ذكر خلافة المكتفي بالله

ذكر خلافة المكتفي باللّه

وبويع المكتفي باللّه- وهو علي بن أحمد المعتضد- بمدينة السلام، في اليوم الذي كانت فيه وفاة أبيه المعتضد، وهو يوم الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وأخَذَ له البيعة القاسم بن عبيد الله، والمكتفي يومئذ بالرقة، وللمكتفي يومئذ نيف وعشرون سنة، ويكنى بأبي محمد، فكان وصول المكتفي إلى مدينة السلام من الرقة يوم الاثنين لسبع ليال بقين من جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين، وكان دخوله في المساء، ونزل قصر الحسنى على دجلة، وكانت وفاته يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وهو يومئذ ابن إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، فكانت خلافته ست سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوماً، وقيل: ست سنين وستة أشهر وستة عشر يوماً، على تباين الناس في تواريخهم، واللّه أعلم.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

اسم علي في الخلفاء

ولم يتقلد الخلافَةَ إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- من خلافة المكتفي بالله من اسمه علي إلا علي بن أبي طالب والمكتفي.

ردّ المظالم إلى أهلها

ولما نزل المكتفي قصر الحسني في اليوم الذي كان فيه دخوله إلي مدينة السلام خلع على القاسم بن عبيد اللّه، ولم يخلع على أحد من القُوًاد، وأمر بهدم المطامير التي كان المعتضد اتخذها لعذاب الناس، وإطلاق من كان محبوساً فيها، وأمر بردِّ المنازل التي كان المعتضد اتخدها لموضع المطامير إلى أهلها، وفرق فيهم أموالاً، فمالت قلوب الرعية إليه، وكثر الداعي له بهذا السبب.

وغلب عليه القاسمَ بن عُبَيد اللهّ وفاتك مولاه ثم غلب عليه بعد وفاة القاسم بن عبيد اللّه وزيره العباس بن الحسن وفاتك، وقد كان القاسم بن عبيد اللّه أوقع بمحمد بن غالب الأصبهاني، وكان يتقلد ديوان الرسائل وكان ذا علم ومعرفة، وأوقع بمحمد بن بشارِ وابن منسارة لشيء بلغه عنهم، فأوثقهم بالحديد، وأحْدَرَهُمْ إلى البصرة، فيقال: إنهم غرقوا في الطريق، ولم يعرف لهم خبر إلى هذه الغاية؛ ففي ذلك يقول علي بن بسام:

عذرناك في قتلك المسلمين

 

وقلنا: عداوة أهل الملـل

فهذا المناريُّ مـا ذنـبـه

 

ودينكما واحـد لـم يزل

إيقاعه ببدر

وقد كانت الحال انفرجت بين القاسم بن عبيد اللّه وبدر قبل هذا الوقت، فلما استخلف المكتفي أغراه القاسم ببدر، وكان ميل جماعة من القواد عن بدر فساروا إلى حضرة السلطان، وسار بدر إلى واسط، فأخرج القاسم المكتفي إلى نهر ذيال، فعسكر هنالك، وجعل في نفس المكتفي من بدر كل حالة يقدر عليها من الشر، وأغراه به، فأحضر القاسم أبا حازم القاضي وكان ذا علم ودراية فأمره عن أمير المؤمنين بالمسير إلى بدر فيأخذ له الأمان ويجيء به معه ويضمن له عن أمير المؤمنين ما أحَبَّ، فقال أبو حازم: ما كنت أبلِّغُ عن أمير المؤمنين رسالة لم أسمعها منه، فلما امتنع عليه أحضر أبا عمرو محمد بن يوسف القاضي فأرسل به إلى بدر في شذاء، فأعطاه الأمان والعهود والمواثيق عن المكتفي، وضمن له أن لا يسلمه عن يده إلا عن رؤية أمير المؤمنين، فخلى عسكره، وجلس معه في الشذاء مُصْعِدِينَ فلما انتهوا إلى ناحية المدائن والسبب تلقاه جماعة من الخدم فأحاطوا بالشذاء، وتنحى أبو عمرو عنه إلى طيار فركب فيه، وقرب بدر إلى الشط، وسألهم أن يصلي ركعتين، وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان سنة تسبع وثمانين ومائتين قبل الزوال من ذلك اليوم، فأمهلوه للصلاة، فلما كان في الركعة الثانية قطعت عنقه وأخذ رأسه فحمل إلى المكتفي، فلما وضع الرأس بين يدي المكتفي سجد وقال: الآن ذقت طعم الحياة ولذة الخلافة.

ودخل المكتفي إلى مدينة السلام يِوم الأحد لثمان خلون من شهر رمضان؛ ففي محمد بن يوسف القاضي يقول بعض الشعراء في ضمانة لبدر العهودَ والمواثيقَ عن المكتفي:

قل لقـاضـي مـدينة الـمـنـصور

 

بِمَ أحللـت أخْـذَ رأس الأمـير؟

بعد إعطائه المواثيقَ

 

والعهدَ وَعَقْدَ الأمان في منشور

أيْنَ أيمانك التي يشهد اللّه علىِ

 

أنها يمين فُـجُـــورِ؟

أين تأكــيدك الـطَلاَقَ ثـلاثـاً

 

ليس فيهــنَّ نـية الـتخـيير؟

أن كَفِّيْكَ لا تفارق كَفّيْه

 

يا قليل الحياء يا أكذب الأمة يا شاهداً شهادة زور

 

ليس هذا فعل القضاة، ولا تُحْسِنُ أمثاله ولاة الجسور

 

قد مضى من قتلت في رمضان

راكـعـاً بـعـد سَـجْـدة الـتـكــبـــير

أي ذنـب أتَـيْتَ فـي الـجـمـعة الـزهـراء

في خـير خـير خـير الــشـــهـــور؟

فأعِـدَّ الـجـواب لـلـحَـكَــم الـــعـــا

دل مـن بـعـد مـنـكــر ونـــكـــير

يا بـنـىِ يوسـف بـن يعـقـوب أضْـحَـــى

أهْـلُ بـغـداد مـنـكُـمُ فـــي غـــرور

شَتَّـتَ الـلّـه شـمـلــكـــم، وأرانـــي

بكـم الـــذل بـــعـــد ذل الـــوزير

أنـتـم كـلـكـم فـــداء أبـــي حـــازم

الـمـسـتـــقـــيم كـــل الأمـــور

         

منزلة بدر

قالوا: وكان بدر حراً، وهو بدر بن خير من موالي المتوكل، وكان بدر في خدمة ناشئ غلام الموفق صاحب ركابه، ثم اتصل بالمعتضد، وقرب من قلبه وخفَّ بين يديه في أيام الموفق، وكان للمعتضد غلام يُقال له فاتك، وكان من أغلى غلمانه، فبعُدَ من قلبه، وانحطت مرتبته، وكان السبب في ذلك أن المعتضد غضب على بعض جواريه فأمر ببيعها، فدسَّ فاتك من ابتاعها له، فكان السبب في إبعاده من قلب المعتضد عند نموِّ ذلك إليه، وزاد أمر بدر، وعَلَتْ مرتبته، حتى كان يلتمس الحوائج به من المعتضد، وكانت الشعراء تقرن مدح بدر بمدح المعتضد، وكذلك من خاطبه فيما عدا المنظوم من الكلام.

قال المسعودي: وأخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي النديم الشطرنجي بمدينة السلام، قال: كان لي وعد على المعتضد، فما ظفرت به حتى عملت قصيدة ذكرت فيها بدراً أولها:

أيها الهاجر مَـزْحـاً لا مـجـد

 

أجَزَاءُ الود أن يُلْقَـى بـصـد؟

لأمير المؤمنين الـمـعـتـضـد

 

بَحْرُ جـودٍ لـيس يعـدوه أحـد

وأبو النـجـم لـمـن يقـصـده

 

جدول منه إلـى الـبـحـر يَرِدْ

قد مضى الفطر إلى الأضحى وقد

 

آن أن يقرب وعـد قـد بـعـد

ما اقتضائي الوَعْدَ أنْ لَسْتُ عَلَـى

 

ثقة مـن أنـه أخْــذٌ بـــيد

غير أن النفس تهـوى عـاجـلاً

 

وسوا أعطـى كـريم أو وَعَـدْ

قال: فضَحِكَ وأمر بما وعدنى به.

وأخبرنا محمد بن النديم بمدينة السلام، قال: سمعت المعتضد يقول: أنا آنَفُ من هبة القليل، ولا أرى الدنيا لو كانت لي أموالها وجمعت عندي تفي بقدر جودي، والناس يزعمون أني بخيل، أتراهم لا يعلمون أني جعلت أبا النجم بيني وبينهم أعرف ما مبلغ ما ينفقه يوماً فيوماً لو كنت بخيلاً ما أطلقت ذلك له.

واخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الفقيه الوَزَاقُ الأنطاكي بمدينة أنطاكية قال: أخبرني إبراهيم بن محمد الكاتب، عن يحيى بن علي المنجم النديم قال: كنت يوماً بين يدي المعتضد وهو مُقَطِّب، فأقبل بدر، فلما رآه من بعيد ضحك وقال لي: يا يحيى، من الذي يقول من الشعراء:

في وجهه شافع يمحو إساءته

 

من القلوب وَجِيهٌ حيثما شَفَعا

فقلت: يقوله الحكم بن قنبرة المارني البصري، فقال: للّه عرهُ أنشدني هذا الشعر، فأنشدته:

وَيْلِي عَلَى مَنْ أطار النوم فامتنعا

 

وزاد قلبي على أوجاعه وَجَعـا

كأنما الشمس في أعطافه لمعت

 

حسناً، أو البدر من أزراره طلعا

مستقبل بالذي يهوى وإن كثـرت

 

منه الذُّنُوبُ ومعذور بما صنعـا

في وجهه شافع يمحو إسـاءتـه

 

من القلوب وَجِية حيثما شفـعـا

قال: وأخذ قوله:

أو البدر من أزراره طلعا

أحمد بن يحمى بن العراف الكوفي فقال:

بدا وكـأنـمـا قـــمـــر

 

علــى أزراره طــلـــعـــا

يحثُ المسك من عرق الجبين بنانه ولعَا

 

 

ظهور القرمطي بالشام

في سنة تسبع وثمانين ومائتين ظهر القِرْمِطِيُ بالشام، وكان من حروبه مع طغج وعساكر المصريين ما قد اشتهر خبره، وقد أتيا على ذكره فيما سلف من كتبنا وما كان من خروج المكتفي إلى الرقة وأخذ القَرَامِطة وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكذلك ما كان من ذكرويه بل مهرويه ووقوعه بالحاج في سنة أربع وتسعين ومائتين إلى أن قتل وأدخل إلى مدينة السلام.

فداء الغدر وفداء التمام

قال المسعودي: وكان فداء الغدر في ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين ومائتين باللامس بعد أن فادوا بجماعة من المسلمين والروم، ثم إن الروم غدروا بعد ذلك، وكان فداء التمام باللامس بين الروم والمسلمين على التمام في شوال من سنة خمس وتسعين ومائتين، والأمير في الفداءين جميعاً رستم وكان على الثغور الشامية، فكان عِدَّة من فدى من المسلمين في فداء ابن طغان في سنة ثلاث وثمانين ومائتين- على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب من ذكره- ألفي نفس وأربعمائة وخمساً وتسعين نفساً من ذكر وأنثى- وكان عدة من فدى به من المسلمين في الغمر ألفاً ومائة وأربعاً وخمسين نفساً، وعمد من فودي به في فداء التمام ألفين وثمانمائة واثنتين وأربعين نفساً.

مالية الدولة

ومات المكتفي وقد خَلّف في بيوت الأموال من العَيْنِ ثمانية آلاف ألف دينار ومن الوَرِق خمسة وعشرين ألف ألف درهم ومن الدواب والبغال والجمازات وغيرها تسعة آلاف رأس، وكان مع ذلك بخيلاً ضيقاً.

وأخبرنا أبو الحسن أحمد بن يحيى المنجم المعروف بابن النديم، وكان من حُذّاق أهل النظر والبحث وأهل الرياسة من أهل التوحيد والعدل، وفي أخيه علي بن يحيى يقول أبو هفان:

لِرَبِيع الزمان في الْحَوْل وقت

 

وابْنُ يحيى في كل وقْتٍ رَبيع

رجل على المـكـارم سُـوق

 

يَشْترِي دَهْرَه ونحن نـبـيع

وظيفته من الطعام

قال: وكانت وظيفة المكتفى باللّه عشرة ألوان في كل يوم، وجَدْيٌ في كل جمعة، وثلاث جامات حلواء، وكان يردد عليه الحلواء، وكان على مائدته بعض خدمه، وأمره أن يحصى ما فضل من الخبز، فما كان من المكسر عزله للثريد، وما كان من الصحاح رُدَ إلى مائدته من الغد، وكذلك كان يفعل بالبوارد والحلواء.

نهب ضياعاً من أهلها

وأمر أن يتخذ له قصر بناحية الشماسية بإزاء قطربل، فأخذ بهذا السبب ضياعاً كثيرة ومَزَارع كانت في تلك النواحي بغير ثمن من مُلاَّكها، فكثر الداعي عليه، فلم يستتم ذلك البناء حتى توفي، وكان هذا الفعل مشاكلاً لفعل أبيه المعتضد- في بناء المطامير.

قسوة وزيره

وكان وزيره القاسم بن عبيد اللّه عظيم الهيبة، شديد الِإقدام، سفاكاً للدماء، وكان الكبير والصغير على رعب وخوف منه، لا يعرف أحد منهم لنفسه نعمة معه.

وفاة الوزير

وكانت وفاته عشية الأربعاء لعشر خلون من ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين، وله نيف وثلاثون سنة؛ ففي ذلك يقول بعض أهل الأدب، وأراه عبد اللّه بن الحسن بن سعد:

شربنا عَشِيّةَ مات الوزير

 

ونَشْرَب يا قوم في ثالثه

فلا قدَّسَ اللّه تلك العظامَ

 

ولا بارك اللّه في وارثه

مقتل عبد الواحد بن الموفق

وكان ممن قتل القاسم بن عبيد اللّه عبد الواحد بن الموفق، وكان معتقلاً عند مؤنس الفحل فبعث إليه حتى أخذ برأسه، وذلك في أيام المكتفي، وقد كان المعتضد يُعِزًّه ويميل إليه ميلاً شديداً، ولم يكن لعبد الواحد همة في خلافة ولا سمو إلى رياسة، بل كان همته في اللعب مع الأحداث، وقد كان المكتفي أخبر أنه راسل عمة من غلمانه الخاصة، وكل به مَنْ يراعي خبره وما يظهر من قوله إذا أخذ الشراب منه، فسمع منه وقد طرب وهو ينشد شعر العتابي حيث يقول:

تلوم على تَرْك الغِنَـى بـاهـلـيَّةٌ

 

طَوَى الدهر عنها من طريف وتالد

رَأتْ حَوْلَهَا النسوان يمشين خلـسة

 

مُقَـلّـدَةً أجـيادُهَـا بـالـقـلائد

أسَرَّكِ أني نلت ما نال جـعـفـر

 

من الملك أو ما نال يحيى بن خالد

وأن أمير المؤمنـين أغَـصـنِـي

 

مُعَصَّهُمَا بالْمُرْهَفَـاتِ الـبـوادر

دَرِينِي تجئني مِيتَتِي مطمـئنة

 

ولم أتَجَشَّم هَوْل تلك الموارد

فإنَّ نفيسات الأُمور مَـشُـوبة

 

بمستوعاتٍ في بطون الأساود

وإن الّذي يسمو إلى دَرَك العلا

 

مُلَقًّى بأسباب الردى والمكايد

فقال له بعض ندمائه وقد أخذ منه الشراب: يا سيدي، أين أنت عما تمثل به يزيد بن المهلب:

تأخّرْتُ أستبقي الحياة فلم أجِدْ

 

حياةً لنفسي مِثْلَ أن أتَقَدَمَـا

فقال له عبد الواحد: مَهْ، لقد أخطأت الغرض، وأخطأ ابن المهلب، وأخطأ قائل هذا البيت، وأصاب أبو فرعون التميمي حيث يقول، قال النديم: حيث يقول ماذا. قال:

وما بيَ شيء في الوغى غير أنني

 

أخاف على فَخارتي أن تحطمـا

ولو كنت مُبْتاعاً من السوق مثلهـا

 

لَدَى الروع ما باليت أن أتقـدمـا

فلما انتهى ذلك إلى المكتفي ضحك، وقال: قد قلت للقاسم ليس عَمْي عبدُ الواحد ممن تسمو همته إليها، هذا قول مَنْ ليس له همة غيم فرجه وجوفه وأمرد يعانقه وكلاب يهارش بها وكباش يناطح بها وديوك يقاتل بها، أطلقوا لعمى كذا وكذا، فلم يزل القاسم بعبد الواحد حتى قتله.

وقد كان المكتفي لما أن مات القاسم وتبين قتله لعبد الواحد أراد نبش القاسم من قبره، وضَرْبه بالسوط، وَحَرْقه بالنار، وقد قيل غير ذلك، والله أعلم.

مقتل ابن الرومي

وممن أهلكه القاسم بن عبيد اللّه على ما قيل بالسم في خشكنانجة علي بن العباس بن جُرَيْج الرومي، وكان منشؤه ببغداد ووفاته بها، وكان من مختلفي معاني الشعراء، والمجودين في القصير والطويل، متصرفاً في المذهب تصرفاً حسناً، وكان أقل أدواته الشعر، ومن محكم شعره وجيده قولُه:

رأيت الدهر يَجْرَحُ ثم يَأْسُو

 

يعوض أو يُسَلِّي أو يُنَسـي

أبَتْ نفسي الهلوع لفَقْد شيءٍ

 

كَفَى حَزَناً لنفسي فَقْدُ نفسي

ومن قوله العجيب الذي ذهب إلى معاني فلاسفة اليونانيين وَمَنْ مَهَرَ من المتقدمين قوله في القصيدة التي قالها في صاعد بن مخلد:

لما تُؤْذِنُ الدنيا به من زوالهـا

 

يكونُ بكاءُ الطِّفْل سَاعَةَ يُوضَعُ

وإلا فما يُبْكِيهِ منهـا، وإنـهـا

 

لأفسحُ مما كان فيه وَأوْسَـعُ؟

ومما دقَّ فيه فأحسن وذهب إلى معنى لطيف من النظر على ترتيب الجدليين وطريقة حُذَّاق المتقدمين قوله:

غموض الشيء حين تَذَبُّ عنه

 

يقلل ناصر الخصم المحقـق

تضيقُ عقولُ مستمعيه عنـه

 

فيقضي للمجل على المدقق

ومما أجاد فيه في وصف القناعة قولُه:

إذا ما شئت أن تعلم

 

يوماً كذب الشهوه

فَكُلْ ما شئت يصدرك

 

عن الـمـرة والــحـــلـــوه

وَطَـأ مـا شـئت يحـصــنـك

 

عن الحـسـنـاء فـي الـخَـلْـوه

وكـم أنْـسَـاك مـا تـــهـوا

 

ه نـيلُ الـشـيء لـم تَــفـــوَهْ

وقوله:

بأبي حسنُ وجهك اليوسفيِّ

 

يا كفيَّ الهوى وفوق الكَفِيِّ

فيه وَرْدٌ ونرجسٌ، وعجيب

 

اجتماع الشتوي والصيفـي

وقوله في العنب الرازقي:

ورازقِيٍّ مُخْطَف الخصور

 

كأنه مخازن الـبـلـور

ألين في المس من الحرير

 

وَرِيحُهُ كماءِ وَرْدٍ جوري

لو أنه يبقى على الدهـور

 

لقَرَّطُوه للحسان الحـور

ولابن الرومي أخبار حسان مع القاسم بن عبيد الله الوزير، وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش النحوي، وأبي إسحاق الزجَاج النحوي.

وكان ابن الرومي الأغلب عليه من الأخلاط السوداء، وكان شَرِهاً نَدماً، وله أخبار تدل على ما ذكرناه من هذه الجمل مع أبي سهل إسماعيل بن علي النُّوبَخْتي وغيره من آل نوبخت.

وفاة جماعة من الأعيان

وفي سنة تسعين ومائتين مات عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، يوم السبت لعشر بَقِينَ من جمادى الآخرة.

وفي سنة إحدى وتسعين ومائتين كانت وفاة أبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، ليلة السبت لثمان بَقِينَ من جمادى الأولى، ودُفن في مقابر باب الشام في حجرة اشتريت له، وَخَلَّف إحدى وعشرين ألف درهم وألفي دينار، وغلة بشارع باب الشام قيمتها ثلاثة آلاف دينار. 

من أخبار ثعلب

ولم يزل أحمد بن يحيى مقدماً عند العلماء منذ أيام حداثته إلى أن كبر وصار إماماً في صناعته، ولم يخلف وارثاً ألا ابنه لابنه، فرد ماله عليها، وكان هو ومحمد المبرد عالمين قد ختم بهما الأدباء، وكانا كما قال بعض الشعراء من المحدثين:

أيا طالب العلم لا تجهـلَـنْ

 

وعُذْ بالمبرد أو ثـعـلـب

تجد عند هذَيْنِ علم الـورى

 

ولا تك كالجمل الأجـرب

علوم الخـلائق مـقـرونة

 

بهذين في الشرق والمغرب

وكان محمد بن يزيد المبرد يحب أن يجتمع في المناظرة مع أحمد بن يحيى ويستكثر منه، وكان أحمد بن يحيى يمتنع من ذلك.

وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن حمدان الموصلي الفقيه- وكان صديقهما- قال: قلت لأبي عبد الله الدينوري ختنِ ثعلب: لِمَ يأب أحمد بن يحيى الاجتماع مع المبرد. قال لي: أبو العباس محمد بن يزيد حسن العبارة، حلو الِإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وأحمد بن يحيى مَذْهَبُه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في مَحْفل حكم لهذا على الظاهر إلى أن يعرف الباطن.

وأخبرنا أبو بكر القاسم بن بشار الأنباري النحوى، أن أبا عبد الله الدينوريَ هذا كان يختلف إلى أبي العباس المبرد يقرأ عليه كتاب سيبويه عمر وبن عثمان بن قنبر، فكان ثعلب يَعْذِله على ذلك، فلم يكن ذلك يردعه.

وقيل: إن وفاة أحمد بن يحيى ثعلب كانت في سنة اثنتين وتسعين ومائتين.

وفاة جماعة من العلماء

وفي هذه السنة- وهي سنة إحدى وتسعين ومائتين- مات محمد بن محمد الجذوعي القاضي، وله أخبار عجيبة فيما كان به من المذهب قد أتينا على وصفه ونوادره فيها وما كان له من التعزز في الكتاب الأوسط.

-وفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين كانت وفاة أبي حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي، يوم الخميس لسبع ليال خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة ببغداد، وله نيف وتسعون سنة.

وفي هذه السنة تغلب ابن الخليجي على مصر.

وفيها وقع الحريق العظيم، فأحرق بباب الطاق نحواً من ثلاثمائة دكان وأكثر.

وظفر بابن الخليجي في سنة ثلاث وتسعين ومائتينِ بمصر، وأدخل إلى بغداد، وقد أشْهِرَ، وقدامه أربعة وعشرون إنساناً من أصحابه منهم صندل المزاحمي الخادم الأسود، وذلك للنصف من شهر رمضان من هذه السنة.

وفي سنة أربع وتسعين ومائتين ماسَ موسى بن هارون بن عبد اللّه بن مروان البزاز المحدث، المعروف بالحمال، في يوم الخميس لِإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان ببغداد، ويكنى أبا عمران، وهو ابن نيف وثمانين سنة، ودفن في مقابر باب حرب إلى جانب أحمد بن حنبل.

وقد قدمنا العذر فيما سلف من هذا الكتاب لذكرنا وفاة هؤلاء الشيوخ إذ كان الناس في أغراضهم مختلفين، وفي طلبهم الفوائد متباينين، وربما قد يقف على هذا الكتاب من لا غرض له فيما ذكرناه فيه ويكون غرضه معرفة وفاة هؤلاء الشيوخ.

وكانت وفاة أبي مسلم إبراهيم بن عبد اللّه الكجي البصري المحدث في المحرم سنة اثنتين وتسعين ومائتين وهو ابن اثنتين وتسعين سنة وكان مولده في شهر رمضان-سنة مائتين.

وقبض أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وهو في سن أبي مسلم على ما ذكرتا من تنازع الناس في تاريخ وفاته، وقد كان أبو العباس أحمد بن يحيى قد ناله صَمَمُ وزاد عليه قبل موته، حتى كان المخاطب له يكتب ما يريده في رقاع.

وصف القطائف

وأخبرنا محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي قال: كُنا يوماً نأكل بين يدي المكتفي، فوضعت بين أيدينا قطائف رفعت من بين يديه في نهاية النضارة ورقة الخبز وإحكام العمل، فقال: هل وصفت الشعراء هذا؟ فقال له يحيى بن علي: نعم، قال أحمد بن يحيى فيها:

قطائف قد حُشِيَتْ بـالـلـوز

 

والسكر الماذِيً حَشْوَ المـوز

تسبح في آذيِّ دهن الـجـوز

 

سررت لما وقعت في حَوْزِي

فئ سُرُور عباس بقرب فَوْز

 

 

قال: وأنشدته لابن الرومي قوله:

وأتت قطائف بعد ذاك لطائف

فقال: هذا يقتضي ابتداء: فأنشدني الشعر من أوله، فأنشدته لابن الرومي:

وَخَبِيصَة صَفْـرَاء دينـارية

 

ثمناً ولوناً زَفَهَا لك حَـزْوَر

عظمت فكادت أن تكون إوزة

 

وثوت فكاد إهابها يتفـطـر

طفقت تجود بوبـلـهـا جـوذابة

 

فإذا لُبَاب اللوز فيها الـسـكـر

نعم السماء هناك ظل صبِـيبُـهَـا

 

يَهْمِي، ونجم الأرض ظلت تمْطِر

يا حسنها فوق الخوان ودهـنـهـا

 

قدامها بصهيرهـا يتـفـرغـر

ظَلْنَا نُقَشر جلدها عن لحـمـهـا

 

وكأن تبراً عن لـجـين يُقْـشَـر

وتقدمَـتْـهَـا قـبـل ذاك ثـرائد

 

مثل الرياض بمثلـهـنَ يُصَـدر

وَمُرَقًقَات كلـهـن مـزخـرف

 

بالبيض منها ملـبـس ومـدثـر

وأتت قطائف بعد ذاك لـطـائف

 

تَرْضَى اللهاة بها وَيرْضَى الحنجر

ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها

 

دمع العيون مع الدهان يقـطـر

وصف اللوزينج

فاستحسن المكتفي باللّه الأبيات، وأومأ إليَ أن أكتبها له، فكتبتها له.

قال محمد بن يحيى الصولي: وأكلنا يوماً بين يديه بعد هذا بمقدار شهر، فجاءت لوزينجة، فقال: هل وصف ابن الرومي اللوزينج؟ فقلت: نعم، فقال: أنشدنيه، فأنشدته:

لا يخطئني منـك لـوزينـج

 

إذا بَدَا أعجب أو عَـجَّـبَـا

لم يُغْلِقِ الشهوة أبـوابـهـا

 

إلا أبَتْ زلفاه أن يحـجـبـا

لو شاء أن يذهب في صخرة

 

لَسَهَّلَ الطيبُ له س مَذْهَبَـا

يدور بالنفخة فـي جـامـه

 

دوراً ترى الدهن له لولـبـا

عاون فيه منظرٌ مـخـبـراً

 

مستحسن سَاعَدَ مستعـذبـا

كَالحسن المحسن في شـدوه

 

ثم فأضحى مغرياً مطـربـا

مستكشف الحَشْو، ولـكـنـه

 

أرَقّ جلداً من نسيم الصـبـا

كأنـمـا قُـدَّاْ جـلابـيبـه

 

من أعين القَطْر الذي قببـا

يُخَـال مـن رقة أجــزائه

 

شارك في الأجنحة الجُنْدَبَـا

لو أنه صُورَ مـن خـبـزه

 

ثغر لكان الواضحَ الأشْنَـبَـا

من كل بيضاءَ يودّ الفـتـى

 

أن يجعل الكف لها مَرْكَبَـا

مدهونة زرقـاء مـدفـونة

 

شهباء تحكى الأزرَقَ الأشهبا

ذِيقَ له اللـوز فـمـا مُـرَّةٌ

 

مَرَّتْ على الذائق إلا أبـى

وانتقـد الـسـكـر نـقـاده

 

وشارفوا في نقده المذهـبـا

فلا إذا العين رأتهـا نَـبَـتْ

 

ولا إذا الضرس علاها نبـا

فحفظها المكتفي، فكان يُنْشِدُهَا.

من شعر المكتفي

ومما استحسن من شعر المكتفي لنفسه:

إني كَلِفْتُ، فلا تَلْـحُـوا، بـجـارية

 

كأنها الشمس، بل زادت على الشمس

لها من الحسن أعْـلاَه؛ فـرؤيتـهـا

 

سَعْدي، وَغَيْبَتُهَا عن ناظري نحسـي

وللمكتفي أيضاً:

بلغ النفس ما اشْتَهَتْ

 

فإذا هِي قد اشْتَفَـتْ

إنما العـيش سـاعة

 

أنت فيها وما انقضت

كل من يعذل الحـبَّ

 

إذا ما هَدَا سـكـت

وله أيضاً:

مَنْ لي بأن يعلم ما ألْقَى

 

فيعرف الصَّبْوَةَ والعشقا

مازال لي عبداً، وَحُبِّي له

 

صَيَّرني عبداً لـه رِقّـا

أعْتِقَ من رقي، ولكننـي

 

من حبه لا أملك العتقـا

شراب الدوشاب

وأخبرنا أبو عبد اللّه إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه، قال: أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن حمدون، قال: تذاكرنا يوماً بحضرة المكتفي أصناف الأشربة، فقال: فيكم مَنْ يحفظ في نبيذ الدوشاب شيئاً؟ فأنشدته قول ابن الرومي:

إذا أجَدْتَ حبه وَدِبْـسَـهُ

 

ثم أجَدْتَ ضربه وَمَرْسَهُ

ثم أطلت في الِإناء حَبْسَه

 

شربت منه البابليَ نفسه

فقال المكتفي: قبحه اللهّ!! ما أشْرَهَهُ!! لقد شَوَّقَنِي في هذا اليوم إلى شرب الدوشاب.

قصة هريسة

وقدم الطعام، فوضع بين أيدينا طيفورية عظيمة فيها هريسة، وقد جعل في وسطها مثل السكرجة الضخمة مملوءة من دسم الدجاج؛ فضحكت وخطر ببالي خبر الرشيد مع أبَانَ القاري، فلحطني المكتفي، وقال: يا أبا عبد اللّه؛ ما هذا الضحك؟ فقلت: خبر ذكرته في الهريسة يا أمير المؤمنين ودهن الدجاج مع جدك الرشيد، فقال: وما هو؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكر العتبي والمدائني أن أبَانَ القاري تَغَنَى مع الرشيد، فجاءوا بهريسة عجيبة في وسطها مثل السكرجة الضخمة على هذا المثال من دهن الدجاج، قال أبان: فاشتهيت من ذلك الدسم، وأجللت الرشيد من أن أمد يدي فأغمس فيه، قال: ففتحت بإصبعي فيه فتحاً يسيراً، فانقلب الدسم نحوي، فقال الرشيد: يا أبان، أخرقتها لتغرق أهلها؟ فقال أبان: لا يا أمير المؤمنين، ولكن سقناهُ لبلد ميت، فضحك الرشيد حتى أمسك صدره.

هدية من أبي مضر بن الأغلب

وفي سنة خمس وتسعين ومائتين وردت إلى مدينة السلام هدية زيادة الله بن عبد اللّه، ويكنى أبا مضر، وكانت الهدية مائتي خادم أسود، وأبيض، ومائة وخمسين جارية، ومائة من الخيل العربية، وغير ذلك من اللطائف.

آل الأغلب بأفريقية

وقد كان الرشيد في سنة أربع وثمانين ومائة- وذلك بالرقة- قلد إبراهيم بن الأغلب أمر إفريقية من أرض المغرب، فلم يزل آل الأغلب أمراء إفريقية حتى أخرج عنها زيادة اللّه بن عبد اللّه هذا في سنة ست وتسعين ومائتين، وقيل: في سنة خمس وتسعين ومائتين، أخرجه من المغرب أبو عبد اللّه المحتسب الداعية الذي ظهر في كتامة وغيرها من البربر، فدعا إلى عبيد اللّه صاحب المغرب، وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب توليه المنصور للأغلب بن سالم السعدي المغرب.

علة المكتفي

قال: واشتدت علة المكتفي باللّه بالذرب، فأحضر محمد بن يوسف القاضي وعبد اللّه بن علي بن أبي الشوارب، فأشهدهما على وصيته بالعهد إلى أخيه جعفر، وقد قَدَّمنا ذكر وفاته فيما سلف من هذا الكتاب فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

قال المسعودي: وللمكتفي باللّه أخبار حسان، وما كان في عصره من الكوائن في قصة ابن البلخي بمصر، وأمر القِرْمِطي بالشام، وأمر ذكرويه وخروجه على الحاجِّ، وغير ذلك مما كان في خلافته، وقد أتينا على جميع ذلك في كتابينا أخبار الزمان والأوسط، فأغنى ذلك عن إعادة ذكره.