توطئة

الإسلام دين ودنيا . هذا القول ، بواقعيّته الصريحة ، يزيل خداع أيّ دين يدّعي الصفاء وعدم التلوّث بأغراض اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة مشبوهة . إذن كان الصعيد الاجتماعيّ بمعناه الشامل هو موقع المواجهة بين الإسلام والنموذج المجتمعيّ الغربيّ في أصوله وأشكاله .

المقاومة الإسلاميّة تجاه النفوذ الغربيّ كانت خجولة زمنًا طويلاً . وغالبًا ما شجبتها فئة من المثقّفين المسلمين ، كثيرة الثقة بنفسها ، أيقنت أنّ عليها العمل على انفتاح العقول على الأنوار الوافدة من الغرب . لكن منذ ما يقرب العشرين أو الثلاثين سنة ، أخذ المثقّفون المسلمون المقاومون ، يحملهم الجمهور الإسلاميّ العريض ، يتكلّمون ليؤكّدوا تمسّك العالم العربيّ الإسلاميّ بهويّته الإسلاميّة . بل أخذوا يحكمون على الغرب في موقفه من العالم الإسلاميّ وفي البنى الاجتماعيّة الثقافيّة التي جعلته نموذجًا مجتمعيًّا .

إذا اعتبرنا هذا النموذج المجتمعيّ الغربيّ تعبيرًا عن الحداثة ، وإذا اعتبرنا إسلام الإسلاميّين تعبيرًا عن التراث ، كنّا أمام حالة نموذجيّة من المواجهة بين التراث والحداثة . في هذه المواجهة يبدو موقف الإسلام والعالم الإسلاميّ موقف مَن هو أمام أن يكون أو لا يكون . كثير من الأصوات الغربيّة حتى العربيّة الإسلاميّة أخذت تكرّر القول بأنّ العالم العربيّ الإسلاميّ ، إذا أراد أن يواكب الحاليّة التاريخيّة ، لا مخرج له غير أن يذوب في الحداثة الغربيّة . لكن قليلاً ما أُعير الانتباه للأصوات العربيّة الإسلاميّة التي كانت تؤكّد أن لا كيان بالذوبان ، وأن لا كيان إلاّ بكون المرء ذاتَه . فالطرح إذن هو أنّ الإسلام ليس شيئًا من الماضي ، وأنّه نموذج مجتمعيّ يصلح اليوم كما صلح في الماضي ، بل أنّه النموذج الوحيد الصالح لأيّ مجتمع إنسانيّ .

ثمّة طريقة لإثبات هذا القول تقوم بإظهار المشكلات التي يثيرها ما يسمّى بالعالم الحديث ، وإظهار قدرة الإسلام على تقديم حلّ لها . أمّا إذا كان المراد القولَ بأنّ الحلّ الإسلاميّ هو الأفضل ، فوجب اعتماد طريقة أخرى للبرهان عن القول ، تقوم على إظهار العيوب التي تشوب النموذج المنافس الذي يدّعي أنّ لديه الحلول الأكثر ملاءمة للمشكلات الراهنة في المجتمعات البشريّة . هذه الطريقة يعرضها الفصل الثاني من هذه الدراسة ، وعنوانه : الإسلام والعلمانيّة .

النقد المعروض في هذه الدراسة هو الذي قام به ، منذ الستّينات ، الكتّاب التراثيّون المتشدّدون الذين يمكن تسميتهم بالإسلاميّين . ويستهدف النقد جميع مظاهر النموذج المجتمعيّ الغربيّ ، أي مقوّمات الحضارة الغربيّة . فإذا كان الدافع لهذا الانتقاد هو إثبات الذات ، فذلك أنّ هذا الإثبات للذات هدّده موقف الغرب من العالم العربيّ الإسلاميّ . فالمشروع الغربيّ بدا كأنّه محاولة تغريب منظّمة ، توسّلت الاستعمار الشامل ، في وجوهه العسكريّة والسياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة . ومن أشكال الاستعمار أو وسائله ، في نظر الإسلاميّين ، الاستشراق ، والتبشير ، ومعاهد التعليم والتربية ، والمؤسّسات الاجتماعيّة . إلى هذه الأشكال أُضيفت دولة إسرائيل الصهيونيّة ، وهي دولة أرادها صانعوها جسمًا غريبًا ومعاديًا في قلب المشرق العربيّ الإسلاميّ .

أمّا النقد الذي يعرضه الفصل الثاني ، فإنّه يتركّز على الطابع الذي يدفع إلى نبذ فوريّ للنموذج المجتمعيّ الغربيّ ، ألا وهو العَلمانيّة ، بما هي بدت كأنّها مرادفة للاّدينيّة والإلحاد ، لكونها وليدة المادّيّة ، علمًا أنّ المادّيّة هي ، في نظر الإسلاميّين ، أساس الحضارة الغربيّة .

ولكي تظهر بوضوح مآخذ الإسلاميّين على الحضارة الغربيّة ، يعرض الفصل الأوّل الإطار الشامل لهذه الانتقادات ، أي العلاقات التاريخيّة بين الإسلام والغرب ، واختلافات هذين العالمين الثقافيّة والاجتماعيّة .

تنبيه .

الفصل الأوّل ظهر كفصل أوّل من كتابي
L’Islam critique de l’Occident dans la pensée arabe actuelle - Islam et Sécularité
(نقد الإسلام للغرب في الفكر العربيّ الحاليّ - الإسلام والعلمانيّة) ، الذي نشر في سلسلة
Religionswissenschaftliche Studien (دراسات في علم الدين), 35/1.
— Echter Verlag, Würzburg / Oros Verlag, Altenberge, 1994.

الفصل الثاني تمّ تصحيحه ، وكان قد نشر في العددين الثاني والثالث من
Jahrbuch für Religionswissenschaft und Theologie der Religionen
(الحوليّة في علم الدين ولاهوت الأديان) . —
Herder, 1994 — Oros Verlag, Altenberge, 1995.