ذكر خلافة القاهر بالله

ذكر خلافة القاهر باللّه

وبويع القاهر محمدُ بن أحمد المعتضد باللّه يوم الخميس لليلتين بَقِيَتَا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، ثم خلع يوم الأربعاء لخمس خَلَوْنَ من جمادى الأولى سَنَةَ اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وَسُمِلَتْ عيناه، وكانت خلافته سنة وستة أشهر وستة أيام، ويكنى بأبي منصور، وأمه أم ولد.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

وزراؤه

واستوزر القاهر أبا علي محمد بن علي بن مُقْلَةَ في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ثم عزله، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد اللّه بن سليمان ثم عزله واستوزر أبا العباس أحمد بن عبيد اللهّ الخصيبي.

أخلاقه

وكانت أخلاقه لا تكاد تحصل ، لتقلبه وتلونه، وكان شَهْماً شديد البطش بأعدائه، وأبَادَ جماعة من أهل الدولة، منهم مؤنس الخادم، وبليق، وعلي بن بليق، فهابه الناس وَخَشُوا صَوْلته، واتخذ حربة يحملها في يده إذا سعى في داره ويطرحها بين يديه في حال جلوسه، ويباشر الضرب بتلك الحربة لمن يريد قَتْله، فسكن من كان يستعمل على مَنْ قبله من الخلفاء التشغب والتوثب عليهم، وكان قليل التثبت في أمره، مَخوفَ السطوة، فأدَّاهُ ما وصفنا من فعله إلى أن احتيل عليه في داره فقبض عليه، وسملت كلتا عينيه وهو حي في هذا الوقت في الجانب الغربي في دار ابن طاهرِ، على ما نُمِيَ إلينا من خبره واتصل بنا من أمره، وذلك أن الراضي باللّه غيَّبَ خبره وقطع ذكره، فلما بويع إبراهيم المتقي باللّه أصيب القاهر معتقلاً في بعض المقاصير، فأمر به إلى دار ابن طاهر، فاعتقل بها إلى هذه الغاية على ما وصفنا.

الخراساني الأخباري يصف الخلفاء العباسيين للقاهر باللّه

وذكر محمد بن علي العبدي الخراساني الأخباري، وكان القاهر به آنساً، قال: خلا بي القاهر فقال: اصدقني أو هذه- وأشار إلي بالحربة- فرأيت واللّه الموتَ عيَاناً بيني وبينه، فقلت: أصدقك يا أمير المؤمنين، فقال لي: انظر، يقولها ثلاثاً، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: عما أسألك عنه، ولا تُغَيِّبْ عني شيئاً، ولا تحسن القصة، ولا تسجع فيها، ولا تسقط منها شيئاً، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أنت عَلاَّمة بأخبار خلفاء بني العباس في أخلاقهم وشيمهم من أبي العباس السفاح فمن دونه، فقلت: على أن لي الأمان يا أمير المؤمنين، قال: ذلك لك.

وصف السفاح

قال: قلت: أما أبو العباس السفاح، فكان سريعاً إلى سفْك الدماء، واتَبعه عماله في الشرق والغرب في فعله، وَاسْتَنُّوا بسيرته، مثل محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالحٍ بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قَحْطَبة، وكان مع ذلك بحرا سَمْحاً وَصُولاً جواداً بالماء، وسلك مَنْ ذكرنا من عماله وغيرهم ممن كان في عصره سبيله، وذهبوا مذهبه مؤتمين به.

وصف المنصور

قال: وأخبرني عن المنصور، قلت: الصدق يا أمير المؤمنين.

قال: الصدق.

قلت: كان واللّه أول من أوقع الفُرْقَةَ بين ولد العباس بن عبد المطلب وبين آل أبي طالب، وقد كان قبل ذلك أمرهم واحداً، وكان أول خليفة قَرَّبَ المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وكان معه نُوبَخْتُ المجوسيًّ المنجم، وأسلم على يديه، وهو أبو هؤلاء النوبختية، وإبراهيم الفزاري المنجم، صاحب القصيدة في النجوم، وغير ذلك من علوم النجوم وهيئة الفلك، وعلي بن عيسى الإِسطرلابي المنجم، وهو أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات العجمية إلى العربية، منها: كتاب كليلة ودمنة وكتاب السندهند، وترجمت له كتُبُ أرسطاطاليس، من المنطقيات وغيرها، وترجم له كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الأرتماطيقي، وكتاب إقليدس وسائر الكتب القديمة من اليونانية، والرومية، والفهلوية، والفارسية، والسريانية، وأًخرجت إلى الناس، فنظروا فيها، وتعلقوا إلى علمها، وفي أيامه وضع محمد بن إسحاق كتاب المغازي، والسير: وأخبار المبتدأ ولم تكن قبل ذلك مجموعة ولا معروفة ولا مُصَنَّفة، وكان أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله وصرفهم في مهماته، وقَدَّمهم على العرب، فامتثل ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت وبادت العرب، وزال بأسها، وذهبت مراتبها، وأفضَتِ الخلافة إليه، وقد نظر في العلم، وقرأ المذاهب، وارتاض في الآرأء، ووقف على النِّحَل، وكتب الحديث، فكثرت في أيامه روايات الناس، واتسعت عليهم علومهم.

وصف المهدي

قال القاهر: قد قلت فأحسنت، وعبرت فبينت، فأخبرني عن المهدي كيف كانت أخلاقه؟.قلت: كان سَمْحاً سخياً جواداً، فسلك الناس في عصره سبيله، وذهبوا في أمرهم مَذْهَبه، واتسعوا في مساعيهم، وكان من فعله في ركوبه أن يحمل مع بِدَرَ الدنانير والدراهم، فلا يسأله أحد إلا أعطاه، وإن سكت ابتدأه المفرق بين يديه، وقد تقدم بذلك إليه، وأمعن في قتل الملحدين، والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته؛ لما انتشر من كتب ماني وابن دَيْصَان، ومرقيون مما نقله عبد اللّه بن المقفع، وغيره، وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفه في ذلك ابن أبي العرجاء، وحماد عَجْرَدٍ، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس: من تأييد المذاهب المانية، والدَّيْصَانية، والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس، وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شُبَهَ الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكين، وشرع في بناء المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما هما عليه إلى هذه الغاية، وبَنى بيت المقدس، وقد كان هدمته الزلازل.

وصف الهادي

قال: فأخبرني عن الهادي على قصر أيامه كيف كانت أخلاقه وشيمه؟.

قلت: كان جَبَّاراً عظيماً، وأول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المُرْهَفة، والأعمدة المشهورة، والقِسِيِّ الموتورة، فسلك عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.

قال: لقد أجَدْتَ في وصفك، وبالغت فيما ذكَرت من قولك فأخبرني عن الرشيد كَنص كَانت طريقته.

وصف الرشيد

قلت: كان مواظباً على الحج، متابعاً للغزو، واتخِاذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، وأظهر ذلك بها وبمنَى وعَرَفَات ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فعمَّ الناسَ إحسانُه، مع ما قرن به من عدله، ثم بنى الثغور، ومَدَّن المدن، وحَصَّن فيها الحصون، مثل طرسوس وأذنة، وعلى المصيصة ومرعش، وأحكم بناء الحرب، وغير ذلك من دور السبب والمواضع للمرابطين، واتبعه عماله، وسلكوا طريقته، وقَفَتْهُ رعيف مقتدية بعمله، مُسْتَنِدة بإمامته، فقمع الباطل، وأظهر الحق، وأنار الأعلام، وبرز على سائر الأُمم، وكان أحسن الناس في أيامه فِعلاً أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور لما أحدثته من بناء دور السبيل بمكة، واتخاذ المصانع والبرك والآبار بمكة، وطريقها المعروفة إلى هذه الغاية، وما أحدثته من الدور للتسبيل بالثغر الشامي وطرسوس وما أوقفت على ذلك من الوقوف، وما ظهر في أيامه من فعل البرامكة وجُودِهم وإفضالهم وما اشتهر عنهم من أفعالهم. وكان الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان ورمى بالنشاب في البرجاس، ولعب بالأكْرة والطبطاب. وقرب الحذَاق في ذلك فعم الناس ذلك الفعل. وكان أول من لعب بالشطرنج من خلفاء بني المعباس، وبالنرد وقدم اللعاب، وأجرى عليهم الرزق، فسمى الناس أيامه- لنضارتها، وكثرة خيرها وخصبها- أيام العروس، وكثير مما يجاوز النعت وبتفاوت فيه الوصف.

وصف أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور

قال القاهر: فأراك قد قصرت في تفصيل أفعال أم جعفر، فلم ذلك؟ قلت: يا أمير المؤمنين ميلاً إلى الاقتصار، وطلباً للإِيجاز. قال: فتناول الحربة وهَزَّهَا، فرأيت الموت الأحمر في طرفها، ثم برق عينيه مع ذلك فاستسلمت، وقلت: هذا ملك الموت، ولم أشك أنه يقبض روحي، فأهوى بها نحوي، فزُغْتُ منها، فاسترجع وقد أخطأتني، فقال: ويلك!! أبغضت ما فيه عيناك، ومَلِلْتَ الحياة. قلت: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أخبار أُم جعفر زدني منها، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان من فعلها وحسن سيرتها في الجد والهزل ما بَرَزَتْ فيه على غيرها، فأما الجد والآثار الجميلة التي لم يكن في الِإسلام مثلها، مثل حفرها العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنها حفرتها، ومهدت الطريق لمائها في كل خَفْض ورفع وسَهْل وجبل ووَعْر، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلاً إلى مكة، فكان جملة ما أنفقت عليها- مما ذكر وأحصى- ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وما قَدَّمت ذكره من المصانع والدور والبرك والآبار بالحجاز والثغور، وإيقافها الأُلوف على ذلك، دون ما كان في وقتها من البذل، وما عم أهل الفاقة من المعروف والخصب، وأما الوجه الثاني- مما تتباهى به الملوك في أعمالهم، وينعمون به في أيامهم ويصونون به دُوَلَهم، ويدون في أفعالهم وسيرهم- فهو أنها أوَّلُ من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكلَّلَة بالجوهر، وصنع لها الرفيع من الوَشْي، حتى بلغ الثوب من الوشي الذي اتخذ لها خمسين ألف دينار، وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري، يختلفون على الدواب في جهاتها، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها، وأول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق، واتخذت الخفاف المرصَّعَة بالجوهر وشمع العنبر، وتشبه الناس في سائر أفعالهم بأم جعفر.

ولما أفضى الأمر إلى ولدها يا أمير المؤمنين قَدَّمَ الخدَمَ، وآثرهم، ورفع منازلهم، ككوثر وغيره من خَدَمِه، فلما رأت أُم جعفر شدة شغفه بالخدم واشتغاله بهم اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه، وعممت رؤوسهن، وجعلت لهن الطًّرَر والأصْدَاغَ والأقفية، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق، فماست قدودهن، وبرزت أردافهم، وبعثت بهن إليه، فاختلفن في يديه، فاستحسنهن واجتذبن قلبه إليهن، وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، واتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواريَ المطمومات؛ وألبسوهن الأقبية والمناطق، وسموهن الغلاميات.

فلما سمع القاهر ذلك الوصف ذهب به الفرح والطرب والسرور، ونادى بأعلى صوته: يا غلام، قَدَح على وصف الغلاميات، فبادر جَوَارٍ كثيرة قَدُهن واحد، توهمتهن غلماناً بالقَرَاطِقِ والأقبية والطرر والأقفية ومناطق الذهب والفضة، فأخذ الكأس بيده، فأقبلْتُ أتأمل صفاء جوهر الكأس ونورية الشراب، وشعاعه، وحسن أولئك الجواري، والحربة بين يديه، وأسرع في شربه، فقال: هيه.

وصف المأمون

فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم أفْضَى الأمر إلى المأمون، فكان في بَدء أمره- لما غلب عليه الفضل بن سهل وغيره- ويستعمل النظر في أحكام النجوم وقضاياها، وينقاد إلى موجباتها، ويذهب مذاهب من سلف من ملوك ساسان كأردشير بن بابك وغيره، واجتهد في قراءة الكتب القديمة، وأمعن في درسها، وواظب على قراءتها، فافتن في فهمها، وبلغ درايتها؟ فلما كان من الفضل بن سهل في الرياستين ما اشتهر وقَدِمَ العراق انصرف غن ذلك كله، وأظهر القول بالتوحيد والوعد والوعيد، وجالس المتكلمين، وقرب إليه كثيراً من الجدليين المبرزين والمناظرين كأبي الْهُذَيْل وأبي إسحاق إبراهيم بن سَيَّار النّظّام وغيرهم ممن وافقهم وخالفهم، وألزم مجلسه الفقهاء، وأهل المعرفة من الأدباء، وأقدمهم من الأمصار، وأجرى عليهم الأرزاق، فرغب الناسُ في صنعة النظر، وتَعلموا البحث والجَدَلَ، ووضع كل فريق منهم كتباً ينصر فيها مذهبه ويؤيد بها قوله، وكان أكثر الناس عفواً، وأشدهم احتمالاً، وأحسنهم مقدرة، وأجودهم بالمال الرغيب، وأبذلهم للعطايا، وأبعدهم من التسافة واتًبَعه وزراؤه وأصحابه في فعله، وسلكوا سبيله، وذهبوا مذهبه.

وصف المعتصم

ثم المعتصم، فإنه يا أمير المؤمنين سلك في النحلة رأى أخيه المأمون، وغَلَبَ عليه حب الفروسية، والتشبه بالملوك الأعاجم في الآلة، ولبس القَلاَنس والشاشيات فلبسها الناس اقتداء بفعله، وائتماماً به، فسميت المعتصميات، وعم الناس إفضاله، وأمِنَتِ به السبل في أيامه، وشمل الناس إحسانه.

وصف الواثق

ثم هارون بن محمد الواثق، فإنه اتبع ديانة أبيه، وعمه، وعاقب المخالف، وامتحن الناس، وكثر معروفه، وأمر القضاة في سائر الأمصار أن لا يقبلوا شهادة مَنْ خالفه، وكان كثير الأكل، واسع العطاء سهل الانقياد متحبباً إلى رعيته.

وصف المتوكل

ثم المتوكل يا أمير المؤمنين، فإنه خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، ونَهَى عن الجدل والمناظرة في الآراء وعاقَبَ عليه، وأمر بالتقليد، وأظهر الرواية للحديث، فحسنت أيامه، وانتظمت دولته، ودام ملكه، وغير ذلك يا أمير المؤمنين مما اشتهر من أخلاقه.

قال القاهر: قد سمعت كلامك وكأني مشاهد للقوم على ما وصفت؛ معاين لهم فيما ذكرت، ولقد سَرَّنِي ما سمعت منك، ولقد فتحت أبواب السياسة، وأخبرت عن طرق الرياسة، ثم أمر لي بجائزة عجل لي عطاءها في وقتها، ثم قال لي: إذا شئت فقم، فقصت، وقام على أثري بحربته، فخيل واللّه لي أنه يرميني بها من ورائي، ثم عَطفَ نحو دار الخدم، فما مضت إلا أيام يسيرة حتى كان من أمره ما ظهر.

قال المسعودي: وهذا الرجل الذي أخْبَرْتُ عنه بهذا الحديث له أخبار حسان، وهو حي يرزق إلى هذه الغاية، وهي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، مداحاً للملوك، معاشراً لأهل الرياسات، حسن الفهم، جيد الرأي.

وفاة ابن دريد

وفي خلافة القاهر باللّه- وهي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة- كانت وفاة أبي بكر محمد بن الحسن بن درَيْدٍ ببغداد، وكان ممن قد بَرَعَ في زمننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وأورد أشياء في اللغة لم تُوجَدْ في كتب المتقدمين، وكان يذهب في الشعر كل مذهَب، فطوراً يجزل، وطوراً يرقُّ، وشعره أكثر من أن نحصيه أو يأتي علًيه كتابنا هذا، فمن جيد شعره قصيدته المقصورة التي مدح بها الشاه ابن ميكال، ويُقال: إنه أحاط فيها بأكثر المقصور وأولها:

إمَّا تَرَيْ رأسِيَ حـاكـى لـونُـهُ

 

طُرَّةَ صبح تحـت أذيال الـدُّجـى

واشتعل المبـيضُّ فـي مـسـوده

 

مثل اشتعال النار في جَزْل الْغَضَى

ومنها:

إن الجديدين إذا ما استولَيا

 

على جديد أدْنَيَاه للبِلَـى

وفيها يقول:

لست إذا مَا أبْهَظَتْنِي غَمْـرَةٌ

 

ممن يقول: بَلَغَ السيل الزُّبى

ومنها:

وإن ثَوَتْ بين ضلوعي زَفْرَةٌ

 

تملأ ما بين الرجا إلى الرَّجَا

وقد عارضه في هذه القصيدة المقصورة جماعة من الشعراء، منهم أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فَهْم التّنُوخي الأنطاكي، وهو في وقتنا هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، بالبصرة في جملة البريديين، وأول قصيدته المقصورة التي يمدح فيها تَنُوخَ وقومه من قُضَاعة:

لولا انتهائي لم أُطِعْ نَهْـيَ النهـى

 

أيَّ مدى يطْلُـبُ مَـنْ جاز المَدَى

إن كُنْت أقصرت فما أقصر الدُّمَى

 

قلبٌ دامياً تُدْمِيه ألحاظُ

وَمُقْلَة إن مقلت أهل الغضا

 

أغْضَتْ وفي أجفانها جمر الغضى

وفيها يقول:

وكم ظباء رَعْيُهَا ألـحـاظـهـا

 

أسرع في الأنفسِ من حَدِّ الظُّبى

أسْرَعُ من حرف إلى جر ومـن

 

حب إلى حَبَةِ قلـب وَحَـشـى

قضاعة بن مالك بـن حـمـير

 

ما بعده لِلْمُرْتقـين مُـرْتَـقَـى

 وقد سبق إلى المقصورة أبو المقاتل نصر بن نصير الحلواني في محمد بن زيد الداعي الحسني بطبرستان بقوله:

قفا خليليً على تلـك الـرُّبـى

 

وسائلاها أين هاتيك الـدُّمَـى؟

أين اللواتي ربعت ربُـوعـهـا

 

عليك؟ باستنجادها تَسْفِي الْجَوَى؟

ولابن ورقاء في المقصورة أيضاً:

ما شئت قل هي المها هي القنا

 

جواهر بكين أعطاف الدمـى

وممن تأخر موته بعد موت ابن دُرَيد العُمَاني أبو عبد اللّه المفجع، وكان كاتباً شاعراً بصيراً بالغريب، وهو صاحب الباهلي المصري الذي كان يناقض ابن درَيد، فمما جَوَّدَ فيه المفجع قوله:

ألا طرب الفؤاد إلـى رُدَيْنِ

 

ودون مزارها ذو الجهلتين

ألَمَّ خَيَالها وَهْناً بـرحْـلـي

 

فولّى رعية الشرطين عيني

وقد أتينا على ما كان في أيام القاهر- مع قصر مدته- من الكوائن في الكتاب الأوسط، فمنع ذلك من ذكره في هذا الكتاب.