في قلب الأنظومة الثقافيّة وعلى صورتها نشأت الأنظومة الدينيّة . ذلك لأنّنا إذا قرأنا ما خصّ الدين في رسم الأنظومة الثقافيّة ، وجدنا مجال الدين يحتوي على معتقدات وعبادات وأخلاقيّات ونُظم اجتماعيّة ، ثمّ وجدنا بمثابة القيمة الدينيّة الله أو الكائن الأسمى أو واجب الوجود ، ثمّ وجدنا الإيمان بمعنى التسليم أي فعل الاعتقاد والطاعة أو بمعنى السعي إلى أصالة الكيان ، وأخيرًا وجدنا ما يفترضه هذا التسليم ، وهو طلب الخلاص ، وما يفترضه هذا السعي ، وهو طلب المطلق .
هذه العناصر تكوّن أنظومةً محورها الله ، بمعنى أنّه إذا لم يكن ثمّة إله ما كان دين قطّ . ومن وجه آخر ، يمكن القول إنّ الإيمان هو شرط وجود الدين ، بمعنى أنّ الدين كأنظومة هو التعبير الثقافيّ عن طلب الخلاص أو طلب المطلق . إذًا أمكن النظر إلى الدين من جهة الله أو من جهة الإنسان . ممّا يعني أنّ الدين إمّا أن يكون قد أنزله الله هدايةً للإنسان وأنّه ملتقى الله والإنسان أو هيئة العلاقة بينهما - وهذا ما يقوله التصوّر الدينيّ للدين - ، أو أن يكون من صنع الإنسان ، وذلك إمّا بأن يكون الدين مجرّد نتيجة لعوامل نفسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة وثقافيّة - وهذا ما يقوله التصوّر اللادينيّ - أو بأن يكون نتيجةً لطاقة في الإنسان ، هي طلب المطلق ، تدفعه إلى تجاوز وضعيّته الإنسانيّة نحو اكتماله وحقيقته - وهذا ما يقوله التصوّر الأنتروبولوجيّ للدين في محاولة للتوفيق بين التصوّر الدينيّ والتصوّر اللادينيّ .
1- الدين وتساؤلات الناس وحاجاتهم
لمّا كان أيّ تصوّر أو فكر مرتبطًا عضويًّا بالحياة ، كانت وظيفته الإجابة عن تساؤلات مصيريّة ، تلبيةً لحاجات بشريّة جوهريّة . وقد تكون الإجابة إمّا إجابة يقينيّة ترمي إلى الطمأنة الذاتيّة ، أو إجابة حقيقيّة تجهد كي تكون موضوعيّة ومطابقة للواقع . وهذه التساؤلات والحاجات تنبثق من أوضاع ومعاناة يعيشها الناس . فكانت الحاجة إلى معرفة ما هو الكون ، وما هو موقع الإنسان في الكون ، وما هو مصدر الكون والإنسان ومصيرهما . وكانت الحاجة إلى معايير وقواعد سلوكيّة تؤمّن المصير الصالح لمن أراد تحاشي المنكَر والعمل بالمعروف . وكانت الحاجة إلى نُظم اجتماعيّة تيسّر السلوك وفاقًا للمعايير الأخلاقيّة .
1-1- التصوّر الدينيّ
هذه التساؤلات يدّعي التصوّر الدينيّ الإجابة الصحيحة عنها . وهذه الحاجات يدّعي التصوّر الدينيّ تلبيتها مليًّا . وذلك في شكل أنظومة متماسكة العناصر ، أفرزتها منطلقات أضفت على هذا التصوّر الصفة الدينيّة .
ينطلق الفكر الدينيّ من افتراض علاقة بين قطبَين ، هما الله والإنسان . المبادرة والأساس من عند الله ، بحيث كانت قاعدة هذا الفكر ، بما هو دينيّ ، الوحي أو التنزيل . فبات على الفكر الدينيّ أن يسعى ما استطاع إلى فهْم كلام الله ، أكان هذا الكلام بالكائنات جميعًا ، أم كان مدوَّنًا في توراة أو إنجيل أو قرآن ، أم كان متجسّدًا أو متجلّيًا في شخص بشريّ . ومن منطلقات الفكر الدينيّ أنّ كلام الله يفوق الإدراك البشريّ ، لما يحتويه من ورائيّات وغيبيّات ، وأنّ الغرض منه هداية الناس في دنياهم كي يحظوا بنعيم الآخرة . أمّا موقف الإنسان من كلام الله المنزَل ، فهو الموقف الإيمانيّ على أشكاله . منها الإيمان الصرف ، وهو يُعرِض عن تساؤلات العقل ويكتفي بحرفيّة النصّ المنزَل وبالسلوك وفقًا لأحكام الشريعة المنزَلة . ومنها محاولة إدراك معطيات الوحي ، سواء عن طريق الاختبار الصوفيّ ، أو عن طريق التنظير . والتنظير الإيمانيّ يكون بإخضاع العقل واستخدامه لوضع ما يسمّى بعلم اللاهوت أو بعلم الكلام . وغالبًا ما يؤدّي هذا التنظير إلى العَقَديّة فإلى التعصّب . ومن أشكال الموقف الإيمانيّ موقف التأمّل والتزام الصمت حيال كلام إلهيّ يفوق بحدّ ذاته الإدراك البشريّ .
هذه الأنظومة يفرزها الموقف الإيمانيّ العقَديّ ، بهدف تثبيت اللحمة بين المؤمنين وجعلهم جماعة متماسكة ، تجد في الدين ما يجيب عن تساؤلاتها المصيريّة وما يلبّي حاجاتها الجوهريّة . فتألّفت الأنظومة الدينيّة من ثلاثة أجزاء ، يلبّي كلٌّ منها حاجة من الحاجات الثلاث البشريّة الجوهريّة ، وهي المعتقدات ، والعبادات والأخلاق ، والنُظم الاجتماعيّة . تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحاجات يمكن ردّها إلى حاجة واحدة ، هي المعرفة ، أي معرفة الكون والإنسان ، ومعرفة ما على الإنسان أن يفعل ، ومعرفة موقعه في الجماعة . فالمعتقدات تشمل الجواب عن هذه التساؤلات كلّها . لكن قد يفيد الفصل بين المعرفة والعمل والتموقع .
وظيفة العقائد تلبية الحاجة إلى المعرفة . وفحواها أنّ الإنسان ينتمي إلى عالمَين ، عالم الدنيا ، وهو عالم الظاهر والحاضر ، وعالم الآخرة ، وهو عالم الماورائيّات والغيبيّات . أمّا ربّ العالمَين ، فهو الله ، ذلك الكائن الفوقيّ الذي كلٌّ منه وإليه ، حيث هو الخالق والمدبّر ، وصاحب الوحي والتنزيل ، وربّ المعاد ، والحاكم العدل الرحيم .
وأوّل المعتقدات أنّ مصدرها هو الوحي الإلهيّ ، وأنّ موضوعها هو الإلهيّات ، على وجه العموم ، وما ينبغي أن يعرفه الناس عن الكون وعن عالمهم وطرائق عيشهم ، على وجه الخصوص .
وعن هذه العقائد ثمّة تعبير أوّليّ ، على الصعيد العفويّ ، في شكل القَصص أو ما يسمّى بالأساطير ، وفي شكل ما يُعتَبر كتبًا مقدّسة أُنزلت على الأنبياء . على هذا الصعيد الأساسيّ يتميّز الفكر الدينيّ بكونه فكرًا رمزيًّا ، ملازمًا للذاتيّة وللمشاعر وللخيال ، وبكونه فكرًا وجوديًّا ، بدليل أنّه يضفي على المعتقدات شكلاً روائيًّا تُسرَد فيه حوادث تاريخيّة يُعتَقد فيها أنّها واقعيّة .
ثمّ في مرحلة ثانية ، يتطوّر الفكر ويتّخذ شكلاً منطقيًّا . عندها تتألّف النظريّات اللاهوتيّة . وهذه الأنظومات المندرجة في خانة الفكر التصوّريّ تنقل الفكر الدينيّ إلى عالم العقلانيّة . إلاّ أنّها تختلف باختلاف المفاهيم الفلسفيّة التي يستخدمها المنظّرون لإنشاء نظريّاتهم ، علمًا أنّ المنظّرين على اختلافهم يؤكّدون أنّ نظريّاتهم تقتصر على كونها محاولات لفهم المعطى المنزَل الواحد الثابت المدوَّن أساسًا في الكتب المقدّسة .
وظيفة العبادات والأخلاق تلبية الحاجة إلى معايير العمل الصالح . فالعبادات تلبّي حاجة الإنسان إلى الاتّصال بالله ، وهذا هو المنشود الأسمى . والأخلاق تنظّم السلوك وفقًا لأحكام الشريعة المنزَلة ، وهذا أيضًا نوع من الاتّصال المنشود بالله . فيكون الإنسان بذلك قد ربط مساره البشريّ بالمثُل الإلهيّة ، واطمأنّ إلى مصيره .
من مقوّمات الوجود الإنسانيّ الرغبة في أن يقوم الإنسان بأفعال يعتبرها مثاليّة . والمثال ، في صدد هذه الأفعال ، هو ما يُعتقَد فيه أنّه يقرّب إلى الله لكونه موافقًا لما أمر به الربّ . تلبّي هذه الرغبةَ ، على الصعيد العفويّ ، العباداتُ والشعائر الدينيّة . ومنها الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وتقريب الذبائح والقرابين . ويعتقد المتديّن أنّ لهذه العبادات والشعائر فعّاليّة روحيّة ، بمعنى أنّها تضفي على مَن يمارسها طابع القداسة ، وأنّها تؤمّن اتّصاله بالألوهة . أمّا على الصعيد العقلانيّ ، فتنشأ نظريّات أخلاقيّة ، تهدف إلى تنظيم حياة المتديّن بحيث تتوافق والشريعة الإلهيّة .
وظيفة النُظم الاجتماعيّة إقامة المجتمع الدينيّ ، حيث يجد كلّ فرد من الجماعة موقعه ويطمئنّ لما يتوفّر له فيه من تكافل اجتماعيّ ومن تيسير لسلوكه وفقًا لأحكام الشريعة الإلهيّة . والمجتمع الدينيّ ، كأيّ تجمّع بشريّ ، هو مجتمعٌ تراتبـيّ ، فيه الآمر والمطيع ، المتكلّم والمستمع ، المعلِّم والمتعلِّم . ذلك أنّ البشر متى اجتمعوا كان فيهم القائد الموجِّه ، يتبعه سائر الشعب . ومتى انتظم المجتمع الدينيّ ، كان فيه رجل الدين ، كاهنًا أو فقيهًا ، يضطلع بوظيفة الحكم والتوجيه ، وكان الشعب المؤمن ، الساعي في دنياه ، يأتمر بتوجيه الشريعة الإلهيّة من خلال توجيه رجل الدين المؤتمَن على كلام الله وشريعة الله .
يسعى الإنسان الفرد إلى أن ينخرط في مجموعة بشريّة ، تلبيةً لحاجةٍ فيه فطريّة إلى الأمان والتأكّد من هويّته . ومعلوم أنّ أدنى أشكال هذه الحاجة هو غريزة التجمّع . أمّا على صعيد الوعي والعقل ، فإنّ هذه الحاجة تتّخذ شكل التنظيم المجتمعيّ ، حيث يعرف كلّ فرد من أفراد الجماعة موقعه ووظيفته . من هنا كانت المؤسّسات الدينيّة ، وكان مجموعها ما سمّي جماعة المؤمنين ، أو ، في المسيحيّة ، البيعة ( نقلاً عن الآرامية ) ، أو الكنيسة ( نقلاً عن العبريّة ) ، وقد سمّيت الكنيسة أو البيعة باليونانيّة ژjjkgr¬a وباللاتينيّة ecclesia ، بمعنى الجماعة أو الجمعيّة أو تجمّع الشعب .
قد يفيد وصف الكنيسة المسيحيّة ، مثلاً ، بما هي مجتمع دينيّ . انتظمت الكنيسة في شكل مجتمعٍ دينيّ يقابله المجتمع المدنيّ . ولكون التنظيم الكنسيّ المسيحيّ تأثّر بشكل التنظيم الدينيّ اليهوديّ وبشكل التنظيم المدنيّ الرومانيّ ، اتّخذت الكنيسة شكلاً هرميًّا كان على قمّته مَن تسلّم سلطته أو استمدّها من الله . وانطلاقًا من هذه القمّة أو هذا المركز توزّعت السلطة بالتدريج ومورست على القاعدة أي الشعب المتديّن . فكانت الكنيسة طبقتين ، طبقة أصحاب السلطة وطبقة الشعب .
أمّا وظائف السلطة الدينيّة ، فهي ثلاث . أولاها سلطة التعليم ، بحيث اتّخذت المعتقدات شكلاً مؤسّسيًّا . وفي ذلك دلالة على أنّ الغرض من التصوّرات الدينيّة ليس المعرفة بل الانسجام المجتمعيّ بهدف الحفاظ على وحدة الجماعة الدينيّة وتأمين ديمومتها . والوظيفة الثانية هي الحكم ، أي ممارسة السلطة بالأمر والقضاء والتوجيه . فكانت الحياة الدينيّة حياةً مؤسّسيّة لا مجال فيها لحرّيّة التصرّف . ومعلوم أنّ السلطة ، أيّ سلطة ، في المجتمعات البشريّة تسعى إلى احتواء الحرّيّة الفرديّة وحصر مبادراتها في أضيق ما أمكن من الإطارات المؤسّسيّة . أمّا الوظيفة الثالثة ، فهي التقديس . ويعني التقديس ما يقوم به رجال الدين ممّا سمّي بتوزيع الأسرار على الشعب المتديّن . والأسرار هذه ترافق جميع محطّات الحياة أو حالاتها ، فكان سرّ المعموديّة ، وسرّ القربان ، وسرّ الزواج ، وغيرها . فجعلت وظيفة التقديس الحياةَ اليوميّة حياةً مقدّسة ، ووطّدت سلطة رجال الدين على الشعب المتديّن .
وقد تكرّس الشكل الهرميّ للكنيسة وتكرّست وظائف السلطة الدينيّة في تدوين ما سمّي بالحقّ القانونيّ أي التشريع الكنسيّ . فكان تنظيم الأشخاص وتوزيعهم فئات ، هي فئة الكهنة أي رجال الدين وما سمّي بالإكليروس ، وفئة المترهّبين أي الذين اعتزلوا الدنيا ، وفئة العَلمانيّين أي سائر الشعب المتديّن . وكان أيضًا تنظيم الأماكن وتوزيعها رعايا وأبرشيّات وبطريركيّات ، يقوم على رأس كلٍّ منها رجال دين كلٌّ وفق درجته في الهيكليّة الهرميّة . وكان أخيرًا تنظيم الأزمنة المقدّسة ، فكان توزيع الأعياد الدينيّة وفق مراحل حياة المسيح ، وكان أيضًا وضع أزمنة خاصّة لتوزيع الأسرار .
وفضلاً عن الحاجة إلى التنظيم المجتمعيّ ، ثمّة الحاجة إلى المشاركة في الحياة الجماعيّة ، يلبّيها الالتزام في مختلف ميادين النشاط الاجتماعيّ البشريّ . والالتزام هو التزام العَلمانيّين المتديّنين كلٍّ في موقعه ومسؤوليّاته العائليّة والمهنيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة . أمّا المبدأ الذي يحكم الالتزام ، بحسب الأنظومة الدينيّة ، فهو ما سمّي ، في المسيحيّة ، رسالة العَلمانيّين ، وهدفه بناء المدينة الزمنيّة على صورة الملكوت السماويّ المنتظَر وتمهيدًا له . ويتمّ ذلك باستيحاء تعاليم الإنجيل وبتوجيه من السلطة الكنسيّة .
أمّا الالتزامات ، فمنها الاجتماعيّة ، في أعمال البرّ والإحسان ، والمدارس ، والمستشفيات ، ووسائل الإعلام ، وفي ما سمّي بالعمل الكاثوليكيّ العامّ والخاصّ . ومنها الاقتصاديّة ، في مختلف نواحي الحياة الاقتصاديّة الجماعيّة ، بهدف وضع حلول لمسألة علاقة المسيحيّين بالمال ، ومسألة علاقة الكنيسة بالحياة الاقتصاديّة العامّة ، ومسألة مساهمة الكنيسة بمقدّراتها وممتلكاتها في خدمة الإنماء الاجتماعيّ . ومنها السياسيّة ، حيث تُطرح مسألة الأحزاب المسيحيّة ، ومسألة السياسة الكنسيّة أي تدخّل الكنيسة في سياسة المجتمع المدنيّ . وكون هذه الالتزامات يحكمها ويوجّهها رجال الدين وطّد سيطرة رجال الدين في المجتمع الدينيّ وفي المجتمع المدنيّ . من هنا كان التساؤل حول الفصل أو الدمج بين المجتمعَين . وكان الجواب من تاريخ العلاقة بين الدين والثقافة ، كما سيرد لاحقًا .
من هذه الأوصاف للفكر الدينيّ نستخلص أوصاف الإنسان وماهيّته . في نظر الفكر الدينيّ ، ما الإنسان إلاّ كائن مخلوق . فهو إذًا خاضع لمشيئة خالقه ، المتمثّلة بالسلطات الدينيّة وبالسلطات الزمنيّة ، المستمَدّة كلّها من السلطة الإلهيّة . وهو يسعى في دنياه قاصدًا نعيم الآخرة . من هنا تحدّدت إنسانيّة الإنسان بصلته بالله ، بحيث لا يكون الكائن البشريّ إنسانًا حقًّا متكاملاً إلاّ إذا كان مؤمنًا ، ولا يكون التجمّع البشريّ مجتمعًا إنسانيًّا حقًّا متكاملاً إلاّ إذا اجتمع على الإيمان الواحد والدين الواحد .
1-2- التصوّر اللادينيّ
لفهم نشوء التصوّر اللادينيّ أو العلمانيّ للدين ، علينا الوقوف أوّلاً على مراحل تطوّر العلاقة بين الدين والثقافة . وقد يكون لنا ذلك بتحليل نظريّ لهذه المراحل ، يليه وصف تاريخيّ واقعيّ لها .
في التحليل النظريّ ، كانت العلاقة بين الثقافة والدين ، كما بين كلّ اثنين ، أوّلاً علاقة انسجام تامّ ، ثمّ أخذ كلٌّ من الطرفَين بالابتعاد عن الآخر ، ثمّ قامت بينهما خصومة ، لكن مع إمكان إعادة الوفاق بينهما .
مرحلة الانسجام : في أوّل تكوين جماعةٍ ما يقوم الدين بدورٍ تأسيسيّ ، بمعنى أنّ الحياة الجماعيّة هي التي تفرز الأنظومة الثقافيّة والأنظومة الدينيّة على السواء . فالدين يتكوّن بتجميع القيم الجوهريّة المميّزة للثقافة ، ويقوم بالتعبير عن الإيمان بواسطتها . بذلك يكون الدين جوهر الثقافة ، ويكون في الوقت نفسه تعبيرًا يدرك معناه أيُّ فردٍ من أفراد الجماعة . وفي هذه المرحلة التأسيسيّة يفعل الدين فعله في تكوين مجتمعٍ متماسك . ولمّا كان مثل هذا المجتمع قائمًا على القيم الثقافيّة الدينيّة الجوهريّة ، بات أفراده يعتبرونه مجتمعًا مقدّسًا يتقدّس فيه أيّ عمل من الأعمال الدنيويّة .
مرحلة التباعد : من جوهر الثقافة أن تتطوّر لكون المجتمع يحتاج إلى التكيّف مع محيطه ومع ظروف هذا المحيط المتغيّرة ، في حين أنّ الدين ، لكونه تأسّس على قيم جوهريّة ثابتة ولكونه تحوّل إلى أنظومة مؤسّسات ، اعتبره رجاله شيئًا مطلقًا ، شأنه في ذلك شأن أيّ أنظومة وأيّ مؤسّسة . فظهر الفرق بين الدين والثقافة ، وأخذ يتحوّل الفرق تباعدًا وانفصالاً بين المجتمع الدينيّ والمجتمع المدنيّ . في هذه المرحلة كان للدين من القوّة ما جعله يحاول التحكّم بالثقافة والعمل على جعل المجتمع المدنيّ يتمثّل بالمجتمع الدينيّ . فوقف إذّاك موقف المنافس للثقافة وللمؤسّسات الاجتماعيّة ، المتحالف أو المتعارض معها ، بدلاً من أن يقوم بدوره كشاهدٍ للمعنى وللإيمان في قلب متغيّرات الوضعيّة الإنسانيّة .
مرحلة الخصومة : وكان لا بدّ من أن يتحوّل التنافس إلى خصومة ومنازعة . ومّما دفع في هذا المنحى إنجازات الثقافة في مجال العلم والتقنية ، أي معرفة قوانين العالمَين الطبيعيّ والإنسانيّ ، والسيطرة عليهما . فكان التشكيك في الأنظومة الدينيّة ، حيث تعرّضت للانتقاد من الخارج أي من جهة الملحدين ، ومن الداخل أي من جهة المتديّنين المطالبين بإصلاح أحوال الدين كي يستعيد دوره ومبرّر وجوده كتعبير صادق عن الإيمان . فكانت هذه المرحلة مرحلة العَلمنة أي تحرير الثقافة والمجتمع من هيمنة الدين ورجال الدين . وأوجه العَلمانيّة تقابل أوجه الأنظومة الدينيّة وجهًا وجهًا ، أي أشكال التعبير الدينيّة .
أمّا المراحل التاريخيّة الواقعيّة للعلاقة بين الدين والثقافة ، فكانت في الغرب المسيحيّ على الشكل الآتي .
نشأ الفكر العَلمانيّ في أوروبا ، في أواخر القرون الوسطى ، ثورةً على هيمنة الدين وتسلّط رجال الدين واضطهادهم لأصحاب الفكر وإذلالهم الناس باسم الدين . وكانت نشأته نتيجةً للتقدّم العلميّ الذي تلى استقلال العلم عن الفلسفة وماورائيّاتها وعن الدين وغيبيّاته . وفي مراحل تكوينه برزت القيَم التي ارتكز عليها ، والتي قامت عليها منطلقاته وتصوّره لما هو الإنسان .
وكانت المرحلة الأولى من مراحل تكوينه ما سمّي بعصر النهضة في القرن السادس عشر . وتميّزت هذه المرحلة بأوجه ثلاثة . أوّلها المذهب الإنسانيّ ، القائل بالإنسان قيمةً مركزيّة . وثانيها بدايات الثورة العلميّة ، القائلة بالاختبار مصدرًا للمعرفة الصحيحة . وثالثها حركة الإصلاح الدينيّ ، القائل باستقلاليّة الفرد عن أيّ وسيط بشريّ بين الإنسان الفرد وربّه.
وكانت المرحلة الثانية ما سمّي بعصر التنوير في القرن الثامن عشر ، حيث تألّه العقل ، لكونه سيّد نفسه ، ولكونه ما تميّز به الإنسان من سائر الكائنات ، ولكونه مصدر القيَم والمعايير والمعارف والقوانين وسائر وجوه الحضارة .
وكانت المرحلة الثالثة جملة الثورات السياسيّة : بدءًا بالثورة الفرنسيّة ، في أواخر القرن الثامن عشر ، وكانت ثورةً بورجوازيّة ، قالت بالحرّيّة والفرديّة قيمةً مطلقة ، وانتهاءً بالثورة الروسيّة ، في أوئل القرن العشرين ، وكانت ثورةً بروليتاريّة ، قالت بالمساواة والجماعيّة قيمةً مطلقة ، على أساسها يقوم مجتمع غير طبقيّ ، يتخطّى حدود الأوطان والقوميّات والدول ويكون عالميًّا يحضن البشريّة جمعاء .
وكانت المرحلة الرابعة الثورة الصناعيّة التي أحدثها التقدّم العلميّ والتقنيّ ، بدءًا من أواسط القرن التاسع عشر . ومن إفرازاتها الحضارة الآليّة الهادفة إلى إنتاجيّةٍ تنقل الناس من بيئتهم الطبيعيّة إلى محيط جديد هو العالم الصناعيّ الاصطناعيّ .
وكانت المرحلة الخامسة والأخيرة الثورة الثقافيّة المعاصرة ، أحدثها العلم من جهة ، والفكر الحرّ من جهة ثانية . من أقطابها داروين صاحب مذهب التطوّر ، وماركس صاحب مذهب المادّيّة التاريخيّة ، ونيتشه القائل بتحويل القيَم جميعًا ، أي بالانقلاب عليها ، كي يظهر الإنسان المتفوّق المفعَم بالحياة الخلاّقة ، وفرويد صاحب علم النفس التحليليّ ومكتشف مكانة العقل الباطن في تكوين الشخصيّة وفعّاليّته في السلوك البشريّ . ويلاحَظ أنّ ما يجمع بين هذه المذاهب ، إنّما هو تحجيم الذات الواعية وإخضاعها للحتميّات الطبيعيّة والاجتماعيّة ، بل جعلُها حصيلة التقاء هذه الحتميّات ، على ما يذهب إليه البنيويّون ، أو إدماجُه في الكون بردّه إلى بدايات الكيان ، إلى ما قبل انشطار الكيان إلى ذات وموضوع ، على ما ذهب إليه هايدغر .
هذه الحوادث والتطوّرات التاريخيّة أدّت ، في ما خصّ الفكر ، إلى جملة من المبادئ تميّز بها الفكر العلمانيّ . أخطرها أنّ العقل البشريّ سيّد نفسه ، وأنّ الاختبار الحسّيّ أساس المعرفة . فكانت الذهنيّة النقديّة بديلاً عن الذهنيّة العقَديّة ، وكان طلب البرهان عن طريق المنطق والاختبار . ومن أخطر منطلقات الفكر العلمانيّ أيضًا مبدأ نسبيّة القيَم ووضعيّة المعايير الأخلاقيّة ، ومبدأ تاريخيّة الكيان البشريّ والكون البشريّ . من هنا كان رفض المسبَّقات ، ورفض الماورائيّات والغيبيّات .
وفي الفكر العَلمانيّ أنّ الإنسان قد يكون من فطرة الله أو من إفرازات الطبيعة . لكنّه ، أيًّا كان مصدر كيانه ، إنّما هو موقع الإنسانيّة ، فيه تجمّعت بوصفه كائنًا فرديًّا تميّز بسيادته على نفسه وتكامل عناصر شخصيّته ، وبوصفه كائنًا اجتماعيًّا تميّز بالاتّصال والتكافل والاندماج الجماعيّ ، وبوصفه كائنًا تاريخيًّا تميّز بالإبداع الثقافيّ والتطوّر الحضاريّ . فهو ليس إلهًا ، وليس كائنًا مطلقًا . إنّما هو الكائن الذي تميّز بمحاولته فهْمَ ذاته وفهْم الكون والكينونة ، وبمحاولته تحقيقَ مِلء الإنسانيّة في شخصه وفي مجتمعه عَبْر صنعه التاريخَ والحضارة .
عند هذا الحدّ من التحليل ، أوّل ما يظهر هو شيء من التناقض بين الفكر العَلمانيّ والفكر الدينيّ . لكنّ هذا التناقض قد يكون مرحلة من مراحل تطوّر العلاقة بين الدين والثقافة . ففي مرحلة أولى ، كان الدين هو الثقافة ، يختزن قيَمها الجوهريّة ، وكان الدين هو الحضارة ، يهذّب الإنسان وينظّم المجتمع . في مرحلة ثانية ، استقلّت الثقافة عن الدين ، وذلك لأنّ الدين اؤتُمن على القيَم فاكتفى بالمحافظة عليها ، في حين أنّ الثقافة أخذت تتطوّر بفعل ديناميّتها الذاتيّة وضرورة تكيّفها مع المتغيّرات التاريخيّة . في مرحلة ثالثة ، بلغ التطوّر الثقافيّ حدًّا جعل الثقافة تنقلب على الدين ، فكانت مرحلة العلمانيّة في شكل التناقض بين الفكر الدينيّ والفكر العَلمانيّ ، بمعنى أنّ الفكر العَلمانيّ قام بتفكيك الأنظومة الدينيّة التي ركّبها الفكر الدينيّ ، وبالتشكيك في هويّة عناصرها ، وبطرح البديل عنها . وذلك في ما خصّ العقائد ، والعبادات والأخلاق ، والمجتمع .
تجلّى التناقض بين الفكر الدينيّ والفكر العلمانيّ في موقف نقديّ من الدين . قد يجدر بنا التذكير بما سبق المسلكَ النقديّ المعاصر من مواقف نقديّة . فالإصلاح البروتستانتيّ أدخل روح النقد أي النظرِ الحرّ ، ورفْضَ السلطة البشريّة في الدين . في ما بعد ، جاءت فلسفة ديكارت تضع في الذات قاعدة الحقيقة . أمّا النقد على طريقة كانط ، فقد زعزع التأكيد الماورائيّ . والردّ أو التحويل النقديّ المُعتمَد اليوم جاء به فويرباخ ، وماركس ، ونيتشه ، وفرويد . هذا التحويل النقديّ يقوم بتبيين نسبيّة القيَم والمطلقات ، معلّلاً إيّاها بأصولها البشريّة ، الاجتماعيّة والحياتيّة والغريزيّة . ففي نظر فويرباخ ، الجوهر الحقيقيّ للدين ليس لاهوتيًّا ، بل هو أنتروبولوجيّ . والدين ، في نظر ماركس ، هو إيديولوجيا ، أي مشروع تزييف أو خداع يقوم به المستغِلّون على حساب المستغَلّين ، إذ يتوسّلون هذا الأفيون لتخدير وعي الاستلاب الاقتصاديّ . أمّا في نظر نيتشه ، فالدين ، إذا ما أُخضع للمنهج النَسَبـيّ ، يبدو شعورًا بالحقد ، وضميرًا مؤثَّمًا ، ومثالاً زهديًّا ، أي يبدو عدميّةً أو احتقارًا للحياة . والدين ، أخيرًا ، في نظر فرويد ، إذا ما أُخضع للمنهج التكوينيّ ، هو عُصاب استحواذيّ جماعيّ ، وعقدة والديّة ، أو ، في أحسن الحالات ، تصعيد أو إعلاء .
مثل هذا النقد التحويليّ ، كما يبدو ذلك واضحًا ، يعلّل الدين ليس بالموضوع بل بالذات . فليس الله هو مصدر الدين ، بل مصدره الإنسان . والإنسان لا يُعتَبر هنا من حيث كونُه وعيًا وحرّيّة ، بقدر ما يُعتَبر من حيث كونُه موجودًا في وضع معيّن وخاضعًا لحتميّات أحيائيّة ونفسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة . فإذا كان الله ، كما الماورائيّات ، ليس هو ، وليست هي ، مصدر الدين ، فهو وهي إذًا من سائر الموضوعات الدينيّة التي مصدرها الإنسان . وتُدعى عمليّة إنتاج هذه الموضوعات إسقاطاً ، وظيفتها التعويض . تبدو هذه النظرة موقفًا إنسانيًّا محضًا . ويمكن وصف هذا الموقف ، وفقًا للمظهر الذي يظهر فيه ، مذهبًا طبيعيًّا ، أو مادّيًّا ، أو وضعيًّا ، أو تجريبيًّا ، أو منطقيًّا .
في هذا الموقف النقديّ ، أي في انتقال الثقافة من “ الدينيّة ” إلى “ العَلمانيّة ” ، كانت الخطوة الأولى ، على صعيد تلبية الحاجة إلى المعرفة ، نقض أسطوريّة المعتقدات . فكانت المجموعات البشريّة ، في أوّل عهدها ، تلجأ إلى الدين للحصول على أجوبة عن تساؤلاتها حول الكون والإنسان وموقع الإنسان في الكون وحول نشوء الكون والإنسان ومصيرهما . ولمّا ظهر عهد العلم والعقلانيّة النقديّة ، أخذ الناس يستقون معارفهم الوضعيّة عن الكون والإنسان من العلم أي من المعرفة الاختباريّة . فتحوّلوا عن المعتقدات الدينيّة الموروثة . وأخذوا ينتقدون المقولات الدينيّة المتعارضة مع الحقائق العلميّة . فتخلّوا عنها لكونها ، من وجهة النظر العلميّة الوضعيّة الاختباريّة ، خرافات وأساطير اختلقها العقل البشريّ في حالته البدائيّة، حيث طغى على نشاطه الخيال والتوهّم .
في هذا السياق كان ما يمكن تسميته بالعَلمانيّة المتطرّفة . وهذا الموقف المتطرّف يتميّز بكونه يرفض الأسطوريّة والماورائيّة ويُحلّ محلّها العقلانيّة والوضعيّة . ومثال هذا الرفض الموقفان الفرويديّ والماركسيّ ، وكلاهما يعتبر المعتقدات الدينيّة تعبيرًا عن الذاتيّة الإنسانيّة في وضعيّتها ، وضعيّة الاستلاب . ففي نظر ماركس ، ليس الدين إلاّ ضربًا من ضروب الإيديولوجيا ، وهي هروب من الواقع وتخيّل يجعل الإنسان غريبًا عن حقيقته الواقعيّة ، وهي خداع تقوم به الطبقة السائدة لتبرّر امتيازاتها ، وتفرضه على الطبقة المسحوقة تحاشيًا للانتفاضة والثورة . وفي نظر فرويد ، ليس الدين إلاّ ضربًا من ضروب العصاب الاستحواذيّ الجماعيّ ، أساسه عقدة أويديبوس ، وترجمته محاولة التعويض . وقد سبق هذين الموقفين موقف فويرباخ الإسقاطيّ ، وهو يرى في الدين عمليّة إسقاط وموضعة ، بها ينتقل الفرد إلى مستوى الإنسانيّة الشاملة والمثاليّة ، وبها يكون هذا الإنسان الكلّيّ هو الله ، ويكون علم الإلهيّات علم الإنسانيّات .
ويتناول هذا النوع من الانتقاد أنظومة المعتقدات الدينيّة جملةً وتفصيلاً . فليس من إله ولا خلق ولا وحي ولا نبوّة ولا تجسّد ولا تجلٍّ للإله ولا خطيئة ولا نعمة ولا خلاص ولا مسيح ولا كنيسة ولا روح ولا محبّة ولا إيمان . وفي الأساس ليس من كائنٍ متعالٍ ، وليس من تحرّر للإنسان من حدود عالمه المحسوس .
إذًا يقول الفكر العَلمانيّ في العقائد الدينيّة إنّها مجموعة تصوّرات أسطوريّة ، اختلقها الناس لطمأنة النفس ، حين كان عقلهم في حالة طفوليّة بدائيّة . فقضى الموقف العلمانيّ بأن يحلّ المنطق ( لوغوس k¾co| ) محلّ الأسطورة ( ميتوس lتho| ) ، وذلك إمّا بالانتقال من كلام أسطوريّ إلى كلام منطقيّ ، وإمّا بإزالة الفكر الأسطوريّ جذريًّا لكونه غيرَ ذي موضوع في عالم الحسّ والواقع .
أمّا نقض خداع العبادات والقواعد الأخلاقيّة ، فكان نتيجة التقدّم والإنجازات في مجال التقنية . فكما جاء العلم بمعارف مؤكّدة ومطابقة للواقع ، كذلك جاءت التقنية بقدرات وفعّاليّات جعلت الإنسان سيّدًا على عالم الطبيعة بالاستناد إلى مقرّرات العلوم الطبيعيّة ، وعلى عالمه الإنسانيّ بالاستناد إلى مقرّرات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة . فبدلاً من أن يبقى الإنسان على موقفه التقليديّ ، موقف الرضى بما تفرضه قوانين الطبيعة ، ولجم الرغبات والاكتفاء بالممكن ، بات ، بفضل التقدّم التقنيّ ، يحاول تلبية رغباته بالتحكّم بقوانين الطبيعة . ليس للطقوس والشعائر الدينيّة ما للتقنيات من فعّاليّة . من البديهيّ أن يفرز هذا الوضع الجديد موقف الرفض من الشعائر الدينيّة ، باعتبارها شعوذات سحريّة سخيفة لا فعّاليّة لها في الواقع المحسوس . فليس من فعلٍ حقيقيّ للمعموديّة ولا لتناول القربان ولا لغفران الخطايا . فلا المعموديّة تغيّر شيئًا في واقع الإنسان وتجعله كائنًا جديدًا ، ولا القربان يثبت أيّ نوع من اتّحاد الإنسان بالإله المتجسّد ، ولا كلمات الغفران تزيل خطايا هي في الواقع لا شيء .
ثمّ ماذا يمكن أن تعني قواعد الأخلاق الدينيّة بالنسبة لعقولٍ هذّبها العلم الوضعيّ والتقنية الفعّالة . كان الدين يفرض قيمًا وقواعد باسم سلطة عليا هي السلطة الإلهيّة المطلقة ، في حين أنّ هذه القيم والقواعد تَبيّنَ أنّها إفرازات اجتماعيّة بشريّة . ففي نظر ماركس مثلاً ، ليست الأخلاق سوى إيديولوجيا ، وبالتالي استلاب وخداع ، صنعتها الطبقة السائدة لحماية مصالحها المادّيّة وغلّفتها بستار الروحانيّة المثاليّة . فالأخلاق ، شأنها في ذلك شأن المعتقدات الدينيّة ، تنخرط في خانة البنى الفوقيّة ، تلك البنى التي تفرزها البنى التحتيّة المادّيّة ، والتي تُوظَّف تعويضًا عن بؤس الوضعيّة البشريّة ومعاناة الطبقات الشعبيّة المستغَلّة . هذا ومعلوم موقف نيتشه ممّا يسمّيه المثال الزهديّ ، وأيضًا دعوته لتجاوز كلّ القيم المتوارثة المؤدّية إلى نوعٍ من العدميّة والتحوّل منها إلى قيم يبتدعها الإنسان المتفوّق . وكذلك موقف الوجوديّة الرافضة لكلّ ما يحدّ من ممارسة حرّيّة الفرد المطلقة .
إذًا يقول الفكر العَلمانيّ في العبادات إنّها شعائر سحريّة ، أساسها الاعتقاد الأسطوريّ بأنّ الكلام يفعل في الأشياء . ويقول في الأخلاق إنّها مثاليّة ، فهي إذًا أوهام من نسيج الخيال . فقضى الموقف العَلماني بأن تحلّ التقنية الفعّالة محلّ الشعوذات السحريّة ، وأن تحلّ الواقعيّة محلّ المثاليّة . وبذلك تتمّ عمليّة إزالة الخداع .
وكان نقض قداسة المجتمع الدينيّ هو أيضًا نتيجة تطبيق الروح العلميّ والتقنيّ على مجال الاجتماعيّات . فبات الناس لا يحتاجون إلى المؤسّسة الدينيّة كي تتحكّم بأمور الحياة الجماعيّة ومختلف مرافقها . وبدا تحرّر المؤسّسات الاجتماعيّة المدنيّة شرطًا من شروط الاندماج المجتمعيّ في حال التعدّد الدينيّ والمذهبـيّ . ومن الملفت أنّ الدين لم يعد يتحكّم في الأمور الاجتماعيّة إلاّ في البلدان التي تُعتَبر متخلّفة حضاريًّا . ولم يعد المجتمع الدينيّ يستطيع أن يدّعي المثاليّة ، أي أنّه مثال ينبغي الاقتداء به . على عكس ذلك بات وجوده موضوع تساؤل وتشكيك ، حيث قد يكون من الخطر أن يكون المجتمع الواحد مجتمعَين ، مجتمعًا دينيًّا ومجتمعًا مدنيًّا . مثل هذه الازدواجيّة قد تأتي على أمل توحيد المجتمع واندماجه ، وبالتالي على أمل ديمومته مجتمعًا حيًّا ومتطوّرًا .
ولمّا كان مبرّر وجود المجتمع الدينيّ ادّعاءَه أنّه تأسّس بإرادة إلهيّة متعالية ، فكان بذلك مجتمعًا له صفة القداسة ، أوجبت العَلمانيّة المتطرّفة القيام بعمليّة نقض هذه القداسة المزعومة . وقامت بإلغاء فكرة الفصل المعهود بين ما سمّي بالمقدّس وما سمّي بالمدنّس او بالدنيويّ ، وبالتالي بإلغاء مفهوم القداسة نفسه لكونه ، من وجهة النظر العلميّة الوضعيّة الاختباريّة ، لا يرتكز على شيء من الواقع المحسوس ، فبات مجرّد لفظة لا تفيد أيّ معنى . وممّا دفع في هذا الاتّجاه النقديّ ما آلت إليه المؤسّسات الدينيّة من جمود في الحياة وفي جميع مجالات الثقافة ، وما تبيّن من تدخّل المؤثّرات البشريّة في ما زُعم أنّه تأسّس بإرادة إلهيّة بهدف هدْي الناس إلى طريق الخلاص . فالوظائف الثلاث للسلطة الكنسيّة لم يعد ما يبرّر وجودها . فليس من أساس مقبول لجعل وظائف التعليم والحكم والتقديس حكرًا على الفئة المتسلّطة في المجتمع الدينيّ . وذلك لكون هذا المجتمع بالذات موضوع تشكيك ورفض .
عندما تُنقَض قداسة المجتمع الدينيّ ، يُنقَض في الوقت نفسه الحقّ المزعوم لرجال الدين في توجيه التزامات العَلمانيّين ، أي الشعب المتديّن ، في مجالات الحياة الزمنيّة . فكان الاعتقاد السائد أنّ الالتزام لا يكون دينيًّا مسيحيًّا إلاّ إذا توافق مع روح الإنجيل ، علمًا أنّ هذا الروح يحدّده رجال الدين . لكن عندما تبيّن للعقلانيّة النقديّة أنّ توجيه رجال الدين غالبًا ما تحكمه مصالح شخصيّة وفئويّة هي أبعد ما يكون عن روحيّة الإنجيل ، عندئذٍ كانت ردّة الفعل العَلمانيّة بأن ليس في المجتمع الدينيّ مَن هو مقدَّس روحيّ وآمر ومَن هو مدنّس دنيويّ زمنيّ ومأمور . فالجميع سواء ، والجميع دنيويّون زمنيّون .
في هذا السياق تمّ نقض الطائفيّة ، ورفض أن تكون الكنيسة قوّة اقتصاديّة نافذة ، ونقض التوجّهات والتوجيهات الكنسيّة في مجال السياسة . وقد تبيّن أنّه غالبًا ما تجتمع مصالح رجال الدين ومصالح رجال السياسة ، فيتكوّن تكتّل سياسيّ واقتصاديّ زمنيّ مقنّع بالروحيّات . إذّاك غلب المدلول السياسيّ في مفهوم العَلمانيّة الشامل . فكانت العَلمانيّة المتطرّفة طلبًا لتنحية رجال الدين عن الزمنيّات بنقض فكرة الفصل بين الدينيّ والمدنيّ أو بين الروحيّ والزمنيّ . فليس من شيء في الواقع المحسوس هو دينيّ وروحيّ . بل كلّ شيء من أشياء الناس هو مدنيّ وزمنيّ ، أي إنسانيّ .
إذًا يقول الفكر العَلمانيّ في المجتمع الدينيّ إنّه مجتمع يضفي على نفسه صفة القداسة بحجّة أنّه في أصوله منزَل من عند الله . فاقتضى نزع القدسيّة عنه ، على أساس أنّ مصدر النُظم الاجتماعيّة إنّما هو العقل البشريّ والخبرة البشريّة . ويقول الفكر العَلمانيّ في المجتمع الدينيّ إنّه مجتمع طبقيّ تراتبـيّ هَرَميّ الشكل . فاقتضى إحلال المساواة بين أفراد المجتمع ، على أساس أنّ الشعب هو مصدر الوظائف القياديّة في المجتمع . ويقول الفكر العَلمانيّ في المجتمع الدينيّ إنّه مجتمع يتحكّم فيه رجال الدين ، بحجّة أنّ سلطتهم من عند الله . فاقتضى التحرّر من تسلّط رجال الدين ، وإقامة المجتمع المدنيّ العَلمانيّ ، على أساس أنّ مجتمع الناس يصنعه الناس أنفسهم ، وأن لا سلطة لأحد على الناس إلاّ بتفويض من الناس .
1-3- التصوّر الأنتروبولوجيّ
من مبادئ التصوّر الأنتروبولوجيّ أن ليس من تناقض كلّيّ بين موقفين يبدو التوفيق بينهما ممتنعًا . لذا يحاول هذا التصوّر التوفيق بين التصوّرين المتعارضين ، الدينيّ واللادينيّ . وذلك استنادًا إلى شروط تجعل التوفيق ممكنًا .
أوّل الشروط أن لا يكون الفكر أسطوريًّا ولا ماورائيًّا . ويعني ذلك الامتناع عن ربط الدين بإله خارج عمّا هو واقع إنسانيّ . أمّا إمكان مثل هذا الفكر ، فتدلّ عليه محاولات فلسفيّة ليست ماورائيّة . منها مثلاً الفلسفة الظواهريّة ، القائلة بأنّ الكيان هو في الظاهر ، بل هو هو الظاهر ، وبأنّ الكلام هو جسد الفكر وليس من صنع الفكر ، وبأنّ المعنى هو في التعبير عنه ، وبأنّ الجسد هو شكل وجود النفس في الخارج . وثمّة محاولات في علم اللاهوت لا تربطه بالماورائيّات . منها مثلاً قول شلايرماخر إنّ اللامتناهي ماثل في المتناهي ، وقول هيغل إنّ الله لا يتحقّق إلاّ في شكل أرواح الناس المتناهية . ومنها أيضًا النزعة المعاصرة إلى اهتمام علم اللاهوت بموضوعات نظير السياسة أو الأمل أو الثورة أو العمل . والفكر المتحرّر من الماورائيّات ينكر وجود عوالم غير عالم الإنسان وحقيقة غير الحقيقة الإنسانيّة . إذّاك كان الخطر تصوّر الحقيقة الإنسانيّة ذات بُعد واحد ، في حين أنّها في جوهرها ذات بُعدين .
لذا كان الشرط الثاني أن لا يكون الفكر محض وضعيّ ، حفاظًا على البُعدَين اللذين تتقوّم بهما الحقيقة الإنسانيّة ، وهما بُعد المعنى وبُعد التعبير . من جهة المعنى لدينا القصد والديناميّة والتوجّه والحدس . ومن جهة التعبير لدينا بالتوازي التنظيم والعقلنة والبنيان والأنظومة . فالمعنى والتعبير ، كما القصد والأنظومة ، مرادفهما في لغة الظواهريّة الكيان والظهور . وتطبيقًا لهذه المفاهيم على حياة الناس ، كان لدينا بُعد المعنى وبُعد التقنية . فالمعنى يدلّ على الدافع والغاية والسبب والأساس . فعليه كان القول إنّ للحياة معنى يفيد أنّها ليست عبثيّة ، بل أنّ لها تبريرًا وأساسًا . لكنّ الحياة هي أيضًا الأوضاع المحسوسة وشروط الحياة والمسائل التقنيّة ذات الطابع الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ . على هذا الصعيد ، تدلّ التقنية على الحياة وبناها . وهذان البعدان هما في آن متميّزان بعضهما من بعض ومتلازمان . ذلك لأنّ المعنى ، إذا لم يُعبَّر عنه كان حلمًا ، والمعنى من دون تقنية كان معنى من دون حياة . وبالمقابل إذا كان التعبير منقطعًا عن معناه ، كان فارغًا ، وإذا كانت الحياة منفصلة عن معناها ، كانت لا قيمة لها . فوجب إذّاك تأكيد مثوليّة المعنى في التعبير وتجاوزه إيّاه ، والأمر عينه يقال بالنسبة إلى المعنى والتقنية ، وإلى القصد والأنظومة ، وإلى الكيان والظهور . وبالتالي وجب البحث عن المعنى في التعبير والتقنية ، وليس ادّعاء تحويل حتميّات الحياة إلى معنى ، أو تصوّر أنّ ما هو شرط تقنيّ من شروط الحياة هو معنى .
الشرط الثالث أساسه الانتقال من التعبير إلى المعنى ، أي التأويل . ثمّة انتقال لأنّ المعنى يتجاوز التعبير . لكنّ هذا الانتقال يعني إدراك المعنى أو قراءته في التعبير ، لأنّه من العبث البحث عن المعنى خارج التعبير ، لكونه ماثلاً في التعبير . والعلاقة بين المعنى والتعبير عنه ، وهي أساس التأويل ، يمكن وصفها بأنّها موضعة ، بحيث كانت الأشكال الموضوعيّة متوافقة مع ما تعبّر عنه من الشروط الذاتيّة . على أساس هذه العلاقات بين المعنى والتعبير ، أمكن اعتبار التأويل انعكاسًا لعمليّة التعبير ، بمعنى أنّ التأويل ينطلق من التعبير نحو الاختبار ، معيدًا بحركة عكسيّة الحركة التي كوّن المعنى بها تعبيرًا له . هذا التوافق بين الاختبار والتعبير عنه هو المبدأ الأساس للتأويل . فما يمكن التعبير عنه هو المُعاش . فالتأويل يعني إدراك المُعاش في التعبير . وهذا ما يفعّل القطب الذاتيّ للمُعاش ، وقطبه الموضوعيّ ، وكون الإشارة تُظهر وتحجب في آن ، كما الرمز ذو المعنيَين . فإذا كان المُعاش وحده هو ما أمكن التعبير عنه ، وجب معرفة الاختبارات الحاسمة التي هي أساس أيّ اختبار إنسانيّ . هذه الاختبارات الحاسمة تُعاش في شكل سلبيّ ، ويُعبَّر عنها في شكل إيجابيّ ، بفعل الإسقاط أو الموضعة . وقد يبيّن ذلك الرسم الآتي ، حيث يرد الاختبار السلبيّ ، ثمّ المشروع الإيجابيّ ، ثمّ القيمة المرتبطة بالمشروع ، ثمّ المقولة المسيحيّة فالمقولة الإسلاميّة الموافقتان للمشروع والقيمة .
الاختبار السلبيّ
المشروع الإيجابيّ القيمة المقولة المسيحيّة المقولة الإسلاميّة
الموت الكينونة الذاتيّة والبقاء الله الربّ والأب الله الربّ والرحمن
الانشقاق الداخليّ والتبعيّة الشخص الاستقلاليّة والتكامل المسيح المثال القرآنيّ
العنف والوحدة والاستغلال والاستلاب المجتمع المشاركة أي العدالة والمساواة والمحبّة الكنيسة الأمّة أي جماعة المؤمنين
القدَر والهباء والعقم والعبثيّة والجمود التاريخ الإبداعيّة أي الثقافة والتغيير والتقدّم المحبّة والروح الإيمان والشريعة
مثال على قراءة الرسم : اختبار الموت يُعاش في شكل سلبيّ ، ويعبَّر عنه إيجابيًّا في شكل مشروع الكينونة ، ويحتوي هذا المشروع على قيم الذاتيّة والبقاء . وهذا هو المحتوى الأنتروبولوجيّ للمقولات الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة ، أي الله الأب باعتباره ملء الكينونة ، والله الربّ الكائن والفاعل الوحيد .
الشرط الثالث للتوفيق هو تغيير معنى التجاوز . فبدلاً من فهم التجاوز على أنّه شيء ، وجب فهمه على أنّه وظيفة . ذلك لأنّ التصوّر الماورائيّ للتجاوز جعله كائنًا متعاليًا موجودًا وجودًا موضوعيًّا في الخارج ، وكائنًا متميّزًا محدَّدًا . الكائن المتعالي على هذا النحو ، إذا تحدّد بأنّه في ذاته وحسب ، أي مستقلاًّ كلّ الاستقلال عن الوجود الإنسانيّ ، صار لا قيمة له البتّة ، حيث أدّت استقلاليّته إلى انعدامه . فهو لا يوجد حقًّا إلاّ بقدْر ما يعني وجود الناس . لذا وجب التخلّي عن هذا التصوّر اللاهوتانيّ واعتبار التجاوز وظيفة . لكنّ هذا الاعتبار قد يؤدّي إلى حصر هذه الوظيفة على الصعيد النفسيّ الاجتماعيّ . في هذه النظرة الإنسانويّة ، صار التعالي الإلهيّ تعويضًا واستبدالاً للتخيّل بالعقل ، وللوهم بالواقع . لكن ، في النظرة الأنتروبولوجيّة ، يعني التجاوز وظيفة نأسيس . فالوجه الأوّل لهذا التجاوز هو اعتبار الكائن المتعالي الذي يقول به الدين ليس شيئًا موضوعيًّا ، بل وظيفة أساس ومبدإ ، أو وظيفة سبب وحقيقة ، أو وظيفة معنى ، أي اقتضاءً وطاقةً مطلقَين للتجاوز . وهذا يقود إلى الوجه الثاني ، حيث التجاوز حركة تجاوز ، أي حركة تحمل الإنسان إلى أصالته ، أي إلى تطابقه مع حقيقته ، أو إلى تحقيق معناه ، بحيث يكون الوجود الإنسانيّ ملء اكتمال المعنى الكامن في داخل الإنسان . وهذه الحركة ليست هي تلك التي تحمل الإنسان نحو إله غريب عنه وغير مدرَك ، بل هي حركة تحويل الإنسان من اللاأصالة إلى الأصالة .
هذه الشروط ، أي هذا الانتقال إلى النظرة الأنتروبولوجيّة ، تجعل من الممكن التوفيق بين اللاهوتانيّة أي التصوّر الدينيّ ، والإنسانويّة أي التصوّر اللادينيّ . ويكون هذا التوفيق على صعيدين ، صعيد تعارض التصوّرين في ما خصّ تلبية حاجات الناس ، وصعيد التضمين المتبادل للمقتضيات الأساسيّة لكلٍّ من التصوّرين .
على صعيد تلبية حاجات الناس ، يمكن إدراك المعنى المُعاش للتصوّر الدينيّ الذي رفضه التصوّر النقديّ اللادينيّ ، والقبول به استنادًا إلى النقد ذاته ، أي إلى التمييز بين المعنى اللامقبول والمعنى المقبول للمفهوم الواحد . وعليه كان التوفيق على النحو الآتي .
في ما خصّ المعتقدات الدينيّة ، قد يصحّ وجوب التخلّي عنها في حال اعتُبرت الأسطورة ، كما الرمز إجمالاً ، مناقضًا للعقلانيّة . فإذا كان موقف التصوّر اللادينيّ على هذا النحو ، يكون قد أصاب مَن رأى فيه علمانيّة متطرّفة وإلحادًا . إلاّ أنّ ثمّة عَلمانيّة يمكن وصفها بالمعتدلة . وهي ترفض ما تقوله العَلمانيّة المتطرّفة من تعارض جذريّ بين الأسطوريّة والعقلانيّة . وذلك على أساس أن لا شيء في العالم الإنسانيّ إلاّ ويندرج في خانة العقلانيّة . فالأسطورة ، وإن حُسبت من نسيج الخيال ، إلاّ أنّها محاولة للتعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه بلغة المنطق الصوريّ . فإذا كان العلم الوضعيّ الاختباريّ يزوّد الناس بمعارف وضعيّة اختباريّة ، إلاّ أنّه عبثًا يحاول الإجابة عن تساؤلات حول أمور مصيريّة لا تنحصر في أيٍّ من المختبرات . ففي نظر العَلمانيّة المعتدلة ، أو التصوّر الأنتروبولوجيّ ، وجب التكامل ، لا التعارض ، بين العلم والدين . ففي حين يسعى العلم إلى اكتشاف الظاهرات والقوانين التي تربط بينها ، يحاول الدين استكشاف المعنى ، معنى الظاهرات ، والمعنى المطلق .
أمّا في ما خصّ الشعائر الدينيّة والعبادات عمومًا ، فليس من الضروريّ أن يُطلَب منها فعّاليّة في الأشياء الطبيعيّة . ففاعليّتها هي من نوعٍ مختلف عن فعّاليّة التقنية ، إذ تعمل العبادات على تنشئة الشخصيّة الإنسانيّة . وهي في ذلك تُعتَبر عاملاً تربويًّا له فعّاليّة واقعيّة أكيدة في الأفراد وفي الجماعات .
ثمّ ، في ما خصّ الأخلاق ، ليس من تعارض ، في نظر العَلمانيّة المعتدلة ، بين المثال والواقع ، ولا بين القاعدة الأخلاقيّة والحرّيّة . فالمثال يتوق إلى أن يتحقّق واقعًا ، والواقع لا يكتسب معناه الإنسانيّ إلاّ إذا كان تحقيقًا للمثال على قدْر الممكن . والحرّيّة من جهتها ، بدلاً من وضعها في موقع التعارض مع القواعد الأخلاقيّة ، وجب اعتبارها بالأحرى أساس الأخلاقيّات ، إذ ليس من معايير أخلاقيّة لكائنات لا تتمتّع بالحرّيّة . والأخلاق ما كانت إلاّ لحماية حرّيّة كلّ شخصٍ إنسانيّ ، أي لإفساح المجال لكلّ فرد في المجتمع كي يمارس حرّيّته من دون المساس بحرّيّة الآخرين . ثمّ إنّ ما يجمع ، في الأساس ، بين الحرّيّة والقواعد الأخلاقيّة هو كون الإنسان سيّد نفسه ، حيث يكون هو واضع القواعد والخاضع لها في آنٍ واحد . وقد صدق القول إنّما الأمم الأخلاق .
وفي ما خصّ المجتمع ، ليس من تعارض جذريّ ، في نظر العَلمانيّة المعتدلة ، بين مجتمع دينيّ يدّعي أنّه مقدّس ومجتمع مدنيّ يُعتَبر مدنّسًا أو دنيويًّا . ويكون تجاوز فكرة التعارض هذه باللجوء إلى ما قد تعنيه في جوهرها فكرة الكنيسة في المسيحيّة . فالكنيسة في جوهرها هي الجماعة الإنسانيّة المؤسّسة على المشاركة والمودّة ، والهادفة إلى أن تكون الإطار حيث يستطيع كلّ إنسان أن يسعى فيحقّق في ذاته أصالته الإنسانيّة . فليس ثمّة ثنائيّة في المجتمع . ليس ما يبرّر القول بمجتمع دينيّ ومجتمع مدنيّ . المجتمع واحد ، هو المجتمع الإنسانيّ الشامل ، حيث تتاح لكلّ فردٍ من أفراده فرصة ممارسة حرّيّته في طلب اكتمال كيانه الإنسانيّ ، وذلك في جوّ من التعاون والأخوّة والمحبّة . إذّاك لا داعي لأن يكون مجتمع في مجتمع ، بل يكفي أن تتوفّر في المجتمع الشامل سُبل تفعيل الإيمان وطلب المعنى المطلق .
وفي ما خصّ الالتزام الاجتماعيّ ودور رجال الدين في المجتمع ، اكتفت العَلمانيّة المعتدلة بالحدّ من طموح رجال الدين ، وخصّصت للدين مجالاً محدودًا يستطيع فيه المتديّن ، إن شاء ومتى شاء ، التعبير عن تديّنه ، شرط أن لا يخلّ هذا التعبير بالأمن المجتمعيّ . وهذا ما سمّي الفصل بين الدين والدولة ، أو بين الدين والدنيا ، او بين الدين والمجتمع أي الحياة الجماعيّة . وإنّ في مثل هذا الفصل تذكيرًا بما يبرّر وجود الدين إجمالاً والكنيسة خصوصًا ، وهو أن تكون الكنيسة ساهرة على القيم الإنسانيّة الجوهريّة ، أي أن تكون الشاهدة للمعنى المطلق ، لمعنى الوجود ولمتطلّبات الأصالة الإنسانيّة . فعلى هذا النحو كانت وظيفة الكنيسة محاسبة المجتمع الإنسانيّ بقياس أفعاله بمقاس المحبّة ، أي بما يجمع ولا يفرّق وبما يدفع المجتمع نحو بلوغه حقيقتَه الإنسانيّة . إذّاك غالبًا ما تقوم الكنيسة بدورٍ نقديّ يمكن تسميته بالثورة الدائمة ، لكون المجتمع الإنسانيّ مجتمع أناسٍ يغلب في تصرّفهم الاهتمام بمصالحهم الشخصيّة على حساب المصلحة الجماعيّة . ثمّ ، لمّا كان كلٌّ من رجل الدين والرجل المتديّن العاديّ إنسانًا ، أمكن القول إنّ أيّ إنسان هو في آن رجل دين ورجل متديّن عاديّ ، من حيث كان ملتزمًا أمور تقنية الحياة وطالبًا لهذه الحياة معنى .
هذا وفي ما هو أعمق وأبعد ، فإنّ التصوّر الأنتروبولوجيّ ينقض الفصل والتعارض بين ما يُعتَبر أمرًا دينيًّا مسيحيًّا وما يُعتَبر أمرًا مدنيًّا إنسانيًّا . ففي هذه النظرة عبرة أساسيّة ، هي أنّه لا يكون المسيحيّ مسيحيًّا - كما أيّ مؤمن بأيّ دين - إلاّ بمقدار كونه إنسانيًّا .
هذا على صعيد حاجات الناس . أمّا على صعيد المتطلّبات لكلٍّ من التصوّرين المتعارضين ، فيجب النمييز بين ما هو أساسيّ وما هو ثانويّ في كلٍّ منهما ، علمًا أنّ وظيفة الثانويّات تأمين صحّة الأساسيّات .
على هذا النحو كانت تأكيدات التصوّر الدينيّ حقيقة وجود الله وتعاليه ، وخصوصيّة الإيمان . أمّا تأكيد موضوعيّة الله ، أي وجوده وجودًا مماثلاً لوجود الأشياء الطبيعيّة الخارجيّ ، وتأكيد تنزيل الدين بما احتوى من عناصر أنظومته ، وتأكيد مطلقيّة الإيمان باعتباره معرفة ما يتجاوز إدراك العقل والاختبار الإنسانيّ ، هذه التأكيدات وظيفتها أن تكون بمثابة خطّ الدفاع عن التأكيدات الأساسيّة .
والتصوّر اللادينيّ ، من جهته ، كانت تأكيداته الأساسيّة قيمة الإنسان واستقلاليّته ، ومثوليّة كلّ شيء في الاختبار الإنسانيّ . وكانت تأكيداته الثانويّة موت الله وزوال الدين واعتبار الإيمان أمرًا بشريًّا لا غير .
وفي التأويل الأنتروبولوجيّ ، يمكن القبول بالتأكيدات الأساسيّة لكلٍّ من التصوّرين المتعارضين ، بل تبيين التضمين المتبادل لهذه التأكيدات الأساسيّة . فأمكن القبول بحقيقة الله وتعاليه ، شرط عدم تصوّرهما تصوّرًا موضوعيًّا أو ماورائيًّا . فالله حقيقيّ ومتعالٍ على غرار حقيقة المعنى وتعاليه . والإنسان هو الحقيقة المحسوسة الوحيدة ، لكنّه لا يقتصر على بُعده التقنيّ ، بل لا يصير قيمة إلاّ لكون المعنى ساكنًا فيه . فالله هو معنى الإنسان وحقيقة الإنسان الباطنة . وهو الاقتضاء المطلق والطاقة المطلقة ، بهما تتحدّد أصالة الإنسان . وبالتالي لا يصير الله حقيقة واقعيّة إلاّ في الإنسان وللإنسان . وبالتوازي ، لا يصير الإنسان قيمة إلاّ بالله . ومن وجه آخر ، كان الإيمان اختبارًا له خصوصيّته ، لكونه لا يُعدّ من سائر اختبارات الاستلاب . لكنّه يبقى اختبارًا إنسانيًّا ، يعيشه الإنسان الواقعيّ ، بفعل ما يكوّن فيه الوضعيّة الإنسانيّة بكلّيّتها . على هذا الأساس كان الإيمان الاختبار الإنسانيّ الأسمى ، لأنّه اختبار الأصالة . والإيمان هو اختبار الاقتضاء المطلق والطاقة المطلقة في داخل الإنسان ، أي اختبار معنى الوجود الإنسانيّ . والإيمان ، على قدْر ما يكون اختبارًا لله ، يكون اختبار الحرّيّة الأسمى . ولذا كان الإيمان موقفًا نقديًّا من بطلان الوجود ، يرمي إلى جعل هذا الوجود مطابقًا للمعنى ، أي لمِلء حقيقته .
وخلاصة القول أنّه ، إذا وجب محاسبة العَلمانيّة المتطرّفة أو المعتدلة بقياس منجزاتها بمقاس مبادئها ، وجب كذلك محاسبة الدين ، أي الأنظومة الدينيّة ، بقياس منجزاته بمقاس ما يبرّر وجوده . ذلك أنّ الكيان الإنسانيّ ذو وجهَين أو بُعدَين ، بُعد الواقع المحسوس الخاضع لأحكام العلم والتقنية ، وبُعد المعنى الذي يسعى إليه الإيمان المتجسّد في الأنظومة الدينيّة . فالإنسانيّة تكتمل بالتطابق بين الواقع والمعنى . فأنسنة الناس هي حصرًا ما يبرّر وجود المجتمع الإنسانيّ ، ووجود الدين كعنصرٍ من عناصر هذا المجتمع .
ثمّ الدين هو في آنٍ طاقة إيمانيّة وأنظومة مؤسّسات . ولمّا كانت الأنظومة تعبيرًا عن الإيمان ، بات الإيمان هو ما يحاسب الأنظومة بقياس منجزاتها بمقاس كلٍّ من وظيفتَي أيّ تعبير ، أي أن تكون الأنظومة تعبيرًا عن الإيمان وليس عن مصالح وأهواء ، وأن تكون تعبيرًا يفهمه الناس ويعيشونه ويعيشون به إيمانهم . فإذا لم تعبّر الأنظومة الدينيّة عن الإيمان ، بطلت . وإذا لم يعد الناس يفهمون اللغة الرمزيّة التي نشأت عليها الأنظومة الدينيّة فباتوا لا يستطيعون بواسطتها عيش إيمانهم ، بطلت ، أو بطل منها ما لم يدخل عنصرًا من عناصر الثقافة في تغيّراتها وحالاتها المتتالية .
فلمّا كان للإيمان دور المحاسبة والنقد ، صار الإيمان أقرب ما يكون إلى العقلانيّة من حيث كان جوهرها هو النقد بالذات . فلا خصومة ولا منازعة ولا تناقض ، كما درج القول ، بين الدين بما كان الإيمان أحد بُعدَيه ، والعقل بوصفه عقلانيّة نقديّة .
إذّاك أمكن الخلوص إلى عبرتَين . إحداهما أنّ العَلمانيّة قد تدعو الدين إلى التحرّر وإعادة تفعيل وظيفة الإيمان فيه وفي المجتمع الإنسانيّ . فهي إذًا فرصة متاحة للدين كي يكون بالإيمان شاهدًا للمعنى المطلق . والعبرة الثانية هي أنّ العَلمانيّة قد تكون أساس المجتمع الإنسانيّ الصحيح ، لكون الديمقراطيّة تتأسّس عليها . هذا إذا كانت الديمقراطيّة في جوهرها مشاركة في العيش وعدالة ومساواة وأخوّة ، وإذا كانت احترامًا للكرامة الإنسانيّة واحترامًا للحرّيّة التي بها يتحدّد جوهر الإنسانيّة .
2- المقولات الدينيّة وتأويلها الأنتروبولوجيّ
إذا تفحّصنا عناصر الأنظومة الدينيّة ، وجدنا أنّ مقوّماتها الأساسيّة هي مقولات الله والوحي والإيمان والخلاص . فكان السؤال ماذا تعني كلٌّ من هذه الكلمات ، وأساسًا هل يستطيع الكلام أن يعبّر عن معانيها . سبق القول إنّ هذه المقولات إنّما هي من إفرازات الإيمان ، حيث لم يكن لغير المؤمن أن يقول بأيٍّ منها ، لكون الدين - بما يحتويه من معتقدات وعبادات وأخلاق ونُظم اجتماعيّة - إن هو إلاّ تعبير عن الإيمان . إذّاك كان علينا البدء بالبحث في الإيمان من حيث قولُه بالله والوحي والخلاص ، ولو كان الإيمان يقول إنّه هو عطيّة من الله ، وإنّ لله المبادرة في إقامة علاقته بالإنسان في شكل الوحي وفي شكل وعد الإنسان بالخلاص ، وإنّ الله ينتظر من الإنسان جوابًا هو الإيمان والطاعة . منهجيًّا يجب البدء بالبحث في الإيمان ، بما هو موقف يقفه الإنسان ، وفي موضوع الإيمان ، أي ما يقوله الإيمان .
في التصوّر الدينيّ - المتأسِّس على الإيمان - أنّ الإيمان موقف اعتقاد وتصديق ، أي إنّه موقف معرفيّ ، علمًا أنّ الاعتقاد الإيمانيّ يتميّز من الاعتقاد العقليّ بكون موضوعه الإلهيّ يفوق القدرة الطبيعيّة التي للعقل البشريّ ، ويتطلّب بالتالي نور الوحي الفائق الطبيعة . لكنّ الإيمان لا ينحصر في نطاق المعرفة . فهو موقف وجوديّ ، بمعنى أنّ الإنسان ، بكلّ قواه ومقوّماته ، يلتزم العيش وفاقًا لما يعتقد . لا يعني ذلك إزالة المعرفة ، بل يعني أنّ دور المعرفة العقليّة هو دور ثانويّ في الإيمان . فقبل المعرفة ثمّة الحياة ، وقبل علم اللاهوت ثمّة الاختبار . لذلك ليس الإيمان ، قبل أيّ شيء ، قبولاً بالمعتقَد ، بل هو اختبار تجاوز الإنسان حدودَه في انطلاقته نحو الله .
هذا الموقف الإيمانيّ ينشأ ، في مرحلة أولى ، سلبيّة ، من شعور ببطلان الأشياء كلّها ولّده اختبار الانقسام الداخليّ ، وعدم الاكتمال ، وعدم وجوب الوجود ، والظلم والعنف القائم بين الناس ، والاستلاب . اختبار العبثيّة هذا ليس المرحلة الوحيدة والأخيرة . ففي الواقع يبدو من غير الممكن عيش العبثيّة واستساغتها والقبول بها . والعبثيّة في ذاتها تفترض نقيضها ، بمعنى أنّ الحكم على شيءٍ ما بأنّه عبثيّ يفترض تأكيد المعنى أساسًا ومرجعًا للحكم . وتأكيد المعنى هو الإيمان عينه . ثمّ إنّ الإيمان يكون على درجتين أو اتّجاهين . فهو إمّا الرغبة في الخلاص الذاتيّ ، أو قصد المطلق . وقد عبّر عالم اللاهوت تيليخ Tillich عن قصد المطلق بأنّ الإنسان يؤخَذ بالاهتمام الأسمى ( أو بأسمى ما يهمّ ويعني ) Ultimate Concern ، علمًا أن هذا الاهتمام يتجلّى بطرح الأسئلة حول البدايات والنهايات . فالرغبة في الخلاص هي الحاجة إلى الطمأنينة ودفع الخوف من الموت والفناء . على هذا المستوى ، كان الإيمان طلب السعادة ، أي التمتّع بمباهج ليست من الدنيا أو لا يمكن التمتّع بها في الدنيا . وعلى هذا المستوى من الطموح يتركّز الإيمان على الإنسان بما هو كائن محسوس . أمّا على مستوى الطموح الأعلى ، فالإيمان ، من حيث هو قصد المطلق وسعيٌ نحو الكيان الأصيل ، هو تجاوز للوضعيّة البشريّة . فالمقصود على هذا المستوى ليس السعادة أو المتعة ، بل هو بالحريّ تلبية رغبة الإنسان في أن يكون مقرَّبًا إلى الله ، لا بل أن يصير هو الله ، علمًا أنّ هذه الرغبة إنّما هي أعمق وأثبت ما في جوهر الكيان البشريّ . وعلى هذا المستوى نفسه ، يُعاش الإيمان تسليمًا لله وقبولاً بما قضى الله وشاء ، دونما الْتِفات إلى منفعة يجنيها الإنسان من هذا التسليم .
وقد يكون الإيمان ، كما يعيشه الناس ، على أشكال . منها الإيمان الصرف fidéisme ، وهو يُعرِض عن تساؤلات العقل ويكتفي بحرفيّة النصّ المنزل textualisme وبالسلوك وفقًا لأحكام الشريعة المنزلة . ومنها محاولات إدراك معطيات الوحي ، سواء عن طريق الاختبار الصوفيّ أو عن طريق التنظير . والتنظير الإيمانيّ يكون بإخضاع العقل واستخدامه لوضع ما يسمّى بعلم اللاهوت أو بعلم الكلام . وغالبًا ما يؤدّي هذا التنظير إلى العقَديّة dogmatisme فإلى التعصّب fanatisme . ومن أشكال الموقف الإيمانيّ موقف التأمّل والتزام الصمت apophatisme حيال كلام إلهيّ يفوق بحدّ ذاته الإدراك البشريّ .
والإيمان ، بما هو قصد المطلق ، هو في آن ديناميّة وتوجّه . وهو ليس غريبًا عن القوى الحيّة التي يقوم بها الكائن الإنسانيّ ، بل هو تجميع هذه الطاقات وتحوّلها إلى تجاوز . وعيش الإيمان ، بالنسبة إلى الإنسان الذي يختبره ، هو قبل أيّ شيء تحوّل جذريّ les0moia metanoia ، ينتقل به الإنسان من وضعيّته الطبيعيّة إلى حالة النعمة . وهذا التغيير في حالة الكائن الإنسانيّ قد يتصوّره بعض الأديان كتحوّل أنطولوجيّ ، حيث يزول الإنسان العتيق ليظهر الإنسان الجديد .
من مفاعيل الإيمان أنّه اختبار الحرّيّة أو التحرّر من كلّ ما يعيق السعي إلى الله أو التوجّه نحو المطلق ، أي من العبوديّات التي تأسره في دائرة الباطل . وإذا كان الإنسان يتقوّم بالحرّيّة ، كان الإيمان الشكل الأسمى للاختبار الإنسانيّ . لذا ليس الإيمان اختبارًا كغيره من الاختبارات ، بل هو حركة التجاوز واقتضاء التجاوز والحرّيّة التي بها تترقّى كلّ الاختبارات .
ومن مفاعيل الإيمان أيضًا أنّه يوحّد الكائن الإنسانيّ ، علمًا أنّ الوحدة هي شرط الوجود وترادف المِلء والاكتمال . فالإيمان يُزيل انقسام الإنسان الداخليّ الذي سبّب تضارب الحتميّات الغريزيّة ، وبذلك يكون إرادةً واستقلاليّة . والإيمان يوحّد المجتمع ، وذلك لأنّه ، إذ يطلب المطلق حصرًا ، يصفّي العنف وجميع أنواع الأسر الاجتماعيّ . وعلى هذا النحو فهو يحقّق توحيد الناس في علاقة محبّة ومشاركة .
والإيمان يحرّر القوى الخلاّقة . فهو ، إذ يجنّد كلّ الطاقات في سبيل المطلق ، يخلق ، قبل أيّ شيء ، الإنسان الجديد ، الذي يترجم حقيقته المستعادة سلوكًا متحرّرًا ، بمعنى أنّه عودة ومسيرة إلى الأصالة .
من جهة أخرى ، لمّا كان الإيمان ابتغاء المطلق ، فهو براكسيس سياسيّة . فإنّه يُترجَم بحركة مزدوجة ، حركة نحو الداخل وحركة نحو الخارج ، وهي تدعى أيضًا حركة صوفيّة وحركة سياسيّة ، أو توصف ، بطريقة أشمل ، بالعموديّة والأفقيّة . فإذا كان من العبث الفصل بين ابتغاء المطلق والبراكسيس السياسيّة حتّى التعارض ، فمن العبث أيضًا الفصل بين العموديّة والأفقيّة حتّى التعارض ، وبالتالي الفصل بين الكلمة والفعل ، أو أيضًا ، بين التأمّل والعيش .
بهذا المعنى يمكن استعادة صيغة تترجم فكرةً مشتركة بين الفكر الدينيّ المسيحيّ والفكر الدينيّ الإسلاميّ ، وهي أنّ الإنسان الحقّ هو المؤمن ، إنسان الإيمان . وإنّ هذه الصيغة ، إذا ما تُرجمَت ، تعني أنّ الإيمان هو الاختبار البشريّ الأسمى ، لأنّه اختبار الحرّيّة . وإنسان الإيمان هو الإنسان المأخوذ في حركة تجاوز تحمله إلى أبعد ممّا هي عليه وضعيّته الباطلة ، إلى أصالته ، وهو الإنسان المأخوذ في حركة ارتقاء تحمله نحو إلهٍ يكون حقيقة الانسان .
والآن ، إذا نظرنا إلى الإيمان كما يعيشه الناس ، كان السؤال الأوّل حول علاقة الإيمان بالتقليد ، أي بالماضي ، وبالحاضر ، أي بالتحوّل والقرار الآنيّ . على اختبار الإيمان أن يكون قرارًا يتّخذه الإنسان شخصيًّا ، وأن يكون موافقًا لبنية الإيمان المتعارَف عليها تقليديًّا . ذلك لأنّ الإنسان ، في وضعيّته الإنسانيّة ، يبدو في آن وريثًا ومبدعًا .
والسؤال الثاني يُطرَح حول أبعاد الإيمان الوجوديّة ، فلاختبار الإيمان - كما لأيّ اختبار إنسانيّ - بُعد شخصيّ وبُعد جماعيّ وبُعد تاريخيّ . فكان الإيمان ، في بُعده الشخصيّ ، دافعًا للإنسان نحو توحّده وتحرّره وأصالته . وكان ، في بُعده الجماعيّ ، يتحقّق من صحّة بُعده الشخصيّ . وكان ، في بُعده التاريخيّ ، يحقّق صحّة بُعده الجماعيّ . إلاّ أنّ هذه الأبعاد تتآلف لتكوّن فعل الإيمان الحقيقيّ . ذلك لأن ليس من شخص إلاّ ضمن جماعة وفي سياق تاريخيّ ، كما ليس من جماعة وتاريخ إلاّ بأشخاص اكتملوا بفعل اختبار الإيمان .
فالإيمان يعيشه كلّ إنسان شخصيًّا ، ولا يستطيع أن يوكل أحدًا غيره بالقيام به بالنيابة عنه . ثمّ إنّ هذا الإيمان الشخصيّ يُعرَف إيمانًا حقيقيًّا لتوافقه مع إيمان الجماعة الحاضرة ، ومع إيمان الجماعة على مدى تاريخها .
ثمّ ليس من إيمان إلاّ متى تحقّق أفعالاً ، وإلاّ بات وهمًا . بذلك كان الإيمان في آن اعتقادًا وطاعة . بالاعتقاد يستبطن المؤمن ما عليه أن يعلم . وبالطاعة يقوم المؤمن بما ألزمته به الشريعة من عبادات وفرائض . وهذا يعني أنّ الإيمان يعبّر عن نفسه باستعمال جميع وسائل التعبير المتاحة في ثقافةٍ ما ليكوّن الأنظومة الدينيّة ، بحيث تكون الأنظومة الدينيّة ، أو الدين ، التعبير الثقافيّ عن الإيمان .
هذا التمييز بين الإيمان بما هو طلب المطلق ، والدين بما هو أنظومة ذات طابع ثقافيّ ، يردّ ادّعاء التصوّر الدينيّ أنّ الإيمان يرفع المؤمن إلى درجة أنطولوجيّة تفوق وضعيّته البشريّة ، ويردّ ادّعاء التصوّر اللادينيّ أنّ اختبار الإيمان إنّما هو اختبار طفوليّ ، بل شبه مرَضيّ . ففي التصوّر الأنتروبولوجيّ ، يبدو الإيمان اختبار الحرّيّة والسعي إلى اكتمال الكيان الإنسانيّ وأصالته وحقيقته . ويقوم الإيمان أيضًا بوظيفة نقديّة ، تجعله أقرب ما يكون إلى العقل ، حيال الحياة بأبعادها ، وحيال الأنظومة الدينيّة . فمع مرور الزمن وتبدّل وجه الثقافة ، قد يتطوّر وجه الدين فيبقى حيًّا في وجود الناس ، وقد يتجمّد في شكلٍ كان له في مرحلة من التاريخ ، بحيث صار لا يعبّر حقًّا عن الإيمان ، بل عن مصالح الناس أو رغباتهم ، أو صار لا يفهم الناس معنى رموزه . إذّاك قد تقوم حركات إصلاحيّة تحاول التوفيق بين الدين ووجه الثقافة الجديد ، وتأويل الرموز الدينيّة في لغة يفهمها الناس .
بالطبع يحتاج الناس إلى إشارات استدلال لتحديد موقعهم وإلى إطارات تحدّد معالم موقعهم . في هذا السياق لا بدّ من القول بأنّ شيئًا ، مهما قلّ ، من عناصر الأنظومة الدينيّة ، أي من المؤسّسات المعتقديّة والمجتمعيّة ، يبدو ضروريًّا . ولكن ، من وجه آخر ، ينبغي موازنة طلب الطمأنينة الآمنة بشيء من ديناميّة مجابهة الخطر التي بدونها لا يصير الإنسان إلى حال البلوغ . في هذا المنحى ، كانت الدعوة الإصلاحيّة إلى تخطّي الطقوسيّة وإلى التحرّر من التعلّق المرَضيّ بالشريعة والتمسّك الأعمى بالشكليّات ، شرطًا لا بدّ منه لتفعيل الحيويّة الدينيّة . فإذا تبيّن أنّ الأنظومة الدينيّة هي فعلاً وسيلة صالحة لعيش الاختبار الإيمانيّ ، إذّاك لا مانع من استعمالها واحترامها . ولكن ، إذا تبيّن أنّ الأنظومة باتت صيغة غير مطابقة لمضمونها ، وإذا تبيّن أنّ الدين ، مهما كان عليه من رواج ونشاط ظاهر ، هو على تفاوت مع الإيمان ، وبالتالي قد يؤدّي إلى إطفاء شعلة الإيمان والاستيلاء عليه ، اقتضى آنذاك كشف هذا الخطر . فالأمانة لا تكون في جوهرها أمانة للأنظومة أو للتراث ، بل أمانةً للمعنى وللحقّ . ومن الثابت في هذا المجال أنّ أمانةً للحقّ كهذه ، وليس طاعة الناس ، هي روح التراث الحقيقيّ .
وربّما وجب المضيّ إلى ما هو أبعد ، والنظر في كون الأنظومة الدينيّة بوجه عامّ تدّعي لنفسها امتياز التعبير عن اختبار الإيمان الأساسيّ . ذلك لأنّه ليس من الثابت أنّ الأفعال الموصوفة بأنّها دينيّة تعبّر دائمًا عن السعي إلى الله تعبيرًا أصدق ممّا يمكن أن تعبّر عن هذا السعي سائرُ الأفعال الإنسانيّة التي توصَف بأنّها أفعال دنيويّة . وعليه أمكن القول إنّ ما ينبئ عن المعنى وعن الوضع البشريّ المعاش سعيًا إلى المعنى هو المقولات الدينيّة المدوّنة في الكتب المنزلة ، كما المقولات المدوّنة في الكتب الدنيويّة ، كما هو أيضًا السلوك البشريّ والحوادث والكائنات . كلّ ذلك يمكن أن يسمّى كتابة ، بمقدار تجلّى المعنى أو المطلق الذي يعيشه الناس في الكتب ، وفي السلوك الإنسانيّ ، وفي الحوادث ، وفي الكائنات . إذّاك وجب القول إنّ كلّ ذلك يحتاج إلى تأويل ، أي إلى اعتباره إشارات تدلّ على المعنى المستهدَف ، وتدعو إلى اختبار هذا المعنى وعيشه في الظروف المكانيّة والزمانيّة الخاصّة بكلّ إنسان .
وأخيرًا ، يقول المؤمن إنّ الإيمان عطيّة من فضل الله ، بمعنى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يكون مؤمنًا حقًّا بفعل قدراته الطبيعيّة ، بل يصير مؤمنًا بفضل إنعام من عند الله . ذلك لأنّ الإيمان يتحدّد ، ليس ببنيته الذاتيّة كاختبار يعيشه الإنسان المؤمن وحسب ، بل بالحريّ بموضوعه ، أي الله والوحي والخلاص . ولمّا كان الإيمان جواب الإنسان عن كلام الله ، كان الموضوع الأوّل للإيمان هو الوحي ، به يُعرَف الله وما يشاؤه للإنسان ، أي الخلاص .
في التصّور الدينيّ أنّ الله كلّم الناس وحيًا . فهو إذن كائن موجود وجودًا شخصيًّا متميّزًا ومتعاليًا . لكنّ وجوده الذاتيّ وأوصافه وأسماءه وأفعاله ومقاصده ، هذه كلّها ينبئ عنها كلام الوحي الإلهيّ . فالله يخاطب الناس بواسطة أنبياء وكتب منزلة ، ثمّ بواسطة من أقامهم رؤساء ومعلّمين في الجماعة المؤمنة . والوحي كلام الله في شكل كلام بشريّ . فالسؤال إذّاك هو كيف يميّز الناس هذا الكلام البشريّ الذي يتجلّى فيه كلام الله من أيّ كلام بشريّ آخر . الجواب الوحيد الممكن هو أنّ الإيمان وحده يقوم بالتمييز ، دون أيّ تدخّل ملزم من العقل والاختبار . وفي التصوّر الدينيّ أنّ مثل هذا الإيمان القادر على تمييز كلام الله من كلام البشر لا يكون إلاّ بفعل نعمة من الله ترفع الإدراك البشريّ إلى صعيد الإدراك الإيمانيّ . إذًا كان الإيمان هو في آن الحكْم والحكَم والسؤال والجواب . هو الإيمان يقول بالوحي ، ويؤسّس نفسه على الوحي . واستتباعًا لهذه المسألة ثمّة مسألة معرفة أيّ الناس هو النبيّ المرسَل . والجواب من عند النبيّ عينه ، فهو يقول إنّ الله أرسله ، وإنّ كلامه هو كلام الله المنزَل بواسطته . ورسالة النبيّ هي أيضًا من تأكيدات الإيمان ، وعليها يتأسّس الإيمان . وذلك بمعنى أنّ الإيمان يبرهن عن الرسالة ، وأنّ الرسالة تبرهن عن الإيمان . من الواضح أنّ أساس التصوّر الدينيّ في ما خصّ الوحي والرسالة والنبوّة إنّما هو الإيمان ، وأنّ الإيمان يقول عن نفسه إنّه من عند الله .
أمّا ما يقوله الله ، أي ما أنزله على النبيّ وأرسله به ، فهو الدين كلّه بمعتقداته وعباداته وفرائضه ، أي الشريعة بكاملها ، يبلّغها النبيّ المرسَل للناس وتُدوَّن في كتاب . إذًا في التصوّر الدينيّ أنّ الأنظومة الدينيّة بعناصرها منزلة من عند الله ، وليست من صنع البشر . لذا لم يكن لبشر أن يغيّر فيها أو يبدّل ، بل على كلّ بشريّ أن يتلقّاها ويلتزمها بأقصى ما أمكن من الأمانة . بذلك يكون الإيمان قد حصّن موضوعه من التشكيك ، وتحصّن من التشكيك بموضوعه المحصَّن . معنى هذا كلّه أنّ الأنظومة الدينيّة بكلّ عناصرها هي من فعل الإيمان ، وأنّها تعبّر عن هذا الإيمان .
يبقى النظر في مقولتَي الله والخلاص اللتين هما في الأنظومة الدينيّة بمثابة المصدر والغاية .
ما هو الله في التصوّر الدينيّ وما هي أوصافه وأفعاله ووعده ووعيده . في هذا التصوّر يستند كلّ ما يقال في الله إلى مبدإ المماثلة التي تصل الإنسان بالله . ويستند مبدأ المماثلة هذا إلى القول بأنّ الإنسان خليقة الله وصنعه ، بحيث تأكّد نوع من الشبه بين الصانع وما صنع . ولمّا كان مبدأ الإيمان ، من وجه آخر ، أنّ الله لا شبيه له أو ليس كمثله شيء ، صار على التصوّر الدينيّ أن يبتدع أشكالاً من المماثلة تمكّن من بعض القول في الله . من هذه الأشكال التنزيه ، أي الامتناع عن التشبيه أي عن نسبة أوصاف بشريّة لا تليق لا بالإنسان ولا بالله . ومن أشكال المماثلة أيضًا نسبة أوصاف إنسانيّة حميدة إلى الله برفعها إلى منتهى الكمال .
لكنّ التصوّر الدينيّ ، إذ يسلك طريق المماثلة على شكليه ، يفوته أنّه يناقض مبدأ مبادئه ، وهو أنّ الله ليس كمثله شيء . فمثلاً ينسب إلى الله الوجود كما ينسبه إلى سائر الموجودات ، مفترضًا أنّ الوجود في الله مماثل للوجود في الإنسان وغيره من الكائنات ، وأنّ العقل يدرك بالتالي معنى الوجود في الله استنادًا إلى إدراكه معنى الوجود في الإنسان والكائنات . وذلك في حين أنّ منطق مبدإ تعالي الله يجعل من الممتنع على العقل البشريّ إدراك معنى الوجود متى نُسب إلى الله . والأمر نفسه ينسحب على سائر الصفات ، كالحياة والكلام والإرادة وغيرها . قد يعرف العقل إلى حدٍّ ما معنى هذه الصفات الإنسانيّة ، لكنّه يمتنع عليه معرفة معناها متى نُسبت إلى الله . ثمّ متى قيل إنّ الله لا يمكن أن يوصَف بهذه الصفة أو تلك ، لكونها غير لائقة ، فيُسأل قائل هذا القول كيف له أن يعرف ما يليق أو ما لا يليق بالله ، وهل جعل نفسه مساويًا لله فعرف ما على الله أن يكون أو لا يكون . ومنهم من قال مثلاً إنّ الله شيء لا كالأشياء ، وفاته أنّ هذا التنزيه يتضمّن نقيضه ، فإمّا أن يكون الله شيئًا ولو كان لا كالأشياء ، أو أن يكون قائل هذا القول لا يدرك معنى قوله .
ثمّة طريق آخر للكلام في الله ، هو كلام الله نفسه . وفي هذا ليس من تناقض في التصوّر الدينيّ ، حيث المبدأ هو أنّ الله وحده يمكنه أن يعبّر عن نفسه . ففي الكتب المنزلة أسماء وصفات يعتبرها الإيمان كلام الله في الله . فيقوم التصوّر الدينيّ بمحاولة إدراك الله ما أمكن ذلك من خلال معاني هذه الأسماء والصفات المنزلة . لكنّ الدور هنا يقوم في الاعتقاد بأنّ كلام الله يستثير الإيمان ، في حين أنّ الإيمان هو الذي أكّد أنّ كلامًا ما هو كلام الله .
وتفصيلاً ، في التصوّر الدينيّ أنّ الله ، في ذاته ، كائن ، وكائن شخصيّ ، وكائن متعالٍ ، وأنّه قائم بذاته ، وأنّه ملء الوجود .
القول في الله إنّه كائن أو شيء أو موجود مفاده أنّ الله ليس عدمًا . لكنّ المفردات المستعملة تحمل معنى إيجابيًّا ، حيث صار الله شيئًا لا تُدرَك شيئيّته ، لكونه لا كالأشياء . ثمّ إذا كان الله كائنًا ، صار في عداد الكائنات ، ولو كان فوق جميعها ومختلفًا عنها . فبطل أن يكون هو الوجود كلّه ، وبطل أن يكون المطلق ، حيث تشاطره الوجود كائنات ليس وجودها كوجوده ، فحدّت بذلك وجوده .
والقول في الله إنّه شخص ، أو كائن شخصيّ ، يتميّز بالوجدان والحرّيّة ، قول لا يخلو من الْتباس . ذلك لأنّ الشخص قد يعني أيضًا الكائن الفرد ، أي الجوهر الأوّل ، على ما ذهب إليه أرسطو . والجوهر الأوّل هو ما كان جسمًا وشغل حيّزًا وحمل أعراضًا . وهذا يتنافى والقول في الله إنّه روح لا يحويه مكان ولا تحدّه أعراض .
والقول بتعالي الله يثير التشكيك في مفهوم التعالي . فالتعالي قد يعني أنّ الله ليس كمثله شيء ، فصار بالتالي متفرّدًا في ذاته ، لا علاقة له بأيّ شيء سواه . إذّاك ، متى قال قائل بتعالي الله ، أبطل التعالي بقوله هذا ، حيث القول علاقة بالشيء موضوع القول . أو وجب افتراض وجود شيءٍ ما في القائل يقابل التعالي ويجعل القول بالتعالي ممكنًا . في الحالتين ، صار المتعالي على نحوٍ ما ماثلاً في من تصوّره وأكّده . من هذا المنطلق قالت الفلسفة المثاليّة الألمانيّة ، المتمثّلة بشيلينغ وهيغل وشلايرماخر وغيرهم ، بمثول اللامتناهي في المتناهي .
ثمّ إذا كان لله أسماء وصفات ورد ذكرها في الكتب التي قرّر الإيمان أنّها منزلة ، صار السؤال هل تدلّ هذا الأسماء والصفات على وجوه من ذات الله ، أو على وجوه من أفعاله . قد يقال إنّه ، لمّا كانت ذات الله يمتنع إدراكها والتعبير عنها ، صارت هذه الأسماء والصفات تدلّ على أفعال الله ، أي على أنواع علاقته بالإنسان . بهذا المعنى كان الله هو الخالق والموحي والمشترع والمدبّر والديّان والمُجازي . وإذّاك هل تعني هذه الأسماء والصفات في الله ما تعنيه في الإنسان . فمثلاً هل خلق الإنسان يشبه خلق الله ، وهل اشتراع الإنسان يشبه اشتراع الله . إذا كان الله ليس كمثله شيء ، كان بالضرورة فعله غير فعل الإنسان ، حيث الفعل يوافق الكيان ، كما الثمرة توافق الشجرة . إذّاك يعود السؤال هل من توافق في المعاني ، وليس في الألفاظ وحسب ، بين كلام الله وشكل الكلام البشريّ الذي اتّخذه نطقًا وكتابةً . وإذا أُجيب عن هذا السؤال أنّ الله أوحى بأوامره ونواهيه وبوعده ووعيده ، كان تصوّر علاقة الله بالإنسان على مثال علاقة السيّد بالعبد ، وصار ذلك نوعًا من التشبيه يناقض القول إنّ الله ليس كمثله شيء .
من وعد الله للإنسان الخلاص . والخلاص ، في التصوّر الدينيّ ، مكافأة الطاعة بالنعيم في الآخرة . إذن كان ثمّة ، من جهة الله ، أمر ونهي ، ومن جهة الإنسان ، طاعة أو معصية . ثمّ كان ثمّة دينونة أو محاسبة ، يليها ثواب بالجنّة أو عقاب بالنار . من البديهيّ أنّ هذا التصوّر أساسه الإيمان ، أي تصوّر بشريّ لما كانت عليه الحياة الجماعيّة ، حيث يخضع الفرد لشريعة الجماعة ، ويًحاسَب على أعماله ويُجازى عليها . ويحصّن الإيمان هذا التصوّر من التشكيك بنسبته إلى الله . لكنّ هذا أيضًا يناقض القول في الله إنّه ليس كمثله شيء . فعلاقة الله بالإنسان ليست كمثل علاقة الإنسان بالإنسان .
هذا القول في الله إنّه ليس كمثله شيء يقود إلى اعتبار أيّ كلام دينيّ كلامًا رمزيًّا ، وجب تأويله . لكن ، لمّا كان التأويل يعنى أساسًا ردّ الكلام أو أيّ موضوع آخر من ظاهره إلى أوائله أي إلى باطنه وحقيقته ، كان السؤال هل بمقدور الإنسان ردّ رموز الكلام الدينيّ البشريّ إلى حقيقته الإلهيّة . فلمّا كان ذلك ممتنعًا على الإطلاق ، كان التأويل إدراك المعنى البشريّ للكلام البشريّ ، حتّى متى اعتُبر هذا الكلام صورةً عن كلام الله . ذلك لأنّ السؤال قد يُطرَح كبف يكون كلام بشريّ صورة عن كلام الله ، وكيف يُعرَف تطابق معاني الكلام البشريّ مع معاني كلام الله . الجواب الوحيد هو أنّ الإيمان يؤكّد ذلك ، وأنّه يتحصّن من التشكيك في صدقه بأنّه من عند الله . ممّا يعني أنّ التصوّر الدينيّ ، المتأسّس على الإيمان ، يقطع أيّ علاقة قد تكون له بتصوّر غير دينيّ . فصار الدين حقلاً مغلَقًا على نفسه . إذّاك لا عجب في أن يعتبره التصوّر العلميّ أو الفلسفيّ عالَمًا أنتجه الخيال أوهامًا لا تشير إلى أيّ واقع ، وألفاظًا لا تفيد أيّ معنى .
أمّا في التصوّر الأنتروبولوجيّ ، فالرموز الدينيّة التي يتقوّم بها الكلام الدينيّ لا ترمز إلى غير عالم الإنسان . لذا كانت الأنظومة الدينيّة ، في هذا التصوّر ، التعبير الثقافيّ عن الإيمان ، وكان الإيمان طلب المطلق . والوضع يبدو على الوجه الآتي . بالإيمان افترض الإنسان الوحي والله والخلاص . وبالإيمان طلب الإنسان الخلاص ، أي المطلق ، فافترض اللهَ والوحي .
يبقى السؤال من أين وكيف نشأ الإيمان بما هو طلب المطلق ، وماذا يمكن أن يكون هذا المطلق المقصود .