ذكر خلافة الراضي بالله

ذكر خلافة الراضي باللّه

وبويع الراضي باللّه محمدُ بنُ جعفرٍ، المقتدرُ، ويكنى أبا العباس، يوم الخميس لست خَلَوْنَ من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، فأقام في الخلافة إلى أن مضى من ربيع الأول عشرةُ أيام، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ومات حَتْفَ أنْفِهِ بمدينة السلام، وكانتً خلافته ست سنين وَأحَدَ عَشَرَ شهراً وثلاثة أيام، وأُمُّه أُم ولد يُقال لها ظَلُوم.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

وزراؤه

وَاسْتَوْزر الراضي أبا علي محمد بن علي بن مُقْلَةَ، ثم اسْتَوْزر أبا علي عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الْجَرَّاح، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم الكَرْخِي، ثم أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مَخْلَد، ثم أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرَات، ثم أبا عبد الرحمن بن محمد البريدي.

من شعر الراضي

وكان الراضي أديباً شاعراً ظريفاً، وله أشعار حِسَانٌ في معانٍ مختلفة، إن لم يكن ضَاهَى بها ابن المعتز فما نقص عنه، فمن ذلك قوله في وصف حاله وحال معشوقه إذا التقيا:

يصفرُّ وجهي إذا تَـأَمَـلـه

 

طرفي ويحمرُّ وَجْهه خجلا

حتى كأنَّ الذي بوَجْـنَـتـه

 

من دم وجهي إليه قد نقـلا

ومن جيد شعره قوله:

يا رُبَّ ليل قد دنا مَـزَارُه

 

يسترني ومؤنسي أزراره

سَاقٍ مليحُ القد كـدجـاره

 

سراجه ووجهه مـنـاره

يشهد لي ببـذلـه زُنَّـاره

 

تَاهَ بخد ظَهَرَ احْـمِـرَاره

مَاسَ مع الحمرة جُلّنَـارُهُ

 

أيَّ كثيب قد حوى إزَارُهُ؟

وأي غصن ضُمِّنَتْ أزراره

 

طَوْع الكؤوس غَرَّه عذاره

إخفاؤه تعـتـاده أمـراره

 

لا كان لهو لم يثر غبـاره

وقد كان أبو بكر الصولي يروي كثيراً من أشعار الراضي، ويذكر حسن أخلاقه وجميل أخباره، وارتياضه بالعلم وفنون الأدب، وإشرافه على علوم المتقدمين، وخوْضه في بحار الجدليين من أهل الدراية والمتفلسفين.

من محاسن الصولي أبي بكر

وذكر أن الراضي رأى في بعض منتزهاته بالثريا بستاناً مُونقاً، وزهراً رائقاً، فقال لمن حضر من ندمائه: هل رأيتم أحسن من هذا؟ فكل قال أشياء ذهب فيها إلى مدحه ووصف محاسنه، وأنها لا يفي بها شيء من زهرات الدنيا، فقال: لعبُ الصولي الشطرنج واللّه أحسن من هذا الزهر ومن كل ما تصفون.

وذكر أن الصولي في بَدْء دخوله إلى المكتفي، وقد كان ذكر له بجودة لعبه الشطرنج، وكان الماوردي اللاعب مقدماً عنده، متمكناً من قلبه معجباً بلعبه، فلعبا جميعاً بحضرة المكتفي، فحمل المكتفي حسن رأيه في الماوردي وتقم الحرمة والألفة على نصْرَته وتشجيعه حتى أدهش ذلك الصولي في أول وَهْلَة، فلما اتصل اللعب بينهما وجمعِ له الصولي غايته وقصد قصده، غلبه غلباً لا يكاد يرد عليه شيئاً، وتبين حسن لعبه للمكتفي، فعدل عن هواه ونصره للماوردي، وقال له: صار ماء وردك بَوْلاً.

قال المسعودي: وقد تناهى بنا الكلام وتغلغل بنا التصنيف إلى جمل من أخبار الشطرنج، وما قيل فيها، مع ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لأخبار الهند ومبادئ اللعب بالشطرنجِ والنرد، واتصال ذلك بالأجسام العُلوية والأجرام السماوية، فلنذكر جملاً مما ذكر في ذلك، مما لم يتقدم له ذكر فيما سلف من هذا الكتاب.

الخليل بن أحمد

 وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه في تفضيل صنعة الكلام، وهي الرسالة المعروفة بالهاشمية، أن الخليل بن أحمد من أجْل إحسانه في النحو والعروض وضع كتاباً في الإيقاع وتراكيب الأصوات، وهو لم يعالج وتَراً قط، ولامَسَّ بيده قضيباً قط، ولا كثرت مشاهدته للمغنين، وكتب كتاب في الكلام، ولو جهد كلِ بليغ في الأرض أن يتعمد ذلك الخطأ والتعقيد لما وقع له، ولو أن ممرواً استغرق قوَى مرته في الهذيان لَمَا تهيأ له مثل ذلك منه، ولا يتأتى مثل ذلك لأحد إلا بخذلان الذي لا يقي منه شيء، قال الجاحظ: ولولا أن أسخف الكتاب وأهجر الرسالة وأخرجها من حد الجد إلى الهزل حكيت صدر كتابه في التوحيد وبعض ما وصفه في العدل، قال: ولم يرضَ بذلك حتى عمد إلى الشطرنج فزاده في الدولاب حملاً، فلعبت به أُناسٌ من حاشية الشطرنجيين، ثم رموا به.

أنواع آلات الشطرنج

وقد ذكر الناس ممن سلف وخلف أن جميع آلات الشطرنج على اختلاف هيآتها ستُّ صُوَرٍ لم يظهر في اللعب غيرها، فأولها الآلة المربعة المشهورة، وهي ثمانية أبيات في مثلها، ونسبت إلى قدماء الهند، ثم الآلة المستطيلة، وأبياتها أربعة في ستة عشر، والأمثلة تنصب فيها في أول وهلة في أربعة صفوف من كلا الوجهين، حتى تكون الدوابُّ منها في صفين، والبيادق أيضاً أمامها صفين، ومسيرها كمسير أمثلة الصورة الأولى، والآلة المربعة- وهي عشرة في مثلها- والزيادة في أمثلتها قطعتاذ تسميان الدبابتين، ومسيرهما كمسير الشاه إلا أنهما يأخذان وُيؤْخَذَانِ، ثم الآلة المدورة المنسوبة إلى الروم، ثم الآلة المدورة النجومية التي تسمى الفلكية، وأبياتها اثنا عشر على عدد بروج الفلك، مقسومة نصفين، وينقل فيها سبعة أمثلة مختلفة الألوان على عدد الخمسة الأنجم والنيرين وعلى ألوانهما.

وقد بينا فيما سلف من أخبار الهند كيفية اتصالها بالأجسام السماوية، وما قيل في عشقها للأشخاص العُلْوية، وأن تحرك الفلك لعشقه لما فوقه، وقولهم في النفس ونزولها عن عالم العقل إلى عالم الحس حتى نسيت بعد الذكر وجهلت بعد العلم، وغير ذلك من تخاليطهم مما يتصل علمه عندهم بمنصوبات الشطرنج.

ثم آلة أخرى تسمى الجوارحية، استحدثت في زماننا هذا، وهي سبعة أبيات في ثمانية، وأمثلتها اثنا عشر في كل جهة منها ستة، كل واحد من الستة يسمى باسم جارحة من جوارح الإِنسان التي بها يميز وينطق ويسمع ويبصر ويبطش ويَسْعَى، وهي سائر الحواس، والحاسُّ المشترك، وهو الذي من القلب.

وقد ذكرت الهند وغيرها من اليونانيين والفرس والروم وغيرهم ممن لعب بها كيفية صورها ونَصبها ومباديها ووجوه عللها والغرائب فيها وتصنيف القوائم والمفردات وأنواع ظرائف المنصوبات.

وقد استعمل لُعَّاب الشطرنج عليها فنون الهزل والنوادر المدهشة فزعم كثير منهم أن ذلك مما يبعث على لعبها وانصباب المواد وصحيح الأفكار إليها، وأن ذلك بمنزلة الِإرتجاز الذي يستعمله أهلُ القتال عند اللقاء والحادي عند الِإعياء والمائح للغَرْب عند الاستقاء، وأن ذلك عُدَة للاعب كما أن الشعر والارتجاز من عدة المحَارب.

وقد قيل فيما وصفنا أشعار كثيرة مما قاله بعض اللُّعَّاب؛ فمن ذلك:

نوادر الشطرنج في وقتـهـا

 

أحَرُّ من ملتهب الـجـمـر

كم من ضعيف اللعب كانت له

 

عوناً على مستحسن القَمْـرِ

ومما قيل فيها فأحسن قائلها وبالغ في وصف اللعب بها:

أرض مربعة حـمـراء مـن أدمٍ

 

ما بين إلْفَيْنِ موصوفين بالـكـرم

تذاكرا الحرب فاحتالا لها شَبَـهـا

 

من غير أن يَسْعَيَا فيها بسَفْـك دم

هذا يُغِيرُ على هذا، وذاك عـلـى

 

هذا يغير وعين الحرب لم تـنـم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعرفة

 

في عسكرين بلا طَبْل ولاَ عـلـم

ومما قيل فيها فبولغ في وصفها، واستوعب النظر لأكثر معانيها، قاله أبو الحسن بن أبي البغل الكاتب، وكان من جِلّة الكتاب وكبار العمال وممن اشتهر بمعرفتها واللعب بها، وهو:

فتى نَصَبَ الشطرنج كـيمـا يرى

 

بها عواقب لا تَسْمُو لها عينُ جاهل

وأبصر أعْقَابَ الأحاديث فـي غـد

 

بعيني مُجِدّ في مَـخِـيلَة هـازل

فأجدىَ على السلطان في ذاك أنه

 

أراه بها كيف اتقاء الـغـوائل

وتصريف ما فيها إذا ما اعتبرته

 

شبيه بتصريف القنا والقنـابـل

كلمات في النرد

قال المسعودي: فأما ما قيل في النرد وأوصافها فقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب كيفية نصبها والمحدِثَ للعبها، على ما حكي من التنازع في ذلك عند ذكرنا أخبار الهند، وفيها عند ذوي المعرفة بها ضروب اللعب وفنون من الترتيب، ووجوه من النصب، إلا أن عدد البيوت واحد زيادة فيها ولا نقصان، على ما تقدم في ذلك من علمها والمعهود في أصولها، وأن الفصين فيها مُحَكمان، واللاعب بهما وإن لم يكن مختاراً ولا خارجاً عن حكم الفصين فيها وقضائهما محتاج إلى أن يكون صحب النقل وسابقه صحيح الحساب حسن الترتيب جيده.

وقد قيل في لعبها ووصفها وإحكام الفصين فيها وقضائهما على لُعابها أشعار كثيرة بالغوا بالقول فيها، وأغرقوا في استيعاب معانيها، من ذلك قول بعضهم:

لا خير في النَّرْدِ لا يغني ممارسَهَا

 

حُسْنً الذكاء إذا ما كان محروما

تريك أفعال فَصَيْهَا بحكمـهـمـا

 

ضدين في الحال ميموناً ومشؤوماً

فما تكاد ترى فـيهـا أخـا أدب

 

يفوته القَمْرُ إلا كان مظلـومـا

وأخبرني أبو الفتح محمود بن الحسين السندي بن شاهك الكاتب المعروف بكشاجم، وكان من أهل العلم والرواية والمعرفة والأدب، أنه كتب إلى صديق له يذم النرد، وكان بها مشتهراً، أبياتاً، وهي:

أيها المعجـب المفاخر بالـنَّـرْ

 

د لـيُزْهـى بهـا على الِإخوان

قد لعمري حرصت جهداً

 

على قَمْرك لو لم تواتك الفصان

غير أن الأريب يكذبه

 

الظن ويَبْكِي لشدة الحرمان

وإذا ما القضاء جاءت بحكم

 

لم يجدْعن قضائها الخـصمان

ولعمري ما كنت أول إنسـا

 

نٍ تمنى فـأخلفتـه الأمـانـي

وأنشدني أبو الفتح أيضاً لأبي نُوَاس:

ومأمورة بالأمر تأتـي بـغـيره

 

ولم تتبع في ذاك غَيّاً ولا رشدا

إذا قلت لم تفعل وليست مطـيعة

 

وأفعل ما قالت فَصِرْتُ لها عبدا

وقد قدمنا في باب أخبار ملوك الهند فيما سلف من هذا الكتاب قول من قال في النرد والفصين: إنها جعلت مثلاً للمكاسب، وإنها لا تنال بالكَيْس ولا بالحيل، وما ذكر عن أردشير بن بابك في ذلك أنه أول من لعب بها، وأرى تقلب الدنيا بأهلها، وجعل بيوتها اثني عشر على ترتيب عدد الشهور، وإن كلابها ثلاثون كلباً بعدد أيام الشهور، وإن الفصين مثال للقدر وَتَلَعُّبِهِ بأهل هذا العالم، وغير ذلك مما وصفنا من أحوالها، وما قدمنا من ذكرها في هذا الكتاب وغيره مما سلف من كتبنا.

وذكر بعض أهل النظر من الإِسلاميين أن واضع الشطرنج كان عَدْلياً مستطيعاً فيما يفعل، وأن واضع النرد كان مجبراً، فتبين باللعب بها أنه لا صُنْعَ له فيها، بل تصرفه فيها على ما يوجبه القَدَرُعليه بها.

العروضي يحكي عن الراضي وسعة إطلاعه

وذكر العروضي- وهو ممن كان أدَّبَ الراضي وغيره من الخلفاء وأبنائهم- قال: حدثت الراضي ذات يوم خبراً لقتيبة بن مسلم الباهلي في الكبر وغيره من الخصال التي توجد في أهل الرياسات مما يحمد فيهم وما يكره منهم من الأخلاق، فكتب ذلك في حال صباه وعنفوان حداثته ولقد رأيته مواظباً على درسه إلى أن استكمل إتقانه في مجلسه، فداخل عند ذلك طرب وفرح وأريحية لم أعهدها منه، ثم قال لي وقد أقبل عليَّ: لعل الزمان أن يبلغ بي أن أتأدب بهذه الخصال، وأكون في مرتبة من يرتاض بهذه الآداب، وهو أنه قيل لقتيبة بن مسلم وهو وَالٍ على خراسان للحجاج ومحاربٌ للترك: لو وجهت فلاناً- لرجل من أصحابه- إلى حرب بعض الملوك على الجيش، فقال قتيبة: إنه رجل عظيم الكبر، ومَنْ عظم كبره اشتد عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور كفياً، ولم يؤامر نصيحاً ومَنْ تَبَجّحَ بالإِعجاب وفخر بالاستبداد، كان من الصنع بعيداً، ومن الخذلان قريباً، والخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة، ومن تكبر على عدوه حَقَره، وإذا حَقَره تهاون بأمره، ومن تهاون بأمر عدوه ووثق بأمر قوته وسكن إلى جميعِ عُدّته قَل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عِثَاره؛ وما رأيت عظيماً تكبر على صاحب حرب قَطُّ إلا كان منكوب ومهزوماً من قَطَاةٍ، وأحذر من عَقْعَق، وأشد إقداماً من أسد، وأوثب من فهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأسخى من ديك، وأشح من ظبي، وأحرس من كركي ، وأحفظ من كلب، وأصبر من ضب، وأجمع من النمل، وإن النفس إنما تسمح بالعناية على قدْر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطمع على قدر السبب، وقد قيل على وجه الدهر: ليس لمعجَبٍ رأيٌ، ولا لمتكبر صديق، ومن أحب أن يُحَبَ تحبب

بين معاوية وقيس بن سعد

قال العروضي: وتذاكرنا يوماً بحضرة الراضي باللّه في حال صباه- وقد حضر جماعة من ذوي العلم والمعرفة بأخبار الناس ممن غَبَرَ- فانتهى الأمر إلى خبر معاوية بن أبي سفيان حين ورد عليه كتاب من ملك الروم يرسل إليه سراويل أجْسَم رجل عنده، فقال معاوية: لا أعلمه إلا قيس بن سعد، فقال لقيس: إذا انصرفت فابعث إلي بسراويلك، فخَلَعَهَا ورمى بها، فقال معاوية: هلا بعثت بها من منزلك، فقال قيس:

أردت لكيما يعلم الناسُ أنـهـا

 

سراويلً قيسٍ والوفود شهـود

وأن لا يقولوا: غاب قيس وهذه

 

سراويل عَادٍ قد نمته ثـمـود

فقال قائل ممن حضر: قد كان جَبَلَةُ بن الأيهم أحد ملوك بني غَسَّان طوله اثنا عشر شبراً، فإذا ركب مسحت قدماه الأرض، فقال له الراضي للّه: قد كان قيس بن سعد هذا المذكور إذا ركب تخط قدماه الأرض، وإذا مشى بين الناس يتوهمون أنه راكب، وقد كان جَدِّي عليُّ بن عبد اللّه بن العباس طويلاً جميلاً يتعجب الناس من طوله، وكان يقول: كنت إلى منكب عبد اللّه بن عباس، وكان عبد اللّه إلى منكب جَدِّي العباس، وكان العباس بن عبد المطلب إذا طاف بالبيت يرى كأنه فُسْطَاط أبيض، قال: فتعجب واللّه مَنْ حضر من إيراده هذا الخبر ومن كلامه مع صغر سنه.

طير الكيكم

ثم تذاكرنا عجائب البلدان، وما خصَّ به كل صقع من الأرض من أنواع النبات والحيوان والجماد من أنواع الجواهر وغيرها، فقال لي قائل ممن حضر: إن أعجب ما في الدنيا طير يكون بأرض طبرستان على شاطئ الأنهار شبيه بالبَاشِقِ، وأهل طبرستان يسمونه بالكيكم، وهو صياحه الذي يصيح به، ولا يصيح في السنة إلا في هذا الفصل يعني الربيع فإذا صاح اجتمعت عليه العصافير وصغار الطيور مما يكون في المياه وغيرها؛ فتزقُه من أول النهار، حتى إذا كان في آخره أخذ واحداً مما قرب من الطير فأكله، وكذلك يفعل في كل يوم إلى أن ينقضي هذا الفصل الربيعي فإذا انقضى ذلك انعكست عليه الطيور فلا تزال تجتمع عليه وتضربه وتطرده، وهو يَهْرُبُ منها ولا يسمع له صوت إلى الفصل الربيعي، وهو طير حسن موشى حسن العينين، قال: وذكر علي بن زيد الطبيب الطبري صاحب كتاب فردوس الحكمة أن هذا الطائر ليس يكاد يُرَى، ولم ترَ قط قدماه على الأرض معاً، بل يطأ على الأرض بإحدى قدميه على البدل لا يطأ الأرض بهما معاً في حالة واحدة، قال: وقد ذكر الجاحظ أن هذا الطير من إحدى عجائب الدنيا، وذلك أنه لا يطأ الأرض بقدميه، بل بأحداهما، خوفاً على الأرض أن تنخسف به من تحته. قال: والعجب الثاني دودة تكون من المثقال إلى الثلاثة تضيء بالليل كضوء الشمع، وتطير بالنهار، ويرى لها أجنحة خضراء مَلْساء، ولا جناحين لها، غذاؤها التراب لا تشبع منه قط، خوفاً أن يَفْنَى تراب الأرض فتهلك جوعاً، وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة.

قال: والعجب الثالث أعجب من الطير والدودة، من يكري نفسه للقتل، يعني المرتزقة من الجند.

فاستحسن هذا الخبر مَنْ حضر، فقال أبو العباس الراضي معارضاً لهذا المخبر الذي أخبر بالخبر الأول: قد ذكر عمرو بنِ بحر الجاحظ أن أعجب ما في الدنيا ثلاث؛ البوم لا يظهر بالنهار خوفاً أن تصيبها العين لحسنها وجمالها، ولما قد تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان؛ فتظهر بالليل، والعجب الثاني الكركي، لا يطأ بقدميه الأرض، بل بإحداهما، فإذا وطىء بإحداهما لا يعتمد عليها اعتماداً قوياً، ومشى بالتأني، خوفاً من أن تنخسف الأرض من تحته، لثقله، والعجب الثالث الطائر الذي يقعد على بُثُوقِ الماء من الأنهار إذا انخرقت، الذي يعرف بمالك الحزين على شبه الكركي خوفاً من الماء أن يفنى من الأرض فيموت عطشاً.

قال العروضي: فافترق مَنْ حضره وكلُّ متعجب من الراضي مع صباه وصغر سنه كيف تتأتى منه هذه المذاكرات، مع أن من حضره من أهل الرأي والسن والمعرفة.

قال المسعودي: وقد أتينا فيما سلف من كتبنا على عجائب الأرض والبحار وما فيها من عجائب البنيان والحيوان والجماد والمائع والرجراج؛ فأغنى ذلك عن إيرادها في هذا الموضع.

وإنما نذكر أخبار الراضي وما كان من أمر في صباه وما أخبر عنه مؤدبه به، ونظمنا من أخباره ما تأتى لنا ذكره في هذا الكتاب.

الراضي يعد العروضي بمنحة إذا أضحكه

وأخبرنا العروضي قال: سمرت عند الراضي في ليلة شاتية صهَابية؛ فرأيته قلقاً متململاً؛ فقلت له: يا أمير المؤمنين، أرى منك خصالاً لم أعهدها، وضيق صدر لم أعرفه؛ فقال له: دع عنك هذا، وحدثني بحديث فإن أنت أزلت بحديثك ما أجده من الهم فلك ما عليَّ وما تحتي، على أن أشترط عليك إزالة بالضحك، قلت: يا أمير المؤمنين، رَحَلَ رجل من بني هاشم إلى ابن عمه بالمدينة؛ فأقام عنده حولاً لم يدخل مُسْتَرَاحاً؛ فلما كان بعد الحول أراد الرجوع إلى الكوفة، فحلف عليه ابن عمه أن يقيم عنده أياماً أخر، فأقام، وكان للرجل قَيْنَتَانِ، فقال لهما: أما رأيتما ابن عمي وظَرْفَه؟ أقام عندنا حولاً لم يدخل الخلاء، فقالَتَا له: فعلينا أن نصنع له شيئاً لا يجد معه بداً من الخلاء، قال: شأنكما وذلك، فعمدَتَا إلى خشب العُشَر، فدقتاه، وهو مسهل، وطرحتاه في شرابه، فلما حضر وَقت شرابهما قَدَّمتاه إليه، وَسَقَتَا مولاهما من غيره، فلما أخذ الشراب مأخذه منه تناوم المولى، وتمغص الفتى من جوفه فقال للتي تليه: يا سيدتي، أين الخلاء؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنيه:

خَلَا من آل فاطمَةَ الديار

 

فمنزلُ أهلها منها قِفَارُ

فغنته، فقال الفتى: أطنهما كوفيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى، فقال لها: يا سيدتي، أين الحُشُّ؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:

أوْحَشَ الدقرات فالدير منها

 

فعناها بالمنزل المعمـور

فغنته، فقال الفتى: أظنهما عراقيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى فقال لها: أعزك اللّه أين المتوضأ؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنيه:

تَوَضأ للصلاة وصَلِّ خمساً

 

وآذن بالصلاة على النبي

فغنته، فقال: أظنهما حجازيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى فقال لها: يا سيدتي أين الكنيف؟ قالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:

تكنَّفَنِي الواشون من كل جانب

 

ولو كان واش واحد لكفانـيا

فغنته، فقال: أظنهما يمانيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى، فقال لها: يا هذه أين المستراح؟ فقالت لها صاحبتها: ما قال لك. قالت: يسألك أن تغنيه:

ترك الفكاهة والمزاحا

 

وقَلَا الصبابة واستراحا

فغنته، والمولى يسمع ذلك وهو متناوم، فلما اشتد به الأمر أنشأ يقول:

تكنفني السُّلَاحُ وأضجروني

 

على ما بي بتكرير الأغاني

فلما ضاق عن ذاك اصطباري

 

ذَرَقْت به على وجه الزواني

ثم إنه حَل سراويله وسَلَحَ عليهما، فتركهما آية للناظرين، وانتبه المولى في أثر ذلك، فلما رأى ما نزل بجواريه قال: يا أخي، ما حملك على هذا الفعل. قال: يا ابن الفاعلة لك جَوَارٍ يَرَيْنَ المخرج صراطاً مستقيماً لا يدللنني عليه، فلم أجد جزاء غير هذا؟ ثم رحل عنه، قال: فذهب بالراضي الضحك كلَّ مذهبِ، وسَلّم إليَّ كل ما كان عليه وتحته من لباس وفرش، فكان مبلغ ثمن ذلك نَحواً من ألف دينار.

لبس المأمون الخضرة ثم السواد

وذكر الصولي قال: قال لي الراضي: ما كان السبب في لبس المأمون الخضرة ورفعه السواد ثم لبسه السواد بعد ذلك؟ قلت: هو ما أخبرنا به محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان قال: لما قدم المأمون بغداد اجتمع الهاشميون إلى زينب بنت سليمان بن علي، وكانت أقْعَدَ ولد العباس نسباً، وأكبرهم سناً، فسألوها أن تكلم أمير المؤمنين المأمون، في تغييره الخضرة، فضمنت لهم ذلك، وجاءت إلى المأمون فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك على بِرِّ أهلك من ولد علي بن أبي طالب أقْدَرُ منك على برهم لنا من غيرِ أن تزيل سنة من مضى من آبائك، فدع لباسك الخضرة، ولا تُطْمعن أحداً فيما كان منك، قال لها: يا عمة ما كلمني أحد في هذا المعنى بكلام أوقع من كلامك، ولا أقصد منه لما أردت، لكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توفي فولى الإمرة أبو بكر، فقد عرفت ما كان من أمره فينا أهل البيت، ثم وليها عمر فلم يتعدَّ فيها فعل من تقدمه، ثم وليها عثمان فأقبل على بني أُمية وأعرض عن غيرهم، ثم آل الأمر إلى علي بن أبي طالب من غير صفو كصفوها لغيره بل مَشُوبة بالأكدار، فولي مع ذلك عبد اللّه بن العباس البصرة، وولي عبيد اللّه بن العباس اليمن، وولي قُثَمَ البحرين، وما ترك منهم أحداً إلا ولاهُ، فكانت هذه في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت، ولا يكون بعد هذا إلا ما تحبون، ثم رجع إلى لُبْس السواد، وللمأمون يا أمير المؤمنين شعر يشاكل معنى ما ذكرت من هذا الخبر وهو قوله:

ألامُ على شكر الوَصِيِّ أبي الحسن

 

وذلك عندي من عجائب ذا الزمن

خليفة خير النـاس، والأوَّلُ الـذي

 

أعان رسول اللّه في السر والعلن

ولولاه ما عُدَّتْ لـهـاشِـمٍ إمـرة

 

وكانت على الأيام تقضى وتمْتهنْ

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

 

ومن مسه أولى بالتكرم والمـنـن

فأوضح عبد اللّه بالبصرة الهـدى

 

وفاض عبيد اللّه جوداً على اليمن

وقَسمَ أعمال الخـلافة بـينـهـم

 

فلا زلت مربوطاً بذا الـشـكـر

بين القاهر والراضي

وكان القاهر قد عمد إلى كثير من الأموال عند قتله لمؤنس وبليق وابنه علي وغيرهم فغيَّبَهَا، فلما قبض عليه وسُمِلت عيناه وأفضت الخلافة إلى الراضي طولب القاهر بالأموال، فأنكر أن يكون عنده شيء من ذلك، فأوذي وعُذِّب بأنواع من العذاب، وكل ذلك لا يزيده إلا إنكاراً، فأخذه الراضي وقربه وأدناه، وطالت مجالسته وإياه، وإكرامه له، وأعطاه حق العمومية والسن والتقدم في الخلافة، ولاطفه وأحسن إليه غاية الإِحسان، وكان للقاهر في بعض الحصون بستان نحو من جريب قد غرس فيه النارنج وقد حمل إليه من البصرة وعمان مما حمل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره، ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الغروس والرياحين والزمر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار من القَمَاري والدباسي والشحارير والببغاء، مما قد جلب إليه من الممالك والأمصار، وكان ذلك في غاية الحسن، وكان القاهر كثير الشرب عليه، والجلوس في تلك المجالس، فلما أفْضَتِ الخلافة إلى الراضي اشتد شغفه بذلك الموضع، فكان يداوم الجلوس والشرب فيه، ثم إن الراضي رَفَقَ بالقاهر، وأعلمه بما هو فيه من مطالبة الرجال بالأموال والحاجة إليها، ولا شيء قِبَلَه منها، وسأله أن يُسْعفه بما عنده منها إذ كانت الدولة له، وأن يدبر تدبيره، ويرجع في كل الأمور إلى قوله، وحلف له بالأيمان الوكيدة أن لا يسعى في قتله ولا الإضرار به ولا بأحد من ولده، فأنعم له القاهر بذلك، وقال: ليس لي مال إلا في بستان النارنج؛ فصار الراضي إلى البستان وسأله عن الموضع، فقال له القاهر: قد حجب بصري فلست أعرف موضعه، ولكن مر بحفرة فإنك تظهر على الموضع ولا يخفى عليك مكان ذلك، فحفر البستان، وقلع تلك الأشجار والغروس والأزهار حتى لم يبق منه موضع إلا حفره، وبولغ في حفره فلم يجد شيئاً، فقال له الراضي: فما هاهنا شيء مما ذكرت، فما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال له القاهر: وهل عندي من المال شيء؟ إنما كانت حَسْرَتِي على جلوسك في هذا الموضع وتمتعك به، وكان لذتي من الدنيا، فتأسفت على أن يمتع به بعدي غيري، فتأسف الراضي على ما توجَّهَ عليه من الحيلة في أمر ذلك البستان، وندم على قبوله منه، وأبعد القاهر، فلم يكن يدنو منه خوفاً على نفسه أن يتناول بعض أطرافه.

خلق الراضي وعاداته

وكان الراضي كثير الاستعمال للطيب، حسن الهيئة، سخياً، جواداً، حسن المذاكرة بأخبار الناس وأيامهم، مقرباً لأهل العلم والأدب والمعرفة، كثير الدنو منهم، فائضاً بجوده عليهم، ولم يكن ينصرف عنه أحد من ندمائه في كل يوم إلا بصلة أو خلعة أو طيب، وكانوا عدة ندماء: منهم محمد بن يحيى الصولي، وابن حمدون النديم، وغيرهما، فعوتب على كثرة إفضاله على مَنْ يحضره من الجلساء، فقال: أنا أستحسن فعل أمير المؤمنين أبي العباس السفاح؛ لأنه كانت فيه فضائل لا تكاد تجتمع في أحد، لا يحضره نديم ولا مغن مُلْهٍ ولا قَيْنَة فينصرف إلا بصلة أو كسوة قَلّتْ أو كثرت، وكان لا يؤخر إحسان محسن لغد، ويقول العجب من إنسان يفرح إنساناً فيتعجل السرور ويؤخر ثواب مَنْ سره تسويفاً وعِدَةً، فكان أبو العباس في كل ليلة أو يوم يقعد لشغله لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسروراً، ونحن إن لم تتأت لنا الأُمور كتأتيها لمن سلف فإنا نواسي جلساءنا، بل إخواننا، ببعض ما حضرنا، وكان سخياً على سائر الأشياء لا يستكثر لأحد من ندمائه كثرة ما يصل إليه على طول الأيام، حتى كان بعضهم ربما يتأخر عن الحضور لما يترادف عليه من فضله، وكان الغالب عليه من الخدم وزيرك، ومن الغلمان ذكي وغيره.

الراضي باللّه وبجكم التركي

وحدث أبو الحسن العروضي مؤدب الراضي قال: اجتزت في يوم مهرجان بدجلة بدار بَجْكم التركي؛ فرأيت من الهرج والملاهي واللعب والفرح والسرور ما لم أر مثله، ثم دخلت إلى الراضي بالله فوجدته خالياً بنفسه قد اعتراه هَمّ؛ فوقفت بين يديه، فقال لي: ادن، فدنوت؛ فإذا بيده دينار ودرهم، في الدينار نحو من مثاقيل ، وفي الدرهم كذلك، عليهما صورة بَجْكم شاك في سلاحه وحوله مكتوب:

إنما العز فأعْلَـم

 

للأمِير المُعَظَّـم

لسيد الناس بَجْكم

 

 

 ومن الجانب الآخر الصورة بعينها، وهو جالس في مجلسه كالمفكر المطرق فقال الراضي: أما ترى صنع هذا الإِنسان، وما تسمو إليه همته، وما تحدثه به نفسه؟ فلم أجبه بشيء، وأخذت به في أخبار من مضى من الخلفاء وسيرهم في أتباعهم، ثم نقلته إلى أخبار ملوك الفرس وغيرها، وما كانت تَلْقَاه من أتباعها، وصبرهم عليهم، وحسن سياستهم لذلك، حتى تصلح أمورهم، وتستقيم أحوالهم؛ فسلا عما عرض لنفسه، ثم قلت: ما يمنع أمير المؤمنين أن يكون كالمأمون في هذا الوقت حيث يقول:

صِل الندمان يوم المهـرجـان

 

بصافٍ من مُعَتَّـقَة الـدِّنَـان

بكأس خُـسْـرُوَانـى عـتـيق

 

فإن العيد عيد خـسـروانـى

وَجَنِّبْنِـي الـزبـيبـين طُـرّاً

 

فشأن ذوي الزبيب خلاف شاني

فأشربها وأزعمـهـا حـرامـاً

 

وأرجو عفو رب ذي امتـنـان

ويشربها ويزعـمـهـا حـلالاً

 

وتلك على الشَقِيِّ خطـيئتـان

قال: فطرب وأخذته أريَحِيَّته، فقال لي: صدقت، تَرْكُ الفرح في مثل هذا اليوم عجز، وأمر بإحضار الجلساء، وقعد في مجلس التاج على دجلة، فلم أر يوماً كان أحسن منه في الفرح والسرور، وأجاز في ذلك اليوم من حَضَرَه من الندماء والمغنين والملهين بالدنانير والدراهم والخلع وأنواع الطيب، وأتته هدايا بَجْكم وألطَافه من أرض العجم، فسُرَّ في ذلك اليوم وجميع من حضره.

قال المسعودي: وقد أتينا على ما كان في أيام الراضي من الكوائن والحوادث مجملاً ومفصلاً في كتابنا أخبار الزمان، ومن أباده الحدثان، من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة وما كان من أمره في حال خروجه مع بَجْكم إلى بلاد الموصل وديار ربيعة، وما كان بين بَخكم وأبى محمد الحسن بن عبد اللّه بن حَمدَان المسمى بعد ذلك بناصر الدولة، وَقَصْدُنَا فيما ذكرنا في هذا الكتاب إلى الاختصار، دون الشرح والإكثار، إذ كان في الإكثار من الأخبار ثقل على القلوب، ومَلَل للسامع، وقليل الأخبار، يغني عن كثير الإقتدار.