ذكر خلافة المهتدي بالله

ذكر خلافة المهتدي باللّه

وبويع المهتدي محمد بن هارون الواثق قبل الظهر من يوم الأربعاء، لليلة بَقِيَتْ من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وأمه أم ولد رومية يقال لها قرب، ويكنى بأبي عبد اللّه، وله يومئِذٍ سبع وثلاثين سنة، وقيل: تسع وثلاثون سنة، وإنه قتل ولم يستكمل الأربعين سنة في سنة ست وخمسين ومائتين، فكانت ولايته أحد عشر شهراً، ودُفن بسامرا، وقيل: إن مولده كان في سنة ثماني عشرة ومائتين.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

واستوزر المهتدي باللّه جماعة- على قصر مدته- فسلموا منه من قتل وغيره، منهم عيسى بن فَرْخَانْشَاه.

قبة المظالم وشيء من سيرته

وبنى المهتدي قبة لها أربعة أبواب، وسماها قبة المظالم، وجلس فيها للعام والخاص للمظالم، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وحرم الشراب، ونهى عن القيام، وأظهر العدل، وكان يحضر كل جمعة إلى المسجد، ويخطب الناس ويؤم بهم، فثقلت وطأته على العامة في الخاصة بحمله إياهم على الطريق الواضحة، فاستطالوا خلافته، وسئموا أيامه؛ وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه، وذلك أن موسى بن بُغَا الكبير كان عاملاً غائباً بالري مشتغلاً بحرب آل أبي طالب كالحسن بن زيد الحسني، وما كان من الديلم ببلاد قزوين ودخولهم إياها عَنْوَة وقتلهم أهْلَهَا، فلما نمي إلى موسى بن بُغَا قتل المعتز، وما كان من أمر صالح بن وصيف والأتراك في ذلك قَفَلَ من تلك الديار متوجهاً إلى سامرا، منكراً لما جرى على المعتز.

الخلاف في مقتل المعتز

وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في ذكر أخبار المعتز قَتْلَ المعتز مجملاً ولم نبين كيفية قتله، وتنازع الناس في ذلك مفصلاً، ورأيت أصحاب السير والتواريخ وذوي العناية بأخبار الدول قد تباينوا في مقتله: فمنهم من ذكر أن المعتز مات في حَبْسه في خلافة المهتدي بالله على ما قدمنا من التاريخ حتْفَ أنفه، ومنهم من ذكر أنه منع في حبسه من الطعام والشراب فمات عند قطع مواد الغذاء عنه من المأكل والمشرب، ومنهم من رأى أنه حقن بالماء الحار المغلي، فمن أجل ذلك حين أخرج إلى الناس وجدوا جوفه وارماً، والأشْهَرُ في الأخباريين ممن عني بأخبار العباسيين أنه أدخل حماماً وأكره في دخوله إياه، وكان الحمام محميّاً ومنع الخروج منه، ثم تنازع هؤلاء: فمنهم من قال إنه ترك في الحمام حتى فاضت نفسه، ومنهم من ذكر أنه أخرج بعد أن كادت نفسه تتلف للحمى، ثم أسقي شربة ماء مقرورة بثلج، فنثرت الكبد وغيره، فخمد من فوره، وذلك ليومين خَلَوَا من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقد أتينا على مبسوط هذه الأخبار وتنازعهم في هذه الآثار في كتابنا أخبار الزمان.

بين المهتدي وموسى بن بُغَا

ولما اتصل بالمهتدي مسير موسى بن بُغَا إلى دار الخلافة أنكر ذلك، وكاتَبَه بالمقام في موضعه، وأن لا يحل عن مركزه للحاجة إليه، فأبى موسى بن بُغَا إلا إغذاذ المسير والسرعة فيه، حتى وافى سامرا، وذلك في سنة ست وخمسينِ ومائتين، وصالح بن وصيف يدبر الأمر مع المهتدي، فلما دنا موسى من سامرا صاحت العامة في مواضعها والغوغاء في طرقاتها: يا فرعون، قد جاء موسى، وكان صالح بن وصيف قد نفر عن المهتدي حين علم بموافاة موسى، وقال: إن المهتدي راسَلَ موسى في السر في المسير إلى سامرا، والشخوص إليها، وكاتبه في ظاهر الأمر وراسله أن لا يقدم، وكان رجل من قواد الأتراك يُقال له بايكيال قد غلب على الأمر أيضاً، وترأس، فدخل موسى سامرا حتى انتهى إلى مجلس المهتدي وهو جالس للمظالم، والدار غاصَّة بخواص الناس وعوامهم، فشِرع أصحاب موسى فدخلوا الدار، وجعلوا يخرجون العامة منها بأشد ما يكون من الضرب بالدبابيس والطبرزينات والعسف، فضجَّتْ العامة، فقام المهتدي منكراً عليهم فعلَهُمْ بمن في الدرا، فلم يرجعوا عما هم عليه فتنحَّى مُغْضَبا، فقدم إليه فرس فركب وقد استشعر منهم الغَدْرَ، فمضى به إلى دار يارجوج، وقد كان موسى بن بُغَا انصرف عن دار المهتدي لما نظر إلى ضَجة العامة فيها، فنزل تلك الدار، فسير بالمهتدي إليها، فأقام فيها ثلاثاً عند موسى بن بُغَا فأخذ عليه موسى العهود والمواثيق ألا يغدر به، وكان أكثر الجيش مع موسى بن بُغَا وكان فيه ديانة وتقشف، حتى إن الجند تأسوْا به، ولم يكن يشرب النبيذ، وكان المهتدي في أخلاقه شَرَاسة، فنافر موسى، وكاد الأمر أن ينفرج، والحال أن يتسع، غير أن موسى تعطف عليه، وأعملا الحيلة في قتل صالح بن وصيف، وخاف موسى أن يكون صالح بن وصيف يعمل الحيلة عليهم في حال اختفائه، فبثَّ في طلبه العيون، حتى وقع عليه، فلما علم صالح هجومهم عليه قاتل ومانع عن نفسه، فقتل واحتز رأسه وأتي به إلى موسى بن بُغَا، ومنهم من رأى أنه أحمي له حمام وأدخل إليه فمات فيه، على حسب ما فعل بالمعتز.

مقتل المهتدي

وقوى أمر مُسَاور الشاري، ودنا في عسكره من سامرا، وعمَّ الناسَ بالأذى، وانقطعت السابلة، وظهرت الأعراب، فأخرج المهتدي باللّه موسى بن بُغَا وبايكيال إلى حرب الشاري، وخرج معهما فشيعهما، ثم قَفَلا من غير أن يلقيا شَرّاً، فلما استشعر المهتدي رجوعهما خرج فعسكر بجسر سامرا في جمع من المغاربة والفراغنة وغيرهم من الرسوم ليحارب بايكيال، وقد قيل إن بايكيال أقرأ موسى كتاباً للمهتدي بقتل موسى وَالفَتْك به، وإنه كتب إلى موسى بمثل ذلك، وإنهما علما بتضريب الأمر بينهما، فرجَعَا عما خرجا إليه، وأشرف بايكيال على المهتدي فانصرف موسى على ظهر سامرا متحرجاً لقتال المهتدي، فكانت بين المهتدي وبين بايكيال حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس، وانكشف بايكيال، واستظهر المهتدي عليه، فخرج كمين بايكيال على المهتدي وفيه يارجوجِ التركي فولّى المهتلي وأصحابه، ودخل سامرا مستغيثاً بالعامة مستنصراَ بالناس يصيح في الأسواق فلا مغيث، وقدامه أُناس من الأنصار، فمضى مؤيساً من النصر إلى دار ابن خيعونة بسامرا مختفياً، فهجموا عليه وعزلوه، وحملوه منها إلى دار يارجوج، وقيل له: أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كِأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وأنت إنما رجالكم ما بين تركي وخزَرِي وفرغاني ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم من أمر آخرتهم، وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟ فكثر منهم ومنه الكلام والمراجعة في هذا المعنى وأشباهه، ثم انقادوا إليه على حسب ما ظهر للناس من ذلك، فلما كاد الأمر أن يتم قام فيهم سليمان بن وهب الكاتب- وقيل: غيره- وقال: هذا سوء رأي منكم، وخطأ في تدبيركمِ، إن أعطاكم بلسانه فنيته فيكم غير هذا، قال: وسيأتي عليكم جميعاً، ويفرق جمعكم، فلما سمعوا هذا القول استرجعوا وجاءوه بالخناجر، فكان أول من جرحه ابن عم لبايكيال، جرحَه بخنجر في أوداجه، وانكبِّ عليه فالتقم الجرح والدم يفور منه، وأقبل يمصُّ الدم حتى روي منه، والتركي سكران، فلما رويٍ من دم المهتدي قام قائماً وقد مات المهتدي، فقال: يا أصحابنا قد رَوِيت من دم المهتدي كما رَوِيتُ في هذا اليوم من الخمر.

وقد تنوزع فيما ذكرنا من قتل المهتدي، والأشْهَرُ ما ذكرناه من قتله بالخناجر، ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنهم من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقيل: قتل خنقاً، وقيل: كبس عليه بالبسط والوسائد حتى مات.

فلما مات داروا به ينوحون ويبكون عليه، وندموا على ما كان منهم من قتله، لما تبينوا من نسكه وزهده، وقيل: إن ذلك كان يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان موسى بن بغا ويارجوج التركي غير داخلين في فعل الأتراك.

سبب حنق الأتراك

وكان حَنَقُ الأتراك على المهتدي بسبب قتله بايكيال، وذلك أن بايكيال وقع بيد المهتدي فضرب عنقه، ورمى به إلى أصحابه، ومنهم من رأى أنه قتل في الحرب المتقدم ذكرها في الموضع المعروف بجسر سامرا. وقد كان المهتدي لما أفْضَتِ الخلافة إليه أخرج أحمد بن إسرائيل الكاتب وأبا نوح الكاتب إلى باب العامة بسامرا يوم الخميس لثلاث خلون من شهر رمضان، فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط، فماتا، وذلك لأمور كانت منهما استحقّا عند المهتدي فيما يجب في- الشريعة أن يفعل بهما ذلك.

وقتل المهتدي وله من الولد سبعة عشر ذكراً وست بنات.

ابن المدبر

وقد كان المهتدي وَلّى أحمد بن المدبر خَرَاجَ فلسطين، وكانت له معه أخبار قد أتينا على جميعها فيما سلف من كتبنا، وأخبار ابن المدبر لما- وصل إلى فلسطين وما حمل إلى سامرا، وقيل: إن المعتز باللّه كان أخرجه إلى الشام، ولأحمد بن المدبر أخبار حسان، ولِإبراهيم بن المدبر أخيه مع صاحب الزنج أخبار حين أسره.

مع طفيلي

قال المسعودي: فمن أخبار أحمد بن المدبر المستحسنة مما دوَّنَهَا الناسُ في أخبار الطفيليين أن أحمد كان قليل الجلوس للمنادمة، وكان له سبعة ندماء لا يأنس بغيرهم، ولا ينبسط إلى سواهم، قد اصطفاهم لعشرته، وأخذهم لمنادمته، كل رجل منهم قد انفرد بنوع من العلمِ لا يساويه فيه غيره، وكان طفيلي يعرف بابن دَرَّاجِ من أكمل الناس أدباً، وأخفهم روحاً، وأشدهم في كل مليحة افتناناَ، فلم يزل يحتال إلى أن عرف وقت جلوس أحمد بن المدبر للندماء، فتزيَّا في زي ندمائه، ودخل في جملتهم، وظن حاجبه أن ذلك بعلم من صاحبه ومعرفة من أولئك الندماء، ولم ينكر شيئاً من حاله، وخرج أحمد بن المدبر فنظر إليه بين القوم، فقال لحاجبه: اذهب إلى ذلك الرجل فقل له: ألك حاجة؟ فسقط في يدِ الحاجب وعلم أن الحيلة قد تمت عليه، وأن ابن المدبر لا يرضى في عقوبته إلا بقتله فمر وهو يجرًّ برجليه، فقال له: الأستاذ يقول لك ألك حاجة. فقال: قل له لا، فقال له: ارجع إليه فقل له: ما جُلُوسُكَ؟ فقال: الساعة جلسنا يا بغيض، فقال: ارجع إليه فقل له: أي شيء أنت. فقال: قل له طفيلي يرحمك اللّه، قال: إن الطفيلي يُحْتَمل على دخوله بيوتَ الناس وإفساده عليهم ما يريدونه من الخلوة بندمائهم والخوض في أسرارهم لخصال: منها أن يكون لاعباً بالشطرنج أو بالنرد، أو ضاربَاَ بالعود أو الطنبور، فقال: أيدك اللّه أنا أحسن هذه الأشياء كلها، قال: وفي أي وظيفة أنت منها؟ قال: فيِ العُلْيَا من جميعها، قال لبعض ندمائه: لاعبه بالشطرنج فقال الطفيلي: أصلح اللّه الأستاذ فإن قُمِرْتُ. قال: أخرجناك من ديارنا، قال: فإن قَمَرْتُ؟ قال: أعطيناك ألف درهم، قال: فإن رأيت أيدك اللّه أن تحضر الألف درهم فإن في حضورها قوة للنقس وايقان بالظّفَرِ، فأحضرت فلعبا فغلب الطفيلي ومد يده ليأخذ الدراهم، فقالَ الحاجب لينفي عن نفسه بعض ما وقع فيه: أعزك الله إنه زعم أنه في الطبقة العليا، وابن فلان غلامُك يغلبه، فأحضر الغلام، فغلب الطفيلي، فقال له: انصرف، فقال: أحضروا النرد، فأحضرت فلوعب فَغَلَبَ، فقال الحاجب: ولا هذا يا سيدي في الطبقة العليا من النرد، ولكن بوابنا فلان يغلبه، فأحضر البواب، فغلب الطفيلي، فقال له: أخرج، فقال: يا سيدي فالعود، فأتى بالعود، فضرب فأصاب، وغنى فأطرب، فقال الحاجب: يا سيدي في جوارنا شيخٌ هاشمي يُعَلِّم القيان أحْذَقُ منه، فأحضر الشيِخ فكان أطرب منه، فقال له: اخرج، فقال: فالطنبور، فأعطي طنبوراً فضرب ضرباً لم ير الناس أحسن منه، وغنى غناء في النهاية، فقال الحاجب: أعز اللهّ الأستاذ، فلان المحتكر في أوارنا أحْذَقُ منه، فأحضر المحتكر فكان أحذق منه وأطيب، فقال له ابن المدبر: قد تقصينا لك بكل جهد فأبت حرفتك إلا طردك من منزلنا، فقال: يا سيدي بقيت معي بابة حسنة، قال: ما هي؟ قال: تأمر لي بقوس بندق مع خمسين بندقة رصاص، ويقام هذا الحاجب على أربع وأرميه في دبره بهن جميعاً وإن أخطأت بواحدة منهن ضربت رقبتي، فضج الحاجب من ذلك، ووجد ابن المدبر في ذلك شفاء لنفسه وعقوبة ومكافأة له على ما فَرَطَ منه في إدخال الطفيلي إلى مجلسه، فأمر بإكافين فأحضرا وجعل أحدهما فوق الآخر وشُدَّ الحاجب فوقهما، وأمر بالقوس والبندق فدفع إلى الطفيلي، فرمى به فما أخطأه، وخلي عن الحاجب وهو يتأوه لما به، فقال له الطفيلي: أعلى باب الأستاذ من يحسن مثل هذا. فقال: يا قرْنَان ما دام البرجاس استي فلا!.

وللطفيليين أخبار حسان مثل خبر بنان الطفيلي مع المتوكل في اللوزينج، وما ابتدأ من العدد من الواحد إلى ما فوقه من القران، ولغيره منهم ما قد أتينا على ذكره في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، على الشرح والتمام والكمال، وإنما نورد في هذا الكتاب لمعاً مما لم يتقدم له ذكر فيما سلف من كتبنا في هذا المعنى.

سيرة المهتدي

وقد كان المهتدي باللّه ذهب في أمره إلى القصد والدين، فقرَّبَ العلماء، ورفع من منازل الفقهاء وعمهم ببِّرهِ، وكان يقول: يا بني هاشم، دعوني حتى أسلك مسلك عمر بن عبد العزيز فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أميّة، وقلل من اللباس والفرش والمطعم والمشرب، وأمر بإخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن فكُسرت وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت، وذَبَحَ الكباش التي كان تنَاطَحُ بها بين يدي الخلفاء والديوك، وقتل السباع المحبوسة، ورفع بُسُط الديباج وكل فرش لم ترد الشريعة بإباحته، وكانت الخلفاء قبله تنفق على موائدها في كل يوم عشرة آلاف درهم، فأزال ذلك وجعل لمائدته وسائر مؤنة في كل يوم نحو مائة درهم، وكان يواصل الصيام.


وقيل: إنه لما قتل استخرج رحله من الموضع الذي كان يأوي إليه، فأصيب له سفط مقفل، فتوهموا أن فيه مالاً أو جوهراً، فلما فتح وجد فيها جبة صوف وغل، وقيل: جبة شعر، فسألوا من كان يخدمه فقال: كان إذا جَنَ الليل لبسها، وغلَّ نفسه، وكان يركع ويسجد إلى أن يدركه الصباح، وإنه كان ينام من الليل ساعة من بعد العشاء الآخرة ثم يقوم، وإنه سمعه بعض من كان يأنس إليه قبل أن يقتل وقد صلى المغرب وقد دنا ين إفطاره وهو يقول: اللهم إنه قد صَحَ عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاثة لا تحجب لهم دعوة عن اللّه: دعوة الِإمام العادل، وقد أجهدت نفسي في العدل على رعيتي، ودعوة المظلوم، وأنا مظلوم، ودعوة الصائم حتى يفطر، وأنا صائم، وجعل يدعو عليهم وأن يُكْفى شرهم. وذكر صالح بن علي الهاشمي قال: حضرت يوماً من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول إليه ونفوذ الكُتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرْمُقُهُ ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رجع طرفه إليَّ أطرقْتُ، فكأنه علم ما في نفسي، فقال لي: يا صالح، أحْسَبُ أن في نفسك شيئاً تحب أن تذكره، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأمَسك، فلما فرغ من جلوسه أمرني أن لا أبرح ونهض فجلَسْت جلوساً طوَيلاً، ثم دعاني فدخلت إليه وهو على حصير الصلاة، فقال لي: يا صالح، أتحدثني بما في نفسك أو أحدثك به. قلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن، فقال: كأني بك قد استحسنت ما رأيت من مجلسنا، فقْلتَ: أي حليفة إن لم يكن يقول بخلق القرآن، فقلت: نعم، فقال: قد كنت على ذلك برهة من الدهر حتى أقدم على الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث من أهل أذَنَه من الثغر الشامي مقيد طُوَال، حسن الهيئة، فسلم عليه غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عين الواثق والرحمة له، فقال له: يا شيخ أجب أبا عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد فيما يسألك عنه، فقال:. يا أمير المؤمنين، أحمد يقلّ ويضعف عن المناظرة، فرأيت الواثق قد صار في مكان الرقة والرحمة له غضباً، فقال له: أبو عبد اللّه يضعف عن المناظرة؛ فقال له: هَوَن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن في كلامه؟ فقال له الواثق: قد أذنت لك، فأقبل الشيخ على أحمد فقال له: يا أحمد ماذا دعوت الناس إليه؟ فقال: إلى القول بخلق القرآن، فمال الشيخ: مقالتك هذه التي دَعَوْتَ الناس إليها من القول بخلق القرآن، داخلة في الدين فلا يكون الدين تاماً إلا بالقول بها. قال: نعم، قال الشيخ: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا الناسَ إليها أو تركهم. قال: تركهم، قال: فعلمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو لم يَعْلَمْهَا؟ قال: علمها، قال: فلم دعوت الناس إلى ما يَدْعُهم إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتَرَكَهم منه؟ فأمسك أحمد، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة، ثم قال له بعد ساعة: يا أحمد، قال اللّه في كتابه العزيز: "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكمِ نعمتي، ورضيت لكم الِإسلام دينَاً" فقلت أنت: لا يكون الدين تاماَ إلا بمقالتكم بخلق القرآن، فاللهّ أصدق في إكماله وإتمامه أو أنت في نقصانك؟ فأمسك، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين وهذه ثانية، ثم قال له بعد ساعة: أخبرني يا أحمد عن قول الله عزّ وجلّ في كتابه: "يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أنزل إليك من ربك" الآية فمقالتك هذه التي دعوت الناسَ إليها بَلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أم لا؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثالثة، ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد لما علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها وإلى القول بها من خلق القرآن أوَسِعَهُ أن أمْسَكَ عنهم أم لا؟ قال أحمد: بل اتسع له ذلك، فقال: وكذلك لأبي بكر وعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلىِ، رضي اللهّ عنهم! قال: نعم، فصرف وجهه إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، وإذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وَسَّع الله عينا، فقال الواثق: نعم لا وَسَّعَ اللهّ علينا إن لم يتسع لنا ما اتسع لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، ثم قال الواثق: اقطعوا قيده، فلما فكوا قيده عنه جاذب عليه، فقال الواثق: دعوه، ثم قال للشيخ: لم جاذبت عليه. قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليه، فإذا أخذته أوصيت أن يجعل بين كفني وبدنىِ حتى أقول: يا رب، سَلْ عبدك هذا لم قَيَّدنِي ظلماً وأراع فيَّ أهلي، فبكى الواثق، وبكى الشيخ وكل من حضر، ثم قال له الواثق: يا شيخ، اجعلني في حِلٍّ فقال: يا أمير المؤمنين، ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاماً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولقرابتك منه، فتهلّلَ وجه الواثق وسره، ثم قال له: أقم عندي آنس بك، فقال: مكاني في ذلك الثغر أنفع، أنا شيخ كبير، ولي حاجة، قال: سَلْ ما بدا لك، قال: يأذن أمير المؤمنيِن لي في الرجوع إلى الموضع الذي أخرجَنِي منه هذا الظالم، قال: قد أذنت لك، وأمر له جائزة، فلم يقبلها، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة. وأحسب أن الواثق رَجَعَ عنها. قال: وعرض على المهتدي يوماً دفاتر خزائن الكتب، فإذا على ظهر كتابٍ منها هذه الأبيات قالها المعتز باللّه وكتبها بخصها، وهي:

إنَي عرفت علاج الطب من وَجَعِـي

 

وما عرفت علاج الْحُبّ والـخـدع

جزعت للحب، والحمىَّ صبرت لهـا

 

إنِّي لأعجب من صبري ومن جزعي

مَنْ كان يشغله عـن إلْـفِـهِ وجـع

 

فليس يشغلني عن حُبِّكُـم وجـعـي

وما أمَلُّ حبـيبـي لـيتـنـي أبـدا

 

مع الحبيب وَيَا لَيْتَ الحبيب مـعـي

فقطَّبَ وجه المهتدي باللّه، وقال: حدَث وسلطان الشباب، وكان المهتدي كثيراً ما ينشد البيت الأول من هذا الشعر.

خبر نوف عن علي بن أبي طالب

وذكر محمد بن علي الربعي- وكان ممن يكثر ملازمة المهتدي وكان حسن المجلس، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم- قال: كنت أبايتُ في الليالي المهتدي فقال لي ذات ليلة: أتعرف خبر نوف الذي حكاه عن عليّ بن أبي طالب حين كان يُبَايته؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكر نوف قال: رأيت عليّاً رضي اللّه عنه ليلة قد أكثر الخروج والدخول والنظر إلى السماء، ثم قال لي: يا نوف، أنائم أنت؟ قال: قلت: بل رامِقٌ أرمق بعيني منذ الليلة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اُولئك قوم اتخذوا أرض اللّه بساطاً، وترابها ثياباً، وماءها طِيباً، والكتاب شعاراً، والدعاء في دثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح ابن مريم عليه السلام، يا نوف، إن اللّه تعالى أوحى إلى عبده عيسى عليه السلام أنْ قُلْ لبني إسرائيل ألّا يدخلوا إليً إلا بقلوب وَجِلَة، وأبصار خاشعة، وأكًف نقية، وَأعْلِمْهُمْ أني لا أجيب لأحد منهم دعوة ولأحَدٍ من خلقي قبلهم مَظْلمة. قال محمد بن علي الربعي: فواللّه لقد كتب المهتدي هذا الخبر بخطه، وقد كنت أسمعه في جوف الليل وقد خلا بربه في بيت كان لخلوته وهو يبكي ويقول: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، ويمرُّ في الخبر إلى آخره، إلى أن كان من أمره ما كان مع الأتراك وقتلهم إياه.

علة حب الدنيا

قال محمد بن علي: قلت للمهتدي ذات يوم- وقد خَلَوْت به، وقد أكثرنا من ذكر آفات الدنيا ومَنْ رَغِبَ فيها، ومن انحرف عنها وزهد فيها-: يا أمير المؤمنين، ما للِإنسان العاقل المميز مع علمه بجميع آفات الدنيا وسرعة إنتقالها وزوالها وغرورها لطلابها يحبها ويأنس إليها؟ قال المهتدي: حقَّ ذلك له، منها خُلق فهي أمة، وفيها نشأ فهي عَيْشُه، ومنها قدر رزقه فهي حياته، وفيها يعاد فهي كِفَانُه، وفيها اكتسب الجنة فهي مبدأ سعادته، والدنيا ممرّ الصالحين إلىِ الجنة، فكيف لا يحب طريقاً تأخذ بسالكها إلى الجنة في نعيم مقيم خالداَ مخلداً إن كان من أهلها.!.

وقيل: إن هذا الكلام في جوِاب علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، وأجاب به سائلاً سأله عن ذلك، وهو مأخوذ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللهّ عنه، حين مدح الدنيا وذمَّ الذامَ لها، على حسب ما قَدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب في باب ذكر زهده وأخباره.

خروج صاحب الزنج بالبصرة

قال المسعودي: وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة في خلافة المهتدي، وذلك في سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان يزعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأكْثَرُ الناس يقول: إنه دَعِىُّ آل أبى طالب ينكرونه وكان من أهل قرية من أعمال الريِّ يُقال لها ورزنين، وظهر من فعله ما دلَّ على تصديق مما رمى به من أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج؛ لأن أفعاله في قتل النساء والأطفال وغيرهم من الشيخ الفاني وغيره ممن لا يستحق القتل يشهد بذلك عليه، وله خطبة يقول في أولها: اللّه أكبر الله أكبر، لا إلهَ إلا اللّه واللّه أكبر، ألا لا حكم إلا اللّه، وكان يرى الذنوب كلها شِرْكاً، وكان أنصاره الزنج، وكان ظهوره ببئر نخل بين مدينة الفتح وكرخ البصرة في ليلة الخميس لثلاث بَقِينَ من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين وغلب على البصرة في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقتل ليلة السبت لليلتين خَلَتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وذلك في خلافة المعتمد على اللّه، وقد صنف الناسُ في أخباره وحروبه وما كان من أمره كتباً كثيرة، وكان أولَ من صنف أخباره وما كان من بَدْءِ أمره ووقوعه إلى بلاد البحرين، وما كان من خبره مع الأعراب محمد بن الحسن بن سهل بن أخي في الرياستين الفضل بن سهل صاحب المأمون، وهو الرجل الذي كان من أمره مع المعتضد باللّه قد ذكرناه واشتهر قبل ذلك في الناس، وما كان من أمره إلى أن جعله كَدَجَاج على النار وجِلًد ينتفخ ويتقرقع.

وقد ذكر الناس صاحب الزنج في أخبار المبيضة وكتبهم، وقد أتينا على جميع خبره وَبْدء خبر البلالية والسعدية بالبصرة في الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن إعادته، وسنورد في هذا الكتاب في الموضع المستحق له لمعاً من ذكره، وما كان من أمره في مقتله.

عمرو بن بحر الجاحظ

قال المسعودي: وفي هذه السنة وهي سنة خمس وخمسين ومائتين، وقيل: سنة ست وخمسين ومائتين، كانت وفاة عمرو بن بحر الجاحظ بالبصرة في المحرم، ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتباً منه، مع قوله بالعثمانية، وقد كان أبو الحسن المدائني كثير الكتب، إلا أن أبا الحسن المدائني كان يؤدي ما سمع، وكتب الجاحظ- مع إنحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحْسَنَ نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجْزَلَ لفظ، وكان إذا تخوَّفَ مَلَلَ القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة، وله كتب حسان: منها كتاب البيان والتبيين، وهو أشرفها، لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وغُرَر الأشعار، ومستحسن الأخبار، وبليغ الخطب، ما لو اقتصر عليه مقتصر عليه لاكتفى به، وكتاب الحيوان، وكتاب الطفيليين، وكتاب البخلاء، وسائر كتبه في نهاية الكمال، مما لم يقصد منها إلى نصب ولا إلى دفع حق، ولا يُعْلَم ممن السلف وخلف من المعتزلة أفْصَح منه، وكان غُلاَمَ إبراهيم بن سًيّار النَّظام، وعنه أخذ، ومنه تَعَلّم.

وحدث يموت بن المزرع- وكان الجاحظ خاله- قال: دخل إلي خالي أناسٌ من البصرة من أصدقائه في العلة التي مات فيها، فسألوه عن حاله، فقال: عليل من مكانين: من الأسقام، وَالدَّيْنِ، ثم قال: أنا في هذه العلة المتناقضة التي يتخوف من بعضها التلف وأعظمها نيف وسبعون سنة، يعني عمره.

قال يموت بن المزرع: وكان يَطْلِي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الآخر لو قُرض بالمقاريض ما شعر به من خدره وبرده.

قال ابن المزرع: وسمعته يقول: رأيت بالبصرة رجلاً يروح ويغدو في حوائج الناس، فقلت له: قد أتعبت بذلك بدنك، وأخلقت ثيابك، وأعجفْتَ بِرْذَوْنك، وقتلت غلامك، فما لك راحة ولا قَرَار، فلو اقتصدت بعض الاقتصاد، قال: سمعت تغريد الأطيار في الأسحار، في أعالي الأشجار، وسمعت محسنات القيان على الأوتار فما طربت طربي لنغمة شاكر أوليته معروفاً أو سعيت له في حاجة.

يموت بن المزرع

وكان يموت لا يعود مريضاً خوفاً من أن يتطير باسمه، وله أخبار حسان، وأشعار جياد، وقد كان سكن طبرية من بلاد الأردن من الشام فمات بها، وذلك بعد الثلاثمائة، وكان من أهل العلم والنظر والمعرفة والجبل، وله ولد يُقال له مهلهل بن يموت بن المزرع، وهو شاعر مجيد من شعراء هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وفيه يقول أبوه يموت بن المزرع:

مهلهل قد حَلَبْتُ شُطُورَ دهر

 

فكافحني بها الزمَنُ العنوت

وجاريت الرجال بكل ربـع

 

فأذعن لي اِلحثالة والرتوت

فأوجع ما أجِنُّ عليه قلـبـي

 

كَرِيمٌ عَضَه زمن عـتـوت

كفى حزنا ًبِضَـيْعَة ذي قـديم

 

وأبناء العبيد لها الـتـخـوت

وقد أسْهَرْتُ عيني بعد غَمْض

 

مَخَافَة أن تَضِيعَ إذا فَـنِـيتُ

وفي لطف المهيمن لي عَزَاءَ

 

بمثلك إن فنيت وإن بـقـيتُ

وإن يشتد عظمك بعد موتـيِ

 

فلا تقطعك جائحة سـنـوت

وقل: بالعلم كان أبـي جَـوَاداً

 

يُقال: ومن أبوك؟ فقل: يموت

تُقرّ لك الأبـاعـد والأدانـي

 

بعلم ليس يجحده الـبـهـوت

وللمهتدي أخبار حسان قد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا، واللّه ولي التوفيق.