ذكر خلافة المنتصر بالله

ذكر خلافة المنتصر باللّه

وبويع محمد بن جعفر المنتصر في صبيحة الليلة التي قُتل فيها المتوكل، وهي ليلة الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ويكنى بأبي جعفر، وأمه أم ولد يُقال لها حبشية، رومية، واستخلف وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكانت بيعته بالقصر المعروف بالجعفري الذي أحدث بناءه المتوكل، ومات سنة ثمان وأربعين ومائتين، وكانت خلافته ستة أشهر.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

الموضع الذي قتل فيه المتوكل

كان الموضع الذي قتل فيه المتوكل هو الموضع الذي قَتَلَ فيه شيرويه أباه كسرى أبرويز، وكان الموضع يعرف بالماخورة، وكان مقام المنتصر بعد أبيه في الماخورة سبعة أيام، ثم انتقل عنه وأمر بتخريب ذلك الموضع. وحكي عن أبي العباس محمد بن سهل قال: كنت أكتب لعتاب بن عتاب على ديوان جيش الشاكرية في خلافة المنتصر، فدخلت إلى بعض الأرْوقَة، فإذا هو مفروش ببساط سوسنجرد ومسند ومصلى ووسائد بالحمرة والزرقة، وحول البساط دارات فيها أشخاصُ ناسٍ وكتابة بالفارسية، وكنت أحسن القراءة بالفارسية، وإذا عن يمين المصلى صورة ملك، وعلى رأسه تاج كأنه ينطق، فقرأت الكتابة فإذا هي صورة شيروية القاتل لأبيه أبرويز الملك مَلَك ستة أشهر ثم رأيت صور ملوك شتى، ثم انتهى بي النظر إلى صورة عن يسار المصلى عليها مكتوب صورة يزيد بن الوليد بن عبد الملك قاتل ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك ملك ستة أشهر فتعجبتَ من ذلك واتفاقه عن يمين مقعد المنتصر وعن شماله، فقلت: لا أرى يدوم ملكه أكثر من ستة أشهر، فكان واللّه كذلك، فخرجت من الرواق إلى مجلس وَصِيف وبُغَا، وهما في الدار الثانية، فقلت لوصيف: أعَجَزَ هذا الفَرَّاش أن يفرش تحت أمير المؤمنين إلا هذا البساط الذي عليه صورة يزيد ابن الوليد قاتل ابن عمه وصورة شيرويه قاتل أبيه أبرويز، وعاشا ستة أشهر بعد ما قَتَلاَ، فجزع وصيف من ذلك وقال: عليَّ بأيوب بن سليمان النصراني خازن الفُرُش، فمثل بين يديه، فقال له وصيف: لم تجد ما يفرش في هذا اليوم تحت أمير المؤمنين إلا هذا البساط الذي كان تحت المتوكل ليلة الحادثة وعليه صورة ملك الفرس وغيره، وقد كان نالته آثار من الدماء. قال: سألني أمير المؤمنين المنتصر عنه، وقال: ما فعل البساط. فقلت: عليه آثار دماء فاحشة، وقد عزمت أن لا أفرشه من ليلة الحادثة، فقال: لم لا تغسله وتَطويه؟ فقلت: خشيت أن يشيع الخبر عند من يرى ذلك البساط من أثر الحادثة، فقال: إن الأمر أشهر من ذلك، يريد قتل الأتراك لأبيه المتوكل، فطويناه وبسطناه تحته، فقال وصيف وبُغَا: إذا قام أمير المؤمنين من مجلسه فخذه وأحرقه بالنار، فلما قام أحرق بحضرة وصيف وَبُغَا، فلما كان بعد أيام قال لي المنتصر: افرش ذلك البساط الفلاني، قلت: وأين ذلك البساط؟ فقال: وما الذي كان من أمره؟ فقلت: إن وصيفاً وبُغَا أمراني بإحراقه، قال: فسكَتَ ولم يُعِدْ في أمره شيئاً إلى أن مات.


وقد كان المنتصر طرب في هذه الأيام، فدعا ببنّان بن الحارث العواد، وكان مطرباً مجيداً، وقد كان غضب عليه، فأحضره فغناه:

لقد طال عهدي بالِإمـام مـحـمـد

 

وما كُنت أخشى أن يطول به عهدي

فأصبحتُ ذا بُـعْـدٍ وداري قـريبة

 

فيا عجباً من قرب داري ومن بُعْدِي

رأيتك في بُرْدِ النـبـي مـحـمـد

 

كَبدر الدجا بين العمـامة والـبُـرْدِ

فيا ليت أن الـعـيد عـاد لـيَوْمـه

 

فإني رأيت العيد وَجْهَك لي يُبْـدِي

وكان ذلك ثاني يوم عيد الأضحى، وقد كان المنتصر صَلّى بالناس في هذا العيد، ومما غنى به من الشعر للمنتصر في ذلك اليوم:

رأيتك في المنام أقلّ بخـلاً

 

وأطْوَعَ منك في غير المنام

فليت الصبح باد ولا نـراه

 

وليت الليل أخِّرَ ألْفَ عـام

ولو أن النعاس يُبَاعُ بـيعـاً

 

لأغليت النعاس على الأنام

ومن شعر المنتصر أيضاً مما غني بحضرته:

إني رأيتك في المنام كـأنـمـا

 

أعطيتتي من ريق فيك البـارِدِ

وكأن كَفّك في يَدِي وكأنـمـا

 

بتنا جميعاً في لحـاف واحِـد

ثم انتبهتُ ومعصماكِ كلاهمـا

 

بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي

ظللت يومي كله مـتـراقـداً

 

لأراكِ في نومي ولستُ براقد

وزير المنتصر بن الخصيب

وقد كان استوزر أحمد بن الخصيب وندم على ذلك، وكان نفي عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان، وذلك أن أحمد بن الخصيب ركب ذات يوم فتظلم إليه متظلم بقصةٍ، فأخرج رجله من الركاب فزجَّ بها في صدر المتظلم فقتله، فتحدث الناس بذلك، فقال بعض شعراء الزمان:

قل للخليفة يا ابن عم محـمـد

 

اشكُـلْ وزيرك، إنـه رَكَّـالُ

أشكله عن رَكْل الرجال فإن ترد

 

مالاً فعـنـد وزيرك الأمـوال

وزير المقتدر

قال المسعودي: ولو لحق هذا الشاعر الوزير حامد بن العباس في وزارته للمقتدر بالله لرأى منه قريباً، مما ظهر من ابن الخصيب، وذلك أنه خاطبه مخاطِبٌ ذات يوم، فقلب ثيابه على كتفه ولَكَمَ حَلْقَهُ.

ولقد دخلت عليه ذات يوم أمُّ موسى القهرمانة الهاشمية، أو غيرها من القَهَارِمة، فخاطبته في شيء من الأموال عن رسالة المقتدر، فكان مما خاطبها به أن قال:

اضرطي والتقطي

 

واحسبي لا تغلطي

فأخجلها ذلك، فقطعها عما له قصدت، فمضت من فَوْرِها إلى المقتدر والسيدة فأخبرتهما بذلك، فأمر القِيَان أن يغنين ذلك اليوم بهذا الكلام، وكان يوم طرب وسرور.

وقد أتينا على خبره وأخبار غيره من وزراء بني العباس وكُتَاب بني أمية إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- في الكتاب الأوسط.

مرض المنتصر وموته

وأخبرت عن أبي العباس أحمد بن محمد بن موسى بن الفُرَاتِ قال: كان أحمد بن الخصيب سيء الرأي في والدي، وكان عاملاً له، فجاءني مخبر من خَدَم الخاصة فقال: إن الوزير قد ندب لأعمالكم فلاناً، وقد أمره في والدك بكل مكروه، وأن يُصَادره على جملة من المال غليظة ذكَرها، فقعدت وعندي بعض أصدقائنا من الكُتَّاب أبادر بالكتاب إلى والدي بذلك، فاشتغلت عن جليسي الكاتب فاتكأ على الوسادة وغفا، فانتبه مرعوباً، وقال: إني قد رأيت رؤياً عجيبة، رأيت أحمد بن الخصيب واقفاً في هذا الموضع وهو يقول لي: يموت الخليفة المنتصر إلى ثلاثة أيام، قال: قلت له: الخليفة في الميدان يلعب بالصولجان، وهذه الرؤيا من البلغم والمرار وقد قدمنا الطعام، فما استتممنا الكلام حتى دخل علينا داخل فقال: رأيت الوزير بدار الخاصة غير مُسْفِر الوجه، وإني سألْتُ عن سبب ذلك فقيل لي: إن الخليفة المنتصر انصرف من الميدان وهو عرق، فدخل الحمام ونام في الباذهنج فضربه الهواء، وركبته حمى هائلة، فدخل عليه أحمد بن الخصيب فقال له: يا سيدي، أنت متفلسف وحكيم الزمان تنزل من الركُوب تبعاً فتدخل الحمام ثم تخرج عَرِقاً فتنام في الباذهنج؟ فقال له المنتصر أتخاف أن أموت؟! رأيت في المنام البارحة آتياً أتاني فقال لي: تعيش خمساً وعشرين سنة، فعلمت أن ذلك بشارة في المستقبل من عمري، وأني أبقى في الخلافة هذه المدة، قال: فمات في اليوم الثالث، فنظروا فإذا هو قد استوفى خمساً وعشرين سنة.

وقد ذكر جماعة من أصحاب التواريخ أن المنتصر ضربته الريح يوم الخميس لخمسٍ بَقِينَ من شهر ربيع الأول، ومات مع صلاة العصر لخمس لَيَالٍ خَلَوْنَ من ربيع الآخر، وصلّىِ عليه أحمد بن محمد المستعين، وكان أول خليفة من بني العباس أظهر قبره، وذلك أن أُمه حبشية سألت ذلك، فأذن لها، ؤأظهرته بسامرا.

الخلاف في سبب موت المنتصر

وقد قيل: إن الطيفوري الطبيب سَمَّه في مشراط حَجَمَه به، وقد كان عزم على تفريق جمع الأتراك، فأخرج وصيفاً في جمع كثير إلى غَزَاة الصائفة بطرسوس، ونظر يوماً إلى بُغَا الصغيرَ- وقد أقبل في القصر، وحوله جماعة من الأتراك- فأقبل على الفضل بن المأمون، فقال: قتلني اللّه إن لم أقتلهم وأفرق جمعهم، بقتلهم المتوكل على اللّه، فلما نظرت الأتراكُ إلى ما يفعل بهم، وما قد عَزَمَ عليه، وجدوا منه الفرصة.

وقد شكا ذات يوم حرارة، فأراد الحجامة، فخرج له من ألف م ثلاثمائة عرهم، وشرب شربة بعد ذلك فحلت، قواه، ويُقال: إن السم كان في مبضع الطبيب حين فَصَده.

وقد ذكر ابن أبي الدنيا، عن عبد الملك بن سليمان بن أبي جعفر، قال: رأيت في نومي المتوكل والفتح بن خاقان، وقد أحاطت بهما نار، وقد جاء محمد المنتصر فاستأذن عليهما، فمنع الوصول، ثم أقبل المتوكل عليّ فقال: يا عبد الملك قل لمحمد: بالكأس الذي سقيتنا تشرب، قال: فلما أصبحت غَدوْت على المنتصر فوجَدْته محموماً، فواظبت على عيادته، فسمعته في آخر علته يقول: عَجَّلْنَا فَعُوجلنا فمات من ذلك المرض.

من صفات المنتصر

وكان المنتصر واسع الاحتمال، راسخ العقل، كثير المعروف، راغباً في الخير، سخيّاً، أديباً، عفيفاً، وكان يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق، وكثرة الإِنصاف، وحسن المعاشرة، بما لم يسبقه خليفة إلى مثله.

وكان وزيره أحمد بن الخصيب قليل الخير، كثير الشر، شديد الجهل.

صنيع المنتصر بآل أبي طالب

وكان آل أبي طالب قبل خلافته في محنة عظيمة، وخوف على دمائهم، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغريّ من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسير إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْوِ أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكل خشي العقوبة، وأحْجَمَ، فتناول الذيريج مِسْحَاة وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفَعَلَة فيه، وأنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد فلم يروا فيه أثر رمة ولا غيرها، ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر، فأمَّنَ الناس، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب، وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد زيارة الحيرة لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه، ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمر برد فدَكَ إلى ولَدِ الحسن والحسين، وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم، وفي ذلك يقول البحتري من أبيات له:

وإن علـياً لأوْلـى بـكـم

 

وأزكى يداً عندكم من عمر

وكل له فَضْلُه، والحـجـو

 

ل يوم التراهن دون الغرر

وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي- وكان من شيعة آل أبي طالب- وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت وأغريت بهم العامة:

ولقد بررت الطالبية بعـدمـا

 

ذموا زماناً بعدها وزمـانـا

وَرَعَدْتَ ألفة هاشم، فرأيتهـم

 

بعد العداوة بينهـم إخـوانـا

آنست ليلَهُمُ وجُدْتَ علـيهـمُ

 

حتى نَسُوا الأحقاد والأضغانا

لو يعلم الأسلاف كيف بَرَرْتَهم

 

لرأوك أثقل مَنْ بها ميزانـا

خلع أخويه من ولاية العهد

وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المنتصر باللّه أخويه المعتز وإبراهيم من ولاية العهد بعده، وقد كان المتوكل على الله أخذ لهم العهد في كتب كتبها وشروط اشترطها، وأفرد لكل واحد منهم جزءاً، من الأعمال رَسَمَه له وجعل ولي عهده والتالي لملكه محمداً المنتصر، وتالي المنتصر وولي عهده المعتز، وتالي المعتز وولي عهده إبراهيم المؤيد، وأخذت البيعة على الناس بما ذكرنا، وفرق فيها أموالاً وعًمّ الناس بالجوائز والصَلَات، وتكلمت في ذلك الخطباء، ونطقت به الشعراء، فمما اختير من قولهم في ذلك قول مروان أبي الجنوب من قصيدة:

ثلاثة أمـلاك؛ فـأمـا مـحـمـد

 

فنور هُدَى يَهْدِي به اللّه من يهـدي

وأمـا أبـو عـبـد الإِلـه فـإنـه

 

شبيهك في التقوى وُيجْدِي كما تجدي

وذو الفضل إبراهيم للناس عصـمة

 

تَقِي وفِي بالـوعـيد، وبـالـوعـد

فأولهم نـور، وثـانـيهـمُ هـدى،

 

وثالثهم رشد، وكـلـهـم مَـهْـدِي

وقوله للمتوكل مما أجاد فيه وأحسن:

يا عاشر الخلفاء دمْتَ ممتعـاً

 

بالملك تعقد بعدهم للعاشـر

حتى تكون إمامهم وكأنـهـم

 

زُهْرُ النجوم دَنَتْ لبدر زاهر

وفي بيعة المتوكل لمن ذكرنا من ولمه الثلاثة بولاية العهد يقول الشاعر المعروف بالسلمي من أبيات له:

لقد شَد ركن الدين بالبيعة الرضا

 

وطائر سعد جعفر بن محمـد

بمنتصر بالله أثـبـت ركـنـه

 

وأكَّدَ بالمعتز قبـل الـمـؤيد

وممن قال في ذلك فأحسن القول، وأجاد النظم، إدريس بن أبي حفصة حيث يقول:

إن الـخـلافة مـا لـهـا عـن جـعـفـــر

 

نورِ الـهـدى وبـنـيه مـن تـــحـــويل

فإذا قضـى مـنـهـا الـخـلـيفَةُ جـعـفـر

 

وطَـرا، ومَـلَّ ولـيس بـالـمـمــلـــول

فمحمد بعد الخليفة جعفر

 

للناس لا فقدوه خيرُ بديل

فبقاء ملكك وانتظار محمد

 

خير لـنـا ولـه مـن الـتــعـــجـــيل

خروج الشاري باليمن

وقد كان خرج أيام المنتصر بناحية اليمن والبوازيج والموصل أبو العمود الشاري، فحكم واشتد أمره فيمن انضاف إليه من المحكمة من ربيعة وغيرهم من الأكراد، فسرح إليه المنتصر جيشاً عليهم سيما التركي، فكانت له مع الشاري حروب، فأسِرَ الشاري، وأتي به المنتصر، فجاد عليه بالعفو، وأخذ عليه العهد، وخَلّى سبيله. وحكى عنه وزيره أحمد بن الخصيب بن الضحاك الجرجاني أنه قال حين رضي عن الشاري: إن لذة العفو أعذب من لذة التشفي، وأقبح أفعال المقتدر الانتقام.

وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: رأى بعض الكتاب في المنام في الليلة التي استخلف في صبيحتها المنتصر كأن قائلَاَ يقول:

هذا الإِمام المنتصـر

 

والْمَلِكُ الحادي عشر

وأمـره إذا أمـــر

 

كالسيف ما لاقى بَتَرْ

وطرفـه إذا نـظـر

 

كالدهر في خير وشر

وقد كان أظهر الإِنصاف في الرعية فمالت إليه قلوب الخاصة والعامة مع شدة الهيبة منها له.

وحدثني أبو الحسن أحمد بن علي بن يحيى المعروف بابن النديم، قال: حدثنا علي بن يحيى المنجم، قال: ما رأيت أحداً مثل المنتصر ولا أكرم أفعالاً بغير تبجح منه، ولا تكلف، لقد رآني يوماً وأنا مغموم شديد الفكر بسبب ضيعة مجاورة لضيعتي، وكنت أحب شراءها، فلم أزل أعمل الحيلة عند مالكها حتى أجابني إلى بيعها، ولم يكن عندي في ذلك الوقت قيمة ثمنها، فصرت إلى المنتصر وأنا على تلك الحال، فتبين الانكسار في وجهي، وشغل القلب، فقال لي: أراك مفكراً فما قضيتك؟ فجعلت أرْوِي عنه خبري، وأستر قصتي، فاستحنفني، فصدقته عن خبر الضيعة، فقال لي المنتصر: فكم مبلغ ثمنها، فقلت: ثلاثون ألف درهم، قال: فكم عندك منها. قلت: عشرة آلاف، فأمسك عني ولم يجبني، وتشاغل عني ساعة، ثم دعا بدواة وبطاقة، ثم وقع فيها بشيء لا أدري ما هو، وأشارَ إلى خادم كان على رأسه بما لم أفهم، فمضى الغلام مسرعاً، وأقبل يشغلني بالحديث وُيطَاعمني الكلام، إلى أن أقبل الغلام فوقف بين يديه، فنهض المنتصر وقال لي: يا علي، إذا شئت فانصرف إلى منزلك، وقد كنت قدرت عند مسألته أنه سيأمر لي بالثمن أو نصفه، فأتيت وأنا لا أعقل غماً، فلما وصلت إلى داري استقبلني وكيلي فقال: إن خادم أمير المؤمنين صار إلينا ومعه بغل عليه بدرتان، فسلمهما إليِّ وأخذ خطي بقبضهما، قال: فداخلني من الفرح والسرور ما لم أملك به نفسي، ودخلت وأنا لا أصدق قول الوكيل، حتى أخرج إلي البحرتين، فحمدت اللّه تعالى على ما حَبَاه لي، ووجهت في وقتي إلى صاحب الضيعة فوفيته الثمن، وتشاغلت سائر يومي بتسليمها والِإشهاد بها على البائع، ثم بكرت إلى المنتصر من الغد، فما أعاد علي حرفَاً، ولا سألني عن شيء من خبر الضيعة حتى فرق الموت بيننا.

حديث عن العشق

قال المسعودي: وذكر الفضل بن أبي طاهر في كتابه في أخبار المؤلفين قال: حدثني أبو عثمان سعيد بن محمد الصغير مولى أمير المؤمنين، قال: كان المنتصر في أيام إمارته ينادمه جماعة من أصحابه، وفيهم صالح بن محمد المعروف بالحريري، فجرى في مجلسه ذات يوم ذكر الحب والعشق، فقال المنتصر لبعض مَنْ في المجلس: أخبرني عن أي شيء أعظم عند النفس فَقْداً، وهي به أشد تفجعاً. قال: فَقْدُ خِلٍّ مُشَاكل، وموت شكل موافق، وقال آخر ممن حضر: ما أشد جولة الرأي عند أهل الهوى! وفِطام النفس عند الصبا، وقد تصدعت أكباد العاشقين من لوم العاذلين، فلوم العاذلين قُرْطٌ في آذانهم، ولوعات الحب نيران في أبدانهم، مع دموع المعاني، كغروب السَّوَاني، وإنما يعرف ما أقول، من أبكته المغاني والطلول، وقال آخر: مسكين العاشق، كل شيء عدوه: هبوب الرياح يُقْلِقه، ولمعان البرق يؤرقه، والعذل يؤلمه، والبعد ينحله، والذكر يسقمه، والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يَهْرُبُ منه. ورسوم الدار تحرقه، والوقوف على الطلوع يبكيه. ولقد تداوت منه العشاق بالقرب والبعد. فما نجع فيه دواء. ولا هداه عزاء. ولقد أحسن الذي يقول:

وقد زعموا أن المـحـب إذا دنـا

 

يملُّ، وأنَّ النأي يَشْقِي من الوجـد

بكل تداوينا فلم يُشْـفَ مـا بـنـا

 

على أن قرب الدار خير من البعد

فكل قال: وأكثر الخطب في ذلك، فقال المنتصر لصالح بن محمد الحريري: يا صالح، هل عشقت قط. قال: إي واللّه أيها الأمير، وإن بقايا ذلك لَفِي صدري قال: ويلك لمن؟ قال: أيها الأمير، كنت ألف الرصافة في أيام المعتصم. وكانت لقَيْنَةَ أم ولد الرشيد جارية تخرج في حوائجها وتقوم في أمرها، وتلقى الناس عنها، وكانت قينة تتولى أمر القصر إذ ذاك، وكانت الجارية تمر بي فأحتشمها وأعاينها، ثم راسلتها فطردت رسولي وهددتني، وكنت أقعد على طريقها لأكلمها، فإذا رأتني ضحكت وغمزت الجواري بالعَبَثِ بي والهزء، ثم فارقتها وفي قلبي منها نار لا تخمد وغليل لا يبرد ووجد يتجمد فقال له المنتصر: فهل لك أن أحضرها وأزوجكها إن كانت حرة أو أشتريها إن كانت أمة؟ فقال: والله أيها الأمير إن بي إلى ذلك أعظم الفاقة وأشد الحاجة، قال: فدعا المنتصر بأحمد بن الخصيب وسأله أن يوجه له في ذلك غلاماً من غلمانه منفرداً ويكتب معه كتابَاً مؤكداً إلى إبراهيم بن إسحاق وصالح الخادم المتولى لأمر الحرم بمدينة السلام، فمضى الرسول وقد كانت قينة أعتقتها وخرجت من حد الجواري إلى حد النساء البوالغ، فحملها إلى المنتصر، فلما حضرت نَظَرْتُ إليها، فإذا عجوز قد حدبت وعنست وبها بقية من الجمال، فقال لها: أتحبين أن أزوجك. قالت: إنما أنا أمتك أيها الأمير ومولاتك، فافعل ما بدا لك، فأحضر صالحاً وأملكه بها وأمهرها؟ ثم مزح به فأحضر جوزاً مرصصاً وفركاً مخلقاً فنشره عليه، وأقامت مع صالح مدة طويلة، ثم مَلّهَا ففارقها، وقال يعقوب التمار في ذلك:

منح اللّه أبا الفضـل حـياة لا تُـنَـغّـصْ

 

وتولاه فقد با

 

لغ في الـحــب وأخـلـــص

عاشـقـاً كـان عـلـى الـتــز

 

ويج للعـقــد تَـــحَــرَّص

من هوى مَنْ شعرها يخضب بالحنا المعفص

 

 

فتراه عندما ينْصُلُ كالبرد المحرصِ

 

 

فهي من أملح خلق اللَه في التاج المفصص

 

 

رُزقَ الصبر عليها فتأتى وتربص

 

 

شيخة هام بها مِنْ

 

وجْلِـىِ شـيخ مـــقـــرفــص

قرنـصـت فـي عـهـــد نوح

 

صاحـب الـفـلــك وقـــرنــص

أيَّ حظ نال لولا الفرك والجوز المرصص

 

 

ليته قد جعل الأمر إليها وتخلص

 

 

فأبو الجوزان منها

 

حين يدنــو يتـقــلـــــص

صنيعه مع عاشق

وذكر أبو عثمان سعيد بن محمد الصغير، قال: كان المنتصر في أيام إمارته وَجّهني إلى مصر في بعض أموره للسلطان، فعشقت جارية كانت لبعض النخاسين عرضت للبيع، محسنة في الصنعة مقبولة في الخلقة قائمة على الوزن من المحاسن والكمال، فساومت مولاها فأبى أن يبيعها إلا بألف دينار، ولم يكن ثمنها متهيئاً معي، فأزعجني السفر وقد عَلِقَهَا قلبي، فأخذني المُقِيمُ المُقْعِدُ من حبها، وندمت على ما فاتني من شرائها. فلما قدمت فرغت مما وجهني إليه وأديت إليه ما عملت حمد أثري فيه، وسألني عن حاجتي وخبري، فأخبرته بمكان الجارية وكَلَفِي بها، فأعرض عني وجعل لا يزداد إلا حمة وقلبي لا يزداد إلا كَلَفاً وصبري لا يزداد إلا ضعفاً، وسليت نفسي عنها بغيرها، فكأني أغريتها ولم تتسل عنها، وجعل المنتصر كلما دخلت إليه وخرجت من عنده يذكرها ويهيج شوقي إليها، وتحَيّلْت إليه بندمائه وأهل الأنس به وخاص من يحظى من جواريه وأمهات أولاده وجدته أم الخليفة أن يشتريها لي، وهو لا يجيبني إلى ذلك، ويعيرني بقلة الصبر وكان قد أمر أحمد بن الخصيب أن يكتب إلى عامل مصر في ابتياعها وحملها إليه من حيط لا أعلم، فحملت إليه وصارت- عنده، فنظر إليها وسمع منها فعذرني فيها، ودفعها إلى قَيِّمَة جواريه فأصلحت من شأنها، فلما كان يوماً من الأيام استجلسني وأمرها أن تخرج إلى الستارة، فلما سمعت غناءها عرفتها، وكرهت أن أعلمه أني قد عرفتها، حتى ظهر فيَّ ما كتمت، وغلب عليّ صبري، فقال: مالك يا سعيد؟ قلت: خيراً أيها الأمير، قال: فاقترحَ عليها صوتاً كنت قد أعلمته أني سمعته منها، وأني أستحسنه من غنائها، فغنته فقال: أتعرف هذا الصوت. قلت: إي واللّه أيها الأمير، وكنت أطمع في صاحبته، فأما الآن فقد أيست منها، وكنت كالقاتل نفسه بيده وكالجالب الحتف إلى حياته، فقال: واللّه يا سعيد ما اشتريتها إلا لك ويعلم اللّه أني ما رأيت لها وجهاً إلا ساعةَ دخلت عليها وقد استراحت من ألم السفر، وخرجت من شحوبة التبذل فهي لك، فدعوت له بما أمكنني من الدعاء، وشكره عني مَنْ حضره من الجلساء، وأمر بها فهيئت وحملتَ إليَ فردت إليَ حياتي بعد أن أشرفت على الهلكة، ولا أحد عندي أحظى منها ولا ولد أحب إليَ من ولدها.

شهادة الحمير

ومن ملاحات أحاديث الملهين المجان ما ذكره أبو الفضل بن أبي طاهر قال: حدثني أحمد بن الحارث الجزار عن أبي الحسن المدائني وأبي علي الحرمازي قالا: كان بمكة سفيه يجمع بين الرجال والنساء على أفحش الريب وكان من أشراف قريش، ولم يذكر اسمه، فشكا أهل مكة ذلك إلى الوالي فغرّبه إلى عرفات، فاتخذها منزلاً ودخل إلى مكة مستتراً فلقي بها حرفاؤه من الرجال والنساء، فقال: وما يمنعكم مني؟ فقالوا: وأين بك وأنت بعرفات؟ فقال: حمار بدرهمين وصرتم إلى الأمن والنزهة والخلوة واللذة قالوا: نشهد إنك لصادق؟ فكانوا يأتونه، فكثر ذلك حتى أفسد على أهل مكة أحداثهم وحواشيهم، فعادوا بالشكية إلى أميرهم، فأرسل إليه فأتي به فقال: أي عدو اللّه طردتك من حرم اللّه فصرت إلى المشعر الأعظم تفسد فيه وتجمع بين الخبائث. فقال: أصلح اللّه الأمير! إنهم يكذبون عليَّ ويحسدونني! فقالوا للوالي: بيننا وبينه واحدة تجمع حُمُرَ المكارين وترسلها إلى عرفات فإن لم تقصد إلى بيته لما تعودت من إتيان السفهاء والفُجَّار إياه فالقول ما قال؛ فقال الوالي: إن في هذا لدليلاً، وأمر بجمع الحمر فجمعت ثم أرسلت فقصدت منزله، وأتاه أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جَرِّدوه! فلما نظر إلى السياط قال: ولا بد من ضربي؟ قال: لا بد يا عدو اللّه، قال: اضرب فواللّه ما في هذا شيء بأشد من أن يسخر بنا أهل العراق ويقولون: أهلُ مكة يجيزون شهادة الحمير مع تقريعهم لنا بقول شهادة الواحد مع يمين الطالب، قال: فضحك الوالي وقال: لا أضربك اليوم، وأمر بتخلية سبيله وترك التعرض له. قال المسعودي: وللمنتصر باللّه أخبار حسان وأشعار ومُلَح ومنادمات ومكاتبات ومراسلات قبل الخلافة، وقد أتينا على مبسوطها وما استحسناه منها مما لم نورده في هذا الكتاب في كتابنا أخبار الزمان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة، وكذلك في الكتاب الأوسط؛ إذ كنا ما ضمنَّاه كل كتاب منها لم نتعرض لذكره في الآخر، ولو كان كذلك لم يكن بينها فرق وكان الجميع واحداً، وسنورد بعد فراغنا من هذا الكتاب كتاباً نضمنه فنوناً من الأخبار على غير نظم من التأليف ولا ترتيب من التصنيف على حسب ما يسْنَحُ من فوائد الأخبار ويخلله بالآداب وفنون الآثار، تالياً لما سلف من كتبنا ومعقباً لما تقدم من تصنيفنا. إن شاء الله تعالى.