ذكر خلافة المعتمد على الله

ذكر خلافة المعتمد على اللّه

وبويع المعتمد أحمد بن جعفر المتوكل يوم الثلاثاء لأرْبَعَ عَشْرَةَ ليلةً بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وهو ابن خمس وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس، وأمه أم ولد كوفية يُقال لها فتيان، ومات في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وهو ابن ثمان وأربعين سنة، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة.

ذكر جمل من أخباره وسيره

ولمع مما كان في أيامه

وزراؤه

ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المعتمد على اللّه استوزَرَ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل، فلما مات عبيد الله استوزر الحسن بن مخلد، ثم صارت الوزارة إلى سليمان بن وهب، ثم صارت إلى صاعد.

حرب صاحب الزنج

وخلع المعتمد على أخيه أبي أحمد الموفق وعلى مفلح، يوم الخميس مستهلَّ ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وأشخصهما إلى البصرة لمحاربة صاحب الزنج، فأوقع مفلح التركي بصاحب الزنج يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين ومائتين، فأصاب مفلحاً سهم في صُدْغِه، فأصبح يوم الأربعاء ميتاً، وحمل إلى سامرا فدفن بها، وانصرف أبو أحمد عن محاربه صاحب الزنج.

الإمام الثاني عشر

وفي سنة ستين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام في خلافة المعتمد، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وهو أبو المهديِّ المنتظر، والإِمام الثاني عشر عند القطِعيَّة من الإِمامية، وهم جمهور الشيعة وقد تنازع هؤلاء في المنتظر من آل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة الحسن بن علي وافترقوا على عشرين فرقة، وقد ذكرنا حِجَاجَ كل طائفة منهم لما اجتبته لنفسها واختارته لمذهبها، في كتابنا المترجم بسر الحياة وفي كتاب: المقالات، في أصول الديانات وما ذهبوا إليه من الغيبة وغير ذلك.

وقد كان المهتدي سير بقبيحة أم المعتز وعبد اللّه بن المعتز وإسماعيل بن المتوكل وطلحة بن المتوكل وعبد الوهاب بن المنتصر إلى مكة، فلما أفْضَتِ الخلافة إلى المعتمد بعث بحملهم إلى سامرا.

يعقوب الصفار

وفي سنة اثنتين وستين ومائتين كان مسير يعقوب بن الليث الصَفّار نحو العراق في جيوش عظيمة، فلما نزل دير العاقول على شاطئ دِجْلَة بين واسط وبغداد، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على بَدْء خبر يعقوب بن الليث ببلاد سجستان، وكونه في حال صغره صفاراً، وخروجه من مطوعة سجستان إلى حرب الشراة، واتصاله بدرهم بن نصر، وخبر شادرق مدينةِ الشراة مما يلي بلاد سجستان المعروفة، بأوق، وترقي الأمر بيعقوب إلى أن كان من أمره ودخوله بلاد زابلستان- وهي بلاد فيروز بن كبك ملك زابلستان- وما كان من أمره مع رسول ملك الهند على جسر بسط ودخوله بلاد هَرَاةَ ثم بلخ، وإعماله الحيلَةَ إلى أن دخل بلاد نيسابور، وقبضه على محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين، ثم دخوله إلى بلاد طبرستان، ومواقعته الحسن بن زيد الحسني، مع ما قدمنا قبل وصفنا من خبر حمزة بن أدرك الخارجي، وما كان من أمره في أيام عبد اللّه بن طاهر، وإليه تضاف الحمزية من الخوارج، وانتهينا بأخبار يعقوب بن الليث من بدئه إلى غايته ووفاته ببلاد جندي سابور من كُوَرِ الأهواز. فلما نزل يعقوب بن الليث دير العاقول خرج المعتمد فعسكر يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين في الموضع المعروف بالقائم بسامرا، واستخلف ابنه المفوض، ووصل المعتمد إلى سيب بني كوما يوم الخميس لخمس خلون من رجب من هذه السنة، فواقع الصفار يوم الأحد لتسع خلون من رجب من السنة في الموضع المعروف باضطربد بين السيب ودير العاقول، فهزم الصفار، واستباح عسكره، وأخذ من أصحابه نحو عشرة آلاف رأس من الدواب، وذلك أنه فجر عليه النهر المعروف بالسيب، فغشي الماء الصحراء، وعلم الصفار أن الحيلة قد توجَّهَت عليه، وقد كان حمل على أصحاب السلطان في ذلك اليوم بضْعَ عشرَةَ حملةً، وغرق إبراهيم بن سيما، وقتل بيده خلقاً كثيراً، لبطعن محمد بن أوتاش التركي، وكان يتوهم أنه خادم، وقال لأصحابه: ما رأيت في عسكرهم مثل هذا الخادم، وقد كان الصفار في هذا اليوم قصد الميمنة- وكان عليها موسى بن بُغَا- وقتل خلقاً كثيراً من الناس منهم المغربي المعروف بالمبرقع، ونجا الصفار بنفيه والخواصّ من أوليائه، واتبعه جيش المعتمد وأهل القرى والسواد، فغنم الأكثر من ماله وعدده، واستنقذ محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر، وكان مقيداً، كان أسره من نيسابور على ما قدمنا، ومعه علي بن الحسين من قريش، وأتى الموفق- وكان في القلب- محمد بن طاهر فَفَكَّ قيوده وخلع عليه، ورده إلى مرتبته. وقيل: إن السبب في هزيمة الصفار في ذلك اليوم- مع ما ذكرنا من فجر النهر وارتطام الخيول فيه- أن نصيرا الديلمي مولى سعيد بن صالح الحاجب كان في الشذوات في بطن دجلة، فوافى مؤخر عسكر الصفار وسواده، فخرج من الشذوات فطرح النار في الإِبل والبغال والحمير والخيول، وكان في عسكره خمسة آلاف جمل بُخْتي من جمازيات وغيرها؛ فتفرقت الإِبل في العسكر، وشردت البغال والخيل، واضطرب الناس في مصاف الصفار لما سمعوه ورأوه في عسكره وسواده من ورائهم، فكانت الهزيمة على الصفار بما ذكرنا، وُيقال: إن يعقوب بن الليث قال في سفرته هذه أبياتاً، وفي مسيره، وأنه خرج منكراً على المعتمد ومن معه من الموالي إضاعَتَهُمُ الدين، وإهمالهم أمر صاحب الزنج، فقال:

خراسان أحْوِيهَا وأعمـال فـارس

 

وما أنا من ملك الـعـراق بـآيس

إذا ما أمور الدين ضاعت وأهملت

 

ورَثّتْ فصارت كالرسوم الدوارس

خرجْتُ بعون اللّه يمنا ونـصـرة

 

وصاحب رايات الهدى غير حارس

وكانت وفاة الصفار يوم الثلاثاء لسبع بقين من شوال سنة خمس وستين ومائتين، على ما ذكرنا بجندي سابور.
وخلف في بيت ماله خمسين ألف ألف عرهم وثمانمائة ألف دينار، وخلفه أخوه عمرو بن الليث مكانه.

سياسة الصفار

وكانت سياسة يعقوب بن الليث لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها فيمن سلف من الملوك في الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف، وحسن انقيادهم لأمره، واستقامتهم على طاعته لما كان قد شملهم من إحسانه، وغمرهم من بره، وملأ قلوبهم من هيبته.

طاعة أتباعه له

فمما ذكر من ظهور طاعتهم له أنه كان بأرض فارس، وقد أباح الناس أن يرتعوا، ثم حدث أمر أراد النقلة والرحيل من تلك الكورة فناس مناديه بقطع الدواب عن الرتع، وأنه رؤي رجل من أصحابه قد أسرع إلى دابته والحشيش في فمها، فأخرجه من فيها مخافة أن تلوكه بعد سماعه النداء، وأقبل على الدابة مخاطباً فقال بالفارسية: أمير المؤمنين دوابر أزتر بريدند، وتفسير ذلك: اقطعوا الدواب عن الرطبة، وأنه رؤي في عسكره في ذلك الوقت رجل من قواعده ذو مرتبة والدرع الحديد على بدنه لا ثوب بينه وبين بشرته، فقيلِ له في ذلك، فقال: ناس منادي الأمير: ألبسوا السلاح، وكنت عرياناً أغتسل من جنابة، فلم يسعني التشاغل بلبس الثياب عن السلاح، وكان الرجل إذا أتاه راغباً في خدمته مؤثراً للانقطاع إليه لفرَّسَ فيه؟ فإذا أعجبه منظره امتحن خبره واستبرأ ما عنده من رمي أو طعان أو غير ذلك من ثقافة، فإذا رأى منه ما يعجبه سأله عن خبره وحاله، ومن أين أقبل، ومع من كان، فإذا وافقه ما سمعه منه قال له: أصدقني عما معك من المال والمتاع والسلاح، فيقف على جميع ما معه، ثم يبعث أناساً قد رتبوا لذلك، فيبيعون جميع ذلك، ويجعلونه عيناً أو وَرقاً، ويدفع إليه، ويثبت في الديوان، ثم تزيح علله في اللباس والسلاح والمأكل والمشرب والدواب والبغال والحمير من إصطبله، حتى لا يفقد الوجعل جميع ما يحتاج إليه من أمره على قدر مكانه ومرتبته، فإن نقم عليه بعد ذلك مذهبه، ولم يرض اختياره، سلبه جميِع ما أنعم به عليه، حتى يخرج من عسكره نحو ما دخل إليه، محتملاً بما معه من ذلك العين والوَرِق، إلا أن يكون ذلك الرجل معتضداً، فيصير له فضل من أرزاقه، فلا يمنعه ما كان له من متقدم ماله، وكانت جميع ثوابه ملكاً له وإن أعلافها من قبله، ولها ساسة ووكلاء يقومون بأمرها، إلا خصوص دوابهم التي تكون عندهم إلا أن ملكها له، واتخذ لنفسه عريشاً من خشب يشبه السرير، حيثما توجه من مسيره، فيكثر الجلوس عليه، ويشرف منه على أهل معسكره، وعلى قضيم دوابه، ويرمق الخلل من وكلائه، فإذا رأى شيئاً يكرهه بادر بتغييره، وقد كان انتخب من أصحابه ألف رجل على اختيار لهم، والغنى الظاهر منهم، والنكاية في حروبهم، فجعلهم أصحاب الأعمدة الذهب، كل عمود منها فيه ألف مثقال من الذهب، ثم يليهم في اللباس والغنى فوج ثان هم أصحاب الأعمدة الفضة، فإذا كان في الأعياد، أو في الأيام التي يحتاج فيها إلى مباهاة الأعداء والاحتفال، دفع إليهم تلك الأعمدة، وإنما ضربت هذه الأعمدة عُمَّةً للنوائب.

وسئل بعض ثقاته، ممن ينظر حاله، عن اشتغاله في خلواته، وعن مجالسته معِ أهل بطانته، وهل يسمر مع أحد أو يجالسه، فذكر أنه لا يطالع أحداً على سره، ولا يعرف أحد بتدبيره وعزمه، وأكثر نهاره خالياً بنفسه يفكر فيما يريده، ويظهر غير ما يضمره، ولا يشرك أحد فيما يدبره برأِي ولا غيره، وإن تفرجه واشتغاله بغلمان صغار يتخذهم، ويؤدِّبهم، ويُخرجهم، ويدعوهم، ويدفع لهم ما قد عمله لهم من السيور، يتضاربون بها بين يديه، ففي هذا أكثر شغله إذا فرغ من تدبيره.

ولما واقع الصفار الحسن بن زيد الحسني بطبرستان- وذلك في سنة ستين ومائتين، وقيل: سنة تسع وخمسين ومائتين- وانكشف الحسن بن زيد وأمعن يعقوب في الطلب، وكانت معه رسل السلطان قد قصدوه بكتب ورسالة من المعتمد، وهم راجعون من طلب الحسن بن زيد، قال له بعضهم لما رأى من طاعة رجاله وما كان منهم في تلك الحرب: ما رأيت أيها الأمير كاليوم، قال له الصفار: وأعجب منه ما أريك إياه، ثم قربوه من الموضع الذي كان فيه عسكر الحسن بن زيد، فوجدوا البدر والكراع والسلاح والعدد، وجميع ما خلف في العسكر حين الهزيمة على حالة: لم يلتبس أحد من أصحابه منه بشيء، ولا دنوا إليه، معسكرين بالقرب منه من حيث يرونه بالموضع الذي خلفهم فيه الصفار، فقال له الرسول: هذه سياسة ورياضة راضهم الأمير بها إلى أن تأتّي له منهم ما أراده.

وكان لا يجلس إلا على قطعة مسح، يشبه أن يكون طوله سبعة أشبار في عرض ذراعين أو أرجح، وإلى جانبه ترسه وعليه اتكاؤه، وليس في مضربه شيء غيره، فإذا أراد أن ينام من ليله أو نهاره، اضطجع على ترسه، ونزع راية فيجعلها مخدته، وأكثر لباسه خفتان مصبوغ فاختي. وكان من سنته أن للقواد والرؤساء والعظماء عنده مراتب في الدخول بباب مضربه، بحيث تقع عينه عليهم، ويَرَى مداخلهم، فيمرون مع أطناب الشقاق إلى خيمة مضروبة، بحيث لا يرى هو موضعها، لكنه يرى مداخلهم إليها، ومخرجهم منها، فمن احتاج إليه منهم، واحتاج، إلى كلامه أو أمره أو نهيه، دعاه فأمره، وكان دخولهم بحيث يقع نظره عليهم عوضاً من السلام عليه، ولم يكن لأحد أن يتقدم إلى باب مجلسه إلا رجل من خواصه، يعرف بالعزيز، وإخوته، وله من وراء خيمته خيمة تقرب من أطناب مجلسه، فيها غلمان من خواصه، فإذا احتاج إلى أمر يأمر به صاح بهم، فخرجوا إليه، وإلا فهو في أكثر نهاره وليله في ذلك الموضع لا يقومون على رأسه، وخيمته من داخل أخبية مطنبة، كلها يدور فيها ؟؟؟ نقص صفحة 218 219 220 221 من الكتاب يقع عليه الإحصاء، ولا يعلم ذلك إلا عالم الغيب، فيما فَتَحَ من هذه الأمصار والبلدان والضياع وأباد من أهلها، والمقلل يقول: أفنى من الناس خمسمائة ألف نفر، وكلا الفريقين يقول في ذلك ظناً وحَدْساً، إذا كان شيئاً لا يحرك ولا يضبط.

وكان مقتله على ما بينا آنفاً سنة سبعين ومائتين، وذلك في خلافة المعتمد.

صاعد بن مخلد

وقد كان الموفق بعد ذلك وجه بصاعد بن مخلد في سنة اثنتين وسبعين ومائتين إلى حرب الصفّار، فأمَرهُ على مَنْ معه من الجيوش، وشَيَّعه الموفق، فلما صار إلى بلاد فارس تجبر واشتدَ سلطانه، وانصرف من المدائن في بعض الأيام فاحتجم في خفة ورانة عليه، ونمي ذلك إلى الموفق وما هو عليه من التجبر، فقال في ذلك أبو محمد عبد اللّه بن الحسين بن سعد القطربلِيُ الكاتب في قصيدة طويلة اقتصرنا منها على ما نذكره، وهو:

تكفر لما طغـى

 

ودان بدين العجم

وأصبح في خـفة

 

وفي رانة محتجم

فأشخصه الموفق إلى واسط، فكان مدة مقامه في الوزارة سبع سنين إلى أن قبض عليه وعلى أخيه عبدون النصراني.

وماتت جارية لصاعد بعد حبسه، وكانت الغالبَةَ على أمره، وكان يُقال لها جعفر، وماتت بعدها بأيام أمُ الموفق؛ ففي ذلك يقول عبد الله بن الحسين بن سعد من أبيات له:

أخَذَتْ جعفر برأس القطار

 

ثم قالت: آذنتكم بالبـوار

فأجابت أمُّ الأمير وقالـت:

 

قد أتينـاك أول الـزُوَار

وسيأتيك صاعد عن قريب

 

كتبه للبلاء في الاستطار

وأحصى ما وجد لصاعد من الرقيق والمتاع والكسوة والسلاح والآلات في خاصة نفسه، دون ما وجد لأخيه عبدون، فكان مبلغه ثلاثمائة ألف دينار، وكان مبلغ غَلّته في سائر ضياعه ألف ألف وثلاثمائة ألف.

ومات صاعد في الحبس، وذلك في سنة ست وسبعين ومائتين.

وفاة جماعة من الأعيان

وفي سنة سبعين ومائتين كانت وفاة أبي سليمان داود بن علي الإِصبهاني، الفَقِيه ببغداد، وفيها مات أبو أيوب سليمان بن وهب الكاتب، وأحمد بن طولون، وذلك بمصر يوم السبت لعشر خَلَوْنَ من ذي القعدة من سنة سبعين ومائتين، وله خمس وستون سنة.

أحمد بن طولون وابنه

وكانت ولاية أحمد بن طولون سبع عشرة سنة، وكان بين الظفر بصاحب الزنج ومرض أحمد بن طولون عشرة أشهر، ولما يئس أحمد بن طولون من نفسه بايع لابنه أبي الجيش بالأمر من بعده، فلما توفي جَنَدَ أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون العَهْدَ لنفسه.

وقعة الطواحين

ووجَّه الموفق ابنُه أبا العباس لمحاربة أبي الجيش خمارويه في سنة إحدى وسبعين ومائتين، فكانت الوقعة بينهما بالطواحين من أعمال فلسطين يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال في هذه السنة، فكانت الهزيمة على أبي الجيش، واحتوى أبو العباس على جميع عسكره، وأفْلت أبو الجيش في جماعة من قُوَّاده حتى أتى الفسطاط، وتخلف غلامه سعد الأعسر فواقع أبا العباس، فهزمه واستباح عسكره، وقتل رؤساء قُوَّاده، وجِلةَ أصحابه، ومضى أبو العباس لا يُلْوِي على شيء حتى أتى العراق، وقلد أبو الجيش أمر وزراته عَليَّ بن أحمد المادراني، وأبو بكر محمد بن عَلِيِّ بن أحمد المادراني هو المعتقل في يد الإِخشيد محمد بن طغج في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- وقد كان عَلَى وزارته بمصر هو وولده الحسين بن محمد، فلما استوزر الِإخشيد أبا الحسن عَلِيَّ بن خلف بن طباب وانفصل من دمشق إلى الفسطاط قبض عليه وعلى أخيه إبراهيم بن خلف واستوزر أبا الحسن محمدِ بن عبد الوهاب.

الربيع المراعي

وفي سنة سبعين ومائتين كانت وفاة الربيع بن سليمان، المراثي، المؤذن، صاحب محمد بن إدريس الشافعي، والراوي لأكثر كتبه عنه بمصر.


وأخبرنا أبو عبد اللّه الحسن بن مروان المصري وغيره، عن الربيع بن سليمان قال: استعار الشافعي من محمد بن الحسن الكوفي شيئاً من كتبه! فلم يبعث بها إليه، فكتب إليه الشافعي:

يا، قل لمن لم تر عين مَنْ رآه مثله

 

من كان من قدراءه

 

ما قـد رأى مَـنْ قـبــلـــه

ومـن كـلامـــنـــا لـــه

 

حيث عـقـلـنـا عـقــلـــه

لأن مـــا يجـــنــــــه

 

فاق الـكـمــال كـــلـــه

الـعـلـم يَنْـهـى أهــلـــه

 

أن يمـنـعــوه أهـــلـــه

لعـــلّـــه يبـــذلــــه

 

لأهـلــه لـــعـــلّـــه

فبعث إليه محمد بن الحسن بأكثر كتبه التي سأل عنها.

المعتمد والموفق

وبايع المعتمد لابنه جعفر، وسماه المفوض إلى اللّه، وقد كان المعتمد آثر اللذة، واعتكف على الملاهي، وغلب أخوه أبو أحمد الموفق على الأمور وتدبيرها، ثم حظر على المعتمد وحبسه، فكان أول خليفة قهر وحبس وحجر عليه، ووكل به بفم الصلح، وقد كان قبل ذلك هرب وصار إلى حديثة الموصل، فبعث الموفق بصاعد إلى سامرا، وكتب إلى إسحاق بن كنداج فردَّه من حديثة الموصل.

خروج أحمد بن طولون

وفي سنة أربع وستين ومائتين كان خروج أحمد بن طولون من مصر مظهراً للغزو في عساكر كثيرة وخلق من المطوعة قد انجذبوا معه من مصر وفلسطين، فقَبْلً وصوله إلى دمشق مات ماجور التركي بدمشق، وقد كان عليها، فدخلها أحمد، واحتوى على جميع تركته من الخزائن وغيرها، وسبار منها إلى حمص، وسار منها إلى بلاد أنطاكية، ووصلت مقدمته إلى بلاد الإسكندرية من شاطئ بحر الروم، ووصل هو إلى الموضع المعروف ببغراس من جبل اللكام، وقد تقدمته المطوعة والغزاة إلى الثغر الشامي، ثم عطف هو راجعاً من غير أن يكون تقدم إلى الناس معرفة ذلك منه، حتى نزل مدينة إنطاكية، وفيها يومئذ سيما الطويل في عدة منيعة من الأتراك وغيرهم وقد قدمنا فيما تقدم من هذا الكتاب الخبر عن كيفية بناء إنطاكية وقصة سورها، والملك الباني لها، وصفة سورها في السهل والجبل. وقد كان قبل نزول أحمد بن طولون على أنطاكية وقع بين سيما وبين أحمد المؤيد حروبٌ كثيرة ببلاد جند قنسرين والعواصم من أرض الشام، وكان سيما الطويل قط عم أذاه أهلها من قَتْل وأخذ مال، وكان نزول ابن طولون على باب من أبوابها يعرف بباب فارس تلقاء السوق، وقد أحاطت عساكره بها، ونزل غلامه المعروف بلؤلؤ على باب من أبوابها يعرف بباب البحر، وقد كان لؤلؤ بعد ذلك انحدر إلى السلطان مستأمناً، فأتى الموفق وهو مُنَازِل لصاحب الزنج، فكان من أمره وقتل صاحب الزنج ما قدمنا ذكره فيما سلف من كتبنا من وقوع المشاجرة بين أصحاب لؤلؤ وأصحاب الموفق كما قدمنا أيهم القاتل لصاحب الزنج، وكادت الحال أن تنفرج بينهم في فلك اليوم حتى قيل في عسكر الموفق:

كيفما شئتم فقولوا

 

إنما الفتح لِلولُو

فكان ابن طولون على أنطاكية في آخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان افتتاحه إياها فتي سنة خمس وستين ومائتين بالحيلة من دخلها من بعض أهلها بالليل، وقد أخفوا بحواسهم سورها فتحدر بعضهم مما يلي الجبل وباب فارس، فأتى ابن طولون وقد يئس من فتحها لمنعتها وحَصَانة سورها، فوعدوه فتحها، فضم إليهم عدة من رجاله فتسلقوا من حيث نزلوا، واستعد هو في عسكره وأخذ أهبته، وسيما في داره، فما انفرج عمود الصبح إلا والطولونية قد كَثرُوا على سورها، ونزلوا منحدرين إليها، وارتفع الصوت وكثر الضجيج، وركب سيما فيمن تسرع معه من خواصه، فأرسلت عليه امرأة من أعالي سطح حَجَرَ رَحَا فأتت عليه، وأخذ بَعْضُ من عرفه رأسه فأتى به ابن طولون وقد دخل من باب فارس ونزل على عين هنالك ومعه الحسين بن عبد الرحمن القاضي المعروف بابن الصابوني الأنطاكي الحنفي، فعاث أصحابُ ابن طولون ساعة بإنطاكية، وشمل الناس أذاهم، ثم رفع ذلك لساعتين من النهار، وارتحل ابن طولون يوم الثغر الشامي، فأتي المصيصة وإذَنَةَ، وامتنع طرسوس وفيها يا يزمان الخادم، فلم يكن له في فتحها حيلة، فرجع عنها وقد أراد الغزو- على ما قيل، والله أعلم لأمر بلغه أن العباس ولده قد عصى عليه وفزع أن يحال بينه وبين مصر- فحثَّ في السير ودخل الفسطاط، ولحق العباس ببرقة من بلاد المغرب خوفاً من أبيه وقد حمل معه ما أمكنه حمله من الخزائن والأموال والعدد، وقد أتينا على ما جرى بين أحمد بن طولون وولده العباس من المراسلات في كتابنا أخبار الزمان.

يازمان غلام الفتح بن خاقان

وكانت وفاة يازمان الخادم في أرض النصرانية غازياً في جيش الِإسلام تحت الحصن المعروف بكوكب، وكان مولى الفتح بن خاقان، فحمل إلى طرسوس، فدفن بباب الجهاد، وذلك للنصف من رجب سنة ثمان وسبعين ومائتين، وكان معه في تلك الغَزَاة من أمراء السلطان المعروف بالعجيفي وابن أبي عيسى وكان على إمرة طرسوس، وكان يازمان في نهاية البلاغة في الجهاد في البر والبحر، وكان معه رجال من البحريين لم ير مثلهم ولا أشد منهم، وكان له في العدو نكاية عظيمة، وكان العدو يهابه وتفرغ منه النصرانية في حصونها، ولم ير في الثغور الشامية والجزَرِية- بعد عمرو بن عبيد اللّه بن مروان الأقْطَع صاحب ملطية، وعلي بن يحيى الأرمني صاحب الثغور الشامية- أشد إقداماً على الروم من يازمان الخادم.

عمرو بن عبيد اللّه الأقطع

وكانت وفاة عمرو بن عبيد اللّه الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني في سنة واحدة، استشهدا جميعاً، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين في خلافة المستعين باللّه.

وقد كان عمرو بن عبيد اللّه غازياً في تلك السنة في المَلْطِيِّين، فلقي ملك الروم في خمسين ألفَاً، فصبر الفريقان جميعاً، فاستشهد عمرو بن جميد اللّه ومن كان معه من المسلمين إلا اليسير، وذلك يوم الجمعة للنصف من رجب من هذه السنة.

علي بن يحيى الأرمني

وقد كان علي بن يحيى الأرمني انصرف عن الثغر الشامي وولي أرمينية ثم صرف عنها. فلما صار إلى بلاد مَيافارقين ديار بكر عدل إلى ضياع له هنالك ووقع النفير، فخرج مسرعاً وقد أغارت جيوش الروم، فقَتَلَ علي بن يحيى مقدار أربعمائة نفس، والروم لا تعلم أنه علي بن يحيى الأرمني.

وأخبرني بعض الروم- ممن كمان قد أسلم وحبسن إسلامه- أن الروم صورت عشرة أنفس في بعض كنائسها من أهل البأس والنجدة والمكايد في النصرانية والحيلة من المسلمين: منهم الرجل الذي بعث به معاوية حين احتال عَلَى البطريق فأسره من القسطنطينية، فأقاد منه بالضرب ورده إلى القسطنطينية؛ وعبد الله البطال، وعمرو بن عيد اللّه، وعلي بن يحيى الأرمني، والعريل بن بكار، وأحمد بن أبي قطيفة، وقرنياس البيلقاني صاحب مدينة إبريق- وهي اليوم للروم- وكان بطريق البيالقة، وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ومائتين؟ وحرس حارس أخت قرنياس؛ ويازمان الخادم في موكبه والرجال حوله، وأبو القاسم بن عبد الباقي؟ وقد أتينا على وصف مذهب البيالقة واعتقادهم وهو مذهب بين النصرانية والمجوسية، وقد دخلوا في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- في جملة الروم، وقد فسرنا خبرهم في كتابنا أخبار الزمان.

من حمية معاوية

فأما خبر معاوية وما ذكرناه من خبر الرجل الذي أسرَ البطريق من مدينة القسطنطينية، فهو أن المسلمين غَزَوْا في أيام معاوية، فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك، فتكَلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلَطَمَ حُرَّ وجهه فآلمه- وكان رجلًا من قريش- فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية؟ إذ أهملتنا وضيعت ثغورنا وحكمت العدو في ديارنا وعمائنا وأعراضنا، فنمي الخبر إلى معاوية فآلمه، وامتنع من لذيذ الطعام والشراب، فخلا بنفسه وامتنع من الناس، ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين، ثم أجمل الأمر في إعمال الحيلة بإقامة الفداء بين المسلمين والروم إلى أن فادى بذلك الرجل، فلما صار الرجل إلى دار الِإسلام دعاه معاوية فبره وأحسن إليه، ثم قال له: لم نهملك ولم نضيعك ولا أبَحْنا عمك وعرضك، ومعاوية مع ذلك يجيل الرأي ويعمل الحيلة، ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور، وكان به عارفاً، كثير الغزوات في البحر، صملّ من الرجال، مرطان بالرومية، فأحضره وخَلَا به وأخبره بما قد عزم عليه، وسأله إعمال الحيلة فيه والتأتي له فتوافقا على أن يدفع للرجل مالاً عظيماً يبتاع به أنواعاً من الطّرَفِ والمُلَح والجهاز والطيب والجوهر وغير ذلك، وابّتني له مركب لا يلحق في جريه سرعة، ولا يدرك في مسيره بنياناً عجيباً، فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرس فاتصل برئيسها وأخبره أن معه جارية للملك، وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية، قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك، فروسِلَ الملك بذلك، وأعلم بحال الرجل، فأذن له في الدخول، فدخل خليج القسطنطينية، وسار فيه حتى انتهى إلى القسطنطينية، وقد أتينا على مقدار مسافة هذا الخليج، واتصاله بالبحر الرومي وبحر مانطس عند ذكرنا البحار فيما سلف من هذا الكتاب. فلما وصل إلى القسطنطينية أهدى للملك وجميع بطارقته، وبايعهم وشاراهم، ولم يعط للبطريق الذي لطمَ وجه القرشي شيئاً، وقصده إلى ذلك البطريق الذي لطم الرجل القرشي، وتأتى الصوري في الأمر على حسب ما رسمه له معاوية، وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام، وقد أمره البطارقة والملك بابتياع حوائج ذكرها، وأنواع من الأمتعة وصفوها، فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً، وذكر له من الأمر ما جرى، فابتيع له جميع ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه، وتقدم إليه فقال: إن ذلك البطريق إذا عُدت إلى كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره واستهانتك به، فاعتفر إليه ولاطفه بالقصد والهدايا، واجعله القيم بأمرك، والمتفقد لأحوالك، وانظر ماذا يطلب منك حين أوْ بِكَ إلى الشام، فإن منزلتك ستعلو وأحوالك تزداد عندهم، فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به وعلمت غرض البطريق منك وأي شيء يأمرك بابتياعه لتكون الحيلة بحسب ذلك، فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة على ما لم يطلب منه زادت منزلته وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية، فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك وقال له: ما ذَنْبِي إليك؟ وبماذا استحقِّ غيري أن تقصده وتقضي حوائجه وتُعْرِض عني؟ فقال له الصوري: أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب أدخل إلى هذا الملك والبلد كالمتنكر من أساري المسلمين وجواسيسهم، لئلا ينمُّوا بخبري ويعنوا بأمري إلى المسلمين فيكُون في ذلك فَقدِي، وإذ قد علمت ميلك إليَّ فلست أحب أن يعتني بأمري سواك ولا يقوم به عند الملك وغيره غيرك، فأمُرْنِي بجميع حوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإِسلام. وأهدى إلى البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجواهر والطرائف والثياب، ولم يزل هذا فعله يتردد من الروم إلى معاوية، ومن معاوية إلى الروم، ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج، والحيلة لا تتوجه لمعاوية حتى مضى على ذلك سنين فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري، وقد أراد الخروج إلى دار الِإسلامِ: قد اشتهيت أن تغمرني قضاء حاجة وتمنَّ بها علي: أن تبتاع لي بساطاً سوسنجرد بمخاده ووسائده يكون فيه من أنواع الألوان من الحمرة والزرقة وغيرهما، ويمون من صفته كذا وكذا، ولو بلغ ثمنه كل مبلغ، فأنْعَمَ له بذلك، وكان من شأن الصوري إذا ورد إلى القسطنطينية تكون مركبهُ بالقرب من موضع ذلك البطريق، وللبطريق ضيعة سرية وفيها قصر مشيد ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبة على الخليج، وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه، وكانت الضيعة يلي فم الخليج مما يلي بحر الروم والقسطنطينية، فانصرف الصوري إلى معاوية سراً، وأخبره بالحال؛ فأحضر معاوية بساطاً بوسائد ومخادّ ومجلس؟ فانصرف به الصوري مع جميع ما طلب منه من دار الِإسلام، وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة وكيفية إيقاعها، وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤانسة وفي العشرة، وفي الروم طَمَع وشَرَه، فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية- وقد طابت له الريح، وقد قرب من ضيعة البطريق- أخذ الصوري خبر البطريق من أصحاب القوارب والمراكب؟ فأخبر أن البطريق في ضيعته، وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة ميل وخمسين ميلاً بين هذين البحرين وهما الرومي ومانطس، على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب، والضياع والعمائر على هذا الخليج من حافيته، والمراكب تختلف والقوارب بأنواع المتاع والأقوات إلى القسطنطينية، وهذه المراكب لا تحصى في هذا الخليج كثرة، فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش ذلك البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخادِ في صحن المركب ومجلسه، والرجال تحت المجلس بأيديهم المجاذيف مشكلة قائمة غير قاذفين بها، ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا مَنْ ظهر منهم في المركب عمله، والريح في القلع، والمركب مار في الخليج كأنه سهم قد خرج من كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه؛ لسرعة سيره واستقامته في جريه، فأشرف على قصر البطريق وهو جالس في مستشرفه مع حرمه وقد أخذت منه الخمر وعَلَاهُ الطرب وذهب به الفرح والسرور كل مذهب فلما رأى البطريق مركب الصوري غَنَى طرباً، وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً بقدومه، فدنا من أسفل القصر، وحط القلع، وأشرف البطريق على المركب، فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط ونظم ذلك الفرش كأنه رياض تزهر، فلم يستطع اللبث في موضعه حتى نزل قبل أن يخرج ذلك الصوري من مركبه إليه، فطلع المركب. فلما استقرت قدمه في المركب ودَنَا من المجلس ضرب الصوري بعقبه على مَنْ تحت البساط من الوقوف- وكانت علامة بينه وبين الرجال الذي في بطن المركب- فما استقر دقه بقده حتى اختطف المركب بالمجاذيف فإذا هو في وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء، وارتفع الصوت، ولم يدر ما الخبر لمعاجلة الأمر، فلم يكن الليل حتى خرج من الخليج وتوسَّطَ البحر، وقد أوثق البطريق كِتَافاً، وطابت له الريح، وأسعده الجد، وحملته المجاذيف في ذلك الخليج، فتعلق في اليوم السابع بساحِل الشام، ورأى البر، وحمل الرجل، فكانوا في اليوم الثالث عشر حضوراً بين يدي معاوية بالفرح والسرور لإِثلاجة بالأمر وتمام الحيلة، وأيقن معاوية بالظفر وعلو الجد، فقال: علي بالرجل القرشي، فأتي به، وقد حضره خواص الناس، فأخلوا مجالسهم، وانغصَّ المجلس بأهله، فقال معاوية للقرشي: قم فاقتصَّ من هذا البطريق الذي لَطَمَ وجهك على بساط معظم الروم؛ فإنا لن نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك، فقام القرشي ودنا من البطريق، فقال له معاوية: انظر لا تتعدَّ ما جرى عليك منه، واقتص منه على حسب ما صنع بك، ولا تتعد، وراع منا أوجب اللّه عليك من المماثلة، فَلَطَمه القرشي لطماتٍ، ووكزه في حلقه، ثم انكبَّ القرشي على يديِ معاوية وأطرافه لقبلها، وقال: ما أضاعك مَنْ سَوّدك، وخاب فيك أمَلُ من أملك، أنت ملك لا تضام، تمنع حماك، وتصون رعيتك، وأغْرَقَ في دعائه ووصفه، وأحسن معاوية إلىِ البطريق، وخاب عليه وبَرَّه، وحمل معه البساط، وأضاف إلى ذلك أُموراً كثيرة وهدايا إلى الملك، وقال له: ارجع إلى ملكك، وقل له: تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك، وقال للصوري: سر معه حتى تأتي الخليج فتطرحه فيه ومن كان أسِرَ معه ممن بادر فصعد المركب من غلمان البطريق وخاصته، فحملوا إلى صور مكرمين، وحملوا في المركب، فطابت لهم الريح، فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين ببلاد الروم، وقربوا من فم الخليج، وإذا به ؛قد أحكم بالسلاسل والمنعة من الموكلين به، فطرح البطريِق ومن معه وانصرف الصوري راجعاً، وحمل البطريق من ساعته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة، فتباشرت الروم بقدومه، وتلقوه مهنئين له من الأسر فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله بالبطريق والهدايا؛ فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه، وقال الملك: هذا أمكر الملوك وأدهَى العرب، ولهذا قدمته العرب عليها، فساس أمرها، واللّه لوهم بأخذي لتمت له الحيلة عليَّ.

وقد أتينا على خبر معاوية فيما سلف من هذا الكتاب، وأتينا على مبسوطه وأخبار الوافدين والوافدات عليه من الأمصار فيما سلف من كتبنا وإن كنا قد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب من أخبار معاوية جملاً.

ولملوك الروم وبطارقتها- ممن سلف وخلف إلى هذا الوقت- أخبار حسان مع ملوك بني أمية والخلفاء من بني العباس في المَغَازي والسرَايا وغيرها، وكذلك لأهل الثغور الشامية والجزرية إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- وقد أتينا على مبسوطها فيما سلف من كتبنا، وقدمنا في هذا الكتاب جملاً من أخبارهم ومقادير أعمارهم وأيامهم، ولمعاً من سيرهم، وكذلك أخبرنا عن ملوك الأمم وسيرهم.

محبة المعتمد للهو

قال المسعودي: وكان المعتمد مشغوفاً بالطرب، والغالب عليه المعاقرة ومحبة أنواع اللهو والملاهي، وذكر عبيد الله بن خرداذبه أنه دخل عليه ذات يوم، وفي المجلس عدة من ندمائه من ذوي العقول والمعرفة والحجى، فقال له: أخبرني عن أول من اتخذ العود، قال ابن خرداذبه: قد قيل في ذلك يا أمير المؤمنين أقاويل كثيرة: أول من اتخذ العود لمك بن متوشلخ بن محويل بن عاد بن خنوخ بن فابن بن آدم، وذلك أنه كان له ابن يحبه حبَاً شديداً، فمات، فعلَّقه بشجرة، فتقطعت أوصاله، حتى بقي منه فخفه والساق والقدم والأصابع، فأخذ خشباً فرققه وألصقه، فجعل صدر العود كالفخذ، وعنقه كالساق، ورأسه كالقدم، والملاوي كالأصابع، والأوتار كالعروق، ثم ضرب به وناح عليه، فنطق العود، قال الحمدوني:

وناطق بلسانٍ لا ضـمـير لـه             كأنـه فَـخِـذٌ إلــى قـــم

يُبدي ضمير سواه في الحديث كما            يُبْدِي ضمير سواه منطق القلـم

واتخذ توبل بن لمك الطبول والدفوف، وعملت ضلال بنت لمك المعازف، ثم اتخذ قوم لوط الطنابير، يستميلون بها الغلمان ثم اتخذ الرعاة والأكراد نوعاً مما يصفر به، فكانت أغنامهم إذا تفرقت صفروا فاجتمعت؟ ثم اتخذ الفرس النَّايَ للعود، والدياتي للطنبور، والسرياني للطبل، والسنج الصنج، وكان غناء الفرس بالعيدان والصنوج، وهي لهم، ولهم النغم والِإيقاعات والمقاطع والطروق الملوكية، وهي سب طروق: فأولها سكاف، وهو أكثرها استعمالاً لتنقل الأنهار، وهو أفصح مقاطع، وأمرسه، وهو أجمعها لمحاسن النغم، وأكثرها تصعداً وانحداراً وما دار وسنان، وهو أثقلها، وسايكاد، وهو المحبوب للأرواح، وسيسم وهو المختلس المنقل، وحويعران، وهو الدرج الموقوف على نغمة، وكان غناء أهل خراسان وما والاها بالزنج، وعليه سبعة أوتار، وإيقاعه يشبه أيضاً الصنج، وكان غناء أهل الري وطبرستان والديلم بالطنابير، وكانت الفرس تقم الطنبور على كثير من الملاهي، وكان غناء النبط والجرامقة بالغيروارات، وإيقاعها يشبه إيقاع الطنابير.

وقال فندروس الرومي: جعلت الأوتار أربعة بإزاء الطبائع، فجعلت الزير بإزاء المرة الصفراء، والمثنى بإزاء الدم، والمثلث بإزاء البلغم والبم بإزاء المرة السوداء.

مِلاهي الروم

وللروم من الملاهي الأرغل، وعليه ستة عشر وتراً، وله صوت بعيد المذهب وهو من صنعة اليونانيين، والسلبان، وله أربعة وعشرون وتراً وتفسيره ألف صوت، ولهم اللورا، وهي الرباب، وهي من خشب، ولهم خمسة أوتار، ولهم القيثارة، ولها اثنا عشر وتراً، ولهم الصلنج وهو من جلود العجاجيل، وكل هذه معازف مختلفة الصفة، ولهم الأرغن، وهو ذو منافخ من الجلود والحديد.

وللهند الكنكلة، وهو وتر واحد يمد على قرعة فيقوم مقام العود والصنج.

حداء العرب

قال: وكان الحُدَاء في العرب قبل الغناء، وقد كان مضر بن نزار بن معد سقط عن بعير في بعض أسفاره فانكسرت يده، فجعل يقول: يا يَدَاه يا يَدَاه، وكان من أحسن الناس صوتاً، فاستوسقت الِإبل وطاب لها السير، فاتخذه العرب حُدَاء برجز الشعر، وجعلوا كلامه أول الحداء فمن قول الحادي:

يا هادياً يا هادياً

 

ويا يداه يا يداه

فكان الحًدَاء أولَ السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحُدَاء، ونحْنَ نساء العرب على موتاها، ولم تكن أُمة من الأُمم بعد فارس والروم أوْلَعَ بالملاهي والطرب من العرب، وكان غناؤهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف.

أول الغناء في العرب

وكان أول من غَنَى من العرب الجرادتان، وكانتا قينتين على عهد عاد لمعاوية بن بكر العملقي، وكانت العرب تسمي القينة الكربنة، والعود المزهر، وكان غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري، والحنفي أحسنهما، ولم تكن قريش تعرف من الغناء إلا النصب، حتى قدم النضر بن الحارث بن كلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من العراق وافداً على كسرى بالحِيرَةِ؛ فتعلم ضرب العود والغناء عليه؟ فقدم مكة فعلّم أهلها، فاتخذوا القينات.

أثر الغناء

والغناء يرق الذهن، ويلين العريكة، ويبهج النفس ويَسُرُّهَا، ويشجع القلب، ويسخي البخيل، وهو مع النبيذ يعاونان على الحزن الهادم للبدن، وُيحْدِثان له نشاطاً، ويفرجان الكرب، والغناء على الانفراد يفعل ذلك، وفضل الغناء على المنطق كفضل المنطق على الخَرَس والبرء على السقم، وقد قال الشاعر:

لا تبعثن على همومك إذ ثَوَتْ

 

غير المدام ونغمة الأوتـار

فللَّه در حكيم استنبطه، وفيلسوف استخرجه، أي غامض أظهرة؟ وأي مكنون كَشَفَ؟ وعلى أي فن دَلَّ. وإلى أي علم وفضيلة سبق؟ فذلك نسيجُ وَحْلِىِ وقريع دهره.

وقد كانت الملوك تنام على الغناء ليسري في عروقها السرور، وكانت ملوك الأعاجم لا تنام إِلا على غناء مطرب، أو سمر لذيذ، والعربية لا تنوم وَلَدَهَا وهو يبكي، خوْفَ أن يسري الهم في جسده، ويدب في عروقه، ولكنها تنازعه وتضاحكه حتى ينام وهو فَرِحٌ مسرور، فينمو جسده، ويصفو لونه ودمه، ويشف عقله، والطفل يرتاح إلى الغناء، ويستبدل ببكائه ضحكاً.

وقد قال يحيى بن خالد بن برمك: الغناء ما أطرَبَكَ فأرْقَصَكَ، وأبكاك فأشْجَاكَ، وما سوى ذلك فبلاءهم.

قال المعتمد: قد قلتَ فأحسنتَ، ووصفتَ فأطنبتَ، وأقمت شي هذا اليوم سُوقاً للغناء، وعيداً لأنواع الملاهي، وإن كلامك لمثل الثوب المُوَشَّى، يجتمع فيه الأحمر، والأصفر، والأخضر، وسائر الألوان؛ فما صفة المغني الحاذق.

قال ابن خرداذبه: المغني الحاذق يا أمير المؤمنين: من تمكن من أنفاسه، ولطف في اختلاسه، وتفرع في أجناسه.

أنواع الطرب

قال المعتمد: فعلى كم تنقسم أنواع الطرب؟.

قال: على ثلاثة أوجه يا أمير المؤمنين، وهي طرب محرك، مستخف الأريحية، ينعش النفس، ودواعي الشيم عند السماع، وطرب شجن محزن، لا سيما إذا كان الشعر في وصف أيام الشباب، والشوق إلى الأوطان، والمراثي لمن عدم الصبر من الأحباب، وطرب يكون في صفاء النفس ولطافة الحس، ولا سيما عند سماع جودة التأليف، وإحكام الصنعة، إذ كان مَنْ لا يعرفه ولا يفهمه لا يسرّه، بل تراه متشاغلاً عنه، فذلج كالحجر الجَلْمد، والجماد الصَّلْد، سواء وُجُوده وعَدَمُه، وقد قال يا أمير المؤمنين بعض الفلاسفة المتقدمين، وكثير من حكماء اليونانيين: مَن عرضت له آفة في حاسة الشم كَرهَ رائحة الطيب، ومن غَلُطَ حسه كره سماع الغناء، وتشاغل عنه، وعَابَهُ، وذمَّهُ.

منزلة الايقاع وألقابه

قال المعتمد: فما منزلة الِإيقاع وأنواع الطروق وفنون النغم؟.

قال: قد قال في ذلك يا أمير المؤمنين مَنْ تقدم: إن منزلة الِإيقاع من الغناء بمنزلة العروض من الشعر، وقد أوضحوا الِإيقاع، ووَسَمُوه بسمات، ولَقّبُوه بألقاب، وهو أربعة أجناس: ثقيل الأول، وخفيفه، وثقيل الثاني، وخفيفة، والرمل الأول، وخفيفه، والهزج، وخفيفه، والِإيقاع: هو الوزن، ومعنى أوقع وَزَنَ، ولم يوقع: خرج من الوزن، والخروج إبطاء عن الوزن أو سرعة؛ فالثقيل الأول: نقره ثلاثة ثلاثة، اثنتان ثقيلتان بطيئتان، ثم نَقْرَة واحدة، وخفيف ثقيل الثاني: نقره اثنتان متواليتان، وواحدة بطيئة، واثنتان مزدوجتان، وخفيف الرمل: نقره اثنتان اثنتان مزدوجتان، وبين كل زوج وَقْفة، والهزج: نقره واحدة واحدة مستويتان ممسكة، وخفيف الهزج: نقره واحدة واحدة متساويتان في نسق واحد أخف قدراً من الهزج، والطرائق ثمان: الثقيلان الأول والثاني، وخفيفاهما، وخفيف الثقيل الأول منهما يسمى بالمَاخُورِيِّ، وإنما سُمَيَ بذلك لأن إبراهيم بن ميمون الموصلي- وكان من أبناء فارس، وسكن الموصل- كان كثير الغناء في هذه المواخير، بهذه الطريقة، والرمل وخفيفه، ويتفرع من كل واحد من هذه الطرائق مزموم مطلق، وتختلف مواقع الأصابع فيها فيحدث لها ألقاباً تميزها، كالمعصور، والمخبول، والمحثوث، والمخدوع، والأدراج.

والعُودُ عند أكثر الأمم وجُلِّ الحكماء يوناني، صَنَعَهُ أصحاب الهندسة على هيئة طبائع الِإنسان؛ فإن اعتدلت أوتاره على الأقدار الشريفة جَانَسَ الطبائع فأطرب، والطّرَبُ: رَدُّ النفس إلى الحال الطبيعية دفعة، وكان وَتَر مثل الذي يليه ومثل ثلثه. والدستبان الذي يلي الأنف موضوع على خط التسع من جملة الوَتر والذي يلي المشط موضوع على خط الربع من جملة الوتر فهذه يا أمير المؤمنين جوامع في صفة الِإيقاع ومنتهى حدوده.

ففرح المعتمد في هذا اليوم، وخلع على ابن خرداذبه، وعلى مَنْ حضره من ندمائه، وفَضَّله عليهم، وكان يوم لهو وسرور.

الرقص وأنواعه

فلما كان في صبيحة تلك الليلة دعا المعتمد مَنْ حضره في اليوم الأول، فلما أخذوا مراتبهم من المجلس قال لبعض مَنْ حضره من ندمائه ومغنيه صف لي الرقص وأنواعه، والصفة المحمودة من الرقص، واذكر لي شمائلُه. فقال المسؤول: يا أمير المؤمنين، أهل الأقاليم والبلدان مختلفون في رقصهم من أهل خراسان وغيرهم، فجملة الإيقاع في الرقص ثمانية أجناس: الخفيف، والهزَج، والرمل، وخفيف الرمل، وخفيف الثقيل الثاني، وثقيله وخفيف الثقيل الأول، وثقيله، والراقص يحتاج إلى أشياء في طباعه، وأشياء في خِلْقته، وأشياء في عمله؟ فأما ما يحتاج إليه في طباعه فخفة الروح، وحسن الطبع على الِإيقاع، وأن يكون طالبه مرحاً إلى التدبير في رقصه والتصرف فيه، وأما ما يحتاج إليه في خِلْقته فطول العنق والسوالف، وحسن الدَّلَ والشمائل، والتمايل في الأعطاف، ورقة الخصر والخفة وحسن أقسام الخلق ووَاقع المناطق، واستدارة الثياب من أسافلها ومخارج النفس، والإِراحة، والصبر على طول الغاية، ولطافة الأقدام، ولين الأصابع، وإمكان لينها في نقلها وفيما يتصرف فيه من أنواع الرقص من الإِبل، ورقص الكرة، وغيره، ولين المفاصل، وسرعة الانتقال في الدوَران، ولين الأعطاف. وأما ما يحتاج إليه في عمله فكثرة التصرف في ألوان الرقص، وإحكام كل حد من حدوده، وحسن الاستدارة، وثبات القدمين على مدارهما، واستواء ما تعمل يُمْنى الرِّجْل ويسراها، حتى يكون في ذلك واحداً. ولوضع القدم ورفعها وجهان: أحدهما أن يوافق بذلك الإِيقاع، والآخر أن يتثبط، فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن فليكن ما يوافق الِإيقاع فهو من الحب والحسن سواء، وأما ما يتثبط به فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن؟ فليسكُن ما يوافق الِإيقاع مترافعاً، وما يتثبط به متسافلاً.

قال المسعودي: وللمعتمد مجالسات ومذاكرات ومجالس قد دُوَنت في أنواع من الأدب، منها: مدح النديم، وذكر فضائله، وذم التفرد بشرب النبيذ، وما قيل في ذلك من المنثور والشعر، وما قيل في أخلاق النديم وصفاته وعفافه وأمْنِ عَبَثِه، والتداعي إلى المنادمات والمراسلات في ذلك، وعدد أنواع الشرب في الكَثرة، وهيئة السماع وأقسامه وأنواعه، وأصول الغناء ومباديه في العرب وغيرها من الأمم، وأخبار الأعلام من مشهوري المغنين المتقدمين والمحدثين، وهيئة المجالس، ومنازل التابع والمتبوع وكيفية مراتبهم، وتعبية مجالس الندماء والتحيات كما قال العطوي في ذلك:

حيِّ التحية أصحاب التـحـيات

 

القائلين إذا لم تَسْقِهـم: هـاتِ

أما الغداة فَسَكْرى في نعيمهـم

 

وبالعشيِّ فَصَرْعَى غير أموات

وبين ذلك قَصْـفٌ لا يُعَـادِلُـه

 

قصف الخليفة من لهو ولذات

وقد أتينا على وصف جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان مما لم يتقدم نه ذكر كصُنوف الشراب، والاستعمال لأنواع النّقْل إذا وضع ذلك في المناقل والأطباق فنضد نضداً، ورصف رصفاً، والِإبانة عن المراتب في ذلك، ووصف جمل آداب الطبيخ مما يحتاج التابع إلى معرفته، والأديب إلى فهمه من المتولدات في معرفة الألوان، ومقادير التوابل والأبزار، وأنواع المحادثات، وغسل اليدين بحضرة الرئيس، والمقام عن مجلسه، وإدارات الكاسات، وما حكي في ذلك عن الأسلاف من ملوك الأمم وغيرهم، وما قيل في الِإكثار والِإقلال من الشراب، وما ورد في ذلك من الأخبار، وطلب الحاجات والاستمناحات من أهل الرياسة على المعاقرات، وهيئة النديم وما يلزمه لنفسه، وما يلزم الرئيس لنديمه، والفرق بين التابع والمتبوع، والنديم والمنادم، وما قال الناس في العلة التي من أجلها سمي النديم نديماً، وكيفية الأدب في لعب الشطرنج، والفرق بينها وبين النِّرْد، وما ورد في ذلك من الأخبار، وانتظمت فيه من الدلائل والآثار، وما ورد عن العرب في أسماء الخمر ووُرُود التحريم فيها، وتنازع الناس في رد غيرها من أنواع الأنبذة عليها قياساً، وَوصْف أنواع آنيتها، ومن كان يشربها في الجاهلية ومن حَرمها، وَوَصْف السكر، وما قال الناس في ذلك، وكيفية وقوعه: أمن اللّه أم من خلقه؟ وغير ذلك مما لحق بهذا الباب، واتصل بهذه المعاني، وإنما نذكر هذه اللمع منبهين بها على ما قدمنا فيما سلف من كتبنا.

ثورة تنتهي بموت الموفق وقيام المعتضد

وكان أبو العباس المعتضد محبوساً فلما خرج أبوه الموفق إلى الجبل خلفه بدار الوزير إسماعيل بن بلبل، وكان مضُيّقاً عليه، إلى أن وافى الموفق من أذربيجان عليلاً مدنفاً مورماً في بيت من الخشب قد اتخذ له مبطناً بالخز والحرير وفي أسفله حلق قد جعل فيها الدهن فتحمله الرجال على أكتافها نوائب وكان وصوله إلى بغداد يوم الخميس لليلتين خَلَتَا من صفر سنة ثمان وسبعين. ومائتين، فأقام بمدينة السلام أياماً فاشتدت عِلّته؛ وأرجف بموته؛ وانصرف إسماعيل بن بلبل وقد يئس منه، فوجه إسماعيل بن بلبل إلى كفهمن، وقيل: إلى بكتمر- وكان موكلاً بالمعتضد بالمدائن، غلى أقل من يوم من مدينة السلام- أن ينصرف بالمعتضد والمفوض إلى الله ابنه إلى بغداد، فدخل المعتضد إليها في يومه، واتصل بإسماعيل صلاح الموفق، فانحدر ومعه المعتضد والمفوض في طيارة إلى دار ولده، وقد كان يأنس الخادم ومؤنس الخادم وصافي الحرمي وغيرهم من خدم الموفق وغلمانه، أخرجوا أبا العباس من الموضع الذي كان فيه محبوسا، وساروا به إلى الموفق، وأحضر إسماعيل بن بلبل والمعتضد والمفوض معه، وكثر اضطراب القوَاد والموالي، وأسرعت العامة وسائر الخدم في النهب، فانتهبوا دار إسماعيل بن بلبل، ولم تبق دار جليل ولا كاتب نبيل إلا نهبوها، وفتحت الجسور، وأبواب السجون، ولم يبق أحد في المطبق ولا في الحديد إلا أخرج، وكان أمراً فظيعاً غليظاً، وخدم على أبي العباس، وعلى إسماعيل بن بلبل، وانصرف كل واحد منهما إلى منزله، فلم يجد إسماعيل في داره ما يقعد عليه، حتى وَجَّه إليه الشاه ابن ميكال ما قعد عليه، وقام بأمر طعامه وشرابه، وقد كان إسماعيل أسْرَعَ في بيوت الأموال، وأسرف في النفقات والجوائز والخلع والعطايا، وأمَدَّ العرب وأجزل لهم الأنزال والأرزاق، واصطنع بني شيبان من العرب وغيرهم من ربيعة، وكان يزعم أنه رجل من بني شيبان، وطالَبَ بخراج سًنَةٍ مبهمة، فثقل على الرعية، وكثر الداعي عليه، ومكث الموفق بعد ذلك ثلاثة أيام، ثم توفي ليلة الخميس، لثلاث بقين من صفر سنة ثمان وسبعين، ومات وله تسع وأربعون سنة، وأمه أم ولد روميّة، يقال لها: أسحر، وكان اسم الموفق طلحة، وفيه يقول الشاعر:

لما استظل بظل الملك واجتمعت

 

له الأمورِ فمنقاد ومقـسـور

حُطَتْ عليه لمقـدارٍ مَـنـيتُـه

 

كذاك تَصْنعُ بالناس المـقـاديرُ

فلما مات الموفق قام المعتضد بأمور الناس في التدبير فكان أبيه الناصر، وهو الموفق، وخلع جعفر المفوض من ولاية العهد، وقام إسماعيل بن بلبل في الوزارة بعد شغب كثير كان في مدينة السلام، وكان لأبي عبد اللّه بن أبي الساج ولخادمه وصيف خطب جليل، وقيد إسماعيل بن بلبل، ووجه أبو العباس إلى عبد اللّه بن سليمان بن وهب فأحضره وخلع عليه ورد إليه أمر كتابه، وذلك في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين، ولم يزل إسماعيل بن بلبل يعذّبُ بأنواع العذاب، وجعل في عنقه غل فيه رمانة حديد، والغل والرمانة مائة وعشرون رطلاً، وألبس جبة صوف قد صيرت في ودك الأكارع، وعلق معه رأس ميت؛ فلم يزل على ذلك حتى مات في جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين ومائتين، ودفن بِغُلِّهِ وقيوده، وأمر المعتضد بضرب جميع الآنية التي كانت في خزانته، فضربت وفرقت في الجند.

غداء المعتمد الذي مات عقيبه

قال المسعودي: وقد كان المعتمد قعد للغداء واصطبح يوم الاثنين لِإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب الفرد سنة تسع وسبعين ومائتين، فلما كان عند العصر قدم الطعام، فقال: يا موشكيره- للموكل به- ما فعلت الرؤوس بأرقابها. وقد كان قم من الليل أن يقدم له رؤوس حملان، وقد فصل فيها أرقابها، فقدمت، وكان معه على المائدة رجل من ندمائه وسُمَّاره يعرف بقف الملقم؟ ورجل يعرف بخلف المضحك؛ فأول من ضرب بيده إلى الرؤوس الملقم، فانتزع أذن واحد منها، ولقمه في الرقاق، وغمسها في الأصباغ، وأهوى بها إلى فِيهِ، وأمعن في الأكل وأما المضحك فإنه يقتلع اللهازم والأعين، فأكلوا وأكل المعتمد، وأتموا يومهم؛ فأما الملقم صاحب اللقمة الأولى فإنه تهرأ في الليل، وأما المضحك فإنه مات قبل الصباح، وأما المعتمد فأصبح ميتاً قد لحق بالقوم. ودخل إسماعيل بن حماد القاضي إلى المعتضد وعليه السواد، فسلم عليه بالخلافة، وكان أول مَنْ سلّم عليه بها، وحضر الشهود منهم أبو عوف والحسين بن سالم وغيرهم من العدول حتى أشرفوا على المعتمد ومعهم بدر غلام المعتضد يقول: هل ترون به من بأس أو أثر مات فجأة، وقتلته مداومته لشرب النبيذ، فنظروا إليه فإذا ليس به من أثر، فغسل وكفن وجعل في تابوت قد اعد له وحُمِل إلى سامرا فدفن بها.

وذكروا- واللّه أعلم- أن سبب وفاته أنه سقي نوعاً من السم في شرابهم الذي كانوا يشربونه، وهو نوع يُقال له البيش يحمل من بلاد الهند وجبال الترك والتبت، وربما وجدوه في سنبل الطيب، وهو ألوان ثلاثة، وفيه خواص عجيبة.

وللمعتمد أخبار حسان وما كان في أيامه من الكوائن والحوادث مما كان بخراسان من حروب الصفار وغيره، وما كان من ولد أبي دُلَفَ بأرض الجبل، وما كان من العرب من الطولونية وما كان بديار بكر من بلاء وأسر وغيرهما من أحمد بن عيسى ابن الشيخ، وما كان باليمن، قد أتينا على مبسوطها وجميع ذلك كله والغُرَر منه وما حدث في كل سنة من أيامه من الحوادث في كتابينا: أخبار الزمان والأوسط، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الكتاب.