رسالة في الحقيقة والمجاز

فصل اختلاف الأصوليين في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية
 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – :
 فَصْلٌ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الآمدي فِي أَحْكَامِهِ :
 
 " الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " : اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ ؛ فَنَفَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ ؛ - يَعْنِي أَبَا إسْحَاقَ الإسفراييني - وَأَثْبَتَهُ الْبَاقُونَ وَهُوَ الْحَقُّ . قُلْت الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَحْرِيرِ هَذَا النَّقْلِ ؛ وَالثَّانِي فِي النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ : إنْ أَرَادَ بِالْبَاقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَقْسِيمِهَا إلَى : الْكِتَابِ ؛ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ ؛ وَالْكَلَامِ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ : أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا أَقْعَدَ بِهَذَا الْفَنِّ وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ الدِّينِيَّةِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى شريح : اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ - وَفِي لَفْظٍ - فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَك . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْأُصُولِيِّ مَنْ يَعْرِفُ " أُصُولَ الْفِقْهِ " وَهِيَ أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ ؛ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ وَيَعْرِفُ مَرَاتِبَ الْأَدِلَّةِ ؛ فَيُقَدِّمُ الرَّاجِحَ مِنْهَا - وَهَذَا هُوَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ فَإِنَّ مَوْضُوعَهُ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ - فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ أُصُولِيٌّ ؛ إذْ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ بَعْضُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُجْتَهِدُ وَلَا يَكْفِي فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا أَنْ يَعْرِفَ جِنْسَ الْأَدِلَّةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ أَعْيَانَ الْأَدِلَّةِ وَمَنْ عَرَفَ أَعْيَانَهَا وَمَيَّزَ بَيْنَ أَعْيَانِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَانَ بِجِنْسِهَا أَعْرَفَ كَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهَا فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعِهَا لَازِمٌ لِذَلِكَ ؛ إذْ يَمْتَنِعُ تَمْيِيزُ الْأَشْخَاصِ بِدُونِ تَمْيِيزِ الْأَنْوَاعِ . وَأَيْضًا فَالْأُصُولِيُّونَ يَذْكُرُونَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَذَاهِبَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَالِكِ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ والأوزاعي ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وداود وَمَذْهَبِ أَتْبَاعِهِمْ بَلْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ إذْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا بِأَعْيَانِهَا وَيَسْتَعْمِلُونَ الْأُصُولَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الَّذِينَ يُجَرِّدُونَ الْكَلَامَ فِي أُصُولٍ مُقَدَّرَةٍ بَعْضُهَا وُجِدَ وَبَعْضُهَا لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ أَعْيَانِهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ كَانَ مَا يَقُولُونَهُ حَقًّا فَهُوَ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عَدِيمُهَا ؛ إذْ كَانَ تَكَلُّمًا فِي أَدِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا تَحَقُّقَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْفِقْهِ فِيمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حُكْمَ الْأَفْعَالِ الْمُحَقَّقَةِ مِنْهُ فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْأُصُولِيِّينَ يَتَنَاوَلُ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمَتْبُوعِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَالثَّوْرِيِّ ؛ والأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا وَكَمَا فَعَلَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَنَحْوُهُ وَكَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ والمتكلمين : فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ لَمْ يُقَسِّمْ الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِهِ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَتَوَسُّعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْهُ مَجَازًا وَلَا ذَكَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ذَلِكَ ؛ لَا فِي الرِّسَالَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَة مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ يَظُنُّ طَائِفَة أُخْرَى أَنَّ هَذَا مِمَّا أُخِذَ مِنْ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ تَوْقِيفًا وَأَنَّهُمْ قَالُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِكَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَمَا يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كالرازي وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ : هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَلَا يَعْرِفُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمُوَافِقِ لِطَرِيقِ أَئِمَّتِهِمْ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ . وَإِنْ قَالَ النَّاقِلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ : مُرَادِي بِذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ . قِيلَ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَشَابَهَهُمْ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ ذَكَرُوا هَذَا التَّقْسِيمَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يَحْكِي فِيهَا أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ كِتَابًا وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُشْتَغِلِينَ بِتَلَقِّي الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْمَعْنَى الْمَمْدُوحِ مِنْ اسْمِ الْأُصُولِيِّ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَسَّمَ الْكَلَامَ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَإِنْ أَرَادَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ . قِيلَ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا هَذَا التَّقْسِيمَ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمْ إمَامٌ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْإِسْلَامِ لَا التَّفْسِيرِ وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا الْفِقْهِ وَلَا اللُّغَةِ وَلَا النَّحْوِ بَلْ أَئِمَّةُ النُّحَاةِ أَهْلُ اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَغَيْرِهِمْ : لَمْ يُقَسِّمُوا تَقْسِيمَ هَؤُلَاءِ .
 
 فَصْلٌ وَأَمَّا " الْمَقَامُ الثَّانِي " فَفِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ . قَالَ الآمدي : حُجَّةُ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إطْلَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمَ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ ؛ وَالْحِمَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْبَلِيدِ وَقَوْلُهُمْ ظَهَرَ الطَّرِيقُ وَمَتْنُهَا وَفُلَانٌ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ ؛ وَشَابَتْ لُمَّةُ اللَّيْلِ ؛ وَقَامَتْ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ؛ وَكَبِدِ السَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لُغَةُ مِمَّا لَا يُنْكِرُ إلَّا عَنْ عِنَادٍ . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْ مَجَازِيَّةٌ ؛ لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ عَنْهَا مَا سِوَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ : بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ ؛ وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَبِدِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ ؛ وَاللُّمَّةِ فِي الشَّعْرِ إذَا جَاوَزَ الْأُذُنَ . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةُ التَّسَاوِي فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إنَّمَا هُوَ السَّبُعُ وَمِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الصُّوَرِ كَيْفَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةُ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ : أَوْ لَا يُقَيَّدَ بِقَرِينَةٍ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا مِنْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ . قُلْنَا : الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ سِوَى هَذَا النَّوْعِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِيِّ . كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؛ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ . وَجَوَابٌ ثَانٍ : أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ : أَوْ لِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى وَزْنِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا ؛ أَوْ لِلْمُطَابَقَةِ وَالْمُجَانَسَةِ وَالسَّجْعِ ؛ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيرِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْكَلَامِ . هَذَا كَلَامُ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ ؛ وَهُوَ أَجَلُّ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ النَّاصِرِينَ لِهَذَا الْفَرْقِ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ مَا ذَكَرْته مِنْ الِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ لَكِنْ قَوْلُك إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً : إنَّمَا يَصِحُّ إذَا ثَبَتَ انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِلَّا فَمَنْ يُنَازِعُك - وَيَقُولُ لَك : لَمْ تَذْكُرْ حَدًّا فَاصِلًا مَعْقُولًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا ؛ وَأَنَا أُطَالِبُك بِذِكْرِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ . أَوْ يَقُولُ : لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ثَابِتٌ . أَوْ يَقُولُ : أَنَا لَا أُثْبِتُ انْقِسَامَ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ إمَّا لِمَانِعِ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . أَوْ يَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى هَذَا وَهَذَا ؛ وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ : لَيْسَ لَك أَنْ تَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِك : إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً ؛ إذْ دُخُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَرْعُ ثُبُوتِ التَّقْسِيمِ فَلَوْ أَثْبَتَ التَّقْسِيمَ بِهَذَا كَانَ دَوْرًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ مِنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا إذَا أَثْبَتَ أَنَّ هُنَاكَ قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِنْ الْآخَرِ ؟ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ ؛ فَكَيْفَ تَجْعَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ مُقَدِّمَةً فِي إثْبَاتِ نَفْسِهِ وَتُصَادِرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ أَثْبَتَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ تَذْكُرْ دَلِيلًا وَهَذَا أَثْبَتَ الْأَصْلَ بِفَرْعِهِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِ فَهَذَا التَّطْوِيلُ أَثْبَتَ غَايَةَ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : مِنْ النَّاسِ الْقَائِلِينَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فَوَصَفَ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ : كَأَلْفَاظِ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصَةِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَالَ : هِيَ حَقِيقَةٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا بَقِيَ وَهِيَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ سَلْبِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا أَخْرَجَ . وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ : الْكَلَامُ إمَّا حَقِيقَةٌ ؛ وَإِمَّا مَجَازٌ وَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّك أَنْتَ وَطَائِفَةٌ كالرازي وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَابْنِ الْحَاجِبِ يَقُولُونَ : إنَّ الْأَلْفَاظَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا وَبَعْدَ وَضْعِهَا لَيْسَتْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا أَوْ الْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَقَوْلِهِمْ : ظَهْرُ الطَّرِيقِ ؛ وَجَنَاحُ السَّفَرِ ؛ وَنَحْوِهَا : إنْ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَعْنَى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَجَازٌ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدِ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا وَضَعَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا . فَإِنْ قَالُوا : قَدْ قَالُوا : جَنَاحُ الطَّائِرِ وَظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَتَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الظَّهْرِ وَالْجَنَاحِ وَأَرَادُوا بِهِ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ وَجَنَاحَ الطَّائِرِ . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ وَضَعُوا جَنَاحَ السَّفَرِ وَظَهْرَ الطَّرِيقِ بَلْ هَذَا اُسْتُعْمِلَ مُضَافًا إلَى غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ ذَاكَ ؛ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُضَافًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُضَافًا فَالْمُضَافُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْمُعَرَّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضَافِ ؛ فَاللَّفْظُ الْمُعَرَّفُ وَالْمُضَافُ إلَى شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ اللَّفْظِ الْمُضَافِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا قَالَ : الْجَنَاحُ وَالظَّهْرُ ؛ وَقِيلَ : جَنَاحُ الطَّائِرِ وَظَهْرُ الْإِنْسَانِ : فَلَيْسَ هَذَا وَهَذَا مِثْلَ لَفْظِ جَنَاحِ السَّفَرِ وَظَهْرِ الطَّرِيقِ ؛ وَجَنَاحِ الذُّلِّ . كَذَلِكَ إذَا قِيلَ : رَأْسُ الطَّرِيقِ وَظَهْرُهُ وَوَسَطُهُ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالطَّرِيقِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمَاثِلًا كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَظَهْرِهِ وَوَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ وَكَذَلِكَ أَسْفَلُ الْجَبَلِ وَأَعْلَاهُ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الْمُضَافَةِ يَتَمَيَّزُ مَعْنَاهُ بِالْإِضَافَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ تَرْكِيبَ مَزْجٍ أَوْ إسْنَادٍ أَوْ إضَافَةٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ كَاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَلِكَ لَا فِي الْإِعْرَابِ وَلَا فِي الْمَعْنَى . بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فِي النِّدَاءِ وَالنَّفْيِ فَيَقُولُونَ : يَا زَيْدُ وَيَا عَمْرُو بِالضَّمِّ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ وَيَا نُوحُ وَيَقُولُونَ فِي الْمُضَافِ وَمَا أَشْبَهَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا غُلَامَ زَيْدٍ كَقَوْلِهِ : يَا بَنِي آدَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَا أَهْلَ يَثْرِبَ وَيَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمُضَافِ الْمَنْصُوبِ وَكَذَلِكَ فِي تَرْكِيبِ الْمَزْجِ فَلَيْسَ قَوْلُهُمْ : خَمْسَةٌ كَقَوْلِهِمْ : خَمْسَةَ عَشَرَ بَلْ بِالتَّرْكِيبِ يُغَيَّرُ الْمَعْنَى . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : الْخَمْسَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَمْسَةِ ؛ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مَجَازٌ : كَانَ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْخَمْسَةِ مَوْجُودًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا آخَرَ وَجِنْسُ هَذَا التَّرْكِيبِ مَوْضُوعٌ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الْإِضَافَةِ مَوْضُوعٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : جَنَاحُ السَّفَرِ وَالذُّلِّ وَظَهْرُ الطَّرِيقِ تَرْكِيبٌ آخَرُ أُضِيفَ فِيهِ الِاسْمُ إلَى غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَيْسَ هَذَا كَالْمُجَرَّدِ مِثْلَ الْخَمْسَةِ ؛ وَلَا كَالْمَقْرُونِ بِغَيْرِهِ كَلَفْظِ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ وَهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ : وَهُوَ أَنَّهُ سَوَاءٌ ثَبَتَ وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ؛ أَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ هُوَ مَا عُرِفَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ : فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ هَذَا اللَّفْظُ الْمُضَافُ لَمْ يُوضَعْ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ بَلْ وَلَا يَحْتَمِل سِوَاهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ بِهِ إلَّا قَرِينَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي الْإِضَافَةِ بَلْ دَلَالَةُ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَاهُ كَدَلَالَةِ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمُضَافَةِ فَكُلُّ لَفْظٍ أُضِيفَ إلَى لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَخْتَصُّ ذَلِكَ الْمُضَافُ إلَيْهِ فَكَمَا إذَا قِيلَ : يَدُ زَيْدٍ وَرَأْسُهُ ؛ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ ؛ وَقَوْلُهُ وَحُكْمُهُ وَخَبَرُهُ : دَلَّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دِينُ زَيْدٍ مِثْلَ دِينِ عَمْرٍو ؛ بَلْ دِينُ هَذَا الْكُفْرُ وَدِينُ هَذَا الْإِسْلَامُ وَلَا حُكْمُهُ مِثْلُ حُكْمِهِ ؛ بَلْ هَذَا الْحُكْمُ بِالْجَوْرِ وَهَذَا الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ وَلَا خَبَرُهُ مِثْلُ خَبَرِهِ ؛ بَلْ خَبَرُ هَذَا صِدْقٌ وَخَبَرُ هَذَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : لَوْنُ هَذَا وَلَوْنُ هَذَا كَانَ لَوْنُ كَلٍّ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا أَسْوَدَ وَهَذَا أَبْيَضَ . فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ الْمُضَافُ وَاحِدًا مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقَائِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَإِنَّمَا يُمَيِّزُ اللَّوْنُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِإِضَافَتِهِ إلَى مَا يُمَيِّزُهُ . فَإِنْ قِيلَ : لَفْظُ الْكَوْنِ وَالدِّينِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَعُمُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ ؛ فَكَانَتْ عَامَّةً ؛ وَتُسَمَّى مُتَوَاطِئَةً ؛ بِخِلَافِ لَفْظِ الرَّأْسِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنَاحِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ . قِيلَ : فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ : أَلَيْسَتْ بِالْإِضَافَةِ اخْتَصَّتْ ؟ فَكَانَتْ عَامَّةً مُطْلَقَةً ثُمَّ تَخَصَّصَتْ بِالْإِضَافَةِ أَوْ التَّعْرِيفِ فَهِيَ مِنْ بَابِ اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا خُصَّ بِإِضَافَةِ أَوْ تَعْرِيفٍ . وَتَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ كَتَخْصِيصِهِ بِالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَالْبَدَلِ وَالْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ : اللَّوْنُ الْأَحْمَرُ وَالْخَبَرُ الصَّادِقُ أَوْ قِيلَ : أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ فَقَدْ تَغَيَّرَتْ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ . ثُمَّ إنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ الْمُعَيَّنُ فِي غَيْرِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ أَوَّلًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ؛ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ : وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } قَدْ أَضَافَ الرَّأْسَ إلَى الْأَمْرِ : وَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي رَأْسِ الْحَيَوَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا : رَأْسُ الْمَالِ ؛ وَالشَّرِيكَانِ يَقْتَسِمَانِ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ فَلَفْظُ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي رَأْسِ الْحَيَوَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ رَأْسِ الْعَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا أَوْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ : تِلْكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ مُطْلَقًا لَا يَكُونُ إلَّا مُقَيَّدًا ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَقَيَّدَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ إمَّا فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ مَعْرُوفٍ قَدْ عُرِفَتْ عَادَاتُهُ بِخِطَابِهِ ؛ وَهَذِهِ قُيُودٌ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِهَا . الثَّانِي : أَنَّ تَجْرِيدَهُ عَنْ الْقُيُودِ الْخَاصَّةِ قَيْدٌ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا فَنَفْسُ التَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ مُجَرَّدًا قَيْدٌ : وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي دَلَالَتِهِ الْإِمْسَاكُ عَنْ قُيُودٍ خَاصَّةٍ فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْقُيُودِ الْخَاصَّةِ قَيْدٌ كَمَا أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي يُتَكَلَّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ مَعَ تَجْرِيدِهِ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ فِيهِ هُوَ الْمُبْتَدَأُ الَّذِي يُرْفَعُ وَسِرُّ ذَلِكَ تَجْرِيدُهُ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ فَهَذَا التَّجْرِيدُ قَيْدٌ فِي رَفْعِهِ كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِلَفْظِ مِثْلَ : " كَانَ " وَ " إنَّ " وَ " ظَنَنْت " : يُوجِبُ لَهُ حُكْمًا آخَرَ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ لَهُ حَالَانِ : تَارَةً يَسْكُتُ وَيَقْطَعُ الْكَلَامَ وَيَكُونُ مُرَادُهُ مَعْنًى . وَتَارَةً يَصِلُ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِكَلَامِ آخَرَ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ إذَا جُرِّدَ فَيَكُونُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَهُ حَالَانِ : حَالٌ يَقْرِنُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِالسُّكُوتِ وَالْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الصِّلَةِ . وَحَالٌ يَقْرِنُهُ بِزِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ . وَمِنْ عَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ ؛ وَإِذَا وَصَلَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ مُرَادُهُ وَقَرَنَ لَفْظَهُ بِمَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَعْنَى : وَالدَّلَالَاتُ تَارَةً تَكُونُ وُجُودِيَّةً وَتَارَةً تَكُونُ عَدَمِيَّةً ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ بِنَفْسِهَا الَّتِي قَدْ تُسَمَّى الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ ؛ وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ بِقَصْدِ الدَّالِّ وَإِرَادَتِهِ ؛ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ أَوْ الْوَضْعِيَّةَ أَوْ الْإِرَادِيَّةَ . وَهِيَ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ كَثِيرًا مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ وُجُودَهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ لَهُ وَعَدَمُ اللَّازِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا يَدُلُّ عَدَمُ ذَاتٍ مِنْ الذَّوَاتِ عَلَى عَدَمِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا وَعَدَمُ كُلِّ شَرْطٍ مَعْنَوِيٍّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوطِهِ كَمَا يَدُلُّ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمُ الْفَسَادِ عَلَى عَدَم إلَهِيَّةِ سِوَى اللَّهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي يَدُلُّ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ . فَكَمَا أَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ إذَا كَتَبُوهَا يُعَلِّمُونَ بَعْضَهَا بِنُقْطَةِ وَبَعْضَهَا بِعَدَمِ نُقْطَةٍ ؛ كَالْجِيمِ وَالْحَاءِ وَالْخَاءِ فَتِلْكَ عَلَامَتُهَا نُقْطَةٌ مِنْ أَسْفَلَ وَالْخَاءُ عَلَامَتُهَا نُقْطَةٌ مِنْ فَوْقٍ وَالْحَاءُ عَلَامَتُهَا عَدَمُ النُّقْطَةِ . وَكَذَلِكَ الرَّاءُ وَالزَّايُ ؛ وَالسِّينُ وَالشِّينُ ؛ وَالصَّادُ ؛ وَالضَّادُ ؛ وَالطَّاءُ ؛ وَالظَّاءُ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي حُرُوفِ الْمَعَانِي : عَلَامَتُهَا عَدَمُ عَلَامَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ فَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ إذَا قَالَ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ : كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَلْفًا وَازِنَةً فَإِذَا قَالَ : أَلْفٌ زَائِفَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ ؛ وَإِلَّا خَمْسِينَ : كَانَ وَصْلُهُ لِذَلِكَ بِالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلًا نَاقَضَ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ . وَهُنَا أَلْفٌ مُتَّصِلَةٌ بِلَفْظِ : وَهُنَاكَ أَلْفٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الصِّلَةِ وَالِانْقِطَاعُ فِيهَا غَيْرُ الدَّلَالَةِ فَلَيْسَتْ الدَّلَالَةُ هِيَ نَفْسَ اللَّفْظِ بَلْ اللَّفْظُ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ . وَسَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ تَرْكَ الزِّيَادَةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ قِيلَ : إنَّهُ عَدَمِيٌّ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَقُولُونَ : التَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَقُومُ بِذَاتِ التَّارِكِ وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَطَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ عَدَمِيٌّ وَيُسَمَّوْنَ الذِّمِّيَّةَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْعَبْدُ يُذَمُّ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْهُ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ يَقْصِدُ الدَّلَالَةَ بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ لَا بِاللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى وَكَوْنُهُ وَحْدَهُ قَيْدٌ فِي الدَّلَالَةِ وَهَذَا الْقَيْدُ مُنْتَفٍ إذَا كَانَ مَعَهُ لَفْظٌ آخَرُ . ثُمَّ الْعَادَةُ فِي اللَّفْظِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ نَقْصٌ مِنْ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ وَلِهَذَا يُقَالُ : الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِّ نَقْصٌ فِي الْمَحْدُودِ وَكُلَّمَا زَادَتْ قُيُودُ اللَّفْظِ الْعَامِّ نَقَصَ مَعْنَاهُ ؛ فَإِذَا قَالَ : الْإِنْسَانُ ؛ وَالْحَيَوَانُ : كَانَ مَعْنَى هَذَا أَعَمَّ مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ الْعَرَبِيِّ ؛ وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ ؛ وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ ؛ وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَلْكَلِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ وَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هَذَا الْبَعْضُ دُونَ بَعْضٍ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ . يُقَالُ لَهُ : قَوْلُك : لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا مَا تَعْنِي بِالْمُشْتَرَكِ ؟ إنْ عَنَيْت الِاشْتِرَاكَ الْخَاصَّ - وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ - فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنَازِعُ فِي وُجُودِ مَعْنَى هَذَا فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ ؛ وَيَقُولُ : إنَّمَا يَقَعُ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ كَمَا يُسَمِّي هَذَا ابْنَهُ بِاسْمِ وَيُسَمِّي آخَرُ ابْنَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ . وَهُمْ لَا يَقُولُونَ : إنَّ تَسْمِيَةَ الْكَوْكَبِ سُهَيْلًا وَالْمُشْتَرِيَ وَقَلْبَ الْأَسَدِ وَالنَّسْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ ثَانٍ سَمَّاهَا مَنْ سَمَّاهَا مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا بِأَسْمَاءِ مَنْقُولَةٍ كَالْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ كَمَا يُسَمِّي الرَّجُلُ ابْنَهُ كَلْبًا وَأَسَدًا وَنَمِرًا وَبَحْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ وَهَذَا لَا يُغَيِّرُهُ دَلَالَةُ الْأَعْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا وَالْعَلَامَةِ الْمُمَيَّزَةِ فِي الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ اتِّصَافُ الْمُسَمَّى : إمَّا التَّفَاؤُلُ بِمَعْنَاهَا ؛ وَإِمَّا دَفْعُ الْعَيْنِ عَنْهُ ؛ وَإِمَّا تَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ مَحْبُوبٍ لَهُ مِنْ أَبٍ أَوْ أُسْتَاذٍ ؛ أَوْ مُمَيَّزٍ ؛ أَوْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنًى مَحْمُودٌ كَعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَد لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ لِهَذَا وَاللَّفْظُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ بِهِ مُشْتَرَكًا وَلِهَذَا اُحْتِيجَ فِي الْأَعْلَامِ إلَى التَّمْيِيزِ بِاسْمِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ مَعَ الْأَبِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّمْيِيزُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ بِذَلِكَ اكْتَفَى بِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَةِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ حَيْثُ كَتَبَ : { هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو } بَعْدَ أَنْ امْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَكْتُبُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَيِّزٌ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ عِنْدَ اللَّهِ فَلَمَّا غَيَّرَ تَمْيِيزَهُ بِوَصْفِهِ الَّذِي يُوجِبُ تَصْدِيقَهُ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَافَقَهُمْ عَلَى التَّمْيِيزِ بِاسْمِ أَبِيهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : مَا مِنْ لَفْظٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَلْ وَيَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ فَيَجْعَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي مُنَاسَبَةً تَكُونُ بَاعِثَةً لِلْمُتَكَلِّمِ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ : إنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ أَحَدٍ وَإِنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلَّفْظِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : لَوْ كَانَ اللَّفْظُ يُنَاسِبُ الْمَعْنَى لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ يُوجَدُ فِيهَا مُنَاسَبَاتٌ وَتَكُونُ دَاعِيَةً لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ . وَالْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ حَيَوَانٍ تَخْتَلِفُ أَيْضًا فَالْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالسَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَائِعِ الْبِلَادِ وَالْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْكَبِ والمنكح وَغَيْرِ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ مَعَ أَنَّهَا أُمُورٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَلَهَا مُنَاسَبَاتٌ فَتُنَاسِبُ أَهْلَ مَكَانٍ وَزَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا تُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانٍ آخَرَ كَمَا يَخْتَارُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ فِي الشِّتَاءِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ مَا لَا يَخْتَارُونَهُ فِي الصَّيْفِ وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ الدَّاعِيَةِ لَهُمْ ؛ إذْ كَانُوا يَخْتَارُونَ فِي الْحَرِّ مِنْ الْمَأْكَلِ الْخَفِيفِ وَالْفَاكِهَةِ مَا يَخِفُّ هَضْمُهُ لِبَرْدِ بَوَاطِنِهِمْ وَضَعْفِ الْقُوَى الْهَاضِمَةِ وَفِي الشِّتَاءِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ . يَخْتَارُونَ مِنْ الْمَآكِلِ الْغَلِيظَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الْحَرَارَةِ الْهَاضِمَةِ فِي بَوَاطِنِهِمْ أَوْ كَانَ زَمَنَ الشِّتَاءِ تَسْخُنُ فِيهِ الْأَجْوَافُ وَتَبْرُدُ الظَّوَاهِرُ مِنْ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِ الْهَوَاءِ يَبْرُدُ فِي الشِّتَاءِ وَشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ فَيَنْجَذِبُ إلَيْهِ الْبَرْدُ فَتَسْخُنُ الْأَجْوَافُ وَفِي الْحَرِّ يَسْخُنُ الْهَوَاءُ فَتَنْجَذِبُ إلَيْهِ الْحَرَارَةُ فَتَبْرُدُ الْأَجْوَافُ فَتَكُونُ الْيَنَابِيعُ فِي الصَّيْفِ بَارِدَةً لِبَرْدِ جَوْفِ الْأَرْضِ وَفِي الشِّتَاءِ تَسْخُنُ لِسُخُونَةِ جَوْفِ الْأَرْضِ .
 
 وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ لَيْسَ عَبَّادَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْبَيَانِ يُثْبِتُونَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَيُقَسِّمُونَ الِاشْتِقَاقَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ : وَهُوَ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ : مِثْلَ عِلْمٍ وَعَالِمٍ وَعَلِيمٍ . وَالثَّانِي الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ : وَهُوَ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُرُوفِ دُونَ التَّرْتِيبِ مِثْلَ سُمِّيَ وَوُسِمَ ؛ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ إنَّ الِاسْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا الِاشْتِقَاقُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا فَالصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ : فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْفِعْلِ سَمَّاهُ وَلَا يُقَالُ : وَسَمَهُ وَيُقَالُ فِي التَّصْغِيرِ : سمي وَلَا يُقَالُ : وسيم . وَيُقَالُ فِي جَمْعِهِ : أَسْمَاءٌ وَلَا يُقَالُ أوسام . وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ الثَّالِثُ : فَاتِّفَاقُهُمَا فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ لَكِنْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي جِنْسِ الْبَاقِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حُرُوفَ حَلْقٍ كَمَا يُقَالُ : حَزَرَ ؛ وَعَزَرَ ؛ وَأَزَرَ فَالْمَادَّةُ تَقْتَضِي الْقُوَّةَ وَالْحَاءُ وَالْعَيْنُ وَالْهَمْزَةُ جِنْسُهَا وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ . وَمِنْهُ الْمُعَاقَبَةُ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَلِّ وَالْمُضَعَّفِ كَمَا يُقَالُ : تَقَضَّى الْبَازِي ؛ وَتَقَضَّضَ . وَمِنْهُ يُقَالُ : السُّرِّيَّةُ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّرِّ وَهُوَ النِّكَاحُ . وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ : الْعَامَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَمَى . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : الضَّمَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ إحْدَى الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا فَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا فَيَكُونُ الِاشْتِقَاقُ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ . وَيُرَادُ بِالِاشْتِقَاقِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ أَصْلًا لَهُ كَمَا يَكُونُ الْأَبُ أَصْلًا لِوَلَدِهِ . وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِذَا قِيلَ : الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ ؛ أَوْ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ : فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ : قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ ؛ وَالْكُوفِيِّينَ صَحِيحٌ . وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَإِذَا أُرِيدَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ فَقَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَصَحُّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ فَقَطْ ؛ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَإِنْ أُرِيدَ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ - وَهُوَ تَقَدُّمُ وُجُودِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ - فَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَقَدْ يَكُونُونَ تَكَلَّمُوا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْمَصْدَرِ ؛ وَقَدْ يَكُونُونَ تَكَلَّمُوا بِالْمَصْدَرِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِأَفْعَالِ لَا مَصَادِرَ لَهَا مِثْلَ بُدٍّ وَبِمَصَادِرَ لَا أَفْعَالَ لَهَا مِثْلَ " وَيْحٍ " وَ " وَيْلٍ " وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ فِعْلٍ وَمَصْدَرِ فِعْلٍ آخَرَ كَمَا فِي الْحُبِّ ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ الْمَشْهُورَ هُوَ الرُّبَاعِيُّ يُقَالُ : أَحَبَّ يُحِبُّ وَمَصْدَرُهُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْحُبُّ دُونَ الْإِحْبَابِ وَفَى اسْمِ الْفَاعِلِ قَالُوا : مُحِبٌّ وَلَمْ يَقُولُوا : حَابٍّ وَفِي الْمَفْعُولِ قَالُوا : مَحْبُوبٌ وَلَمْ يَقُولُوا : مُحِبٌّ إلَّا فِي الْفَاعِلِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ : أَحَبَّهُ إحْبَابًا كَمَا يُقَالُ : أَعْلَمَهُ إعْلَامًا . وَهَذَا أَيْضًا لَهُ أَسْبَابٌ يَعْرِفُهَا النُّحَاةُ وَأَهْلُ التَّصْرِيفِ : إمَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ : وَإِمَّا نَقْلُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ ؛ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ ؛ إذْ كَانَتْ أَقْوَى الْحَرَكَاتِ هِيَ الضَّمَّةَ ؛ وَأَخَفُّهَا الْفَتْحَةَ ؛ وَالْكَسْرَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا ؛ فَجَاءَتْ اللُّغَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُعْرَبَةِ وَالْمَبْنِيَّةِ فَمَا كَانَ مِنْ الْمُعْرَبَاتِ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ : كَانَ لَهُ الْمَرْفُوعُ ؛ كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ وَمَا كَانَ فَضْلَةً كَانَ لَهُ النَّصْبُ ؛ كَالْمَفْعُولِ وَالْحَالِ وَالتَّمْيِيز . وَمَا كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ يُضَافُ إلَيْهِ الْعُمْدَةُ تَارَةً وَالْفَضْلَةُ تَارَةً : كَانَ لَهُ الْجَرُّ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَبْنِيَّاتِ ؛ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ فِي أَيْنَ وَكَيْفَ : بُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ الْيَاءِ . وَكَذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَبْنِيَّةِ الْأَقْوَى لَهُ الضَّمُّ وَمَا دُونَهُ لَهُ الْفَتْحُ ؛ فَيَقُولُونَ : كَرِهَ الشَّيْءَ وَالْكَرَاهِيَةُ يَقُولُونَ فِيهَا : كَرْهًا بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَقَالَ : { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } . وَكَذَلِكَ الْكَسْرُ مَعَ الْفَتْحِ فَيَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ الْمَذْبُوحِ وَالْمَنْهُوبِ : ذِبْحٌ ونهب بِالْكَسْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنهب إبِلٍ } وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ : " أَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا أَرَى طِحْنًا " بِالْكَسْرِ ؛ أَيْ : وَلَا أَرَى طَحِينًا وَمَنْ قَالَ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الْفِعْلَ كَمَا أَنَّ الذَّبْحَ وَالنَّهْبَ هُوَ الْفِعْلُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُغَلِّطُ هَذَا الْقَائِلَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا هِيَ مَعْرُوفَةٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَنْ عَرَفَهَا مَعْرُوفَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّجْرِبَةِ تَارَةً وَبِالْقِيَاسِ أُخْرَى كَمَا تَفْعَلُ الْأَطِبَّاءُ فِي طَبَائِعِ الْأَجْسَامِ وَكَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ ثُمَّ قَدْ قِيلَ : تَعْرِفُ مَا لَمْ تُجَرِّبْ بِالْقِيَاسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهَا أَسْبَابٌ وَمُنَاسَبَاتٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ فَذَلِكَ لَا يُتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي خُصُوصِ مُنَاسَبَاتِ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ [ عِنْدَهُ ] فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ وَلَا سَبَبٌ يَخُصُّ أَحَدَ الْمُتَشَابِهَيْنِ ؛ بَلْ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَحْضَ مَشِيئَةِ الْخَالِقِ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ بِلَا سَبَبٍ وَلَا لِحِكْمَةِ فَهَذَا يَقُولُ : كَوْنُ اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَعْنَى إنْ كَانَ بِقَوْلِ اللَّهِ فَهَذَا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ ؛ وَتَخْصِيصُ الرَّبِّ عِنْدَهُ لَيْسَ لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا سَبَبٍ . وَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ خُطُورَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي قَلْبِ الْوَاضِعِ دُونَ غَيْرِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى إثْبَاتِ الْمَجَازِ وَهِيَ قَوْلُهُ : إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً : هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى ؛ وَقَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ؛ وَقَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَتَانِ جَمِيعًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ : إنَّمَا يَصِحُّ إذَا سَلِمَ لَهُ أَنَّ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ اصْطِلَاحٍ وَاحِدٍ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ مِنْ غَيْرِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاكِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَبَيْنَهَا قَدْرٌ مُمَيَّزٌ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَلْفَاظِ تَارَةً ؛ وَمَعَ اخْتِلَافِهَا أُخْرَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَتَّحِدُ وَيَتَعَدَّدُ مَعْنَاهُ فَقَدْ يَتَعَدَّدُ وَيَتَّحِدُ مَعْنَاهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ التَّرَادُفَ الْمَحْضَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى وَيَمْتَازُ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ كَمَا إذَا قِيلَ فِي السَّيْفِ : إنَّهُ سَيْفٌ وَصَارِمٌ وَمُهَنَّدٌ فَلَفْظُ السَّيْفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُجَرَّدًا وَلَفْظُ الصَّارِمِ فِي الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الصَّرْمِ عَلَيْهِ وَالْمُهَنَّدُ يَدُلُّ عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْهِنْدِ وَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ نَقْلِ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى ذَاتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَيْسَتْ مُتَرَادِفَةً لِاخْتِصَاصِ بَعْضِهَا بِمَزِيدِ مَعْنًى . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَهَا مُتَرَادِفَةً بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : هِيَ مِنْ الْمُتَبَايِنَةِ كَلَفْظِ الرَّجُلِ وَالْأَسَدِ فَقَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ : لَيْسَتْ كَالْمُتَبَايِنَةِ . وَالْإِنْصَافُ : أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ مُتَنَوِّعَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ فَهِيَ قِسْمٌ آخَرُ قَدْ يُسَمَّى الْمُتَكَافِئَةَ . وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ . فَإِنَّك إذَا قُلْت : إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ؛ حَكِيمٌ ؛ غَفُورٌ ؛ رَحِيمٌ ؛ عَلِيمٌ ؛ قَدِيرٌ : فَكُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ تَخُصُّهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعِزَّةِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَغْفِرَةِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ : أَنَا مُحَمَّدٌ ؛ وَأَنَا أَحْمَد ؛ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ؛ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي ؛ وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ } . وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي أَنْكَرَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَسْمِيَتِهِمْ أَوْثَانَهُمْ بِهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ : { إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } فَإِنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً فَأَثْبَتُوا لَهَا صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهَا أَنْ تُعْبَدَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِسُلْطَانِ - وَهُوَ الْحُجَّةُ - وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْبُودًا تَارَةً يُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَلْقِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ ؛ فَهَذَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إلَّا غُرُورًا } فَطَالَبَهُمْ [ بِحُجَّةِ ] عَقْلِيَّةٍ عيانية وَبِحُجَّةِ سَمْعِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَقَالَ : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } ثُمَّ قَالَ : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ } كَمَا قَالَ هُنَاكَ : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } ثُمَّ قَالَ : { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ . } فَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ ؛ وَالْأَثَارَةُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ . وَقَدْ يُقَيَّدُ فِي الْكُتُبِ ؛ فَلِهَذَا فُسِّرَ بِالرِّوَايَةِ وَفُسِّرَ بِالْخَطِّ . وَهَذَا مُطَالَبَةٌ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَيُجْعَلَ شَفِيعًا أَوْ يُتَقَرَّبَ بِعِبَادَتِهِ إلَى اللَّهِ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا عِبَادَةَ أَصْلًا إلَّا بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } . وَالسُّلْطَانُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ : الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ كَمَا قَالَ : { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ - وَهِيَ الْمُتَرَادِفَةُ - وَمِنْهَا مَا تَتَبَايَنُ مَعَانِيهَا كَلَفْظِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمِنْهَا مَا يَتَّفِقُ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفُ مِنْ وَجْهٍ كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى هَذَا مُبَايِنًا لِمَعْنَى ذَاكَ كَمُبَايَنَةِ السَّمَاءِ لِلْأَرْضِ وَلَا هُوَ مُمَاثِلًا لَهَا كَمُمَاثَلَةِ لَفْظِ الْجُلُوسِ لِلْقُعُودِ : فَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَّفِقَةُ اللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا وَهِيَ الْمُتَوَاطِئَةُ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَبَايِنًا وَهِيَ الْمُشْتَرِكَةُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا كَلَفْظِ سُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَعَلَى الرَّجُلِ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُخْتَلِفًا مَنْ وَجْهٍ فَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ هُوَ كَالْمُشْتَرَكِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا وَلَا هُوَ كَالْمُتَّفِقَةِ الْمُتَوَاطِئَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهَا اتِّفَاقٌ هُوَ اشْتِرَاكٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ هُوَ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا خُصَّ كُلُّ لَفْظٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ ؛ أَوْ هِيَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ ؛ فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ؛ مِثْلَ لَفْظِ الرَّسُولِ وَالْوَالِي وَالْقَاضِي ؛ وَالرَّجُلِ ؛ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِمَامِ وَالْبَيْتِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ : قَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْعَامُّ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ مِمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ أَوْ اللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } فَلَفْظُ الرَّسُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مَقْرُونٌ بِاللَّامِ لَكِنْ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمَّا قَالَ هُنَا : { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ رَسُولِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَلَمَّا قَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الرَّسُولِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ الْمَأْمُورِينَ بِأَمْرِهِ الْمُنْتَهِينَ بِنَهْيِهِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُشْتَرَكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا مَحْضًا كَلَفْظِ الْمُشْتَرِي لِلْمُبْتَاعِ وَالْكَوْكَبِ وَسُهَيْلٍ لِلْكَوْكَبِ وَالرَّجُلِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُتَوَاطِئٌ دَلَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مُحَمَّدٌ وَفِي الْآخَرِ مُوسَى مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ . وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي سِيَاقِ كَلَامٍ مِنْ مَدْلُولِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهَكَذَا جَمِيعُ أَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ نَوْعَانِ : مَعْرِفَةٌ ؛ وَنَكِرَةٌ . وَالْمَعَارِفُ مِثْلُ : الْمُضْمَرَاتِ ؛ وَأَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ : أَنَا وَأَنْتَ ؛ وَهُوَ وَمِثْلُ : هَذَا ؛ وَذَاكَ . وَالْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ مِثْلُ : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } . وَأَسْمَاءُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّامِ كَالرَّسُولِ . وَالْأَسْمَاءُ الْأَعْلَامُ مِثْلُ : إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ : وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ ؛ وَيُوسُفُ وَمِثْلُ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَالْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } وَقَوْلِهِ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَمِثْلُ : { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ } . وَمِثْلُ الْمُنَادَى الْمُعَيَّنِ مِثْلَ قَوْلِ يُوسُفَ : { يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } وَقَوْلُ ابْنَةِ صَاحِبِ مَدْيَنَ : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } فَإِنَّ لَفْظَ الْأَبِ هُنَاكَ أُرِيدَ بِهِ يَعْقُوبُ وَهُنَا أُرِيدَ بِهِ صَاحِبُ مَدْيَنَ الَّذِي تَزَوَّجَ مُوسَى ابْنَتَهُ وَلَيْسَ هُوَ شُعَيْبًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين بَلْ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَيْسَ شُعَيْبًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْمَعَارِفَ - وَهِيَ أَصْنَافٌ - كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَفْظُهُ وَاحِدٌ كَلَفْظِ أَنَا وَأَنْتَ ؛ وَلَفْظِ هَذَا وَذَاكَ وَمَعَ هَذَا فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ الْمُعَيَّنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مُشْتَرَكَةٌ كَلَفْظِ سُهَيْلٍ وَلَا مُتَوَاطِئَةٌ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ بَلْ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ فَبِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَكِ تُشْبِهُ الْمُتَوَاطِئَةَ وَبِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ تُشْبِهُ الْمُشْتَرَكَةَ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا وَهِيَ لَا تُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِمَّا تُعَيِّنُ الْمُضْمَرَ وَالْمُشَارَ إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَصَارَتْ دَلَالَتُهَا مُؤَلَّفَةً مِنْ لَفْظِهَا وَمِنْ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا تُعَيِّنُ الْمَعْرُوفَ وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ هَذِهِ مَجَازٌ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ قَطُّ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُبَيِّنُ تَعْيِينَ الْمَعْرُوفِ الْمُرَادِ . فَإِذَا قِيلَ : لَفْظُ أَنَا ؛ قِيلَ : يَدُلُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ مُطْلَقًا ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُتَكَلِّمٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ مُشْتَرَكٌ بَلْ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ هُوَ مُعَيَّنٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا طُلِبَ مَعْرِفَةُ مَدْلُولِهَا وَمَعْنَاهَا قِيلَ : مَنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ؟ وَمَنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِأَنْتَ وَإِيَّاكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا هُوَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ : كَانَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَلَا يُمْكِنُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَقُولَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ قَالَ : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } وَذَكَرَ عَنْ صَاحِبِ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي } وَأَخْبَرَ عَنْ عِفْرِيتٍ مِنْ الْجِنِّ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } وَعَنْ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ } فَلَفْظُ أَنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ مَدْلُولَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ أَنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ وَلَا مَجَازٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ . فَصْلٌ إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ لَهُ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي ذَكَرْتهَا مِثْلَ لَفْظِ الظَّهْرِ ؛ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ ؛ وَالْكَبِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَقْرُونَةً بِمَا يُبَيِّنُ الْمُضَافَ إلَيْهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ . فَقَوْلُك : ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا : لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِك : ظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَمَتْنُهُ بَلْ وَلَا كَقَوْلِك : ظَهْرُ الْفَرَسِ وَمَتْنُهُ وَلَا كَقَوْلِك : ظَهْرُ الْجَبَلِ . وَكَذَلِكَ كَبِدُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِثْلَ كَبِدِ الْقَوْسِ وَلَا هَذَانِ مِثْلَ لَفْظِ كَبِدِ الْإِنْسَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ السَّيْفِ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } لَيْسَ مِثْلَ لَفْظِ السَّيْفِ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } فَكُلٌّ مِنْ لَفْظِ السَّيْفِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا مَقْرُونٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ . نَعَمْ قَدْ يُقَالُ : التَّشَابُهُ بَيْنَ مَعْنَى الرَّسُولِ وَالرَّسُولِ أَتَمُّ مِنْ التَّشَابُهِ بَيْنَ مَعْنَى الْكَبِدِ وَالْكَبِدِ وَالسَّيْفِ وَالسَّيْفِ . فَيُقَالُ : هَذَا الْقَدْرُ الْفَارِقُ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا فِي الْحَقِيقَةِ لِبَيْتِهِ وَلَا لِبَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِبَيْتِ فِي الْجَنَّةِ ؛ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ بِلَا نِزَاعٍ إذْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْإِضَافَةَ فِي بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْتِ النَّبِيِّ دَلَّ عَلَى سُكْنَى صَاحِبِ الْبَيْتِ فِيهِ وَبَيْتُ اللَّهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ فِيهِ لَكِنَّ إضَافَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ بَلْ بَيْتُهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ لِذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ فَهُوَ كَمَعْرِفَتِهِ بِالْقُلُوبِ وَذِكْرِهِ بِاللِّسَانِ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَلَهُ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ ؛ وَعِلْمِيٌّ ؛ وَلَفْظِيٌّ ؛ وَرَسْمِيٌّ . وَاسْمُ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ اللَّهِ . فَإِذَا قَالَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } فَهُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ وَإِذَا قَالَ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ؛ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ؛ وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ ؛ وَبِي يَبْطِشُ ؛ وَبِي يَمْشِي } وَقَوْلُهُ : { عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ : رَبِّي كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ } فَاَلَّذِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى ؛ وَالْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ وَيُقَالُ : أَنْتَ فِي قَلْبِي كَمَا قِيلَ : مِثَالُك فِي عَيْنِي ؛ وَذِكْرُك فِي فَمِي وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي ؛ فَأَيْنَ تَغِيبُ ؟ وَيُقَالُ : سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ وَمَا يُنْقَلُ { عَنْ داود عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : أَنْتَ تَحُلُّ قُلُوبَ الصَّالِحِينَ } فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنَّ نَفْسَ الْمَذْكُورِ الْمَعْلُومِ الْمَحْبُوبِ ؛ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } فَقَوْلُهُ : " بِي " أَرَادَ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ بِاسْمِهِ لَمْ تَتَحَرَّكْ بِذَاتِهِ وَلَا مَا فِي الْقَلْبِ هُنَا ذَاتُهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ : اللَّهُ سَطْرٌ ؛ وَرَسُولُ سَطْرٌ ؛ وَمُحَمَّدٌ سَطْرٌ } فَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِلَفْظِ اللَّهِ هُوَ النَّقْشُ الْمَنْقُوشُ فِي الْخَاتَمِ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ بِالْقَلْبِ الْمُطَابِقِ لِلْمَوْجُودِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْعَائِدَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اقْتَرَنَ بِهَا مَا بَيَّنَ الْمُرَادَ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْتِبَاسٌ فَكَذَلِكَ لَفْظُ بَيْتِهِ . وَقُلْنَا : الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِيهَا مَا بُنِيَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَالْأَنْوَارِ الَّتِي يَجْعَلُهَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ثُمَّ قَالَ : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } إلَى قَوْلِهِ : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا النُّورَ فِي هَذِهِ الْقُلُوبِ وَفِي هَذِهِ الْبُيُوتِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : " إنَّ الْمَسَاجِدَ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ كَمَا تُضِيءُ الْكَوَاكِبُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا يُقَالُ لَهُ : مَا تَعْنِي بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ ؟ تَعْنِي بِهِ مَا هُوَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِك ؟ حَيْثُ قُلْت فِي تَقْسِيمِ الْأَلْفَاظِ : الِاسْمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا ؛ أَوْ مُتَعَدِّدًا . فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمَفْهُومُهُ يَنْقَسِمُ عَلَى وُجُوهٍ . الْقِسْمَةُ الْأُولَى : إنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ : أَوْ لَا يَصِحُّ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ طَلَبِيٌّ . وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِكَلَامِ بَعْضُهُ حَقٌّ ؛ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ اتَّبَعَ فِيهِ الْمَنْطِقِيِّينَ . ثُمَّ قَالَ : أَمَّا إنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْعِلْمُ خَاصَّةً ؛ وَقَسَّمَهُ تَقْسِيمَ النُّحَاةِ . ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا إنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّى مُخْتَلِفًا : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ ؛ أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ فِي بَعْضِهَا . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَبَايِنَةً كَالْجُونِ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَوْ غَيْرَ مُتَبَايِنَةٍ كَمَا إذَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْأَسْوَدِ عَلَى شَخْصٍ بِطَرِيقِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنْ السَّوَادِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مَجَازٌ . فَإِنْ أَرَدْت هَذَا فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَخْتَلِفُ مُسَمَّاهُ وَيَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَتَقْسِيمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا وَيَكُونُ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا كَمَا ذَكَرْته . وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ لَك : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي وَاحِدٍ يَكُونُ مَعْنَاهُ إمَّا وَاحِدًا وَإِمَّا مُتَعَدِّدًا وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَوْرِدَ النِّزَاعِ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ هُوَ لَفْظُ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَمَتْنِهَا وَجَنَاحِ السَّفَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا مُخْتَلِفًا : بَلْ حَيْثُ وُجِدَ هَذَا اللَّفْظُ كَانَ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ . فَإِنْ قُلْت : لَكِنَّ لَفْظَ الظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالْجَنَاحِ يُوجَدُ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ هَذَا . قِيلَ : لَفْظُ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَجَنَاحِهَا لَيْسَ هُوَ لَفْظَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ وَجَنَاحِ الطَّائِرِ وَلَا أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَفْظُ الظَّهْرِ وَالطَّرِيقِ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْرُوفٍ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَهْرُ الْإِنْسَانِ مَثَلًا ؛ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ لَفْظِ ظَهْرِ الطَّرِيقِ بَلْ هَذَا اللَّفْظُ مُغَايِرٌ لِهَذَا اللَّفْظِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : اللَّفْظُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الظَّهْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ وَمَعَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِهِمْ إلَّا ظَهْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ ظَهْرُ الْكَلْبِ ؛ وَلَا ظَهْرُ الثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَبَنَاتِ عِرْسٍ وَظَهْرُ النَّمْلَةِ وَالْقَمْلَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ هُوَ الَّذِي يَتَصَوَّرُونَهُ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ كَثِيرًا فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ ؛ يَنْصَرِفُ إلَى الظَّهْرِ الْمَعْرُوفِ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَيْمَانُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ بِلُغَتِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً أَيْضًا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ رُءُوسُ الْأَنْعَامِ : أَوْ رُءُوسُ الْغَنَمِ ؛ أَوْ الرَّأْسُ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبَيْضِ ؛ يُرَادُ بِهِ الْبَيْضُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ . فَأَمَّا رَأْسُ النَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْيَمِينِ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً إذَا قِيلَ : بَيْضُ النَّمْلِ وَبَيْضُ السَّمَكِ بِالْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ : انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى إنَّهُ فِي الْمَكَانِ الْوَاحِدِ يَكُونُ لَفْظُ الدِّينَارِ يُرَادُ بِهِ فِي ثَمَنِ بَعْضِ السِّلَعِ الذَّهَبُ الْخَالِصُ ؛ وَفِي سِلْعَةٍ أُخْرَى ذَهَبٌ مَغْشُوشٌ ؛ وَفِي سِلْعَةٍ أُخْرَى مِقْدَارٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَيُحْمَلُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَبَايِعَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَفْسُ اللَّفْظِ مُتَغَايِرًا كَلَفْظِ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ ؛ وَظَهْرِ الطَّرِيقِ ؛ وَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِ الدَّرْبِ ؛ وَرَأْسِ الْمَالِ ؛ أَوْ رَأْسِ الْعَيْنِ ؛ أَوْ قُيِّدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْرِيفِ كَلَفْظِ الظَّهْر ؛ وَقُيِّدَ الْآخَرُ بِالْإِضَافَةِ ؛ وَكَانَ اللَّامُ يُوجِبُ إرَادَةَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ ؛ وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ . فَالْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَقَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَمَعَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى كَمَا فِي لَفْظِ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّ جُزْءَ الدَّلَالَةِ مَعْرِفَةُ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ مَعَ تَعْرِيفِ اللَّامِ ؟ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِلَافِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَكُونُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُشْتَرِكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُبَيِّنُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا لَازِمًا ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بَطَلَ السُّؤَالُ ؛ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا الْتَزَمْنَا قَوْلَ مَنْ يَنْفِي الِاشْتِرَاكَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا يَلْتَزِمُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِي الْمَجَازَ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَمْنَعُونَ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ ؟ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْهُ وَصَاحِبِ الْكِتَابِ أَبِي الْحُسَيْنِ الآمدي يَعْتَرِفُ بِضِعْفِ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِنَفْسِهِ دَلِيلًا هُوَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : فِي مَسَائِلِهِ " الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ : هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ ؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ . قَالَ : وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ وُقُوعِهِ أَمَّا الخطابي الْعَقْلِيُّ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يَتَّفِقَ وَضْعُ قَبِيلَةٍ لِلِاسْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَوَضْعُ أُخْرَى لَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وُضِعَتْ الْأُخْرَى ثُمَّ يَشْتَهِرُ الْوَضْعَانِ لِخَفَاءِ سَبَبِهِ قَالَ : وَهُوَ الْأَشْبَهُ . قَالَ وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَرِكَةُ وَاقِعَةً فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ؛ وَالْأَسْمَاءُ مُتَنَاهِيَةٌ ضَرُورَةُ تَرْكِيبِهَا مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ عَنْ أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . وَهُوَ مُمْتَنِعٌ قَالَ : وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَسْمَاءَ إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَضَاعُفِ التَّرْكِيبَاتِ مُتَنَاهِيَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَالْمُخْتَلِفَةَ - وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا - : غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ غَيْرَ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ؛ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَضْعُ . وَلِهَذَا يَأْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَعَانِي لَمْ تَضَعْ الْعَرَبُ بِإِزَائِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّفْضِيلِ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَكَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ . قَالَ : وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ : أَطْلَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ اسْمَ " الْقُرْءِ " عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ؛ وَهُمَا ضِدَّانِ ؛ فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرِكِ فِي اللُّغَةِ . قَالَ : وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ بَلْ غَايَةُ الْمَوْضُوعِ اتِّحَادُ الِاسْمِ وَتَعَدُّدُ الْمُسَمَّى وَلَعَلَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْأُخْرَى وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا مَوْضِعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى إمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الِاحْتِمَالِ [ الثَّانِي ] فَلِأَنَّ التَّجَوُّزَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ : وَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقُ إجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى إطْلَاقِ اسْمِ الْوُجُودِ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا لَصَحَّ نَفْيُهُ إذْ هِيَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ ؛ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْوُجُودِ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ ؛ أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ مُخَالِفَةٌ بِذَاتِهَا لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شَارَكَهَا فِي مَعْنَاهَا فِي الْوُجُوبِ ؛ ضَرُورَةُ التَّسَاوِي فِي مَفْهُومِ الذَّاتِ ؛ وَهُوَ مُحَالٌ . وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اسْمِ الْوُجُودِ فِي الْحَوَادِثِ ؛ وَإِمَّا خِلَافُهُ . فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فِي الْوُجُودِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ ؛ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ الْبَارِي وَاجِبٌ لِذَاتِهِ ؛ أَوْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ مُمْكِنًا ؛ ضَرُورَةَ إمْكَانِ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ ؛ وَهُوَ مُحَالٌ . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ ؛ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . فَهَذَا فِي دَلِيلِهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ ؛ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : عَلَى أَنَّ اسْمَ الْوُجُودِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الِاشْتِرَاكَ . وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا . وَالْأُولَى فِيهَا نِزَاعٌ ؛ خِلَافُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ لَا يُسَمَّى بِهِ الْخَالِقُ إلَّا مَجَازًا حَتَّى لَفْظِ الشَّيْءِ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُسَمُّونَهُ مَوْجُودًا وَلَا شَيْئًا ؛ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَكَسَ وَقَالَ : بَلْ كُلَّمَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ فَهُوَ حَقِيقَةٌ ؛ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِي مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ . وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ قَالُوا : إنَّهُ مُتَوَاطِئٌ التَّوَاطُؤَ الْعَامَّ ؛ أَوْ مُشَكِّكًا إنْ جَعَلَ الْمُشَكِّكَ نَوْعًا آخَرَ ؛ وَهُوَ غَيْرُ التَّوَاطُؤِ الْخَاصِّ الَّذِي تَتَمَاثَلُ مَعَانِيهِ فِي مَوَارِدِ أَلْفَاظِهِ . وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُشْتَرَكًا شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ وَلَا نُظَّارٍ مَشْهُورِينَ . وَمَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا حَكَاهُ الرَّازِيَّ فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ الرَّجُلِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ الْوُجُودَ اسْمٌ عَامٌّ يَنْقَسِمُ إلَى : قَدِيمٍ ؛ وَحَادِثٍ وَلَكِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِه وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ [ أَنْ يَكُونَ ] اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا كَمَا احْتَجَّ بِهِ الآمدي وَذَلِكَ غَلَطٌ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى حُجَّتِهِ . وَقَوْلُهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْوُجُودِ دَالًّا عَلَى الذَّاتِ ؛ أَوْ عَلَى صِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ . يُقَالُ لَهُ : أَتُرِيدُ بِهِ لَفْظَ الْوُجُودِ الْعَامِّ الْمُنْقَسِمِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ ؛ أَمْ لَفْظَ الْوُجُودِ الْخَاصِّ ؟ كَمَا يُقَالُ : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الرَّبُّ وَغَيْرُهُ - بَلْ كُلُّ مُسَمَّيَيْنِ - تَارَةً تُعْتَبَرُ مُطْلَقَةً عَامَّةً تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ ؛ وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُقَيَّدَةً بِهَذَا الْمُسَمَّى . وَلَفْظُ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ ؛ وَالْقَدِيرِ ؛ وَالسَّمِيعِ ؛ وَالْبَصِيرِ وَالْمَوْجُودِ ؛ وَالشَّيْءِ ؛ وَالذَّاتِ : إذَا كَانَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَإِذَا قِيلَ : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ : لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ كَمَا إذَا قِيلَ : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } لَمْ يَدْخُلْ الْخَالِقُ فِي اسْمِ هَذَا الْحَيِّ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ ؛ وَالْكَلَامُ ؛ وَالِاسْتِوَاءُ ؛ وَالنُّزُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : تَارَةً يُذْكَرُ مُطْلَقًا عَامًّا : وَتَارَةً يُقَالُ : عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ ؛ وَكَلَامُهُ ؛ وَنُزُولُهُ ؛ وَاسْتِوَاؤُهُ : فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْخَالِقِ ؛ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ . كَمَا إذَا قِيلَ : عِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتُهُ : وَكَلَامُهُ ؛ وَنُزُولُهُ ؛ وَاسْتِوَاؤُهُ فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَلَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْخَالِقُ . فَالْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ خَصَّصَ وَمَيَّزَ وَقَطَعَ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَفْظُ الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَقِيلَ : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودُ الْعَبْدِ وَذَاتُهُ وَمَاهِيَّتُه وَحَقِيقَتُهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ دَالًّا عَلَى ذَاتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : وُجُودُ الرَّبِّ وَنَفْسِهِ ؛ وَذَاتُهُ ؛ وَمَاهِيَّتُه وَحَقِيقَتُهُ : كَانَ دَالًّا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ : وَهُوَ نَفْسُهُ الْمُتَّصِفَةُ بِصِفَاتِهِ . فَقَوْلُهُ : اسْمُ الْوُجُودِ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ ؛ أَوْ صِفَةٍ زَائِدَةٍ . يُقَالُ لَهُ : إنْ أَرَدْت لَفْظَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ ؛ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ وَلَا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ ؛ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ وَالْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ إنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ وَاللَّفْظِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ هُوَ نَفْسُهُ كُلِّيٌّ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْخَارِجِ . وَهَذَا كَمَا إذَا قِيلَ : الذَّاتُ وَالنَّفْسُ : بِحَيْثُ يَعُمُّ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ الْكُلِّيِّ لَا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا كَمَا إذَا قِيلَ : الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى : وَاجِبٍ ؛ وَمُمْكِنٍ . وَالذَّاتُ تَنْقَسِمُ إلَى : وَاجِبٍ : وَمُمْكِنٍ . وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِالْوُجُودِ مَا يَعُمُّهُمَا جَمِيعًا كَمَا إذَا قِيلَ : الْوُجُودُ كُلُّهُ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ ؛ أَوْ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ فَهُنَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مِنْهُمَا كَمَا إذَا قِيلَ : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ . فَفِي الْجُمْلَةِ اللَّفْظُ : إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ كَالْوُجُودِ الْمُنْقَسِمِ أَوْ عَلَى الْمُمَيَّزِ فَقَطْ كَقَوْلِ : وُجُودِ الْوَاجِبِ : وَقَوْلِ : وُجُودِ الْمُمْكِنِ أَوْ عَلَيْهِمَا كَقَوْلِك : الْوُجُودُ كُلُّهُ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ ؛ وَالْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ . وَقَوْلُهُ : إذَا كَانَ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ فَذَاتُهُ مُخَالِفَةٌ لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يُقَالُ : لَفْظُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْمُنْقَسِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَأَمَّا لَفْظُ الْوُجُودِ الْخَاصِّ لِوُجُودِ الرَّبِّ أَوْ الْعَامِّ كَقَوْلِنَا : الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِذَاتِ الرَّبِّ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِذَاتِ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ ذَاتِ الرَّبِّ وَذَاتِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَبِالْعَبْدِ : وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ هَذَا فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوُجُودِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَقِيقَةِ الْمَوْجُودَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوُجُودِ يُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُودِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ مِنْهُ نَشَأَ غَلَطُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ : وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ تَتَّفِقُ فِي أَسْمَاءٍ عَامَّةٍ تُتَنَاوَلُ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشْكِيكِ كَلَفْظِ اللَّوْنِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَالْحُمْرَةَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِ الْأَلْوَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصِّفَةِ وَالْعَرَضِ وَالْمَعْنَى يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ ؛ وَالْقُدْرَةَ ؛ وَالْحَيَاةَ وَالطَّعْمَ ؛ وَاللَّوْنَ : وَالرِّيحَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِ الْأَلْوَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانَ وَالْبَهِيمَةَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِهِمَا فَلَفْظُ الْوُجُودِ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي مَعْنًى عَامٍّ يَشْمَلُهَا ؛ وَيَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى كَلَفْظِ اللَّوْنِ ثُمَّ بِالتَّخْصِيصِ يَتَنَاوَلُ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَا يُقَالُ : لَوْنُ الْأَسْوَدِ وَلَوْنُ الْأَبْيَضِ وَقِيلَ : وُجُودُ الرَّبِّ وَوُجُودُ الْعَبْدِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا إذَا قِيلَ : اللَّوْنُ أَوْ الْأَلْوَانُ ؛ أَوْ الْحَيَوَانُ ؛ وَالْعَرَضُ ؛ أَوْ الْوُجُودُ : يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً ؛ لِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهَا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْرَادُهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : إنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً فَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ : لَزِمَ كَوْنُ الْوَاجِبِ مُمْكِنًا وَالْمُمْكِنِ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ . يُقَالُ لَهُ : أَتَعْنِي مَدْلُولَ الِاسْمِ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ أَوْ الْمُقَيَّدَ الْمُضَافَ ؟ كَمَا إذَا قِيلَ : وُجُودُ الْوَاجِبِ ؛ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَالْمَفْهُومُ وَاحِدٌ وَلَا يَلْزَمُ تَمَاثُلُهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ مُمَاثِلًا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْخَارِجِ مِنْهُ مُتَمَاثِلًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يُطَابِقَ الِاثْنَيْنِ وَيَعُمَّهُمَا فَقَطْ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ الْمُشَكِّكَةِ إذَا قِيلَ : السَّوَادُ شَارَكَ سَوَادَ الْقَارِ وَالْحِبْرِ مَعَ عَدَمِ تَمَاثُلِهِمَا وَإِذَا قِيلَ : الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَالنَّاقِصَ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْحَيِّ يَتَنَاوَلُ حَيَاةَ الْمَلَائِكَةِ وَحَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَحَيَاةَ الذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ مَعَ عَدَمِ تَمَاثُلِهِمَا فَكَيْفَ يَكُونُ وُجُودُ الرَّبِّ أَوْ عِلْمُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ مُمَاثِلًا لِوُجُودِ الْمَخْلُوقِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ إذْ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ . وَإِنْ قَالَ : بَلْ أَعْنِي بِهِ الْوُجُودَ الْمُقَيَّدَ مِثْلَ قَوْلِنَا : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ . قِيلَ : هُنَا الْمَفْهُومُ يَخْتَلِفُ ؛ لِاخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ قَيَّدَ بِهِ الْوُجُودَ وَهُوَ الْإِضَافَةُ فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ الْمُقَيَّدَةُ تَمْنَعُ التَّمَاثُلَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ لَفْظِ الْوُجُودِ بَلْ الْإِضَافَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى اللَّفْظِ وَالْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ كَقَوْلِنَا : وُجُودُ الرَّبِّ أَوْ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ ؛ أَوْ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِيمَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى الْمَجَازِ حَيْثُ قَالَ : إنْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ ؛ وَهُوَ غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى خُصُوصِ ذَاكَ بَلْ الزَّائِدُ عَلَى اللَّفْظِ . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودُ الرَّبِّ وَوُجُودُ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ وَظَهْرِ الْفَرَسِ كَمَا تَقُولُ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ وَظَهْرَ الطَّرِيقِ يَعْنِي جَمِيعَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الدَّالِّ عَلَى مَا يُخَالِفُ بِهِ هَذَا هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ الْمُشْتَرَكُ يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ . وَالْمُخْتَصُّ يَدُلُّ عَلَى الْمُخْتَصِّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَيْنَ الظَّهْرَيْنِ جِهَةَ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ وَكَذَلِكَ بَيْن الْوُجُودَيْنِ جِهَةُ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي بِهِ الِاشْتِرَاكَ وَالِامْتِيَازَ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ وَذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مُخْتَصٌّ بِالْخَارِجِ وَلَكِنَّ الذِّهْنَ يَأْخُذُ مِنْهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا وَيُقَالُ : هُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْوُجُودِ والحيوانية والإنسانية كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } وَقَالَ : { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } فَالْعَذَابُ الَّذِي يُصِيبُ الْآخَرَ هُوَ نَظِيرُهُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ اشْتِرَاكًا فِي جِنْسِ الْعَذَابِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَلَكِنْ اشْتَرَكَا فِي الْعَذَابِ الْخَاصِّ . بِمَعْنَى : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ كَالْمُشْتَرَكِينَ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . الْجَوَابُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : مَنَعَ " الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ " قَوْلُهُ : لَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إنَّمَا هُوَ السَّبُعُ وَمِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ وَكَذَلِكَ مَا فِي الضَّرُورَةِ . فَيُقَالُ : إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ الْمُخَاطَبُ وَإِذَا كَانَ الْمُعَرَّفُ هُوَ الْبَهِيمَةَ انْصَرَفَ إلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُعَرَّفًا يُوجِبُ انْصِرَافَهُ إلَى الْبَلِيدِ وَالشُّجَاعِ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً أَيْضًا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : لَاهَا اللَّهَ إذًا لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُعْطِيَك سَلْبَهُ . وَكَمَا أُشِيرَ إلَى شَخْصٍ وَقِيلَ : هَذَا الْأَسَدُ أَوْ إلَى بَلِيدٍ وَقِيلَ : هَذَا الْحِمَارُ . فَالتَّعْرِيفُ هُنَا عَيَّنَهُ وَقَطَعَ إرَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ وَالْبُيُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ ؛ وَالْبُيُوتِ إلَى مَسَاكِنِ النَّاسِ ثُمَّ إذَا قِيلَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْضُ النَّمْلِ وَرُءُوسُ الْجَرَادِ كَانَ أَيْضًا حَقِيقَةً بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . الْجَوَابُ السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : أَنْتَ جَعَلْت دَلِيلَ الْحَقِيقَةِ أَنْ يَسْبِقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَاعْتَبَرْت فِي الْمُسْتَمِعِ السَّابِقِ إلَى فَهْمِهِ ؛ وَفِي الْمُتَكَلِّمِ إطْلَاقَ لَفْظِهِ وَهَذَا لَا ضَابِطَ لَهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ الْمُسْتَمِعِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِذَا قَالَ : ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا لَمْ يَسْبِقْ إلَى فَهْمِهِ ظَهْرُ الْحَيَوَانِ أَلْبَتَّةَ بَلْ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُ إرَادَتُهُ . الْجَوَابُ الثَّامِنُ : قَوْلُك : مِنْ إطْلَاقِ جَمِيعِ اللَّفْظِ : كَلَامٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنْ أَرَدْت كَوْنَ اللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ الْقُيُودِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ قَطُّ ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ : كَلَامُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْجِنِّ وَسَائِرِ بَنِي آدَمَ وَالْأُمَمِ لَا يُوجَدُ إلَّا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ إمَّا فِي ضِمْنِ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ وَلَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ إلَّا إذَا عُرِفَتْ عَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُنَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمُتَكَلِّمٌ قَدْ عُرِفَتْ عَادَتُهُ وَمُسْتَمِعٌ قَدْ عَرَفَ عَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَهَذِهِ الْقُيُودُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْهُ . فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدٍ دُونَ قَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : يَرْجِعُ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ . الْجَوَابُ التَّاسِعُ : أَنْ يُقَالَ لَهُ : اُذْكُرْ أَيَّ قَيْدٍ شِئْت وَفَرِّقْ بَيْنَ مُقَيِّدٍ وَمُقَيَّدٍ ؛ فَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا إلَّا اُنْتُقِضَ وَأُبَيِّنُ لَك مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَذْكُرُهَا فَارِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّ مَا جَعَلْته حَقِيقَةً تَجْعَلُهُ مَجَازًا وَمَا جَعَلْته مَجَازًا تَجْعَلُهُ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْفَارِقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمْكِنَهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ التَّعْبِيرَ فَرْعُ التَّصَوُّرِ فَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إلَّا كَانَ خَطَأً .
 
 فَصْلٌ وَأَمَّا حُجَّتُهُ الثَّانِيَةُ ؟ فَقَوْلُهُ : كَيْفَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةَ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا فَيُقَالُ : هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ أَنَّهُمْ قَالُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ أَهْلِ الْوَضْعِ وَلَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ نَقَلَ لُغَتَهُمْ بَلْ وَلَا ذَكَرَ هَذَا أَحَدٌ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ وَبَيَّنُوا مَعَانِيَهُ وَمَا يَدُلُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ : هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ ؛ وَهَذَا مَجَازٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ لَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا مُجَاهِدٌ وَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَلَا عِكْرِمَةُ وَلَا الضَّحَّاكُ وَلَا طاوس وَلَا السدي وَلَا قتادة وَلَا غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا الأوزاعي وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَا غَيْرُهُ . وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى بِمَعْنَى آخَرَ . وَلَمْ يُوجَدْ أَيْضًا تَقْسِيمُ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ كَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَأَبِي زَيْدٍ ؛ وَالْأَصْمَعِيِّ ؛ وَالْخَلِيلِ ؛ وَسِيبَوَيْهِ ؛ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ ؛ وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعَرَبِ . وَهَذَا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ مَنْ طَلَبَ عِلْمَ ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ الَّتِي قَسَّمَتْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ : فَاعِلًا وَاللَّفْظَ الْآخَرَ مَفْعُولًا ؛ وَلَفْظًا ثَالِثًا مَصْدَرًا ؛ وَقَسَّمَتْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ : مُعْرَبًا ؛ وَبَعْضَهَا مَبْنِيًّا . لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا اصْطِلَاحُ النُّحَاةِ لَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ مُسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَنْ اصْطَلَحَ عَلَى لَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ؛ فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ فِي هَذَا الْمَعْنَى : إذْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَخُصَّ هَذَا بِلَفْظِ وَهَذَا بِلَفْظِ بَلْ أَيُّ مَعْنًى خَصُّوا بِهِ اسْمَ الْحَقِيقَةِ وُجِدَ فِيمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا وَأَيُّ مَعْنًى خَصُّوا بِهِ اسْمَ الْمَجَازِ يُوجَدُ فِيمَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ . وَلَيْسُوا مُطَالَبِينَ بِمَا يُقَالُ : إنَّ حَدَّ الْحَقِيقِيِّ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يُطَالَبُوا بِهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بَاطِلًا ؟ بَلْ الْمَطْلُوبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِّ اللَّفْظِيِّ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْمِ الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ؛ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فَيُطَالَبُونَ بِمَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَوْعَانِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ حَتَّى يُسَمَّى هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا . وَهَذَا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ غَيْرُ الْبَحْثِ اللَّفْظِيِّ ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ . قَدْ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْفَرْقَ مَنْقُولٌ عَنْ الْعَرَبِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ كَمَا يَغْلَطُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْفَرْقَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَأَنَّ هَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ يُشْبِهُ أَنَّ الْوَاحِدَ تَرَبَّى عَلَى اصْطِلَاحٍ اصْطَلَحَهُ طَائِفَةٌ فَيَظُنُّ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ هَذَا اصْطِلَاحَهُمْ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعَرَبَ قَسَّمَتْ هَذَا التَّقْسِيمَ أَوْ أَنَّ هَذَا أُخِذَ عَنْهَا تَوْقِيفٌ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَغَلَطُهُ أَظْهَرُ وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا دَعْوَى تَوَاتُرِ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ وَعَنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَلْ يَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةُ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا وَهَذَا التَّوَاتُرُ الَّذِي ادَّعَاهُ لَا يُمْكِنُهُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِخَبَرِ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ هَذَا التَّوَاتُرِ الَّذِي ادَّعَاهُ .
 
 فَصْلٌ وَأَمَّا حُجَّةُ النفاة
 
 فَصْلٌ وَأَمَّا حُجَّةُ النفاة الَّتِي ذَكَرَهَا فَإِنَّهُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ ؛ أَوْ لَا يُقَيَّدَ بِقَرِينَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ . ثُمَّ قَالَ : قُلْنَا : جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا هَذَا وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؟ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ . فَيُقَالُ : هُوَ قَدْ سَلَّمَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَهَذَا التَّفْرِيقُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ ؛ وَلَا أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ ؛ وَلَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ؛ وَلَا السَّلَفُ : كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِهَا وَنَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْلَى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِاصْطِلَاحِ حَادِثٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَإِذَا كَانَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَانَ يَنْبَغِي تَرْكُهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ مَعْقُولًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْفَرْقُ غَيْرَ مَعْقُولٍ وَفِيهِ مَفَاسِدُ شَرْعِيَّةٌ وَهُوَ إحْدَاثٌ فِي اللُّغَةِ كَانَ بَاطِلًا عَقْلًا وَشَرْعًا وَلُغَةً . أَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ هَذَا عَنْ هَذَا وَأَمَّا الشَّرْعُ فَإِنَّ فِيهِ مَفَاسِدَ يُوجِبُ الشَّرْعُ إزَالَتَهَا وَأَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ مَعَ وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ . فَإِنْ قِيلَ : وَمَا الْمَفَاسِدُ ؟ قِيلَ : مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنَّ لَفْظَ الْمَجَازِ الْمُقَابِلِ لِلْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ جُعِلَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَوْ مِنْ عَوَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ يُفْهِمُ وَيُوهِمُ نَقْصَ دَرَجَةِ الْمَجَازِ عَنْ دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ لَا سِيَّمَا وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِرَحِيمِ وَلَا بِرَحْمَنِ ؛ لَا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازٌ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلِقُونَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ؛ وَقَالَ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ كَمَا ذَكَرَ هَذَا الآمدي مِنْ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ وَقَالَ مِنْ جِهَةِ مُنَازِعِهِ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ : " لَا إلَهَ " تَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ يَكُونُ كُفْرًا وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ . وَهُوَ قَوْلُهُ : " إلَّا اللَّهُ " كَانَ إيمَانًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتَ طَالِقٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ الشَّرْطُ وَهُوَ قَوْلُهُ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ : كَانَ تَعْلِيقًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ لَهُ مَعْنًى . وَلَوْلَا الدَّلَالَةُ وَالْوَضْعُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ . قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ التَّغْيِيرَ فِي الْوَضْعِ بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِي " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " إذَا كَانَتْ مِنْ مَوْرِدِ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ عَامٍّ خُصَّ وَلَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَانَ مَجَازًا ؛ فَيَكُونُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " عِنْدَهُ مَجَازًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ فِي الشَّرْعِ وَقَائِلُهُ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ - فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ - أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ هَذَا الْقَائِلُ مُفْتَرٍ عَلَى اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ " لَا إلَهَ " مُجَرَّدًا وَلَا كَانُوا نَافِينَ لِلصَّانِعِ حَتَّى يَقُولُوا : " لَا إلَهَ " بَلْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قَالَ تَعَالَى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ } وَلِهَذَا قَالُوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } . وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يُثْبِتُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ وَيَعِيبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكَ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا دَعَا الْخَلْقَ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَهُ فِي الْإِثْبَاتِ بَلْ فِي النَّفْيِ فَكَانَ الرَّسُولُ وَالْمُشْرِكُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى إثْبَاتِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ كَانَ الرَّسُولُ يَنْفِي إلَهِيَّةَ مَا سِوَى اللَّهِ وَهُمْ يُثْبِتُونَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ : بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إلَّا لِإِثْبَاتِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ وَلِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُثْبِتُونَ إلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ مَعَ إلَهِيَّتِهِ أَمَّا الْآلِهَةُ مُطْلَقًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ حَتَّى يُعَبِّرُوا عَنْهُ فَكَيْفَ يُقَالُ : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ هَذَا اللَّفْظَ فِي أَصْلِ لُغَتِهِمْ ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَا نُسَلِّمُ تَغْيِيرَ الدَّلَالَةِ بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ . فَيُقَالُ لَهُ : وَهَذِهِ مَغْلَطَةٌ ؛ فَإِنَّهُ فِي حَالِ الْقَيْدِ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ إذَا كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فَأَمَّا مَعَ الْقَيْدِ فَقَوْلُهُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " اللَّفْظُ مُطْلَقًا فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ صُرِفَ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْ كَانَ مُطْلَقًا ؟ فَلَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَكَانَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ فَبِالتَّقْيِيدِ زَالَ الْإِطْلَاقُ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى تَغْيِيرِ الدَّلَالَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بَطَلَتْ وَصَارَتْ لَهُ دَلَالَةٌ أُخْرَى عِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْوَقْفِ فَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَصَلَحَ أَنْ يَدْخُلَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَخْرُجُ مِنْ اللَّفْظِ مَا دَخَلَ بَلْ مَا لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءَ فَلَمْ يَبْقَ اللَّفْظُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ الْمُسْتَثْنِي أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُقْتَضِيًا بِقَوْلِهِ صَرْفُهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِسَدِيدِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُقْتَضِيًا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا بَلْ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلَيْسَ هُنَاكَ إطْلَاقٌ يَكُونُ لَهُ اقْتِضَاءٌ وَلَا هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسْتَثْنَى وَلَا هُنَاكَ مُسْتَثْنًى مَنْفِيٌّ . وَأَيْضًا مِنْ مَفَاسِدِ هَذَا جَعْلُ عَامَّةِ الْقُرْآنِ مَجَازًا كَمَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ مَجَازَاتِ الْقِرَاءَاتِ وَكَمَا يُكْثِرُونَ مِنْ تَسْمِيَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَلِكَ يُفْهَمُ وَيُوهِمُ الْمَعَانِيَ الْفَاسِدَةَ هَذَا إذَا كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعَانِي صَحِيحًا فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مَا لَيْسَ بِمَجَازِ مَجَازًا ؟ وَيَنْفُونَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ وَيُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ كَمَا وُجِدَ ذَلِكَ لِلْمُتَوَسِّعِينَ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : كَيْفَ وَالْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؟ . فَيُقَالُ : أَوَّلًا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ بَلْ كَثِيرًا مَا تَجْعَلُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ اسْمًا لِلْمَعْنَى فَتَقُولُونَ : حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَمَجَازُهُ كَذَا ؛ وَتَقُولُونَ حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ فَتَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ تَارَةً وَمِنْ عَوَارِضِ الْمَعْنَى أُخْرَى وَقَدْ تَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ فَيُقَالُ : اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ وَفِي هَذَا مَجَازٌ . ثُمَّ يُقَالُ : لَا ضَابِطَ لِهَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَجْعَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَجَازًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا جَمِيعًا كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُمُومِ وَالْأَمْرُ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ : هُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ تَنَاقُضَ هَذَا الْأَصْلِ . ثُمَّ يُقَالُ : هَبْ أَنَّ هَذَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ : فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ فَقَوْلُك : هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ : بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَدُلّ قَطُّ إلَّا بِقَرَائِنَ مَعْنَوِيَّةٍ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ عَاقِلًا لَهُ عَادَةً بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِعَادَتِهِ وَالْمُسْتَمِعُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهَذِهِ كُلُّهَا قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ إلَّا مَعَهَا . فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ مَعَ تَجَرُّدِهِ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ الْعَقْلِيَّةِ : غَلَطٌ . الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : أَنْتَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ : فَإِنَّ الْعَامِلَ الْمَخْصُوصَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْبَدَلِ إنَّمَا اقْتَرَنَ بِهِ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ ؛ وَقَدْ جَعَلْته مَجَازًا وَأَيْضًا فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَمَا مَثَّلْت بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : ظَهْرِ الطَّرِيقِ ؛ وَمَتْنِهِ هِيَ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ بِهَا عُرِفَ الْمَعْنَى وَهُوَ عِنْدَك مَجَازٌ . الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : اُذْكُرْ لَنَا ضَابِطًا مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَالْقَرَائِنِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مَجَازًا فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ لَا سَبِيلَ لَك إلَيْهِ ؛ لِبُطْلَانِ الْفَرْقِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ فَلَوْ قِيلَ لَك : الْحَقِيقَةُ اسْمٌ لِنَفْسِ اللَّفْظِ لَكَانَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقَرِينَةُ لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً وَلَفْظُ الْحَقِيقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْمُ اللَّفْظِ لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ . الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَك : أَنَا أَجْعَلُ لَك لَفْظَ الْحَقِيقَةِ اسْمًا لِلَّفْظِ وَلِمَا اقْتَرَنَ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَك جَوَابٌ عَنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَقُولَ : أَنَا أَجْعَلُهُ اسْمًا لِلَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ دُونَ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مَعَك إلَّا مُجَرَّدُ تَحَكُّمٍ قَابَلْت بِهِ تَحَكُّمًا وَلَيْسَ تَحَكُّمُك أَوْلَى فَكَيْفَ تَجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً مَعْنَوِيَّةً عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك ؟ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ " بِالْوَجْهِ السَّادِسِ " : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُك : كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ ؟ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ حِكَايَةِ اللَّفْظِ الَّذِي ابْتَدَعْته فَإِذَا قَالَ لَك الْمُنَازِعُ : بَلْ الْحَقِيقَةُ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الدَّالِّ مِنْ اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَانَ قَدْ قَابَلَ اصْطِلَاحَك بِاصْطِلَاحِهِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنْ اصْطِلَاحِك حَيْثُ سَمَّى جَمِيعَ الْبَيَانِ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ حَقِيقَةً وَأَنْتَ جَعَلْت كَثِيرًا مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَهُ مَجَازًا . فَإِنْ قُلْت : فَهَذَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ قِيلَ لَك : فَهَذَا جَوَابُك الْأَوَّلُ ؛ وَهُوَ قَوْلُك : النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ . قَوْلُهُ : لِي بَعْدَ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ ؛ وَهُوَ قَوْلُك : كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؟ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ يَقْتَضِي أَنَّك ذَكَرْت جَوَابًا ثَانِيًا غَيْرَ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا إعَادَةُ مَعْنَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ أَنَّا اصْطَلَحْنَا عَلَى أَنْ يُسَمَّى بِالْحَقِيقَةِ اللَّفْظُ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَك إلَّا اعْتِرَافُك بِأَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ فَلَوْ كَانَ الِاصْطِلَاحُ مُسْتَقِيمًا : لَمْ يَكُنْ نفاة الْمَجَازِ الَّذِينَ سَمَّوْا جَمِيعَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً إذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ بِهِ الْمُرَادَ : بِأَنْقَصَ حَالًا مِمَّنْ سَمَّى مَا هُوَ مِنْ خِيَارِ الْكَلَامِ وَأَحْسَنِهِ وَأَتَمِّهِ بَيَانًا : مَجَازًا وَجَعَلَهُ فَرْعًا فِي اللُّغَةِ لَا أَصْلًا ؛ وَوَضْعًا حَادِثًا غَيَّرَ بِهِ الْوَضْعَ الْمُتَقَدِّمَ ؛ وَجَعَلَهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ لَا مَتْبُوعًا . فَصْلٌ وَقَدْ ذَكَرَ نفاة الْمَجَازِ حُجَّةً ضَعِيفَةً وَهِيَ قَوْلُهُمْ : وَأَيْضًا مَا مِنْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ . وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ : وَجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ ؛ أَوْ لِمُسَاغَتِهِ فِي وَزْنِ الْكَلَامِ لَفْظًا وَنَثْرًا وَالْمُطَابَقَةِ ؛ وَالْمُجَانَسَةِ ؛ وَالسَّجْعِ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْكَلَامِ . فَيُقَالُ : هَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ وَالْمُحْتَجُّ بِهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا انْقِسَامَ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَكِنَّهُ يُوجِبُ اسْتِعْمَالَ الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ : لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ؛ بَلْ الْمَوَاضِعُ الَّتِي سَمَّوْهَا مَجَازًا إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللُّغَةِ فَهِيَ كُلُّهَا حَقِيقَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالتَّعْبِيرُ لِبَعْضِ الْحَقَائِقِ يَكُونُ أَحْسَنَ وَأَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ وَمَرَاتِبُ الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ مُتَفَاوِتَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِطَرِيقَةِ الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } هُوَ سُؤَالُ الْجُدْرَانِ ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ . وَهَذَا الْبَحْثُ يُشْبِهُ بَحْثَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ يُنْكِرُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَالٍ فِي مَعْنًى وَفِي حَالٍ أُخْرَى فِي مَعْنًى آخَرَ كَمَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَرْيَةِ تَارَةً فِي السُّكَّانِ وَتَارَةً فِي الْمَسَاكِنِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ إلَّا الْمَسَاكِنَ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ وَافَقُوا فِيهِ أُولَئِكَ لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ : هُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : بَلْ الْمُرَادُ وَاسْأَلْ الْجُدْرَانَ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ نَفْسُ النَّاسِ الْمُشْتَرِكِينَ السَّاكِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَفْظُ الْقَرْيَةِ هُنَا أُرِيدَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } وَقَوْلُهُ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ.
 
 فَصْلٌ وَتَمَامُ هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ قَالَ : يُعْتَذَرُ عَنْ قَوْلِهِ : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَالْأَنْهَارُ غَيْرُ جَارِيَةٍ . فَيُقَالُ : النَّهْرُ كَالْقَرْيَةِ وَالْمِيزَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْحَالُّ وَيُرَادُ بِهِ الْمَحَلُّ فَإِذَا قِيلَ : حَفَرَ النَّهْرَ ؛ أُرِيدَ بِهِ الْمَحَلُّ وَإِذَا قِيلَ : جَرَى النَّهْرُ ؛ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُّ . وَعَنْ قَوْلِهِ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَعِلٍ كَاشْتِعَالِ النَّارِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : لَفْظُ الِاشْتِعَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي سَرَى مِنْ السَّوَادِ سَرَيَانَ الشُّعْلَةِ مِنْ النَّارِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَاسْتِعَارَةٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ } اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الِاشْتِعَالِ مُقَيَّدًا بِالرَّأْسِ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظَ [ فِي ] اشْتِعَالِ الْحَطَبِ وَهَذَا اللَّفْظُ - وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } - لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَطُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَضْعُ يُغَيِّرُ بَعْدَ وَضْعٍ اشْتَعَلَتْ النَّارُ فَلَا يَضُرُّ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ تَشْبِيهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَضُرُّ بَلْ هَذَا شَأْنُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَشْتَبِهُ فِيهِ تِلْكَ الْأَفْرَادُ . وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ اسْتِعَارَةً فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعِيرُوا ذَلِكَ اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ بَلْ رَكَّبُوا لَفْظَ اشْتَعَلَ مَعَ الرَّأْسِ تَرْكِيبًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ وَلَا أَرَادُوا بِهِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى قَطُّ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا : لَمْ يَشْتَعِلْ الرَّأْسُ شَيْبًا بَلْ يُقَالُ : لَيْسَ اشْتِعَالُ الرَّأْسِ مِثْلَ اشْتِعَالِ الْحَطَبِ وَإِنْ أَشْبَهَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . قَالَ : وَعَنْ قَوْلِهِ : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِثْلَ جَنَاحِ الطَّائِرِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّائِرِ جَنَاحٌ مِثْلَ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَنَاحُ الذُّلِّ مِثْلَ جَنَاحِ السَّفَرِ لَكِنَّ جَنَاحَ الْإِنْسَانِ جَانِبُهُ كَمَا أَنَّ جَنَاحَ الطَّيْرِ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَخْفِضَ جَانِبَهُ لِأَبَوَيْهِ ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ لَهُمَا لَا عَلَى وَجْهِ الْخَفْضِ الَّذِي لَا ذُلَّ مَعَهُ وَقَدْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَلَمْ يَقُلْ : جَنَاحَ الذُّلِّ فَالرَّسُولُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ ذُلًّا فَلَا بُدَّ مَعَ خَفْضِ جَنَاحِهِ أَنْ يَذِلَّ لِأَبَوَيْهِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذُّلِّ فَاقْتِرَانُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَعَانِيهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَعْنًى حَقَّهُ . ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { مِنَ الرَّحْمَةِ } فَهُوَ جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الرَّحْمَةِ لَا جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ : إذْ الْأَوَّلُ مَحْمُودٌ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَالْأَشْهُرُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَجَّ ؟ فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْأَفْعَالِ هِيَ الزَّمَانُ وَلَا يَفْهَمُ هَذَا أَحَدٌ مِنْ اللَّفْظِ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْحَسَنَةِ فِي خِطَابِهَا أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَيْهِ اخْتِصَارًا كَمَا أَنَّهُمْ يُورِدُونَ الْكَلَامَ بِزِيَادَةِ تَكُونُ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى . فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ } فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ لَكِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ إذْ كَانَ قَوْلُهُ : قُلْنَا : اضْرِبْ ؛ فَانْفَلَقَ : دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ ضَرَبَ فَانْفَلَقَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ آمَنَ } تَقْدِيرُهُ بِرَّ مَنْ آمَنَ أَوْ صَاحِبْ مَنْ آمَنَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ } أَيْ : أَوْقَاتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ فَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مَجَازًا وَقَوْلُ الْقَائِلِ : نَفْسُ الْحَجِّ لَيْسَ بِأَشْهُرِ ؛ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَدْلُولَ الْكَلَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَدْلُولُهُ عِنْدَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ : أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } وَالصَّلَوَاتُ لَا تَنْهَدِمُ ؟ فَيُقَالُ : قَدْ قِيلَ : إنَّ الصَّلَوَاتِ اسْمٌ لِمَعَابِدِ الْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلَوَاتٍ بِاسْمِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا كَنَظَائِرِهِ ؛ وَهُوَ إنَّمَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَكَانِ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ : { لَهُدِّمَتْ } وَالْهَدْمُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَكَانِ فَاسْتَعْمَلَهُ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَكَانِ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } ؟ فَنَقُولُ : لَفْظُ الْغَائِطِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ : الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ ؛ وَكَانُوا يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ لِذَلِكَ وَهُوَ الْغَائِطُ كَمَا يُسَمَّى خَلَاءٌ لِقَصْدِ قَاضِي الْحَاجَةِ الْمَوْضِعَ الْخَالِيَ وَيُسَمَّى مِرْحَاضًا لِأَجْلِ الرَّحْضِ بِالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ اسْمٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ إذَا قَضَى حَاجَتَهُ فَصَارَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُفْهَمُ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ التَّغَوُّطُ فَقَدْ يُسَمُّونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ غَائِطًا تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ مَحَلِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : جَرَى الْمِيزَابُ . وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ : مُرْنَ أَزْوَاجَكُمْ يَغْسِلْنَ عَنْهُنَّ أَثَرَ الْغَائِطِ . وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ؛ بَلْ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ يَتَضَمَّنُ التَّغَوُّطَ فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَمَلِ الظَّاهِرِ الْمُسْتَلْزِمِ الْأَمْرَ الْمَسْتُورَ وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ يُذْكَرُ الْمَلْزُومُ لِيُفْهَمَ مِنْهُ لَازِمُهُ الْمَدْلُولُ . وَكِلَاهُمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا وَسِيلَةٌ إلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ إحْدَى النِّسْوَةِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ : { زَوْجِي عَظِيمُ الرَّمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد } . فَإِنَّ عِظَمَ الرَّمَادِ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الطَّبْخِ الْمُسْتَلْزِمَ فِي عَادَتِهِمْ لِكَثْرَةِ الضَّيْفِ ؛ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْكَرَمِ . وَطُولَ النِّجَادِ يَسْتَلْزِمُ طُولَ الْقَامَةِ وَقُرْبَ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِّ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ بِحُجَّةِ النَّادِّ إلَى بَيْتِهِ وَالنَّادُّ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَلِّ أَيْضًا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } فَهُنَا هُوَ الْمَحَلُّ وَفِي تِلْكَ هُوَ الْحَالُّ وَهُمْ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَنْتَدُونَ وَمِنْهُ " دَارُ النَّدْوَةِ " . وَأَصْلُهُ مِنْ مُنَادَاةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ بِخِلَافِ النِّجَاءِ فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : إذَا كَثُرَتْ الْحَلَقَةُ فَهِيَ إمَّا نِدَاءٌ وَإِمَّا نِجَاءٌ قَالَ تَعَالَى : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } فَنَادَاهُ . وَنَاجَاهُ . وَقَالَ : قَوْلُهُ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ؟ فَيُقَالُ : قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ } فَلَيْسَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ أَنَّهُ شُعَاعُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الغالطين أَنَّ هَذَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَالنُّورُ يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَنِيرُ الْمُنِيرُ لِغَيْرِهِ بِهَدْيِهِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَنْتَ الْهَادِي لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَيِّمَهَا لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ عِبَادِهِ يَرُبُّ بَعْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيَفْهَمُهُ ؛ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } مُنِيرُهَا لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مُنِيرًا لِبَعْضِ . وَاسْمُ النُّورِ إذَا تَضَمَّنَ صِفَتَهُ وَفِعْلَهُ كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى النُّورِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقَمَرَ نُورًا كَانَ مُتَّصِفًا بِالنُّورِ وَكَانَ مُنِيرًا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالْخَالِقُ أَوْلَى بِصِفَةِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } قَالَ : وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِعُدْوَانِ ؟ فَيُقَالُ : الْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ لَكِنْ إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ كَانَ مُحَرَّمًا وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ كَانَ عَدْلًا مُبَاحًا فَلَفْظُ الْعُدْوَانِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ تَعَدِّي الْحَدِّ الْفَاصِلِ لَكِنْ لَمَّا اعْتَدَى صَاحِبُهُ جَازَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ وَالِاعْتِدَاءُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ وَالثَّانِي مُبَاحٌ وَلَفْظُ عَدْلٍ مُبَاحٌ . وَلَفْظُ الِاعْتِدَاءِ هُنَا مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعُدْوَانِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ ظُلْمٌ فَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ بِالْجَزَاءِ فُهِمَ مِنْهُ الِابْتِدَاءُ : إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا يُقَابِلُهُ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَوْلُهُ : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } ؟ فَيُقَالُ : السَّيِّئَةُ اسْمٌ لِمَا سَبَقَ صَاحِبُهَا فَإِنْ فُعِلَتْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَالْقِصَاصِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا فُعِلَ مَعَهُ مِنْ السَّيِّئَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَسْبِقُ الْفَاعِلَ حَتَّى يُنْهَى عَنْهَا بَلْ تَسْبِقُ الْمُجَازَى بِهَا وَلَفْظُ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ يُرَادُ بِهِ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ ؛ وَيُرَادُ بِهِ النِّعْمَةُ وَالْمُصِيبَةُ كَقَوْلِهِ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَوْلِهِ : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } ؟ وَقَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ } لَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ جَزَاءُ مَنْ أَسَاءَ إلَى غَيْرِهِ بِظُلْمِ فَهِيَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمُصَابِ فَجَزَاؤُهَا أَنْ يُصَابَ الْمُسِيءُ بِسَيِّئَةٍ مِثْلِهَا كَأَنَّهُ قِيلَ : جَزَاءُ مَنْ أَسَاءَ إلَيْك أَنْ تُسِيءَ إلَيْهِ مِثْلَ مَا أَسَاءَ إلَيْك وَهَذِهِ سَيِّئَةٌ حَقِيقَةً . أَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ بِأَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالْمُرَادُ شَرٌّ فَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ جَحْدِ الْحَقِّ وَظُلْمِ الْخَلْقِ فَهُوَ ذَنْبٌ مُحَرَّمٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَ عَدْلًا حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا } كَمَا قَالَ : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } { وَأَكِيدُ كَيْدًا } وَقَالَ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ . } وَكَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ فِعْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ الْحَسَنِ وَهُوَ مَكْرٌ وَكَيْدٌ إذَا كَانَ يُظْهِرُ لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ . قَالَ : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } فَهَذَا اللَّفْظُ أَصْلُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ يُوقِدُونَ نَارًا يَجْتَمِعُ إلَيْهَا أَعْوَانُهُمْ وَيَنْصُرُونَ وَلِيَّهُمْ [ عَلَى ] عَدُوِّهِمْ فَلَا تَتِمُّ مُحَارَبَتُهُمْ إلَّا بِهَا فَإِذَا طفئت لَمْ يَجْتَمِعْ أَمْرُهُمْ ثُمَّ صَارَ هَذَا كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْأَمْثَالُ فِي كُلِّ مُحَارِبٍ بَطَلَ كَيْدُهُ كَمَا يُقَالُ : يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ وَمَعْنَاهُ أَنْتَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِك . وَكَمَا يُقَالُ : الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ مَعْنَاهُ : فَرَّطْت وَقْتَ الْإِمْكَانِ . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَانَ لَهَا مَعْنًى خَاصٌّ نُقِلَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى مَعْنًى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا خُصُوصُ مَعْنَاهَا الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى أَعَمَّ مِنْ مَعْنَاهَا مِثْلَ لَفْظِ الرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللُّزُومِ فَإِنَّ تَحْرِيرَ الْعُنُقِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيرَ سَائِر الْبَدَنِ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ إذَا قَالَ : يَدُك حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ : هَلْ يُعْتَقُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ السِّرَايَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَاهُ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ فَعَلْت كَذَا وَالْحَقِيقَةُ الْحَرْفِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ مَعْلُومَةٌ فِي اللُّغَةِ . قَالَ : إلَى مَا لَا يُحْصَى ذِكْرُهُ مِنْ الْمَجَازَاتِ ؟ وَقَالُوا : مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِي مَعْنَاهُ أَوْ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَتِهِ مَجَازًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا حُجَّةَ لَك فِيهِ ؛ كَقَوْلِهِ : { يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ } قِيلَ : أَرَادَ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرَ أَيْ : يَا مَطَرُ انْقَطِعْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْإِقْلَاعُ الْإِمْسَاكُ أَيْ : يَا سَمَاءُ امْسِكِي عَنْ الْإِمْطَارِ . وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمُدَّعِي إلَى أَلْفَاظٍ لَهَا مَعَانٍ مَعْرُوفَةٍ فَيَدَّعِي اسْتِعْمَالَهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي بِلَا حُجَّةٍ وَيَقُولُ : هَذَا مَجَازٌ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَمَنْ قَسَّمَ الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إذَا عُرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَقِيلَ : هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَجَازٌ قِيلَ : بَلْ الْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ لِلَّفْظِ مَدْلُولَانِ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ فَالْأَصْلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ ؛ فَيَسْتَدِلُّ تَارَةً بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عَلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَتَارَةً بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ . فَإِذَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } إنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ بِالْفَمِ . قِيلَ : ذَلِكَ ذَوْقُ الطَّعَامِ ؛ فَالذَّوْقُ يَكُونُ لِلطَّعَامِ وَيَكُونُ لِجِنْسِ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَوْلُهُ : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَقَوْلُهُ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } فَقَوْلُهُ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } صَرِيحٌ فِي ذَوْقِ مَسِّ الْعَذَابِ لَا يَحْتَمِلُ ذَوْقَ الطَّعَامِ . ثُمَّ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ إذَا لَبِسَ الْبَدَنَ كَانَ أَعْظَمَ فِي الْأَلَمِ ؛ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ مِنْهُ فَإِذَا قَالَ : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدُلُّ عَلَى لَبْسِهِ لِصَاحِبِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ دُونَ مَا إذَا قِيلَ جَاعَتْ وَخَافَتْ ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ لَا عَلَى عِظَمِ كَيْفِيَّتِهِ وَكَمِّيَّتِهِ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْبَيَانِ وَالْجَمِيعُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ اللَّفْظُ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَوْقُ لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ لَيْسَ هُوَ ذَوْقُ الطَّعَامِ وَذَوْقُ الْجُوعِ لَيْسَ هُوَ ذَوْقُ لِبَاسِ الْجُوعِ . وَلِهَذَا كَانَ تَحْرِيرُ هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَعْضَ قَدَرَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ إلَّا مَقْرُونٌ بِمَا يُبَيِّنُ بِهِ الْمُرَادَ . وَمَنْ غَلِطَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ فَمِنْ قُصُورِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ ؛ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : { يَشْرَبُ بِهَا } أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ عَلِمَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى فَإِذَا قِيلَ : يَشْرَبُ مِنْهَا : لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرَّيِّ وَإِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى الرَّيِّ فَقِيلَ : { يَشْرَبُ بِهَا } كَانَ دَلِيلًا عَلَى الشُّرْبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرَّيُّ وَهَذَا شُرْبٌ خَاصٌّ دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْبَاءِ . كَمَا دَلَّ لَفْظُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْعُضْوِ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ مَسْحَ الْوَجْهِ . فَمَنْ قَالَ : الْبَاءُ زَائِدَةٌ جَعَلَ الْمَعْنَى امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ مَسْحِ الْوَجْهِ إلْصَاقُ الْمَمْسُوحِ مِنْ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ وَمَنْ قَرَأَ : { وَأَرْجُلَكُمْ } فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْأَيْدِي ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَفَسَدَ الْمَعْنَى وَكَانَ يَكُونُ فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ . وَأَيْضًا فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا قَوْلَهُ فِي التَّيَمُّمِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَلَفْظُ الْآيَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَجْرُورِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَقَرَءُوا أَيْدِيَكُمْ بِالنَّصْبِ فَلَمَّا لَمْ يَقْرَءُوهَا كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } عُطِفَ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي .
 
 قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَصْلٌ فِي أَسْئِلَتِهِمْ وَقَدْ تَكَلَّفُوا غَايَةَ التَّكْلِيفِ وَتَعَسَّفُوا غَايَةَ التَّعْسِيفِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ . . فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ مُجْتَمَعُ النَّاسِ ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ ؛ وَمَا قَرَأَتْ النَّاقَةُ فِي رَحِمِهَا فَالضِّيَافَةُ مُقْرِئٌ وَمُقْرٍ لِاجْتِمَاعِ الْأَضْيَافِ عِنْدَهُمْ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَةُ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَجْمُوعَ كَلَامٍ فَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الِاجْتِمَاعِ إنَّمَا هُوَ لِلنَّاسِ دُونَ الْجُدْرَانِ فَمَا أَرَادَ إلَّا مَجْمَعَ النَّاسِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةُ الْقَرْيَةِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْمُجْتَمَعِ إلَى النَّاسِ دُونَ الْجُدْرَانِ وَالْعِيرُ اسْمٌ لِلْقَافِلَةِ . قَالُوا : وَالْأَبْنِيَةُ وَالْحَمِيرُ إذَا أَرَادَ اللَّهُ نُطْقَهَا أَنْطَقَهَا وَزَمَنُ النُّبُوَّاتِ وَقْتٌ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ . وَلَوْ سَأَلَهَا لَأَجَابَتْهُ عَنْ حَالِهِ مُعْجِزَةً لَهُ وَكَرَامَةً وقَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } إنَّمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ : { قَوْلَ الْحَقِّ } إلَى اسْمِهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى أُمِّهِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ قَوْلِ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ صَاحِبُكُمْ أَحْمَد : اللَّهُ هُوَ اللَّهُ يَعْنِي : الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى . وقَوْله تَعَالَى { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } فَإِنَّهُ لَمَّا نُسِفَ بَعْدَ أَنْ بَرُدَ فِي الْبَحْرِ وَشَرِبُوا مِنْ الْمَاءِ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِجْلِ فَلَا شَيْءَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ إلَّا وَهُوَ حَقِيقَةٌ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَيُقَالُ : لِلْقَرْيَةِ مَا جُمِعَتْ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَا نَفْسَ الْمُجْتَمَعِ ؛ فَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْءُ وَالْأَقْرَاءُ لِزَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ زَمَانِ الطُّهْرِ وَالتَّصْرِيَةِ وَالْمُصَرَّاةُ والصراة اسْمُ مَجْمَعِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ ؛ لَا لِنَفْسِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ الْمُجْتَمِعِ وَالْقَارِي . الْجَامِعُ لِلْقَرْيِ وَالْمُقْرِي الْجَامِعُ لِلْأَضْيَافِ فَأَمَّا نَفْسُ الْأَضْيَافِ فَلَا وَالْقَافِلَةُ لَا تُسَمَّى عِيرًا إنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ بَهَائِم مَخْصُوصَةٍ ؛ فَإِنَّ الْمُشَاةَ وَالرِّجَالَ لَا تُسَمَّى عِيرًا فَلَوْ كَانَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْقَافِلَةِ لَكَانَ يَقَعُ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا يَقَعُ عَلَى أَرْبَابِ الدَّوَابِّ ؛ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ . وَقَوْلُهُمْ : لَوْ سَأَلَ لَأَجَابَ الْجِدَارُ : فَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَلَا يَكُونُ مُعْتَمِدًا عَلَى وُقُوعِهِ إلَّا عِنْدَ التَّحَدِّي بِهِ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالْهَاجِسِ وَعُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَلَا . وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ عِيسَى } يَرْجِعُ إلَى الِاسْمِ : فَإِنَّهُمْ إذَا حَمَلُوهُ عَلَى هَذَا كَانَ مَجَازًا ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ لَيْسَ بِمُضَافِ إلَيْهِ ؛ وَلِذَا نَقُولُ : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } وَالِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَيْسَ بِابْنِ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا ابْنُ مَرْيَمَ نَفْسُ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِمَا الِاسْمُ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الْخَارِقَةُ الَّتِي جَعَلُوهُ لِأَجْلِ ظُهُورِهَا إلَهًا . وَقَوْلُهُمْ : الْمُرَادُ نَفْسُ ذَاتِ الْعِجْلِ لَمَّا نَسَفَهُ : فَإِذَا نُسِفَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا : بَلْ الْعِجْلُ حَقِيقَةُ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي خَارَتْ وَإِلَّا بُرَادَةُ الذَّهَبِ لَا تَصِلُ إلَّا الْقُلُوبَ وَغَايَةُ مَا تَصِلُ إلَى الْأَجْوَافِ : فَإِمَّا أَنْ يَسْبِقَهَا الطَّبْعُ فَيُحِيلَهَا إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سُحَالَةُ الذَّهَبِ إذَا حَصَلَتْ فِي الْمَعِدَةِ رَسَبَتْ بِحَيْثُ لَا تَرْتَقِي إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِ : أُشْرِبُوا : لَا يَرْجِعُ إلَى الشُّرْبِ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْأَسْبَابِ وَهُوَ : الإيساغ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْحُبِّ لَا إلَى الذَّوَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَجْسَامُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ : أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْمَاءَ إذْ هُوَ مَشْرُوبٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الْعِجْلِ عَلَى أَنَّ إضَافَتَهُ نَفْسَهُ إلَى الْقَلْبِ إضَافَةٌ لَهُ إلَى مَحَلِّ الْحُبِّ ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي سِحَالَتِهِ إذَا تَنَاوَلُوهَا : هَذَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ مُوسَى وَمِنْ إلَهِ مُوسَى ؛ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ . قُلْت : أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقَرْيَةِ ؛ فَالْقَرْيَةُ وَالنَّهْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَلِّ فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَسُكَّانَهَا ثُمَّ الْحُكْمُ قَدْ يَعُودُ إلَى السَّاكِنِ ؛ وَقَدْ يَعُودُ إلَى الْمَسَاكِنِ ؛ وَقَدْ يَعُودُ إلَيْهِمَا كَاسْمِ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ ؛ وَقَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَذَلِكَ الْكَلَامُ اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَقَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ إلَى أَحَدِهِمَا . وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهَذَا الْمَوْضِعُ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَرَأَ بِالْهَمْزَةِ وَقَرَى يَقْرِي بِالْيَاءِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ هُوَ قَرَى يَقْرِي بِلَا هَمْزَةٍ وَمِنْهُ الْقَرْيَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَرَيْت الضَّيْفَ أَقْرِيهِ أَيْ : جَمَعْته وَضَمَمْته إلَيْك وَقَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَمَعْته وتقريت الْمِيَاهَ : تَتَبَّعْتهَا وقروت الْبِلَادَ وَقَرَيْتهَا وَاسْتَقْرَيْتهَا إذَا تَتَبَّعْتهَا تَخْرُجُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ ؛ وَهُوَ : تَتَبُّعُ الشَّيْءِ أَجْمَعَهُ وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِك : اسْتَقْرَأْته الْقُرْآنَ ؛ فَإِنَّ ذَاكَ مِنْ الْمَهْمُوزِ فَالْقَرْيَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَالْحُكْمُ يَعُودُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا أُخْرَى . وَأَمَّا قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَمَعْنَاهُ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ وَالْقُرْءُ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : مَا قَرَأْت النَّاقَةَ سَلًّا جَزُورٌ قَطُّ ؛ أَيْ : مَا أَظْهَرَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ رَحِمِهَا وَالْقَارِي : هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْقُرْآنَ وَيُخْرِجُهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقُرْآنِ وَالْقُرْءُ : هُوَ الدَّمُ لِظُهُورِهِ وَخُرُوجِهِ وَكَذَلِكَ الْوَقْتُ ؛ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ . ثُمَّ الطُّهْرُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْقُرْءِ تَبَعًا كَمَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي اسْمِ الْيَوْمِ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ : دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك } وَالطُّهْرُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ حَيْضٌ هُوَ قُرْءٌ فَالْقُرْءُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ . وَأَمَّا الطُّهْرُ الْمُجَرَّدُ فَلَا يُسَمَّى قُرْءًا ؛ وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ حَيْضَةٍ لَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ قُرْءًا ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَإِذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ كَانَ الْقُرْءُ الْحَيْضَةَ مَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ الطُّهْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛ فَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الطُّهْرُ لَكَانَتْ الْعِدَّةُ قُرْأَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ فَإِنَّ النِّزَاعَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَصِغَارَ الصَّحَابَةِ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ حَلَّتْ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ الطُّهْرِ وَاَللَّهُ أَمَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَقَوْلُهُ : { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } عَدَدٌ لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِهِ : أَشْهُرٍ ؛ فَإِنَّ ذَاكَ صِيغَةُ جَمْعٍ لَا عَدَدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا يَكْفِي بَعْضُ الثَّالِثِ . وَأَمَّا قَوْلُك : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْحَقِّ : عِيسَى ؛ كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ . وَقِيلَ : بَلْ الْمُرَادُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ الْحَقِّ ؛ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ ؛ كَقَوْلِهِ : { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } الْآيَةَ { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } أَيْ : هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عِيسَى فَتَسْمِيَتُهُ قَوْلَ الْحَقِّ كَتَسْمِيَتِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ خَبَرًا وَبَدَلًا . وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَلَهُ نَظَائِرُ فَالْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهِ مَجَازًا كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ إلَّا أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِي هَذَا . وَمَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالْحَقِّ اللَّهُ ؛ وَالْمُرَادُ قَوْلُ اللَّهِ : فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا فَعَادَةُ الْقُرْآنِ إذَا أُضِيفَ الْقَوْلُ إلَى اللَّهِ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ اللَّهِ لَا يُقَالُ : قَوْلُ الْحَقِّ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْقَوْلَ الْحَقَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قَوْلُهُ الْحَقُّ } وَقَوْلُهُ : { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } وَقَوْلُهُ : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } ثُمَّ مِثْلُ هَذَا إذَا أُضِيفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ إلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ : { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وَقَوْلِهِمْ : صَلَاةُ الْأُولَى وَدَارُ الْآخِرَةِ هُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ بِلَا حَذْفٍ وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : صَلَاةُ السَّاعَةِ الْأُولَى وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَلَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { الدَّارُ الْآخِرَةُ } وَقَالَ : { قَوْلُهُ الْحَقُّ } . وَبِالْجُمْلَةِ فَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةً لِمَنْ سَمَّى ذَلِكَ مَجَازًا إلَّا كَحُجَّتِهِ فِي نَظَائِرِهِ فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَصْلِ .
 
 قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَمِنْ أَدِلَّتِنَا قَوْله تَعَالَى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَلُغَةُ الْعَرَبِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ وَهِيَ بَعْضُ طُرُقِ الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ فَلَوْ أَخَلَّ بِذَلِكَ لَمَا تَمَّتْ أَقْسَامُ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتُهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَإِنَّمَا يَبِينُ تَعْجِيزُ الْقَوْمِ إذَا طَالَ وَجَمَعَ مِنْ اسْتِعَارَتِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَلَا نَصَّ بِجَوَازِ الْأَلْفَاظِ إلَّا إذَا طَالَتْ ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ التَّحَدِّي بِمِثْلِ بَيْتٍ وَلَا بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَلِهَذَا جَعَلَ حُكْمَ الْقَلِيلِ مِنْهُ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ احْتِرَامَ الطَّوِيلِ فَسَوَّغَ الشَّرْعُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ تِلَاوَتَهُ كُلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ فَإِذَا أَتَى بِالْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ فَفَاقَ كَلَامُهُ الْجَامِعَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ : كَانَ الْإِعْجَازُ ؛ وَظَهَرَ التَّعْجِيزُ لَهُمْ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ السُّورَةَ الْقَصِيرَةَ لَا إعْجَازَ فِيهَا مِمَّا يُنَازِعُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ : بَلْ السُّورَةُ مُعْجِزَةٌ بَلْ وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعِمَادِ - شَيْخُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ - : قَوْلُهُ إنَّمَا جَازَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْيَسِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ : مَا أَرَاهُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُحْتَرَمٌ وَإِنَّمَا سَاغَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْآيَةِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ وَنَظَرًا فِي تَحْصِيلِ الْمَثُوبَةِ وَالْحَرَجِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ كَمَا سَوَّغَ لَهُ الصَّلَاةَ مَعَ يَسِيرِ الدَّمِ مَعَ نَجَاسَتِهِ . قُلْت : وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ : فَحَقٌّ بَلْ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وَقَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي فِيهِ لَيْسَتْ مَجَازًا وَنَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازٌ فَقَدْ تَنَاقَضَ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ الَّذِينَ قَالُوا : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجَازًا ؛ فَلَا يَلْزَمُهُمْ التَّنَاقُضُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجَازًا غَيْرَ مَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُجَازَفَةِ مِنْ الْمَدْحِ وَالْهَجْوِ وَالْمُرَائِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يُصَانُ عَنْهُ كَلَامُ الْحَكِيمِ ؛ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ : فَإِذَا كَانَ الْمُسَمِّي لَا يُسَمِّي مَجَازًا إلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَهَذَا لِأَنَّ تَسْمِيَةَ بَعْضِ الْكَلَامِ مَجَازًا إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَيْسَ أَمْرًا شَرْعِيًّا وَلَا لُغَوِيًّا وَلَا عَقْلِيًّا . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُسَمِّي بِالْمَجَازِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا هُوَ مُبَايِنٌ لِمُسَمَّاهُ وَمَا اُسْتُعْمِلَ بَعْضُ مُسَمَّاهُ لَا يُسَمِّيهِ مَجَازًا فَلَا يُسَمُّونَ اسْتِعْمَالَ الْعَامِّ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ مَجَازًا وَلَا الْأَمْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ مَجَازًا وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ لَا يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْجُمْلَةِ لَا يُسَمَّى غَيْرًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يُقَالُ : الْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ أَنَّهُ غَيْرُهَا وَلَا لِيَدِ الْإِنْسَان أَنَّهَا غَيْرُهُ وَلِأَنَّ الْمَجَازَ عِنْدَهُمْ مَا اُحْتِيجَ إلَى الْقَرِينَةِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ إلَّا فِي دَفْعِ مَا لَمْ يُرَدْ وَالْقَرِينَةُ فِي الْأَمْرِ تُخْرِجُ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَتُبْقِي الْبَاقِيَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِخِلَافِ الْقَرِينَةِ فِي الْأَسَدِ فَإِنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْأَسَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَإِذَا كَانَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَآخَرُونَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ جَمِيعَ مَعْنَاهُ فَهُوَ مَجَازٌ عِنْدَهُمْ ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُنْفَصِلَةِ أَوْ الْمُسْتَقِلَّةِ ؛ وَبَيْنَ مَا تَأَصَّلَتْ بِاللَّفْظِ ؛ أَوْ كَانَتْ مِنْ لَفْظِهِ ؛ أَوْ لَمْ تَسْتَقِلَّ ؛ فَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مَجَازًا لِئَلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامَّةُ الْكَلَامِ مَجَازًا حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : مَجَازًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ حَقٌّ وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَهُمْ فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ حَقِيقَةً إذْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّ الْمَوْضُوعَ الْأَصْلُ هُوَ النَّفْيُ وَهُوَ نَفْيُ الْإِلَهِ مُطْلَقًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا لَهُمْ قَصْدٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَلَا وَضَعُوا لَهُ لَفْظًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إذْ كَانَ التَّعْبِيرُ هُوَ عَمَّا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَعَانِي وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَصَوَّرُوهُ إلَّا نَافِينَ لَهُ يَتَصَوَّرُوهُ مُثْبِتِينَ لَهُ وَنَفْيُ النَّفْيِ إثْبَاتٌ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَصَدُوا بِهِ فِي لُغَتِهِمْ كَانَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ لِنَفْيِ كُلِّ إلَهٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَوْضُوعُ اللَّفْظِ الَّذِي قَصَدُوهُ بِهِ أَوَّلًا وَقَوْلُهُمْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : اسْتِعْمَالٌ لِذَلِكَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ عِنْدَهُمْ : فَكَذِبُهُ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الشِّرْكِ فَكَيْفَ فِي حَالِ الْإِيمَانِ ؟ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَمِيعَ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كَالصِّفَةِ ؛ وَالشَّرْطِ ؛ وَالْغَايَةِ ؛ وَالْبَدَلِ ؛ وَالِاسْتِثْنَاءِ : هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ قَدْ اسْتَعْمَلُوهَا تَارَةً مُجَرَّدَةً عَنْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ وَتَارَةً مَقْرُونَةً بِهَا بِخِلَافِ قَوْلِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا قَطُّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ إذْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا عِنْدَهُمْ فَمَنْ جَعَلَ هَذَا حَقِيقَةً فِي لُغَتِهِمْ ظَهَرَ كَذِبُهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ اسْتِثْنَاءٍ وَاسْتِثْنَاءٍ تَنَاقَضَ وَخَالَفَ الْإِجْمَاعَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ وَالْقَوْلُ الْمُتَنَاقِضُ إذَا طَرَدَهُ صَاحِبُهُ وَأَلْزَمَ صَاحِبَهُ لَوَازِمَهُ ظَهَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَقُبْحِهِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطْرُدْهُ تَنَاقَضَ وَظَهَرَ فَسَادُهُ فَيَلْزَمُ فَسَادُهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لِلْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَوْلٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ كُلُّ أَقْوَالِهِمْ مُتَنَاقِضَةٌ وَحُدُودُهُمْ وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ ؛ إذْ كَانَ أَصْلُ قَوْلِهِمْ بَاطِلًا فَابْتَدَعُوا فِي اللُّغَةِ تَقْسِيمًا وَتَعْبِيرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ تَصَوُّرًا مُطَابِقًا وَلَا يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةِ سَدِيدَةٍ ؛ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } وَالسَّدِيدُ : السَّادُّ الصَّوَابُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالصِّدْقُ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ ؛ بَلْ مُتَضَادَّيْنِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِسَدِيدِ . وَهَذَا يُبْسَطُ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } اسْأَلْ الْجُدْرَانَ ؛ وَالْعِيرَ الْبَهَائِمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُمْ فَقَدَ أَخْطَئُوا . وَإِنْ جَعَلُوا اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنًى فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَجَازًا وَفِيهِ لَيْسَ بِمَجَازِ فَقَدْ أَخْطَئُوا أَيْضًا . وَإِنْ قَصَدُوا أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَالَغَاتِ وَالْمُجَازَفَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ فَقَدْ أَصَابُوا فِي ذَلِكَ . وَإِذَا قَالُوا : نَحْنُ نُسَمِّي تِلْكَ الْأُمُورَ مَجَازًا بِخِلَافِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : فَهَذَا اصْطِلَاحٌ هُمْ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِمَّنْ جَعَلَ أَكْثَرَ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا كَمَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ قَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ : خَرَجَ زَيْدٌ : مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْخُرُوجِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا حَصَلَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ ؛ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ : فَإِنْ أُرِيدَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْخُرُوجِ فَهُوَ مَجَازٌ . فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ وَابْنُ جِنِّيٍّ لَهُ فَضِيلَةٌ وَذَكَاءٌ ؛ وَغَوْصٌ عَلَى الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ فِي سِرِّ الصِّنَاعَةِ وَالْخَصَائِصِ وَإِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَهَذَا الْكَلَامُ إنْ كَانَ لَمْ يَقُلْهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِفَضِيلَتِهِ وَإِذَا قَالَهُ فَالْفَاضِلُ قَدْ يَقُولُ مَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْعُمُومِ بَلْ وَلَا بِقَيْدِ آخَرَ . فَإِذَا قِيلَ : خَرَجَ زَيْدٌ ؛ وَقَامَ بَكْرٌ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَالْفِعْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مُسَمَّى خُرُوجٍ ؛ وَمُسَمَّى قِيَامٍ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى نَوْعِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ وَالْقِيَامِ وَلَا عَلَى قَدْرِهِ بَلْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فَإِنَّهُ أَوْجَبَ رَقَبَةً وَاحِدَةً ؛ لَمْ يُوجِبْ كُلَّ رَقَبَةٍ ؛ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الرِّقَابِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَأَيُّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَهَا أَجْزَأَتْهُ . كَذَلِكَ إذَا قِيلَ خَرَجَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ خُرُوجٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا ؛ وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا وَقَدْ يَكُونُ رَاكِبًا ؛ وَقَدْ يَكُونُ مَاشِيًا ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُتَنَاوَلُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ إلَّا خُرُوجٌ يُمْكِنُ مِنْ زَيْدٍ . وَإِمَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي عُمُومَ كُلِّ مَا يُسَمَّى خُرُوجٌ فِي الْوُجُودِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ الْقَائِلُ إلَّا إذَا فَسَدَ تَصَوُّرُهُ وَكَانَ إلَى الْحَيَوَانِ أَقْرَبُ وَالظَّنُّ بِابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا . ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِر اللُّغَاتِ فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ أَهْلَ اللُّغَاتِ جَمِيعَهُمْ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهُمَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ إنَّمَا وَضَعُوا تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْعَالَمِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ عُدُولٌ بِاللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ ؟ وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ الْقَوْلِ بِالْمَجَازِ إذَا أَفْضَى إلَى أَنْ يُقَالَ : فِي الْوُجُودِ مِثْلُ هَذَا الْهَذَيَانِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ تُوضَعُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ . فَمَنْ قَالَ مِنْ نفاة الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ : إنَّا لَا نُسَمِّي مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا وَإِنَّمَا نُسَمِّي مَجَازًا مَا خَرَجَ عَنْ مِيزَانِ الْعَدْلِ مِثْلَ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ وَالْهَجْوِ وَالْمَرَاثِي وَالْحَمَاسَةِ : فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ اصْطِلَاحًا صَحِيحًا فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ مَجَازًا بَلْ وَمِمَّنْ يَجْعَلُ التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ كُلَّهُ مَجَازًا ؛ فَيَجْعَلُ مِنْ الْمَجَازِ قَوْلَهُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلَهُ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَقَوْلَهُ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَوْلَهُ : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَقَوْلَهُ : { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } وَقَوْلَهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } " وَقَوْلَهُ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَقَوْلَهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقَوْلَهُ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَقَوْلَهُ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } وَقَوْلَهُ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَوْلَهُ : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } وَقَوْلَهُ : { فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ } وَقَوْلَهُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَوْلَهُ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } وَقَوْلَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } وَقَوْلَهُ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } وَقَوْلَهُ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَقَوْلَهُ : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلَهُ : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَوْلَهُ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وَقَوْلَهُ : { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وَقَوْلَهُ : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } وَقَوْلَهُ : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَقَوْلَهُ : { فَشَرِبُوا مِنْهُ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } وَقَوْلَهُ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } وَقَوْلَهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وَأَمْثَالَ هَذَا مِمَّا لَا يُعَدُّ إلَّا بِكُلْفَةِ . فَمَنْ جَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مَجَازًا وَأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا كُلَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ أَوَّلًا : فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْكَلَامِ مَجَازًا ؛ إذْ كَانَ هَذَا يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ لَفْظٍ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بِقَيْدِ وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ : اسْمِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ وَالِاسْمِيَّةُ أَصْلُهَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ ؛ فَيَلْزَمُ إذَا وُصِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ أَوْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ أَوْ قُيِّدَ بِحَالِ كَانَ مَجَازًا . وَيَلْزَمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا وَإِنَّ وَأَخَوَاتُهَا وَظَنَنْت وَأَخَوَاتُهَا فَغَيَّرَتْ مَعْنَاهُ وَإِعْرَابَهُ أَنْ يَصِيرَ مَجَازًا : فَإِنَّ دُخُولَ الْقَيْدِ عَلَيْهِ تَارَةً يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ؛ وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ : وَتَارَةً فِي آخِرِهِ لَا سِيَّمَا بَابِ ظَنَنْت ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَزَيْدًا مُنْطَلِقًا ظَنَنْت ؛ وَلِهَذَا عِنْدَ التَّقْدِيمِ يَجِبُ الْإِعْمَالُ وَفِي التَّوَسُّطِ يَجُوزُ الْإِلْغَاءُ ؛ وَفِي التَّأَخُّرِ يَحْسُنُ مَعَ جَوَازِ الْإِعْمَالِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ ضَعُفَ الْعَمَلُ ؛ وَلِهَذَا يُقَوُّونَهُ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ ؛ كَمَا يُقَوُّونَهُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ لِكَوْنِهِ أَضْعَفَ مِنْ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وَقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } . وَيَلْزَمُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إذَا قُيِّدَتْ بِمَصْدَرِ مَوْصُوفٍ أَوْ مَعْدُودٍ أَوْ نَوْعٍ مِنْ الْمَصْدَرِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا كَقَوْلِهِ : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَوْلِهِ : { وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا . } وَكَذَلِكَ ظَرْفُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُقَيَّدُ بِهِ الْفِعْلُ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَقَوْلِهِ : { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } .
 
 وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ مَعَ مُبَالَغَتِهِ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ : فَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ؛ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَنْبَلِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمَجَازِ فَقَالَ فِي فُنُونِهِ : جَرَتْ مَسْأَلَةٌ هَلْ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ؟ فَاسْتَدَلَّ حَنْبَلِيٌّ أَنَّ فِيهَا مَجَازًا بِأَنَّا وَجَدْنَا أَنَّ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَحْصُلُ نَفْيُهُ وَهُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ الْمِقْدَامِ أَسَدًا ؛ وَالْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ الْوَاسِعِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ بَحْرًا . فَنَقُولُ فِيهِ : لَيْسَ بِبَحْرِ وَلَا بِأَسَدِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ نَقُولَ فِي السَّبُعِ الْمَخْصُوصِ وَالْبَحْرِ لَيْسَ بِأَسَدِ وَلَا بَحْرٍ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَسُنَ نَفْيُ الِاسْمِ عَنْهُ أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ كَمَا نَقُولُ فِي الْمُسْتَعِيرِ لِمَالِ غَيْرِهِ : لَيْسَ بِمَالِكِ لَهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ نَقُولَ فِي الْمَالِكِ لَيْسَ بِمَالِكِ لَهُ . قَالَ : اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ أُصُولِيٌّ حَنْبَلِيٌّ فَقَالَ : الَّذِي عَوَّلْت عَلَيْهِ لَا أُسَلِّمُهُ وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى الصُّورَةِ بَلْ عَلَى الْمُخَصَّصَةِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا : حَيَوَانٌ : يَشْمَلُ السَّبُعَ وَالْإِنْسَانَ فَإِذَا قُلْنَا : سَبُعٌ وَأَسَدٌ : كَانَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْدَامِ وَالْهُوَاشِ وَالتَّفَخُّمِ لِلصِّيَالِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَصُورَةِ السَّبُعِ وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ كَسَوَادِ الْحِبْرِ وَسَوَادِ الْقَارِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْمِ السَّوَادِ بِالْمَعْنَى وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ هِبَةٌ تَجْمَعُ الْبَصَرَ اتِّسَاعُ الْحَدَقَةِ فَكَذَلِكَ اتِّسَاعُ الْجُودِ وَالْعِلْمِ وَاتِّسَاعُ الْمَاءِ جَمِيعًا يَجْمَعُهُ الِاتِّسَاعُ فَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَحْرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي جَمَعَهُمَا وَهُوَ حَقِيقَةُ الِاتِّسَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِعَارَةَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إذَا ثَبَتَ سَبْقُ التَّسْمِيَةِ لِأَحَدِهِمَا ؛ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ قَدِيمٌ ؛ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ فَإِنَّ السَّابِقَ وَالْمَسْبُوقَ مِنْ صِفَاتِ بَعْضِهِ الْحَادِثِ مِنْ الزَّمَانِ . قُلْت : فَقَدْ جُعِلَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَوَاطِئًا دَالًّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنَّهُ يَخْتَصُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِقَدْرِ مُتَمَيِّزٍ لِمَا امْتَازَ بِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ كَمَا فِي مَا مَثَّلَهُ بِهِ مِنْ السَّوَادِ وَهَذَا بِعَيْنِهِ . يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ لِلْمَجَازِ .
 
 قَالَ : وَمِنْ أَدِلَّةِ الْمَجَازِ مَا زَعَمَ الْمُسْتَدِلُّونَ لَهُ مِنْ أَجْوَدِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النفاة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } وقَوْله تَعَالَى { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ } وَالصَّلَوَاتُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : إمَّا الْأَدْعِيَةُ وَإِمَّا الْأَفْعَالُ الْمَخْصُوصَةُ وَكِلَاهُمَا لَا يُوصَفُ بِالتَّهَدُّمِ وَالْجَمَادُ لَا يَتَّصِفُ بِالْإِرَادَةِ . فَإِنْ قِيلَ : كَانَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الْمُصَلَّى صَلَاةً وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } أَعْضَاءُ السُّجُودِ . وَالْجِدَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إرَادَةٌ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ مِنْ اللَّهِ فِعْلُ الْإِرَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ أَبْنِيَةٍ مَخْصُوصَةٍ . فَيُقَالُ : هَذَا دَعْوَى عَنْ الْوَضْعِ : إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ إلَّا الدُّعَاءُ وَزِيدَ فِي الشَّرْعِ أَوْ نُقِلَ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ فَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ نَقْلٍ عَنْ الْعَرَبِ وَإِنْ سُمِّيَتْ صَلَوَاتٍ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ . وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ فِي الْجِدَارِ إرَادَةً لَمْ يَكُنْ بِهَا مُرِيدًا كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَكَلِّمًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهَا عِيسَى نَفْسُهُ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَصْدَرَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ : هَذَا دِرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرًا وَالْمَقْدُورِ قُدْرَةً وَالْمَرْحُومِ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقِ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِمَّا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَقَوْلِهِ : { يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلِمَةَ هُوَ الْمَسِيحُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلَامُ { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَبَيَّنَ لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِنْ الْوَلَدِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ؛ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { كُنْ فَيَكُونُ } وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : عِيسَى مَخْلُوقٌ بالكن ؛ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الكن وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ أَنَّهُ خُلِقَ بكن لَا أَنَّهُ نَفْسُ كُنْ وَنَحْوِهَا مِنْ الْكَلَامِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَزْمِنَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ زَمَانِ الْحَجِّ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا . { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } وَالْحَجُّ الْمَفْرُوضُ فِيهِنَّ لَيْسَ هُوَ الْأَشْهُرَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَشْهُرٌ } لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْفِعْلِ بَلْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِكَلَامِهِ لَمَّا بَيَّنَ [ أَنَّ ] اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ أَزْمِنَةٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } لَمَّا قَالَ : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ التَّقْوَى فَلَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مَعَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَعَ قَيْدٍ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ هُنَا ؛ كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَعَ قَيْدٍ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ هُنَاكَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اشْتِرَاكٌ وَبَيْنَهُمَا امْتِيَازٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ وَالسَّيْفِ ؛ فَإِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الذَّاتِ فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْمُتَوَاطِئَةِ وَيَمْتَازُ كُلٌّ مِنْهَا بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ فَتُشْبِهُ الْمُتَبَايِنَةَ . وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَكَذَلِكَ مَا يُعَرَّفُ بِاللَّامِ لَامِ الْعَهْدِ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ إمَّا بِعُرْفِ مُتَقَدِّمٍ ؛ وَإِمَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ هَذَا الْمُرَادِ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ لَكِنْ بَيْنَهُمَا قَدَرَ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَقَالَ تَعَالَى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظُ الرَّسُولِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ لَكِنَّ الْمَعْهُودَ الْمَعْرُوفَ هُنَاكَ هُوَ رَسُولُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْرُوفُ الْمَعْهُودُ هُنَا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ } هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ وَالِاسْمُ مُتَوَاطِئٌ وَهُوَ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَكِنَّ الْعَهْدَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ غَيْرُ الْعَهْدِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَدُلُّ اللَّفْظُ : فَإِنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ لَا تَدُلُّ إلَّا مَعَ مَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْهُودِ الْمَعْرُوفِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ ؛ كَقَوْلِهِ : هَذَا وَهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ : إنَّمَا يَدُلُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ هُنَاكَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الْإِشَارَةِ فَتِلْكَ الدَّلَالَةُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَا وَبِلَفْظِ الْإِشَارَةِ كَمَا أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَا وَبِالْمَعْهُودِ وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَا يُقَالُ : إنَّهَا مَجَازٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ بَلْ وَالضَّمَائِرِ وَلَامِ الْعَهْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَجَازًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَإِنْ قَالَهُ جَاهِلٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ وَظَنَّ أَنَّ الْحَقَائِقَ تَدُلُّ بِدُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ بَلْ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ إلَّا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَبِحَالِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي يَعْرِفُ عَادَتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَنَفْسُ اسْتِمَاعِ اللَّفْظِ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ وَعَادَتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ ؛ إذَا كَانَتْ دَلَالَتُهَا دَلَالَةً قَصْدِيَّةً إرَادِيَّةً تَدُلُّ عَلَى مِمَّا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَدُلَّ بِهَا عَلَيْهِ لَا تَدُلُّ بِذَاتِهَا . فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْرِفَ مَا يَجِبُ أَنْ يُرِيدَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ ؛ بَلْ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ . وَلِهَذَا كَانَتْ دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا سَمْعِيَّةً عَقْلِيَّةً تُسَمَّى الْفِقْهُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ عَرَفَهَا : هُوَ يَفْقَهُ وَلِمَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا : لَا يَفْقَهُ . قَالَ تَعَالَى { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } وَقَالَ : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ : أَنْ يَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
 تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحَبِيبِهِ وَأَفْضَلِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .