإمام لا إلى غيره، فلم يأت عمرو بفرق يعرف. وهذا الذي حكيناه ذكره أبو عيسى محمد بن هارون الوراق ببغداد في كتابه المعروف بكتاب المجالس، وكانت وفاة أبي عيسى ببغداد في الجانب الغربي في الموضع المعروف بالرملة سنة سبع وأربعين ومائتين، وله تصنيفات حسان كثيرة منها كتابة في المقالات في الِإمامة وغيرها من النظر.

ابن الراوندي

وكانت وفاة أبي الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندى برحبة مالك بن طَوْقٍ، وقيل: ببغداد سنة خمس ومائتين، وله نحو من أربعين سنة، وله كتب مصنفة مائة كتاب وأربعة عشر كتاباً.

وقد ذكرنا في كتابنا في أخبار الزمان وفاة أرباب المقالات وأهل المذاهب والجدل والآراء والنحل، وأخبارهم ومناظراتهم وتباينهم في مذاهبهم وكذلك في الكتاب الأوسط، إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وإنما يسنح لنا ذكر بعضهم في هذا الكتاب فنذكر لهم لمعاً، وكذلك غيرهم من الفقهاء وأصحاب الحديث.

وفاة الصولي الكاتب

وفيها مات إبراهيم بن العباس الصُّوليُّ، الكاتب، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً، لا يعلم فيمن تقم وتأخر من الكتاب أشعر منه، وكان يكتسب في حداثته بشعره، ورحل إلى الملوك والأمراء ومدحهم طلباً لجدواهم.

وذكر رجل من الكُتّاب أن إسحاق بن إبراهيم أخا زيد بن إبراهيم حدثه أنه كان يتقلد الصيمرة والسيروان، وأن إبراهيم بن العباس اجتاز به يريد خراسان، والمأمون بها، وقد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا، وقد امتدحه بشعر يذكر فيه فضل آل علي وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم، قال: فاستحسنت القصيدة وسألته أن ينسخها لي، ففعل، ووهبت له ألف درهم، وحملته على دابة، وضرب الدهر من ضربه إلى أن ولي ديوان الضياع مكان موسى بن عبد الملك، وكنت أحد عمال موسى، وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني، وأمر أن تعمل مؤامرة فعملت، وكثر علي فيها، وحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لا يدفع، فلا يقيله، ويحكم لي الكتًابُ فلا يلتفت إلى حكمهم، ويُسْمِعني في خلال ذلك قذعا من الكلام إلى أن أوجب علي الكُتَاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت عليه فقال: ليست يمين السلطان عندك يمينَاً لأنك رافضي، فقلت له: تأذن لي فيِ الدنو منك؟ فأذن لي، فقلت له: ليس مع تعرضك بمهجتي للقتل صبر، وهاهو المتوكل إن كاتبت إليه بما أسمع منك لم آمنه على نفسي، وقد احتملت كل شيء إلا الرفض.

والرافضيُّ: من زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من العباس، وأن ولده أحَقُّ من ولد العباس بالخلافة، قال: ومن قال ذلك. قلت: أنت وخطك عندي به، وأخبرته بالشعر، فواللّه ما هو إلا أن قلت ذلك له حتى سُقِط في يده، ثم قال: أحضر الدفتر الذي بخطي، فقلت له: هيهات!! لا واللهّ أو توثق لي بما أسكُنُ إليه أنك لا تطالبني بشيء مما جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة، ولا تنظر لي في حساب، فحلف لي على ذلك بما سكنْتُ إليه، وخرق العمل المعمول، وأحضرته الدفتر، فوضعه في خفه، وانصرفت وقد زالت عني المطالبة.

ولإِبراهيم بن العباس مكاتبات قد دوّنت، وفصول حسان من كلامه قد جمعت، وقد أتينا على كثير منها في الكتاب الأوسط، فما استحسن من فصوله وإن كانت كلها في نهاية الجودة وانتخبناه من كلامه: وقديماً غَذت المعصية أبناءها فحلبت عليهم من دَرِّهَا مرضعة، وبسطت لهم من أمانيها مطمعة، وركبت فيهم مخاطرها مُوضِعَة، حتىِ إذا رَتَعُوا فأمنوا، وركبوا فاطمأنوا، وانقضى رَضَاع وآن فِطَامٌ، سقتهم سُمّاً، ففجرت مجاري ألبانها منها دماً، وأعقبتهمِ من غذائها مُرّاً، وحَطتْ بهم من معقل إلى عقال، ومن عز إلىِ حسرة، قتلاً وأسراً، وإباحة وقسراً، وقَلَّ من أوضع في الفتنة مرهجاً في لهبها ومقتحماً عند ضلالها إلا استقحمته آخذة بمُخَنقِهِ، وموهِنَة بالحق كيده، حتى تجعله لعاجله جزراً، ولآجله حطباً، وللحق موعظة، وللباطل حجة، ذلك لهم جزاء في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر وما ربك بظلام للعبيد.

وله أشعار حسان، فمما استحسن من شعره الذي لم يسبقه عند جماعة أهل الأدب أحدٌ من زمانه قوله:

لنا إبِلٌ كوم يضيقُ بها الـفَـضَـا

 

وَيَفْتَرًّ عنها أرضها وسمـاؤهـا

فمن عونها أن تُسْتَبَـاح دمـاؤنـا

 

ومن دوننا أن يستـدم دمـاؤهـا

حِمًى وقِرًى فالموت دون مرامها

 

وأهْوَنُ خطب في الحقوق فناؤها

وقوله:  

ولكنَّ الجواد أبـا هـشـام

 

وفيُّ الغيب مأمون المغيب

غنيٌّ عنك ما استغنيتَ عنه

 

وطَلاّع عليك مع الخطوب

وقوله:

هب الزمان رماني

 

الشأن في الخِـلاّنِ

فيمنٍ رَمَانِيَ لـمَّـا

 

رأى الزمَان زَمَانِي

ومن ذخرْتُ زمَانِي

 

شنأت في الخـلان

ومن ذخرت لنفسي

 

فعاد ذُخْرَ الزمـان

لو قيل لي خًذْ أمَاناً

 

من أعظم الحدثـان

لما أخـذتُ أمَـانـاً

 

إلا مـن الِإخـوان

وقوله:

وإذا جَزَى اللّه امرأ بفعَالِهِ

 

فجرى أخا لك ماجداً سمحَا

نبهتَهُ مِنْ كذبه فكَـأنـمـا

 

نبهت إذ نبهتَهُ صُـبْـحَـا

ومما يجب على الرؤساء أن يحفظوه قوله:

تزيده الأيامُ إن أقْبَلَـتْ

 

حزماً وعلماً بتصَارِيفها

كأنها في وقت إسعافها

 

تسمعه صوتَ تخاريفها

ومما أحسن فيه وبَرَّزَ عن نظرائه قوله:

سَقْياً وَرَعْياً لأيام لنا سلـفـت

 

بكيت منها فصرتُ اليوَم أبكيهَا

كذاك أيامنا لا شك ننـدبـهـا

 

إذا تَقَضت ونحنُ اليومَ نشكُوها

وقوله:

أولى البـرية طـراً أن تـواسـيه

 

عند السرور لمن واساك في الحزن

إن الكرام إذا مـا أيسـروا ذكـروا

 

من كان يألفهم في المنزل الخَشِـنِ

وقوله:

لا تَلُمْنِي فإنَّ همك أن تُثْرِي وَهَمِّي مكارمُ الأخلاق

كيف يستطيع حفظ ما جمعت كفاه مَنْ ذاق لذة الإِنفاق

وقوله:

أسدٌ ضارٍ إذا ما هِجْـتـه

 

وأبٌ بَـر إذا مـا قَـدَرَا

يعلم الأقصى إذا أثْرَى، ولا

 

يعلم الأدنى إذا ما افتقـرا

وكان إبراهيم بن العباس يقول: مثل أصحاب السلطان مثل قوم عَلَوْا جبلاً ثم وقعوا منه، فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم من الارتقاء، وكان إبراهيم يدعي خؤولة العباس بن الأحنف الشاعر.

العباس بن الأحنف

وحكى أبو العباس أحمد بن جعفر بن حمدان القاضي، عن سليمان بن الحسن بن مخلد، عن أبيه الحسن، قال: أنشد إبراهيم بن ألعباس قول العباس بن الأحنف:

إن قال لم يفعل، وإن سيل لم

 

يبذل، وإن عوتب لم يُعْتِـب

صَب بهجراني، ولو قال لي:

 

لا تشرب البارد لم أشـرب

فقال: هذا واللّه الشعر الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، القليل النظير، ما سمعت كلاماً أجزل منه في رقة، ولا أسهل في صعوبة، ولا أبلغ في إنصاف، من هذا، فقال له الحسن: كلامك واللهّ أحسن من شعره: ومما استحسن من شعر العباس بن الأحنف قوله:

تحمل عظيم الذنب ممن تحـبـه

 

وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم

فَطُوبى لما أعفى من الليل ساعة

 

وذاق اغتماضا؛ إن ذاك لناعَـم

 وقوله:

اصرف فؤادك يا عباس معتمداً

 

عنها، وَإِلّا تَمُتْ في حبها كمدا

لو أنها من وراء الروم في بلـد

 

ما كنت أسكن إلا ذلك البـلـدا

يا من شكا شوقه من هول غيبته

 

اصبر لعلك تلقى ما تحب غدا

وقوله:

أغَبَّ الزيارة لـمـا بـدا

 

له الهجر أو بعض أسبابه

وما صدَ عنَّا، ولـكـنـه

 

طريد ملالة أحـبـابـه

وفاة العباس بن الأحنف

حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدثنا الرياشي، قال: ذكر جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلامٌ واقف على المحجَّة وهو ينادي: يا أيها الناس، هل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قال: فملنا إليه وقلنا له: ما تريد. قال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم، فملنا معه، فإذا بشخص مُلْقًى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يُحيِرُ جواباً، فجلسنا حوله، فأحَسَّ بنا، فرفع طرفه، وهو لا يكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول:

يا غريب الدار عن وطنه مفرداً

 

يبـكـي عـلـى شَـجَـنِـهْ

كلـمـا جَـدّ َالـبـكـاء بـه

 

دَبَّتِ الأسـقـام فـي بـدنـه

ثم أغمى عليه طويلَاً، وإنا لجلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة، وجعل يغرد، ففتح الفتى عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم قال:

ولقد زاد الفؤاد شَجًى

 

طائر يبكي على فَنَنِهْ

شَفّه ما شَفِّنِي فبكـى

 

كلنا يبكي على سَكَنِهْ

قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولّينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنَه، فقال: هذا العباس بن الأحنف.


وقد أخبرنا بهذا الخبز أبو إسحاق الزجاجي النحوي، عن أبي العباس المبرد، عن المازني، قال: حدثنا جماعة من أهل البصرة بما ذكرناه.

وكانت وفاة أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي سنة أربعين ومائتين.

نفى المتوكل علي بن الجهم

وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين نَفَى المتوكل عليَّ بن الجهم الشاعر إلى خُرَاسان، وقيل: في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وقد أتينا على خبره وما كان من أمره ورجوعه بعد ذلك إلى العراق، وخروجه يريد السفر، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين، فلما صار بالقرب من حلب من بلاد قنسرين والعواصم بالموضع المعروف بخشبات لقيته خيل الكلبيين فقتلته، فقال في ذلك وهو في الشرق:

أزيد في اللـيل لـيلُ

 

أم سال بالصبح سَيْلُ؟

ذكرت أهـل دُجَـيْلٍ

 

وأين منـي دُجَـيْلَ؟

وكان علي بن الجهم السامِيُّ هذا- مع انحرافه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وإظهاره التسنن مطبوعاً مقتدراً على الشعر؛ عذب الألفاظ، غزير الكلام، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب طعم من طعن على نسبه، وما قال الناس في عقب لسَامَةَ بن لؤي بن غالب، وقول علي بن محمد بن جعفر العلوي الشاعر:

وسَامَةُ منا فأما بـنـوه

 

فأمرهُمُ عندنا مُظْـلِـم

أناس أتونا بأنسـابـهـم

 

خُرَافَة مضطجِعٍ يحلـم

وقلت لهم مثل قول النبي

 

وكل أقاويله محـكـم

إذا ما سئلت ولم تدر ما

 

تقول فقل ربنا أعـلـم

وقول العلوي فيه أيضاً:

لو اكتنفت النَّضْرَ أو مَعَـدّا

 

أو اتخذت البيت كهفاً مَهْدَا

وزمـزمـا شـريعة ووردا

 

والأخشبين محضرا ومَبْدَار

ما ازددت إلا من قريش بعدا

 

أو كنت إلا مصقلـيا وَغْـدَ

وإنما أعدنا ذكر هذا الشعر في هذا الموضع- وإن كنا قد قدمنا فيه سلف من هذا الكتاب- لما سنح لنا من ذكر علي بن الجهم في أيام المتوكل، ولما احتجنا إليه عند ذكرنا لشعر علي بن الجهم وإجابته العلوي على هذا الشعر، فكان ما أجاب به علي الجهم لعلي بن محمد بن جعفر العلوي:

لم تُـذِقْنِـي حلاوة الإِنصاف

 

وتعسّـفْتنِي أشَدَّ اعتـسـاف

وتركت الوفاء علما بما فيه

 

وأسْرَفْتَ غاية الإِسـراف

غير أني إذا رجعت إلى حق

 

بني هاشم بن عبد مناف

لم أجدلي إلى التّشَفًي سبيلا

 

بقواف ولا بغير قـواف

ليَ نفس تأبى الدنية والأشراف

 

لا تعتمي على الأشرف

وله في الحبس شعر معروف لم يسبقه إلى معناه أحد، وهو قوله:

قالوا: حبست، فقلت: ليس بضائري

 

حبسي، وأي مهنـد لا يُغْـمَـد؟

أو ما رأيت الليث يألـفَ غِـيَلـهُ

 

كبرا، وأوباش الـسـبـاع تـردد

والشمس لولا أنهـا مـحـجـوبة

 

عن ناظريك لما أضاء الفَـرْقَـدُ

والنار في أحجارهـا مـخـبـوأة

 

لا تُصْطَلَى إن لم تُثِرْهَـا الأزنُـدُ

والحبس ما لم تَـغْـشَـه لـدنـية

 

شنعاء نِعْمَ المنزل المـسـتـورد

بيت يجحـد لـلـكـريم كـرامة

 

وُيزَارُ فـيه ولا يزور ويحـفـد

لو لم يكن في الحـبـس إلا أنـه

 

لا يستذلُّكَ بالحـجـاب الأعـبُـدُ

ومما أحسن فيه قوله:

خليليَ ما أحْلـى الـهـوى وأمَـرَّهُ

 

وأعلَمَنِي بالحلو مـنـه وبـالـمـر

بما بيننا من حـرمة هـل رأيتـمـا

 

أرق من الشكوى وأقسى من الهجر؟

وأفصح من عين المـحـب لـسـره

 

ولاسيما إن أطْلَقَتْ عَبرة تـجـري

ومما اختير من قوله:  

حسـرَتْ عَنِّيَ القناعَ ظلـومُ

 

وتولتْ ودمعها مسـجـوم

شر مـا أنكرت تصرم عهد

 

لم يَدُمْ لي وأي عهد يدوم؟

أنـكرت ما رأت برأسي وقالت:

 

أمشـيب أم لؤلؤ منظـوم

قلت: أولاهمـا علمت، فقـالت:

 

آية يسـتثـيرها المـهموم

ليس هَمِّي من الهموم التي

 

يحسن فيها العزاء والتسليم

إن أمراً أخْنَى عليَّ بشيب

 

الرأس في ليلة لأمْرٌ عظيم

ليس عندي وإن تَعَزَّيت إلا

 

طاعة حرة وقلب سـلـيم

ومن جيد شعره:

هي النفس ما حَمَّلْتها تتـحـمـل

 

وللدهر أيام تـجـور وتـعـدل

وعاقبة الصبر الجمـيل جـمـيلة

 

وأكمل أخلاق الرجال التفضـل

ولا عار إن زالت عن المرء نعمة

 

ولكن عاراً أن يزول التجـمـل

وما المال إلا حسرة إن تركـتـه

 

وغنم إذا قَدَّمتـه مـتـعـجَّـلُ

ومما اعتذر فيه فأحسن قوله في المتوكل:

إنَ ذًلَّ الـــســـؤال والاعـــتــــذار

 

خُطّة صعـــبة عـــلـــى الأحـــرار

ليس مـن بـاطــل يوردهـــا الـــمـر

 

ء ولـكـــن ســـوابـــق الأقـــدار

فارْضَ لـلـسـائل الـخـضـوع ولـلــقـا

 

رف ذنـبـــاً بـــذلة الاعـــتـــذار

إن تـجـافَـيْتَ مُـنْـعِـمـاً كـنــت أوْلـى

 

مَنْ تـجافـي عـن الـذنـوب الـكــبـــار

أو تُعَاقِبْ فأنت أعرف

 

بالله، وليس العقاب منك بعار

ومما جود فيه قوله لما قيد:

فقلت لها والدمع شتى طريقـه

 

ونار الهوى بالقلب يذْكُو وقودها

فلا تجزعي إمَّـا رأيت قـيوده

 

فإن خلاخيل الرجال قـيودهـا

وكان في لسانه فضل قَلَّ مَنْ سَلِم معه منه، وكان محمد بن عبد اللّه منحرفاً عنه، فاستشفع عليه بوصيف التركي حتى أصلح له ناحيته، ثم فسد عليه وصيف، فاستشفع عليه بمحمد بن عبد اللّه، وكتب إليه:

الحمد للَه شكـراً

 

قلوبنا فـي يديه

صار الأمير شفيعاً

 

إلى شفيعي إلـيه

وله أشعار نادرة، وأمثال سائرة، أخترنا منها ما قدمنا ذكره واقتصرنا بذلك عن غيره، وقد رثاه جماعة من الشعراء بعد قتله، منهم أبو صاعد، فقال:

أريقي الدمعِ واجتنبي الهجوعـا

 

وصُوبي شمل وَجْدِك أن يضيعا

وقولي: إن كهف بنـي لـؤي

 

غَدَا بالشام منجـدلاً صـريعـا

عزاء يا بني جَهْـم بـن بـدر

 

فقد لاقيتمُ خَطْبـاً فَـظِـيعـا

أمَا واللَّه لو تَـدْرِي الـمَـنَـايَا

 

بما لاقَيْتُمُ لبـكَـتْ نَـجـيعـا

ثوى كهف الأرامل واليتـامـى

 

ومن كان الزمان به ربـيعـا

فَتًى كان السهام على الأعـادي

 

وليثـاً دون حـادثة مـنـيعـاً

قال: وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين كان خروج المتوكل من دمشق إلى سُرِّ من رأى، فكان بين خروجه منها ورجوعه إليها ثلاثة أشهر وسبعة أيام، وفي خروجه يقول يزيد المهلبي شعراً طويلاً اخترنا منه قوله:

أظن الشام يَشْمَت بالعـراق

 

إذا عزم الإِمام على انطلاق

فإن تَدَع العراق وساكنيهـا

 

فقد تُبْلَى المليحة بالطـلاق

ولما نزل دمشق أبى أن ينزل المدينة لتكاثف هواء الغُوطَة عليها وما يرتفع من بخار مياهها، فنزل قصر المأمون، وذلك بين داريّا ودمشق، على ساعة من المدينة، في أعلى الأرض، وهذا الموضع بدمشق يُشْرف على المدينة وأكثر الغوطَة ويعرف عصر المأمون إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.

المتوكل في دمثسق

وذكر سعيد بن نكيس قال: كنت واقفاً بين يدي المتوكل في مَضْرِبه بدمشق إذ شَغَبَ الجند واجتمعوا وضَجُّوا يطلبون الأعْطِيَةَ، ثم خرجوا إلى تجريد السلاح والرمي بالنشاب، وأقبلت أرى السهام ترتفع في الرواق، فقال لي: يا أبا سعيد، ادع لي رجاء الحضاري، فدعوته، فقال له: يا رجاء، أما ترى ما خرجِ إليه هؤلاء. فما الرأي عندك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كنت مُشْفقاَ في هذا السفر من مثل هذا، فأشرت بما أشرت من تأخيره، فمال أمير المؤمنين إليه، وقال: دَعْ ما مضى وقل الآن مما حضر برأيك، فقال: يا أمير المؤمنين، توضع الأغطية، فقال له: فهذا ما أرادوا، وفيه مع ما خرجوا إليه ما يعلم، قال: يا أمير المؤمنين، مُرْ بهذا فإن الرأي بعده، فأمر عبيد اللّه بن يحيى بوضع الأعطية فيهم، فلما خرج المال وبدئ بإنفاقه دخل رجاء فقال: مُرِ الآن يا أمير المؤمنين بضرب الطبل للرحيل إلى العراق، فإنهم لا يأخذون مما أخرج إليهم شيئاً، ففعل ذلك، فترك الناس الأعطية فرجعوا حتى إن المُعْطِيَ ليتعلق بالرجل ليعطيه رزقه فلا يأخذه.

الأتراك يدبرون وقيعة

قال سعيد: وقد كان الأتراك قد رأوا أنهم يقتلون المتوكل بدمشق، فلم يمكنهم فيه حيلة بسبب بُغَا الكبير، فإنهم دبِّرُوا في إبعاده عنه، فطرحوا في مضرب المتوكل الرقاع يقولون فيها: إن بُغَا دبر أن يقتل أمير المؤمنين، والعلامة في ذلك أن يركب في يوم كذا في خيله ورجله، فيأخذ عليه أطراف عسكره، ثم يأخذ جماعة من الغلمان العجم يدخلون عليه فيفتكون به، فقرأ المتوكل الرقاع فبهت مما تضمنته، ودخل في قلبه من بُغَا كل مدخل، وشكَا إلى الفتح ذلك، وقال له في أمر بًغَا والإِقدام عليه، وشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي كتب الرقاع قد جعل للأمر دلائل في وقت بعينه سَمّاه له من ركوب الرجل بالأطراف من العسكر وتوكيله بنواحيه، وبعد ذلك يتبين الأمر، وأنا أرى أن تمسك، فإن صح هذا الدليل نظرنا كيف نفعل، وإن بطل ما كتب به فالحمد للّه، وأقبلت الرقاع تطرح في كلِ وقت على جهة التنصح، وأن في أعناق من كتبها بيعة لم يجد معها بداً من النصح والصدق، فلما علموا بما علم به الخليفة وتمكن به ما عندهم من الأمر كتبوا رقاعاً فطرحوها في مضرب بُغَا يقولون فيها: إن جماعة من الغلمان والأتراك قد عزموا على الفتك بالخليفة في عسكره، ودبَّرُوا ذلك، واتفقوا عليه، وتعاقدوا على أن يأتوه من نواحي كذا، ونواحي كذا، فاللّه اللّه إلا ما احترست لأمير المؤمنين، وحرسته في هذه الليلة من هذه المواضع، وحَصَّنتها بنفسك ومن تثق به، فإنا قد نصحنا وصدقنا، وأكثروا طرح الرقاع بهذا المعنى والتوكيد في حراسة الخليفة، فلما وقف بُغَا عليها وتتابعت عليه لم يأمن أن يكون ما كتب إليه فيها حقاً، مع ما كان وقع عليه من الأمر قبل ذلك، فلما كانت الليلة التي ذكروها جمع جيوشه وأمرهم بالركوب بالسلاح وركب بهم إلى المواضع التي ذكرت، فأخذها على المتوكل وحرسها، واتصل الخبر بالمتوكل فلم يشك أن ما كتب له حق، فأقبل يتوقع مَنْ يوافيه فيفتك به، وسهر ليلته، وامتنع من الأكل والشرب، فلم يزل على تلك الحال إلى الغَدَاة، وبُغَا يحرسه، والأمر عند المتوكل على خلاف ذلك، وقد اتهم بُغَا، واستوحش من فعله، فلما عزم المتوكل على الانصراف قال له: يا بُغَا، قد أبت نفسي مكَانك مني، و رأيت أن أقلدك هذا الصقع وأقر عليك ما كان لك من رزق وحِبَاء ونُزُد ومعونة وكل سبب، فقال: أنا عبدك يا أمير المؤمنين فافعل ما شئت وأمرني بما أحببت، فخلفه بالشام وانصرف، فأحدث الموالي عليه ما أحدثوا، فلم يعلم المتوكل وجه الحيلة، ولم يعلم كل واحد منهما الحيلة في ذلك إلى أن تمت الحيلة.

تدبير المؤامرة ضد المتوكل

قال: ولما عزم بُغَا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر ولا يخرج عن محبته، وأريد أن آمرك بشيء عَرفني كيف قلبك فيه، فقال: أنت تعلم كيف أفعل فقل لي ما شئت حتى أفعله، قال: إن ابني فارس قد أفسد عليّ عملي وعزم على قتلي وسَفْكِ دمي، وقد صح عندي ذلك منه، قال: فتريد مني ماذا؟ قال: أريد أن يدخل علي غداً فالعلامة بيننا أن أضع قلنسوتي في الأرض، فإذا أنا وضعتها في الأرض فاقتله، قال: نعم، ولكن أخاف أن يبدو لك أو تجد في نفسك عليَّ، قال: قد آمنك اللّه من ذلك. فلما دخل فارس حضر باغر ووقف موقف الضارب، فلم يزل يراعي بُغَا أن يضع قلنسوته، فلم يفعل، وظن أنه نسي، فغمزه بعينه أن افعل؟ قال: لا، فلما لم ير العلامة وانصرف فارس قال لي بُغَا: اعلم أني فكرت في أنه حَدَثٌ وأنه ولدي، وقد رُمْتُ أن أستخلصه هذه المرة، فقال له باغر: أنا قد سمعت وأطعت وأنت أعلم وما دبرت وقدرت عليه فيه صلاحه؟ ثم قال له: وهاهنا أمر أكبر من ذلك وأهم فعرفني كيف تريد أن تكون فيه، قال له: قل ما شئت حتى أفعله، قال: أخي وصيف قد صح عندي أنه يربًرَّ وَعَلَى رفقائي، وأن مكاننا قد ثقل عليه، وأنه عًولَ على أن يقتلنا ويفنينا وينفرد بالأمور، قال: فماذا تريد أن يُصْنَعُ به؟ قال: افعل هذا فإنه يصير إليّ غداً فالعلامة أن أنزل عن المصلّى الذي يكون معي قاعداً عليه، فإذا رأيتني نزلت عنه فضع سيفك عليه واقتله؟ قال: نعم، فلما صار وصيف إلى بُغَا حضر باغر وقام مقام المستعد، فلم ير العلامة حتى قام وصيف وانصرف، قال: فقال له بُغَا: يا باغر إني فكرت في أنه أخي وأني قد عاقدته وحلفت له، فلم أستجز أن أفعل ما دبرته، ووصله وأعطاه. ثم إنه أمسك عنه مدة مديدة ودعا به فقال: يا باغر، قد حضرت حاجة أكبر من الحاجة التي قدمتها فكيف قلبك. قال: قلبي على ما تحبُّ فقل ما شئت حتى أفعله، فقال: هذا المنتصر قد صح عندي أنه على إيقاع التدبير عَلًيّ وَعَلَى غيري حتى يقتلنا وأريد أن أقتله، فكيفَ ترى نفسك في ذلك. ففكر باغر في ذلك ونكس رأسه طويلاً وقال: هذا لا يجيء منه شيء، قال: وكيف. قال: يقتل الابن والأبُ باق؟ إذاً لا يستوي لكم شيء ويقتلكم أبوه كلكم به. قال: فما ترى عندك. قال: نبدأ بالأب أولاً فنقتله، ثم يكون أمر الصبي أيسر من ذلك، فقال له: ويحك ويُفعل هذا ويًتهيأ؟ قال: نعم أفعله وأدخل عليه حتى أقتله، فجعل يردد عليه، فيقول: لا تفعل غير هذا، ثم قال له: فادخل أنت في أثري فإن قتلته وإلا فاقتلني وضَعْ سيفك عَلًيّ، وقل: أراد أن يقتل مولاه، فعلم بُغَا حينئذ أنه قاِتله وتوجه له في التدبير في قتل المتوكل.

وفي سنة سبع وأربعين ومائتين توفيت شجاع أم المتوكل، وصلى عليها المنتصر، وذلك في شهر ربيع الآخر.

مقتل المتوكل

ثم قتل المتوكل بعد وفاتها بستة أشهر، ليلة الأربعاء لثلاث ساعات خلت من الليل، وذلك لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وقيل: لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين. وكان مولده بفم الصلح، حدث البحتري قال: اجتمعنا ذات ليلة مع الندماء في مجلس المتوكل فتذاكرنا أمر السيوف، فقال بعض من حضر: بلغني يا أمير المؤمنين أنه وقع عند رجل من أهل البصرة سيف من الهند ليس له نظير ولم يُرَ مثله، فأمر المتوكل بكتاب إلى عامل البصرة يطلبه بشرائه بما بلغ، فنفذت الكتب على البريد وورد جواب عامل البصرة بأن السيف اشتراه رجل من أهل اليمن، فأمر المتوكل بالبعث إلى اليمن بطلب السيف وابتياعه، فنفذت الكتب بذلك، قال البحتريُّ: فبينا نحن عند المتوكل إذ دخل عليه عبيد اللّه بن يحيى والسيف معه، وعَرَّفه أنه ابتيع من صاحبه باليمن بعشرة آلاف درهم، فسر بوجوده، وحمد اللّه على ما سهل من أمره، وانتضاه فاستحسنه، وتكلم كل واحد منا بما يحب، وجعله تحت ثني فراشه، فلما كان من الغداة قال للفتحِ: اطلب لي غلاماً تثق بنجدته وشجاعته أدفع له هذا السيف ليكون واقفاً به على رأسي لا يفارقني في كل يوم ما عمت جالساً، قال: فلم يستتم الكلام حتى أقبل باغر التركي فقال الفتح: يا أمير المؤمنين، هذا باغر التركي قد وصف لي بالشجاعة والبسالة، وهو يصلح لما أراد أمير المؤمنين، فدعا به المتوكل فدفع إليه السيف، وأمره بما أراد، وتقدم أن يزاد في مرتبته، وأن يضعف له الرزق، قال البحتريُ: فواللّه ما انتضى ذلك السيف ولا خرج من غمده من الوقت الذي دفع إليه إلاَّ في الليلة التي ضربه فيها باغر بهذا السيف. قال البحتريُ: لقد رأيت من المتوكل في الليلة التي قتل فيها عجباً، وذلك أننا تذاكرنا أمر الكِبْرِ، وما كانت تستعمله الملوك من الجبرية، فجعلنا خوض في ذلك وهو يتبرأ منه، ثم حَوَّلَ وجهه إلى القبلة فسجد وعفر وبهه بالتراب خضوعاً للّه عز وجل، ثم أخذ من ذلك التراب فنثره في لحيته ورأسه، وقال: إنما أنا عبد اللّه، وإن من صار إلى التراب لحقيق أن يتواضع ولا يتكبر.

قال البحتري: فتطيرت له من ذلك، وأنكرت ما فعله من نَثْرِه الترابَ على رأسه ولحيته، ثم قعد للشراب، فلما عمل فيه غنى من حضره من المغنين صوتاً استحسنه، ثم التفت إلى الفتح فقال: يا فتح، ما بقي أحد سمع هذا الصوت من مخارق غيري وغيرك، ثم أقبل على البكاء. قال البحتري: فتطيرت من بكائه وقلت هذه ثانية؛ فإنا في ذلك إذ أقبل خادم من خدم قبيحة ومعه منديل وفيه خلعة وجهت بها إليه قبيحة، فقال له الرسول: يا أمير المؤمنين تقول لك قبيحة: إني استعملت هذه الخلعة لأمير المؤمنين واستحسنتها ووجهت بها لتلبسها، قال: فإذا فيها دراعة حمراء لم أر مثلها قط، ومُطْرَفُ خز أحمر كأنه ديبقي من رقَّتهِ، قال: فلبس الخلعة والتَحَفَ بالمطرف. قال البحتري: فتصيدت لأبدره بنادرة تكون سبباً لأخذ المطرف فإني على ذلك إذ تحرك المتوكل فيه وقد كان التف عليه المطرف فجذبه جذبة فخرقه من طرفه إلى طرفه، قال: فأخذه ولفه ودفعه إلى خادم قبيحة الذي جاءه بالخلعة، وقال: قل لها احتفظي بهذا المطرف عندك ليكون كفناً لي عند وفاتي، فقلت في نفسي: إنا للّه وأنا إليه راجعون، انقضت واللّه المدة؛ وسكر المتوكل سكراً شديداً، قال: وكان من عادته أنه إذا تمايل عند سكره أن يقيمه الخدم الذين عند رأسه، قال: فبينما نحن كذلك ومضى نحو ثلاث ساعات من الليل إذ أقبل باغر ومعه عشرة نفر من الأتراك وهم متلثمون والسيوف في أيديهم تبرق في ضوء تلك الشمع، فهجموا علينا، وأقبلوا نحو المتوكل حتى صعد باغر ومعه آخر من الأتراك على السرير، فصاح بهم الفتح: ويلكم!! مولاكم؟ فلما رآهم الغلمان ومَنْ كان حاضراً من الجلساء والندماء تطايروا على وجوههم، فلم يبق أحد في المجلس غير الفتح وهو يحاربهم ويمانعهم قال البحتري: فسمعت صيحة المتوكل وقد ضربه باغر بالسيف الذي كان المتوكل دفعه إليه على جانبه الأيمن، فَقَمَّه إلى خاصرته، ثم ثنّاه على جانبه الأيسر ففعل مثل ذلك، وأقبل الفتح يمانعهم عنه فَبَعَجَه واحد منهم بالسيف الذي كَان معه في بطنه فأخرجه منِ متنه، وهو صابر لا يتنحَّى ولا يزول، قال البحتري: فما رأيت أحداً كَان أقْوَى نفساً ولا أكرم منه، ثم طرح بنفسه على المتوكل، فماتا جميعاً، فلفا في البساط الذي قتلا فيه، وطرحا ناحية، فلم يزالا على حالتهما في ليلتهما وعامة نهارهما حتى استقرت الخلافة للمنتصر، فأمر بهما فدفنا جميعاً، وقيل: إن قبيحة كفنته بذلك المطرف المخرق بعينه.

وقد كان بُغَا الصغير توحش من المتوكل فكان المنتصر يجتذب قلوب الأتراك، وكان أوتامش غلام الواثق مع المنتصر، فكان المتوكل يبغضه لذلك، وكان أوتامش يجتذب قلوب الأتراك إلى المنتصر، وعبيد الله بن خاقان الوزير والفتح بن خاقان منحرفين عن المنتصر مائلين إلى المعتز، وكانا قد أوْغَرا قلب المتوكل على المنتصر، فكان المنتصر لا يُبْعِدُ المتوكل أحداً من الأتراك إلا اجتذبه، فاستمال قلوب الأتراك وكثيراً من الفراغنة والإشروسية، إلى أن كان من الأمر ما ذكرناه.

وقد ذكر في كيفية قتل المتوكل غير ما ذكرنا، وهذا ما اخترناه في هذا الموضع، إذ كان أحسن ألفاظاً وأقرب مأخذاً، وقد أتينا على جميع ما قيل في ذلك قي الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن تكراره في هذا الكتاب.

ولم يكن المتوكل يوماً أشد سروراً منه في اليوم. الذي قتل فيه؟ فلقد أصبح في هذا اليوم نشيطاً فرحاً مسروراً، وقال: كأني أجد حركة الدم. فاحتجم في ذلك اليوم، وأحضر الندماء والملهين، فاشتد سروره وكثر فرحه، فانقلب ذلك الفرح ترحاً والسرور حزناً؛ فمن ذا الذي يغتر بالدنيا ويسكن إليها، ويأمن الغدر والنكبات فيها إلا جاهل مغرور؟ فهي دار لا يدوم نعيمها، ولا يتم فيها سرور، ولا يؤمن فيها محذور، قد قرنت منها السراء بالضراء، والشحة بالرخاء، والنعيم بالبلوى؟ ثم يتبعها الزوال، فمع نعيمها البؤس، ومع سرورها الحزن، ومع محبوبها المكروه، ومع صحتها السقم، ومع حياتها الموت، ومع فراحاتها الترحات، ومع لذاتها الآفات، عزيزها ذليل، وقويُّها مَهِين، وغنيها محروب وعظيمهما مسلوب، ولا يبقى إلا الحي الذي لا يموت ولا يزول ملكه وهو العزبز الحكيم.
وفي ذلك يقول البحتري في غدر المنتصر بأبيه وفتكه به، من قصيدة له:

أكَان ولي العهد أضمـر غَـدْرَةً

 

فمن عَجَبِ أو وُلِّيَ العهد غادرُهْ

فلا مُلِّيَ الباقي تراث الذي مضى

 

ولا حملتَ ذاك الدعاء منابـره

وصف أيام المتوكل

وكانت أيام المتوكل في حسنها ونَضَارتها ورفاهية العيش بها وحمد الخاص والعام لها ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء، كما قال بعضهم: كانت خلافة المتوكل أحسن من أمْن السبيل، ورخص السعر، وأماني الحب، وأيام الشباب؟ وقد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:

قربك أشهى موقعاً عندنـا

 

من لين السعر وأمن السبيل

ومن ليالي الحب موصـولة

 

بطيب أيام الشباب الجمـيل

قال المسعودي: وقد قيل: إنه لم تكن النفقات في عصر من الأعصار ولا وقت من الأوقات مثلها في أيام المتوكل.

ويُقال: إنه أنفق على الهاروني والجوسق الجعفري أكْثَرَ من مائة ألْف ألْف درهم، هذا مع كَثرة الموالي والجند والشاكرية ودرور العطاء لهم وجليل ما كانوا يقبضونه في كُل شهر من الجوائز والهبات.

ويُقال: إنه كان له أربعة آلاف سرية وطئهن كلهن، ومات وفي بيوت الأموال أربعة آلاف ألْف دينار وسبعة آلاف ألْف درهم، ولا يعلم أحد في صناعته في جد ولا هزل إلا وقد حَظِيَ في دولته، وسعد بأيامه، ووصل إليه نصيب وافر من ماله.

الحسين الخليع بين يدي المتوكل

وذكر محمد بن أبي عون قال: حضرت مجلس المتوكل على اللّه في يوم نيروز، وعنده محمد بن عبد اللّه بن طاهر، وبين يديه الحسين بن الضحاك الخليع الشاعر، فغمز المتوكل خادماً على رأسه حَسَنَ الصورة أن يسقي الحسين كأساً ويحييه بتفاحة عنبر، ففعل ذلك، ثم التفت إلى الحسين فقال: قل فيه أبياتاً، فأنشأ يقول:

وكالدرة البيضاء حَـيا بـعـنـبـر

 

من الورد يسعى في قَرَاطِقَ كالورد

له عَبَـثَـات عـنـد كـل تـحـية

 

بعينيه تستدعي الخليَّ إلى الـوجـد

تمنيت أن أسْقَى بـكـفـيه شـربة

 

تذكرني ما قد نسيت من الـعـهـد

سقى اللّه دهراً لم أبِتْ فـيه سـاعة

 

من الليل إلا من حبيب على وعـد

قال المتوكل: أحسنت واللّه، يُعْطى لكل بيت مائة دينار، فقال محمد بن عبد الله: ولقد أجاب فأسرع، وذكر فأوجع، ولولا أن يَدَ أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء ولو بالطرف والتالد، فقال المتوكل عند ذلك: يعطى لكل بيت ألف دينار.

قال: ويروى أنه لما أتي بمحمد بن المغيث إلى المتوكل وقد دعا له بالنطع والسيف، قال له: يا محمد ما دعاك إلى المشاقّة؟ قال: الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت ظل اللّه الممدود بينه وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو عن عبدك، وأنشأ يقول:

أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلـي

 

إمامَ الهدى والعَفْوُ بالحر أجمل

وهل أنا إلاجبلة من خـطـيئة

 

وعفوك من نور النبوة يجمـل

تضاءل ذَنْبِي عند عفوك قـلة

 

فمن لي منك والمَنًّ أفـضـل

لأنك خير السابقين إلى العُـلاَ

 

وإنك خَيْرَ الفعلتين ستفـعـل

فقال المتوكل: أفعل خيرهما، وأمُنُّ عليك، ارجع إلى منزلك، قال ابن المغيث: يا أمير المؤمنين، اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

من رثاء المتوكل

ولما قتل المتوكل رثته الشعراء؛ فمن رثاه علي بن الجهم، فقال من قصيدة له:

عَبِيدُ أمير المؤمنين قـتـلـنـه

 

وأعظم آفات الملوك عبـيدهـا

بني هاشم، صبراً فكل مصـيبة

 

سَيَبْلى على وجه الزمان جديدها

وفيه يقول يزيد بن محمد المهلبي من قصيدة طويلة:

جاءت منيته والعين هاجـعة

 

هلا أتته المنايا والْقَنا قِصَـدُ

عَلَتْكَ أسياف مَنْ لا دونه أحد

 

وليس فوقك إلا الواحد الصمد

خليفة لم ينل ما نـالـه أحـد

 

ولم يَضِعْ مثله روح ولا جسد

وفيه يقول بعض الشعراء:

سرت ليلاً مـنـيتـه إلـيه

 

وقد خَلّى منادمه ونـامـا

فقالت: قم، فقام، وكم أقامت

 

أخا مُلْكٍ إلى هُلْك فقامـا

وفيه يقول الحسين بن الضحاك الخليع:

إن اللياليَ لم تحسـن إلـى أحـد

 

إلا أساءت إليه بعـد إحـسـان

أما رأيت خُطُوبَ الدهر ما فعلت

 

بالهاشميِّ وبالفتح بن خـاقـان

محبوبة جارية المتوكل

وذكر علي بن الجهم قال: لما أفْضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أهدى إليه الناس على أقدارهم، وأهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائتا وصيفة ووصيف، وفي الهدية جارية يقال لها محبوبة كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها وعلمها من صنوف العلم وكانت تقول الشعر وتلحنه وتغني به على العود وكانت تحسن كلِ ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل، وحَلّتْ من قلبه محلاً جليلاً لم يكن أحد يعد لها عنده، قال علي: فدخلتُ عليه يوماً للمنادمة، فلما استقر بي المجلس قام فدخل بعض المقاصير، ثم خرج وهو يضحك، فقال لي: ويلك يا علي، دخلت فرأيت قَيْنَة قد كتبت في خدها بالمسك جعفراً فما رأيت أحسن منه، فقل فيه شيئاً، فقلت: يا سيدي، وحدي أو أنا ومحبوبة، قال: لا، بل أنت ومحبوبة، قال: فدعت بدواة وقرطاس، فسبقتْنِي إلى القول، ثم أخذت العود فتزنمت، ثم خفقت عليه حتى صاغت له لحناً وتضاحكت منه ملياً، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، تأذن لي؟ فأذن لها، فغنت:

وكاتبة في الخد بالمسك جـعـفـرا

 

بنفسي محطُّ المسك من حيث أثرا

لئن أودَعَتْ خطا من المسك خَدَّهَـا

 

لقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا

فيا من لمملـوك يظـل مـلـيكُـه

 

طيعاً له فيمـا أسًـرَ وأجـهـرا

ويا من لعيني مَنْ رأى مثل جعفـر

 

سقى اللَه صوبَ المستهلات جعفرا

قال علي: وتبلدت خواطري حتى كأني ما أحسن حرفاً من الشعر، قال: فقال لي المتوكل: ويلك يا علي!! ما أمرتك به، فقلت: يا سيدي أقِلْنِي فواللّه لقد عَزَبَ عن ذهني، فلم يزل يضرب به على رأسي ويعيرني به إلى أن مات.

قال علي: ودخلت عليه أيضاً لأنادمه، فقال لي: ويلك يا علي، علمت أني غاضبت محبوبة، وأمرتها بلزوم مقصورتها، ونهيت الحشم عن الدخول إليها، وأنفت من كلامها. فقلت: يا سيدي، إن كنت غاضبتها اليوم فصالحها غداً، ويديم اللّه سرور أمير المؤمنين، ويمدُّ في عمره، قال: فأطرق مليّاً، ثم قال للندماء: انصرفوا، وأمر برفع الشراب، فرفع، فلما كان من غد دخلْتُ إليه، فقال: ويلك يا علي، إني رأيت البارحة في النوم أني قد صالحتها، فقالت جارية يُقال لها شاطر كانت تقف أمامه: واللّه لقد سمعت الساعة في مقصورتها هينمة لا أدري ما هي، فقال لي: قم ويلك حتى ننظر ما هي، فقام حافياً وقمت أتبعه حتى قربنا من مقصورتها، فإذا هي تخفق عوداً وتترنم بشيء كأنها تصوغ لحناً، ثم رفعت عقيرتها وتغنت:

أدور في القصر لا أرى أحـداً

 

أشكو إلـيه ولا يكـلـمـنـي

حتى كأني أتَـيْتُ مـعـصـيةً

 

ليس لها توبة تخـلـصـنـي

فَمَنْ شفيعٌ لـنـا إلـى مـلـك

 

قد زارني في الكَرَى وصالحني

حتى إذا ما الصباحُ عـاد لـنـا

 

عاد إلى هجره وصَارَمَـنـي

قال: فصفق المتوكل طرباً، فصفقت معه، فدخل إليها فلم تزل تقبِّل رجل المتوكل وتمرغ خديها على التراب حتى أخذ بيدها، ورجعنا وهي ثالثتنا.

قال علي: فلما قتل المتوكل ضمت هي وكثير من الوصائف إلى بُغَا الكبير، فدخَلْتُ عليه يوماً للمنادمة، فأمر بهَتْكِ الستارة، وأمر بالْقَينات فأقبلن يرفلن في الحلي والحلل، وأقبلت محبوبة حاسرة من الحلى والحلل، عليها بياض، فجلَسَتْ مُطْرِقة منكسة، فقال لها وصيف، غني، قال: فاعتّلتْ عليه، فقال: أقسمت عليك، وأمر بالْعُود فوضع في حجرها، فلما لم تجد بُدّاً من القول تركَ العود في حجرها، ثم غنت عليه غناء مرتجلاً:

أي عـيش يَلَـــذُّ لـــي

 

لا أرِى فـيه جـعـفـــرا

ملـــك قـــد رأيتـــهُ

 

في نـجِـيعٍ مُـعَـفّـــرا

كل مـن كـان ذا خَـبَـــا

 

ل وسـقـم فـقـد بَـــرَا

غير مـحـبـوبة الـتـــي

 

لوً ترى الـمـوت يُشـتَـرَى

لاشترته بما حوته يداها لِتُقبرا

 

 

قال: فغضب عليها وصيف وأمر بسجنها، فسجنت، وكان آخر العهد بها.

قال المسعودي: ومات في خلافة المتوكل جماعة من أهل العلم ونقلة الأثر وحفاظ الحديث: منهم علي بن جعفر المديني بسامرا يوم الاثنين لثلاث بَقِينَ من في الحجة سنة أربع وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وأشهر. وتنوزع في السنة التي مات فيها ابن المديني، وقد قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب "السنة التي قيل فيها إن وفاته كانت فيها.

وفي هذه السنة مات أبو الربيع بن الزهراني، وقد تنوزع في السنة التي مات فيها يحيى بن معين؛ فمنهم مَنْ رأى ما قَدَّمنا في هذا الكتاب ومنهم مَنْ رأى- وهو الأكثر- أنه مات في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، ويكنى بأبي زكريا مولى بني مرة، وقد بلغ من السن خمساً وسبعين سنة وأشهراً، بالمدينة، وقيل: إن في هذه السنة كانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد المدائني الأخبازي، وقيل: مات في أيام الواثق في سنة ثمان وعشرين ومائتين، وفيها كانت وفاة مسمد بن مُسَرْهد، واسمه عبد الملك بن عبد العزيز.

وفيها مات الحماني الفقيه، وابن عائشة واسمه عبد اللّه بن محمد بن حفص، ويكنى بأبي عبد الرحمن، وهو من تَيمْ قريش.

وفي خلافة المتوكل مات هُدْبة بن خالد، وشيبان بن فروخ الأبلي، وإبراهيم بن محمد الشافعي، وذلك في سنة ست وثلاثين ومائتين.

وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين- مات العباس بن الوليد النرسي بالبصرة وعبد اللّه بن أحمد النّرْسِي، وعبيد الله بن معاذ العنبري.

وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين مات إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهوية، وبشر بن الوليد القاضي الكندي صاحب أبي يوسف، وقد قيل: إن في هذه السنة مات العباس بن الوليد النّرْسِي.

وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين مات عثمان بن أبي شَيْبَة الكوفي بالكوفة، والصَّلْتُ بن مسعود الجَحْدَري.

وفي سنة أربعين ومائتين مات شباب بن خليفة اِلعصفري، وعبد الواحد بن عتاب.

وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين مات هشام بن عمار الدمشقي، وحميد بن مسعود الناجي، وعبد اللهّ بن معاوية الجمحي، وفيها مات يحيى بن أكثم القاضي في الرَّبَذَة، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب.

وفي سنة ست وأربعين ومائتين مات محمد بن المصطفى الحمصي، وعنبسة بن إسحاق بن شمر، وموسى بن عبد الملك.

قال المسعودي: وللمتوكل أخبار وسِيرَ حِسَان غير ما ذكرنا، وقد أتينا عليها على الشرح والِإيضاح في كتابنا أخبار الزمان، واللهّ الموشق للصواب.