ذكر خلافة المستعين بالله

ذكر خلافة المستعين بالله

وبويع أحمد بن محمد بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر، وهو يوم الأحد لخمس خَلَوْنَ من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ويكنى بأبي العباس، وكانت أمه أم ولد صقلبية يُقال لها مخارق، وخلع نفسه، وسلم الخلافة إلى المعتز، فكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر- وقيل: ثلاث سنين وتسعة أشهر- وكانت وفاته يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وقتل وهو ابن خمس وثلاثين سنة.

ذكر جمل هن أخباره وسيره

ولمع مما كان في أيامه

وزراؤه وكتابه

واستوزر المستعين بالله أبا موسى أوتامش، وكان المتولي لأمر الوزارة والقَيم بها كاتباً لأوتامش يُقال له شجاع بن القاسم، وبعد أن قتل أوتامش وكاتبه شجاع صار على وزارته أحمد بن صالح بن شيرزاد، ولما قَتَلَ وصيف وبُغَا باغر التركي تعصبت الموالي، وانحدر وصيف وبُغَا إلى مدينة السلام، والمستعين معهما، فأنزلاه دار محمد بن عبد اللّه بن طاهر، وذلك في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، والمستعين لا أمر له، والأمر لبُغَا ووصيف، وكان من حصار بغداد ما ذكرناه في الكتاب الأوسط؟ وفي المستعين باللّه يقول بعض الشعراء في هذا العصر:

خليفة في قَفَص

 

بين وصيف وبُغَا

يقول ما قالا لـهَ

 

كما يقول الببَّغَا

وقد كان المستعين نَفَى أحمد بن الخصيب إلى إقريطش سنة ثمان وأربعين ومائتين، ونَفَى عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى برقة، واستوزر عيسى بن فرخشانشاه، وقَلَد سعيد بن حميد ديوان الرسائل.

سعيد بن حميد

وكان سعَيد حافظاً لما يُسْتحسن من الأخبار، ويُسْتجاد من الأشعار، متصرفاً في فنون العلم، ممتعاً إذا حَدَث، مفيداً إذا جُولسَ، وله أشعار كثيرة حسان؟ فَفما يُستحسن ويختار من شعره قوله:

وكنت أخَوَفُهُ بالـدعـاء

 

وأخْشَى عليه من المأثـم

فلما أقام على ظـلـمـه

 

تركت الدعاء على الظالم

وقوله:

أسيدتي مـالـي أراكِ بـخـيلةً

 

مقيمٌ على الحرمان مَنْ يستزيدها

فأصْبَحْتِ كالدنيا ننم صروفـهـا

 

ونُتْبِعها ذّماً ونحـن عـبـيدهـا

وقوله:

الـلَّه يعلـم، والدنيا مُوَلٌــيَة

 

والعـيش منـتـقـل، والدهـر ذو دوَل

فَلَلْفِرَاق وإن هاجت فجيعته

 

عليك أخوف في قلبي من الأجل

وكنت أفرح بالدنيا ولذتها

 

واليأس يحكـم للأعـداء فـي الأمل

وقوله:

وما كان حبيبها لأول نظـرة

 

ولا غمرة من بعدها فَتَجَلَّتِ

ولكنها الدنيا تولت، وما الذي

 

يُسَلِّي عن الدنيا إذا ما تولت.

وقوله:

كأن انحدار الدمع حين تُجِيلُـه

 

على خدِّها الرَّيَّان دُرٌّ عَلَى دُرّ

إلا أن سعيداً- على ما وصفنا عنه من الأدب- كان يتنصب، ويظهر التسنن والتخيل، وظهر عنه الإِنحراف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وعن الطاهرين من ولده، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

ما رأينا لسعيد بن حُمَيْدٍ من شبيه

 

ما له يؤذي رسول اللّه في شَتْم أخيه

 

إنه الزنديق مستو

 

لٍ علـى دين أبــيه

وكان سعيد بن حميد من أبناء المجوس، وفيه يقول بعض الشعراء، وهو أبو علي البصير:

رأس مـن يَدَّعي البـلاغة مـنــي

 

ومن النـاس كلهـم في حِـر أمِّـهِ

وأخونا ولست أعني سعيد

 

بن حُمَيد تؤرخ الكتب باسمه

وكان لسعيد بن حُمَيْد وأبي علي البصير وأبي العَيْنَاء معاتبات ومكاتبات ومداعبات، وقد أتينا على ذكرها في الكتاب الأوسط.

أبو علي البصير

وكان أبو علي البصير من أطبع الناس في زمانه، لا يزال يأتي بالبيت النادر، والمثل السائر، الذي لا يأتي به غيره، وكان ابن مَيَّادة بسوء اختياره يرى أنه أشعر من جرير، ويحسبه مقدماً على أهل عصره، وهو فوق نظرائه في وقته، ودون البحتري فمن مشهور شعره قوله في المعلى ابن أيوب:

لعمر أبيك ما نُسِبَ المُعَلّى

 

إلى كرم، وفي الدنيا كريم

ولكنَ البلاد إذا اقْشَعَـرَّت

 

وصَوَّح نبتُهَا رُعِيَ الهشيم

ومما استحسن له من شعره قوله:

إذا ما اغتدت طلابة العلم مالها

 

من العلم إلا ما يخلّدُ في الكتب

غدوت بتشمير وجد عـلـيهـم

 

فمحبرتي سمعي ودفترها قلبي

ومما استحسن من قوله وهو يريد الحج:

خرجنا نبتغي مكة حُجَّاجاً وعُمَّـارا

 

فلما شارف الحير

 

ة راعـي إبــلِـــي حـــارا

فقلـت: احْـطـط بـهـا رحـلـي

 

ولا تـعـبـأ بـمــن جـــارا

فصـادفـنـا بـهـا لــهـــواً

 

وبـسـتـانــاً وخَـــمَّـــارا

وظبياً عاقداً بين

 

النقا والخصر زُنَّارا

فما ظَنُّكَ بالحلفا

 

ء إن أشـعـلَـتَـهَــا نـــارا

ظهور يحيى بن عمر الطالبي

وظهر في هذه السنة، وهي سنة ثمان وأربعين ومائتين، بالكوفة أبو الحسن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب الطيار، وأمه فاطمة بنت الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب الطيار وقيل: إن ظهوره كان بالكوفة سنة خمسين ومائتين فقتل وحمل رأسه إلى بغداد وصلب، فضج الناس من ذلك، لما كان في نفوسهم من المحبة له، لأنه استفتح أموره بالكَفِّ عن الدماء، والتَّوَرُّع عن أخذ شيء من أموال الناس، وأظهر العدل والإِنصاف، وكان ظهوره لذلّ نزل به، وجفوة لحقته، ومحنة نالته من المتوكل وغيره من الأتراك، ودخل الناس إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر يهنئونه بالفتح، ودخل فيهم أبو هاشم الجعفري- وهو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، بينه وبين جعفر الطيار ثلاثة آباء- ولم يكن يعرف في ذلك الوقت أقعد نسباً في آل أبي طالب وسائر بني هاشم وقريش منه، وكان ذا زهد وورع ونسك وعلم، صحيح العقل سليم الحواس منتصب القامة، وقبره مشهور، وقد أتينا على خبره وما روي عنه من الرواية عن أبيه ومَنْ شاهد من سلفه في كتاب حدائق الأذهان في أخبار آل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لابن طاهر: أيها الأمير، إنك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيّاً لعُزِّي به، فلم يجبه محمد وخرج من داره وهو يقول: يا بني طاهر، البيتين، قد كان المستعين أمر بنصب الرأس، فأمر ابن طاهر بإنزاله لما رأى الناس وما هم عليه، وفي ذلك يقول أبو هاشم الجعفري:

يا بـنـي طـاهــر كُلـوه وَبــيَّا

 

إن لـحم الـنبـي غـير مَـــرِيِّ

إن وتراً يكون طالبه اللّه

 

لَوِتْرٌ بالْفَوْتِ غير حَرِيِّ

وقد رُثِيَ أبو الحسين يحمى بن عمر بأشعار كثيرة، وقد أتينا على خبر مقتله وما رثي به من الشعر في الكتاب الأوسط، ومما رثي به ما قاله فيه أحمد بن طاهر الشاعر من قصيدة طويلة:

سلام علـى الِإسـلام فـهـو مـودع

 

إذا ما مضى آل النـبـي فـودًعُـوا

فَقَدْنا العلا والمجد عند افـتـقـادهـم

 

وأضحت عروش المكرمات تَضعَضْعَ

أتجمعُ عَيْنُ بـين نـوم ومـضـجـع

 

ولابن رسول اللّه في الترب مضجع

فقد أقفرَتْ دار الـنـبـي مـحـمـد

 

من الدين والِإسلام، فالدار بَـلْـقَـعُ

وقُتِّلَ آل المصطفى فـي خـلالـهـا

 

وبُحِّدَ شمل منـهـمُ لـيس يجـمـع

ألم تر آل المصطفى كيف تصطفـي

 

نفوسَهُمُ أمُ الـمـنـون فـتـتـبـع

بني طاهر، واللؤم منـكـم سـجـية

 

وللغدر منكـم حـاسـر ومُـقَـنـعُ

قواطعكم في الترك غـير قـواطـع

 

ولكنها فـي آل أحـمـد تـقـطـع

لكم كُل يوم مشرب من دمائهـم

 

وغُلتها من شربها ليس تَنْـقَـعُ

 

وما حكم للطـالـبـيين شـرع

 

وفيكم رماح الترك بالقتل شُرع

 

لكمَ مرتع في دار آل محـمـد

 

وداركُمُ للترك والجيش مرتـع

 

أخِلتم بأن الله يرعى حقوقـكـم

 

وحَقُّ رسول اللّه فيكم مضيًعُ؟

 

وأضحوا يُرَجُّون الشفاعة عنـده

 

وليس لمن يرميه بالوتر يشفـع

 

فيغلب مغلوب، ويقتـل قـاتـل

 

ويخفض مرفوع، ويدنى المرفع

 

           

قال: وكان يحيى دَيِّناً، كثير التعطف والمعروف على عوام الناس، بارّاً بخواصهم، واصِلاً لأهل بيته، مؤثراً لهم على نفسه، مُثْقَل الظهر بالطالبيات، يجهد نفسه ببرهِنً والتحنن عليهم، لم تظهر له زلة، ولا عرفت له خزية.

ولما قتل يحيى جزعت عليه نفوس الناس جزعاً كثيراً، ورثاه القريب والبعيد، وحزن عليه الصغير والكبير، وجزع لقتله المليء والدنيء، وفي ذلك يقول بعض شعراء عصره ومَنْ جزع على فقده:

بكَت الخـيل شَـجْـوَها بـعـد يحـيى

 

وبكاهُ الـمـهـنـدُ الـمصـقــول

وبكَـتـه العراق شرقـاً وغـربـاً

 

وبـكـاهُ الـكتـاب والـتـنـزيل

والمصلى والبيت والركن

 

والحِجْرُ جميعاً لهم عليه عَوِيل

كيف لم تسقط السماء علينا

 

يوم قالوا: أبو الحسـين قــتــيل

وبناتُ الـنبيَ ينـدبـن شَـجْـواً

 

مُوجَـعَـات، دموعُهُـنّ تــسـيل

ويُؤَبًـنَّ للـرزية بـــدر

 

فقده مفظـع عـزيز جــلـــيل

قَطعـت وجهـه سـيوف الأعادي

 

بأبي وجهه الوسـيم الـجـمـــيل

وليحـيى الفتـى بقلبي غلــيل

 

كيف يؤذي بالجـسـم ذاك الـغلـيل

قَتْـلُـه مذكـر لقـتل عـلـي

 

وحـسـين، ويوم أودي الـرســول

فصلاة الإِلـهِ وقفا علـيهــم

 

ما بكـى مُوجَـسٌ وَحنَّ ثـكُـــول

وكان ممن رثاه علي بن محمد بن جعفر العلوي الحماني الشاعر، وكان ينزل بالكوفة في حمان، فأضيف إليهم فقال:

يا بـقـايا الـسـلـف الـصـا

 

لح والـتـجْـر الـربـــيح

نحن للأيام من

 

بينِ قتيل وجريح

خاب وَجْهُ الأرض كم

 

غيَّب مـن وجـه صـبــيح

آه مـن يومـــك مـــا أو

 

داه لـلـقـلـب الـقــريح

وفيه يقول:

تَضَوع مسكا جانِبُ القبر إذ ثوى

 

وما كان لولا شِلْوُه يتـضَـوعُ

مصارع فتـيان كـرام أعـزّة

 

أتيح ليس الخير منهنَّ صـرعُ

 وقوله:

أنّى لقوميَ من أحساب قومـكـم

 

بمسجد الخيف في بحبوحة الخيف

ما علّق السيف منا بابن عاشـرة

 

إلاَّ وهمته أمضى من الـسـيف

وقد كان علي بن محمد بن جعفر العلوي هذا- وهو أخو إسماعيل العلوي لأمه- لما دخل الحسن بن إسماعيل الكُوفة- وهو صاحب الجيش الذي لقي يحيى بن عمر- قعد عن سلامه، ولم يمض إليه، ولم يتخلّفْ عن سلامه أحد من آل علي بن أبي طالب الهاشميين، وكان علي بن محمد الحماني نقيبهم بالكوفة وشاعرهم ومفرسهم ولسانهم، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي بن أبي طالب يتقدمه في ذلك الوقت، فتفقده الحسن بن إسماعيل، وسأل عنه، وبعث بجماعة فأحضروه، فأنكر الحسن تخلفه عن سلامه، فأجابه علي بن محمد بجواب مستقل آيس من الحياة، فقال: أردت أن آتيك مهنياً بالفتح، وداعياً بالظفر، وأنشد شعراً لا يقوم على مثله مَنْ يرغب في الحياة، وهو:

قتلت أعز من ركب المطايا

 

وجئتك أسْتَلِينُكَ في الكلام

وعَز عَلَي أن ألـقـاك إلا

 

وفيما بيننا مَدُ الـحـسـام

ولكنً الْجَنَاحَ إذا أهيضـت

 

قَوَادُهُ يَرِفُّ علـى الأكـام

فقال له الحسن بن إسماعيل: أنت موتور، فلست أنكر ما كان منك، وخلع عليه، وحمله إلى منزله.

بين الموفق وعلي بن محمد العلوي

قال: وكان أبو أحمد الموفق باللهّ حبس علي بن محمد العلوي لأمر شنع به عليه من أنه يريد الظهور، فكتب إليه من الحبس:

قد كان جدك عبد اللَه خَـيْرَ أب

 

لابْنَيْ علي حُسَيْن الخيرِ وَالْحِسَنِ

فالكَفُّ يوهن منـهـا كـل أنـملةً

 

ما كان من أختها الأخرى من الْوَهَنِ

فلما وصل هذا الشعر إليه كفل وخلى إلى الكوفة.

وله أشعار ومراث في أخيه إسماعيل وغيره من أهله، وفي ذم الشيب، قد أتينا على كثير من ذكرها في كتابنا أخبار الزمان عند ذكر أخبار الطالبين، وفي كتاب مزاهر الأخبار، وطرائف الآثار، في أخبار آل النبي صلى الله عليه وسلم.

ومما رَثَى به علي بن محمد أيضاً أبا الحسين يحيى بن عمر فأجاد فيه وافتخر على غيرهم من قريش قوله:

لعمري لئن سُرت قريش بهُلكِـهِ

 

لما كان وَقَافاً غَدَاةَ التـوقـف

فإن مات تلقاء الرمـاح فـإنـه

 

لمِنْ مَعْشَر يَشْنَوْنَ موت التترف

فلا تشتموا فالقوم من يبق منهـمُ

 

على سنن منهم مقام المخلـف

لهم معكم إما جدعتم أنـوفـكـم

 

مقامات ما بين الصَّفَا وَالمُعَرف

تراث لهم مـن آدم ومـحـمـد

 

إلى الثقلين من وصايا ومصحف

وفيه يقول أيضاً في الشيب:

قد كان حين بدا الشباب به

 

يَقَقَ السوالف حالك الشَّعْرِ

وكأنه قمر تَمَنْطَـقَ فـي

 

أفق السماء بدارهَ البـدر

يا ابن الذي جعلت فضائله

 

فَلَكَ العلا وقلائد السـور

من أسرة جعلت مَخَايلهـم

 

للعالمين مخايل النـطـر

تتهيب الأقـدار قـدرهـم

 

فكأنهم قدر علـى قـدر

والموت لا تشوى رميتـه

 

فلك العلا ومواضع الغرر

ومن مراثيه المستحسنة فيِ أخيه:

هذا ابن أُمي عديل الروح في جسدي

 

شق الزمان به قلبي إلـى كـبـدي

فاليوم لم يبق شيء أسـتـريح بـه

 

إلا تَفَتُّتُ أعضائي مـن الـكـمـد

أو مقلة بخَـفِـيِّ الـهـم بـاكـية

 

أو بيت مرثية تبقى عـلـى الأبـد

تُرَى أناجيك فيها بـالـدمـوع وقـد

 

نام الخليُّ ولم أهـجـع ولـم أكَـدِ

من لي بمثلك يا نـور الـحـياة ويا

 

يُمْنَى يديَّ التي شَلّتْ من العـضـل

من لي بمثـلـك أدعـوه لـحـادثة

 

يُشْكَى إليه ولا يشكـو إلـى أحـد

قد ذقت أنواع ثُكْلٍ كُنْتَ أبلَـغَـهـا

 

على القلوب وأجناها على كـبـدي

قل للردى لا تغـادر بـعـده أحـداً

 

وللمنية من أحببت فـاعـتـمـدي

إن الزمان تَقَضى بعـد فـرقـتـه

 

والعيش آذن بالتفـريق والـنـكـد

وكانت وفاة علي بن محمد العلوي في خلافة المعتمد في سنة ستين ومائتين.

ظهور الحسن بن زيد العلوي

وفي خلافة المستعين- وذلك في سنة خمسين ومائتين- ظهر ببلاد طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللهّ تعالى عنهم، فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة وقتال شديد، وما زالت في يده إلى أن مات سنة سبعين ومائتين، وخَلَفَه أخوه محمد بن زيد فيها إلى أن حاربه رافع بن هرثمة، ودخل محمد بن زيد إلى الديلم في سنة سبع وسبعين ومائتين، فصارت في يده، وبايعه بعد ذلك رافع بن هرثمة وصار في جملته، وانقاد لدعوته، والقول بطاعته، وكان الحسن بن زيد ومحمد بن زيد يدعوان إلى الرضا من آل محمد، وكذلك مَنْ طرأ بعدهما ببلاد طبرستان- وهو الحسن بن علي الحسني المعروف بالأطروش ووللده- ثم الداعي الحسن بن القاسم الذي قتله أسفار بطبرستان، وكان الحسن بن القاسم من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب وقد أتينا على خبر سائر آل أبي طالب بطبرستان، ومن ظهر منهم بالمشرق والمغرب وغير ذلك من بقاع الأرض إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- في كتابنا أخبار الزمان وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً من سائر ما يجب ذكره، لئلا يخلو هذا الكتاب من ذكرهم.

ظهور محمد بن جعفر

وظهر في هذه السنة- وهي سنة خمسين ومائتين- بالري محمد بن جعفر بن الحسن، ودعا للحسن بن زيد صاحب طبرستان، وكانت له حروب بالري مع أهل خراسان من المسودة، فأسر وحمل إلى نيسابور إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فمات في محبسه بنيسابور.

ظهور أحمد بن عيسى العلوي

وظهر بعده بالري أحمد بن عيسى بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ودعا إلى الرضا من آل محمد، وحارب محمد بن طاهر، وكان بالري، فانهزم عنه وسار إلى مدينة السلام، فدخلها العلويَ.

ظهور الكركي بقزوين

وفي هذه السنة- وهي سنة خمسين ومائتين- ظهر بقزوين الكركي وهو الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وهو من ولد الأرقط، وقيل: إن اسم الكركي الحسن بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بق الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فحاربه موسى بن بُغَا، وصار الكركي إلى الديلم، ثم وقع إلى الحسن بن زيد الحسيني فهلك قبله.

ظهور الحسين بن محمد العلوي

وظهر بالكوفة الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد اللهّ بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فسرح إليه محمد بن عبد اللّه بن طاهر من بغداد جيشاً عليه ابن خاقان فانكشف الطالبي واختفى لترك أصحابه له، وتخلفهم عنه، وكان ذلك في سنة إحدى وخمسين ومائتين.

عزم على أخذ البيعة لابنه

وفي سنة تسع وأربعين ومائتين عقد المستعين لابنه العباس على مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وعزم على البيعة له، فأخرها لصغر سنه، وكان عيسى بن فرخاتشاء قال لأبي علي البصير الشاعر أن يقول في ذلك شعراً يشير فيه بالبيعة له، فقال في ذلك قصيدة طويلة يقول فيها:

بك اللّه حاط الدين وانْتَـاشَ أهـلـه

 

من الموقف الدَحْض الذي مثله يْرْىِ

فولِّ ابنك العبـاس عـهـدك إنـه

 

له موضع واكتب إلى الناس بالعهد

فإن خَففته السن فالعـقـل بـالـغ

 

به رتبة الشيخ الموفّقِ لـلـرشـد

وقد كان يحيى أوتي العلم قبله صبياً، وعيسى كَلّم الناس في المهد.

بين محمد بن طاهر وأبي العباس المكي

وقال أبو العباس المكي: كنت أنادم محمد بن طاهر بالري قبل مواقعته الطالبيين، فما رأيته في وقت من الأوقات أشد سروراً منه ولا أكثر نشاطاً قبل ظهور العلوي بالري، وذلك في سنة خمسين ومائتين، وقد كنت عنده ليلة أتحدث، والخير وافد والسَّتْرُ مسبل، إذ قال: كأني أشتهي الطعام فما آكل. قلت: صدر دراج أو قطعة من جلي باردَة، قال: يا غلام، هات رغيفاً وخلاً وملحاً، فأكلا من ذلك، فلما كان في الليلة الثانية قال: يا أبا العباس، كأني جائع فما ترى أن آكل. قلت: ما أكَلْتَ البارحة، فقال: أنت لا تعرف فرق ما بين الكلامين، قلت البارحة: كأني أشتهي الطعام، وقلت الليلة: كأني جائع، وبينهما فرق، فدعا بالطعام، ثم قال لي: صف لي الطعام والشراب والطيب والنساء والخيل، قلت: أيكون ذلك منثوراً أو منظوماً؟ قال: لا، بل منثوراً، قلت: أطيب الطعام ما لقي الجوع بطعم وافق شهوة، قال: فما أطيب الشراب. قلت: كأس مدام تبرد بها غليلك، وتعاطي بها خليلك، قال: فأي السماع أفضل. قلت: أوتار أربعة، وجارية متربعة، غناؤها عجيب، وصوتها مصيب، قال: أي الطيب أطيب؟ قلت: ريح حبيب تحبه، وقرب ولد ترثه، قال: فأي النساء أشهى؟ قلت: من تخرج من عندها كارِهاً، وترجع إليها والهاً. قال: فأي الخيل أفرهُ؟ قلت: الأشدق الأعين الذي إذا طُلِبَ سبق، وإذا طَلَبَ لحق، قال: أحسنت، يا بشر أعطه مائة فى ينار، قلت: وأين تقع مني مائتا دينار. قال: أو قد زدت نفسك مائة دينار. يا غلام أعطه المائة كما ذكرنا، والمائة الأخرى لحسن ظنه بنا، فانصرفت بمائتي دينار، فما كان بين هذا الحديث وبين تنحيه من الري إلا جمعة.

معرفة المستعين بالأخبار

وكان المستعين حسن المعرفة بأيام الناس وأخبارهم، لهجاً بأخبار الماضين.

وحدث محمد بن الحسن بن دُرَيْد قال: أخبرني أبو البيضاء مولى جعفر الطيار، وكان طيب الحديث، قال: وَفَدْنَا في أيام المستعين من المدينة إلى سامرا وفينا جماعة من آل أبي طالب وغيرهم من الأنصار، فأقمنا ببابه نحواً من شهر، ثم وصلنا إليه، فكل تكلّم وعبر عن نفسه فقرب وانس، وابتدأ بذكر المدينة ومكة وأخبارهما، وكنت أعرف الجماعة بما شرع فيه، فقلت: أيأذن أمير المؤمنين في الكلام. قال: ذلك إليك، فشرعت معه فيما قد إليه وتسلسل بنا الكلام إلى فنون من العلم في أخبار الناس، ثم انصرفنا وأقيم لنا الإِنزال والإفضال.

عروة بن حزام

فلما كان في أول الليل جاءنا خادم ومعه سدة من الأتراك وفرسان، فحملت على جنيبة كانت معهم، وأتى بي إلى المستعين فإذا هو جالس في الجوسق، فقربني وأدناني، ثم أخذ بعد أن انسني في أخبار العرب وأيامها، وأهل التتيم، فانتهى بنا الكلام إلى أخبار العذْرِيين والمتيمين، فقال لي: ما عندك من أخبار عُرْوَة بن حزام، وما كان منه مع عَفْرَاء فقلت: يا أمير المؤمنين، إن عُرْوَة بن حزام لما انصرف من عند عفراء بنت عقال توفي وَجْداً بها وصبابة إليهما، فمر به رَكْبٌ فعرفوه، فلما انتهوا إلى منزل عفراء صاح صائح منهم:

ألا أيها القصرُ المغفل أهله

 

نَعينا إِلَيْكُمْ عروة بن حزام

ففهمت صوته، وأشرفت عليه، وقالت:

ألَا أيها الرَّكْب المجدُّونَ وَيْحَكُمْ

 

بِحَقٍّ نعيتم عروة بن حـزام.

فأجابها رجل من القوم، فقال:

نعم قد تركناه بأرض بعيدة

 

مقيماً بها في سَبْسَبٍ وأكام

فقالت لهم:

فإن كان حَقّاً مَا تَقُولُونَ فأعْلَمُوا

 

بأن قد نعيتم بَدرَ كـل ظـلام

فلا لَقِيَ الفتيانُ بَـعْـدكَ لَـذّةً

 

ولا رجعوا من غيبة بـسـلام

ولا وضعت أنثى شريفاً كمثله

 

ولا فرحت من بعده بـغـلام

ولا لا بلغتم حيث وجـهـتـم

 

له ونغصتم لذات كُلّ طعمـام

ثم سألتهم: أين دفنوه؟ فأخبروها، فصارت إلى قبره، فلما قاربته قالت: أنزلوني فإني أريد قضاء حاجة، فأنزلوها فانسلتْ إلى قبره فأكَبّتْ عليه، فما راعهم إلا صوتها، فلما سمعوه بادروا إليها، فإذا هي ممتدة على القبر قد خرجت نَفْسُهَا، فدفنوها إلى جانب قبره. قال: فقال لي: فهل عندك من خبره غير ما ذكرت؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، هذا ما أخبرنا به مالك بن الصباح العدوي، عن الهيثم بن علي بن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: بعثني عثمان بن عفان مصدقاً في بني عُذْرَة في بلاد حي منهم يُقال لهم بنو منبذة، فإذا ببيت جديد منحاش عن الحي، فملت إليه، فإذا بشاب قائم في ظل البيص، وإذا عجوز جالسة في كسر البيت، فلما رآني ترنم بصوت ضعيف يقول:

جعلت لِعَرَّاف اليمامة حكـمـه

 

وَعَرَّاف نجد إن هما شَفَـيَانِـي

فقالا: نعم، نشفي من الداء كلـه

 

وقاما مع الـعـوَّاد يبـتـدران

فما تركَا لي رُقْيَةً يعرفـانـهـا

 

ولا شَرْبَة إلا بهـا سـقـيانـي

وقالا: شفاك اللّه، واللّه ما لـنـا

 

بما حُمِّلَتْ منك الضلـوع يدان

فلهفي على عفراء لهفاً كـأنـه

 

على النحر والأحشاء حَدُّ سنـان

فعفراء أحظى الناس عندي مَوَدَّة

 

وعفراء عَنِّي المُعْرِضُ المتداني

وإني لأهوى الحشر إذ قيل: إنَّنِي

 

وعفراء يوم الحشر ملتـقـيان

ألا لَعَنَ اللّه الوُشاة وَقَـوْلَـهُـمْ:

 

فُلاَنَة أضحت خُـلّةً لـفـلان

ثم شهق شهقة خفيفة، فنظرت في وجهه فإذا هو قد مات، فقلت: أيها العجوز، ما أظن هذا النائم بفناء بيتك إلا قد مات، قالت: وأنا واللّه أظن ذلك، فنظرت في وجهه، وقالت: فَاضَ ورَبِّ الكعبة، فقلت: منِ هذا. فقالت: عروة بن حزام العذري، وأنا أمه، واللّه ما سمعت له أنّةَ من سنة إلا في صدر يومي هذا، فإني سمعته يقول:

من كان من أمهاتي باكـياً أبـداً

 

فاليوم إنِّي أرَانِي فيه مقبوضَـا

تسمعِيه فإنـي غـير سـامـعة

 

إذا علوت رقاب القوم معروضَا

قال: فأقمت حتى شهدت غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، قال: فقال عثمان: ومما دعاك إلى ذلك؟ قلت: إكتساب الأجر فيه واللّه، قال: فوصل الجماعة وفَضّلني عليهم في الجائزة.

حديث عن مجنون بني عامر

قال المسعودي: ولمن سلف من المُتيَّمين أخبار عجيبة، وأشعار حسان، فمن ذلك ما حدثنا به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي القاضي، قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: أخبرني أبو الهياج بن سابق النجدي، ثم الثقفي، قال: خرجت إلى أرض بني عامر، لا لشيء إلا للقاء المجنون، فإذا أبوه شيخ كبير، وإذا إخوته رجال، وإذا نِعَم ظاهرة وخير كثير، فسألتهم عن المجنون؛ فاستعبروا، وقال الشيخ، كان والله أبَرَّ هؤلاء عندي؟ فهوى امرأة من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله؛ فلما عرف أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه؛ فزوجها من رجل آخر؟ فقيدناه، فكان يعض شفتيه ولسانه حتى خشينا أن يقطعهما؛ فلما رأينا ذلك خَلّيْنَا سبيله؟ ففر في هذه الفَيَافِي يذهب إليه في كل يوم بطعامه فيوضع له بحيث يراه، فإذا عاينه جاء فأكل، وإذا خلقت ثيابه جاءوه بثياب، فوضعت بحيث يراها، فسألتهم أن يدلُّوني عليه، فدلوني على فتى من الحي، وقالوا: إنه لم يزل صديقاً له، وليس يأنس بأحد سواه، فسألته أن يدلني عليه؟ فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعره عندي إلى أمس وأنا ذاهب إليه غداً؟ فإن كان قد ذكر شيئاً أتيتك به، قلت: أريد أن تدلني عليه، قال: إن رآك يفر منك، وأخاف أن يذهب مني فيما بعد، فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني، فقال: اطلبه في هذه الصحراء، فإذا رأيته فَادْنُ منه مستأنساً، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء في يده، فاجلس كأنك لا تنظر إليه والْحَظْهُ، فإذا رأيته قد سكن. فاجهد أن تروى لقيس بن فريح شيئاً فإنه معجب به، قال: فخرجت إليه يومي، فوجدته بعد العصر جالساً على تل، يخط بإصبعه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبض، ففرَّ والله كما يفرًّ الوحش من الِإنسان، وإلى جانبه أحجار، فتناول منها واحداً، فأقبلت حتى جلست قريباً منه، فمكثت ساعة، وهو كأنه نافر، فلما طال جلوسي سَكَنَ، وأقبل يعبث بإصبعه، فنظرت إليه، وقلت: أحسن واللّه قيس بن فريح، حيث يقول:

وإني لَمُفْنِ دَمْعِ عينيَ بالبـكـا

 

حِذاراً لما قد كان أو هو كائن

وقالوا: غداَ! أو بعد ذاك بلـيلة

 

فراق حَبيب لم يَبِنْ وَهْوَ بـائن

وما كنت أخشى أن تكون مَنِيَّتِي

 

بكفي إلّاَ أنَّ مَا حَـانَ حـائن

قال: فبكى واللّه حتى سالت دموعه، ثم قال: أنا واللّه أشعر منه، حيث أقول:

أبى القلب إلا حبـهـا عـامـرية

 

لها كُنْية عمرو، وليس لها عمرو

تكاد يدي تَنْدَى إذا ما لمـسـتـهـا

 

وينبت في أطرافها الورق الخضر

عجبت لسعي الدَّهْر بيني وبينـهـا

 

فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر

فيا حبها زِدْنِي جَـوًى كـل لـيلة

 

ويا سلوة الأيام موعدك الحـشـر

قال: ثم نهض، فانصرفت، ثم عُدْتُ من الغد، فأصبته، ففعلت فعلي بالأمس، وفعل مثل فعله، فلما أنس قلت: أحسن واللّه قيس بن فريح، حيث يقول، قال: ماذا، قلت:

هَبُوبي امرأ إنْ تحسنوا فهو شاكر

 

لذاك، وإن لم تحسنوا فهو صافح

فإن يك قوم قد أشاروا بهجـرنـا

 

فإن الذي بيني وبينـك صـالـح

قال: فبكى، وقال: أنا واللّه أشعر منه، حيث أقول:

وادنيَتني حتى إذا ما سبيتـنـي

 

بقول يحل العُصمَ سهل الأباطح

تجافَيْتِ عني حيث مالِيَ حـيلة

 

وَخَلّفْت ما خَلّفْت بين الجوانـح

ثم ظهرت لنا ظبية، فوثب في إثرها فانصرفت، ثم عدت في اليوم الثالث فلم أصادفه، فرجعت، فأخبرتهم؛ فوجهوا الذي كان يذهب بطعامه فرجع، وأخبرهم أن الطعام على حاله! ثم غدوت مع إخوته! فطلبناه يومنا وليلتنا! فلما أصبحنا أصبناه في واد كثير الحجارة، وإذا هو ميت، فاحتمله إخوته، ورجعت إلى بلدي.

وفاة بغا الكبير

قال المسعودي: وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين كانت وفاة بُغَا الكبير التركي. وقد نَيَّفَ على التسعين سنة، وقد كان باشَرَ من الحروب ما لم يباشره أحد، فما أصابته جراحة قط، وتقلّد ابنُه موسى بن بُغَا ما كان يتقلّده، وضم إليه أصحابه، وجعلت له قيادته، وكان بُغَا دَيِّناً من بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام، ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالماً، ويقول: الأجل جوشن .

بُغَا يرى رسول اللّه في الحلم

ولم يكن يلبس على بدنه شيئاً من الحديد، فعذل في ذلك، فقال: رأيت في نومي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه فقال لي: يا بُغَا، أحسنت إلى رجل من أمتي فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك، قال: فقلت: يا رسول اللّه ومَنْ ذلك الرجل؟ قال: الذي خَفَصته من السباع، فقلت: يا رسول اللّه، سَلْ ربك أن يطيل عمري، فرفع يديه نحو السماء وقال: اللّهم أطِلْ عمره، وأتم أجله، فقلت: يا رسول اللّه، خمس وتسعون سنة، فقال رجل كان بين يديه: ويُوَقّى من الآفات، فقلت للرجل: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فاستيقظت من نومي، وأنا أقول: علي بن أبي طالب.

قصة له مع طالبي

وكان بُغَا كثير التعطف والبر للطالبيين، فقيل له: من كان ذلك. الرجل الذي خلصته من السباع. قال: كان أتى المعتصم برجل قد رمي ببدعة، فجرت بينهم في الليل مخاطبة في خلوة، فقال لي المعتصم: خذه فألقه إلى السباع، فأتيت بالرجل إلى السباع لألقيه إليها وأنا مُغْتَاظ عليه، فسمعته يقول: اللهم إنك تعلم ما تكلمت إلا فيك، ولم أرد بذلك غيرك، وتقرباً إليك بطاعتك، وإقامة الحق على من خالفك، أفتسلمني؟ قال: فارتعدْتُ وداخلتني له رِقًة، وملئ قلبي له رعباً، فجذبته عن طرف بركة السباع، وقد كدت أن أَزُجَّ به فيها، وأتيت به حجرتي فأخفيته فيها، وأتيت المعتصم فقال: هيه، قلت: ألقيته، قال: فما سمعته يقول؟ قلت: أنا عجمي وهو يتكلم بكلام عربي ما أدري ما يقول، وقد كان الرجل أغْلَظَ، فلما كان في السحر قلت للرجل: قد فتحت الأبواب وأنا مخرجك مع رجال الحرس، وقد آثرتك على نفسي، ووَقَيْتكَ بروحي، فاجْهَدْ ألاَّ تظهر في أيام المعتصم، قال: نعم، فما خبرك. قال: هجم رجل من عماله في بلدنا على ارتكاب المكاره والفُجُور وإماتة الحق ونَصْر الباطل، فسَرَى ذلك إلى فساد الشريعة، وهَدْم التوحيد، فلم أجد عليه ناصراً، فوثبت عليه في ليلة فقتلته؟ لأن جرمه كان يستحق به في الشريعة. أن يفعل به ذلك.

بيّن المستعين والأتراك

قال المسعودي: ولما انحدر المستعين ووصيف وبُغَا إلى مدينة السلام اضطربت الأتراك والفراغنة وغيرهم من الموالي بسامرا، وأجمعوا على بعث جماعة إليه يسألونه الرجوع إلى دار مكة، فصار إليه عدة وجوه الموالي ومعهم البُرْدُ والقَضِيبُ وبعض الخزائن ومائتا ألف دينار، ويسألونه الرجوع إلى دار ملكه، واعترفوا بذنوبهم، وأقَرُّوا بخطئهم، وضمنوا ألا يعودوا ولا غيرهم من نظرائهم إلى شيء من ذلكِ مما أنكره عليهم، وتذللوا وخضعوا، فأجيبوا بما يكرهون، وانصرفوا إلى سر من رأى فأعلموا أصحابهم وأخبروهم بما نالهم، وإياسهم من رجوع الخليفة.

 الموالي يجمعون على بيعة المعتز

وقد كان المستعين اعتقل المعتز والمؤيد حين انحدر إلى بغداد، ولم يأخذهما معه، وقد كان حذر من محمد بن الواثق حين انحداره فأخفه معه، ثم إنه هرب منه بعدُ في حال الحرب، فأجمع الموالي على إخراج المعتز والمبايعة له والاِنقياد إلى خلافته، ومحاربة المستعين وناصريه ببغداد، فأنزلوه من الموضع المعروف بلؤلؤة الجوسق، وكان معتقلاً فيه مع أخيه المؤيد، فبايعوه، وذلك يوم الأربعاء لإِحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، وركب من غد ذلك اليوم إلى دار العامة، فأخذ البيعة على الناس، وخَلَعَ على أخيه المؤيد، وعقد له عقدين أسود وأبيض، فكان الأسود لولاية العهد بعده، والأبيض لولاية الحرمين وتقلدهما، وانبثّتِ الكتب في سامرا بخلافة المعتز باللّه إلى سائر الأمصار، وأرخت باسم جعفر بن محمد الكاتب، وأحْدَرَ أخاه أبا أحمد مع عدة من الموالي لحرب المستعين إلى بغداد، فنزل عليها، فكان أول حرب جرت بينهم ببغداد بين أصحاب المعتز والمستعين، وهرب محمد بن الواثق إلى المعتز باللّه، ولم تزل الحرب بينهم وبين أهل بغداد للنصف من صفر من هذه السنة، فلما نشبت الحرب بينهم كانت أمور المعتز تَقْوَى، وحالة المستعين تضعف، والفتنة عامة. فلما رأى محمد بن عبد اللّه بن طاهر ذلك كاتب المعتز وجَنَحَ إليه، ومال إلى الصلح على خلع المستعين، وقد كانت العامة ببغداد- حين علمت ما قد عزم عليه من خلع المستعين- ثارت مُنْكِرة لذلك، متحيزة إلى المستعين، ناصرة له، فأظهر محمد بن عبد اللّه المستعين على أعلى قصره، فخاطبته العامة وعليه البردة والقَضِيبُ، فأنكر ما بلغهم من خلعه، وشكر محمد بن عبد اللهّ بن طاهر، ثم التقى محمد بن عبد اللّه بن طاهر وأبو أحمد الموفق بالشماسية، فاتفقا على خلع المستعين على أن له الأمان ولأهله وولده وما حوته أيديهم من أملاكهم، وعلى أنه ينزل مكة هو ومن شاء من أهله، وأن يقيم بواسطة العراق إلى وقت مسيره إلى مكة، فكتب له المعتز على نفسه شروطاً أنه متى نقضِ شيئاً من ذلك فاللّه ورسوله منه بَرَاء، والناسُ في حل من بيعته، وعهوداً يطول ذكرها، وقد خذل المعتز بعد ذلك لمخالفتها حين عالج في نقضها، فخلع المستعين نَفْسَه من الخلافة، وذلك يوم الخميس لثلاث خَلَوْنَ من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، فكان له مذ وافى مدينة السلام إلى أن خلع سنة كاملة، وكانت خلافته- منذ تقلد الأمر على ما بيناه آنفاً إلى أن زال عنه ملكه- ثلاث سنين وثمانية أشهر وثمانية عشر يوماً على ما ذكرناه من الخلاف، وأحدر إلى دار الحسن بن وهب ببغداد، وجمع بينه وبين أهله وولده، ثم أحدر إلى واسط، وقد وكل به أحمد بن طولون التركي، وذلك قبل ولايته مصر، وعلم عجز محمد بن عبد اللّه بن طاهر عن قيامه بأمر المستعين حين استجار به وخِذْلانه إياه وميله إلى المعتز باللّه، وفي ذلك يقول بعض شعراء العصر من أهل بغداد:

أطافت بنا الأتراك حَوْلاً مَجُرَّما

 

وما برحَتْ في جُحْرها أمُّ عامر

أقامت على ذُلٍّ بهـا ومَـهَـانة

 

فلما بَدَتْ أبدت لنا لـؤم غـادر

ولم تَرْع حق المستعين فأصبحت

 

تعين عليه حادثات الـمـقـادر

لقد جمعت لؤما وخـبـثـاً وذِلّةً

 

وأبقت لها عاراً على آل طاهر

ولما كان من الأمر ما قدمناه من خلع المستعين انصرف أبو أحمد الموفق من بغداد إلى سامرا، فخلع عليه المعتز، وتوج، ووشح بوشاحين، وخلع على من كان معه من قواده، وقدم على المعتز عبيدُ اللّه بن عبد اللّه بن طاهر أخو محمد بن عبد اللّه بالبُرْدِ والقضيب والسيف وبجوهر الخلافة، ومعه شاهك الخادم، وكتب محمد بن عبد اللّه إلى المعتز في شاهك: إن من أتاك بإرث رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لجدير أن لا تخفر ذمته.

وخلع المستعين وعلى وزارته أحمد بن صالح بن شيراذاد.

موت المستعين

ولما كان في شهر رمضان من هذه السنة- وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين- بعث المعتز باللّه سعيد بن صالح الحاجب ليلقى المستعين، وقد كان في جملة مَنْ حمله من واسط، فلقيه سعيد وقد قرب من سامرا فقتله واحتز رأسه وحمله إلى المعتز باللّه، وترك جثته ملقاة على الطريق حتى تولى دفنها جماعة من العامة.

وكانت وفاة المستعين باللّه يوم الأربعاء لست خَلَوْنَ من شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، على ما قدمنا في صدر هذا الباب.

وذكر شاهك الخادم قال: كنت عديلاً للمستعين عند إشخاص المعتز له إلى سامرا، ونحن في عمارية، فلما وصل إلى القاطول تَلَقَاه جيش كثير، فقال: يا شاهك أنْظَرْ مَنْ رئيس القوم؟ فإن كان سعيد الحاجب فقد هلكت، فلما عاينته قلت: هو واللّه سعيد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهَبَتْ والله نفسي، وجعل يبكي، فلما قرب سعيد منه جعل يقنعه بالسوط، ثم أضجعه وَقَعَدَ على صدره واحتز رأسه، وحمله على ما ذكرنا، واستقامت الأمور للمعتز، واجتمعت الكلمة عليه.

وللمستعين أخبار غير ما ذكرناه في هذا الكتاب، وأوردناه في هذا الباب، وقد أتينا على ذكرها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وإنما ذكرنا ما أوردنا في هذا الكتاب لئلا يتوهم أنا أغفلنا ذكرها أو عًزَبَ عنا فهمها، فإنا بحمد اللّه لم نترك شيئاً من أخبار الناس وسيرهم وما جرى في أيامهم إلا وقد ذكرناه، وأوردنا في كتبنا أحْسَنَهُ، وفوق كل في علم عليم، واللّه الموفق للصواب.