الفصل الأول: الإسلام والغرب - التناقض الثقافي

بين الثقافة العربيّة الإسلاميّة والثقافة الغربيّة اختلافات أساسيّة أو أصليّة . قرّب التاريخ بينهما في فترتين : لدى استيعاب العرب التراثَ اليونانيّ ، ولدى استيعاب اللاتين التراثَ العربيّ في العصر الوسيط . وفرّق التاريخ بينهما عندما سارت أوروبا النهضة ، وبخاصّة أوروبا الأنوار ، في خطّها الخاصّ ، فعادت الأولى إلى تراثها اليونانيّ واللاتينيّ من دون المرور بالوسيط العربيّ ، واستهدفت الثانية إنشاء عالم جديد . لهذه الأسباب كان التحليل التالي من زوايا ثلاث ، أو على ثلاثة أصعدة ، صعيد السمات الخاصّة بكلٍّ من الثقافة العربيّة والثقافة الغربيّة ، وصعيد التراث العربيّ التقليديّ في مواجهة الحداثة الغربيّة ، وصعيد التعارض بين اللاهوتانيّة والإنسانويّة . فيكون التحليل قد انطلق من الأعمّ إلى الأخصّ .

للاستعلام عن هذه المواضيع ، أحيل القارئ إلى التحاليل التي ضمّنتُها بعض كتاباتي ، ومنها على وجه خاصّ P. Khoury 1984 ، ص 13-35 و 76-90، و P. Khoury 1984 ، ص 35-45 و 72-80 . وأذكر هنا خصوصًا بعض العناوين من ثبَت المراجع بحسب المواضيع (ص 131-134) ومن البيبليوغرافيا العامّة (ص 331-372) في الكتاب الأخير : - حول الثقافة العربيّة : أدونيس 1974 ، أرنالْديز Arnaldez 1956 ، إيبالْمو IPALMO 1974 ، إيزوتْسو Izutsu 1959 ، إيزوتْسو Izutsu 1964 ، بيرْك Berque 1980، بْرافْمان Bravmann 1972، الجندي 1971، جعيّط Djaït 1974، حوراني Hourani 1970 ، زيعور 1977، غارْديه Gardet 1977 ، زكي نجيب محمود 1974، زكي نجيب محمود 1975، نورْم Normes 1966. - حول الثقافة الغربيّة : أرون Aron 1969 ، ريكور Ricœur 1969 ، فوكو Foucault 1969 ، لادْريار Ladrière 1977 ، هابرماس Habermas 1988 ، هازار Hazard 1979 .

1 ـ الثقافة العربيّة والثقافة الغربيّة .

تُعرَف الثقافة من خلال أربعة عناصر رئيسة ، كلٌّ منها يختصرها كاملة من زاويته الخاصّة . هذه العناصر هي : - اللغة ، وهي التعبير الشامل للثقافة ، - الدين ، وهو المؤتمن على القيَم التي تتميّز بها الثقافة ، - والنظرة إلى العالم ، وهي تركيب الأنظومة الثقافيّة حول محورها المركزيّ ، - والبنية الذهنيّة ، وهي أنظومة التصوّرات ونماذج السلوك التي تسوس المسلك الفرديّ والجماعيّ . - فمن ثَمّ يجب أن تكون المقارنة بين السمات التي تتميّز بها كلٌّ من الثقافة العربيّة والثقافة الغربيّة ، في أربع نقاط .

1) اللغة .

اللغة العربيّة لغة ساميّة ، واللغات الأوروبيّة لغات هنديّة أوروبيّة من أصل يونانيّ ولاتينيّ . الخطاب العربيّ خطاب تراكميّ ، ترابطيّ العناصر . والخطاب الغربيّ خطاب تنظيميّ ومنهجيّ ، تترتّب عناصره منطقيًّا بغية تحقيق أنظومة متماسكة . يتألّف الأوّل من تفاصيل وصفيّة . ويهدف الثاني إلى تحديد ماهيّة الأشياء . الأوّل هو في الأساس حسّيّ الطابع ، يتكوّن من صوَر ورموز ، والثاني غالبًا ما يكون تجريديًّا ويستعمل المفاهيم المنطقيّة . يتمحور الخطاب العربيّ حول الذاتيّة التجريبيّة . ويتمحور الخطاب الغربيّ حول الموضوعيّة أو الذاتيّة الصوريّة القَبْليّة . من جهة ، وجوديّة . ومن جهة ثانية ، ذاتيّة وجوهريّة .

2) الدين .

لمّا كان المسيحيّون أقلّيّة في العالم العربيّ ، كان الإسلام هو الدين السائد . وقد صاغ الإسلام الثقافة العربيّة ، سواء أكانت وسيطيّة أم حديثة أم معاصرة ، أكثر ممّا صاغتها المسيحيّة المشرقيّة . والإسلام ، بما هو ثقافة ونموذج مجتمعيّ ، هو على السواء خاصّة المسيحيّين والمسلمين العائشين في المجتمع الشامل الواحد . والإسلام ، بما هو دين ، هو قريب في بنيته من المسيحيّة ، برغم الفروقات الأكيدة التي تميّزه عنها . فهو يملك ، على مثالها ، الوظائف الدينيّة الخمس الأساسيّة . فالمبدأ الأساس ، أي الله ، هو في المسيحيّة أب ، وهو في الإسلام ربّ . والوحي في المسيحيّة هو المسيح الأقنوم الإلهيّ ، وهو في الإسلام القرآن النصّ الإلهيّ . والجماعة الدينيّة في المسيحيّة هي الكنيسة بوجهَيها الإلهيّ والإنسانيّ ، وهي في الإسلام جماعة المؤمنين بوجهها الإنسانيّ الواحد . وقاعدة الحياة الدينيّة في المسيحيّة هي الروح الإلهيّ ، وهي في الإسلام الشريعة الإلهيّة . وأخيرًا الموقف الدينيّ النموذجيّ في المسيحيّة هو المحبّة ، محبّة الله والناس ، وهو في الإسلام الإيمان بالله الأوحد والتسليم المطلق لمشيئته . هذا التشابه في البنية الدينيّة هو واقع وسيطيّ . أمّا التباين فيظهر ، في العصر الحديث ، في النظرة إلى العالم .

3) النظرة إلى العالم .

في هذه النظرة يبرز أكثر ما يبرز التناقض الثقافيّ بين الإسلام والغرب الحديث بعد انفصاله عن المسيحيّة الغربيّة . لم يختبر العالم العربيّ الإسلاميّ في داخله ، أو كاد لا يختبر ، ظاهرة العلمنة التاريخيّة التي غيّرت العالم الغربيّ في أسسه . لهذا بقيت نظرته إلى العالم على ما كانت عليه ، أي نظرة دينيّة إلى العالم . فهي تؤكّد أنّ الله هو المبدأ المطلق الشامل في ذاته ملءَ الكيان وملءَ الفعل . والله ، لكونه واحدًا في ذاته ويتمتّع في علاقته بالناس والعالم بحرّيّة اختيار مطلقة وبمشيئة مطلقة ، هو متعالٍ ومغاير كلّيًّا . ولكونه خالقًا ومنزِّلاً ومشرِّعًا ومدبِّرًا وديّانًا ومثيبًا ، فهو الإله المقتدر العادل الحكيم الرحيم . وما العالم والإنسان إلاّ إشارات إلى الله ومواضع فعله .

في المقابل ، تتخلّى النظرة الحديثة إلى العالم عن المبدأ المطلق ، وتكتفي بمرجع مركزيّ ، هو بالحريّ الطبيعة أو الكون ، بل قد يكون الإنسان نفسه . والعالم مجموع ظواهر طبيعيّة يُحسن العلم اكتشاف قوانينها ، وتُحسن التقنية بدورها استخدام هذه القوانين لغاياتها النفعيّة . لا وجود لعالم ماورائيّ ، بل كلّ شيء يشمله هذا العالم ، عالم المنظورات . إنّه عالم مستقلّ وثمرة التطوّر ومن إنتاج التاريخ ومن بناء الناس . بدلاً من الله ومحلّه ، حلّ الإنسان سيّدًا للطبيعة ولعالمه الإنسانيّ .

4) البنية الذهنيّة .

هذا التباين في النظرة إلى العالم ينعكس تباينًا في البنية الذهنيّة . فالنقطة المركزيّة في التشكيل الذهنيّ العربيّ الإسلاميّ التقليديّ هي الموقف العَقَديّ . ويفترض هذا الموقف الخضوع للسلطة ، والإيمانيّة ، والثباتيّة ، والاستقرار في نوع من الأبديّة وسط تاريخ يُعتبَر قرار إرادة مدبِّرة لا يمكن التنبّؤ بها . في تاريخ كهذا يكاد يكون لازمنيًّا ، الأفضليّة للماضي وللّحظة ، يعيشهما الإنسان بمثابة أقنومَي الاستمرار والأبديّة . ويتموضع الاعتقاد بالمطلق في الاعتماد حصرًا على الوحي بحرفيّته .
في المقابل ، النقطة المركزيّة في التشكيل الذهنيّ الغربيّ الحديث هي الموقف النقديّ . ويفترض هذا الموقف ، أساسًا ، سيادة العقل على نفسه . وينتج من ذلك أولويّة العمل ، أي الإنجاز الفعليّ الذي يجعل الإنسان فاعلاً في التاريخ ، بقدر ما يسيطر على قوانين هذه الصيرورة الجدليّة . والقول بالتاريخ والصيرورة يعني القول بالنسْبيّة ، ويعني التحرّر من أجل المستقبل والديمومة .

2 ـ التراث والحداثة .

كانت الثقافة العربيّة الإسلاميّة في العصر الوسيط تُعتبَر أساسًا ثقافيًّا مشتركًا ، وفي الأقلّ بالنسبة إلى محيط البحر المتوسّط . فإنّ اللاتين الأوروبيّين ، حتى عصر النهضة ، قد تلقَّوا دروسهم وتعلّموا طرق التفكير في الجامعات العربيّة . ومنذ عصر النهضة ، وعلى الرغم من الطابع الدينيّ لحركة الإصلاح ، أخذت أوروبا تتحرّر ، ليس من سيطرة الثقافة العربيّة وحسب ، بل أيضًا ، في صورة تدريجيّة ، من النظرة المسيحيّة الوسيطيّة إلى العالم . وبدأت إذّاك تتكوّن الحداثة الغربيّة . وبلغت شكلها المكتمل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، عصرَي الأنوار والعلم ، اللذين امتدّا في القرن العشرين ، حيث انطلقت التقنية في ازدهارها بلا عنان . في هذه الأثناء ، تجمّدت الثقافة العربيّة ، فذبلت ، وتحجّرت بحجّة حماية تراث أخذت تجترّه وتقلّده على غير قدرة منها على إلباسه ثوبًا جديدًا . ولم تقوَ صدمة الحداثة نفسها ، التي أصابت بعض المفكّرين وطبقة من المجتمع في القرن التاسع عشر ، على تحويل الجماهير العربيّة الإسلاميّة عن تراثها التقليديّ . وهكذا تمركز التناقض الثقافيّ في ما بين التراث الإسلاميّ والحداثة الغربيّة ، وتمحور حول الشأن الدينيّ ، تمسّك به طرف ورفضه الطرف الآخر ، وذلك في شكل التعارضات التالية : القداسة والدنيويّة ، الساميّة والهلّينيّة ، الوسيطيّة والحداثة .


1) القداسة والدنيويّة .

القداسة هي ميزة تصوّرٍ يفترض ازدواجيّة العالم ، فهناك العالم الطبيعيّ المنظور ، والعالم الماورائيّ غير المنظور . لا انفصام بين العالمَين كما لو كان الأمر يتعلّق بفرقٍ في طبيعتهما ، بل مشاركة الأوّل في ميزات الثاني ، كما يشارك المشتقّ في ميزات الأصليّ ، وكما أنّ الزائف هو صورة باهتة للأصيل . ينتج من ذلك التمييزُ بين الطاهر والنجس ، اللذين يتحدّدان بالرجوع إلى الأصليّ . وتحدّد المخيّلة الأسطوريّة هذا الأصليّ الواجب الرجوع إليه تجنّبًا للضياع ، وتفعّله في الحاضر الطقوس السحريّة ذات الفعّاليّة الوهميّة التي تصيب حالة الذات لا بنية الأشياء .

أمّا الدنيويّة ، فهي ، خلافًا لذلك ، ميزة تصوّرٍ يؤكّد استقلاليّة العالم واقتصاره على الظاهرات . لا وجود لقوى فائقة غير منظورة ، إنّما هناك مجرّد واقع منظور يتقصّاه العلم وتستعمله التقنية . لا خلط بين الذاتيّ والموضوعيّ ، إنّما تمييز بين الذات والموضوع ، واضطلاع الذات الإنسانيّة بمهمّة السيطرة على عالم الأشياء . لا رجوع تطهيريًّا إلى أصليّ ثابت في ذاته ، إنّما تقدّم ، إذ ما من شيء ثابت وكلّ شيء في تطوّر . فلا طاهر إذن ولا نجس ، ما خلا ما تحدّده معايير علم الأحياء المتعلّقة بالواقعيّة أو الوضعيّة البحتة .

2) الساميّة والهلّينيّة .

يتأصّل التراث العربيّ الإسلاميّ في الساميّة ، وهذا ما يجعله ينتقل من التشبيه ، كما تمارسه القدسيّة ، إلى تصوّر كائن فرديّ متعالٍ ، هو الله الأوحد . والله ، بما هو ملء الكيان والفعل ، يتحدّد كلّ شيء ، أي الإنسان والعالم ، بحسب نوع العلاقة به . وهذه العلاقة هي علاقة الإشارة بالمشار إليه . فكيان الإنسان الحقيقيّ هو أن يكون إشارة إلى الله ، أي أن يكون مؤمنًا . فإذا كفر ، كان لاإشارة ، وبالتالي لاكائنًا ، يُلغي نفسه بكفره ، ويستطيع المؤمن بالتالي ، بل يجب عليه ، أن يلغيه جسديًّا . التاريخ الإنسانيّ تاريخ مأساويّ ، تكمن عقدته في العلاقة بين الوحي الإلهيّ والإيمان الإنسانيّ ، ويتقلّب بين العهد والقطيعة ، بين الندم والعناد في المعصية . أمّا خاتمة المأساة فهي الزمن الأخرويّ ، فعلى نوعيّة الحياة في الدنيا تترتّب نوعيّة الحياة في الآخرة .

أمّا الحداثة الغربيّة فقد حافظت على الخصائص الأساسيّة لأصلها الهلّينيّ . فما الآلهة المتعدّدة التي تتصوّرها الهلّينيّة إلاّ قوى طبيعيّة . أمّا الواقع الحقيقيّ الأوحد فهو العالم ، أو هو الإنسان . لسنا هنا أمام خيارَين ، بل أمام تطابق في شكل اشتراك في المركز ، يجعل الإنسان عالمًا أصغر والعالم عالمًا أكبر . الطبيعة (fعsi*) عالم منتظم أو كوزموس (kزsmo*) وانسجام (،rmon…a) ، يُحسن العقل أو اللوغوس (lزgo*) رؤيتها والتعرّف عليها والإعجاب بها . لذلك وجب على الإنسان ، وقد أوصي بأن يعرف نفسه (gnîqiseautزn) ويعرف بالتالي ترتيب الطبيعة ، أن يقيم في ذاته الانسجام نفسه الذي يكتشفه في الكوزموس . ومهمّته هي المعرفة أوالعِلم (™pist»mh) والمهارة أو التقنية (tڑcnh) ، اللتان يزداد بهما ألفة مع العالم . غير أنّ مهمّته الأساسيّة هي الاعتدال (mڑtron, mhden ¥gan) ، أي السعي إلى أن يكون إنسانًا وحسب .

3) الوسيطيّة والحداثة .

العصر الوسيط هو العصر الذي فيه تكوّنت الأنظومة الدينيّة في شكلها النهائيّ . أمّا العصر الحديث فهو العصر الذي فيه تفكّكت هذه الأنظومة الدينيّة . فلقد تعايشت التفاسير القرآنيّة المختلفة والاختلافات والمناقشات الكلاميّة والمذاهب الفقهيّة المتباينة في إطار أنظومة دينيّة إسلاميّة بدا فكر الغزالي كأنّه التعبير الفصل عنها . تحتوي هذه الأنظومة ، شأنها في ذلك شأن الأنظومة المسيحيّة ، على العناصر الخمسة الأساسيّة الملبّية لحاجات الإنسان الجوهريّة جميعًا . ففيها أوّلاً ، تلبيةً لحاجة المعرفة ، مجموعة متماسكة ، بالقدر الأكبر الممكن ، من الاعتقادات ، دُوّنت في قوانين إيمانيّة وعقائد ونظريّات لاهوتيّة . ثمّ فيها مجموع العبادات ، وهي طقوس واحتفالات وفرائض دينيّة ، تلبّي الحاجة إلى عمل يكون مثاليًّا لكونه يجعل الإنسان طرف علاقة بالله . وفي ما خصّ الحياة اليوميّة وعلاقات الناس بعضهم ببعض ، تحتوي الأنظومة ، ثالثًا ، مجموعة القواعد الأخلاقيّة أو الأنماط السلوكيّة . ورابعًا ، يتمثّل الطابع الدينيّ للحياة الجماعيّة في المؤسّسات التي يتكوّن منها المجتمع الدينيّ . وخامسًا وأخيرًا ، لمّا كان الإسلام دينًا ودنيا معًا ، فإنّ المجتمع ، في جوانبه العيليّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، ينتظم وفقًا للمبادئ الدينيّة المدوّنة في الشريعة القرآنيّة .

أمّا الغرب الحديث فهو حديث بما هو معلمَن . فقد حلّ محلّ العالم المسيحيّ الوسيطيّ عالَمٌ مستقلّ عن الدين ، منفتح على التغيّر أو التقدّم الثقافيّ والحضاريّ ، منتقدٌ بالتالي انتقادًا هدّامًا الأنظومة الدينيّة المسيحيّة ، بل أيّ أنظومة دينيّة على العموم . ويقوم هذا الانتقاد على إظهار الطبيعة الحقيقيّة لكلّ عنصر من عناصر الأنظومة الدينيّة ، وعلى الإشارة إلى عمليّة الاستبدال التي يقتضيها روح الحداثة . فتتحوّل إذّاك الاعتقادات إلى مجرّد أساطير من إنتاج المخيّلة ، فيضطلع العقل ، في شكله العلميّ ، بدورها المعرفيّ . وتتحوّل طقوس العبادة إلى حركات شبه سحريّة ، فتتحوّل فعّاليّتها الذاتيّة والخياليّة إلى فعّاليّة موضوعيّة وواقعيّة ، وذلك بفضل التقنية المرتكزة على المعرفة العلميّة . وما القواعد الأخلاقيّة سوى خداع مثاليّ ، فتُستخرَج الأنماط السلوكيّة من الواقع المتغيّر الذي ينبغي التوافق معه بدلاً من الإصرار على إخضاعه لمثال أخلاقيّ طوباويّ . ومجرّد رفض الوجود الأسطوريّ لواقع متعال يجعل المجتمع الدينيّ غير ضروريّ ، إذ ذاك يُلغى الدين المؤسّسة أو يُخصَّص ، وهذا أفضل الممكن له . وتتضمّن دنيويّة المجتمع الدينيّ علمنة المجتمع الكاملة ، أي تأكيد استقلاله فتاريخيّته .

3 ـ اللاهوتانيّة والإنسانويّة .

تُظهر التحاليل السابقة أنّ الاختلافات الثقافيّة بين الإسلام والغرب تتجمّع في موقفَين متناقضَين ، موقف اللاهوتانيّة الإسلاميّة وموقف الإنسانويّة الغربيّة الحديثة . ويمكن تصنيف السمات التي يتميّز بها كلٌّ من اللاهوتانيّة والإنسانويّة في ثلاث مجموعات .

تتعلّق المجموعة الأولى بما يُعتبَر المبدأ أو المرجع المركزيّ . في اللاهوتانيّة ، الله هو النقطة المركزيّة والمبدأ والغاية . أمّا في الإنسانويّة فالنقطة المركزيّة هي الإنسان ، بما هو كائن وقيمة ، إنّما ليس هو المبدأ ولا الغاية . ذلك أنّ الله ، إله اللاهوتانيّة ، كائنًا وقيمةً ، هو المطلق ، في حين أنّ إنسان الإنسانويّة ، بعد أن نقض المطلقات ، يعتبر نفسه شيئًا نسبيًّا : فهو ينسب إلى ذاته كلّ شيء ، غير أنّ ذاته ، سواء كانت تجريبيّة أو صوريّة وقَبْليّة ، لا تدّعي كونها المصدر الذي منه ينبعث كلّ شيء وإليه يرتدّ كلّ شيء . يتميّز المطلق الإلهيّ بالوحدة والأزليّة ، أمّا نسبيّة الأشياء الإنسانيّة فتجرّ معها تعدّدها وزمنيّتها .

المجموعة الثانية تتعلّق بالرباط بين العالم الإلهيّ والعالم الإنسانيّ . تؤكّد اللاهوتانيّة هذا الرباط ، فيما تنكره الإنسانويّة أو تشكّ في وجوده . إنّ تأكيد اللاهوتانيّة اللهَ والإنسان يقود إلى تأكيد وساطة الوحي في إشارة إلى دخول الإلهيّ العالمَ الإنسانيّ والتاريخ الإنسانيّ . أمّا إنكار المطلق الإلهيّ ، أو إهماله ، فيمكّن من الاستغناء عن هذا الوحي : فلا شيء يدير الإنسان ، وقد بات وحده في الميدان ، إلاّ عقله الخاصّ ، ولا شيء يسوسه إلاّ حوافزه الطبيعيّة الخاصّة .

أمّا المجموعة الثالثة فإنّها تتعلّق بالموقف الإنسانيّ النموذجيّ ، أي كيفيّة توجيه الإنسان وجودَه وتاريخه . جواب الإنسان المرتبط بالله بواسطة الوحي هو موقف الإيمان ، وهو موقف الإذعان والخضوع والإيمانيّة والعقديّة ، وهو يظهر ، في الواقع اليوميّ ، في الصبر والتسليم ، كما في ربط اللحظة الحاضرة بالأصليّ ، وغالبًا ما يُعتبَر الأصليّ مطابقًا للماضي ، وفي ربطها بالأخرويّ . أمّا غياب الوحي ، في المقابل ، فإنّه يجعل العقل الإنسانيّ مكتفيًا بذاته وسيّد نفسه وناقدًا . وإهمال البداية والنهاية يجعل الإنسان مسؤولاً عن حاضره تجاه ذاته ، ومتطلّعًا إلى مستقبل منفتح ولامتناهٍ .

هذا التوازي على الأصعدة الثلاثة يذكّر بأجناس أفلاطون العليا : السكون (st£sij) والحركة (k…nhsij) ، الكينونة (شn) (واللاكينونة m¾ شn) ، الذات (taظtزn) والآخر (q£teron). فاللاهوتانيّة تنحاز إلى السكون والكينونة والذات . أمّا الإنسانويّة فتنحاز إلى الحركة واللاكينونة ، وتحدّد هذه اللاكينونة بالآخر ، وتذكّر بالعدميّة الحديثة . غير أنّ أفلاطون ، وإن كان يقابل هذه الأجناس بعضها ببعض اثنين اثنين ، فهو يتفحّص تواصل بعضها ببعض ، وهذا يفسح في المجال لاحتمال توفيق بين اللاهوتانيّة والإنسانويّة ، بغضّ النظر عن الشكل الذي قد يتّخذه هذا التوفيق .