ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها

فأول ذلك حسن وضع البلد واتساع مبانيه، حتى إنا ما شاهدنا بلداً أوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه، وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضاً. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضاً.

وعانيا فيها ايضاً من سواري الرخام وألواحه كثرة وعلواً واتساعاً وحسناً مالا يتخيل بالوهم، حتى انك تلفي في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعوداً لا يدرى ما معناه ولا لم كان أصل وضعها. وذكر لنا أنه كان عليها في القديم مبان للفلاسفة خاصة ولأهل الرئاسة في ذلك الزمان، والله أعلم، ويشبه أن يكون ذلك للرصد.

منار الإسكندرية

ومن أعظم ما شدهاناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله عز وجل على يدي من سخر لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر بر الإسكندرية، يظهر على أزيد من سبعين ميلاً. ومبناه في غابة العتاقة والوثاقة طولاً وعرضاً، يزاحم الجو سمواً وارتفاعاً، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع.

ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفاً وخمسين باعاً ويذكر أن في طوله أزيد من مئة وخمسين قامة. وأما داخله فمر أي هائل، اتساع معارج ومداخل وكثرة مساكن، حتى أن المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضل. وبالجملة لا يحصلها القول، والله لا يخليه من دعوة الإسلام ويبقيه.

وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه، وطلعنا إليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة المورخ وصلينا في المسجد المبارك المذكور. وشاهدنا من شأن عجباً لا يستوفيه وصف واصف.

مناقب الإسكندرية

ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة سلطانه: المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا ذلك، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضاً فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة، وينهون الأطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم.


ومن اشرف هذه المقاصد أيضاً أن السلطان عين لأبناء السبيل من الغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغاً ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كل يوم انساناً اميناً من قبله. ينتهي في اليوم ألفي خبزة أو أزيد بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائماً، ولهذا كله أوقاف من قبله حاشا ما عينه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا صلب ماله. وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه واتساع الأحوال لا يلزمهم وظيف البتة. ولافائد للسطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله لهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة، وليس له منها سوى ثلاثة أثمانها والخمسة الأثمان مضافة للوجوه المذكورة.

وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة هو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، وصل الله صلاحه وتوفيقه.

ومن أعجب ما اتفق للغرباء أن بعض من يريد التقرب بالنصائح السلطان ذكر أن أكثر هؤلاء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها رغبة في المعيشة لأنهم لا يصلون الا يزاد يقلهم. فكاد يؤثر سعي هذا المتنصح. فلما كان في أحد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده، فتلقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس، وهم قد ذهبت رسومهم عطشاً وجوعاً.

فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم. فأعلموه أنهم قاصدون بيت الله الحرام وأنهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال: لو وصل هؤلاء وهم قد اعتسفوا هذه المجاهل التي اعتسفوها وكايدوا من الشقاء ما كايدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهباً وفضة لوجب أن يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي أجريناها، لهم فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب إلينا بالسعي في قطع ما أوجبناه لله عز وجل خالصاً لوجهه.

ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذب عن، فمنهم من يقول ثمانية آلاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جداً تكون منها الأربعة والخمسة في موضوع وربما كانت مركبة وكلها بآثمة مرتبين من قبل السلطان، فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية في الشهر، وهي عشرة مؤمنية، ومنهم من له فوق ذلك ومنهم من له دونه. وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان. غير ذلك مما يطول ذكره من المآثر التي يضيق عنها الحصر.

ثم كان الانفصال عنها على بركة الله تع وحسن عونه صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور، وهو الثالث لأبريل، فكانت مرحلتنا منه موضع يعرف بدمنهور، وهو بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح، متصل من الإسكندرية إليه مصر. والبسيط كله محرث يعمه النيل بفيضه،والقرى فيه يميناً وشمالاً لا تحصى كثرة.

ثم في اليوم الثاني وهو يوم الاثنين، أجزنا النيل بموضع يعرف بصافي مركب تعدية. واتصل سيرنا موضع يعرف ببرمة فكان مبيتنا بها، وهي قرية كبيرة فيها السوق وجميع المرافق. ثم بكرنا منها يوم الثلاثاء، وهو يوم عيد النحر من سنة ثمان وسبعين وخمس مئة المؤرخة، فشاهدنا الصلاة بموضع يعرف بطندته، وهي من القرى الفسيحة الآهلة، فأبصرنا بها مجمعاً حفيلاً، وخطب الخطيب بخطبة بليغة جامعة. واتصل سيرنا موضع يعرف بسبك وكان مبيتنا بها. واجتزنا في ذلك اليوم على موضع حسن يعرف بمليج، والعمارة متصلة والقرى منتظمة في طريقنا كلها. ثم بكرنا منها يوم الأربعاء بعده. فمن أحسن بلد مررنا عليه موضع يعرف بقليوب على ستة أميال من القاهرة فيه الأسواق الجميلة ومسجد جامع كبير حفيل البنيان، ثم بعده المنية، وهو موضع أيضاً حفيل، ثم منها القاهرة، وهي مدينة السلطان الحفيلة المتسعة، ثم منها مصر المحروسة. وكان دخولنا فيها إثر صلاة العصر من يوم الأربعاء، وهو الحادي عشر من ذي الحجة المذكور والسادس من أبريل، عرفنا الله فيها الخير والخبرة وتمم علينا صنعه الجميل بالوصول الغرض المأمول ولا أخلانا من التيسير والتسهيل بعزته وقدرته، أنه على ما يشاء قدير.


وفي يوم الأربعاء المذكور أجزنا القسم الثاني من النيل في مركب تعدية أيضاً بموضع يعرف بدجة، وذلك وقت الغداة الصغرى، وكان نزولنا في مصر بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص، رضي الله عنه، في حجرة كبيرة على باب الفندق المذكور.

ذكر مصر والقاهرة

فأول مانبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عز وجل: فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولايحيط الإدراك به، مجلل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار فضة خالصة ومنها مذهبة، وعلقت عليه قناديل فضة، وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسناً وجمالاً، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع مالا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون.

والمدخل هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل إليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع.

ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا هذا المسجد المبالاك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك،واحدا قهم به وانكبابهم عليه وتمسحم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين باكين متوسلين الله سبحانه وتع ببركة التربة المقدسة، ومتضرعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد. والأمر فيه أعظم، ومرأى الحال أهوال، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وإنما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدلاً على ما وراء ذلك إذا لا ينبغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز. وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعاً أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع، قدس الله العضو الكريم الذي فيه بمنه وكرمه.

وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبانة المعروفة، وهي أيضاً إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته فمنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال،وخمس من النساء. وعلى كل واحد منها بناء حفل. فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر.

ذكر مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم

مشهد علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه، ومشهدان لإبني جعفر بن محمد الصادق، رضي الله عنهم،ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور، رضي الله عنهم، ومشهدان لابنية الحسن والحسين رضي الله عنهما،ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم، رضي الله عنه، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد علي بن عبد الله بن القاسم رضي الله عنهم، ومشهد أخيه عيسى بن عبد الله، رضي الله عنهما، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيدين الحسن، رضي الله عنهم، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي زين العابدين الحسين بن علي، رضي الله عنهم، ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسين، رضي الله عنهم، وذكر لنا أنه كان ربيب الإمام مالك، رضي الله عنه.

مشاهد الشريفات رضي الله عنهن

مشهد السيدة أم كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر، رضي الله عنهم، ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، ومشهد أم كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق، رضي الله عنهم، ومشهد السيدة أم عبد الله بن القاسم بن محمد، رضي الله عنهم.

وهذا ذكر ما حصله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة وهي أكثر من ذلك. وأخبرنا أن في جملتها مشهداً مباركاً لمريم ابنة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وهو مشهور لكن لم نعاينه. وأسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة إنما تلقيناها من التواريخ الثابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحة ذلك، والله أعلم بها.

وعلى كل واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب. والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر.

ذكر مشاهد بعض أصحاب النبي

بالقرافة المذكورة ومشاهد التابعين والأثمة والعلماء والزهاد والأولياء المشتهرين بالكرامات رضي الله عنهم أجمعين.

والمقيد يبرأ من القطع بصحة ذلك وإنما رسم من أسمائهم ما وجده مرسوماً في تواريخها، وبالجملة فالصحة غالبة لايشك فيها، إن شاء الله عز وجل: مشهد معاذ بن جبل رضي الله عنه، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، مشهد صاحب بردة صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، مشهد سارية الجبل رضي الله عنه، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مشهد أولاده رضي الله عنهم، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، مشهد عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم،

مشاهد الأئمة العلماء الزهاد

مشهد الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو من المشاهد العظيمة احتفالاً واتساعاً. وبني بإزائه مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها، لا أوسع مساحة ولا أحف بناء، يخيل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته، بإزائها الحمام، غير ذلك من مرافقها، والبناء فيها حتى الساعة، والنفقة عليها لا تحصى. وتولى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الخبوشاني وسلطان هذه الجهات صلاح الدين يسمح له بذلك كله، ويقول: زد احتفالاً وتأنقاً وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله، فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه. ولقينا هذا الرجل الخبوشاني المذكور تبركاً بدعائه لأنه قد كان ذكر لنا أمره بالأندلس. فألفيناه في مسجده بالقاهرة وفي البيت الذي يسكنه داخل المسجد المذكور، وهو بيت ضيق الفناء، فدعا لنا، وانصرفنا ولم نلق من رجال مصر سواه. مشهد المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، مشهد أشهب صاحب مالك رضي الله عنه، مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي الله عنهما، مشهد أصبغ صاحب مالك رضي الله عنهما، مشهد القاضي عبد الوهاب رضي الله عنه، مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم رضي الله عنهما، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضي الله عنه، مشهد بنان العابد رضي الله عنه، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق، وقصته عجيبة في الكرامة، مشهد أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي الله عنها، مشهد الروذباري رضي الله عنه، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرشيد المعروف بالسبتي رضي الله عنه، مشهد الرجل الصالح مقبل الحبشي رضي الله عنه، مشهد ذي النون بن إبراهيم المصري رضي الله عنه، مشهد القاضي الأنباري، قبر الناطبق الذي سمع عند وضعه في لحده يقول: اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، رضي الله عنه، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جلوتها على زوجها لم يسمع أعجب منه، مشهد الصامت الذي يحكى عنه انه لم يتكلم أربعين سنة، مشهد العصافيري، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن الحسن الخوارزمي، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهري ومشاهد أصحابه بازائه رضي الله عنهم أجمعين، مشهد شقران شيخ ذي النون المصري، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربي، مشهد المقرىء ورش، مشهد الطبري، مشهد شيبان الراعي.

والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تضبط بالتقييد أو تتحصل بالإحصاء وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته.

وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متسع يعرف بموضع قبور الشهداء، وهم الذين استشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم. والبسيط المذكور مسنم كله للعيان على مثال أسنمة القبور دون بناء. ومن العجب أن القرافة المذكورة كلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوي إليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء، والإجراء على كل موضع منها متصل من قبل السلطان في كل شهر، والمدارس التي بمصر والقاهرة كذلك، وحقق عندنا أن الإجراء على ذلك كله نيف على آلفي دينار مصرية في الشهر، وامع الخطبة اليوم، يأخذ الخطيب فيها مأخذ سني يجمع فيها الدعاء للصحابة، رضي الله عنهم، وللتابعين ومن سواهم ولأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ولعميه الكريمين حمزة والعباس، رضي الله عنهما، ويلطف الوعظ ويرقق التذكير حتى تخشع القلوب القاسية وتتفجر العيون الجامدة. ويأتي للخطبة لابساً السواد على رسم العباسية. وصفة لباسه بردة سوداء عليها طيلسان شرب أسود، وهو الذي يسمى بالغرب الإحرام، وعمامة سوداء، متقلداً سيفاً. وعند صعوده المنبر يضرب بنعل سيفه المنبر في أول ارتقائه ضربة يسمع بها الحاضرين كأنها إيذان بالإنصات، وفي توسطه أخرى، وفي انتهاء صعوده ثالثة. ثم يسلم على الحاضرين يميناً وشمالاً ويقف بين رايتين سواد وين فيهما تجزيع بياض قد ركزنا في أعلى المنبر.

ودعاؤه في هذا التاريخ للإمام العباسي أبي العباس أحمد الناصر لدين الله ابن الإمام أبي محمد الحسن المستضيء بالله ابن الإمام أبي المظفر يوسف المستنجد بالله، ثم لمحيي دولته أبي المظفر يوسف بن أيوب صلاح الدين، ثم لأخيه ولي عهده أبي بكر سيف الدين.

قلعة القاهرة

وشاهدنا أيضاً بنيان القلعة وهو حصن يتصل بالقاهرة حصين المنعة، يريد السلطان أن يتخذه موضع سكناه، ويمد سوره حتى ينتظم بالمدينتين مصر والقاهرة. والسخرون في هذا البنيان والمتولون لجميع امتهاناته ومؤونته العظيمة كنشر الرخام ونحت الصحور العظام وحفر الخندق المحدق بسور الحصن المذكور وهو خندق ينقر بالمعاول نقراً في الصخر عجباً من العجائب الباقية الآثار، العلوج الاسارى من الروم، وعددهم لا يحصى كثرة، ولا سبيل أن يمتهن في ذلك البنيان أحد سواهم. وللسلطان أيضاً بمواضع أخر بنيان والأعلاج يخدمونه فيه، ومن يمكن استخدامه من المسلمين في مثل هذه المنفعة العامة مرفه عن ذلك كله ولا وظيفة في شيء من ذلك على أحد.

مارستان المجانين

ومما شاهدناه أيضاً من مفاخر هذا السلطان المارستان الذي بمدينة القاهرة. وهو قصر من القصور الرائقة حسناً واتساعاً أبرزه لهذه الفضيلة تأجراً واحتساباً وعين قيماً من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة واقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى. وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكفلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والاشربة بما يليق بهم.


وبازاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى. ولهن أيضاً من يكفلهن. ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين.

ولهم أيضاً من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها. والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعناء بها والثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه.

مسجد ابن طولون

وبين مصر والقاهرة المسجد الكبير المنسوب أبي العباس أحمد بن طولون، وهو من الجوامع العتيقة الأنيقة الصنعة الواسعة البنيان، جعله السلطان مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويحلقون فيه، وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر. ومن أعجب ما حدثنا به أحد المتخصصين منهم أن السلطان جعل أحكامهم إليهم ولم يجعل يداً لأحد عليهم. فقدموا من أنفسهم حاكماً يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارئ أمورهم عنده، واستصحبوا الدعة والعافية، وتفرغوا لعبادة ربهم، ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله.

مآثر السلطان ومفاخره

وما منها جامع من الجوامع ولا مسجد من المساجد ولا روضة من الروضات المبنية على القبور ولا محرس من المحارس ولا مدرسة من المدارس إلا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي إليها ويلزم السكنى فيها، تهون عليه في ذلك نفقات بيوت الاسوال.

ومن مآثره الكريمة المعربة عن اعتنائه بأمور المسلمين كافة أنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله، عز وجل، يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتجرى عليهم الجراية الكافية لهم.

ومن مفاخر هذا السلطان وآثاره الباقية المنفعة للمسلمين القناطر التي شرع في بنائها بغربي مصر، وعلى مقدار سبعة أميال منها، بعد رصيف أبتدئ به من حيز النيل بازاء مصر كأنه جبل ممدود على الأرض، تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة، وهي نحو الأربعين قوساً من أكبر ما يكون من قسي القناطر. والقنطرة متصلة بالصحراء التي يفضي منها الإسكندرية، له في ذلك تدبير عجيب من تدابير الملوك الحزمة اعداداً لحادثة تطرأ من عدو يدهم جهة ثغر الإسكندرية عند فيض النيل وانغمار الأرض به وامتناع سلوك العساكر بسببه. فأعد ذلك مسلكاً في كل وقت إن احتيج ذلك. والله يدفع عن حوزة المسلمين كل متوقع ومحذور بمنه.

ولاهل مصر في شأن هذه القنطرة إنذار من الإنذارات الحد ثانية يرون أن حدوثها يذان باستيلاء الموحدين عليها وعلى الجهات الشرقية، والله أعلم بغيبه، لا إله سواه.

معجزة البناء وبمقربة من هذه القنطرة المحدثة الأهرام القديمة، المعجزة البناء، الغريبة المنظر، المربعة الشكل، كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء، ولا سيما الاثنان منها، فانهما يغص الجو بهما سمواً، في سعة الواحد منها من أحد أركانه الركن الثاني ثلاث مئة خطوة وست وستون خطوة. قد أقيمت من الصخور العظام المنحوتة. وركبت تركيباً هائلاً بديع الإلصاق دون أن يتخللها ما يعين على إلصاقها، محددة الأطراف في رأي العين، وربما أمكن الصعود إليها على خطر ومشقة فتلفى أطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب، لورام أهل الأرض نقض بنائها لأعجزهم ذلك.

للناس في أمرها اختلاف: فمنهم من يجعلها قبوراً لعاد وبنيه، ومنهم من يزعم غير ذلك. وبالجملة فلا يعلم شأنها إلا الله عز وجل. ولأحد الكبيرين منها باب يصعد إليه على نحو القامة من الأرض أو أزيد ويدخل منه بيت كبير سعته نحو خمسين شبراً وطوله نحو ذلك. وفي جوف ذلك البيت رخامة طويلة مجوفة شبه التي تسميها العامة البيلة يقال أنها قبر والله أعلم بحقيقة ذلك.

ودون الكبير هرم سعته من الركن الواحد الركن الثاني مئة وأربعون خطوة.ودون هذا الصغير خمسة صغار وثلاثة متصلة والاثنان على مقربة منها متصلان.

وعلى مقربة من هذه الأهرام بمقدار غلوة صورة غريبة من حجر قد قامت كالصومعة على صفة آدمي هائل المنظر، وجهة الأهرام وظهره القبلة مهبط النيل، تعرف بأبي الأهوال.

وبمدينة مصر المسجد الجامع المنسوب لعمر بن العاص رضي الله عنه. وله أيضاً بالإسكندرية جامع آخر هو مصلى الله عليه وسلم الجمعة للمالكيين. بمدينة مصر آثار من الخراب الذي أحدثه الإحراق الحادث بها وقت الفتنة عند اتساخ دولة العبيديين، وذلك سنة أربع وستين وخمس مئة، وأكثرها الآن مستجد والبنيان بها متصل. وهي مدينة كبيرة والآثار القديمة حولها، وعلى مقربة منها ظاهرة تدل على عظمة اختطا طها فيما سلف.

روضة النيل

وعلى شط نيلها مما يلي غربيها، والنيل معترض بينهما، قرية كبيرة حفيلة البنيان تعرف بالجيزة. لها كل يوم أحد سوق من الأسواق العظيمة يجتمع إليها.

ويعترض بينها وبين مصر جزيرة فيها مساكن حسان وعلالي مشرفة وهي مجتمع اللهو والنزهة، وبينها وبين مصر خليج من النيل يذهب بطولها نحو الميل ولها مخرج له. وبهذه الجزيرة مسجد جامع يخطب فيه. ويتصل بهذا الجامع المقياس الذي يعتبر فيه قدر زيادة النيل عند فيضه كل سنة. واستشعار ابتدائه في شهر يونيه، ومعظم انتهائه أغشت، وآخره أول شهر أكتوبر. وهذا المقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهو مفصل على اثنتين وعشرين ذراعاً مقسمة على أربعة وعشرين قسماً تعرف بالأصابع. فإذا انتهى الفيض عندهم أن يستوفي الماء تسع عشرة ذراعاً منغمرة فيه فهي الغاية عندهم في طيب العام. وربما كان الغامر منه كثيراً بعموم الفيض. والمتوسط عندهم ما ستوفى سبع عشرة ذراعاً، وهو الأحسن عندهم من الزيادة المذكورة.

والذي يستحق به السلطان خراجه في بلاد مصر ست عشرة ذراعاً فصاعداً، وعليها يعطي البشارة الذي يراعي الزيادة في كل يوم والزيادة في أقسام الذراع المذكورة ويعلم بها مياومة حتى تستوفي الغاية التي يقضي بها. وان قصر عن ست عشرة ذراعاً فلا مجبى للسلطان في ذلك العام ولا خراج.

وذكر لنا أن بالجيزة المذكورة قبر كعب الأحبار رضي الله عنه. وفي صدر الجيزة المذكورة أحجار رخام قد صورت فيها التماسيح، فيقال: إن بسببها لا تظهر التماسيح فيما يلي البلد من النيل مقدار ثلاثة أميال علواً وسفلاً، والله أعلم بحقيقة ذلك.

عدل صلاح الدين

ومن مفاخر هذا السلطان المزلفة من الله تع وآثاره التي أبقاها ذكراً جميلاً للدين والدنيا: إزالته رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج مدة دولة العبيديين. فكان الحجاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنتاً مجحفاً ويسامون فيها خطة خسف باهظة. وربما ورد منها من لافضل لديه على نفقته ولا نفقة عنده فيلزم أداء الضريبة المعلومة، وكانت سبعة دنانير ونصف دينار من الدنانير المصرية التي هي خمسة عشر ديناراً مؤمنية على كل رأس، ويعجز عن ذلك، فيتناول بأليم العذاب بعيذاب. كاسمها مفتوحة العين. وربما اخترع له من أنواع العذاب التعليق من الأنثيين أو غير ذلك من الأمور الشنيعة، نعوذ بالله من سوء قدره. وكان بجدة أمثال هذا التنكيل وأضعافه لمن لم يؤد مكسه بعيذاب ووصل اسمه غير معلم عليه علامة الأداء فمحا هذا السلطان هذا الرسم اللعين ودفع عوضاً منه مايقوم مقامه من أطعمة وسواها،وعين مجبى موضع معين بأسره لذلك، وتكفل بتوصيل جميع ذلك الحجاز لأن الرمس المذكور كان باسم ميرة مكة والمدينة، غمرهما الله، فعوض من ذلك أجمل عوض، وسهل السبيل للحجاج، وكانت في حيز الانقطاع وعدم الاستطلاع، وكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثاً عظيماً وخطباً أليماً. فترتب الشكر له على كل من الناس أن حج البيت الحرام إحدى القواعد الخمس من الإسلام، حتى يعم جميع الآفاق ويوجب الدعاء له في كل صقع من الأصقاع وبقمة من البقاع، والله من وراء مجازاة المحسنين، وهو، جلت قدرته،لا يضيع أجر من أحسن عملاً . مكوس كانت في البلاد المصرية وسواها ضرائب على كل ما يباع ويشترى مما دق أوجل، حتى كان يؤدى على شرب ماء النيل المكس فضلاً عما سواه. فمحا هذا السلطان هذه البدع اللعينة كلها وبسط العدل ونشر الأمن.

زمن عدل هذا السلطان وتأمينه للسبل أن الناس في بلاده لا يخلعون لباس الليل تصرفاً فيما يعنيهم، ولا يستشعرون لسواده هيبة تثنيهم. على مثل ذلك شاهدنا أحوالهم بمصر والإسكندرية حسبما تقدم ذكره.