ذكر خلافة المستكفي بالله

ذكر خلافة المستكفي باللّه

وبويع المستكفي بالله، وهو أبو القاسم عبدُ اللّه بن علي المكتفي، يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وخُلِعَ في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، لسبع بَقِينَ من هذا الشهر، فكانت خلافته سنة وأربعة أشهر إلا أياماً، وأُمه أُم ولد.

ذكر جمل من أخباره وسيره

ولمع مما كان في أيامه

قد قدَّمنا عندما ذكرنا خَيْر المتقي للّه أن المستكفي بويع له بالسبق على نهر عيسى من أعمال بادوريا بإزاء القرية المعروفة بالسندية في الوقت الذي سمِلَتْ فيه عينا المتقي، بايع به أبو الوفاء توزون وسائر مَنْ حضر من القُوَاد وأهل الدولة، وأهل عصره من القضاة منهم القاضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن أبي الشوارب وجماعة من الهاشميين، فصلّى بهم في يومهم ذلك المغربَ والعشاء، وسار حتى نزل في يوم الأحد بالشَّماسية، فلما كان في يوم الاثنين انحدر في الماء راكباً في الطيار الذي يسمى الغزل، وعليه قلنسوة طويلة محدودة، ذكِرَ أنها كانت لأبيه المكتفي باللّه، وعلى رأسه توزون التركي ومحمد بن محمد بن يحيى بن شيرزاد وجماعة منِ غلمانه، وسُلّم إليه المتقي ضريراً، وأحمد بن عبد اللّه القاضي مقبوضاً عليه، وحضر بعد ذلك سائر القضاة والهاشميين، فبايعوا له، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامريَّ مدة، تم غضب عليه، وغلب على أمره محمد بن شيرزاد، وجلس للناس، وسأل عن القضاة، وكَشَفَ عن أمر شهود الحضرة، فأمر بإسقاط بعضهم، وأمر باستتابة بعضهم من الكذب وقبول بعضهم لأشياء كان قد علمها منهم قبل الخلافة، فامتثل القضاة ما أمر به من ذلك، واستقضى على الجانب الشرقي محمد بن عيسى المعروف بابن أبي موسى الحنفي، وعلى الجانب الغربي محمد بن الحسين بن أبي الشوارب الأموي الحنفي، فقالت العامة: إلى هاهُنا انتهى سلطانه، وانتهى في الخلافة أمره وَنَهْيُه، وقد كان بينه وبين الفضل بن المقتدر الذي يسمى بالمطيع قبل ذلك مجاورة في دار ابن طاهر، وعداوة في اللعب بالحمام وتطييرها، واللعب بالكِبَاش والديوك والسمان، وهو الذي يسمى بالشام النفخ. فلما حُمل المستكفي إلى نهر عيسى ليبايع له هرب المطيع من داره، وعلم أنه سيأتي عليه، فلما استقرت للمستكفي طلب المطيع، فلم يقف له على خبر، فهدمَ داره، وأتى على جميع ما قدر عليه من بستان وغيره. 

المستكفي وغلام ضمه له توزون

وذكر أبو الحسن علي بن أحمد الكاتب البغدادي، قال: لما استخلف المستكفي ضم إليه توزونُ غلاماً تركياً من غلمانه يقف بين يديه، وكان للمستكفي غلام قد وقف على أخلاقه ونشأ في خدمته؛ فكان المستكفي يميل إلى غلامه، وكان توزون يريد من المستكفي أن يقدم المضموم إليه على غلامه الأول؛ فكان المستكفي يبعث بالغلام التركي في حوائجه، اتباعاً لمراضاة توزون، فلا يبلغ له ما يبلغ غلامه.

من أخبار الحجاج مع أهل الشام

قال: وأقبل المستكفي يوماً على محمد بن محمد بن يحيى بن شيرزاد الكاتب، فقال له: أتعرف خبر الحجاج بن يوسف مع أهل الشام؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: ذكروا أن الحجاج بن يوسف كان قد اجْتَبَى قوماً من أهل العراق وجَدَ عندهم من الكِفاية ما لم يجد عند مختصيِّه من الشاميين؛ فشق ذلك على الشاميين وتكلموا فيه، فبلغ إليه كرمهم؛ فركب في جماعة من الفريقين، وأوْغَلَ بهم في الصحراء؛ فلاَحَ لهم من بُعْدٍ قطارُ إبل؛ فدعا برجل من أهل الشام، فقال له: أمْض فاعرف ما هذه الأشباح، واسْتَقْص أمرها، فلم يلبث أن جاء وأخبره أنها إبل فقال: أمحملة هي؟ أم غير محملة؟ قال: لا أدري، ولكِني أعود وأتعرف ذلك، وقد كان الحجاج أتبعه برجل آخر من أهل العراق، وأمر بمثل ما كان أمَرَ الشاميَّ، فلما رجع العراقي أقبل عليه الحجاج وأهل الشام يسمعون، ما هي؟ قال: إبل، قال: وكم عددها؟ قال: ثلاثون، قال وما تحمل. قال: زيتاً، قال: ومن أين صَدَرَتْ! قال: من موضع كذا قال: وأين قصدت؟ قال: موضع كذا، قال: ومَنْ ربها؟ قال: فلان فالتفت إلى أهل الشام، فقال:

ألام على عمرو، ولو مات أو نأى

 

لقلَّ الذي يُغْنِي غَنَاءَكَ يا عمرو

فقال ابن شيرزاد: فقد قال: يا أمير المؤمنين بعضُ أهل الأدب في هذا المعنى:

شر الرسولين مَنْ يحتاج مرسلُه

 

منه إلى العَوْدِ، والأمران سيَّان

كذاك ما قال أهل العلم في مَثَلٍ

 

طريقُ كلِّ أخي جهلٍ طريقان

قال المستكفي: ما أحسن ما وصف البحتري الرسول بالذكاء بقوله:

وكأنَّ الذكاء يبعث مـنـه

 

في سواد الأمور شُعْلَةَ نار

وعلم ابن شيرزاد استثقال المستكفي لغلام توزون؛ فأخبر توزون بذلك فأعفاه منه، وأزاله عن خدمته.

مسامرة في وصف الخمر

وحَدَّثَ أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق المعروف بابن الوكيل البغدادي قال: كان أبي قديماً في خدمة المكتفي، فلما كان من أمره ما اشتهر، صرت في خدمة ابنه عبد اللّه بن المكتفي، فلما أفْضَتِ الخلافة إليه كنت أخَصِّ الناس به؛ فرأيته في بعض الأيام وعنده جماعة من ندمائه ممن كان يعاشرهم قبل الخلافة من جيرانه بناحية دار ابن طاهر، وقد تذاكروا الخمر وأفعالها، وما قال الناس فيها من المنثور والمنظوم، وما وصفت به، فقال بعض مَنْ حضر: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً وصف الخمرة بأحسن من وصف بعض من تأخر؛ فإنه ذكر في بعض كتبه في الشراب ووصفه أنه ليس في العالم شيء واحد أخذ من أمهاته الأربع فَضِيلَتَهَا وابتزَهَا أكرم خواصها إلا الخمرة؛ فلها لون النار، وهو أحسن الألوان، وَلدُونَة الهواء، وهي ألين المجسَّاتِ، وعذوبة الماء، وهي أطيب المذاقات، وَبَرْدُ الأرض، وهي ألذ المشروبات، قال: وهذه الأربع وإن كُنَّ في جميع المآكل والمشارب متركبة فليس الغالب عليه ما وصفنا من الغالب على الخمر، قال واصفها: قد قلت في اجتماع الصفات التي ذكرنا فيها:

لست أرى كالراح في جَمْعِهَا

 

لأربع هُـنَّ قِـوَامُ الـورى

عذوبة الماء ولـينُ الـهـوا

 

وسخنة النار وبرد الـثـرى

ولما كانت الراح بالموضع الذي وصفناها به، من الفضل على سائر ما ينال من هذه الدنيا، كانت الأوصاف أحسن لها من سائر ما ينال ويوصف من صنوف اللذات والمدح بها بما تبعث من فنون الشهوات.

قال: فأما شعاع الخمر فإنه يشبه بكل شيء نوري، من شمس وقمر ونجم ونار، وغير ذلك من الأشياء النورية، فأما لونها فيحتمل أن يشبه بكل أحمر في العالم وأصفر، من ياقوت وعقيق وذهب، وغير ذلك من الجواهر النفيسة والحلى الفاخرة. قال: وقد شبهها الأولون بدم الذبيح، ودم الجَوْفِ، وشبهها غيرهم بالزيت والرازقي وغيرهما، وتشبيهها بالجوهر الأكرم أفضل لها، وأحسن في مدحها.

قال: فأما صفاؤها فيحتمل أن يشبه بكل ما يقع عليه اسم الصفاء وقد قال بعض الشعراء المتقدمين في صفائها:

تُرِيكُ القَذَى من دونها وَهْيَ دونه

وهذا أحسن ما قاله الشعراء في وصف الخمر، قال: وقد أتى أب نُوَاسٍ في وصفها ووصف طعمها وريحها وحسنها ولونها وشعاعها وفعلها في النفس وصفة آلاتها وظروفها وأدْنَانِهَا، وحال المنادمات عليها والاصطباح، والاغتباق، وغير ذلك من أحوالها، بما يكاد يغلق به باب وصفها، لولا اتِّسَاع الأوصاف لها، واحتمالها إياها، وأنّها لا تكاد تحصر ولا يبلغ إلى غاياتها، قال: وقد وصف أبو نُوَاسٍ نورها فقال:

فكأنها في كـفـه

 

شمس وراحته قمر

وقال:

فعلت في البيت إذ مُزِجَتْ

 

مثل فعل الصبح في الظُّلَم

فاهتدى سَاري الظَّلاَم بهَـا

 

كاهتداء السَّفْرِ بِالـعـلـم

وقال أيضاً:

بنت عشر صَفَتْ ورقَّتْ فلو صبَّتْ على الليل راح كل ظلام

وقال أيضاً:

إذا عَبَّ فيها شاربُ القوم خِلْتَـه

 

يُقَبِّلُ في داج من الليل كَوْكَـبَـا

ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً

 

وما لم تكن فيه من البيت مغربا

وقال أيضاً:

وكأن شاربها لفَرْطِ شعـاعـهـا

 

في الكأس يكرع في ضِيَا مقباس

وقال أيضاً:

فقلت له: ترفق بي فـإنـي

 

رأيت الصبح من خلل الديار

فقال تعجباً منـي: أصُـبْـحٌ

 

ولا صبح سوى ضوء العُقَارِ

وقام إلى الدنان فَسَدَ فـاهـا

 

فعاد الليل مصبـوغ الِإزار

وقال أيضاً:

وحمراء قبل المزج صفراء دونه

 

كأن شعاع الشمس يلقاك دونهـا

وقال:

كأن ناراً بها مُحَرَّشة

 

تهابها تارة وتخشاها

وقال أيضاً:

حمراء لولا إنكسار الماء لاختطفت

 

نور النواظر من بين الحمـالـيق

وقال أيضاً:

ينقضًّ منها شعاع كلما مزجـت

 

كالشُّهْبِ تنقضُّ في إثْر العفاريت

وقال:

عُتَقَتْ في الدنان حتى استفـادت

 

نور شمس الضحى وبَرْدَ الظلام

وقال:

فجوزَهَا عني عُقَارا ترى لـهـا

 

إلى الشرف الأعلى شعاعا مطنبا

وقال:

قال: ابْغِنِي المصباح، قلت لَه: اتئدْ

 

حَسْبِي وحَسْبُكَ ضوؤها مصباحا

فسكبت منها في الزجاجة شـربة

 

كانت لنا حتى الصباح صبـاحـا

قال: وله في هذا الفن أشياء كثيرة قد وصفها في مشابهة النار ومجانسة الأنوار والرفع للظلام، وتصيير الليل نهاراً والظلم أنواراً، مما هو إغراق الواصف واشتطاط المادح، قال: وليس إلى صفة لونها ونورها ما هو أحسن مما وصفها، إذ ليس بعد الأنوار شيء في الحسن، قال: فداخل المستكفي سرور وفرح وابتهاج بما وصف، فقال: ويحك!! فرج عني في هذا الوصف، قال: نعم يا سيدي.

قال عبد اللّه بن محمد الناشئ: وقد كان المستكفي تَرَكَ النبيذ حين أفْضَتِ الخلافة إليه، فدعا بها من وقته، ودعا إلى شربها، وقد كان المستكفي- حين أفضت الخلافة إليه- طَلَبَ الفضل بن المقتدر، على حسب ما قدمنا، لما كان بينهما من العداوة فيما ذكرنا، وغير ذلك مما عنه أعرضنا، فهرب الفضل، وقيل: إنه هرب إلى أحمد بن بُوَيْهِ الديلمي متنكراً، وأحسن إليه أحمد ولم يظهره، فلما مات توزون ودخل الديلمي إلى بغداد وخرج عنها صار إلى ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد اللّه بن حَمْدَان، وانحدر معه هو وابن عمه عبد اللّه بن أبي العلاء، فكان بينه وبين ابن بُوَيْهِ الديلمي من الحرب ما قد اشتهر، وانحاز الديلمي إلى الجانب الغربي ومعه المستكفي والمطيع مُخْتَفٍ ببغداد، والمستكفي يطلبه أشدَّ الطلب، وأنزل المستكفي في بيعة النصارى المعروفة بدُرْنَا من الجانب الغربي.

لابن المعتز في وصف سلة كوامخ

فذكر أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق المعروف بابن الوكيل، ومنزلتُهُ من خدمة المستكفي ما قدمنا، قال: كان المستكفي في سائر أوقاته فازعاً وَجِلاً من المطيع أن يلي الخلافة، ويُسَلّم إليه فيحكم فيه بما يريد، فكان صدره يضيق لذلك، فيشكو ذلك في بعض الأوقات إلى من ذكرنا ممن كان يألفه من ندمائه فيشجعونه ويهونون عليه أمر المطيع، إلى أن قال لهم في بعض الأيام: قد اشتهيت أن نجتمع في يوم كذا كذا فنتذاكر أنواع الأطعمة وما قال الناس في ذلك منظوماً، فاتفق معهم على ذلك، فلما كان في اليوم الذي- حضروا أقبل المستكفي فقال: هاتوا، ما الذي أعَدَّه كل واحد منكم. فقال واحد منهم: قد حضرني يا أمير المؤمنين أبيات لابن المعتز يصف سلة فيها سكارج كوامخ، فقال: هاتها، قال:

أمتع بسلة قضبـان أتـتـك وقـد

 

حَفَتْ جوانبها الجامات أسـطـار

فيها سكارج أنـواع مـصـفـفة

 

حمر وصفر وما فيهنَّ إنـكـار

فيهن كامخ طرخون مـبـوهـرة

 

وكامخ أحمـر فـيهـا وكـبـار

أعطته شمسُ الضحى لوناً فجاء به

 

كأنه من ضياء الشمس عـطـار

فيهنَّ كامخ مَرْزَ نجُوشَ قـابـلـه

 

من القرنفل نوع منه مـخـتـار

وكامخ الدار صيني فـلـيس لـه

 

في الطعم شِبْة ولا في لونه عار

كأنه المسك ريحاً في تنـسـمـه

 

حريف في طعمه والريح معطار

وكامخ الزَّعْتر الـبـريِّ إن لـه

 

لوناً حكاه لدينا المسـك والـقـار

وكامخ الثوم لما أن بصـرت بـه

 

أبصرت عطراً له بالأكل أمَّـارُ

كأن زيتونها فيهـا ظـلام دُجًـى

 

في الجنب منه من الممقور أسفار

إذا تأملت ما فيهن مـن بـصـل

 

كأنهـنَّ لـجـين حَـشْـوُهُ نـار

وسَلْجَمٌ مستدير القـد خـالـطـه

 

طعم من الخل قد حازته أسطـار

كأن أبـيضـه فـيه وأحـمـره

 

دراهم صففـت فـيهـن دينـار

في كل ناحية منها يلوح لها نجـم

 

إلينا بضوء الـفـجـر نـظَّـارُ

كأنها زهرة البستان قـابَـلَـهَـا

 

بدر وشمـس وإظـلام وأنـوار

في وصف سلة نوادر

قال المستكفي: تحضر هذه الجونة بعينها على هذا الوصف، وهاتوا، فلسنا نأكل اليوم إلا ما تصفون، فقال آخر من الجلساء: يا أمير المؤمنين لمحمود بن الحسين الكاتب المعروف بكشاجم في صفة سلة نوادر:

متـى نَـنْـشَـطُ لـــلأكـــل

 

فقـد أصـلـحـت الـجـونــه

وقـد زَينـهـا الـطــاهـــي

 

لنـا أحْـسَـنَ مـــا زينـــه

فجـاءت وَهْـيَ مــن أطـــي

 

ب مـا يؤكـل مـشـحـونـــه

فمـن جَـــدْي شَـــوَيْنَـــاهُ

 

وعـصـبـنـا مـصـارينـــه

ونضدنا عليه نعنع البقل وطرخونه

 

 

وفرخ وافر الزور

 

أجَـدْنَـا لـك تـسـمــينـــه

وطـــيهـــوج وفــــروج

 

أجَـدْنَـا لـك تـطـجــينـــه

وسـنـبـوسـجة مـقــلـــو

 

ة فـي إثــر طـــردينـــه

وحـمـراء مـن الـــبـــيض

 

إلـى جـانـب زيتـــونـــه

وأوســـاط شَـــطِـــيرَاتٍ

 

بزيت الـمـاء مـدهــونـــه

يولـدن لـذي الــتـــخـــمة

 

جوعــاً ويُشَـــهِّـــينَـــهْ

تدرنـج بـكـسـور الـــنـــدِّ

 

بالـعـنـبـر مـعـجـونـــه

وحـريف مـن الـجـــبْـــنِ

 

به الأوسـاط مـقـــرونـــه

وطـلـع كـالـلالــي فـــي

 

سمـوط الـغـيد مـكـنـونــه

وخـل تـــرعـــف الانـــا

 

ف مـنـه وهـي مـخـتـونـه

وبــاذنـــحـــان بـــوران

 

بخـه نَـفْـسُـك مـفـتـونــه

وهليون وعهدي بك تستعذب هليونه

 

 

ولوزينجة في الدهن والسكر مَدْفُونَهْ

 

 

وعندي لك رستيجة مطبوخ وقنينة

 

 

وساق وَعَدَتْ بالوصل

 

منـه عـطـفة الـنــونـــه

له شـــدة ألـــحــــــاظ

 

وفـي ألـفـاظـه لـــينـــه

وقُــمْـــرِيُّ يغـــنـــيك

 

لحـونـاً غـير مـلـحـونـــه

ألا يا مـن لــمـــحـــزون

 

نأى عـن دار مـحــزونـــه

فمــا عـــذرك فـــي أن لا

 

ترى مـن سـكـره طـينـــه

لابن الرومي في وصف وسط

فقال المستكفي: أحسنت وأحسن القائل فيما وصف، ثم أمر بإحضار كل ما يجري في وصفه مما يمكن إحضاره، ثم قال: هاتوا، مَنْ معه شيء في هذا المعنى؟ فقال آخر: في هذا المعنى لابن الرومي في صفة وسط:

يا سائلي عن مجمـع الـلـذات

 

سألت عنه أنْعَـتَ الـنُّـعَّـاتِ

فهاك ما أنشأتـه مـن قـصـه

 

مسلماً من شوبـه ونـقـصـه

خذ يا مريد المـأكـل الـلـذيذ

 

جردقَتَيْ خبز مـن الـسـمـيذ

لم تر عيناً ناظِرٍ مثـلـيهـمـا

 

فقشر الحرفين عن وجهيهـمـا

حتى إذا ما صارتا طفـاطـفـا

 

فاضفُ على إحداهما تفـايفـا

من لحم فروج ولـحـم فَـرْخٍ

 

تذوب جوذاباهما بـالـنـفـخ

واجعل عليها أسطراً مـن لـوز

 

معارضات أسطراً مـن جـوز

إعجابها الجبن مـع الـزيتـون

 

وشكلها النعنع بالـطـرخـون

حتى ترى بينهما مثل الـلـبـن

 

مقسومة كأنها وَشْـيُ الـيمـن

واعمد إلى البيض السليق الأحمر

 

فَدَرْهِم الـوَسـطَ بـه وَدَنَـرِ

وَتَرِّب الأسطر بالـمـلـح، ولا

 

تكثر ولكن قـدراً مـعـتـدلا

وَرَدِّدٍ الَعينـين فـيه لـحـظـا

 

فإن للعينـين مـنـه حـظـا

وَمَـتـع الـعـين بـه مَـلِـيّاً

 

وأطبق الخبـز وكـل هـنـيا

وأمسك بنابـيك وأكـدم كـدمـا

 

تسرع فيما قد بنـيت هَـدْمَـا

طوراً ترى كحـلـقة الـدولاب

 

حروفـه ودوره كـالـــداب

وتارة مثل الرحى بِلا سَـغَـبْ

 

قد شذبت عنها بنابيك الـشـذب

لهفي علـيهـا وأنـا الـزعـيم

 

بمعـدة شـيطـانـهـا رجـيم

في وصف سنبوسج

وقال آخر: يا أمير المؤمنين، لإسحاق بن إبراهيم الموصلي في صفه سنبوسج:

يا سائلي عن أطيب الطـعـام

 

سألت عنه أبْـصَـرَ الأنـام

أعمد إلى اللحم اللطيف الأحمر

 

فَدُقَّهُ بالشحم غير مُـكْـثـر

واطرح عليه بصـلاً مـدورا

 

وكرنباً رطباً جنياً أخـضـرا

والق السذاب بعـده مـوفـراً

 

ودار صيني وكف كـزبـرا

وبعده شيء من القـرنـفـل

 

وزنجبيلٍ صالـح وفـلـفـل

وكَفّ كمون وشيء من مري

 

وملء كَفّيْنِ بملـح تـدمـر

فدُقّـهُ يا ســيدي شـــديداً

 

ثم أوْقِد الـنـار لـه وقـودا

واجعله في القدر وَصُبَّ الماء

 

من فوقه واجعل له غطـاء

حتى إذا الماء فـنـى وَقَـلا

 

ونشفته النـار عـنـه كـلا

فلفه إن شـئت فـي رُقَـاقِ

 

ثم احكم الأطراف بالإلـزاق

أو شئت خذ جزءاً من العجين

 

معتدل التقريك مسـتـلـين

فابسطه بالسويق مسـتـديراً

 

ثم اطفرن أطرافه تطفـيرا

وَصُبَّ في الطابق زيتاً طيبـاً

 

ثم اقْلُهُ بالزيت قلياً عجـبـا

وضعه في جام له لـطـيف

 

ووسطه من خردل حـريف

وكله أكلا طيبـاً بـخـردل

 

فهو ألَذُّ المأكل المـعـجـل

في وصف هليون

فقال آخر: يا أمير المؤمنين، لمحمود بن الحسين بن السندي كشاجم الكاتب في وصف هليون:

لنا رماح في أعـالـيهـا أوَدْ

 

مُفَتَلاَت الجسم فتلاً كَالمَسَـدْ

مستحسنات ليس فيها من عُقَـدْ

 

لها رؤوس طالعات في جَسَدْ

مكسوة من صنعة الفَرْد الصَّمَدْ

 

منتصبات كالقداح في العمـد

ثوب من السندس من فوق بَرَدْ

 

قد أشربت حمرة لون يتـقـد

كأنها ممزوجة حـمـرة خـد

 

قد قرصت حمرَتَهُ كَفُّ حرد

فخالطتـه حـمـرة خـد وَيَدْ

 

كأنها في صحن جامِ أو بَـرَدْ

مُنَضِّدَات كتنـاضـيد الـزَّرَدْ

 

نسائج العسجد حسناً منتضـد

كأنها مطرف خز قد مـهـد

 

لو أنها تبقى على طول الأبـد

كانت فصوصاً لخواتيم الخـرد

 

من فوقها مري عليها يطـرد

يجول في جانبها جَـزْر ومـد

 

قكْسُوَة من زيتها ثـوب زبـد

كأنه من فوقـه حـين لـبـد

 

شراك تبر أو لجين قد مسـد

فلو رآها عابد أو مجـتـهـد

 

أفْطَرَ مما يشتهيها وَسَـجَـدْ

فلما فرع منها قال له المستكفي: هذا مما يتعذر وجوده في هذا الوقت بهذا الوصف في هذا البلد، إلا أن نكتب إلى الإخشيد محمد بن طغج يحمل إلينا من ذلك البر من دمشق، فأنشدونا فيما يمكن وجوده.

في وصف أرزية

قال آخر: يا أمير المؤمنين، لمحمد بن الوزير المعروف بالحافظ الدمشقي في صفة أرزية:

للَّـه در أرزَّةٍ وافـى بـهـا

 

طاهٍ كحسن البدر وسط سماء

أنقى من الثلج المضاعف نَسْجُه

 

من صنعة الأهواء والأنـداء

وكأنها في صحـفة مـقـدودة

 

بيضاء مثل الدرة البـيضـاء

بَهَرَتْ عيون الناظرين بضوئها

 

وتريك ضوء البدر قبل مساء

وكأن سُكَّرَها على أكْنَافـهـا

 

نُورٌ تَجَسَّدَ فوقهـا بـضـياء

في وصف هريسة

فقال آخر: يا أمير المؤمنين، أنشدت لبعض المتأخرين في هريسة:

ألَذًّ ما يأكـلـه الإنـسـان

 

إذا أتى من صيفه نـيسـان

وطالت الجديان والخرفـان

 

هريسة يصنعها النـسـوان

لهنَّ طيب الكف والإتـقـان

 

يُجْمَع فيها الطير والحملان

وتلتقي في قِدْرِهَا الأدهـان

 

واللحم والألية والشحمـان

وبـعـده إوزة سـمــان

 

وَالْحِنْطَةُ البيضاء والجلبـان

وبعد هذا الـلـوز والإِبـان

 

جَوَّدَهَا بطَحْنِهِ الطَّـحـان

وبعده الملح وخولـنـجـان

 

قد تعبت لعقدهـا الأبـدان

تخجل من رؤيتهـا الألـوان

 

إذا بدت يحملها الغلـمـان

تضمها الصحفة والْـخِـوان

 

وفوقها كالقَبْـوِ خـيزران

يمسكه سقف له حـيطـان

 

مُقَبَّـبٌ ومـا لـه أركـان

أبرزها للأكِـل الـولـدان

 

تفتر من لهيبها الـعـينـان

والمرء فيها فلـه مـكـان

 

يؤثرها الْجَائِع والشبـعـان

ويشتهيها الأهل والضيفـان

 

لها على أضرابها السلطان

تصفو بها العقول والأذهـان

 

وانتفعت بأكلـهـا الأبـدان

أبدعها في عصره ساسـان

 

وأعجبت كسرى أنو شروان

إذا رآها الجَائِع الغَـرْثَـانُ

 

لم يُعْطَ صبراً معها الجيعان

في وصف المضيرة

وقال آخر: يا أمير المؤمنين، لبعض المتأخرين في صفة المَضِيرَة:

إنَّ المَضِيرَةَ في الطعام

 

كالبدر في ليل التـمـام

إشراقها فـوق الـمـوا

 

ئد كالضياء على الظلام

مثل الهلال إذا بدا للناس

 

في خَلَـل الـغـمـام

في صحفة مملوءة للناس

 

من جـزع الـتِّـهَـام

قد أعجبت لأبي هـريرة

 

إذ أتت بين الـطـعـام

حتى لقد مال الـهـوى

 

بهواه عن طلب الصيام

ولقد رأى في أكـلـهـا

 

حَظّا فبادر بـالـقـيام

ولقد تنـكَّـبَ أن يكـو

 

ن مؤاكلاً عنـد الِإمـام

إذ ليس ثَـمَّ مَـضِـيرَةٌ

 

تشفي السقيم من السَّقَام

لا غَرْوَ في إتـيانـهـا

 

من غير إتيان الحـرام

فهي اللذيذة والـغـريبة

 

والعجـيبة فـي الأنـام

في وصف جوذابة

وقال آخر: يا أمير المؤمنين، لمحمود بن الحسين في صفة جوذابة:

جوذابة مـن أرز فــائق

 

مصفرة في اللون كالعاشق

عجيبة مشـرقة لـونُـهَـا

 

من كَفِّ طاهٍ محكم حـاذق

نسيجة كالتبر في حُـمْـرَة

 

وَرْدِية من صنعة الخالـق

بسكر الأهواز مصـبـوغة

 

فطعمها أحلى من الـرائق

غريقة في الدهن رَجْـرَاجَة

 

تَدُور بالنَّفْـخ مـن الـذائق

لينة مـلـمـسـهـا زبـدة

 

وريحها كالعنبر الـفـائق

كأنها في جامهـا إذ بَـدَتْ

 

تزهر كالكوكب في الغاسق

عقيقة صفْرَتُـهَـا فـاقـعِ

 

في جيد خودٍ بَضّة عاتـق

أحلى من الأمن أتى مؤمنـاً

 

إلى فؤاد قـلـقٍ خـافـق

في وصف جوذابة

وقال آخر: يا أمير المؤمنين، معي لبعض المحدثين في صفة جوذابة:

وجوذابة مثل لـون الـعـقـيق

 

وفي الطعم عندي كطعم الرحيق

منِ السكر المحض مـعـمـولة

 

ومن خالص الزعفران السحيق

مُغرَّقة بـشـحـوم الـدَّجَـاج

 

وبالشحم، أكْرِمْ بها من غـريق

لذيذةُ طعمٍ إذا اسـتـعـمـلـت

 

وفي اللون منها كلون الخلـوق

عليها اللالـئ مـن وفـقـهـا

 

تضم جوانبـهـا ضـم ضِـيقْ

يُرَدِّدهـا فـي الإِنـا نـفــخة

 

وما في حلاوتها من مـطِـيق

في وصف قطائف

وقال آخر: يا أمير المؤمنين، لمحمود بن الحسين كشاجم في صفة قطائف:

عندي لأصحابي إذا اشتدَّ السغب

 

قطائف مثل أضابير الكـتـب

كأنه إذا ابتدى من الـكـثـب

 

كَوَافر النحل بياضاً قد ثـقـب

قد مَجَّ دهن اللوز مما قد شرب

 

وَابْتَل مما عام فـيه وَرَسَـبْ

وجاء ماء الورد فـيه وذهـب

 

فهي عليه حَبب فوق حَـبَـبْ

إذا رآه واله القـلـب طـرب

 

مدرج تدريج أبناء الـكـتـب

أطيب منه أن تراه ينـتـهـب

 

كل امرئ لَذَّتُهُ فـيمـا أحـب

لأبي نواس في وصف باطرنجا

فأقبل المستكفي على معلم كان يعلمه في صباه طيب النفس، وكان يضحك منه ويستطرفه، فقال له: قد أنشدنا ما سمعت، فأنشدنا أنت، قال: لا أدري ما قال هؤلاء، وما أنشدوا، غير أني مضيت في أمس يومنا هذا أدور حتى أتيت باطرنجا، فرأيت رياضها، فذكرت قول أبي نُوَاس فيها، فواللّه لقد شجاني، وذهب بي كل مذهب، فقال له المستكفي: وما الذي قال أبو نُوَاس، ووصف من أمرها؟ قال:

نومُ عـينيك يا ابـن وهب غِرَارُ

 

ولنار الهـوى بقـلـبـك نـــار

 

باطرنجا بها ثَوَائي ولي

 

فيها إذا دارت الكؤوس اعتبار

 

من حديثي أني مررت بها يَوْ

 

ماً وقلـبي من الهوى مُـسْـتَـطَـار

 

وبها نَرْجِـسٌ ينـادي غـلامـي

 

قف فقد أدرَكَـتْ لدينـا الـعـقـار

 

وتغنَّى الدرَّاج واستمطر

 

اللهو وجادت بِنَوْرِهَا الأزهار

 

 فانثـنـينـا إلى رياض عـيون

 

ناظـرات ما إنْ بهِنَ احْوِرَارُ

ومكان الجفون منهـا ابيضاض

 

ومكان الأحداق منهـا اصفرار

بينمـا نحن عندها صَرَخَ الوَرْ

 

دُ: إلينـا يا أيُّهَا السُّمَّــار

عندنـا قهوة تغـافل عـنهـا

 

دهرهـا فالوجود منها خُمَـارُ

وانثنينا للورد من غير أن

 

تنبو عَنِ النّرْجِس المُضَاعف دار

فرأى النّرْجِس الذي صنع الوَرْ

 

د، فنادى مسـتصرخاً: يا بَهَـارُ

ورأى الورد عسكرين من

 

الصفر فنادى فجاءه الْجُلَّـنَـارُ

واستجاشا تُفّاحَ لُبْنَان لمَّا

 

حَمِيَتْ مـن وطـيسها الأوتـار

واستجاش البَهَارُ جيشاً

 

من الأتْرُجِّ فيه صِغَارُه والكـبـار

فرأيت الربيع في عسكَرِ

 

الصفر وقلبي يشفه الاحْمِرَارُ

ليس إلا لحمرة من خُدُودٍ

 

من أنَاس بَـغَـوْا علينا وَجَارُوا

           

فلم أر المستكفي منذ ولي الخلافة أشد سروراً منه في ذلك اليوم، وأجاز جميع مَنْ حضر من الجلساء والمغنين والملهين، ثم أحضر ما حضره في وقته من عَيْنٍ وَوَرِقٍ مع ضيق الأمر إليه، فواللّه ما رأيت له بعد ذلك يوماً مثله، حتى قَبَضَ عليه أحمد بن بُوَيْهِ الديلمي، وسَمَلَ عينيه، وذلك أن الحرب لما طالت بين أبي محمد الحسين بن عبد اللّه بن حمدان- وكان في الجانب الشرقي ومع الأتراك- وابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان، وبين أحمد بن بُوَيْهِ الديْلَمِي في الجانب الغربي، والمستكفي معه، اتهم الديلمي المستكفي بمسألة بني حَمْدَان ومكاتبتهم بأخباره، وإطلاعهم على أسراره، مع ما كان تقدم له في نفسه، فَسَمَلَ عينيه، ووَلّى المطيع، وأعمل الديلمي الحيلة في البيان بالديلم، فحملهم في السفن مع بوقات ودسَّابات فيِ الليل، وألقاهم في مواضع كثيرة من الشارع إلى الجانب الشرقي؛ فتَوَجَّهَتْ له على بني حَمْدَان الحيلة فخرجوا نحو الموصل من بعد أحداث كثيرة بين الأتراك وبينهم ببلاد تكريت، واستوثق الأمر لأحمد بْن بُوَيْهِ الديلمي، وشرع في عمارة البلد، وسد البُثُوقَ، على حسب ما ينمو إلينا من أخباره، واتصل بنا من أفعاله، على بعد الدار، وفساد السبل، وانقطاع الأخبار، وكوننا ببلاد مصر والشام.
قال المسعودي: ولم يتأتَّ لنا من أخبار المستكفي- مع قِصَرِ أيامه- غير ما ذكرنا، واللّه الموفق للصواب.