ذكر خلافة المعتضد بالله

ذكر خلافة المعتضد باللّه

وبويع أبو العباس أحمد بن طلحة المعتضد باللّه، في اليوم الذي مات فيه المعتمد على اللّه عمه وهم يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وأمه أم ولد رومية يُقال لها ضرار، وكانت وفاته يوم الأحد لسبع بَقِينَ من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين؛ فكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر ويومين، وتوفي بمدينة السلام وله سبع وأربعون سنة، وقيل: إنه ولي الخلافة ابن إحدى وثلاثين سنة، وتوفي سنة تسع وثمانين- على ما ذكرنا- وله أربعون سنة وأشهر، على تباين أصحاب التواريخ في كتبهم، وما أرَّخُوه في أيامهم، واللّه الموفق.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

حال الرعية في أيامه

ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المعتضد باللّه سكنت الفتن، وصلحت البلدان، وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهرج، وسالمه كل مخالف، وكان مُظَفَّراً قد دانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأديل له في أكثر المخالفين عليه وَالمُنَابذين له، وظفر بهارون الشاري.

وكان صاحب المملكة والقيم بأمر الخلافة بدر مولاه، وإليه جميع المعارف في جميع الآفاق، وإليه أمر الجيوش وسائر القواد.

مالية الدولة في عهده

وخلف المعتضد في بيوت الأموال تسعة آلاف ألف دينار، ومن الوَرِقِ أربعين ألف ألف درهم، ومن الدواب والبغال والجمازات والحمير والجمال اثني عشر ألف رأس، وكان مع ذلك شحيحاً بخيلًا ينظر فيما لا ينظر فيه العوام.

تقتيره

وحكى عبد اللّه بن حمدون- وكان نديمه وخاصته، وممن كان يأنس به في خلواته- أنه أمر أن تنقص حَشَمُه ومن كان يجري عليه الأنزال من كل رغيف أوقية، وأن يبتدأ بأمر خبزه، لأن للوصائف عدداً من الرغفان فيها ثلاث لذا وأربع لذا وأكثر من ذلك، قال ابن حمدون: فتعجبت من ذلك في أول أمره، ثم تبينت القصة؛ فإذا أنه يتوفر من ذلك في كل شهر مال عظيم، وتقدم إلى خَزَّانه أن يختار له من الثياب التسترية والدبيقية أحسنها لتقطيعها لنفسه.

أنواع من قسوته

وكان مع ذلك قليل الرحمة، كثير الِإقدام، سفاكاً للدماء، شديد الرغبة في أن يمثل بمن يقتله.

وكان إذا غضب على القائد النبيل، والذي يختصه من غلمانه أمر أن تحفر له حفيرة بحضرته ثم يدلى على رأسه فيها، ويطرح التراب عليه، ونصفه الأسفل ظاهر على التراب، ويداس التراب، فلا يزال كذلك حتى تخرج روحه من دبره.

وذكر من عذابه أنه كان يأخذ الرجل فيكتف وَيُقَيده فيؤخذ القطن فيحشى في أذنه وخيشومه وفمه، وتوضع المنافخ في دبره حتى ينتفخ ويعظم جسده ثم يسد الدبر بشيء من القطن، ثم يفصد، وقد صار كالجمل العظيم، من العرقين اللذين فوق الحاجبين، فتخرج النفس من ذلك الموضع، وربما كان يقام الرجل في أعلى القصر مجرداَ مُوثَقاً ويرمى بالنشاب حتى يموت. واتخذ المطامير، وجعل فيها صنوف العذاب، وجعل عليها نجاح الحرمي المتولي لعذاب الناس، ولم يكن له رغبة إلا في النساء والبناء؛ فإنه أنفق على قصره المعروف بالثريا أربعمائة ألف دينار، وكان طول قصره المعروف بالثريا ثلاثة فراسخ.

وأقر عبيد اللّه بن سليمان على وزارته، فلما مات استوزر القاسم بن عبيد اللّه.

وقد كان المعتضد في هذه السنة- وهي سنة تسع وسبعين ومائتين- ركب يوم الفطر- وهو يوم الاثنين - إلى مصلى اتخذه بالقرب من داره، فصلى بالناس وكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات، وفي الآخرة تكبيرة واحدة، ثم صعد المنبر، فحصر ولم تسمع له خطبة؛ ففي ذلك يقول بعض الشعراء:

حصر الإِمام ولم يبين خطبة

 

للناس في حل ولا إحـرام

ما ذاك إلا من حياء، لم يكن

 

ما كان من عي ولا إفحام

زواجه بنت خمارويه

وفي هذه السنة قدم الحسن بن عبد اللّه المعروف بابن الجصاص رسولاً من مصر لخمارويه بن أحمد، ومعه هدايا كثيرة وأموال جليلة وطراز، فوصل إلى المعتضد يوم الاثنين لثلاث خَلَوْنَ من شوال، وخلع عليه وعلى سبعة نفر معه، ثم سعى في تزويج ابنة خمارويه من عليّ المكتفي، فقال المعتضد: إنما أراد أن يتشرَّفَ بنا، وأنا أزيد في تشريفه، أنا أتزوجها، فتزوجها، وتولى ابن الجصاص أمرها وحمل جهازها؛ فيقال: إنه حمل معها جوهراً لم يجتمع مثلُه عند خليفة قط؛ فاقتطع ابن الجصاص بعضه، وأعلم قَطْر الذي بنت خمارويه أن ما أخذ مُودَع لها عنده إلى وقت حاجتها إليه؛ فماتت والجوهر عنده؛ فكان ذلك سبب غناه واستقلاله، وقد كانت لابن الجصاص محن بعد ذلك في أيام - المقتدر، وما كان من القَبْض عليه، وما أخذ منه من الأموال بهذا السبب وغيره، وحمل المعتضد صداق قطر الندى وهو بمدينة بلد إلى أبي الجيش، وكان الصداق ألف ألف درهم، وغير ذلك من المتاع والطيب ولطائف الصين والهند والعراق، وكان مما خص به أبا الجيش في نفسه وَحَبَاه به بَدْرَة من الجوهر المثمن فيها در وياقوت وأنواع من الجوهر ووشاح وتاج وإكليل، وقيل: قلنسوة، وكرزن. وكان وصولهم إلى مصر في رجب سنة ثمانين ومائتين، وانحدر المعتضد من مدينة بلد والموصل بعد أن حمل ما وصفنا إلى مدينة السلام في الماء.

ابن الجصاص

وحدث أبو سعيد أحمد بن الحسين بن منقذ قال: دخلت يوماً على الحسن بن الجصاص وإذا بين يديه سفط. مبطن بالحرير فيه جوهر قد نظم منه سبح؛ فرأيت شيئاً حسناً ووقع في نفسي أن عددها يجاوز العشرين، فقلت له: جعلني اللّه فداك! كم عدد ما في كل سبحة؟ فقال لي: مائة حبة، وزن كل حبة كوزن صاحبتها لا تزيد ولا تنقص، وقد عدلت كل سبحة وزن صاحبتها، وإذا بين يديه سبائك ذهب توزن بقَبَّان كما يوزن الحطب؛ فلما خرجت من عنده تلقاني أبو العيناء فقال لي: يا أبا سعيد، علي أي حال تركت هذا الرجل. فوصفت له ما رأيت، فقال رافعاً رأسه إلى السماء: اللهم إن كنت لم تُسَاوِ بيني وبينه في الغنى، فَسَاوِ بيني وبينه في العمى، ثم اندفع يبكي، فقلت: يا أبا عبيد اللّه، ما شأنك. فقال: لا تنكر ما رأيت مني، لو رأيتَ ما رأيتُ لضعفت، ثم قال: الحمد للّه على هذه الحالة، وقال: يا أبا سعيد، ما حَمَدْتُ اللّه تعالى على العمى إلا في وقتي هذا؛ فقلت لمن يخبر حال ابن الجصاص: بأي شيء ختم هذا السبح؟ فقال: بياقوتة حمراء لعل قيمتها أكثر مما تحتها.

أبوّ العيناء

وكانت وفاة أبي العيناء سنة اثنتين وثمانين ومائتين بالبصرة في جمادى الآخرة، وكان يكنى بأبي عبيد اللّه، وكان قد انحدر من مدينة السلام إلى البصرة في زورق فيه ثمانون نفساً في هذه السنة فغرق الزورق، ولم يتخلص مما كان فيه إلا أبو العيناء، وكان ضريراً، تعَلَّقَ بأطراف الزورق فأخرج حَيّاً، وتلف كل من كان معه، فبعد أن سلم ودخل البصرة مات.

وكافي لأبي العيناء من اللسان وسرعة الجواب والذكاء ما لم يكن عليه أحد من نُظَرَائِه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح مع أبي علي البصير وغيره، وقد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا. وحضر مجلس بعض الوزراء، فتعارضوا حديث بعض البرامكة وكرمهم وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزير لأبي العيناء، وقد كان أمْعَنَ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والإِفضال: قد أكْثَرْت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا من تصنيف الوَرَاقين وتأليف المحسنين، فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوَرَّاقون عليك أيها الوزير بالبذل والجود؟ فأمْسَكَ عنه الوزير، وتعجب الناس من إقدامه عليه.

واستأذن يوماً على الوزير صاعد بن مخلد، فقال له الحاجب: الوزير مشغول فانتظر، فلما أبطأ إذنه قال للحاجب: ما صنع الوزير. قال: يصفَتي، قال: صدقت لكل جديد لذة، يعيره بأنه حديث عهد بالإِسلام.

وقد كان أبو العيناء دخل على المتوكل في قصره المعروف بالْجَعْفَرِي، وذلك في سنة ست وأربعين ومائتين، فقال له: كيف قولك في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بَنَوْا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن ذلك ثم قال له: كيف شربك النبيذ. فقال: أعجز عن قليله، وأفتضح من كثيره، فقال له: دَعْ هذا عنك ونادمنا، فقال: أنا امرؤ محجوب، والمحجوب تتخطرف إشارته، ويجور قصده، وينظر منه. إلى ما لا ينظر إليه، وكل مَنْ في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخْدَمَ، وأخرى لست آمن أن تنظر إلَيَّ بعين رَاضٍ وقلبك غضبان، أو بعين غضبان وقلبك رَاضٍ، ومتى لم أمَيِّز بين هاتين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء، فقال: بَلَغنا عنك بَذَاء، قال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال: "نعم العبد إنه أواب" جل ذكره: "هماز مشاء بنميم" الآية فإن لم يكن البذاءَ بمنزلة العقرب يلدغ النبي والذمي فلا ضَيْرَ في ذلك، قال الشاعر:

إذا أنا بالمعروف لم أك صاقداً

 

ولم أشتم النَكْسَ اللئيم المذممـا

ففيمَ عَرَفْتُ الخير والشر باسمه

 

وَشَق لي اللّه المدامع والفمـا

قال: من أين أنت؟ قال: من البصرة، قال: ما تقول فيها؟ قال ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. وكان وزيره عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان واقفاً على رأسه، قال: ما تقول في عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان؟ قال: نعم العبد، منقسم بين ميمون؟ قال: يد تسرق، واست تضرط، وهو بمنزلة يهودي قد سرق نصف خزينة، له إقدام ومعه إحكام، إحسانه تكلف، وإساءته طبيعة فأضحكه ذلك منه، ووصله وصرفه.

هدايا الصفار للمعتضد

وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين ورَدَتْ هدايا من قبل عمرو بن الليث الصفار: منها مائة دابة من مَهَاري خراسان وجمازات كثيرة وصناديق كثيرة وأربعة آلاف ألف درهم، وكان معها صنم من صُفْر على مثال امرأة لها أربعة أيْدٍ وعليها وشاحان من فضة مُرَصَّعَانِ بالجوهر الأحمر والأبيض، وبين يحيى هذا التمثال أصنام صغار لها أيد ووجوه وعليها الحلي والجوهر، وكان هذا التمثال على عَجَلٍ قد عمل على مقدارها تجره الجمازات؛ فصير بذلك أجمع إلى دار المعتضد؛ ثم رد هذا التمثال إلى مجلس الشرطة في الجانب الشرقي؛ فنصب للنساء ثلاثة أيام ثم رد إلى دار المعتضد، وذلك في يوم الخميس لأربع خلون من شهر ربيع الآخر من هذه السنة؛ فسمت العامة هذا التمثال شغلاً؛ لاشتغالهم عن أعمالهم بالنظر إليه عدة هذه الأيام.

وقد كان عمرو بن الليث قد حمل هذا الصنم من مدن افتتحها من بلاد الهند ومن جبالها مما يلي بلاد بسط ومعبر وبلاد الحوار، وهي ثغور في هذا الوقت- وهيِ سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- مما يليها من الأكافر والأمم- المختلفة حَضرٌ وبدْو، فمن الحضر بلاد كابل وبلاد باميان! وهي بلاد متصلة ببلاد زابلستان والرخج، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار الأمم الماضية والملوك الغابرة أن زابلستان تعرف ببلاد فيروز بن كبك- ملك زابلستان.

وقد كان عيسى بن علي بن ماهان دخل في طلب الخوارج في أيامِ الرشيد إلى السند وجبالها والقندهار والرخج وزابلستان، ويقتل ويفتح فتوحاً لم يتقدم مثلها في تلك الديار؛ ففي ذلك يقول الأعمى الشاعر المعروف بابن العذافر القمي:

كاد عيسى يكون ذا القرنين

 

بلغ المغربين والمشرقـين

لم يَدَع كابلاً ولا زابلسـتـا

 

ن فما حولها إلى الرخجين

وقد قدمنا فيما سلف من كتبنا الأخبار عن قلاع فيروز بن كبك الملك ببلاد زابلستان التي ليس في قلاع العالم على ما ظهر للناس من ذوي العناية والتنقير ومَنْ أكثر في الأرض المسيَر أحْصَنُ منها، ولا أمنع ولا أعلى في الجو، ولا أكثر عجائل منها وذكرنا عجائب تلك الديار إلى بلاد الطبسين وبلاد خراسان واتصالها بسجستان، وعجائب المشرقين والمغربين من عامر وغامر، وما في العامرمن الأمم المختلفة الخلق والخُلق.

قدوم أهل البصرة على المعتضد

وقد كان أهل البصرة وردوا على المعتضد في مراكب بحرية بيض مشحمة بالشحم والنورة على ما في بحرهم، ووفد فيها خلق من خطبائهم ومتكلميهم وأهل الرياسة والشرف والعلم: منهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، وكان مولى آل جُمَح من قريش، وكان ولي القضاء بعد ذلك، يشكون إلى المعتضد ما نزل بهم من محن الزمان، وجدبٍ لحقهم، وجَوْرٍ من العمال اعتورهم، وألحوا بالصياح والضجيج في مراكبهم في دجلة، فجلس لهم المعتضد من وراء حجاب، وأمر الوزير القاسم بن عبيد اللّه وغيره من كتاب الدواوين بالجلوس لهم من حيث يسمع المعتضد خطابهم، فيقصون لهم بما يشكونه من حكم الدواوين، ثم أذن للبصريين فدخلوا، وأبو خليفة في أولهم، عليهم الطيالسة الزرق والأقناع على رؤوسهم، ذوو عوارض جميلة وهيئة حسنة، فاستحسن المعتضد ما رأى منهم، وكان المبتدئ منهم بالنطق أبو خليفة؛ فقال: غمر العامر، ودَثَرَ الظاهر، واختلفت العَوَّاء، وخسفت الجوزاء، وأناخت علينا المصائب، واعتورتنا المحن، وقام كل رجل منا في ظلمة، واصطلمت الضياع، وانخفضت القلاع، فانظر إلينا بعين الِإمام، تستقيم لك الأيام، وتنقاد لك الأنام، وإلا فنحن البصريون لا نُدْفَع عن فضيلة، ولا نتنافس عن جليلة. وسَجعَ في كلامه، وأغرق في خطابه، فقال له الوزير: أحسبك مؤدباً أيها الشيخ، فقال له: أيها الوزير، المؤدبون أجلسوك هذا المجلس، قال له الوزير: كم في خمس من الِإبل. قال له أبو خليفة: الخبيرَ سألت؛ في خمس من الِإبل شاة، وفي العشر شاتان؛ ثم مضى في وصف فرائض الِإبل واصفَاً لما يجب فيها، ذاكراً للتنازع في موضعه منها؛ ثم شرع في البقر والغنم، بلسان فصيح وخطاب حسن في إيجاز من خطاب وبيان من الوصف؟ فبعث المعتضد- وقد أعجبة ما سمع، وأكثر لذلك من الضحك،- بخادم إلى الوزير، فقال له: أكتب لهم عما يريدون، وأجبهم إلى ما سألوه، ولا تصرفهم إلا شاكرين؛ فهذا شيطان قذف به البحر، ومثله فَلْيَفِدْ على الملوك.

أبو خليفة الجمحي

وكان أبو خليفة لا يتكلف الإِعراب، بل قد صار له كالطبْع، لدوام استعماله إياه من عنفوان حداثته، وكان ذا محل من الِإسناد. وله أخبار ونوادر حسان قد دونت: منها أن بعض عمال الخراج - بالبصرة كان مصروفاً عن عمله، وأبو خليفة مصروفْاً عن قضائه، فبعث العامل إلى أبي خليفة أن مبرمان النحوي صاحب أبي العباس المبرد قد زارني في هذا اليوم إلى بعض الأنهار والبساتين، فأتوه مبكرين مع من حضرنا من أصحابنا، وسألوه الحضور معهم، فجلسوا في سمارية متفكهين قد غيروا ظواهر زيهم حتى أتوا نهراً من أنهار البصرة واستحسنوا بعض البساتين فقدموا إليه وخرجوا إلى الشط وجلسوا تحت النخل على شط النهر وقم إليهم ما حُمل معهم من الطعام وكان أيام المبادي وهي الأيام التي يُثْمِر فيها الرطب فيكبسونه في القواصر تمراً، وتكون حينئذ البساتين مشحونة بالرجال ممن يعمل في التمر من الأكَرَة، وهم الزراع وغيرهم؛ فلما أكلوا قال بعضهم لأبي خليفة غير مكن له خوفاً أن يعرفه مَنْ حضر ممن ذكرنا من الأكَرَةِ والعمال في النخل: أخبرني أطال اللّه بقاءك عن قول اللّه عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً" هذه الواو ما موقعها من الِإعراب. قال أبو خليفة: موقعها رفع، وقوله: "قوا" هو أمر للجماعة من الرجال، قال له: كيف تقول للواحد من الرجال والاثنين؟ قال: يُقال للواحد من الرجال: قِ، وللاثنين قيا، وللجماعة: قوا، قال: كيف تقول للواحدة من النساء وللاثنتين منهن وللجماعة منهن؟ قال أبو خليفة: يُقال للواحدة: قي، وللاثنتين: قيا، وللجماعة: قِينَ. قال: فأسألك أن تعجل بالعَجَلةِ كيف يقال للواحد من الرجال وللاثنين وللجماعة والواحدة من النساء والاثنتين منهن والجماعه منهن؟ قال أبو خليفة عجلان: قِ قيا قوا قي قيا قين، وكان بالقرب منهم جماعة من الأكَرَةِ، فلما سمعوا ذلك استعظموه، وقالوا: يا زنادقة، أنتم تقرءون القرآن بحروف الدجاج، وعَدوْا عليهم فصفعوهم، فما تخلص أبو خليفة والقوم الذين كانوا معه من أيديهم إلا بعد كد طويل.

وقد أتينا على نوادر أبي خليفة ومخاطبته لبغلته حين ألقته وما تكلم به حين دخول اللص إلى داره وغير ذلك في كتابنا الأوسط.

وكانت وفاة أبي خليفة بالبصرة في سنة خمس وثلاثمائة.

ابن الشيخ في آمد

وفي سنة ست وثمانين ومائتين في ربيع الأول نزل المعتضد على آمد، وذلك بعد وفاة أحمد بن عيسى بن الشيخ عبد الرزاق، وقد تحصن بها ولده محمد بن أحمد بن عيسى بن عبد الرزاق، فَبَثَ جيشه حولها وحاصرها، فحدث علقمة بن عبد الرزاق قال: حدثنا رواحة بن عيسى بن عبد الملك، عن شعبة بن شهاب اليشكري، قال: وَجه أبي المعتضد إلى محمد بن عيسى بن الشيخ لأخذ بالحجة عليه، فلما صرت إليه واتصل الخبر بأم الشريف أرسلت إلي، فقالت: يا ابن شهاب، كيف خَلَّفْتَ أمير المؤمنين؟ قال: فقلت: خَلَّفْتُه واللّه ملكاً جذلاً، وحكماً عدلاً، أماراً بالمعروف، فعّالاً للخير، متعززاً على أهل الباطل، متذللاً للحق، لا تأخذة في الله لومة لائم، قال: فقالت لي: هو واللّه أهل لذلك ومستحقه ومستوجبه، وكيف لا يكون ذلك كذلك وهو ظل اللّه الممدود على بلاده، وخليفته المؤتمن على عباده، أعزَّ به دينه، وأحيا به سُنّته، وثبَّت به. شريعته، ثم قال لي؛ وكيف رأيت صاحِبِنَا؟ تعني ابن أخيها محمد بن أحمد، قال: فقلت: رأيت غلاماً حَدَثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء فاستمدَّ بآرائهم وأنْصَتَ لأقوالهم، فهم يزخرفون له الكلام، ويوردونه النّدَمَ، فقالت لي: فهل لك أن ترْجع إليه بكتاب فلعلنا أن نَحُل ما عَقَدَه السفهاء؛ قال: قلت: أجل، فكتبَتْ إليه كتاباً لطيفاً حسناً أجزلت فيه الموعظة، وأخلصت فيه النصيحة، وكتبت في آخره هذه الأبيات:

أقْبَلْ نصيحة أمَّ قلـبـهـا وَجِـعٌ

 

عليك، خوفاً وإشفاقاً، وقُلْ سَـدَدَا

واستعمل الفكر في قولي فإنك إن

 

فَكَّرْتَ ألفَيْتَ في قولي لك الرّشَدَا

ولا تَثِقْ برجال في قـلـوبـهـمُ

 

ضغائن تبعث الشَنْان والحـسـدَا

مثل النعاج خمول في بـيوتـهـم

 

حتى إذا أمنوا ألفـيتـهـم أسُـدَا

وَداوِ ذلـك والأدواء مـمـكـنة

 

وإذ طبيبك قد ألْـقَـي إلـيك يَدَا

واعطِ الخليفة ما يرضيه منك ولا

 

تَمْنَعْهُ مالاً ولا أهـلاً ولا ولـدا

واردد أخا يشكر ردَاً يكـون لـه

 

رِدْءاً من السوء لم تُشْمِتْ به أحدا

قال: فأخذْتُ الكتاب، وسرت به إلى محمد بن أحمد، فلما نظر فيه رمى به إليَ، ثم قال: يا أخا يشكر، بآراء النساء تُسَاس الدول، ولا بعقولهن يُساس الملك، ارجع إلى صاحبك، فرجعت إلى أمير المؤمنين؛ فأخبرته الخبر عن حقه وصدقه، فقال: وأين كتاب أم الشريف؟ قال: فأظهرته، فلما عرضت عليه أعجبه شعرها وعقلها، ثم قال: إني لأرجو أن أشفعها في كثير من القوم؛ فلما كان في فتح آمِدَ ما كان ونزل محمد بن أحمد على الأمان لما عظم القتال وَجَّه إليَّ أميرُ المؤمنين فقال: يا شعلة بن شهاب؛ هل عندكم علم من أم الشريف؟ قال: قلت: لا واللّه يا أمير المؤمنين، قال: امْض مع هذا الخادم فإنك تَجِدُها في جملة نسائها، قال: فمضيت، فلما بصرت بي أسفرت عن وجهها وأنشأت تقول:

رَيْبُ الــزمـــان وصَـــرْفُـه

 

وعـتـؤُه كـشـف الـقـنـــاعــا

وأذَلَّ بعد العز منّا

 

الصَعْبَ والبطل الشجاعا

ولقد نصحت فما أُطعت،

 

وكما حرمت بأن أطاعا

فأبى بنا المقدور إلاَّ

 

أن نُـقَـسَّـــم أو نـــبـــاعــا

يا لـيت شـعــري هـــل تـرى

 

يومـاً لـفـرقـتـنـا اجـتـمـاعـــا

قال: ثم بكت وضربت بيدها على الأخرى، ثم قال لي: يا ابن شهاب، كأني واللّه كنت أرى ما أرى، فإنا للّه وإنا إليه راجعون، قال: فقلت لها: إن أمير المؤمنين قد وَجهَنِي إليك، وما ذاك إلاَ لحسن رأي منه فيك، قالت: فهل لك أن توصل إليه كتابي هذا بما فيه. قلت: نعم، فكتبت إليه بهذه الأبيات:

قل للخليفة والِإمام المرتـضـى

 

وابن الخَلاَئِفِ من قريش الأبطح

بك أصلح اللّه البلاد وأهْلَهَــا

 

بعد الفـساد وطالما لم تصلــح

وتزحزحت بك قبة العز التـي

 

لولاك بعد اللّه لم تـتـزحـزح

وأراك رَبُّكَ ما تحبُّ فلا تـرى

 

ما لا يُحِبُّ فَجُدْ بعفوك واصْـفَح

يا بهجة الدنيا وبَدْرَ ملوكها

 

هَبْ ظالميّ ومفسديّ لمصلح

قال: فأخذت الكتاب، وسرت به إلى أمير المؤمنين، فلما عرضت عليه الأبيات أعجبته، وأمر أن يحمل إليها تُخُوت من الثياب وجملة من المال، وإلى ابن أخيها محمد بن أحمد مثل ذلك، وشَفّعها في كثير من أهلها ممن عظم جرمه واستحق العقوبة عليه.

حرب مع رافع بن ليث

وكتب المعتضد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَفَ بمواقعة رافع بن ليث وذلك في سنة تسع وسبعين ومائتين، فسار أحمد بن عبد العزيز إلى رافع، والتَقَوْا بالري لسبع بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وأقامت الحرب بينهم أياماً، ثم كانت على رافع بن ليث، فولّى، وركب أصحاب ابن أبي دُلَفَ أكتافهم، واستولوا على عسكرهم، وكان وصول هذا الخبر إلى بغداد لست خلون من ذي الحجة من هذه السنة. 

محمد بن الحسن بن سهل يدعو لرجل طالبي

وفي سنة ثمانين ومائتين أخذ ببغداد رجل يعرف بمحمد بن الحسن بن سهل ابن أخي في الرياستين الفضل بن سهل، يلقب بشميلة، ومعه عبيد اللّه بن المهتدي، ولمحمد بن الحسن بن سهل هذا تصنيفات في أخبار المبيضة، وله كتاب مؤلف في أخبار علي بن محمد صاحب الزنج حسب ما ذكرنا من أمره فيما سلف من هذا الكتاب، فأقرَّ عليه جماعة من المستأمنة من عسكر العلوي وأصيبت له جرائد فيها أسماء رجال قد أخذ عليهم البيعة لرجل من آل أبي طالب، وكانوا قد عزموا على أن يظهروا ببغداد في يوم بعينه، ويقتلوا المعتضد، فأدخلوا إلى المعتضد، فأبى مَنْ كان مع محمد بن الحسن أن يقروا وقالوا: أما الرجل الطالبي فإنا لا نعرفه، وقد أخذت علينا البيعة له ولم نَرَهُ، وهذا كان الواسطَةَ بيننا وبينه، يعنون محمد بن الحسن، فأمر بهم فقتلوا، واستبقى شميلة طمعاً في أن يدلّه على الطالبي، وخلّى عبيد الله كل، المهتدي لعلمه ببراءته، ثم أراد المعتضد باللّه بمحمد بن الحسن بجميع الجهات أن يدلّه على الطالبي الذيَ أخذ له العهد على إلى جال، فأبى، وجرَى بينه وبين المعتضد خطب طويل، وكان في مخاطبته للمعتضد أن قال: لو شَوَيْتَنِي على النار ما زدتك على ما سمْعتَ مني، ولم أقر على مَنْ دعوت الناسَ إلى طاعته وأقررت بإمامته، فاصنع ما أنت له صانع، فقال له المعتضد: لسنا نعذبك إلا بما ذكرت، فذكر أنه جعل في حديدة طويلة أدخلت في دبره وأخرجت من فمه وأمسك بأطرافها على نار عظيمة حتى مات بحضرة المعتضد وهو يسبه ويقول فيه العظائم، والأشهر أنه جعل بين رماح ثلاثة وشُدَّ بأطرافها وكتف وجعل فوق النار من غير أن يماسها وهو في الحديدة يدار عليها ويشوى كما يشوى الدجاج وغيرها إلى أن تفرقع جسمه، وأخرج فصلب بين الجسرين من الجانب الغربي.

محاربة بني شيبان

وفي هذه السنة كان خروج المعتضد في طلب الأعراب من بني شيبان، وقد كانوا عَتَوْا وأكثروا الفساد، وأوقع بهم مما يلي الجزيرة والزاب في الموضع المعروف بوادي الذئاب، فقَتَل وأسَرَ وساق الذراري وسار إلى الموصل.

وفي هذه السنة افتتح أبو عبد اللّه بن أبي الساج المراغَةَ من بلاد أذربيجان، فقبض على عبد الله بن الحسين، واستصفى أمواله، ثم أتى عليه بعد ذلك.

فتح عمان

وفي هذه السنة كانت وفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَفَ.

وفي هذه السنة افتتح أحمد بن ثور عمان، وكان مسيره إليها من بلاد البحرين، فواقع الشراة من الأباضية، وكانوا في نحو من مائتي ألف، وكان إمامهم الصَّلْت بن مالك ببلاد بروى من أرض عمان؛ وكانت له عليهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وحمل كثيراً من رؤوسهم إلى بغداد فنصبت بالجسر.

وفيها دخل المعتضد بغداد منصرفا من الجزيرة.

وفي هذه السنة كان دخول عمرو بن الليث نيسابور.

ابنة ابن أبي الساج

وفي هذه السنة نقلت ابنة محمد بن أبي الساج إلى بدرٍ غلام المعتضد، وقد أتينا على خبر ابن أبي الساج وما كان من تزويجه ابنته لبدر بحضرة المعتضد وما كان من خبر ابن أبي الساج ورحلته عن باب خراسان متوجهاً إلى أذربيجان في الكتاب الأوسط.

مسير إسماعيل بن أحمد إلى أرض الترك

وفي هذه السنة سار إسماعيل بن أحمد- بعد وفاة أخيه نصر بن أحمد واستيلائه على إمرة خراسان- إلى أرض الترك، ففتح المدينة الموصوفة من مدنهم بدار الملك، وأسر خاتون زوجة الملك، وأسر خمسة عشر ألفاً من الترك وقتل منهم عشرة آلاف، ويقال: إن هذا الملك يقال له طنكش، وهذا الاسم سِمَة لكل ملك مَلَكَ هذا البلد من ملوكهم، وأراه من الجنسين المعروفين بالخدلجية، وقد أتينا فيما سلف من هذا الكتاب على جمل من أخبار الترك وأجناسهم وأوطانهم، وكذلك فيما سلف من كتبنا.

بين وصيف وعمرو بن عبد العزيز

وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين كانت الحرب بين وصيف خادم ابن أبي الساج وعمرو بن عبد العزيز ببلاد الجبل، وكان من أمره ما ذكرنا فيما سلف من كتبنا، وكان المعتضد خرج في هذه السنة إلى الجبل لأمور بلَغته: منها قصة محمد بن زيد العلوي الحسيني صاحب بلاد طبرستان، فولّى ولده عليّاً المكتفي الري، وأنزله بها، وأضاف إليه قزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان، وانصرف المعتضد إلى بغداد وقد قلد عمرو بن عبد العزيز أصبهان وكرخ أبي دُلَفَ وفيها استأمن إلى المكتفي على كوره، وسار إلى المعتضد في عدة كثيرة، وفيها سار طغج بن شبيب أبو الِإخشيد صاحب مصر في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- في عساكر كثيرة من دمشق، فدخل طرسوس غازياً وافتتح ملوريه مما يلي بلاد برغوث وعرب الراهب.

وفي هذه السنة نزل المعتضد على حمدان بن حمدون وقد تحصن في القلعة المعروفة بالصوارة نحو عين الزعفران، وسارع إسحاق بن أيوب العنبري إلى طاعة المعتضد، ودخل في عسكره، واستأمن الحسين بن حمدان بن حمدون ومن كان معه من أصحابه إلى المعتضد، وقد أتينا على خبر حمدان بن حمدون وما كان من أمره وصعوده الجبل الجودي وعبوره دجلة وكاتبه النصراني ودخول عسكر المعتضد ليلاً إلى إسحاق بن أيوب حتى أتى به إلى المعتضد، وإخراب المعتضد لهذه القلعة، وقد كان حمدان أنْفَقَ عليها أموالاً جليلة، وهو حمدان بن حمدون بن الحارث بن منصور بن لقمان، وهو جد أبي محمد الحسن بن عبد اللّه الملقب بناصر الدولة في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- وما كان من الحسين بن حمدان في طلبه هارونَ الشاري، وما كان من أخْذِ الحسين بن حمدان إياه، بعد هذا الموضع فيما يَرِدُ من هذا الكتاب.

مقتل أبي الجيش خمارويه

قال المسعودي: وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين ذًبِحَ أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بدمشق في ذي القعدة، وقد كان بَنَى في سفح الجبل أسفل من دير مروان قصراً، وكان يشرب فيه في تلك الليلة، وعنده طغج، وكان الذي تولى ذلك خادماً من خدميهم، وأتى بهم على أميال فقتلوا وصلبوا، ومنهم من رُميَ بالنشاب، ومنهم من شرح لحمه من أفخاذه وعجيزته، وأكله السودان من مماليك أبي الجيش.

الخصيان

وقد أتينا على أخبار الخدم من السودان والصقالبة والروم والصين، وذلك أن أهل الصين يَخْصُون كثيراً من أولادهم كفعل الروم بأولادهم، وما اجتمع عليه الخصيان من التضاد، وذلك لما حدث بهم من قطع هذا العضو، في كتابنا أخبار الزمان وما أحدثته الطبيعة فيهم عند ذلك كما قاله الناس فيهم وما ذكروه من الصفات.

وذكر المدائني أن معاوية بن أبي سفيان دخل ذات يوم على امرأته فاختة- وكانت ذات عقل وحزم- ومعه خصي، وكانت مكشوفة الرأس، فلما رأت معه الخصي غَطّتْ رأسها، فقال لها معاوية: إنه خصي، فقالت: يا أمير المؤمنين، أترى المثلة به أحلَّتْ له ما حرم اللّه عليه. فاسترجع معاوية. وعلم أن الحق ما قالته، فلم يُدْخِل بعد ذلك على حرمه خادماً، وإن كان كبيراً فانياً.

وقد تكلم الناس فيهم، وذكروا الفرق بين المجبوب والمسلوب، وأنهم رجال مع النساء ونساء مع الرجال، وهذا خَلْف من الكلام، وفاسد من المقال، بل هم رجال، وليس في عدم عضو من أعضاء الجسد ما يوجب إلحاقهم بما ذكروا، ولا عدم نبت اللحية محيلاً، لهم عما وصفوا، ومن زعم أنهم بالنساء أشبه فقد أخبر عن تغيير فعل الباري جل وعز، لأنه خَلَقَهم رجالاً لا نساء وذُكْرَانا، لا إناثاً، وليس في الجناية عليهم ما يلقب أعيانهم، ويزيل خَلقَ الباري جل وعز لهم، وقد قلنا في علة عدم نتن الآباط في الخدم وما قالته الفلاسفة فيما سلف من كتبنا، لأن الدم بطيء لا يوجد لآباطه رائحة، وهذا من فضائل الخدم.

نقل جثه خمارويه إلى مصر

وَحُمِلَ أبو الجيش في تابوت إلى مصر، وورد الخبر بذلك إلى مصر يوم الأحد لخمس ليال خَلَوْنَ من ذي الحجة، وكان ذبحه الأيام بقيت من ذي القعدة، فبويع لابنه جيش- وكان خماروَيه به يكنى- من الغد يوم الاثنين، وأتي بأبي الجيش إلى مصر، فأخرج من التابوت، وجعل على السرير، وذلك على باب مصر، وخرج ولده الأمير جيش، وسائر الأمراء والأولياء، فتقدم القاضي أبو عبد اللّه محمد بن عبدة المعروف بالعبداني وصلى عليه، وذلك في الليل. فحكى أبو بشر الدولابي عن أبي عبد اللّه النجاري- وكان شيخاً من أهل العراق، وكان يقرأ في دور آل طولون وَمَقَابرهم- أنه كان في تلك الليلة ممن يقرأ عند القبر، وقد قدم أبو الجيش ليُدَلّى في القبر، ونحن نقرأ جماعة من القراء سبعة سورة الدخان، فأحدر من السرير، ودلِّيَ في القبر، وانتهَيْنَا من السورة في هذا الوقت إلى قوله عز وجل: "خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ذق إنك أنت العزيز الكريم" قال: فخفضنا أصواتنا وأدغمنا حياء ممن حضر.

من حزم المعتضد

ومما ذكر من خبر المعتضد وحزمه في الأُمور وحيله أنه أطلق من بيت المال لبعض الرسوم في الجند عشرِ بدَرٍ، فحملت إلى منزل صاحب عطاء الجيش ليصرفها فيهم، فنقب منزله في تلك الليلة، وأخذت العشر البدر، فلما أصبح نظر إلى النقب ولم ير المال، فأمر بإحضار صاحب الحرس، وكان على الحرس يومئذٍ مؤنس العجلي، فلما أتاه قال له: إن هذا المال للسلطان والجند، ومتى لم تأت به أو بالذي نقبه وأخذ المال ألزمك أمير المؤمنين غرمه، فجد في طلبه، وطلب اللص الذي جَسَرَ على هذا الفعل، فصار إلى مجلسه، وأحضر التوابين والشرط، والتوابون: هم شيوخ أنواع اللصوص الذين قد كبروا وتابوا، فإذا جرت حادثة علموا مِنْ فِعْل مَنْ هي، فدلُّوا عليه، وربما يتقاسمون اللصوص ما سرقوه، فتقدم إليهم في الطلب، وتهدَّدهم، وأوعدهم، وطالبهم، فتفرق القوم في الدروب والأسواق والغرف والمواخير ودكاكين الرواسين ودور القمار. فما لبثوا أن أحضروا رجلاً نحيفاً ضعيف الجسم رث الكسوة هين الحالة فقالوا: يا سيدي هذا صاحب الفعلة وهو غريب من غير هذا البلد، وأطبق القوم كلهم على أنه صاحب النقب ولص المال، فأقبل عليه مؤنس العجلي فقال له: ويلك!! مَنْ كان معك. وَمن أعانك؟ وأين أصحابك؟ ما أظنك تقدر على عشر بدر وحدك في ليلة، ما كنتم إلا عشرة سة، فأقر لي بالمال إن كان مجتمعاً، وعلىِ أصحابك إن سم، فما زاده على الِإنكار شيئاً، فأقبل يترفقُ به ويَعِدُه أن ظم جائزته، ويعده بكل جميل على رده والِإقرار به، ويتوعده مكروه وهو على جحوده وإنكاره، فلما غاظه ذلك وأنكره ويئس من إقراره أخذ في عقوبته ومساءلته، فضربه بالسوط والقلوس والمقارع والدرة على ظهره وبطنه وقفاه ورأسه وأسفل رجليه وكعابه وعضله، حتى لم يكن للضرب فيه موضع، وبلغ به ذلك إلى حالة لا يعقل فيها ولا نطق، فلم يقر بشيء، فبلغ ذلك المعتضد، فأحضر صاحب الجيش، فقال له: ما صنعت في المال؟ فأخبره الخبر، فقال له: ويلك!! تأخذ لصاً قد سرق من بيت المال عشر بدر فتبلغ به الموت والتلف حتى يهلك الرجل ويضيع المال، فأين حيل الرجال قال: يا أمير المؤمنين ما أعلم الغيب، ولم تكن لي في أمره حيلة غير ما فعلت، قال: أحضرني الرجل فأتي به وقد حمل في جل، فوضع بين يديه وقد قل، فسأله فأنكر، فقال له: ويلك!! إن مُت لم ينفعك، وإن برئت من هذا الضرب ونجوت لم أدعك تصل إليه، فلك الأمان والضمان على ما تصلح به حالتك ويحمد به أمرك فأبى إلا الإنكار، فقال: علي بأهل الطب، فأحضروا، فقال: خذوا هذا الرجل إليكم فعالجوه بأرفق العلاج، وواظبوا عليه بالمراهم والغذاء والتعاهد، واجتهدوا أن تبرئوه في أسرع وقت، فأخذوه إليهم، وأخرج مالاً مكان المال وأمر بتفريقه على الجند، فيقال: إنه بريء وصلح في أيام يسيرة، ثم واظبوا عليه بالطعام والشراب والوطاء والطيب حتى صَحَّ وقوي جسمه وظهر لونه ورجعت إليه نفسه، ثم ذكر به، فأمر بإحضاره، فلما حضر بين يديه سأله عن حاله، فدعا وشكر، وقال: أنا بخير ما أبقى اللّه أمير المؤمنين، ثم سأله عن المال، فعاد إلى الِإنكار، فقال له: ويلك!!! لست تخلو من أن تكون أخذته وحدك كله أو وصل إليك بعضه، فإن كنت أخذته كله، فإنك تنفقه في أكل وشرب ولهو، ولا أظنك تفنيه قبل موتك، وإن مت فعليك وزره، وإن كنت أخذت بعضه سمحنا لك به، فأقر لنا به، وأقر على أصحابك، فإني أقتلك إن لم تقر، ولا ينفعك بقاء المال بعدك، ولا يبالي أصحابك بقتلك، ومتى أقررت دفعت إليك عشرة آلاف درهم، وأخذت لك من أصحاب الجسر مثل ذلك، ورسمتك من التوابين، وأجريت لك في كل شهر عشرة دنانير تكفيك لأكلك ؤشربك وكسوتك وطيبك، وتكون عزيزاً، وتنجو من القتل، وتتخلص من الِإثم، فأبى إلا الِإنكار، فاستحلف باللّه فحلف وأظهر له مصحفاً واستحلفه فحلف عليه، فقال: إني سأظهر على المال، فإن أنا ظهرت عليه بعد هذه اليمين قتلتك ولم أستبقك، فأبى إلاَّ الِإنكار، فقال له: فضع يدك على رأسي واحلف بحياتي، فوضع يده على رأسه وحلف بحياته أنه ما أخذه وأنه مظلوم متهم، وأن التوابين قد تبرءوا به، فقال له المعتضد: فإن كنت قد كذبت قتلتك وأنا بريء من دمك. قال: نعم، فأمر بإحضار ثلاثين أسود بحيثَ يراهم ويرونه، وأمرهم أن يتناوبوا في ملازمته، فأتت عليه أيام وهو قاعد لا يتكئ ولا يستند و لا يستلقي ولا يضطجع، وكلما خفق خَفْقَاً وجئ فكه وقمع رأسه، حتى إذا ضعف وقارب التلف أمر بإحضاره، فأعاد عليه ما كان خاطبه به واستحلفه باللّه وبغير ذلك من الأيمان، فحلف على ذلك كله وبما لم يستحلفه به أنه ما أخذ المال ولا يعرف من أخذه، فقال المعتضد لمن حضر: قلبي يشهد أنه بريء، وأن ما يقول حق خَفْقَةً، وأن التوابين قد عرفوا صاحبه، وقد أثمنا في هذا الرجل، وسأله أن يجعله في حِلً، ففعل، ثم أمر بإحضار مائدة عليها طعام، وأحضر بارد الشراب، وأمره بالجلوس والأكل والشراب، فأقبل يأكل ويشرب، ويُحَثّ على الأكل، ويلقم ويعاد الشراب عليه ويكرر، حتى لم يبق للأكل والشراب موضع، ثم أمر ببخور وطيب فبخر وطيب، وأتى له بحشية ريش فوطئ له ومهد، فلما استلقى واستراح وغفا أمر بإزعاجه وسرعة إيقاظه، فحمل من موضعه حتى أقعد بين يديه وفي عينيه الوَسَنُ، فقال له: حدثني كيف صنعت: وكيف نقبت: ومن أين خرجت؟ وإلى أين ذهبت بالمال؟ ومَن كان معك؟ قال: ما كنت إلا وحدي، وخرجت من النقب الذي دخلت منه، وكان مقابل الدرا حمام له كوم شوك يوقد به، فأخذت المال ورفعت ذلك الشوك والقماش والقصب فوضعته تحته وغَطَّيته، وهو هنالك، فأمر برده إلى فراشه، فردوه وأضجعوه عليه، ثم أمر بإحضار المال، فأحضر عن آخره، وأحضر مؤنس العجلي، وأحضر الوزير والجلساء، وقد غطى المال بالبساط ناحية من المجلس، ثم أمر بإيقاظ اللص وقد اكتفى في النوم وذهب عنه الوَسَنُ، فقال له بحضرة الجميع مثل قوله الأول، فجحد وأنكر، فأمر بكشف البساط، وقال له: ويلك!! أليس هذا المال؟ أليس فعلت كذا وكذا. يصف له ما كان حَدَّثه به، فأسقط في يد اللص، ثم أمر فقبض على يديه ورجليه وأوثق، ثم أمر بمنفاخ في دبره، وأتي بقطن فحشي في أذنيه وفمه وخيشومه، وأقبل ينفخ، وخلى عن يديه ورجليه من الوثاق؛ وأمسك بالأيدي وقد صار كأعظم ما يكون من الزِّقاق المنفوخة، وقد ورم سائر أعضائه وعظم جسمه، وعيناه قد امتلأتا وبرزَتَا، فلما كاد أن ينشقَّ أمر بعض الأطباء فضربه في عرقين فوق الحاجبين، وهما في الجبين، فأقبلت الريح تخرج منهما مع الدم ولها صوت وصفير إلى أن خمد وتلف، وكان ذلك أعظم منظر رؤي في ذلك اليوم من العذاب، وقيل: إن البدَرَ كانت عَيْناً وإن عددها كان أكثر مما وصفنا.

ابن المغازلي المضحك

وقد كان ببغداد رجل يتكلم على الطريق، ويقصًّ على الناس بأخبار ونوادر ومَضَاحَك ويعرف بابن المغازلي- وكان في نهاية الحذق لا يستطيع من يراه ويسمع كلامه أن لا يضحك- قال ابن المغازلي: فوقفت يوماً في خلافة المعتضد على باب الخاصة أضحك وأنادر؛ فحضر حلقتي بعضُ خدمة المعتضد، فأخذت في حكاية الخدم، فأعجب الخادم بحكايتي، وأشغف بنوادري، ثم انصرف عني، فلم يلبث أن عاد وأخذ بيدي، قال: إني لما انصرفت عن حلقتك دخلت فوقفت بين يدي المعتضد أمير المؤمنين، فذكرت حكايتك وما جرى من نوادرك فاستضحكت، فرآني أمير المؤمنين، فأنكر ذلك مني، وقال: ويلك!! مالك. فقلت: يا أمير المؤمنين على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يُضْحِك ويحاكي، ولا يدع حكاية أعرابي وتركي ومكي ونجدي ونبطي وزنجي وسندي وخادم إلا حكاها، ويخلط ذلك بنوادر تضحك الثكول وتُصْبي الحليم، وقد أمرني بإحضارك ولي نصف جائزتك، فقلت له وقد طمعت في الجائزة السنية: يا سيدي، أنا ضيف وعليَّ عَيْلَة، وقد مَنَّ اللّه عليَّ بك فما عليك إن أخذت بعضها سدسها أو ربعها، فأبى إلا نصفها، فطمعت في النصف وقنعت به، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فسلمت وأحسنت، ووقفت في الموضع الذي أوقفت فيه، فردَّ عليَّ السلام، وقد كان ينظر في كتاب، فلما نظر في أكثره أطبقه ثم رفع رأسه إليَّ وقال لي: أنت ابن المغازلي؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قد بلغني أنك تحكي وتُضحِك، وأنك تأتي بحكايات عجيبة ونوادر طريفة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، الحاجة تَفْتق الحيلة، أجمع بها الناس، وأتقرب إلى قلوبهم بحكايتها، ألتمس برّهم، وأتعيش بما أناله منهم، قال: فهات ما عندك، وخُذْ في فنك، فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم، وإن لم أضحك فما لي عليك؟ فقلت للحَيْنِ والخذلان: ما معي إلا قَفَاي فاصفعه ما أحببت، وكي شئت، وبما شئت، فقال لي: قد أنصفتَ، إن ضحكت فلك ما ضمنت، وإن أنا لم أضحك صفعتك بهذا الجراب عَشْرَ صفعات، فقلت في نفسي: ملك لا يصفع إلا بشيء يسير، وبشيء خفيف هَيِّن، ثم التفت وإذا أنا بجراب أدَم ناعم في زاوية البيت، فقلصَ في نفسي: ما أخطأ حَزْري، ولا أخْلَفَ ظني، وما عسى أن يكون من جِرَابِ فيه ريح، إن أنا أضحتكه ربحت، وإن أنا لم أضحكه فأمر عشر صفَعات بِجِرَاب منفوخ هَيِّن، ثم أخذت في النوادر والحكايات والنفاسة والعبارة، فلم أدع حكاية أعرابي ولا نحوي ولا مُخَنث ولا قَاضٍ ولا زُطِّي ولا نَبَطِي ولا سندي ولا زنجي ولا خادم ولا تركي ولا شطارة ولا عيارة؛ ولا نادرة ولا حكاية إلا أحضرتها وأتيت بها، حتى نفد جميع ما عندي وتصدَّعَ رأسي وانقطعت وسكت، وَفَتَرْت وَبَرَدْت، فقال لي: هيه، هات ما عندك، وهو مغضب لا يضحك ولا يبتسم ولم يبق ورائي خادم إلا هرب، ولا غلام إلا ذهب لما استَفَزَّهم الضحك وورد عليهم من الأمر، فقلت: يا أمير المؤمنين قد نفد والله ما معي، وتصدَّعَ رأسي، وذهب معاشي، وما رأيت قط مثلك، وما بقيت لي إلا نادرة واحدة، فقال: هاتها، فقلت. يا أمير المؤمنين وعَدْتني أن تصفعني عشراً وجعلتها مكان الجائزة، فأسألك أن تضعف الجائزة وتضيف إليها عشراً، فأراد أن يضحك فاستمسك، ثم قال: نفعل، يا غلام خذ بيده، فأخذ بيدي ومددت قَفَاي فصفعت بالجِرَاب صفعة، فكأنما سقط علىِ قَفَاي قلعة، وإذا فيه حصى مُدَوِّر كأنه صنجات، فصفعت له عشراً كادت أن تنفصل رقبتي وينكسر عنقي طَنت أُذناي، وقدح الشعاع من عيني، فلما استوفيت العشرة صِحْت: يا سيدي، نصيحة، فرفع الصفح عني بعد أن عزم على إيفاء ما كنت سألته من إضعاف جائزتي، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: يا سيدي، إنه ليس في الديانة أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني عليك نصف الجائزة على قلتها أو كثرتها، وأمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه بفضله وكرمه قد أضْعَفَهَا، فقد استوفيت نصفها، وبقي لخادمك نصفها، فضحك حتى استلقى، واستفزه ما كان قد سمعه مني أولاً، وتحامل له وصبر عليه، فما زال يضرب بيده ويفحص برجله ويمسك بمَرَاق بطنه، حتى إذا سكن ضحكه ورجَعَتْ إليه نفسه قال: عليَّ بفلان الخادم، فأني به، وكان طُوَالاً، فأمر بصفعه، فقالَ: يا أمير المؤمنين، أي شيء قضيتي؟ وأي جناية جنايتي؟ فقلت له: هذه جائزتي، وأنت شريكي، وقد استوفيت نصفها، وبقي نصيبك من منها،  فلما أخذه الصفع وطرق قَفَاه الصافع أقبلت عليه أقول له: قلت لك: إني ضعيف مُعْيِل وَشَكَوت إليك الحاجة والمسكنة، وأقول لك: يا سيدي، لا تأخذ نصفها، لك سدسها، لك ربعها، وأنت تقول: ما آخذ إلا نصفها، ولو علمت أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه جوائزه صَفع وهبتها لك كلها، فعاد إلى الضحك من قولي للخادم، وعتابي له، فلما استوفى صفعه وسكن أمير المؤمنين من ضحكه أخرج من تحت تكأته صرَّة قد كان أعَدَّهَا فيها خمسمائة درهم، ثم قال له وقد أراد الانصراف: قِفْ، هذه كنت أعددتها لك، فلم يَدَعْكَ فضولك حتى أحضرت لك شريكاً فيها، ولعلني كنت أمنعه منها. فقلت: يا أمير المؤمنين، أين الأمانة وقبح الخيانة؟ ووعِدْت أنك كنت تدفعها كلها إليه، وتصفعه مع العشرة عشرة أُخرى، وتدفع له الخمسمائة درهم، فقسم الدراهم بيننا، وانصرفنا.

وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين كانت وفاة إسماعيل بن إسحاق القاضي، والحارث بن أبي أُسامة، وهلال بن العلاء الرقي.

حرب هارون الشاري

وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين نزل المعتضد تكريت، وسار الحسين بن حمدان في الأولياء لحرب هارون الشاري، فكانت بينهم حرب عظيمة كانت للحسين بن حمدان عليه، فأتى به المعتضد أسيراً بغير أمان، ومعه أخوه فدخل المعتضد بغداد، وقد نُصِبَتْ له القباب، وزينت له الطرقات، وَعَبَّأ المعتضد باللّه جيوشه بباب الشماسية أحسن ما يكون من التعبئة وأكمل هيئة، فاشتقوا بغداد إلى القصر المعروف بالحسني، ثم خلع المعتضد على الحسين بن حمدان خِلَعاً شَرَّفَه بها، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من فُرْسَانه ورؤساء أصحابه وأهله، وشهرهم في الناس كرامة لما كان من فعلهم وحسن بلائهم، ثم أمر بالشاري فأركب فيلاً وعليه دُرَّاعَة ديباج، وعلى رأسه برنس خز طويل، وخلفه أخوه على جمل فالج وهو ذو السنامين، وعليه دُرَّاعة ديباج وبرنس خز، وسيرهما في أثر الحسين بن حمدان وأصحابه، ثم دخل المعتضد في أثره عليه قَبَاء أسود وقلنسوة محدودة على فرس صناي عن يساره أخوه عبد اللّه بن الموفق، وخلفه بدر غلامه، وأبو القاسم عبيد اللّه بن سليمان بن وهب وزيره وابنه القاسم بن عبيد اللّه، فأكثر الناسُ الدعاء له، وتكاثف الناس في منصرفهم من الجانب الشرقي إلى الغربي، فأنخسف بهم كرسي الجسر الأعلى، وسقط على زورق مملوء ناساً، فغرق فيِ هذا اليوم نحو من ألف نفس ممن عرف عون من لم يعرف، واستخرج الناس من دجلة بالكلاليب وبالغَاصَةِ، وارتفع الضجيج، وكثر الصُّرَاخ من الجانبين جميعاً، فبينما الناس كذلك إذ أخرج بعض الغَاصَةِ صبيّاَ عليه حلى فاخرة من ذهب وجوهر، فبصر به شيخ من النظارة طَرَّار، فجعل يلطم وجهه حتى أدمى أنفه، ثم تمرغ في التراب، وأظهر أنه ابنه، وجعل يقول: يا سيدي، لم تَمُتْ إذ أخرجوك صحيحاً سيويّاً لم يأكلك السمك، ولم تمت، حبيبي ليتني كحلت عيني بك مرة قتل الموت، وأخذه فحمله على حمار ثم مضى به، فما برح القوم الذين رأوا من الشيخ ما رأوا حتى أقبل رجل معروف باليسار مشهور من التجار حين بلغه الخبر وهو لا يشك إلا أن الصبي في أيديهم، وليس يهمه ما كان عليه من حلى وثياب، وإنما أراد أن يكفنه ويصلي عليه ويدفنه، فخبره الناس بالخبر، فبقي هو ومن معه من التجار متعجبين مبهوتين، وسألوا عنه واستبحثوا، فإذا لا عين ولا أثر، وعَرَفَ تَوَابُو هذا الجسر هذا الشيخ المحتال فأيأسوا أبا الغريق منه، وذكروا أنه شيخِ قد أعياهم أمره وحيرهم كيده، وأنه بلغ من حيله وخبثه ودهائه أنه أتى يوماً من أول الصباح إلى باب بعض العُدُول الكبار المشهورين بالرياسة واليسار ومعه جرة فارغة قد حملها على عاتقه وفأس وزنبيل، فقام في ثوب خَلَقٍ، ولم يتكلم حتى وضع الفأس في الدكاكين التي على باب ذلك العَدْلِ فهدمها، وجعل ينقي الآجر ويعزله، فسمع ذلك العدل بهدمها، ووقع الفأس والهدم، فخرج لينظر فإذا الشيخ دائب يهدم دكاكينه التي على باب دارِهِ، فقال: يا عبد اللّه، أي شيء تصنع؟ ومَنْ أمرك بهذا. فجعل الشيخ يعمل عمله، ولا يلتفت إلى العدل، ولا يكلمه، فاجتمع الجيران وهما في المحاورة، فأخذوا بيد الشيخ، فوكزه هذا، ودفعه هذا، فالتفت إليهم، فقال: مالكم؟ ويلكم!! أي شيء تريدون مني. أما تستحون. تعبثون بي وأنا شيخ كبير.! فقالوا: ما لنا والعَبَثَ بك؟ وَيْحَك!! مَنْ أمرك بهذا؟ قال: وَيْحَكم!! أمرني صاحِبُ الدار، فقالوا: هذا صاحب الدار يكلمك، قال: لا واللّه ما هو هذا، فلما سمعوا كلامه وغفلته رحموه، وقالوا: هذا مجنون أو مخدوع خَدَعَهُ بعض جيران هذا العدل ممن قد حسده على ما أنعم اللّه تعالى به عليه، وهم الذين حملوا هذا الشيخ على هذا الفعل؛ فلما منعوه من الهدم مضى إلى الجرة التي جاء بها- وقد كان وضعها إلى جانب الباب- فأدخل يده فيها كأنه خبأ ثيابه بها، فصرخ وبكى، فلم يَشُكَّ العدلُ أن محتالاً خدعة وأخذ ثيابه، فقال: وأي شيء ذهب لك. قال: قميص جديد اشتريته أمس وَمِلْحَفَة لبيتي وسَرَاويل، فرقوا له جميعاً، ودَعاه العَدْلُ فكساه ووهب له دراهم كثيرة، ووهب له الجيرانُ دراهم كثيرة، وانصرف غانماً، وهذا الشيخ كان يُعْرف بالعقاب، ويكنى بأبي الباز، وله أخبار عجيبةَ وحيل لطيفة وهو الذي احتال للمتوكل، حين بايعه بختيشوع الطبيب أنه إن سرق من داره شيئاً يعرفه في ثلاث ليال ذكرت من ذلك الشهر فعليه أن يحمل إلى خزانة أمير المؤمنين عشرة آلاف دينار، وإن خرجت هذه الليالي ولم يتم عليه ما ذكرنا فله الضيعة المعين ذكرها في المبايعة، فأتي بهذا الشيخ في عنفوان شبابه إلى المتوكل، فضمن للمتوكل أن يأخذ من دار بختيشوع شيئاً لا ينكره، وقد كان بختيشوع حَرَس داره وحصنها في هذه الليالي، فاحتال هذا الشيخ المعروف بالعقاب بحيل لطيفة إلى أن سرق بختيشوع وجعله في صندوق وأتى به المتوكل، في خبر ظريف، وأنه رسول لعيسى ابن مريم نزل إلى بختيشوع بشمع أسْرَجَه وتخليط عمله وبنج في طعام اتخذه أطعَمَه لحراس داره في تلك الليلة، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا أخبار الزمان وهذا الشيخ قد بَرَّزَ في مكايده وما أورده من حيله على دالة المحتالة وغيرها من سائر المكارين والمحتالين ممن سلف وخلف منهم.

الكيمياء

ولطلاب صنعة الكيمياء من الذهب والفضة وأنواع الجوهر من اللؤلؤ وغيره وصنعة أنواع الإِكسيرات من الإِكسير المعروف بالفرار وغيره وإقامة الزئبق وصنعته فضة وغير ذلك من خُدَعِهم وحيلهم في القرع والمغناطيس والتقطير والتكليس والبوادق والحطب والفحم والمنافخ أخبار عجيبة وحيل في هذا المعنى قد أتينا على ذكرها ووجوه الخدع فيها وكيفية الاحتيال بها في كتابنا أخبار الزمان وما ذكروه في ذلك من الأشعار، وما عَزَوْهُ إلى من سلف من اليونانيين والروم، مثل قلموبطرة الملكة، ومارية، وما ذكره خالد بن يزيد بن معاوية في ذلك، وهو عند، أهل هذه الصنعة من المتقدمين فيهم، في شعره الذي يقول فيه:

خذ الطلق مع الأشق

 

وما يوجد في الطرق

وشيئاً يشبه البـرقـا

 

فدبِّرْهُ بـلا حـرق

فإن أحببت مـولاكـا

 

فقد سُوِّدْتَ في الخلق

وقد صنف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي رسالة في ذلك، وجعلها مقالتين يذكر فيها تعذر فعل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله، وخُدَعَ أهل هذه الصناعة وحِيَلَهم، وتَرْجَمَ هذه الرسالة بإبطال دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة من غير معادنها، وقد نقض هذه الرسالة على الكندي أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الفيلسوف صاحب الكتاب المنصوري في صناعة الطب الذي هو عشر مقالات، وأرى القول أن ما ذكره الكندي فاسد، وأن ذلك قد يتأتى فعله، ولأبي بكر بن زكريا في هذا المعنى كتب قد صنفها، وأفرد كل واحد منها بنوع من الكلام في هذه الصنعة في الأحجار المعدنية والشعر وفي ذلك من كيفية الأعمال، وهذا باب قد تنازع الناس فيه من فعل قارون وغيره، ونحن نعوذ بالله من التهوس فيما يخسف الدماغ، ويذهب بنور الأبصار، ويكسف الألوان من بخار التصعيدات ورائحة الزاجات وغيرها من الجمادات.

جيش بن خمارويه وأصحابه

وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين كان الفداء بالأسْرِ بين المسلمين والروم في شعبان، وكان بدؤه الثلاثاء، وفيه كان مسير جيش بن خمارَوَيه بن أحمد بن طولون من الشام إلى مصر في جيوشه، فخالفه طغج بدمشق بعد ذلك. وفيها خرج عن عسكر جيش بن خمارويه خاقان المفلحي وبندقة بن كمجور بن كنداج فساروا إلى وادي القرى، ودخلوا مدينة السلام، فخلع عليهم المعتضد، وفيها كان الشغب بمصر، وقتل علي بن أحمد المارداني أبو محمد المارداني المقبوض عليه في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- بمصر، وقبض على جيش بن خماروبه، ونصب أخوه هارون بن خمارويه مكانه، وكانوا قد نقموا على جيش تقدمه لغلامه نجح المعروف بالطولوني وأخيه سلامة المعروف بالمؤتمن، وقد كان أخوه سلامة هذا بعد ذلك صحب جماعة من الخلفاء منهم القاهر والراضي، وأراه مع المتقي في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.


وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين كانت وفاة أبي عمرو مقدام بن عمرو الرعيني بمصر، ليومين بَقِيَا من شهر رمضان، وكان من جِلّةِ الفقهاء، ومن كبار أصحاب مالك.

وفيها وَلّى المعتضدُ يوسفَ بن يعقوب القضاء بمدينة السلام، وخلع عليه، وانتدبه للجانب الشرقي.

مصادرة ابن الطيب السرخسي ومقتله

وفي هذه السنة- وهي سنة ثلاث وثمانين ومائتين- قبض المعتضد على أحمد بن الطيب بن مروان السرخسي صاحب يعقوب بن إسحاق الكندي، وسَلّمه إلى بحر غلامه، ووَجَّه إلى داره مَنْ قبض على جميع ماله، وقرر جواريه على المال حتى استخرجوه، فكان جملة ما حصل من العين والوَرِقِ وثمن الآلات خمسين ومائة ألف دينار، وكان ابن الطيب قد ولي الحِسْبَة ببغداد، وكان موضعه من الفلسفة لا يُجْهَل، وله مصنفات حسان في أنواع من الفلسفة وفنون من الأخبار.


وقد تنازع الناس في كيفية قتله، والسبب الذي من أجله كان قتل المعتضد إياه، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في كتابنا المترجم بالأوسط، فأغنى ذلك عن إعادته في ذلك الكتاب.

وفيها ورد الخبر بقتل عمرو بن الليث لرافع بن هَرْثَمة.

وفي سنة أربع وثمانين ومائتين أدخل إلى بغداد رأس رافع بن هرثمة، ثم صُلِبَ ساعة من نهار، ثم رُدَّ إلى دار السلطان.

ثورة

وفي هذه السنة كان لأهل بغداد ثورة مع السلطان لصياحهم بالخدم السودان: يا عقيق، صب ماء واطرح دقيق، يا عاق، يا طويل الساق، وذلك أن الخدم في دار السلطان منهم اجتمعوا فكلموا المعتضد بما يلحقهم في الأزقة والشوارع والحروب وسائر الطرق من الصغير والكبير من العوام، فأمر المعتضد بجماعة من العامة، فضربوا بالسياط، فشغب العامة لذلك.

وفي هذه السنة ظهر للمعتضد شخص في صور مختلفة في داره، فكان تارة يظهر في صورة راهب في لحية بيضاء وعليه لباس الرُّهْبَان، وتارة يظهر شاباً حسن الوجه ذا لحية سوداء بغير تلك البِزَّة، وتارة يظهر شيخاً أبيض اللحية ببِزَّة التجار، وتارة يظهر بيده سيف مسلول، وضرب بعض الخدم فقتله، فكانت الأبواب تؤخذ وتغلق فيظهر له أين كان في بيت أو صحن أو غيره، وكان يظهر له في أعلى الدار التي بناها، فأكثر الناس القول في ذلك، واستفاض الأمر، واشتهر في خواص الناس وعوامهم، وسارت به الركبان، وانتشرت به الأخبار والقول في ذلك على حسب ما كان يقع لكل واحد منهم، فمن قائل: إن شيطاناً مَرِيداً صمد له يظهر فيؤذيه، ومنهم من يقول: إن بعض مؤمني الجن رأى ما هو عليه من المنكر وسَفْك الدماء فظهر له رادعاً وعن المنكر زاجراً، ومنهم من رأى أن ذلك بعض خدمهِ كان قد هوى بعض جواريه فاحتال بحيلة فلسفية من بعض العقاقير الخاصة فيضعها في فمه فلا يحرك بحاسة البصر، وكل ذلك ظن وحسبان، فأحضر المعتضد المعزمين، واشتدَّ قَلَقُه، واستوحش، وجاز عليه أمره، فقتل وغرق جماعة من خدمه وجواريه، وضرب وحبس جماعة منهم، وقد أتينا على الخبر في ذلك وما حكي عن أفلاطون في هذا المعنى، وعلى خبر شغب أم المقتدر باللّه والسبب الذي من أجله حبسها المعتضد وأراد قطع أنفها والتشويه بها في كتابنا أخبار الزمان.

وفي هذه السنة وَرَدَ الخبر بقتل أبي الليث الحارث بن عبد العزيز بنِ أبي دُلَف بسيفه لنفسه في الحرب، وذلك أن سيفه كان على عاتقه مشهراً فكبابه فرسه فذبحه سيفه، فأخذ عيسى النوشري رأسه وأنفذه إلى بغداد.

يوم الأجفر

وفي سنة خمس وثمانين ومائتين وقع صالح بن مدرك الطائي في نبهان وسنبس وغيرهم من طيئ بالحاج، وعلى الحاج جيء الكبير، وكانت لجيء مع صالح ومَنْ معه من الطائيين حرب عظيمة في الموضع المعروف بقاع الأجفر، وتشوش الحاج وأخذهم السيف، فمات عطشاً وقتلاً خلائقُ من الحاج، وأصاب جيء ضربات كثيرة، وكانت العرب ترتجز في ذلك اليوم وتقول:

ما إن رأى الناس كيوم الأجفر

 

الناس صَرْعَى والقبور تحفر

وأخذ من الناس نحو من ألفي دينار.

وفاة إبراهيم بن محمد الحربي الفقيه

وفي هذه السنة- وهي سنة خمس وثمانين ومائتين- كانت وفاة أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفقيه المحدث في الجانب الغربي، وله خمس وثمانون سنة، وكانت وفاته يوم الاثنين لسبع بقين من ذي الحجة، ودفن مما يلي باب الأنبار وسارعِ السكبش والأسد، وكان صدوقاً عالماً فصيحاً جواداً عفيفاً، وكان زاهداَ عابداً ناسكاً، وكان- مع ما وصفنا من زهده وعبادته- ضاحك السن، ظريف الطبع، سلس القياد، ولم يكن معه تجبر ولا تكبر، وربما مزح مع أصدقائه بما يستحسن منه، ويُسْتقبح من غيره، وكان شيخ البغداديين في وقته، وظريفهم، وناسكهم، وزاهدهم، ومسندهم في الحديث، وكان يتفقه لأهل العراق، وكان له مجلس يوم الجمعة في المسجد الجامع الغربي.

وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن جابر قال: كنت أجلس يوم الجمعة في حلقة إبراهيم الحربي، وكان يجلس إلينا غلامان في نهاية الحسن والجمال من الصورة والبزَّة من أبناء التجار من الكرخيين، وبزَّتهما واحدة، كأنهما روحان في جسد، إن قاما قاما معاً، وإن قعدا قعدا معاً، فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما وقد بان الاصفرار بوجهه والانكسار في عينيه، فتوسمت أن غيبة الآخرة لعلة وقد لحق الحاضر من أجل ذلك الانكسار، فلما كان الجمعة الثانية حضر الغائب ولم يحضر الذي كان في الجمعة الأولى منهما، وإذا الصفرة والِإنكسار بين في لونه ونشاطه، فعلمت أن ذلك للفراق الواقع بينهما، ولأجل الألفة الجامعة لهما، فلم يزالا يتسابقان في كل جمعة إلى الحلقة، فأيهما سبق صاحبه إلى الحلقة لم يجلس الآخر، فصح عندي ما كان تقدم في نفس جواز كونه، فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما فجلس إلينا، وجاء الآخر فأشرف على الحلقة، فإذا صاحبه قد سبق، إذا المسبوق المطلع إلى الحلقة قد خنقته العَبْرة، فتبينت ذلك في حماليق عينيه، وإذا في يسراه رقاع مكتوبة فقبض بيمينه رقعة من تلك الرقاع وحذف بها في وسط الحلقة، وانساب بين الناس ماراً مستحياً، وأنا أرْمُقه ببصري، وكذلك جماعة ممن كان جالساً في الحلقة، وكان إلى جانبي على اليمين أبو عبد اللّه علي بن الحسين بن حوثرة، وذلك في عنفوان الشباب وأوان الحداثة، فوقعت الرقعة بين يحي إبراهيم الحربي، فقبضس عليها ونَشَرَها وقرأها، وكان من شأنه فعل ذلك إذا وقعت فىِ يده رقعة فيها دعاء أن يدعو لصاحبها مريضاً كان أو غير ذلك، ويؤمِّنُ على دعائه مَنْ حضر، فلما قرأ الرقعة أقبل يتأمل ما فيها تأملاً شافياً لأنه رأى ملقيها، ثم قال: اللهم اجمع بينهما، وألِّف بين قلوبهما، واجعل ذلك مما يقرب منك ويُزْلِف لديك، وأمَّنُوا على دعائه كما جرت العادة منهم بفعله، ثم أعرج الرقعة بسبَّابته وإبهامه وحذفني بها، فتأملت ما فيها، وقد كنت مستطلعاً نحوها لتبين الملقى لها، فإذا فيها مكتوب:

عَفَا اللَّه عن عبد أعَانَ بـدعـوة

 

لًخِلّين كانا دائمين عـلـى الـود

إلى أن وشى واشي الهوى بنميمة

 

إلى ذاك من هذا فحالا عن العهد

فكانت الرقعة معي فلما كانت الجمعة الثانية حضرا معاً وإذا الاصفرار والانكسار قد زالا عنهما، فقلت لابن حوثرة: إني لأرى الدعوة قد سبقت لهما بالإِجابة من اللّه تعالى، وإن دعا الشيخ كأن على التمام إن شاء اللّه تعالى؛ فلما كان في تلك السنة كنت ممن حج فكأني أنظر إليهما بين مِنِى وعرفات محرمين جميعاً، فلم أزل أراهما متآلفين إلى أن كهلا، وأرى أنهما في صف أصحاب الديباج في الكرخ، أو غيره من الصفوف.

إبراهيم بن جابر القاضي

قال المسعودي: وهذا الخبر سمعته من إبراهيم بن جابر القاضي قبل ولايته القضاء، وهو يومئذ ببغداد يعالج الفقر، ويتلقاه من خالقه بالرضا، ناصراً للفقر على الغنى، فما مضت أيام حتى لقيته بحلب من بلاد قنسرين والواصم من أرض الشام، وذلك في سنة تسع وثلاثمائة، وإذا هو بالضد عما عهدته، متولياً القضاء على ما وصفنا، ناصراً ومشرفاً للغنى على الفقر، فقلت له: أيها القاضي، تلك الحكاية التي كنت تحكيها عن الوالي الذي كان بالري، وأنه قال لك: إن الخواطر اعترضتن بين منازل الفقراء والأغنياء، فرأيت في النوم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقال لي: يا فلان؟ ما أحَسَنَ تواضع الأغنياء للفقراء شكراً لله تعالى وأحسن من ذلك تعزز الفقراء على الأغنياء ثقة باللّه تعالى، فقال لي؛ إن الخلق تحت التدبير لا ينفكون من أحكامه في جميع متصرفاتهم، وكنت كثيراً ما أسمعه فيما وصفنا من حال فقره يذمُ ذوي الحرص على الدنيا، ويذكر في ذلك خبراً عن علي كرم اللّه وجهه- وهو أن عليّاً عليه السلام كان يقول: ابنَ آدمَ؛ لا تتحمل هَم يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه؛ فإنه إن يكن من أجَلِكَ يأت اللّه فيه برزقك، واعلم أنك لن تكتسب شيئاً فوق قُوتك إلاَّ كنت خازناً فيه لغيرك- فركب بعد ذلك الهماليج من الخيل.

ولقد أخبرت أنه قطع لزوجته أربعين ثوباً تسترياً وقصباً وأشباه ذلك من الثياب على مقراض واحد، وخَلَّفَ مالاً عظيماً لغيره.

وفاة المبرد

وفي هذه السنة- وهي سنة خمس وثمانين ومائتين- وكانت وفاة أبي العباس محمد بن يزيد النحوي المعروف بالمبرد، ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وله تسع وسبعون سنة، ودفن بمقابر باب الكوفة من الجانب الغربي بمدينة السلام.

وفي سنة ست وثمانين ومائتين مات محمد بن يونس الكوفي المحدث، ويكنى بأبي العباس، يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة، وله مائة سنة وست سنين، ودفن بمقابر باب الكوفة من الجانب الغربي، وكان عالي الِإسناد.

وفي هذه السنة كان الفَزَعُ من أبي سعيد الجنابي بالبصرة ومن معه بالبحرين خوفاً من أن يكبسها، وكتب الواثقي- وهو أحمد بن محمد، وكان على حربها- إلى المعتضد بذلك، فأطلق لسورها أربعة عشر ألف دينار فبنيت وحصنت.

أبو الأغر والأعراب

وفي هذه السنة ظفر أبو الأغر خليفة بن المبارك السلمي بصالح بن مدرك الطائي بناحية فيد مكراً في ذهابهم إلى مكة، وقد كانت الأعراب جمعت لأبي الأغر ليستنقذوا صالحاً من يده، فواقعهم وقتل رئيسهم جحش بن ذيال وجماعة معه، وأخذ رأسه، فلما علم صالح بن مدرك بقتل جحش بن ذيال يئس من الخلاص من يد أبي الأغر، فلما نزل المنزل المعروف بمنزلة القرشي أتاهم غلام بطعام فاستلب منه سكَيناً وقتل نفسه، فأخذ أبو الأغر رأسه وأظهره بالمدينة، فتباشر الحاجُّ، وكانت لأبي الأغر في رجوعه وقعة عظيمة اجتمع هو ونحرير وغيرهما من أمراء قوافل الحاج مع الأعراب، وكانت الأعراب قد اجتمعت وتحشدت من طيئ وأحلافها، فكانت رَجَّالتها نحواً من ثلاثة آلاف راجل، والخيل نحواً من ذلك، فكانت الحرب بينهم ثلاثاً، وذلك بين معدان القرشي والحاجز، ثم انهزمت الأعراب وسلم الناس، وكان ممن تولى مع أبي الأغر الحيلة على صالح بن مدرك سعيد بن عبد الأعلى.

ودخل أبو الأغر مدينة السلام وقدَّامه رأس صالح وجحش ورأس غلام لصالح أسود، وأربعة أساري، وهم بنو عم صالح بن محرك، فخلع السلطان في ذلك اليوم على أبي الأغر، وطًوّقه بطوق من ذهب، ونصب الرؤوس على الجسر من الجانب الغربي، وأدخل الأساري المطبق.

أحداث

وفي هذه السنة مات إسحاق بن أيوب العبيدي وكان على حرب ديار ربيعة. وفيها شخص العباس بن عمر الغنوي إلى البصرة لحرب القَرَامطة بالبحرين.

وفي هذه السنة كانت الحرب بين إسماعيل بن أحمد وعمرو بن الليث صاحب بلخ فأسر عمرو، وقد أتينا على كيفية أسره في الكتاب الأوسط. وفي رجب من هذه السنة، وهي سنة سبع وثمانين ومائتين كان خروج العباس بن عمرو من البصرة في جيش عظيم ومعه خلق من المطوعة نحو هجر، فالتقى هو وأبو سعيد الجنابي، فكانت بينهم وقائع انهزم فيها أصحاب العباس، وأسر وقتل من أصحابه نحو سبعمائة صبراً، دون من هلك من الرمل والعطش، فأحرقت الشمس أجسادهم؛ ثم إن أبا سعيد من علَى العباس بن عمرو بعد ذلك فأطلقه فصار إلى المعتضد فخلع عليه وبعد هذه الوقعة افتتح أبو سعيد مدينة هجر بعد حصار طويل، وقد أتينا على مبسوط هذه الحروب والسبب الذي من أجله كانت تخلية أبي سعيد العباس بن عمرو الغنوي في كتابنا الأوسط، وما كان من أمر العباس عمرو مع مَنْ بالبحرين من قومه وعصبتهم له.

الداعي العلوي

وفي هذه السنة- وهي سنة سبع وثمانين ومائتين- كان مسير الداعي العلوي من طبرستان إلى بلد جرجان في جيوش كثيرة من الديلم وغيرهم فلقيته جيوش المسودة من قبل إسماعيل بن أحمد، وعليها محمد هارون، فكانت وقعة لم ير مثلها في ذلك العصر، وصبَرَ الفريقان جميعاً وكانت للمبيضة على المسودة، ثمِ كانت مكيدة من محمد بن هارون لما رأى من ثبوت الديلم على مَصَافها، فلم ينقض صفوفه، وولى فأسرعت الديلم ونقضت صفوفها، فرجعت عليهم المسودة، وأخذ السيف، فقتل منهم بشر كثير وأصاب الداعي ضربات، وذلك أن أصحابه لما نقضوا صفوفهم في الغنيمة ولم يعرجوا عليه ثبت مع من وقف لنصره فكرت عليهم الجيوش، فأسفرت الحرب وقد أثخِنَ يا لكُلُوم، وأسر ولى زيد بن محمد بن زيد وغيره، وبقى محمد الداعي أياماً يسيرة، وتوفى لما ناله، فدفن بباب جرجان وتبره هناك معظم إلى هذه الغاية.

وقد أتينا على خبره بطبرستان وغيرها وما كان من سيرته، وخبر بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف حين دخل إليه مسنامناً في كتابنا أخبار الزمان وكذلك ذكرنا خبر يحيى بن الحسين الحسني الرسي باليمن، وتظافره هو وأبو سعد بن يعفر على كان من حروبهم باليمن مع القَرَامطة، وما كان من أمرهم مع علي بن الفضل صاحب المذيخرة، وما كان من قصته وخبر وفاته، وقصة شيخ لاعة صاحب قلعة نحل، وحبر وللى إلى هذا الوقت بها- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- ونزول يحيى بن الحسين الرسي مدينة صعدة من بلاد اليمن، وخبر ولده أبي القاسم، وخبر ولد ولده إلى هذه الغاية وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً منبهين على ما قدمنا من تصنيفنا مما بطناه من أخبار من ذكرناه وشرحنا من قصصهم وسيرهم وما كان منهم.

المعتضد ووصيف الخادم

وفي هذه السنة- وهي سنة ثمان وثمانين ومائتين- كان دخول المعتضد إلى الثغر الشامي في طلب وصيف الخادم، وراسله رشيق المعروف بالخزامي، واستأمن بالمعتضد وصيف البكتمري وغيره من القواد قواد الخادم، وأصحابه، ولد كان وصيف الخادم لما أخِذَ الأكثر من أصحابه أراد الدخول إلى أرض الروم تعلق بالدروب، وقد كان المعتضد أسرع في السير من بغداد وسَتَرَ أخباره ولم يعلم بذلك وصيف مع شدة حذره وتفقده لأمره، حتى عبر المعتضد الفرات وسار إلى الشام، فلم يُفْلح جسد المعتضد لذلك لما أتعب نفسه في سرعة السير، وقد كان المعتضد لما توسط الثغر الشامي خلف سواده بالكنيسة السوداء، وجرد القواد في طلب وصيف، فساروا في طلبه خمسة عشر ميلاً إلى أن أدركه أوائل الخيل وفيهم خاقان المفلحي ووصيف موشكين وعلى كورة وغيرهم من القواد، فقاتلهم وصيف، وذلك في الموضع المعروف بدرب الجب، فلما أشرف المعتضد ووصيف قد خَذَلَه أصحابه وتفرق عنه جمعه أسر وأتي به المعتضد، فسلمه إلى مؤنس الخادم، وأمن جميع أصحابه إلا نفراً انضافوا إليه من الثغر الشامي وغيره وأحرق المعتضد المراكب الحربية، وحمل من طرسوس أبا إسحاق إمام الجامع، وأبا عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي صاحب مدينة أذَنَةَ من الثغر الشامي وغيرهم من البحريين مثل البغيل وابنه، وكان دخول المعتضد إلى مدينة السلام في المساء لسبع خلون من صفر سنة ثمان وثمانين ومائتين، ودخل جعفر بن المعتضد وهو المقتدر وبدر الكبير وسائر الجيش عَلَى الظهر، وقد زينت الطرق، وبين أيدي وصيف الخادم عَلَى جمل فالج وعليه دراعة ديباج وبرنس، وخلة عَلَى جمل آخر البغيل، وخلف البغيل ابنه على جمل آخر، وخلف البغيل على جمل آخر رجل من أهل الشام يعرف بابن المهندس، وقد لبسوا الدراريع من الحرير الأحمر والأصفر، وعلى رؤوسهم البرانس وطُوِّق وسُوِّرَ خاقان المفلحي وغيره من القواد ممن أبْلَى في ذلك اليوم الذي كان فيه أسر وصيف الخادم، وقد كان المعتضد أراد استحياء وصيف الخادم وأسف على كوت مثله لشهامته وحسن حيله وإقدامه، ثم قال: ليس في طبع هذا الخادم أن يرأسه أحد، بل في طبعه أن يرؤس في نفسه؛ وقد كان بعث إليه بعد أن قبض عليه وأوثق بالحديد: هل لك من شهوة؟ قال: نعم، باقة من الريحان أشمها، وكتب من سير الملوك الغابرة أنظر فيها، فلما رجع الرسول إلى المعتضد وأخبره بما سأله أمر له بما طلب، وأمر من يراعي نظرة في الكتب، في أي فصل ينظر؟ فأخبر أو يديم النظر في سير الملوك وحروبها ومحنها، عون سائر ما حمل إلى حضرته من الدفاتر، فتعجب المعتضد وقال: هو يُهَوِّنُ على نفسه الموت.

وفي هذه السنة كانت وفاة أبي عبيد اللّه محمد بن أبي الساج بأذربيجان، فاختلفت كلمة أصحابه وغلمانه بعده؟ فمنهم من انحاز إلى أخيه يوسف بن أبي الساج، ومنهم من انحاز إلى ولده بودار.

وفي هذه السنة- وهي سنة ثمان وثمانين ومائتين- كانت وفاة أبي علي بشر بن موسى بن صالح بن صبيح بن عمير، المحدث، وله ثمان وسبعون سنة، ودفن في الجانب الغربي بمقابر باب التين.

وفي هذه السنة أدخل عمرو بن الليث إلى مدينة السلام في جمادى الأولى، قدم به عبد اللّه بن الفتح رسول السلطان، فشهر عمرو، وأركب على جمل فالج وقد ألبس دراعة ديباج وخلفه بحر والوزير القاسم بن لبيد اللّه في الجيش، فأتوا به الثريا، فرآه المعتضد، ثم أدخل المطامير، وقد كان في هذا الوقت ثارت عساكر الشاكرية من قبل طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث غضباً لجده عمرو، ولحقته ببلاد الأهواز، وخرجت عن حدود فارس، واضطرب الأمر، وبعث المعتضد عبد اللّه بن الفتح وأشناس إلى إسماعيل بن أحمد ومعهما هدايا، منها: مائة بدنة ديباج، منسوجة بالذهب، مُرَصَّعَة بالجوهر، ومنطقة ذهب مرَصَّعَة بالجوهر، وغير ذلك من الجواهر، وثلاثمائة ألف دينار ليفرقها في أصحابه، ويبعثهم إلى بلاد سجستان إلى حرب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث، وأمر عبد اللّه بن الفتح أن يحمل في طريقه من خراج ما يجتاز به ن بلاد الجبل عَشَرَةَ آلاف ألف درهم، ويضيفها إلى الثلاثمائة ألف دينار، سار بدر غلام المعتضد باللّه في عساكره إلى بلاد فارس من هذه السنة، فنزل شيراز، وانكشف عن البلد الشاكرية.

وفاة وصيف الخادم

وفي أول يوم من المحرم- وهو يوم الثلاثاء من سنة تسعِ وثمانين ومائتين- توفي وصيف الخادم، فأخرج وصلب على الجسر بدقَ بلا رأس، وقد كان الخدم سألوا المعتضد أن يستروا عورته، فأباح لهم ذلك، فألبس ثياباً، وَلُفَّ عليه ثوب جديد، وخيط على مكان الثياب من سرته إلى الركبتين، وطلى بدنه بالصبر وغيره من الأطلية القابضة والماسكة لأجزاء جسمه، فأقام مَصْلُوباً على الجسر لا يبلى إلى سنة ثلاثمائة في خلافة المقتدر باللّه.

وفي هذه السنة شغب الجند والعامة، فعمدت العامة إليه تماجُناً وحطوه من فوق الخشبة، وقالوا: قد وجب علينا حق الأستاذ أبي علي وصيف الخادم لطول مجاورته لنا وصبره علينا، ولا يبلى على هذه الخشبة، فلفوه في رداء بعضهم، وحملوه على أكتافهم، وهم نحو من مائة ألف من الناس: يرقصون ويغنون ويصيحون حوله: الأستاذ، الأستاذ، فلما ضجروا من ذلك طرحوه في دجلة فغرق في ذلك اليوم منهم قوم في دجلة وذلك أنهم شَيِّعوه في الماء سباحة، فغرق منهم في جرية الماء خلق كثير.

أبو الفوارس القرمطي

وفي هذه السنة أتي بجماعة من القَرَامطة من ناحية الكوفة، منهم المعروف بأبي الفوارس فأدخلوا على الجمل، فأمر المعتضد باللّه بقتل أبي الفوارس بعد أن قطعت يداه ورجلاه، وصلب إلى جانب وصيف الخادم، ثم حول إلى ناحية الكنائس مما يلي الياسرية من الجانب الغربي، فصلب مع قَرَامطة هناك.

وقد كان لأهل بغداد في قتل أبي الفوارس هذا أراجيف كثيرة وذلك أنه لمِّا قُدِّمَ ليضرب عنقه أشاعت العامة أنه قال لمن حضر قتله من العوام: هذه عمامتى تكون قبلك، فإني راجع بعد أربعين يوماً، فكان يجتمع في كل يوم خلائق من العوام تحت خشبته ويحصون الأيام ويقتتلون ويتناظرون في الطرق في ذلك، فلما تمت الأربعون يوماً- وقد كان كثر لغطهم، واجتمعوا، فكان بعضهم يقول: هذا جسده، ويقول آخر: قد مًر، وإنما السلطان قتل رجلاً آخر وصلبه لكي لا يفتتن الناس- فكثر تنازع الناس في ذلك حتى نودي بتفريقهم، فترك التنازع والخوض فيه.

المعتضد والطالبيون

وكان ورد مال من محمد بن زيد من بلاد طبرستان ليفرق في آل أبي طالب سِرّاً، فغمز بذلك إلى المعتضد، فأحْضَرَ الرجل الذي كان يحمل المال إليهم، فأنكر عليه إخفاء ذلك، وأمره بإظهاره، وقَرَّبَ آل أبي طالب، وكان السبب في ذلك قرب النسب، ولما أخبَرَنَا به أبو الحسن محمد بن عليّ الوراق الأنطاكي، الفقيه المعروف بابن الغنوي بأنطاكية، قال: أخبرني محمد بن يحيى بن أبي عباد الجليس، قال: رأى المعتضد بالله وهو في سجن أبيه كأن شيخاً جالساً على دجلة، يمدُّ يَدَهُ إلى ماء دجلة، فيصير في يده وتجفُّ دجلة، ثم يردُّه من يده، فتعود دجلة كَما كانت، قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا علي بن أبي طالب عليه السلام! قال: فقمت إليه وَسَلّمت عليه، فقال: يا أحمد، إن هذا الأمر صائر إليك، فلا تتعرض لولدي، ولا تؤذِهِمْ، فقلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.
وغَمّ الناسَ تأخُّرُ الخراج عنهم، وكان إنعام المعتضد عليهم، فقالت الشعراء في ذلك وأكثرت، ووصفت في أشعارها ذلك وأطْنَبَتْ، فممن وصف فأحسن يحيى بن علي المنجم، فقال:

يا مُـحْـيي الـشـرف الـلّــبَـابْ

 

وَمُـجَـددَ المـلـك الـــخـــراب

ومـعـيد رُكْـن الــدِّين فـــينـا

 

ثابـتـاً بعـــد اضـــطـــراب

فَت الـمـــلـــوك مـــبـرزاً

 

فَوْت الـمـبـرز فـي الــحِـــلاَب

اسْعَد بنيروز جمعت

 

الشكر فيه إلى الثواب

قدمت في تَأخِيرِ مَا

 

قد قَـدَّمُـوه إلــى الـــصَـــوَاب

وقوله:

يَوْم نـيروزك يَوْم

 

واحد لا يَتَـأَخَّـرْ

من حَزِيرَان يُوَافِي

 

أبَداً في أحد عَشَرْ

وصول قطر الندى للمعتضد

وكان وصول قطر الندى بنت خمارويه إلى مدينة السلام مع ابن الجصاص في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين؛ ففي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:

يا سيد الـعـرب الـذي زُفَـتْ لـه

 

باليمن والبركات سـيدة الـعـجـم

أسْعَـد بـهـا كـسـعـودهـا بـك

 

إنها ظفرت بما فوق المطالب والهمم

ظفرت بِمَلأىْ نَاظِـرَيْهَـا بـهـجةً

 

وضمير هانُبْلاً، وَكَـفّـيْهَـا كَـرَم

شمس الضحى زفت إلى بدر الدجى

 

فتكشفت بهما عن الدنيا الـظُّـلَـم

       

ولما دخل عمرو بن الليث مدينة السلام من المصلى العتيق رافعاً يديه يدعو وهو على جمل فالج، وهو ذو السنامين، وكان أنفذهُ إلى المعتضد في هدايا تَقدَمت له قبل أسره، فقال في ذلك الحسن بن محمد بن فهم:

ألم تَرَ هذا الدهر كيف صُروفه

 

يَكُون عسـيراً مـرّةَ ويسـيرا

وَحَسْبُكَ بالصفّار نُبْـلاً وَعِـزٌة

 

يروح وَيَغْدُو في الجيوش أميرا

حَبًاهُم بأجمال، ولـم يَدْرِ أنَّـه

 

عَلَى جمل منها يُقَـاد أسـيرا

وفي ذلك يقول محمد بن بَسّام:

أيهَا المُعْتَرّ بالدنيا أما أبصرت عَمْرَا

 

مُقْبلاً قد أركب الفا

 

لج بـعـد الـمـلـك قَـسْـــرَا

وعليه بُرْنُسُ السخْطَة إذلالاً وَقَهْـرَا

 

 

رافعاً كَفّيْهِ يدعو اللَه إسراراً وَجَهْرَا

 

 

أن ينجيه من القَتْل وأن يعمل صفْرَا

 

 

ولما ظَهَرَ قتل محمد بن هارون لمحمد بن زيد العلوي أظهر المعتضد لذلك النكير والحزن، تأسفاً على قتله.
وكانت وفاة نصر بن أحمد صاحب ما ورَاء نهر بلخ في أيام المعتضدُ، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائتين، وصار الأمر إلى أخيه إسماعيل بن أحمد.

وفاة جماعة من الأعيان

وكانت وفاة أحمد بن أبي طاهر الكاتب صاحب كتاب- أخبار بغداد سنة ثمانين ومائتين.

وفيها كانت وفاة أحمد بن محمد القاضي الذي يحدث.

وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين كانت وفاة أبي بكر عبد اللّه بن محمد بن أبي الدنيا القرشي مؤدِّبِ المكتفي باللّه، في المحرم، وهو صاحب الكتب المصنفة في الزهد وغيره.

وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين كانت وفاة أبي سهل محمد بن أحمد الرازي القاضي المحدِّثِ.

وإنما نذكر وفاة هؤلاء لدخولهم في التاريخ، وَحَمْل الناس العِلْمَ عنهم من الآثار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

وكانت وفاة عبيد اللّه بن شريك المحدث في سنة خمس وثمانين ومائتين ببغداد.

وفيها كانت وفاة بكر بن عبد العزيز بن أبي دُلَفَ بطبرستان.

وفيها مات محمد بن الحسين الجنيد.

وفي سنة ثمان وثمانين ومائتين مات أبو علي بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة البغدادي، وكانت وفاة أبيه أبي محمد موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي في سنة سبع وخمسين ومائتين في خلافة المعتمد على اللّه، وله نيف وتسعون سنة، وقُبِضَ ولده وهو ابن تسع وتسعين سنة.

وفيها مات أبو المُثَنَّى معاذ بن المُثَنَّى بن معاذ العنبري في أيام المعتضد.

قال المسعودي: وقد ذكرنا من اشتهر من الفقهاء والمحدثين وغيرهم من أهل الآراء والأدب في كتابينا أخبار الزمان والأوسط وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً مُلَوِّحين على ما سلف.

وفاة المعتضد

وكانت وفاة المعتضد لأربع ساعات خلت من ليلة الاثنين لثمانٍ بَقِينَ من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، في قصره المعروف بالحسني، بمدينة السلام، وقيل: إن وفاته كانت بسمّ إسماعيل بن بلبل قبل قتله إياه، فكان يَسْرِي في جسده، ومنهم من ذكر أن جسمه تحلل في مسيره في طلب وصيف الخادم على ما ذكرنا، ومنهم مَنْ رأى أن بعض جواريه سًمَتْهُ في منديل أعطته إياه يتنشَّفُ به، وقيل غير ذلك مما عنه أعرضنا.


وقد كان أوصى أن يُدْفَنَ في دار محمد بن عبد اللّه بن طاهر، في الجانب الغربي من الدار المعروفة بدار الرخام، فلما اعتراه الغَشْيُ ووقع للموت شَكُوا في وفاته، فتقدم الطبيب إلى بعض أعضائه فجسه فأحس به وهو على ما به من السكرات، فأنف من ذلك وَرَكَلَه برجله فقلبه أذرعاً، فيقال: إن الطبيب مات منها، ومات المعتضد من ساعته، وسمع ضجة وهو على ما به من الحال، ففتح عينيه، وأشار بيديه كالمستفهم، فقال له مؤنس الخادم: يا سيدي، الغلمان قد ضجوا عند القاسم بن عبيد اللّه، فأطلقنا لهم العَطَاء، فقَّطب وهمهم في سكرته، فكادت أنْفُسُ الجماعة أن تخرج من هَيْبته، وحمل إلى دار محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فدفن بها.

قال المسعودي: وللمعتضد أخبار وسير وحروب؟ مسير في الأرض غير ما ذكرنا، قد أتينا على ذكرها والغُرَر من مبسوطها في كتابينا: أخبار الزمان والأوسط.