ذكر خلافة المتقي لله

ذكر خلافة المتقي للّه

وبويع المتقي للّه، وهو أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ المقتدر، لعشر خَلَوْنَ من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وخلع وَسُمِلَتْ عيناه يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وكانت خلافته ثلاث سنين وَأحَدَ عَشَرَ شهراً وثلاثة وعشرين يوماً، وأمه أًم ولد.

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

وزراؤه

ولما أفْضَتِ الخلافة إلى المتقي للّه أقَرَّ على الوزارة سليمان بن أحسن بن مَخْلَد، ثم استوزر أبا الحسن أحمد بن محمد بن ميمون، وكان كاتبه قبل الخلافة، ثم استوزر أبا إسحاق محمد بن أحمد القَرَارِيطِي، ثم استوزر أبا العباس أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني، ثم استوزر أبا الحسن علي بن محمد بن مُقْلَة، وَغَلَبَ على الأمر أبو الوفاء توزون التركي.

انتقاض الأمر عليه

واشتد أمر البريديين بالبصرة، ومنعوا السفن أن تصعد، وعظم جيشهم، وكثرت رجالهم، وصار لهم جيشان: جيش في الماء في الشذوات والطيارات والسميريات والزبازبِ، وهذه أنواع من المراكب يُقَاتَلُ فيها صغار وكبار، وجيش في البر عظيم، واصطنعوا الرجل، وبذلوا الرغائب، فانضاف إليهم حجرية السلطان وغلمانه، وصار جيش السلطان الأتراك والديلم والجبل ونفراً من القرامطة، وكلُّ ذلك مع توزون، وكان توزون من رفقاء بَجْكم والخواص من أصحابه، فانحدر توزون إلى واسط لحرب البريديين، وكانوا ملكوا واسط وتغلبوا عليها، فكانت بينهم سِجَالاً، والمتقي للّه لا أمر له، ولا نَهْي، فكاتب المتقي أبا محمد الحسن بن عبد اللّه بن حمدان ناصر الدولة، وأخاه أبا الحسن على بن عبد اللّه سيف الدولة أن يُنْجِدوه ويستنقذوه مما هو فيه، ويفوض إليهما الملك والتدبير، وقد كان قبل ذلك خرج إليهم وتوزون في جمليهم منضاف وغيره من الأتراك والدَيْلم، وذلك عند قتلهم محمد بن رائق في سنة ثلاثين وثلاثمائة، وانحدارهم إلى مدينة السلام، واستيلائهم على الملك والقيام به وحربهم البريديين، وما كان بينهم من الوقائع إلى أن توجهَ عليهم ما ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان من خروج أبي محمد الحسن بن عبد اللّه من الحضرة إلى الموصل، ولوحق أخيه أبي الحسن علي بن عبد اللّه، وخَلاَصه مما دَبَّرَه عليه توزون وجعجع التركي، وخرج المتقي إلى الموصل، فلما بلغ توزونَ ذلك رجع إلى بغداد وقصد بني حَمْدَان، فكان التقاؤهم بعكبرا، فكانت بينهم سِجَالاً، ثم كانت لتوزون عليهم، فرجع إلى بغداد، ثم أجمعوا له أيضاً، ورجعوا إليه، فتركهم حتى قربوا إلى بغداد، فخرج عليهم فلقيهم فهزمهم بعد مواقعات كانت بينهم، وسار وراءهم حتى دخل الموصل، وخرج عنها إلى مدينة بلد، فصالحوه على مالٍ حملوه إليه، فرجع إلى بغداد وهو مُسْتَظْهر بمن معه من الأتراك والجبل والديلم وكمال العدة والكراع، وسار المتقي إلى نصيبين، ورجع عنها إلى الرقة فنزلها، وذلك لأيام بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وكاتب الإِخشيد محمد بن طغجِ صاحب مصر فسار إلى الرقة وحمل إليه مالاً كثيراً، وأهدى إليه غلماناً وأثاثاً، وضم إليه قائداً من قواده، وجَفَل أمره، وزاد في حاله، وبَرَّ جميع من معه من وزيره أبي الحسن علي بن محمد بن مقلة، وقاضي القضاة أحمد بن عبد اللّه بن إسحاق الخرقي، وسلام الحاجب المعروف بأخي نجح الطولوني، وجماعة الوجوه والغلمان، ثم لم يعبر الإِخشيد محمد بن طغج إلى الرقة ولا إلى شيء من جانب الجزيرة وديار مُضَرَ، وعبر المتقي، وسار إلى معسكره من الجانب الشامي؛ فكانت بينهم خطوب وأيمان وعهود، وأبو الحسن علي بن عبد اللّه بن حَمْدَان مقيم بحران على طول مُقَام المتقي بالرقة، وقد كان أبو عبد اللّه الحسين بن سعيد بن حَمْدَان سار عن حلب وبلاد حمص عند مسير الإخشيد إلى بلاد قنسرين والعواصم، فانفَضَّ جمعه، وتفرق جنده عنه، وانضافوا إلى أبي الحسن علي بن عبد اللّه، واتصلت كُتُبُ توزون بالمتقي، وتواترت رسله يسأله الرجوع إلى الحضرة، وأشهد توزون مَنْ حضره من القضاة والفقهاء والشهود، وأعطى العهود والمواثيق بالسمع والطاعة للمتقي، والتصرف به بين أمره ونهيه، وترك الخلاف عليه، وأنفذ إليه كتب القضاة والشهود بما بذل من الأيمان وأعطى من العهود، وأشار بنو حمدان على المتقي أن لا ينحدر، وخَوَّفوه من توزون، وحَذَّروه أمره، فإنه لا يأمنه على نفسه؛ فأبى إلا مخالفتهم والثقة بما ورد عليه من توزون، وقد كان بنو حمدان أنققوا على المتقي نفقةً واسعة عظيمة طول مقامه عندهم واجتيازه بهم؛ يكثر وصفها ويعسر علينا في التحصيل إيرادها بإكثار المخبرين لنا بتحديدها، وانصرف الإخشيد عن الفُرَات متوجهاً نحو مصر، وانحدر المتقي في الفرات، فتلقاه أبو جعفر بن شيرزاد كاتب توزون بأحسن لقاء، وأقام له الأتراك، ومضى في إنحداره حتى دخل النهر المعروف بنهر عيسى، وسار إلى الضيعة المعروفة بالسندية على شاطئ هذا النهر، فتلقاه توزون هنالك، وتَرجلَ له ومشى بين يديه؛ فأقسم عليه أن يركب ففعل، حتى وافى به إلى المضرب الذي كان ضَرَبَه له عَلى الشط من نهر عيسى، وذلك على شَوْطٍ من مدينة السلام، فأقام هنالك، وأنفذ رسلاً إلى دار طاهر ليحضر المستكفي، فلما حصل  المستكفي في المضرب قبض على المتقي، ونهب جميع ما كان معه، وقبض على وزيره أبي الحسن علي بن محمد بن مُقْلَة، وعلى قاضيه أحمد بن عبد اللّه بن إسحاق، ونهب جميع المسكر، وانصرف القائد الذي كان الإخشيد ضمه إلى المتقي ومن معه إلى صاحبهم، وأحضر المستكفي فبويع له، وكُحِلَ المتقي، فصاح وصاح النساء والخدم لصياحه، فأمر توزون بضرب الدبادب حول المضرب، فخفي صُرَاخ الخدم، وأدخل إلى الحضرة، مسمول العينين، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، وسُلَمَ إلى المستكفي باللَه، وبلغ ذلك القاهر فقال: قد صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث، يُعَرِّض بالمستكفي بالله.

المتقي يطلب رجلاً إخبارياً يأنس به

وحدث محمد بن عبد اللّه الدمشقي قال: لما نزل المتقي الرقة كنت فيمن يتصرف بين يديه، وأقرب منه في الخدمة، لطول صحبته، فقال لي في بعض الأيام في الرقة وهو جالس في داره مشرفاً على الفرات: اطلب لي رجلاً إخبارياً يحفظ أيام الناس أتفرج إليه في خلواتي وأستريح به في الأوقات، قال: فسألت بالرقة عن رجل بهذا الوصف، فأرشدت إلى رجل بالرقة كهل لازم لمنزله، فصرت إليه، ورَغّبته في الدخول إلى المتقي باللّه، فقام معي كالمكره، وصرنا إلى المتقي فأعلمته إحضاري للرجل الذي طلبه، فلما خلا وجهه دعا به واستدناه، فوجد عنده ما أراد، فكان معه أيام مقَامِه بالرقة، فلما انحدَرَ كان معه في الزورق، فلما صار إلى فم نهر سعيد وذلك بين الرقة والرحبة- أرِقَ المتقي ذات ليلة، فقال للرجل: ما تحفظ من أشعار المبيضة وأخبارها؟ شمر الرجل في أخبار آل أبي طالب إلى أن صار إلى أخبار الحسن بن زيد وأخيه محمد بن زيد بن الحسن وما كان من أمرهما ببلاد طبرستان، وذكر كثيراً من محاسنهما، وقصْد أكمل العلم والأدب إياهما، وما قالت الشعراء فيهما، فقال له المتقي: أتحفظ شعر أبي المقاتل نصر بن نصير الحلواني في محمد بن زيد الحسني الداعي؟ قال: لا يا أمير المؤمنين لكن معي غلام لي قد حفظ بحداثة سنه وحدة مزاجه وغلبة الهمة لطلب العلم والأدب عليه ما لم أحفظ من أخبار الناس وأيامهم وأشعارهم، قال: أحضره، ولِمَ أخفيت عني خبر مثل هذا فيكون حضوره زيادة في أنسنا؟ فأحضر الغلام من زورق آخر، فوقف بين يديه، فقال له صاحبه: أتحفظ قصيدة أبي المقاتل في ابن زيد؟ قال: نعم، قال المتقي: أنْشِدْنِيهَا، فابتدأ ينشده إياها:

لا تقل بُشْرى وقل لي بُـشْـرَيان

 

غُرَّةُ الداعي ويوم المهـرجـان

خَلِقَـتْ كَـفَّـاهُ مـوتـاً وحـياة

 

وَحَوَتْ أخلاقه كُنْهَ الـجـنـان

فَهْوَ فصـل فـي زمـان بـدوي

 

وابن زيد مالـك رِقَّ الـزمـان

فَهْوَ للكل بـكـل مـسـتـقـل

 

بالعَطَـايا والـمـنـايا والأمـان

أوْحَدٌ قام بتـشـييد الـمـبـانـي

 

فبهِ اسْتُنْبِطَ أجنـاسُ الـمـعـان

مُسْرِف في الجود من غير اعتذارٍ

 

وعظيم البر من غير امـتـنـان

وهو مَنْ أرسى رسول اللّه فـيه

 

وعلياه المعـلـى والـحـسـان

سيد عـرق فـيه الـســـيدان

 

والذي يكبر عن ذكر الحـصـان

مُخْتَفٍ فكرته فـي كـل شـيءٍ

 

فَهْوَ في كل مـحـلٍّ ومـكـان

يعرفُ الدهر على ما غاب عنـه

 

فيرى المضمر في شخص العِيَان

يتناءى لفظنـا عـنـه ولـكـن

 

هو بالأوصاف في الأذهـان دان

أخرجت ألفاظه ما في الخـفـايا

 

وكَفَاهُ الدهر نطق الترجـمـان

 كافرٌ باللّه جهراً والمـثـانـي

 

كلُّ من قال: له في الخلق ثان

وإذا ما أسبـغ الـدرع عـلـيه

 

وانكفت يمناه بالسيف الـيمـان

بعثَتْ سطوته في الموت رُعْبـاً

 

أيقن الموت بأنَّ المـوت فـان

يحدقُ الأبطالَ بالألحاظ حـتـى

 

يترك المقدام في شخص الجبان

مَلَكُ الموت ينـاديه أجـرنـي

 

منك كم تغزو بضرب وطعان؟

لاتكلفنيَ فوقَ الوُسـع وارفـق

 

فلقد مَلَّكـك الـلّـه عِـنَـان

يا شقيق القدَرِ المحتوم كـم قـد

 

رُضْتُ بالصَّيْلم عمداً ذا حِرَان

لك يومـان فـيوم مـن لـيان

 

يقـتـفـي يوم أرون أرونـانُ

أنْجَزَتْ كفـاك وعـداً ووعـيداً

 

وأحاطت لك بالـدنـيا الـيدان

فإذا ما أروت اليمنـى حِـبَـاء

 

هَصَّتِ اليسرى بإرواء السنـان

جَدَّتَا في النفع وَالضـرّ ِبـداراً

 

فهما في كل حالٍ ضـرتـان

أرَّخَتْ كفاك في الآفاق حتـى

 

ما تلاقى بسواك الشـفـتـان

قدّمتك المدَحُ الغُرُّ وصـالـت

 

لك أيضاً في أعاديك الهجـان

أنت لا تَحْوِي بمعقولٍ كـتـاب

 

لك شأن خارج عن كك شـان

لك أثـقـال أيادٍ مـثـقـلات

 

عجزت عن حملهنَّ الثـقـلان

إنما مـدحـك وَحْـيٌ وزَبُـورٌ

 

والذي ضمت عليه الدفـتـان

هاكها جوهـرة تـبـرية تـو

 

لي وجوه الموت تكفين الحنان

يا إمام الدين خُذْهَـا مـن إمـامٍ

 

ملكَتْ أشعاره سَبْقَ الـرهـام

واستمع للرمَـل الأول مـمـن

 

كشف المحنة من غير امتحان

فاعلاتن فاعلاتن فـاعـلاتـن

 

ستة أجزاؤها عـنـد الـوزان

كرة الآفـاق لا تَـطْـلُـعُ إلا

 

صارت الريح لها كالصَّوْلجان

جليت في صنعة الألفاظ مـمـا

 

يرتجيه كل ذي عفـو وجـان

أنت تحكي جَنَّةَ الخلد طبـاعـاً

 

والقوافي فيك كالحور الحسان

فَابْقَ للشعر بقاء الشعر والشـك

 

ر مع الدهر فنعم الـبـاقـيان

عُمْرُ رَضْوى بل ثَبـير وشـآم

 

وأرَام وشـمـاريخ أبـــان

شهد اللّه على ما في ضمـيري

 

فاستمع لفظيَ تـرجـيع أذان

حسناتِ لـيس فـيهـا سـيآت

 

مدحه الداعي اكتبا يا كاتـبـان

فلم يزل المتقي كلما مر به بيت استعاده، ثم أمر الغلام بالجلوس، فلما كان في اليوم الذي لقيه فيه ابن شير زاد الكاتب سمعه ينشد هذا البيت:

لا تقل بشرى وقل لي بشرتان

فقال له الغلام، وقد كان أنس به: يا أمير المؤمنين:

دَامَتِ البشرى فقل لي بشرتان

وقد كان أنشده أولاً القصيدة لا تقل بشرىَ وأنشده ثانياً هذا الوجه دامت البشر فقل لي بشريان وذكر له خبر أبي المقاتل مع الداعي، فواللّه ما زال المتقي يقول لا تقل بُشْرَى ولا يختار في ذلك الوجه غير ذلك؛ فقال له الرقي والغلام: والله لتطيَّرْنا لأمير المؤمنين اختباره إنشاد هذا البيت على هذا الوجه، فكان من أمره ما ذكرنا.

ومن صفات الخيل

وحدث محمد بن عبد اللّه الدمشقي قال: لما انحدرنا مع المتقي من الرحبة وصرنا إلى مدينة عانة دعا بالرقي وكلامه فحادثاه، وتسلسل بهم القول إلى فنون من الأخبار، إلى أن صاروا إلى ذكر الخيل، فقال المتقي: أيكم يحفظ خبر سليمان بن ربيعة الباهلي مع عمر بن الخطاب فقال الغلام: ذكر أبو عمرو بن الْعَلاَء يا أمير المؤمنين أن سليمان بن ربيعة الباهلي كان يُهَجِّنُ الخيل ويعربها في زمن عمر بن الخطاب، فجاءه عمرو بن معد يكرب بفرس كميت فكتبه هَجيناً، فاستعدى عليه عمر وشكاه إليه، فقال سليمان: ادع بإناء رَجْرَاج قصير الجُدَر، فدعا به، فصبَّ فيه ماء، ثم أتى بفرس عتيق لا شك في عتقه، فأسرع وبرك وشرب، ثم أتى بفرس عمرو الذي كان هجن فأسرع فصب سنبكَه ومد عنقه كما فعل العتيق، ثم ثَنَى أحد السنبكين قليلاً فشرب، فلما رأى ذلك عمر بن الخطاب وكان ذلك بمحضره قال: أنت سليمان الخيل، فقال المتقي: فما عندكم عن الأصمعي وغيره من علماء العرب في صفاتها؟ قال الرقي: ذكر الرياشي عن الأصمعي قال: إذا كان الفرس طويل أوظِفَهِ اليدين قصير أوْظِفَةِ الرجلين طويل الذراعين قصير الساقين طويل الفخذين طويل العضدين مفرع الكتفين لم يكد يُسْبَقُ، وقال: إذا سلم من الفرس شيآن لم يضره عيب سواهما: مغروز عنقه في كاهله، ومغروز عجزه في صلبه، وإذا جادت حوافره فهو هو، وأنشدنا المبرد:

ولقد شهدت الخيل تحمل شِكَّتِـي

 

عَتَدٌ كسرحان القصيمة مِنهـب

فرس إذا استقبلـتـه فـكـأنـه

 

في العين جزع من أوال مشرب

وإذا اعترضت له استوَتْ أقطاره

 

فكأنه مستـدبـر مـتـصـوب

وسأل يا أمير المؤمنين معاوية مطر بن دراج: أي الخيل أفضل وأوجز؟ فقال: الذي إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر، وإذا استعرضته قلت زافر، سوطه عنانه، وهَوَاه أمامه، قال: فأي البراذين شر؟ قال: الغليظ الرقبة، الكثير الجَلَبة، الذي إذا أرسلته قال: أمسكني، وإذا أمسكته قال: أرسلني، قال الغلام: أحسن ما قيل في الفرس ووصفه قول بعضهم:

خير ما يركَبُ الـشجـاع إذا ما

 

قيل يوماً ألا اركـبوا للغِــوَار

 

كلُّ نَهْدٍ أقَبَّ معتدل الخلق

 

متين الشّـظَى عتـيق النِّـجَارا

 

سلجم اللحْي واسع السَّحْر

 

حد الأذن وافي الدماغ والوجه عار

 

ما حَمَتْه الحرار واشتذَ عليا

 

ه فـأكْدَى مُـحْدَوْدِبـاً بالعـوار

 

محضر القصر مكرب الرسغ

 

دامي الإبْطِ ساعى الجفون والأشفار

 

مُشْرِف مُقْبل يخبّ إذا أد

 

بَرَ مُـسْــتَـدْبـر ككر مغـار

 

فَهْـوَ فـي خلقه طوال ورحب

 

وعراض إلـى سداد قـصــار

 

طال هاديه والذراعانْ

 

والأضلاع منه فقيم في جفار

ثم طالت وأبـدت فــخـذاه

 

فهو كفـت الوثوب ثبت الخيار

والرحيب الفروج والجلد

 

والمشفر قُدَّام منخـر كالوجار

والعريض الوظيف والجنب والأو

 

راك والجبهة الـعريض الفقار

والحـديد الـفـؤاد والسـمع والعر

 

قوب والطرف حدة في وقـار

فهو صافـي الأديم والـعين والحا

 

فر غمـر بديهة الِإحــضـار

والقصير الكُرَاع والظهر

 

والرسغ القصير العسيب والصلب وار

لم تخن متنه القطاة ولم

 

يسلمه تركيبها إلى استئخار

مطمئن النسور بين حزام

 

كل لأم أحًمَ كالمنقـــار

يكفت المـشـي كالذي يتخطّى

 

طُنُباً أو يشـق كالمـسـمار

وإذا ما اسـتـمرَّمن غير ما بأ

 

س به مانع من استـمـرار

لَانَ فاهْتـزَ مقـبلاً فــإذا أد

 

برَ أهوى متابع الإدبــار

في تعاقيب كالتماثيل أو كالجن

 

أو كالظبـاء أو كالحـوار

فإذا ما طَحَا به الجري

 

فالعقبان تهـوي كواسـر الأعسار

           

من أخبار حلبة الخيل

فلما كان في الليلة الثانية دعابهما، فقال: عُودَا إلى ما كنتما عليه البارحة، واشْرَعا في أخبار الحلائب ومراتب الخيل فيها، قال الغلام: يا أمير المؤمنين، أذكر قولاً جامعاً أخبرني به كلاب بن حمزة العقيلي، قال: كانت العرب ترسل خيلها عشرة عشرة أو أسفل، والقصب تسعة ولا يدخل الحجرة المحجرة من الخيل إلا ثمانية، وهذه أسماؤها: الأول السابق، وهو المجلِّي، قال أبو الهندام كلاب: إنما سمى المجلي لأنه جَلّى عن صاحبه ما كان فيه من الكرب والشدة، وقال الفراء: إنما سمى المجلي لأنه يُجَلِّي عن وجه صاحبه، والثاني المصلِّي؛ لأنه وضع جَحْفَلته على قَطاة المجلِّي، وهي صَلاَه، والصلا: عَجْب الذنب بعينه، والثالث المسلِّي؛ لأنه كان شريكاً في السبق، وكانت العرب تعدُ من كل ما تختار ثلاثة، أو لأنه سَلى عن صاحبه بعض همه بالسبق، والرابع التالي، سمي بذلك لأنه تلا هذا المسلِّيَ في حال دون غيره، والخامس المرتاح، وهو المفتعل من الراحة؛ لأن في الراحة خمس أصابع لا يعد منها غيرهن، وإذا أومأت العرب من العلا إلى خمس فتح الذي يومئ بها يَلَى وفرق أصابعه الخمس، وذلك أيضاً ما يؤمنون به من غير عقد الحساب، ثم يكون بعدها إلى أن تكون عشرة فيفتح الذي يومئ بها يديه جميعاً، ويقابل الخمس أصابع بالخمس، فلما كان الخامس مثل خامسة الأصابع وهي الخنصر سمي مرتاحاً، وسمى السادس حظياً؛ لأن له حَظّاً، وقيل: لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعطى السادس قضيبه، وهي آخر حظوظ خيل الحلبة، غير أنه له حظ، وسمي السابع العاطف، لدخوله الحجرة لأنه قد عطف بشيء وإن قل، وحسن إذا كان قد دخل الحرجة المحجورة، وسمي الثامن المؤمل على القلب والتفاؤل كما سموا الفَلاَة مَفَازة واللّدِيغ سليماً، وكنوا الحبشي أبا البيضاء، ونحو ذلك، فكذلك سموا الخائب المؤمل، أي أنه يؤمل وإن كان خائباً؛ لأنه قرب من بعض ذوات الحظوظ بعد، والتاسع اللّطيم؛ لأنه لو رام الحجرة للطم دونها لأنه أعظم جرماً من السابعِ والثامن، والعاشر السكيت لأن صاحبه يعلوه خشوع وذلة ويَسْكُت حزناً وغماً، فكانوا يجعلون في عنق السكيت حبلاً ويحملون عليه قرداً، ويدفعون للقرد سوطاً؛ فيركضه القرد ليعير بذلك صاحبه، وأنشد في ذلك الوليد بن حصن الكلبي:

إذا أنت لم تَسْبِقْ وكنت مُخَلَّفـاً

 

سُبِقْتَ إذا لم تدع بالقرد والحبل

وإن تك حقّاً بالسكيت مخلـفـاً

 

فتورث مولاك المذلة بالنبـل

أما ذكره النبل فإن بعضهم كان يفعل ذلك: ينصب فرسه ثم يرميه بالنبل حتى يتعجف، وقد فعل ذلك النعمان بفرسه النهب، قال كلاب بن حمزة: ولم نعلم أحداً من العرب في الجاهلية والإسلام وصَفَ خيل الحلبة العشرة بأسمائها وصفاتها وذكَرَها على مراتبها غير محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان بالجزيرة بالقرية المعروفة بحصن مَسْلَمة من إقليم بَلسْخ من كورة الرقة من ديار مضر فإنه قال في ذلك:

شهدنا الرهان غداة الـرهـان

 

بمَجْمَمَةٍ ضَمَّهَا الـمـوسِـمُ

نقود إليها مقـاد الـجـمـيع

 

ونحن بصنعتـهـمـا أقْـوَم

غدونا بمقـوودة كـالـقـداح

 

غدت بالسعود لهـا الأنْـجُـمُ

مقابلة نسبة فـي الـصـريح

 

نما هُـنَّ لـلأكـرم الأكـرمُ

كُمَيْت إذا مـا يبـاطـى يبـل

 

يفوت الخطـوط إذا يُلْـجَـم

فمنهنَّ أحـوى مـمـر أغـر

 

وأجـود ذو غـرة أرثـــم

تلألأ فـي وجـهـه فـرجة

 

كان تـلألـؤهـا الـمـرزم

فقيدت لمدخور ما عـنـدهـا

 

لمنتظري أنـهـا تـنـجـم

عليهن سحم صغار الشخوص

 

نماهم لحـام أتـى أسـحـم

كأنهـم فـوق أشـبـاحـهـا

 

زرازير في سُـقـف حُـوَّمُ

فصفت على الحبل في محضر

 

بلى أمـره ثـقة مـسـلـم

تراضوْا به حكمـاً بـينـهـم

 

فبالحـق بـينـهـمُ يحـكـم

وربك بالسبـق عـن سـاعة

 

من الناس كـلـهـمُ أعْـلَـمُ

فقلت ونحـن عـلـى جـدة

 

من الأرض نيرها مـظـلـم

لقد فرغ اللّه مـمـا يكـون

 

ومهما يكن فَهْـوَ لا يُكْـتَـمُ

فأقبـل فـي أمـرنـا نـارٌ

 

كما يُقْبل الوابل المـثـجـم

وأتبع فَوْضَـى ومـرفـضة

 

كما ارفَضَّ من سلكه المنظم

أو السرب سرب القطاراعـه

 

من الجو شوانق مـظـلـم

فواصل من كل قـسـطـالة

 

كأن عَثَانينـهـا الْـعَـنْـدَمُ

وللمرء من فرج ما تستثـير

 

سنابكهنَّ سـنـا مـضـرم

فجّلى الأغر وصَلّى الكمـيت

 

وسَلّى فلـم يُذْمَـم الأدهـم

وأردفـهـا رابـع تـالــياً

 

وأين من المنجد المتـهِـمُ؟

وما ذمَّ مرتاحها خـامـسـاً

 

وقد جـاء يقـدم مـا يقـدم

وجاء الحَظِيُّ لهـا سـادسـاً

 

فأسهمه حَظَّه الـمـسـهـم

وسابعها العاطف المستحـير

 

يكـاد لـحـيرتـه يُحْـرَم

وجاء المؤمل فـيهـا يخـيب

 

وعَنَّ له الـطـائر الأشـأم

وجاء اللطيم لهـا تـاسـعـاً

 

فمن كان نـاحـية يُلـطَـمُ

يخبُّ السكيت عـلـى إثـره

 

وذِفْرَاهُ مـن قـبة أعـظـم

كأن جـوانـبـه بــين ذي

 

جمانة نِيطَ بـهـا قـمـقـم

إذا قيل مَنْ ربُّ ذا لـم يُحِـرْ

 

من الخزي بالصمت يستعصم

ومن لا يعد للحلاب الـجـياد

 

وشيك لعـمـرك مـا ينـدم

وما ذو اقتضاب لمجهولـهـا

 

كمن ينتميهـا ويسـتـلـزم

فَرُحْنَا بسبق شُـهِـرْنَـا بـه

 

ونيل به الفخر والمـغـنـم

وأحرزن عن قَصَبَات الرهان

 

رغائب أثقالـهـا تـقـسـم

بُرُودٌ من القصب مَـوْشِـيَّة

 

وأكسية الخز والـمـلـحـم

فراحت عليهنَ مـنـشـورة

 

كأن حَـوَاشِـيَهُـنَّ الــدَّمُ

ومن وَرِق صـامـت بـدرة

 

ينوء بها الأغلب الأعـصـم

فَفُضَّتْ لِنَهْب خواتـيمـهـا

 

وبدرتنا الدَّهْـرَ لا تـخـتـم

نوزِّعهـا بـين خُـدَّامـهـا

 

ونحن لها مـنـهـمُ أخـدم

وإنا لنرنبـط الـمـعـربـا

 

ت في اللَّزَبَاتِ فمـا تـرزم

يعدُّ لها المحض بعد الحلـيب

 

كما يصلح الصبية المفطـم

ويَخْلطها بصمـيم الـعـيال

 

بمن له حب هو المـحـرم

مشاربها الصافيات الـعـذاب

 

ومطعمها فَهُوَ المـطْـعَـمُ

فهنَّ بـأكـنـاف أبـياتـنـا

 

صَوَافِنُ يصهلـن أو حُـوَّم

ومال محمد بن يزيد في كلمته هذه إلى أنه لاحَظ للثامن، وجعل للسابع حظاً في السبق، والهندسة إجراء الخيل وتجربتها فيما دون الغاية، وإنما سميت الحَلْبة حلبة لأن العرب تحلب إليها خيولها من كل مكان.

قال المتقي: أثْبتَا ما يجري في هذه الأوقات ودَوِّنَاهُ، فلم يزالا معه في ذلك يجددُ لهما البر إلى أن كان من أمره ما قد اشتهر.

وقد تناهى بنا الكلام إلى هذا الموضع من خلافة المتقي؟ فلنذكر الآن بعض من اشتهر شعره في هذا الوقت واستفاض في الناس وظهر.

أبو نصر الخبزأرزي

فمنهم أبو القاسم نصر بن أحمد الخبزأرزي، وهو أحد المطبوعين المجودين في البديهة المعروفين بالغزل؟ فمن جيد شعره قوله:

أنضى الهوى جسدي وبَدَّلَنِي به

 

جَسَداً تكوَّنَ من هوى متجسد

ما زال إيجاد الهوى عدمي إلى

 

أن صرت لو أعدمته لم أوجد

ومن جيد شعره ما عاتب به ابن لنكك الشاعر، وهو:

لم لا تَرَى لصداقتي تصـديقـا

 

فينا، ولم تَدْعُ الصديق صديقـا؟

ذو العقل لا يرضى بوَسْم صداقة

 

حتى يرى لحقوقها تحـقـيقـا

فلمن يرجِّي الحق أن يدعى أخا

 

وعلى الرفيق بأن يكون رفيقـا

إن غاب غاب محافظاً أو حَلَّ كا

 

ن مداعباً أو قال كان صدوقـا

وفي هذا الشعر يقول:

ويكاد مَنْ عَلِقَ الهوى بفؤاده

 

مما تفكر أن يُرَى زنديقـا

وقوله:  

أعليك أعْتِبُ أم علـى الأيام؟

 

بَدَأتْ، وكنت مؤكداً بتمـام

قطع التواصُلَ قربنا بتواعـد

 

وَقَطَعْتَ أنت تواصل الأقلام

هلا ألفت إذ الزمان مُشتَـت

 

والإِلف للأرواح لا الأجسام

وفى هذا الشعر يقول:

عذراً أبا عيسى عَسَى لك في الْقِلا

 

عُذْرٌ، وذا عـلـم بـلا إعـلام

من غابتِ الأخبارُ عـنـه وَدِينُـهُ

 

دِينُ الإِمـامةِ قـال بـالأوهـام

خذ من فَرَائدك الذي أعطيتـنـي

 

فالدرُّ درك والنظام نـظـامـي

حِكَمٌ معانيها مـعـانـيك الـتـي

 

فَضَّلْتَهَا لي، والكـلام كـلامـي

وشعره في الغزل وغيره أكثر من أن نأتي عليه، وأكثر الغناء المحدَثِ في وقتنا هذا من شعره، وقد أشيع بموته وأن البريدي غَرقَهُ لأنه كان هجاه، وقيل: بل هرب من البصرة ولحق بهَجَرَ والأحْسَاء بأبي طاهر بن سليمان بن الحسن صاحب البحرين.

مقتل بجكم

قال المسعودي: وقد أتينا على أخبار المتقي وما كان في أيامه من الكوائن والأحداث على الشرح والإِيضاح في الكتاب الأوسط الذي كتابُنَا هذا تَالٍ له، وإنما نذكر من أخبارهم في هذا الكتاب لمعاً لاشتراطنا فيه على أنفسنا الاختصار والإيجاز، وكذلك أتينا على خبر مقتل بَجْكم التركي، وكان مقتله في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وما كان من أمره مع الأكراد بناحية واسط، وما كان من كورتكين الديلمي واستيلائه على جيش بَجْكم، وانحدار محمد بن رائق من الشام ومحاربته كورتكين بعكبرا، ومخاتلته إياه، ودخوله الحضرة، وما كان بينهم من الوقعة بالحضرة إلى أن انهزم كورتكين، واستولى محمد بن رائق على الأمر، وما كان من البريديين وموافاتهم الحضرة، وخروج المتقىِ عنها مع محمد بن رائق الموصلي، في كتابنا المترجم بأخبار الزمان فأغْنى ذلك عن إعادته في هذا الكتاب، واللّه الموفق للصواب.