الفصل الثاني: الإسلام والعلمانية - نحو تطابق الأضداد

إنّ ما يدعو إلى اتّخاذ هذا الموقف التوضيحيّ هو أوّلاً العبرة من انتقادات الإسلاميّين . ولمّا كانت هذه الانتقادات ترمي إلى طرح البديل الإسلاميّ ، يجدر بنا أن نبرز الميزات المشتركة بين الإسلام والعلمانيّة . وانطلاقًا من هذه النقطة يتّسع التساؤل ليشمل مسألة التقارب بين مفهومَي الدين والعلمنة . وفي آخر المطاف قد يتبيّن لنا على أيّ صعيد يمكن أن يتطابق الإسلام والعلمانيّة تطابق الأضداد .

1 ـ العبرة من انتقادات الإسلاميّين .

حريّ بنا أن نبدأ بالقول إنّ فكر الإسلاميّين لا يمثّل فكر جميع المسلمين ، وإنّ الإسلاميّين لم يُجمعوا على نبذ جميع جوانب الحداثة الغربيّة : فالأكثريّة منهم يقبلون بما يسمّونه الجانب المادّيّ من الحداثة ، المتمثّل بالعلم والتقنية والتنظيم الاجتماعيّ .

أمّا انتقاداتهم للحضارة الغربيّة وللمجتمع الغربيّ المعلمنَين ، فعلينا الإقرار بصحّتها ، وبأنّها غالبًا ما تتّفق وانتقادات الغربيّين أنفسهم للغرب . وبالرغم من أنّ الإسلاميّين لم يحسبوا حسابًا للقيَم الروحيّة التي يختزنها الغرب ، فإنّهم نجحوا في تحديد الأزمة التي يتخبّط فيها الغرب الحديث ، الرأسماليّ والشيوعيّ أو الاشتراكيّ على السواء . العبرة من هذه الانتقادات هي أن لا نؤخَذ بالافتتان بالعلم والتقنية إلى حدّ التقليد الأعمى لنهج الحياة الغربيّة . فالإسلام له أن يطرح نفسه بديلاً عن النموذج الاجتماعيّ ، الرأسماليّ والشيوعيّ . والإسلام بقيَمه يمكن طرحه بديلاً عن الحداثة الغربيّة بقيَمها العلمانيّة .

إلى ذلك يبدو طرح البديل الإسلاميّ كأنّه غطاء لمطامع بعض رجال الدين أو بعض المؤمنين ولرغبتهم في تولّي السلطة ، بعد أن استُبعدوا زمنًا طويلاً عن مراكز القرار . ولئن صحّ هذا التفسير ، فكيف يُعقَل ، باسم الحياد العلمانيّ ، أن يُستبعَد عن السلطة رجال تمسّكوا بإيديولوجيتهم الدينيّة ، كما تمسّك غيرهم من الرجال بإيديولوجيتهم اللادينيّة . وكيف نعلم أنّ البديل الإسلاميّ غير صالح ، إذا لم تُتح الفرصة لدُعاته أن يبرهنوا عن صحّة مزاعمهم . علمًا أنّ الحلول الملائمة لمشكلات الحياة العصريّة لن تُستمَدّ من الإيديولوجيا أيًّا كانت ، ولن تكون حلولاً إسلاميّة ولا حلولاً علمانيّة . إنّها لن تكون إلاّ حلولاً تقنيّة . وقد تكون تجربة الحلّ الإسلاميّ الوسيلة الفضلى لنزع القناع عمّا قد يكون مطامع أفراد أو طبقات .

ثمّ إنّ الحلّ الإسلاميّ لا يبدو مغلَقًا في وجه كلّ القيَم الموصوفة بالعلمانيّة . فقد تظهر ، نتيجة تحليلٍ أدقّ ، نقاط تقارب بين الإسلام والعلمانيّة أكثر ممّا قد يتبادر إلى الأذهان .

2 ـ الإسلام والعلمانيّة .

عندما يؤكّد يوسف القرضاوي أنّ الإسلام أوسع من الدين ، يبدو كأنّه يشير إلى القول الشائع في الإسلام إنّه دين ودنيا . وهذا يشير إلى ادّعاء الإسلام أنّه يتميّز من المسيحيّة بحفظ التوازن ، في الواقع البشريّ ، بين الروح والمادّة ، وبين الدنيا والآخرة ، أي بين الأشياء الدينيّة والأشياء العلمانيّة . ومحمّد مهدي شمس الدين ، من جهته ، عندما يصحّح القول الشائع في الإسلام إنّه دين ودنيا ، بقوله فيه إنّه دين الدنيا والآخرة ، فإنّه يجعل الأشياء العلمانيّة تابعة للدين . من هنا كان لنا أن نستنتج أنّ الإسلام لا يتنافى جذريًّا والعلمانيّة ، بل يتضمّنها كأحد مقوّماته الجوهريّة . وهذه الأشياء العلمانيّة التي يتضمّنها الإسلام لا تفقد طابعها العلمانيّ لمجرّد كونها خاضعة للدين . فأمكن القول ، بالتالي ، إنّ كلّ ما في الإسلام هو دينيّ أو علمانيّ على السواء ، وذلك على أساس رفض الإسلام القاطع لأيّ تأليه للأشياء البشريّة ، على نحو ما تزعمه المسيحيّة . فإذا كان ، في نظر الإسلام ، كلّ ما هو إنسانيّ لا يتعدّى كونه إنسانيًّا ، بات الدين نفسه ، وإن كان منزلاً من عند الله ، إنّما هو سلوك إنسانيّ محض ، فهو إذن شيء علمانيّ في جوهره .

من ناحية ثانية ، فإنّ الإسلاميّين ، إذ ينتقدون ما في الغرب الحديث من أنماط اجتماعيّة ، يقرّون بأنّهم يقبلون ببعض جوانب هذه الأنماط ، خصوصًا الأهداف التي تسعى إليها هذه الأنماط ، كالحرّيّة والعدل ، وهما من لحم الإسلام ودمه . هذا علاوة على انفتاح الإسلام على تقدّم العلوم والتقنيات ، والتنظيم الاجتماعيّ ، والرفاهية ، وغيرها من المحاسن المادّيّة التي قام عليها سحر الحضارة الغربيّة المعلمنة . الإسلام ، في جوهره ، هو قبول بالوضعيّة البشريّة كما شاءها الله ، وهو استمتاع معتدل بخيرات الحياة . في الإسلام ليس من صراع مأساويّ ، كما هو الحال في المسيحيّة ، بين شهوات الجسد وطموحات الروح ، بل فيه محاولة التوازن بينها من دون التعرّض للكبت وغيره من الأحوال التي يعرفها علم النفس التحليليّ . فاتّباع الميول الطبيعيّة يعني الخضوع لمشيئة الله . وعلى هذا النحو كان الإسلام تعبيرًا صريحًا عن فطرة الله التي فطر الناس عليها .

هذا وإنّ ما ينبذه الإسلاميّون في العلمانيّة هو فلسفتها المادّيّة ، وتخلّيها عن القيَم الروحيّة والأخلاقيّة ، ولادينها وإلحادها . لكنّ هذا ليس سوى شكل من أشكال العلمانيّة . هناك علمانيّة معتدلة ، كما يقول محمّد مهدي شمس الدين ، لا ترفض الدين ، بل تحدّ من مكانته في حياة الأفراد وحتى في الحياة الجماعيّة . فكان هذا الموقف محاولة لإقامة توازنٍ بين الأشياء العلمانيّة والأشياء الدينيّة . طبعًا ليس هذا التوازن هو ما يسعى الإسلام إلى تحقيقه . لكن ، عمليًّا ، هل تحقّق التوازن الإسلاميّ في حياة المسلمين اليوميّة أكثر ممّا تحقّق التوازن العلمانيّ في حياة الناس العائشين في نظام علمانيّ ليبراليّ ؟ من المهمّ ، على ما يبدو ، تمييز صعيد المبادئ والنوايا من صعيد التطبيق الفعليّ . على هذا الصعيد الثاني يكون الحكم على قيمة أيّ نهج اجتماعيّ . في هذا السياق ، الحلول الصحيحة لمشكلات المجتمعات الإنسانية لن تكون لا إسلاميّة ولا غير إسلاميّة ، كما قلنا سابقًا . صحّة هذه الحلول أو فعّاليّتها هي نتيجة طابعها التقنيّ والعقلانيّ . وهذه التقنية والعقلانيّة قد يمارسها المسلم المؤمن ، أو العلمانيّ المؤمن ، أو العلمانيّ غير المؤمن .

يبقى الفرق في الاستلهام : فهو دينيّ وإلهيّ في نظر الإسلاميّين ، وهو دنيويّ وإنسانيّ في نظر العلمانيّين . ويقودنا هذا الفرق إلى تحليل أدقّ للعلاقات بين الدين والعلمنة .

3 ـ الدين والعلمنة .

ينتقد الإسلاميّون تطبيق المفهوم الغربيّ للدين على الإسلام . وبالتالي فهم يرفضون أيّ محاولة لفصل الدين عن التنظيم الاجتماعيّ في المجتمعات الإسلاميّة . من المناسب هنا النظر في مفهوم الدين ومفهوم العلمنة بالابتعاد المنهجيّ عن المفهومَين بقدر ما يتطلّبه التحليل الموضوعيّ . فننظر إلى الدين والعلمنة باعتبارهما ظاهرتين من ظواهر العالم الإنسانيّ ، قبل أن نحكم في مصدر الدين ، هل هو الله أم البشر .

1) الدين .

الدين ، من حيث هو ظاهرة ، يبدو كأنّه أنظومة من عناصر ثقافيّة ، مهمّتها تلبية حاجات الإنسان الأساسيّة . فالعقائد تلبّي حاجة الناس إلى معرفة ما هو الكون وما هي مكانة الإنسان فيه . - والعبادات تلبّي الحاجة إلى تطابق التصرّفات مع نموذج الأفعال الذي يُعتَبر مثاليًّا لأنّه مُفتَرض فيه أن يجعل الناس في علاقة مباشرة مع الألوهة بما هي أساس العقائد . - والقواعد الأخلاقيّة تلبّي الحاجة إلى تطابق أفعال الحياة اليوميّة ، خصوصًا المعاملات أي العلاقات الاجتماعيّة ، مع النموذج المثاليّ للأفعال . - والنُظم الاجتماعيّة تلبّي الحاجة إلى تنظيم الجماعة الإنسانيّة على نحوٍ يجعل الحياة الإنسانيّة شيئًا ممكنًا ، فيصحّ بذلك تحديد الإنسان بأنّه حيوان اجتماعيّ zùon politikزn .
وهذه الأنظومة ، أنظومة العقائد أوالتصوّرات ، والعبادات ، والقواعد الأخلاقيّة ، والنُظم الاجتماعيّة ، أساسها ، في الديانات التوحيديّة ، كائن أسمى ، تُطلَق عليه اسماء ، منها يهوه أو Qeزj أو Deus أو الله ، ثمّ الأسماء المشتقّة في اللغات الحديثة . ثمّ إنّ وظيفة هذه الأنظومة هي جعْل الناس في علاقة بهذا الكائن الأسمى في سبيل خلاصهم ، أي لتتأمّن لهم حياة صالحة في الدنيا وفي الآخرة . فالدين إذن هو طريق إلى الخلاص ، والخلاص قائم على الإيمان بهذا الكائن الأسمى ، والإيمان به يعني الإقرار بوجوده ، أو يعني ، بتعبير أدقّ ، السعي إلى الله ، إمّا من أجل الخلاص ، وإمّا من أجل الاتّحاد به بحيث يمكن التعبير عن هذا الاتّحاد بأنّه قصْد المطلق . فالإيمان إذن هو الذي يكوّن الأنظومة الدينيّة باستخدام وسائل التعبير التي تتألّف منها الأنظومة الثقافيّة . فيبدو الدين آنذاك كأنّه التعبير الثقافيّ عن الإيمان .

من هنا نخلص إلى نتيجتين . الأولى هي أنّ الأنظومات الدينيّة تتعدّد بتعدّد الأنظومات الثقافيّة . والثانية هي أنّ قصد المطلق هو الذي يحوّل عنصرًا ثقافيًّا إلى عنصر دينيّ . وهذا يعني أنّ أيّ نشاط إنسانيّ ، أيًّا كان المجال الذي ينتمي إليه ، يستطيع أن يعبّر عن قصد المطلق ، وبالتالي أن يكون له طابع دينيّ . فليس لنا إذّاك أن نفضّل دينًا ما على غيره بالقول إنّه وحده الدين الحقّ الصحيح ، ولا أن نفضّل فئة من النشاطات بالقول إنّها وحدها بحدّ ذاتها نشاطات دينيّة وإنّ غيرها بحدّ ذاتها نشاطات دنيويّة . فأيّ نشاط إنسانيّ يكون دينيًّا إذا عبّر عن قصد المطلق ، ويكون دنيويًّا إذا عبّر عن قصدٍ لا يهدف إلى المطلق .

هذه النتائج هي في الواقع مستوحاة من تحليل العلمنة ومن محاولة الإبقاء على جوهر الدين وجوهر العلمانيّة ، بالارتقاء إلى ما فوق الاختلافات السطحيّة .

2) العلمنة .

إذا كان الدين أنظومة قائمة ، فالعلمنة هي الظاهرة التاريخيّة التي كانت كناية عن تفكيك للأنظومة الدينيّة ، مبدأه الكشف عن الوجه الحقيقيّ لطبيعة عناصر الأنظومة الدينيّة وإظهار ما يقابلها ممّا يعتقد العلمانيّون أنّه الحقيقة الموضوعيّة . فالمعتقدات تُعتَبر من نوع الأسطورة أو الميثوس mعqoj ، تضع العلمانيّة ، بما هي نزع الطابع الأسطوريّ démythologisation، في مقابلها اللوغس lزgoj أي العقل والمنطق ، كما أنّ لوغس علم الإلهيّات هو عينه ، في النظرة العلمانيّة ، لوغس الإيديولوجيات . والعبادات تُعتَبر شعوذات سحريّة ، تضع العلمانيّة ، بما هي تحرّر من الخداع démystification، في مقابلها فعّاليّة التقنيات . وكذلك الأخلاق المثاليّة الدينيّة تُعتَبر أوهامًا ، تضع العلمانيّة ، بما هي تحرّر من الخداع ، في مقابلها الأخلاق الوضعيّة والتجريبيّة . والنظُم الدينيّة تجرّدها العلمانيّة ، بما هي نزع الطابع المقدَّس désacralisation ، من تقنّعها بالقداسة ، وبالتالي تكشف العلمانيّة عن الطابع الإنسانيّ الصرف للمجتمع الدينيّ . وأخيرًا ، نتيجة لنزع الطابع المقدّس ، يُصار إلى إلغاء سلطة رجال الدين الاجتماعيّة أو الاجتماعيّة السياسيّة ، فتُستَبدل الإكليريكيّة cléricalisme بالعلمنة الاجتماعيّة السياسيّة laïcisation .

3) نقاط الاتّفاق بين الدين والعلمانيّة .

هل تلغي محاولة النقد الجذريّة هذه كلّيًّا الأنظومة الدينيّة بكاملها ؟ يبدو ، كما يقول الإسلاميّون ، أنّ الدين حاجة في الناس ، بدليل ما أبدته الأنظومات الدينيّة من مقاومة واستمرار وقدرة على التكيّف . وتدعو هذه المرونة إلى تلمّس الوساطة أو نقاط الاتّفاق بين عناصر الأنظومة الدينيّة وما تراه فيها العلمانيّة . فالميثوس واللوغس ، أي الأسطورة والعقل ، يلتقيان في مفهوم الرمز الشامل ، وبتعبير أدقّ ، الرمز اللغويّ . كذلك فعّاليّة العبادات الذاتيّة ومعياريّة القيَم الأخلاقيّة توازيان فعّاليّة التقنية الموضوعيّة والوضعيّة الأخلاقيّة . ويعني الإقرار بفعّاليّة الدين الذاتيّة هذه تأكيد أن لا قيمة للنظم الاجتماعيّة أيًّا كانت إلاّ إذا أسهمت في أنسنة الناس ، حتى بعد أن تكون هذه النظم قد خضعت لعمليّة نزع الطابع المقدَّس عنها . فباتت القيمة “ الإنسان ” هذه نقطة اللقاء بين ما يسعى إليه الدين وما تسعى إليه العلمانيّة . فالإنسانيّة في العلمانيّة تبدو متوافقة مع المحبّة ¢g£ph في المسيحيّة ، ومع الإنسانيّة في الإسلام : لا كهنوت في الإسلام ، كما في العلمانيّة ، وكما في مسيحيّة تؤمن بإله محبّ للبشر fil£nqrwpoj .

ولهذا التقارب الواضح بين الدين والعلمانيّة انعكاسات على فهْم العلاقات بين الإسلام والغرب بما هما عالمان وحضارتان .

4 ـ الإسلام والغرب .

هذا التقارب بين الإسلام والعلمانيّة ، أو عمومًا بين الدين والعلمانيّة ، يقود إلى تبيّن إمكان التقارب بين التراث الإسلاميّ والحداثة الغربيّة .
وأساس هذا الإمكان هو الواقع التاريخيّ ، بل القانون التاريخيّ ، واقع وقانون الدورة الثقافيّة والتبادل الثقافيّ . معروفة الأحداث التي التقت فيها الثقافة العربيّة الإسلاميّة بالثقافة الغربيّة . أوّلها استيعاب الثقافةِ العربيّة الثقافةَ اليونانيّة . هذا التراث الغربيّ ، طوّرته العبقريّة العربيّة الإسلاميّة ، وسلّمته لأوروبا الوسيطيّة ، فكانت النهضة الأوروبيّة الأولى . ثمّ تطوّرت هذه الثقافة الأوروبيّة وفقًا لخصوصيّتها ، وهي ، منذ النهضة الأوروبيّة الثانية حتّى أيّامنا ، خصوصًا منذ الحملة الفرنسيّة على مصر في القرن التاسع عشر ، تعرض نفسها للاستيعاب من قبَل المجتمعات العربيّة الإسلاميّة وغيرها من المجتمعات في العالم .

في إطار هذه العلاقات ، من الطبيعيّ أن يتّخذ العالم العربيّ الإسلاميّ المواقف الثلاثة من العالم الغربيّ الحديث ، كما سجّلها محمّد مهدي شمس الدين . هذا المؤلّف ، الإسلاميّ المعتدل ، على غرار غيره من الإسلاميّين ، يقف موقف الانتقاء ، فيقبل ، من بين عناصر الحضارة الغربيّة الحديثة ، العناصر التي لا تنال من قيَم الإسلام الروحيّة والدينيّة ، وهي العلم ، والتقنية ، والتنظيم الاجتماعيّ . أمّا تحفّظ الإسلاميّين تجاه الإيديولوجيات الغربيّة الحديثة ، فمردّه إلى أنّ هذه الإيديولوجيات ليست حياديّة دينيًّا كما هو الأمر بالنسبة إلى العلوم والتقنيات وأنماط التنظيم الاجتماعيّ ، وبالتالي مردّه إلى خطر الخلط أو المرادفة بين التحديث والتغريب . وكان الاستعمار هو المسؤول الرئيس عن هذا الخلط . فهو إذ ظهر أوّل ما ظهر في وجه عسكريّ بهدف السيطرة ، بدا للإسلاميّين أنّه مجرّد محاولة تغريب ، أي في واقع الأمر محاولة إلغاء للإسلام . وذلك حتى عندما كان المستعمِر رجل علم اختصاصه الاستشراق ، أو عندما كان يُنشئ مؤسّسات تعليميّة أو مؤسّسات اجتماعيّة .

يقول يوسف القرضاوي بكلّ وضوح إنه يرفض التحديث إذا كان التحديث يعني التغريب . هذا التعلّق بالهويّة الثقافيّة هو موقف مشروع ومبرَّر من دون أيّ شكّ : إن لم يكن المرء ما هو في ذاته ، فهو لا شيء . وعلى الأخصّ ، لا يُطلَب من عربيّ أن يتنازل عن حرّيّته ، ولا من مسلم أن يُسلِم أمره للناس بدلاً من تسليمه لله وحده . لكنّ الواقع أنّ التحديث ليس مرادفًا للتغريب . وكما أنّ الثقافة العربيّة الإسلاميّة لم تشعر بأنّها فقدت هويّتها من جرّاء استيعابها التراثَ اليونانيّ ، كذلك اليوم يمكن الوثوق بمقدرة الثقافة العربيّة الإسلاميّة على الاستيعاب . فهي تستطيع اليوم ما استطاعته في الماضي ، من دون أن تفقد عبقريّتها وخصوصيّتها . وباستطاعتها استيعاب العلوم والتقنيات وأنماط التنظيم الاجتماعيّ الغربيّة ، بل أيضًا ما هو جوهريّ في الإيديولوجيات والقيَم الغربيّة الحديثة ، من دون أن تفقد هويّتها . ثمّ إنّ رفض عطاء الحداثة الغربيّة قد يؤدّي إلى تحنيط الثقافة العربيّة الإسلاميّة في أحد أشكالها الماضية ، وإلى حرمانها من إمكان دفين في ذاتيّتها ، إمكان اتّخاذها شكل حداثتها العربيّة الإسلاميّة . فبقدر ما هو مُضرّ بالثقافة أن تفقد ذاكرة الماضي ، بهذا القدر هو مميت لها أن تحول ظروف ومواقف دون اندفاعها نحو مستقبلها الخاصّ .

5 ـ تطابق الأضداد .

في آخر المطاف ، إذا ما أنعمنا النظر ، وجدنا الإسلام والعلمانيّة ، أو الدين والعلمنة ، أو الحضارة العربيّة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة الحديثة ، أضدادًا يتبع كلٌّ منها مساره الخاصّ ، في حين أنّ قدَرها هو أن تلتقي في سعيها المشترك إلى المطلق . هذه الفكرة التي ابتكرها نيقولاوس القوزانيّ Nicolaus Cusanus والتي عبّر عنها بالعبارة coincidentia oppositorum (تطابق الأضداد) تشير إشارة كاملة إلى سعي كلٍّ ممّا أسمّيه الواقع والمعنى إلى التطابق مع الآخر . في أيّ شيء إنسانيّ ، أفرادٍ أو جماعات ، تَوقٌ هو من مقوّمات هذا الشيء ، يحمله على تجاوز ما هو عليه نحو ما يجب أن يكون عليه ، أي نحو ما يكوّنه في مِلئه وحقيقته . الواقع الإنسانيّ لا يكون إنسانيًّا حقًّا إلاّ إذا تطابق مع معناه ، أي إذا كان تحقيقًا لهذا المعنى . والمعنى الإنسانيّ لا يكون حقيقة إنسانيّة إلاّ إذا تطابق مع واقعه ، أي إذا كان معنى محقَّقًا . من دون هذا التطابق ، يبقى الإنسان لغزًا ومفارقة ، أي كائنًا ينتظر أن يكون ، طالما لم يحقّق في ذاته ، أو طالما لم يمتلك ، ذاتَه .

يمكن نقل هذا الكلام العلمانيّ إلى كلام دينيّ ، مسيحيّ أو إسلاميّ على السواء . الإنسان يبدوكأنّه واقع يبحث عن معناه ، أي عن الله . والله يبدو كأنّه المعنى الذي يسعى إلى أن يتحقّق في الوجود الإنسانيّ وفي التاريخ الإنسانيّ . فالله يتحقّق أو يتجلّى في الإنسان . والإنسان لا يحقّق حقيقته الإنسانيّة إلاّ في الله . الله هو معنى الإنسان ، والإنسان هو تحقيق الله .

إنّما تجدر الإشارة إلى أنّ تطابق الأضداد لا يتمّ إلاّ في اللامتناهي . وبالتالي فإنّ التاريخ هو الحركة اللامتناهية نحو هذا التطابق ، حيث يجد أخيرًا كلّ شيء حقيقته .