الفصل الرابع: قصد المطلق

يقود تحليل الأنظومة الدينيّة ووصفها إلى السؤال عن المعنى الذي تعبّر عنه . قلنا إنّ هذا المعنى هو طلب المطلق . لذا كان موضوع هذا الفصل محاولة الإجابة عن السؤالين المذكورين في آخر الفصل السابق : من أين وكيف نشأ طلب المطلق ، وماذا يمكن أن يكون هذا المطلق الذي يطلبه كائن غير مطلق . يليهما السؤال هل يمكن الإنسان طالب المطلق أن يدركه ، والجواب عنه بامتناع تلبية هذا الطلب.

1- من أين قصد المطلق

يفترض السؤال عن نشأة قصد المطلق إمّا أنّه صار في الإنسان بعد أن لم يكن من عناصر طبيعته ، أو أنّه كان من تكوين طبيعة الإنسان . في هذا المنحى الثاني ، تُذكَر النظريّة الدينيّة ، نظريّة رغبة الإنسان الطبيعيّة في الله - desiderium naturale باللاتينيّة - ، القائمة على أساس أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله . إذًا ثمّة بعض المشاركة بين الله والإنسان تجعل الإنسان يسعى إلى التشبّه بالله ، بل تجعله يرغب بشكل من الاتّحاد بالله . في هذا السياق يندرج القول المنسوب إلى الله ( جديث قدسيّ ) : كنت كنزًا مخفيًّا ، فأردتُ أن أُعرَف ، فخلقت الكون . لذا كان في الخلق توق إلى معرفة الله ، أي إلى الاتّصال به والاتّحاد به ، حيث المعرفة تجعل المعروف ماثلاً في العارف ، أي تجعل العارف والمعروف في الفعل شيئًا واحدًا .

وثمّة نظريّة تقول بأنّ رغبة الإنسان في الله هي من فعل إنعام الله ومن فضله . فالله يرفع طبيعة الإنسان إلى حال تجعل الإنسان قادرًا على الرغبة في الله . يقوم هذا التباين بين النظريّتين على فكرة الفصل بين ما هو بشريّ وما هو إلهيّ ، بمعنى أنّ الله ليس كمثله شيء . فإذا كانت بين الله والإنسان علاقةٌ ما ، فهي حتمًا ليست من طبيعة الإنسان ، بل حصرًا من فضل الله .

وعلى خلاف النظرة الدينيّة ، ثمّة نظريّات تدّعي الكشف عن نشأة قصد المطلق على أساس نفسيّ أو اجتماعيّ وتاريخيّ أو بنيويّ ، أو على أساس “ كينونة الـهُنا ” Dasein .

في نظر فويرباخ ومن بعده فرويد ، ينشأ قصد المطلق بفعل عمليّة الإسقاط . فقصد المطلق ينشأ من قصد الإنسانيّة الشاملة ، أو من القصد الطفوليّ للأب المثاليّ . والإسقاط يبدو في هذه النظرة النفسيّة من فعل التخيّل المنتج للأوهام .

وفي نظر ماركس ، ينشأ قصد المطلق من اختبار الاستلاب والخداع بفعل عمليّة التعويض . فحيث كان الإنسان المستغَلّ مستلَبًا ومخدوعًا ، وكان يتميّز بالتاريخيّة ، أخذ يحلم ويتوهّم حالة مثاليّة ليست من هذا العالم .

وفي نظر البنيويّة ، يتوهّم الإنسان أنّه كائن ذاتيّ له أن يقول “ أنا ” بكامل وعيه ، في حين أنّه في الواقع ليس إلاّ نقطة تلاقي البنى الأحيائيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة واللسانيّة ، علمًا أنّ هذه البنى هي ما يمكن اعتباره بمثابة المطلق .

أمّا عند هايدغر ، فقصد المطلق قد ينشأ من الخلط بين الكينونة والله ، علمًا أنّ هايدغر يترك للأديان إلههم ، ويجعل الكينونة موضوعًا يخصّ الفكر . وهو ، في حال أكّد الله ، إله الأديان ، جعله لا يُدرَك إلاّ من خلال إدراك الكينونة فالمقدَّس فالألوهة .

خلاصة القول في هذه النظريّات أنّها قد بيّنت المفارقة في أن يكون كائن نسبـيّ يقصد المطلق . لكنّها لم تحاول تفسير قصد المطلق بما هو في الإنسان طلب اكتمال كيانه .

أمّا في التصوّر الأنتروبولوجيّ ، فنقطة الانطلاق للإجابة عن السؤال من أين قصد االمطلق هي اختبار الخيبة . ذلك لأنّ الخيبة ، في الواقع الإنسانيّ ، هي الاختبار النموذجيّ ، بمعنى أنّ أيّ اختبار إنسانيّ ، أعاشه الإنسان في مجال التقنية أم في مجال الفنّ أم في مجال الأخلاق أم في غيرها من مجالات الحياة والثقافة ، ينبني وفاقًا لبنية اختبار الخيبة . فعلى سبيل المثال لا يرضى الصانع بصنعته مكتفيًا بتكرارها ، بل يسعى دومًا إلى ما يظنّ أنّه أفضل . وهذا واقع التقدّم التقنيّ . والأمر نفسه يقال في التقدّم العلميّ . والكلّ يعلم أنّ الكاتب أو الشاعر أو الرسّام أو النحّات أو ، على وجه العموم ، الفنّان المبدع غالبًا ما يُقدم على إتلاف عمله الفنّيّ ولو اعتبره المتذوّقون العارفون تحفةً فنّيّة ، وفي هذا دلالة على أنّ الفنّان المبدع لا يرضى بأقلّ من تطابق عمله مع مثال الجمال الذي يتصوّره . هذا السعي المستمرّ إلى الأفضل والمثال يدلّ على أنّ الإنسان يعيش اختباره في شكل الخيبة ، وأنّ هذا الاختبار يفترض الرغبة في اختبار المثال . وهذا ما يمكن تسميته قصد المطلق .

ويتبيّن ذلك من خلال تحليل الاختبار الإنسانيّ . هذا الاختبار هو كناية عن علاقة الإنسان بالعالم . وأساس هذه العلاقة أنّ الإنسان يُحسّ بحاجة فيه إلى أشياء من العالم ، يسعى إلى امتلاكها ، بهدف اكتمال كيانه . فالإنسان يشعر بأنّ كيانه غير مكتمل ، ويعتقد أنّ اكتماله قد يتمّ بامتلاكه شيئًا ما أو بتحقيقه مشروعًا ما أو بتواصله مع إنسان آخر . هذا الشعور بالنقص في الكيان يدفع الإنسان إلى الرغبة في شيء يظنّ أنّه مكمِّل لكيانه ، وإلى العمل على امتلاك هذا الشيء . إلاّ أنّه ، متى حصل الإنسان على الشيء المقصود ، وجد أنّ هذا الشيء لا يلبّي رغبته في اكتمال كيانه . فهو يُحسّ بعدم توافق رغباته مع أشياء العالم ، ويدرك إذّاك أنّه يقصد بالفعل ، من وراء الأشياء المنظورة ، شيئًا آخر غير محدَّد يكون مثاليًّا ، أي أنّه يقصد المطلق . وذلك ليس كشيء يرغب في امتلاكه طلبًا للامتلاك ، بل يرغب في إدراكه طلبًا لاكتمال كيانه . فكان اختبار الخيبة ، في آن ، دليلاً على الخلط بين الامتلاك والكيان ، حيث اعتقد الإنسان أنّ اكتمال كيانه يكون بامتلاكه الأشياء ، ودليلاً على تجاوزه هذا الخلط وإدراكه أنّ اكتماله يكون بإدراكه المطلق اتّصالاً أو اتّحادًا .

ماذا عساه أن يكون هذا المطلق المنشود . في هذا الموضوع اختلفت الآراء . فثمّة آراء قالت بمطلق لا يفي بشروط الإطلاقيّة ، يقابلها الرأي الأنتروبولوجيّ الذي يحاول أن يكشف عمّا يمكن أن يكون المطلق المقصود .

2- ما ليس هو المطلق المقصود

خلافًا للنظريّات التي تردّ المطلق إلى عوامل نفسيّة أو اجتماعيّة أو غيرها ، مفرغة بذلك مفهوم المطلقيّة ، ثمّة نظريّات تقول بالمطلق وتحدّده بأنّه الكون ، أو الله إله الأديان التوحيديّة ، أو الكائن الأسمى وواجب الوجود إله الفلسفة ، أو الإنسان المثاليّ .

في النظريّة الكونيّة ، القائلة بأنّ الكون هو المطلق ، صار إدراك المطلق المقصود بتذويب فرادة الإنسان في كلّيّة الكون . قد يكون ذلك على أساس التمييز في الإنسان بين رغباته التي يتفرّد بها وعقله الذي يتوافق به مع قوانين العقل الكونيّ أي قوانين الكون . وقد يكون ذلك على أساس أنّ الإنسان الفرد جزء من الكون ، بحيث لا يبلغ ملأه إلاّ بالارتقاء من الفرديّة إلى الكونيّة . أمّا القول بأنّ الإنسان الفرد يتعالى على رغباته ، بحيث يتوافق عقله والعقل الكلّيّ الذي يحكم الكون ، فإنّه يفوته أنّ الإنسان كائن اجتمع فيه العقل والرغبات فصار واحدًا لا يتجزّأ ، ثمّ يفوته أنّ العقل في الإنسان الفرد هو شكل خاصّ يتّخذه العقل الكلّيّ وليس العقل الكلّيّ ذاته موجودًا في كلّ فرد . أمّا كون الإنسان الفرد جزءًا من الكون ، فذلك لا يعني أنّ الإنسان الفرد ، متى قصد المطلق ، قصد أن يفقد فرادته بتذويبها في الكون . فالفرادة يمتنع تذويبها ، حيث هي واقع صار في الوجود فامتنع افتراض أنّه يزول من الوجود بعد أن كان في الوجود . مثل هذا الزوال ، فضلاً عن أنّه باطل ، لا يمكن أن يكون هو المطلق المقصود . فخلافًا لفهم قصد المطلق على أنّه فناء الإنسان الفرد في الكون ، يعني قصد المطلق أنّ الإنسان الفرد يريد أن يكتمل كيانه الفريد ، أي أن تكتمل فيه الإنسانيّة متّخذةً فيه شكلها الفريد ، وذلك بإدراكه أو بلوغه المطلق .

في الأديان التوحيديّة تحوّل المطلق إلى اسم علم ، هو الله . وتحدّدت مطلقيّته بكونه الكائن الذي يمتنع إدراكه وفهمه والتعبير عنه . هو الله ليس كمثله شيء ، لكونه الواحد الأحد الأوحد . سبق أن ألمحنا إلى التناقض بين تأكيد تعالي الله وتسميته ووصفه . يهمّنا هنا كونه ، في التصوّر الدينيّ ، المطلق الذي يقصده الإنسان . في هذا السياق ، كيف يكون الله المطلقَ المقصود إذا كان موضوعَ الفكر والكلام البشريّ . ثمّ كيف يكون الخلاص إدراكَ المطلق ، أي كيف يتمّ هذا الإدراك . الإيمان قصد المطلق وقصد الخلاص . إذًا ، عند إدراك المطلق يحصل الخلاص ويزول الإيمان . لا يكون إدراك المطلق ولا يحصل الخلاص بجهدٍ يبذله الإنسان ، لكون الله يفوق قدرات الإنسان الطبيعيّة . بل يكون إدراك الله بنعمة من الله . أمّا شكل هذا الإدراك فهو المحبّة ، وهو المشاركة ، وهو الاتّحاد . لكن هل تعني المحبّةُ المشاركةَ والاتّحاد . وإذا قيل إنّ الله أحبّ الإنسان وإنّ الإنسان أحبّ الله ، هل يعني ذلك أنّ الله شارك الإنسان في إنسانيّته ، أو أنّ الإنسان شارك الله في ألوهته . وهل ، في حال الاتّحاد ، يتألّه الإنسان ويتأنّس الله . من البيّن أنّ هذا الكلام كلّه رمز ومجاز وتورية إلى ما هنالك في فنّ البيان ، وليس حقيقة . وعندما يقال في التصوّف بوحدة الوجود ، لا يعني ذلك تحوّلاً في الله والإنسان ، بحيث يصيران واحدًا . هل يعني هذا الواحد فناء الله في الإنسان ، أو فناء الإنسان في الله ، أو فناء الله والإنسان في كائن جديد يجمعهما ؟ لا هذا ولا ذاك ولا ذلك . عاشق الله لا يفنى في الله ، ولا الله يفنى في العاشق البشريّ ، ولا يصير كائن جديد يجتمعان فيه . متى قصد الإنسان المطلق ، لم يقصد أن يفنى ، بل أن يكتمل كيانه الإنسانيّ . وإذا كان الله هو المطلق ، وإذا قصد الإنسان اكتمال كيانه الإنسانيّ ، نتج من ذلك أنّ الإنسان يقصد أن يكون هو الله ، وأنّ الله ، أو الألوهة أو التألّه ، يعني اكتمال الكيان الإنسانيّ . وهذا ما لا يقوله أيّ كلام دينيّ توحيديّ . ثمّ في التصوّر الدينيّ أنّ الإنسان ، متى قصد المطلق أي الله ، احتاج إلى نعمة من الله ترفعه من حال الطبيعة البشريّة إلى حال النعمة ، وتؤهّله لإدراك ما أمكن إدراكه من الله ، فيكون قد بلغ ما قصد ، أي اكتمال كيانه الإنسانيّ ، باتّصاله بالله .

خلافًا للتصوّر الدينيّ الذي يناقض نفسه بقوله إنّ الله هو المطلق وإنّه قد يتّصل الإنسان به ، فيكون بالله اكتمال الكيان الإنسانيّ ، قال التصوّر الفلسفيّ بالكائن الأسمى أو بواجب الوجود . لكنّ السؤال إذّاك يكون في أهليّة هذا الكائن الأسمى لأن يكون هو المطلق ، ولأن يكون هو ما يقصده الإنسان . متى قيل بكائن ، ولو كان الأسمى ، اقتصر سموّه على كونه الأرفع والأوّل في مجموع الكائنات ، وبطل أن يكون السموّ مرادفًا للمطلقيّة . ثمّ كيف للإنسان الفرد أن يتّصل بالكائن الأسمى ، فيبلغ بذلك اكتمال كيانه . ذلك فضلاً عن أنّ سموّ هذا الكائن المفترَض يحول دون أن يدركه كائن غير واجب الوجود وبعيد عن أن يكون له أيّ سموّ . فحال الإنسان الفرد ، طالب المطلق ، في علاقته بالكائن الأسمى وواجب الوجود ، يشبه حاله في علاقته بالكون . يمتنع على الفرد أن يكون في آن فردًا وكائنًا أسمى ، وأن يفنى في واجب الوجود ، مبدّلاً بذلك في ذات الوجوب والسموّ .

يبقى أن يقال إنّ المطلق يجب البحث عنه في عالم الإنسان وليس في ما ليس منه . فيكون المطلق هو الإنسان نفسه ، ويكون قصد المطلق أن يبلغ الإنسان اكتماله الإنسانيّ . إلاّ أنّ الإنسان قد يكون الإنسانَ المحسوس ، فردًا أو جماعة ، أو يكون الإنسانَ المعقول . ففي وجهه الأوّل ، قد يكون اكتمال الإنسان بامتلاكه كلّ ما يلبّي رغباته وحاجاته . وهذا ما يبدو مستحيلاً ، لكون إنسان الرغبات والحاجات محدودًا في المكان والزمان ، ولكون الإنسان الكامل لا يقتصر على كونه إنسان الرغبات والحاجات . لذا وجب النظر في وجه الإنسان الثاني ، الإنسان المعقول . في الفلسفة المثاليّة الألمانيّة ، يبدو تصوّر شيلينغ للمطلق هو الأقرب لما قد يقصده الإنسان بما هو طالب المطلق . ففي نظر شيلينغ أنّ المطلق الحقيقيّ يكون بوحدة الذات والموضوع ، بوحدة المثال والواقع ، وبوحدة الروح والطبيعة ، بحيث يُدركه حدس عقليّ مطلق . لكنّ شيلينغ ، إذ يؤكّد أنّ هذا المطلق هو إله الأديان التوحيديّة ، أو بالحريّ أنّه الألوهة والأساس الذي يتجلّى في إله الأديان ، يذهب إلى تأكيد أنّ الإنسان يريد أن يكون هو الله . وقد يكون ذلك ، على نحوٍ ما ، هو ما يقصده الإنسان . بيد أنّ شيلينغ أوجب على الإنسان ، في سبيل تألّهه ، أن يرتفع بالعقل إلى صعيد يفوق صعيد الطبيعة . وهذا يفترض أن يتخلّى الإنسان عن كونه إنسان الرغبات والحاجات . والإنسان يسعى إلى أن يكون المطلق بكلّيّته ، وليس مبتورًا من كونه إنسان الرغبات والحاجات .

إذًا لمّا لم يكن الكون ولا الله ولا الكائن الأسمى ولا وجه منفصل من الكيان الإنسانيّ هو المطلق المقصود ، وجب البحث في غير هذه الاتّجاهات عمّا قد يكون هذا المطلق الذي يطلبه الإنسان .

3- المطلق المقصود

لمّا كان المطلق هو المقصود ، وجب أن يكون موافقًا لكيان قاصده ولكيفيّة قصده إيّاه ولما هي عليه أشياء العالم التي قصدها خطأً قاصد المطلق . يتميّز كيان قاصد المطلق بكونه متناهيًا وغير مكتمل . لذا كان قصده أن يتجاوز وضعيّته هذه ويصير لامتناهيًا ومكتملاً ، أي أن يكون هو أساس نفسه ومبدأ نفسه ومعنى أو حقيقة نفسه . ممّا يعني أن يكتمل الكائن الإنسانيّ بامتلاكه ذاتَه المثاليّة وحقيقتَه . ولمّا كان الإنسان وعالمه متوافقين ، وجب أن يلازم اكتمالَ الإنسان اكتمالُ عالمه .

أن يكتمل الإنسان ، أي أن يمتلك ذاته ، يعني أن يكون بالملء والحقيقة . وأن يكون الإنسان ذاتَه يعني أن يكون متحرّرًا من أيّ تأثيرات وشروط ، وأن يكون صاحب أفعاله . ممّا يجعل الإنسان شبيهًا بالله كما يصفه الفكر الدينيّ ، أي علّة نفسه causa sui . وذلك ليس بمعنى تمايز العلّة ومفعولها ، بل بمعنى التوافق الجوهريّ بين العلّة ومعلولها ، أو ، بحسب قول فيخته ، بمعنى تأكيد “ الأنا ” ذاتَه ، بحيث يكون الكائن مستقلاًّ عمّا سواه ، ويكون هو السبب الكافي لذاته . مثل هذه الاستقلاليّة هي الحرّيّة عينها . إذًا يعني قصدُ المطلق قصدَ الإنسان أن يتحرّر من الحتميّات التي تتحكّم به بما هو كائن محسوس ، وبالتالي أن يتحرّر من وضعيّته المحسوسة . والحرّيّة المنشودة ليست حرّيّة التصرّف وحسب ، بل هي بالأحرى حرّيّة الكيان ، أي أن يكون الإنسان هو الكلّ .

أن يكون الإنسان هو الكلّ عبّر عنه القول بأنّه عالم صغير ، صورة العالم الكبير أو نموذجه ، ويعني أن يكون الإنسان الكائنَ الذي بدونه ما كان عالم ، بل يعني في النهاية أن يكون الإنسان هو الكائن الوحيد . وقد يُذكَر في صدد ذلك مفهوم لايبنيتس للذرّة الروحيّة أي الموناد monade ، ومفهوم سبينوزا للجوهر ، ومفهوم هيغل للروح المطلق والمعرفة المطلقة ، بمعنى أنّ كلاًّ من هذه المفاهيم يدلّ على جمع الكائنات في كائن واحد .

لكنّ الكائن الواحد لا يكون المطلق ، حيث يقتصر وجوده على أن يكون تجلّيًا للكينونة ، أو للواحد أو للاّشيء الذي عنه الكينونة والكائن . فالمطلق المقصود هو الإنسان ذاته متى ترادف مع الخير الأفلاطونيّ أو الواحد الأفلوطينيّ أو الكينونة الهايدغريّة ، أو اللاشيء الذي ينطلق منه الوجود . هذا اللاشيء لا يُفهَم على أنّه نوع من الشيء ، بل يجب فهمه على أنّه وظيفة السلبيّة ، بمعنى غير المحدَّد . فلمّا كان الله ، إله الأديان ، غير محدَّد جاز القول فيه إنّه لاشيء . وذلك كما الكينونة ، فهي بذاتها غير محدَّدة ، إذ إنّها تتحدّد بالكائنات التي تتجلّى الكينونة فيها . والملاحَظ أنّ الكائن البشريّ يتميّز في آن بالإيجابيّة وبالسلبيّة ، حيث كان ولم يكن ذاتَه في آن ، إذ إنّه واقع إنسانيّ غير مكتمل الإنسانيّة . وبالتالي كان قصد المطلق أن يكون الإنسان مكتملاً بتحقيق إنسانيّته في واقعه . تبيّن إذًا أنّ الحقيقة الإنسانيّة ذات بُعدَين ، بُعد الواقع وبُعد المعنى .

4- الواقع والمعنى

ماذا يعني واقع الحقيقة الإنسانيّة . قد يدلّ الواقع على الحقيقة الإنسانيّة كما هي ظاهرة بكلّيّتها الأنطولوجيّة ، أي كما هي شيء محسوس أو واقع في الوجود . وقد يدلّ الواقع على الحقيقة الإنسانيّة في ذاتها وفي علاقاتها بعالمها . بهذا المعنى أمكن تسمية الواقع تقنيةَ الحياة ، أي مجمل الطرائق التي تُعاش بها الحياة تقنيًّا ، علمًا أنّ هدف التقنية هو التمكّن من تلبية الحاجات ببلوغ الأشياء الملائمة لها .

وقد يدلّ الواقع على المُعطى في مقابل المثال . ولمّا كان الواقع تحقيقًا غير مكتمل للمثال ، كان هو شكل المثال المحقَّق ، وكان المثال قد صار من الواقع على قدْر إمكان تحقيقه . وذلك علمًا أنّ المثال يتحقّق ويصير واقعًا بوساطة صورة له ، كما هو الأمر في أيّ مشروع يُخطَّط له قبل تحقيقه وفاقًا للتخطيط ، وعلمًا أنّ المثال والتخطيط يتصوّرهما الإنسان تدريجًا على قدْر وعيه لمقتضيات المثال . فالواقع يشمل التخطيط والتحقيق ، ويعني الحقيقة الاختباريّة المحسوسة والمُعطى المشاهَد .

والقول في الواقع إنّه الحقيقة الاختباريّة لا يعني أنّ المعنى ليس حقيقة أو أنّه حقيقة غير اختباريّة . فمن وجه ، يمكن القول في المعنى إنّه حقيقة اختباريّة غير مرئيّة . بذلك يكون المعنى ، في مقابل الواقع ، كالمثال أو الهدف البعيد المفروض تحقيقه . في هذا السياق أمكن القول في المثال في آن إنّه موجود وإنّه لم يوجد بعد . فالمثال لم يوجد بعد ، إذ إنّه ما زال هدفًا للتحقيق . وهو موجود ، حيث يعمل كدافع وموجِّه لعمليّة التحقيق . في هذا الحال من الوجود ، يفعل المثال كما ، في رأي أرسطو ، يفعل المحرّك الأوّل غير المتحرّك فعلَ الجذب ، حيث هو في ذاته لا يتحرّك ، في حين أنّه يحرّك بما هو محبوب م| ژqفlemom hôs erômenon .

وفي سياق لغة أرسطو ، أمكن القول إنّ المعنى ، كما المثال ، يسبّب على وجهين ، على وجه العلّة الغائيّة وعلى وجه العلّة الصوريّة . فبما هو علّة غائيّة ، كان المعنى هو المطلوب . وبما هو علّة صوريّة ، كان المعنى ذات الكائن الذي يطلبه . إذّاك أمكن القول فيه إنّه علّة مثاليّة . وبالتالي أمكن القول في المعنى إنّه مبدأ واقع الحقيقة الإنسانيّة وأساسها ، أي ما به تتأصّل هذه الحقيقة ، لكونه يفعل فعل اقتضاء التجاوز والتعالي والطاقة التي تحوّل الحقيقة الإنسانيّة من حالها كواقع إلى أصالتها ، أي إلى حقيقتها ومِلئها بامتلاكها ذاتَها .

ثمّة فرق بين هذا التصوّر للمعنى وتصوّر علم النفس التحليليّ للمعنى . ففي هذا العلم أنّ المعنى يلازم السلوك بحيث يصير السلوك ومعناه شيئًا واحدًا . أمّا المعنى المقصود هنا ، فهو في آن ماثل في الواقع ومتعالٍ عليه . ثمّ إنّ المعنى الملازم للسلوك ينتمي إلى عالم التجربة النفسيّة ، في حين أنّ المعنى المقصود هنا ينتمي إلى العالم الأنطولوجيّ .

وثمّة فرق بين المعنى بما هو بُعد من أبعاد الحقيقة الإنسانيّة ، والمعنى عند علماء الألسنيّة . ففي الألسنيّة كان المعنى أو المدلول متوافقًا مع الدالّ ، حيث الدالّ هو ظاهرة فيزيائيّة صوتيّة أو مرئيّة ، والمدلول هو المفهوم المجرّد الذي يدلّ عليه الدالّ الطبيعيّ أو الاصطلاحيّ . لكن ، في خطوة ثانية ، يُعتبَر الدالّ والمدلول معًا إشارةً تشير إلى واقعٍ ما . إذّاك بان الفرق بين معنى الألسنيّة ومعنى الحقيقة الإنسانيّة . فهذا المعنى ليس مركّبًا من عنصر محسوس وعنصر مجرّد ، لكونه غير مُعطى اختباريًّا . ولا هو يشير إلى غيره ، بل هو ما يُشار إليه .

وثمّة فرق ثالث ، بين معنى الحقيقة الإنسانيّة والمعنى الذي يُضفيه “ الأنا ” الصوريّ والقبْليّ ، على الأشياء . قد يعني إضفاء المعنى هذا إمّا جعْلَ الأشياء موضوعات ، أو إعطاءَها نوعًا خاصًّا من الوجود . ذلك لأنّ إضفاء المعنى على الأشياء يعني جعل وجودها وجودًا للإنسان ، بمعنى أنّ هذا الوجود للإنسان زائد على وجود الأشياء الأصليّ . “ الأنا ” الصوريّ والقبْليّ لا يوجِد الأشياء ، بل يجعلها موضوعات للذات الإنسانيّة ، وهذا هو النوع الجديد من الوجود أن يوجَد الشيء وجودَ الموضوع .

مع الفارق ، ثمّة وجه من الشبه بين “ الأنا ” والمعنى . فالمعنى هو على نحوٍ ما “ أنا ” الحقيقة الإنسانيّة ، أي ما تسعى هذه الحقيقة بما هي واقع إلى أن تصير . ثمّ ، كما المعنى ، هذا “ الأنا ” هو في آن ماثل في الحقيقة الإنسانيّة كواقع ومتعالٍ عليها . ثمّ إنّ “ الأنا ” ، كما المعنى ، يمكن اعتباره الاقتضاء والطاقة ، أي ما يفعل في الحقيقة الإنسانيّة بما هي واقع ليرفعها إلى الصعيد الأنطولوجيّ ، صعيد اكتمالها أي امتلاكها ذاتَها . وهذا ما يعني حضور اللامتناهي في قلب المتناهي .

يقرب جعلُ اللامتناهي في المتناهي قولَ نيقولاوس القوزيّ بتطابق الأضداد coincidentia oppositorum . فالظاهر هو اختلاف الواقع والمعنى . لكن ، من وجه آخر ، المعنى ، كما المثال ، موجود وغير موجود في آن في الواقع . مثل هذا الاختلاف والتقارب يتحدّد به مفهوم الانتظار في اختبار الخيبة . فإذا دلّ اختبار الخيبة على أنّ الإنسان يترقّب ما هو في ما وراء عالمه ووضعيّته وكيانه ، إذن دلّ هذا الترقّب على اندفاع نحو تحوّل الحقيقة الإنسانيّة من حالها كواقع إلى حالها كمعنى . ممّا يعني أنّ الواقع يسعى إلى أن يصير معنى كي يكون معقولاً ، وأنّ المعنى يسعى إلى أن يصير واقعًا كي يكون واقعيًّا وحقًّا .

إذًا كان المنتظَر تطابق الواقع والمعنى ، أي تحوّل الحقيقة الإنسانيّة من حال الواقع إلى حالٍ تكون فيه قد حقّقت في ذاتها معناها ، أو تكون فيه قد تحقّقت وفاقًا لذاتها أو لحقيقتها ومِلئها . فالحقيقة الإنسانيّة ، متى عرفت نفسها ناقصة ، وحملها انتظارها الأنطولوجيّ على تحقيق ذاتها بالملء ، كانت هي المطلق المتوافق مع انتظارها ، أي هي نفسها متى تحقّق تطابق واقعها ومعناها . فأن يكون هذا التطابق هو المطلق المنتظَر يعني أنّ الحقيقة الإنسانيّة بما هي كلٌّ أنطولوجيّ كانت في ديناميّة تحقيق الذات .

فتبيّن إذّاك أنّ الواقع والمعنى تربط بينهما علاقة جدليّة ، أي أنّهما في آن ماثلان الواحد في الآخر ومفارقٌ بعضُهما البعض . هذا الرباط الجدليّ هو شرط إمكان الصيرورة التي تحمل الواقع والمعنى الواحد نحو الآخر . فالواقع ، بفعل المعنى الماثل فيه ، يسعى إلى أن يصير معنى ليتحقّق في حال المطلق . والمعنى هو المقصود ، وهو أيضًا ديناميّة التحرّر من حال الفكرة المجرّدة أي من حال اللاوجود الواقعيّ ، ليصير إلى حال الكيان كواقع . يبقى أنّ الواقع والمعنى ، بما هما بُعدا الحقيقة الإنسانيّة ، على الرغم من اختلافهما ، لا يُفضيان إلى تصوّر ثنائيّة في الكيان الإنسانيّ . بل واحد هو هذا الكيان ، وإلاّ لَما كان .

يبقى السؤال هل الكائن الموحَّد يعني أن لا يكون إلاّ كائن واحد في الوجود . متى اكتمل كائنٌ ما بامتلاكه ذاتَه ، يصير ما هو في ذاته . لكن في المشاهدة ثمّة كثير من الكائنات الإنسانيّة تسعى إلى اكتمالها . لذا وجب فهم المطلق ليس كأنّه واحد ، بل كثير ، على الأقلّ متى قصد الكائن الإنسانيّ أن يكون المطلق . في هذا السياق ، سياق كثرة المطلقات ، يبقى اقتضاء أن يكون المطلق واحدًا . فإذا كان كلّ كائن إنسانيّ يرمي إلى أن يكون هو المطلق ، جاز القول بنوع من جنون الناس . وذلك بمعنى أنّ مثل هذا الجنون هو في أساس جميع أشكال التنازع بين الناس ، أفرادًا وجماعات . من هنا كانت فلسفات تدعو الأفراد إلى الارتفاع إلى صعيد الكلّيّ ، حيث تجتمع كثرة الأفراد في وحدة الجنس البشريّ ، بل في وحدة الكون ككلّ . على هذا النحو يكون تطابق الأضداد ، بمعنى أنّ وحدة الأفراد المختلفين تتحقّق على صعيد اللامتناهي . على هذا الصعيد ، يكون الجميع واحدًا ، فيتحقّق طلب المطلق الماثل في كلّ فرد . لكنّ هذا التصوّر لا يلبّي الانتظار الأنطولوجيّ الذي في الكائن الإنسانيّ . صحيح أنّ الإنسانيّة كلّها ماثلة في الجماعة الإنسانيّة ، كما في التاريخ الإنسانيّ . لكنّه صحيح أيضًا أنّها ماثلة كلّها في الكائن الإنسانيّ الفرد . فوجب إذّاك أن يكون المطلق المنتظَر هو مطلق الفرد ومطلق الجماعة ومطلق التاريخ . هل هذا الوجوب ممكن التحقيق ؟

5- المطلق واجب وغير ممكن

ما يجعل السؤال ملحًّا هو ما يباعد أنطولوجيًّا بين المتناهي واللامتناهي أو بين النسبـيّ والمطلق ، مع الرغبة الأنطولوجيّة عند النسبـيّ في أن يصير هو المطلق . هل من المعقول أن يتمكّن الكائن الإنسانيّ ، فردًا كان أو جماعة ، من تطابق واقعه ومعناه . إذا كان ذلك من الممتنع ، امتنع أيضًا أن يتحقّق الكائن الإنسانيّ كحرّيّة ، وأن يكون هو الكلّ وهو الكينونة . وبالتالي وجب استنتاج أنّ الكائن الإنسانيّ هو بالضرورة غير مكتمل ، وأنّه دومًا يسعى إلى ذاته ، أي إلى أن يكون بالملء .

أمّا أن يمتنع على الكائن الإنسانيّ تطابق واقعه ومعناه ، فمردّه ، عند الإنسان الفرد ، إلى التعارض بين نرجسيّته وما يتحكّم بوجوده الواقعيّ من حتميّات وحدود طبيعيّة ونفسيّة واجتماعيّة وثقافيّة وتاريخيّة . ومردّه ، عند الجماعة الإنسانيّة ، إلى انتقال النرجسيّة الفرديّة إلى نرجسيّة جماعيّة ، يعتقد بموجبها كلّ شعب أنّه هو الشعب المختار أو الأفضل ، وتتكوّن بموجبها القوميّات المتنازعة . ممّا يدلّ على أنّ كلّ شعب يسعى إلى أن يكون هو المطلق من دون أن يكون لغيره أيّ نصيب في الوجود . ثمّ تنتقل النرجسيّة إلى مستوى الإنسانيّة ككلّ ، حيث يتكوّن الاعتقاد بمركزيّة الإنسان في الكون ، وبحقّ الإنسان في السيطرة على عناصر الطبيعة ومقوّماتها وطاقاتها .

لكنّ هذه النرجسيّة لا تُزيل واقع تعدّد الأفراد والجماعات ، ولا واقع احتواء الكون للإنسان . ثمّة منافسة بين الأفراد في سعي كلّ منهم إلى أن يكون هو المطلق . وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجماعات . فإلى واقع التعدّد ، ثمّة تاريخيّة الكائن الإنسانيّ تحول دون بلوغه حال المطلق . وثمّة واقع أنّ البشريّة أكثرها أموات أو كائنات ممكنة الوجود ، فاستحال على بشريّة كهذه بلوغ حال المطلق . وفي ما هو أقطع دليلاً على استحالة المطلقيّة بالنسبة إلى الكائن الإنسانيّ ، ثمّة التفاوت الجوهريّ بين الواقع والمعنى ، حيث الواقع تتحكّم به حتميّات وضعيّته الاختباريّة ، في حين أنّ المعنى متحرّر منها . هذا التفاوت يماثل التفاوت بين المثال وتحقيقه . فالمثال لا يتحقّق منه إلاّ ما أمكن الإنسان أن يتصوّر هذا المثال ، علمًا أنّ المثال بحدّ ذاته يفوق أيّ تصوّر وأيّ محاولة تحقيقه . كذلك في المعنى ثمّة فائض لا يسع الواقع احتواءه .

فكون الواقع محدودًا وكون المعنى غير محدود ، ذلك لا يمنع من أن يكون كلّ منهما بُعدًا من أبعاد الحقيقة الإنسانيّة . فجاز أن يسعى الواقع والمعنى إلى تطابقهما ، لتتحقّق الإنسانيّة في حقيقتها وملئها ، فتصير إلى حال المطلق ، ولو كان هذا السعي محكومًا عليه بالفشل .

لمّا كان من الممتنع تطابق الواقع والمعنى ، امتنع بالتالي أن تكون للإنسان حرّيّة كاملة ، أي استقلال عن أيّ قوّة قاهرة وأيّ تأثير . ففي واقع الإنسان ، ثمّة الحتميّات الطبيعيّة والنفسيّة والاجتماعيّة تحول دون أن يكون الإنسان سيّد نفسه بالتمام . وذلك بخلاف قول ديكارت بأنّ الإرادة في الإنسان لها ما لله من مطلق الحرّيّة . لكنّ ديكارت نفسه يجعل هذه الإرادة الحرّة كلّيًّا قد تقرّر اتّباع الأهواء من جهة ، فتقع في الخطإ ، أو اتّباع العقل من جهة أخرى ، فتكون على صواب . فبطل أن يكون للإنسان حرّيّة مطلقة ، أي مستقلّة عن أيّ تأثير أو علاقة . وكذلك القول في تصوّر سارتر للحرّيّة التامّة التي تجعل الإنسان يرغب في أن يكون الله ، ويستقلّ حتّى عن القيم التي فرضها هو نفسه على نفسه ، كما هو الحال بالنسبة لإنسان نيتشه المتفوّق . لكن ثمّة فرق بين المبتغى والواقع . والأمر نفسه ينسحب على تصوّر أصحاب الثورة الفرنسيّة ، حيث شعارها الأوّل كان الحرّيّة ، في حين أنّ إعلان حقوق الإنسان والمواطن يذكر الحرّيّات . إذًا كانت الحرّيّة بمثابة المثال ، وكان على الإنسان أن يتحرّر كي يبلغ الحرّيّة . وفي مسيرة التحرّر هذه ، يبقى الإنسان بعيدًا عن أن يكون مطلق الحرّيّة .
فإذا امتنع تطابق واقع الإنسان ومعناه ، وإذا امتنع على الإنسان أن يبلغ حرّيّته المطلقة ، امتنع عليه إذًا أن يكتمل كيانه . فالإنسان ما يزال منفصلاً عن حقيقته . إذًا أمكن القول إنّ الإنسان ليس موجودًا حقًّا ، لكونه غير موحَّد . فقد أظهر تحليل اختبار الخيبة أنّ الإنسان يفتقر إلى اكتمال كيانه ، بحيث صحّ فيه القول في آن إنّه موجود حاضر وإنّه لم يوجد بعد . فهو لنفسه بمثابة مشروع يسعى إلى تحقيقه ، لكن من دون أن يكون في مقدوره إتمام هذا المشروع .

لا يمكن أن يكتمل الإنسان حين يكون هدفه أن يختزل في ذاته الكيان كلّه ، بل الكينونة التي ينبع منها كلّ كائن . وذلك متى اشترط أن يكون هو الكائن الوحيد ، لكون مثل هذه الرغبة تبدو منافية للعقل وبالتالي ممتنعة التحقيق . وذلك أيضًا متى قصد الإنسان امتلاك ذاته من دون إقصاء الكثرة ، لكون الذات الفرديّة الخاصّة بكلّ إنسان ، أي الشكل الخاصّ الذي تتّخذه الذات الإنسانيّة العامّة في كلّ فرد ، لكون هذه الذات الفرديّة ، كما الذات العامّة ، لا تُحدَّد . بهذا المعنى ، امتنع تحديد الذات العامّة والذات الفرديّة ، كما المثال لا يتحدَّد . فلا يتحدَّد إلاّ الواقع المحسوس .

والحال أنّ الكائن الإنسانيّ الفرديّ لا يمتنع عن تحديد ذاته ولو كان ذلك تدريجًا وعلى نحوٍ تقريبيّ . وذلك إمّا بإضافة كلّ الأوصاف الحميدة إلى شخص يحتذي مثاله ، أو بعزمه على تحقيق قيم جعلها قيمًا في ذاتها أو قيمًا له . في الحالتين ، تبدو ذاته متجسّدة وصالحة كدليل لمسيرة الكائن الفرديّ نحو ما يعتقد أنّه ذاته أو كيانه الذاتيّ . لكن ليس ثمّة ما يدلّ على أنّ مثل هذه الذات المحدَّدة هي ذات حقيقيّة . ثمّ ، لو كانت ، افتراضًا ، ذاتًا حقيقيّة ، ليس ثمّة ما يدلّ على أنّ أحدًا يستطيع امتلاكها . ذلك لأنّ المثال يمكن الاقتداء به ، لكنّه ، بما هو مثال ، له فرادته ، بحيث يكون المقتدي بالمثال ، في حال استطاع الاقتداء به ، كائنًا شبيهًا به وحسب . وفي أحسن الأحوال ، يكون ثمّة كائنان ، المثال والمقتدي به ، فأيّهما هو المطلق ؟ ثمّ أيًّا كانت القيم التي يحدّد بها الفرد ذاته المثاليّة ، بطلت مطلقيّة هذه القيم لكونها قد تحدّدت . وذلك علمًا أنّ الفرد لا يحدّد القيم إلاّ انطلاقًا من واقعه الاختباريّ .

ينتج من ذلك أنّ الحقيقة الإنسانيّة ، فرديّةً كانت أو عامّة ، هي شيء اختباريّ وواقع يسعى إلى معناه ، لكنّه لا يزال منفصلاً عن هذا المعنى ، ولو كان هذا المعنى ماثلاً فيه ومحرّكًا له باتّجاه تطابقه معه . ممّا قد يكون فرصة للحقيقة الإنسانيّة لتتحوّل إلى مطلق يلبّي انتظارها الأنطولوجيّ .

بخلاف هذا التطابق ، يبدو الكائن الإنسانيّ منقسمًا في ذاته ، مركّبًا من وجود ولاوجود ، ومحاولاً أن يكون ، ومنتظرًا ذاته . أمّا ما يجعله منفصلاً عن ذاته ، ويحول دون أن يبلغ ذاتَه في وحدة الكيان ، فهو ، على ما يبدو ، من وجهٍ ، أشياء العالم التي خيّبت انتظاراته ، ومن وحهٍ آخر ، الزمان الذي تأسّست عليه تاريخيّة الواقع الإنسانيّ واضطَرّ هذا الواقع إلى السير نحو معناه سيرًا لا نهاية له . ذلك لأنّ العالم هو الوسيط الذي لا بدّ منه بين الواقع والمعنى ، ولأنّ الزمان هو البيئة التي لا مفرّ منها .

وهذا ما يجعل الإنسان كائنًا إشكاليًّا بحدّ ذاته . فهو موضوع تساؤل . لماذا لا يكون الإنسان كائنًا مكتملاً على الفور ؟ ولماذا عليه أن يمرّ عبر العالم ليجد ذاته في ما بعد العالم ؟ ولماذا عليه أن يخضع لمرور الزمان كي يكتمل ؟

كثرت الأجوبة عن هذه الأسئلة . منها ما هو ذو طابع دينيّ ، ومنها ما له طابع ماورائيّ . لكنّ الأجوبة الدينيّة لا تستند إلى العقل ، بل إلى الإيمان . والأجوبة الماورائيّة يبدو أنّها لا تأبه للوضعيّة الإنسانيّة الواقعيّة وتكتفي بالتنظير . ومن الأجوبة ما يعتمد الواقعيّة غير آبهٍ بالبحث عن حلّ للمشكلة خارج الواقع الإنسانيّ .

يمكن اعتماد الواقعيّة والقول إنّ الكائن الإنسانيّ ، كأيّ كائن آخر ، يصدر عمّا سمّاه أناكسيماندروس “ غير المحدَّد ” - apeiron 4peiqom باليونانيّة - ، والذي سمّاه غيره ما لا قعر له - 4btrro| abyssos باليونانيّة - أو العدم ، وإنّ هذا الكائن الإنسانيّ يسير نحو غير المحدَّد هذا . فإذا كان غير المحدَّد هو المطلق ، وحيث كان الإنسان صادرًا عنه ، صار من الطبيعيّ أن يكون في الإنسان رغبة في المطلق . في هذا السياق ، ذهب بعضهم إلى إضفاء الإطلاقيّة على الكائن الإنسانيّ . وذلك على أشكال ، منها أنّه وسط بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر ، أو أنّه المتناهي الحالّ فيه اللامتناهي ، أو أنّه المتناهي والناقص الواعي لمثول فكرة اللامتناهي والكامل فيه ، أو أنّه ماثل فيه المتعالي ، إلى ما هنالك من أشكال . وفضلاً عن ذلك ، ثمّة مفهوم الرغبة الطبيعيّة في الله ، ومفهوم الارتفاع إلى مصير يفوق الطبيعة ويجعل الإنسان مشاركًا الله في حياته ، ومفهوم تبنّي الله للإنسان . وثمّة أيضًا النظريّات الحلوليّة التي تجعل الله والعالم والإنسان شيئًا واحدًا .

لكنّ هذا كلّه كلام بكلام . فمتى تميّزت جوهريًّا النفس من الجسد ، والروح من المادّة ، والمثول من التعالي ، لم يكن من سبيل إلى توحيد حقيقيّ بين هذه المفاهيم والكيانات . لذا قال بعضهم بتمييز في الوجود بدلاً من التمييز في الكيانات ، فمثلاً في نظر مرلو-بونتي أنّ الجسد هو وجود النفس الخارجيّ ، وفي نظر سبينوزا أنّ الروح والمادّة هما صفتا الجوهر الواحد . لكن لماذا القول بالداخل والخارج ، أو بالروح والمادّة ، أو بالفكر والمدى ، مع القول بحقيقة إنسانيّة واحدة أو بحقيقة واحدة ؟ ثمّ إذا كان الله هو الكلّ ، أو إذا كان الكلّ هو الله ، لماذا كان مع المطلق الإلهيّ كائنات غيره ، أي لماذا الكثرة مع المطلق الواحد ؟ وفي ما خصّ نظريّة أفلوطين في الفيض من الواحد والعودة إلى الواحد ، كما الأمر في ما خصّ نظريّة الروح المطلق عند هيغل ، لماذا هذا الفيض ، ولماذا وجب أن يخرج الروح من ذاتيّته فيصير موضوعًا لكي يمتلك نفسه في مطلقيّته ؟

انطلاقًا من الموقف الواقعيّ ، يكفي تسجيل أنّ الكائن الإنسانيّ هو كائنات كثيرة في علاقة بموضوعات كثيرة . تقصد هذه الكائنات أشياء العالم ، فتُصاب بالخيبة ، فتعلم أنّها كانت تقصد ما هو أبعد من هذه الأشياء . في هذه المرحلة ، يبدو كيان الإنسان الحقيقيّ مكتملاً بانصهار حال الذات وحال الموضوع . لكنّ الكائنات الإنسانيّة تقصد بالأحرى اكتمالها بتطابق واقعها ومعناها . هذا الواقع يتحدَّد ، لكنّ المعنى ، ولو كان يفعل في داخل الكائنات الإنسانيّة ، لا يتحدَّد . فإذا قصد الكائن الإنسانيّ أن يكون هو المطلق ، ولمّا كان هذا المطلق غير محدَّد بما هو المبدأ والغاية ، كان القصد نفسه ، قصد غير المحدَّد ، شيئًا غير قابل للتحديد في بنيته الداخليّة . وهذا يعني أنّ الكائن الإنسانيّ إشكاليّ بذاته ، لكونه غير محدَّد وغير قابل للتحديد .

انطلاقًا من هذا التحليل ، أمكن تجميع ما أمكن من التصوّرات لفهم ما هو الإنسان ، خصوصًا لجهة كون الإنسان يقصد ما يفوقه .