ذكر خلافة المعتز بالله

ذكر خلافة المعتز باللّه

بويع المعتز باللهّ، وهو الزبير بن جعفر المتوكل، وأمه أُم ولد يقال لها قبيحة، ويكنى أبا عبد اللّه، وله يومئذ ثمان عشرة سنة، بعد خَلْع المستعين لنفسه، وذلك يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من المحرم، وقيل: لثلاث خَلَوْنَ منه، سنة اثنتين وخمسين ومائتين على ما قَدَّمنا، وبايعه القُوَّاد والموالي والشاكرية وأهل بغداد، وخطب له في المسجد الجامع ببغداد في الجانبين.

ثم خلع المعتز نفسه يوم الاثنين لثلاث بَقِينَ من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ومات بعد أن خلع نفسه بستة أيام.

فكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر، ودُفن بسامرا، فجملة أيامه منذ بُويع بسامرا قبل خلع المستعين إلى اليوم الذي فيه أربع سنين وستة أشهر وأياماً، ومنذ بًويع له بمدينة السلام ثلاث سنين وسبعة أشهر وكرفي وله أربع وعشرين سنة.

ذكر جمل هن أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

قول الناس في خلعه نفسه

ولما خلع المستعين بالله وأحْمِرَ إلى واسط- بعد أن أشْهَدَ على نفسه أنه قد بَرِئَ من الخلافة وأنه لا يصلح لها، لما رأى من الخلاف الواقع، وأنه قد جعل الناس في حل من بيعته- قالت في ذلك الشعراء فأكثرت، ووصفته في شعرها فأغرقت، فقال في ذلك البحتري من قصيدة طويلة:

إلى وَاسِطٍ خلف الدَّجَاج، ولم يَكُنْ

 

لينبت في لَحْم الدجاج مخالـب

وفي ذلك يقول الشاعر المعروف بالكناني من قصيدة:

إني أراك من الفراق جَزُوعا

 

أمْسَى الإِمام مُسَيَّراً مخلوعا

وغدا الخليفة أحمد بن محمـد

 

بعد الخلافة والبهاء خلـيعـا

كانت به الأيام تضحك زهرة

 

وهو الربيع لمن أراد ربيعـاً

فأزاله المقدور مِنْ رتب العُلاَ

 

فثوى بِوَاسِط لا يحس رجوعا

وكان بين خلع المستعين وقتله تسعة أشهر ويوم.

وفاة جماعة من أهل العلم

ومات في خلافة المستعين جماعة من أهل العلم والمحدِّثين: منهم أبو هاشم محمد بن زيد الرفاعي، وأيوب بن محمد الوراق، وأبو كريب محمد بن العلاء الهمداني بالكوفة، وأحمد بن صالح المصري، وأبو الوليد السَّرِيُّ الدمشقي، وعيسى بن حماد زغبة المصري بمصر، ويكنى أبا موسى، وأبو جعفر بن سوار الكوفي، وذلك في سنة ثمان وأربعين ومائتين.

وفي خلافة المستعين- وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين- كانت وفاة الحسن بن صالح البزار، وكان من عِلْيَة أصحاب الحديث، وهشام بن خالد الدمشقي، ومحمد بن سليمان الجهني بالمصيصة، والحسن بن محمد بن طالوت، وأبو حفص الصيرفي بسامرا؛ ومحمد بن زنبور المكي بمكة، وسليمان بن أبي طيبة، وموسى بن عبد الرحمن البرقي.

وفي خلافة المستعين- وذلك في سنة خمسين ومائتين- مات إبراهيم بن محمد التميمي، قاضي البصرة، ومحمود بن خداش، وأبو مسلم أحمد بن أبي شعيب الحراني؛ والحارث بن مسكين المصري، وأبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح، وغير هؤلاء ممن أعرضنا عن ذكره، من شيوخ المحدثين وَنَقَلَة الآثار، ممن قد أتينا على ذكرهم من أول زمن الصحابة، إلى وقتنا هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- في سنة ست، من كتابنا المترجم بالأوسط، وإنما نذكر من وفاة من ذكرنا لئلا نخلي هذا الكتاب من نبذ مما يحتاج إلى ذكره على قدر الطالب له.

فص من الياقوت الأحمر

وقد كان المستعين في سنة ثمان وأربعين ومائتين أخرج من خزانة الخلافة فص ياقوت أحمر، يعرف بالجبلي، وكانت الملوك تصونه، وكان الرشيد اشتراه بأربعين ألف دينار، ونقش عليه اسمه أحمد، ووضع ذلك الفص في إصبعه، فتحدَّث الناس بذلك، وقد ذكر أن ذلك الفص قد تداولته الملوك من الأكاسرة وقد نقش في قديم الزمان، وذكر أنه لم ينقشه ملك إلا مات قتيلاً، وكان الملك إذا مات وجلس تاليه في الملك حك النقش، فتداولته في اللبس الملوك، وهو غير منقوش، فيقع للنادر من الملوك فينقشه، وكان ياقوتاً أحمر، يضيء بالليل كضياء المصباح إذا وضع في بيت لا مصباح فيه أشرق، ويرى فيه بالليل تماثيل تلوح، وله خبر ظريف، وقد ذكرناه في كتابنا أخبار الزمان في ذكر خواتم ملوك الفرس، وقد كان هذا الفص ظهر في أيام المقتدر، ثم خفي أثره بعد ذلك.

بعض ما قيل في المعتز

وشد كان جماعة من الشعراء قالوا في المعتز- حين استتم له الأمر واستقامت له الخلافة، وخلعها المستعين- أقوالاً كثيرة، فمن ذلك قول مروان بن أبي الجنوب من قصيدة طويلة:

إن الأمور إلى المعتز قد رَجَعَتْ

 

والمستعينُ إلى حالاته رَجَـعَـا

قد كان يعلم أن المُلْكَ ليس لـه

 

وأنه لك لكن نَفْسَـهُ خـدعـا

وفي ذلك يقول رجل من أهل سامرا، وقد قيل إنه البحتري:

للَه عَـزُ عـصـابة تـركـية

 

رَدوا نوائب دهرهم بالـسـيف

قتلوا الخليفة أحمد بن مـحـمـد

 

وكَسَوا جميع الناس ثوب الخوف

وطَغَوْا فأصبح ملكنا متقسـمـاً

 

وإمامنا فيه شـبـيه الـضـيف

وفي المعتز ورجوع الأمر إليه واتفاق الكلمة عليه يقول أبو علي البصير:

آبَ أمرُ الإِسلام خَيْرَ مآبه

 

وغدا الملك ثابتاً في نِصَابهْ

مستقراً قراره مطمـئنـاً

 

آهلا بعد نأيه واغتـرابـه

فاحمد اللّه وَحْلَى والتمس بالعفو عمن هفا جزيل ثوابه

وزراء المعتز

وكان على وزارة المعتز جعفر بن محمد، ثم استوزر جماعة، فكانت الكتب تخرج باسم صالح بن وصيف كأنه مرسوم بالوزارة.

وكانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد في خلافة المعتز باللّه.

وذلك في يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، وهو ابن أربعين سنة، وقيل: ابن اثنتين وأربعين سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وسمع في جنازته جارية تقول: ماذا لقينا في يوم الاثنين قديماً وحديثاً. وصلى عليه أحمد بن المتوكل على اللّه، في شارع أبي أحمد، وفي داره بسامرا، ودفن هناك.

علي بن محمد الطالبي

حدثنا ابن الأزهر، قال: حدثني القاسم بن عباد، قال: حدثني يحيى بن هرثمة، قال: وَجَّهني المتوكل إلى المدينة لِإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسىِ بن جعفر لشيء بلغه عنه؛ فلما صرت إليها ضجَّ أهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله، فجعلت أسكنهم وأحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه، وفتشت بيته، فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاء، وما أشبه ذلك، فأشخصته وتولّيْتُ خدمته وأحسنت عشرته، فبينا أنا نائم يوماً من الأيام، والسماء صاحية، والشمس طالعة؛ إذ ركب وعليه ممطر، وقد عقد ذنب دابته، فعجبت من فعله، فلم يكن بعد ذلك إلا هنيهة حتى جاءت سحابة فأرخت عَزَاليها، ونالنا من المطر أمر عظيم جداً، فالتفت إليَّ، وقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت وتوهمت أني علمت من الأمر ما لا تعلمه، وليس ذلك كما ظننت، ولكن نشأتُ لبادية، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما أصبحت هَبتْ ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر، فتأهبت لذلك. فلما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري- وكان على بغداد- فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد وَلَدَهُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والمتوكل منْ تعلم، وإن حرضته على قتله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَصْمَكَ، فقلت: والله ما وقفت له إلا على كل أمر جميل.

فصرت إلى سامرا، فبدأت بوصيف التركي، وكنت من أصحابه، فقال: واللّه لئن سَقَطَتْ من رأس هذا الرجل شَعْرَة لا يكون المطالِبً بها غيري، فعجبت من قولهما، وعَرَّفت المتوكل ما وقفت عليه، وما سمعته من الثناء عليه، فأحسن جائزته، وأظهر بره وتكرمته. وحدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلة المعروفة ببئر أبي عنان قال: حدثني أبو دعامة، قال: أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى عائداً في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة، فلما هممت بالانصراف قال لي: يا أبا دعامة قد وجب حَقّكَ، أفلا أحدثك بحديث تُسَرُّ به؟ قال: فقلت له: ما أحوجني إلى ذلك يا ابن رسول اللّه، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن موسى، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي عليُّ بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، رضي اللّه عنهم! قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "اكتب يا علي" قال: قلت: وما أكتب؟ قال لي: "اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، الإِيمان ما وقرته القلوب وصدقته الأعمال، والإِسلام ما جرى به اللسان وحلت به المناكحة" قال أبو دعامة: فقلت: يا ابن رسول اللّه، ما أدري أيهما أحسن: الحديث أم الإِسناد؟ فقال: إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نتوارثها صاغراً عن كابر.

قال المسعودي: وقد ذكرنا خبر علي بن محمد بن موسى رضي اللّه عنه مع زينب الكذابة بحضرة المتوكل، ونزوله رضي اللّه عنه! إلى بركة السباع، وتذللها له، ورجوع زينب عما ادعته من أنها ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وأن اللّه تعالى أطال عمرها إلى ذلك الوقت، في كتابنا أخبار الزمان وقيل: إنه مات مسموماً، عليه السلام.

موت محمد بن عبد اللّه بن طاهر

قال المسعودي: وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين- وذلك في خلافة المعتز- مات محمد بن عبد اللهّ بن طاهر، للنصف من ذي القعدة، بعد قتل وصيف بثلاثة عشر يوماً، والقمر مخسوف وكان من الجد والكرم، وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإِشارة، وفصاحة اللسان، وملوكية المجالسة، على ما لم يكن عليه أحد من نظرائه في عصره وفيه يقول الحسين بن علي بن طاهر من قصيدة له:

خُسـف الـبـدر والأمـير جميعـاً

 

فانجلـى الـبـدرُ والأمـير غَـــمِـــيدٌ

عاود الـبـدر نـوره لـتـجـلـيه

 

ونـور الأمـــير لـــيس يعـــــودُ

يا خسوفين ليلة الأحد

 

النحس أحَلّتكما هناك السعود

واحد كان حده مثل حد

 

السيف والنار شُبَ فيها الوقودُ

ماني الموسوس

وذكر أبو العباس المبرد قال: ارتاح محمد بن عبد الله بن طاهر يوماً للمنادمة، وقد حضره ابن طالوت، وكان وزيره وأخصَّ الناس به، وأحضرهم لخلواته، فأقبل عليه، وقال: لا بد لنا اليوم من ثالث تطيب لنا به المعاشرة، وتلذ بمنادمته المؤانسة، فمن ترى أن يكون؟ وأعْفِنَا أن يكون شرير الأخلاق، أو دنس الأعراق، أو ظاهر الِإملاق، قال: فأعملت الفكر، وقلت: أيها الأمير، خطر ببالي رجل ليس علينا من مجالسته من مؤونة، وقد برئ من إبرام المُجَالس، وخلا من ثقل المؤانس، خفيف الوطأة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أردت، قال: ومن ذلك. قلت: ماني الموسوس، قال: أحسنت واللّه فليتقدم إلى أصحاب الثمانية والعشرين الربع في طلبه يرفعوه رفعة، فما كان بأسرع من أن اقتنصه صاحبُ الكَرْخ، فصار به إلى باب الأمير، فأخذ وحذف ونظف وأدخل الحمام وألبس ثياباً وأدخل عليه، فقال: السلام عليك أيها الأمير، فقال محمد: وعليك السلامُ يا ماني، أما آن لك أن تزورنا على حين تَوَقانٍ منا إليك ومنازعة قلوب منا نحوك. فقال ماني: الشوق شديد، والحب عتيد، والزار بعيد، والحجاب صعب، والبواب فظ، ولو سهل لنا في الِإذن لسهلت علينا الزيارة، فقال: ألْطَفْتَ في الاستئذان فليلطف لك في الِإذن، لا يمنع ماني أي وقت ورد من ليل أو نهار، ثم أذن له في الجلوس، فجلس، ودعا بالطعام فأكل، ثم غسل يديه وأخذ مجلسه، وكان محمد قد تَشوَقَ إلى السماع من مؤنسة جارية بنت المهدي، فأحضرت، فكان أول ما غنت به:

ولَسْتُ بنَاس إذْ غَمَوْا فتـحـمَّـلُـوا

 

دموعي على الأحباب من شدَة الوجدِ

وقولي وقد زالتَ بليلٍ حُمُـولُـهـم:

 

بواكر نجد لا يكَن آخـر الـعـهـدِ

فقال ماني: أحسنت، وبحق الأمير إلا ما زدت فيه:

وقمت أناجي الفكر والدمع حـائر

 

بمُقْلَة موقوف على الضرِّ والجهد

ولم يعدني هـذا الأمـير بـغـيرة

 

على ظالم قد لج في الهجر والصد

فاندفعت تغنيه، فقال له محمد: أعاشق أنت يا ماني؟ فاستحيا، وغمزه ابن طالوت أن لا يبوح له بشيء فيسقط من عينيه، فقال: مبلغ طرب وشوق كان كامناً فظهر، وهل بعد الشيب صَبْوَة؟ ثم اقترح محمد على مؤنسة هذا الصوت:

حَجَبُوهَا عن الـرياح لأنـي

 

قلت: يا ريحُ بَلِّغيها السلامـا

لو رَضُوا بالحجاب هان ولكن

 

منعوها عند الرياح الكلامـا

فغنته، فطرب محمد، ودعا برطل فشرب، فقال ماني: ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه:

فَتَنَفّسْتُ ثم قلت لطَيْفِـي:

 

إن زُرْتَ طيفها إلمامـا

خُصَهُ بالسلام مني فأخشَى

 

يمنعوها لشقوتي أن تنامَا

لكان أثقب لزند الصَّبَابة بين الأحشاء، وأشَدَّ تغلغلاً إلى الكبد الصَّدْيا من زلال الماء، مع حسن تأليف نظامه، والانتهاء بالمعنى إلى نهاية تمامه، فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم أمر مؤنسة بإلحاقهما بالبيتين الأولين والغناء بهما، ففعلت، ثم غنت بهذين البيتين:

يا خليليَّ ساعة لا تريمـا

 

وعلى ذي صبابة فأقيمـا

ما مررنا بدار زينـب إلا

 

هَتَكَ الدمعُ سِرَّنَا المكتوما

فاستحسنه محمد، فقال ماني: لولا رهبة التعدِّي لأضَفْتُ إلى هذين البيتين بيتين لَا يَرِدَانِ على سمع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما، فقال محمد: يا ماني، الرغبة في حسن ما تأتي به حائلةٌ دون كل رهبة، فهات ما عندك، فقال:

ظبية كالهلال لو تلحظ الصخر

 

بطَرْفِ لغادرته هـشـيمـاً

وإذا ما تبسَّمَتْ خِـلْـتُ إيمـا

 

ضَ بروقٍ أو لؤلؤاً منظومـاً

فقال: أحسنت يا ماني، فأجز هذا الشعر:

لم تَطِبِ اللـذات إلا بـمـنِ

 

طابت بها اللذات مأنوسـه

غنت بصوت أطْلَقَتْ عَبْـرَةَ

 

كانت بسجن الصبر محبوسه

فقال ماني:

وكيف صبر النفوس عن غادة

 

أظلمها إن قلت طـاووسـه

وجُرْتُ إن سًمّيتـهـا بـانة

 

في جنة الفردوس مغروسه

وغَيْرُ عَدْلٍ إن عدلنـا بـهـا

 

جوهرة في البحر مغموسه

ثم سكت، فقال محمد: ما عدا في وصفه لها، فقال ماني:

جَلّتْ عن الوصف فما فكرة

 

تلحقها بالنعت محسوسـه

فقال محمد: أحسنت، فقالت مؤنسة: وجب شكرك يا ماني، فساعدك دهرك، وعطف علمك إلْفُكَ، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك، والله يديم لنا ذلك ببقاء مَنْ به اجتمع شملنا، فقال لها ماني عند قولها: وعطف عليك إلفك! مجيباً:

ليس لي إلْفٌ فيعطفني

 

فارقَتْ نفسي الأباطيل

أنا موصول بنعمة من

 

حَبْلُه بالمجد موصول

أنا مغبوط بنعمة مـن

 

طَبْعُه بالخير مأمـول

فأومأ إليه ابن طالوت بالقيام، فنهض وهو يقول:

ملك قل النـظـير لـه

 

زانه الغُرُ البـهـالـيل

طاهريٌّ في مواكـبـه

&nnbsp;

عُرْفُه في الناس مبذول

دم مَنْ يشقى بصارمـه

 

مَعْ هبوب الريح مطلول

يا أبا العباس صُـنْ أدبـاً

 

حَدُّه بالدهر مَـفْـلُـول

فقال محمد: وجب جزاؤك لشكرك على غير نعمة سبقت، ثم أقبل على ابن طالوت فقال: ليست خساسة المرء، ولا اتضاع الدهر، ولا نبو العين عن الظاهر بمذهب جوهرية الأدب المركب في الِإنسان، وما أخطأ صالح بن عبد القدوس حيث يقول:

لا يعجبك من يصون ثـيابَـهُ

 

خَوْفَ الغبار وعِرْضُه مبذول

فلربما افتقر الفتى فـرأيتـه

 

دنس الثياب وعرضه مغسول

قال ابن طالوت: فما رأيت أحْضَرَ ذهناً منه، إذ تقول الجارية: عطف عليك إلفك وإنشاده عند قولها ذلك:

ليس لي إلف فيعطفني

 

فارقت نفسي الأباطيل

قال: فلم يزل محمد مُجْرِيا عليه رزقَه حتى توفي.

المعتز وولاة العهد

ونمي إلى المعتز أن المؤيد يدبر عليه، وأنه قد استمال جماعة من الموالي، فحبس المؤيد وأبا أحمد- وهما لأب وأم- وطولب المؤيد بأن يخلع نفسه من ولاية العهد، فضُرِبَ أربعين عصا إلى أن أجاب، وأشهد على نفسه بذلك، ثم اتصل بالمعتز أن جماعة من الأتراك اجتمع رأيهم على إخراج المؤيد من حبسه، فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين أخرج المؤيد ميتاً، وأحضر القضاة والفقهاء حتى رأوه ولا أثر فيه، فيقال: إنه أدرج في لحاف مسموم وشد طرفاه حتى مات فيه، وضيق حبس أبي أحمد، فكان بين دخوله سر من رأى وما لقي بها من الِإكرام وبين حبسه ستة أشهر وثلاثة أيام، ثم أشخص إلى البصرة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد قتل المؤيد بخمسيِن يوماً، ورتب إسماعيل بن قبيحة- وهو أخو المعتز لأبيه وأمه- مكان المؤيد في ولاية العهد- واجتمع قواد الموالي إلى المعتز فسألوه الرضا عن وصيف وبُغَا، فأجابهم إلى ذلك.

وفي هذه السنة مات زرافة صاحب دار المتوكل بمصر.

وقد كان يوسف بن إسماعيل العلوي غلب على مكة فمات في هذه السنة فخلفه بعد وفاته أخوه محمد بن يوسف، وكان أسن منه بعشرين سنة، فنال الناس في هذه السنة بسببه جَهْدٌ شديد، فبعث المعتز بأبي الساج الأشروسي إلى الحجاز؛ فهرب محمد بن يوسف، وقتل خلق من أصحابه.


وفيها أوقع الحسن بن زيد الحسيني بسليمان بن عبد اللّه بن طاهر، فأخرجه عن طبرستان.

وفي هذه السنة قدم إلى سامرا عيسى بن الشيخ الشيباني من مصر، ومعه مال كثير، وستة وسبعون رجلاً من سائر والد أبي طالب من ولد علي وجعفر وعَقيل كانوا قد خرجوا من الحجاز خَوْفَ الفتنة والجهد النازل بالحجاز إلى مصر، فحملوا منها، فأمر المعتز بتكفيلهم، والتخلية عنهم؛ لما وقف عليه من أمرهم.

وولي عيسى ابن الشيخ فلسطين.

وفي هذه السنة- وهي سنة ثلاث وخمسين ومائتين- مات صفوان العقيلي صاحب ديار مُضرَ في حبس سامرا.

وفي هذه السنة كان قتل أهل كَرْحٍ سامرا من الفراغنة والأتراك لوصيف التركي، وتخلّص بُغَا منهم، واشتد أمر مساور الشاري؛ ورتب صالح بن وصيف في موضع وصيف.

موت بُغَا الصغير

في سنة أربع وخمسين ومائتين خرج من سامرا إلى ناحية الموصل، فانتهبت الموالي داره، وانفضِّ من كان معه من الجيش، وانحدر في زَوْرَق متنكراً فوقع به بعض المغاربة بجسر سامرا، فقتل ونصب رأسه بسامرا، وهو بُغَا الصغير، ثم أخذ الرأس إلى مدينة السلام فنصب على الجسر.

وكان المعتز في حياة بُغَا لا يلتذُّ بالنوم، ولا يخلع سلاحه، لا في ليل ولا في نهار، خوفاً من بُغَا، وقال: لا أزال على هذه الحالة حتى أعلم لبغا رأسي أو رأسه لي، وكان يقول: إني لأخاف أن ينزل عليَّ بغَا من السماء أو يخرج عليَّ من الأرض، وقد كان بُغَا عزم على أن ينحدر سراً فيصل إلى سامرا في الليل، ويصرف الأتراك عن المعتز، ويفيض فيهم الأموال فكان من أمره ما وصفنا.

الأتراك والمعتز

ولما رأى الأتراك إقْدام المعتز على قتل رؤسائهم، وإعمالَهُ الحيلَةَ في فنائهم، وأنه قد اصطنع المغاربة والفراغنة دونهم صاروا إليه بأجمعهم، وذلك لأربع بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وجعلوا يقرعونه بذنوبه، ويوبخونه على أفعاله، وطالبوه بالأموال، وكان المدبر لذلك صالح بن وصيف مع قُوَّاد الأتراك، فلجَّ وأنكر أن يكون قبله شيء من المال، فلما حصل المعتز في أيديهم بعث إلى مدينة السلام في محمد بن الواثق الملقب بالمهتدي، وقد كان المعتز نَفَاه إليها واعتقله فيها، فأتي به في يوم وليلة إلى سامرا، فتلقَّاه الأولياء في الطريق، ودخل إلى الجوسق، وأجاب المعتز إلى الخلع، على أن يعطوه الأمان أن لا يُقْتَلَ وأن يؤمنوه على نفسه وماله وولده، وأبى محمد بن الواثق أن يقعد في سرير الملك أو يقبل البيعة حتى يرف المعتز ويسقى كلامه، فأتي بالمعتز وعليه قميص مدنس وعلى رأسه منديل، فلما رآه محمد بن الواثق وَثَبَ إليه فعانقه، وجلسا جميعاً على السرير، فقال له محمد بن الواثق: يا أخي، ما هذا الأمر؟ قال المعتز: أمر لا أطيقه، ولا أقوم به، ولا أصْلُح له، فأراد المهتدي أن يتوسَّط أمره، ويصلح الحال بينه وبين الأتراك، فقال المعتز: لا حاجة لي فيها، ولا يَرْضَوْننِي لها، قال المهتدي: فأنا في حلّ من بيعتك، قال: أنت في حل وَسَعَةٍ، فلما جعله في حل من بيعته حَوَلَ وجهه عنه، فأقيم عن حضرته، ورُدَّ إلى محبسه، فقُتِلَ في محبسه بعد أن خلع بستة أيام، على ما قدمنا في صدر هذا الباب.

وقد قالت الشعراء في خلع المعتز وقتله فأكثرت، ورثته فأحسنت، فمن ذلك قول بعض أهل ذلك العصر من قصيدة له:

عَيْنُ لا تبخلي بسـفح الـدموع

 

وانـدبي خير فاجع مـفـجـوع

خانه الناصح الشفيق

 

ونالته أكُفُّ الردى بحَتْفٍ سـريع

بَكَرَ الترك ناقمين عليه

 

خالعـيه أفـديه مـن مخـلـوع

قَتَـلُوهُ ظلماً وجوراً فألـفـو

 

ه كريم الأخلاق غـير جَــزُوع

كان يغشـى بحـسـنه بهجة الـبـد

 

ر فتلقـاه مُظْهِراً للـخضــوع

وترى الشمس تستكين

 

فلا تشرق إمَّا رأته وقت الطلوع

لم يهابوا جيشاً ولا رهبوا

 

السيف، فَلَهْفِي على القتيل الخليع

أصبح الترك مالكي الأمر والعا

 

لم ما بـين سامــع ومـطـيع

وتـرى اللّـه فـيهـمُ مالـك

 

الأمـر سيخـزيهمُ بقتـل ذريع

وقال فيه آخر من قصيدة طويلة:

أصْـبَحَـتْ مقلتـي بدَمْـع سفوحا

 

حين قالوا: أضحى الِإمام ذبـيحـا

قتلوه ظلمـاً وجـوراً وغـــدراً

 

حين أهْـدَوْا إليه حـتفـاً مُرِيحَـا

نَضَرَ اللّه ذلك الوجه وجهــاً

 

وسقى اللّه ذلك الـروح روحــا

أيها الترك سوف تلقون

 

للدهر سيوفا لا تستبل الجريحا

فاستعدُّوا للسيف عاقبه

 

الأمر فقد جئتم فعالا قبيحا

وقال آخر من قصيدة طويلة أيضاً:

أصـبـحـت مـقـلـتـي تَـسُـحُّ الـدمـوعـا

 

إذ رأت لـسـيد الأنــام خـــلـــيعـــا

لهـف نـفـسـي عـلـيه مـا كـان أعـــلا

 

ه وأسْـرَاه تـابـعـاً مـتـــبـــوعـــا

ألـزمـوه ذَنْـبـاً عـلـى غـــير جـــرم

 

فثـوى فـيهـم قـتـــيلاً صـــريعـــا

وبـنـــو عـــمـــه وعَـــمِّ أبـــيه

 

أظـهـروا ذلة وأبـدوا خــضـــوعـــاً

ما بهذا يصحَّ مُلْك ولا يغرى عدو ولا يكون جميعا

 

 

وكان المعتز أول خليفة أظهر الركوب بحلية الذهب، وكان مَا سلف قبله من خلفاء بني العباس- وكذلك جماعة من بني أًمية- يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة والمَنَاطق وأنجاد السيوف والسُّروج واللُّجم، فلما ركب المعتز بحلية الذهب اتبعه الناس في فعل ذلك.

وكذلك المستعين قبله أحْدَثَ لبس الأكمام الواسعة، ولم يكن يعهد ذلك، فجعل عرضها ثلاثة أشبار ونحو ذلك، وصَغَّر القلانس، وكانت قبل ذلك طوالاً كأقباع القضاء.

وفي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر بالكوفة علي بن زيد وعيسى بن جعفر العلوي، فسرح إليهما المعتز سعيد بن صالح المعروف بالحاجب في جيش عظيم، فانهزم الطالبيان لتفرق أصحابهما عنهما. وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب وفاة إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم! وما نال أفلَ المدينة وغيرهم من أهل الحجاز في أيامه من الجهد والضيق، وما كان من أمر أخيه بعد وفاته، وهو محمد بن يوسف، مع أبي الساج وحربه إياه، ولما انكشف من بين يدي أبي الساج سار إلى اليمامة والبحرين، فغلب عليها، وخلفه بها عقبه المعروف ببني الأخضر إلى اليوم، وقد كان ظهَرَ بناحية المدينة بعد ذلك ابن لموسى بن عبد اللّه بن موسى بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

بعض الطالبيين الذين نالهم مكروه

قال المسعودي: وقد ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان سائر أخبار من ظهر من آل أبي طالب، ومن مات منهم في الحبس وبالسم، وغير ذلك من أنواع القتل: منهم عبد اللّه بن محمد بن علي بن أبي طالب، وهو أبو هاشم، سقاه عبد الملك بن مروان السم، ومحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، حمله سعيد الحاجب من البصرة، فحبس حتى مات، وكان معه ابنه علي، فلما مات الأب خُليَ عنه، وذلك في أيام المستعين، وقيل غير ذلك، وجعفر بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، قتله ابن الأغلب بأرض المغرب، والحسن بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتله العباس بمكة، وحمل في أيام المعتز من الري علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ومات في حبسه، وحَمَلَ سعيدٌ الحاجب من المدينة موسى بن عبد اللّه بن موسى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان من النسك والزهد في نهاية الوصف، وكان معه إدريس بن موسى، فلما صار سعيد بناحية زبالة من جادة الطريق اجتمع خلق من العرب من بني فزارة وغيرهم لأخذ موسى من يده، فَسَمَّه فمات هنالك، وَخلَصَت بنو فزارة ابنه إدريس بن موسى.

وفي خلافة المعتز في سنة اثنتين وخمسين ومائتين كان بُدًوّ الفتنة بين البلالية والسعدية بالبصرة، وما نتج من ذلك من ظهور صاحب الزنج.

وللمعتز أخبار حسان غير ما ذكرنا قد أتينا على مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، وباللّه التوفيق.