العمرة الرجبية

   والعمرة الرجبية عندهم الوقفة العرفية، لأنهم يحتفلون لهها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله ويبادر إليها أهل الجهات المتصلة بها، فيجتمع لها خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله عز وجل. فمن لم يشاهدها مرأى يستهدي ذكره غرابة وعجباً، شاهدنا من ذلك أمراً يعجز الوصف عنه، والمقصود منه الليلة التي يستهل فيها الهلال مع صبحتها. ويقع الاستعداد لها من قبل ذلك بأيام، فأبصرنا من ذلك ما نصف بعضه على جهة الاختصار. وذلك لأنا عاينا شوارع مكة وأزقتها، من عصر يوم الأربعاء، وهي العشية التي ارتقب فيها الهلال، قد امتلأت هوادج مشدودة على الإبل مكسوة بأنواع كسا الحرير وغيرها من ثياب الكتان الرفيعة بحسب سعة أحوال أربابها ووفرهم، كل يتأنق ويحتفل بقدر استطاعته، فأخذوا في الخروج التنعيم ميقات المعتمرين، فسألت تلك الهوادج في أباطح مكة وشعابها، والإبل قد زينت تحها بأنواع التزيين، واشعرت بغير هدي بقلائد رائقة المنظر من الحرير وغيره، وربما فاضت الأستار التي على الهوادج حتى تسحب أذيالها على الأرض.

ومن أعرب ما شاهدناه من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليتة عمة الأمير كثر، فإن أذيال سترة كانت تنسحب على الأرض انسحاباً؛ وغيره من هوادج حرم الأمير وحرم قواده، غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزاً عن الإحصاء. فكانت تلوح على ظهور الإبل كالباب المضروبة، فيخيل للناظرإليها أنها محلة قد ضربت أبنيتها من كل لون رائق.


ولم يبق ليلة الخميس المذكور بمكة إلا من خرج للعمرة من أهلها ومن المجاورين، وكنا في جملة من خرج ابتغاء بركة الليلة العظيمة، فدنا لا نتخلص مسجد عائشة من الزحام وانسداد ثنيات الطريق بالهوادج، والنيران قد أشعلت بحافتي الطريق كله، والشمع يتقد بين أيدي الإبل التي عليها هوادج من يشار إليه من عقائل نساء مكة.
فلما قضينا العمرة وطفنا وجئنا للسعي بين الصفا والمروة، وقد مضى هدء من الليل، أبصرناه كله سرجاً ونيرانا وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن، فكنا لا نتلخص إلا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل لكثرة الزحام واصطكاك الهوادج بعضها على بعض. فعاينا ليلة هي أغرب ليالي الدنيا، فمن لم يعاين ذلك لم يعاين عجباً يحدث به ولا عجباً يذكره مرأى الحشر يوم القيامة لكثرة الخلائق فيه، محرمين، ملبين، داعين علىالله عز وجل ضارعين، والبال امكرمة التي بحافتي الطريق تجيبهم بصداها حتى سكتت المسامع، وسكبت من هول تلك المعاينة المدامع، واذابت القلوب الخواشع. وفي تلك الليلة ملئ المسجد الحرام كله سرجاً فتلألأ نوراً. وعند ثبوت رؤية الهلال عند الأمير أمر بضرب الطبول والدبادب والبوقات إشعاراً بأنها ليلة الموسم.


فلما كانت صبيحة ليلة الخميس خرج العمرة في احتفال لم يسمع بمثله انحشد ه أهل مكة على بكرة أبيهم، فخرجوا على مراتبهم قبيلة قبيلة وحارة حارة شاكين في الأحة فرساناً ورجالة، فاجتمع منهم عدد لا يحصى كثرة، يتعجب المعاين لهم لوف ور عددهم، فلو أ،هم من بلاد جمة لكانوا عدباً، فكيف وهم من بلد واحد وهذا أدل الدلائل على بركة البلد. فكانوا يرجون على ترتيب عجيب، فالفرسان منهم يخرجون بخيلهم يلعبون بالأسلحة عليها، والرجالة يتوائبون ويتثاقفون بالأسلحة في أيديهم حراباً وسيوفاً وحجفاً وهم يظهرون التطاعن بعضهم لبعض والتضار بالسيوف والمدافعة بالحجف التي يستجنون بها. وأظهرون من الحذق لثقباف كل أمر مستغرب. وكانوا يرمون بالحراب الهواء ويبادرون اليها لقفاً بأيديهم وهي قد تصوبت اسنتها على رؤوسهم وهم في زحام لايمكن فيه المجال، وربما رمى بعضهم بالسيوف في الهواء فيستلقونها قبضاً على قوائمها كأنها لم تفارق أيديهم، أن خرج الأمير يزحف بين قواده، وأبناؤه أمامه، وقد قاربوا من الشباب، والرايات تخفق أمامه، والطبول والدبادب بين يديه، والسكينة تفيض عليه، وقد امتلأت الجبال والطرق والثنيات بالنظارة من جميع المجاورين.
فلما انتهى الميقات وقضى غرضه أخذ في الرجوع، وقد ترتب العسكران بين يديه على لعبهم ومرحهم والرجالة على الصفة المذكورة من التجاول. وقد ركب جملة من اعراب البوادي نجباً صهباً لم ير أجمل منظراً منها، وركابها يسابقون الخيل بها، بين يدي الأمير، رافعين أصواتهم بالدعاء له والثناء عليه، أن وصل المسجد الحرام، فطاف بالكعبة، والقراء أمامه، والمؤذن الزمزمي يغرد في سطح قبة زمزم رافعاً عقيرته بتهنئته بالموسم والثناء عليه والدعاء له على العادة، فلما فرغ من الطواف صلى الله عليه وسلم عند الملتزم ثم جاء المقام وصلى الله عليه وسلم خلفه، وقد أخرج له من الكعبة ووضع في قبته الخشبية التي يصلى الله عليه وسلم خلفها. فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به، ثم أعيدت القبة عليه، وأخذ في الخروج على باب الصفا المسعى. وانجفل بين يديه، فسعى راكباً والقواد مطيفون به، والرجالة الحرابة أمامه، فلما فرغ من السعي استلت السيون أمامه، واحدقت الأشباع به، وتوجه منزله على هذه الحالة الهائلة مزحوفاً به، وبقي المسعى يومه ذلك يموج بالساعين والساعيات.


فلما كان اليوم الثاني، وهو يوم الجمعة، كان طريق العمرة في العمارة قريباً من امسه، راكبين وماشين، رجالاً ونساء والماشيات المتأجرات كثير يسابقن الرجال في تلك السبيل المبارك، تقبل الله من جميعهم بمنه.
وفي أثناء ذلك يلاقي الرجال بعضهم بعضاَ فيتصافحون ويتهادون الدعاءوالتفافر بينهم، والنساء كذلك. والكل منهم قد لبس أفخر ثيابه واحتفل احتفال أهل البلاد للأعياد. وأما أهل البلد الأمين فهذا الموسم عيدهم، له يعبأون وله يحتفلون، وفي المباهاة فيه يتنافسون وله يعظمون، وفيه تنفق أسواقهم وصنائعهم، يقدمون النظر في ذلك والأستعداد له بأشهر.

السر والماثرون

ومن لطيف صنع الله، عز وجل، لهم فيه اعتناء كريم منه سبحانه مجرمه الأمين، أن قبائل من اليمن تعرف بالسرو، وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسرة، كأنها مضافة لسراة الرجال، على ما أخبرني به فقيه من أهل اليمن يعرف بابن أبي الصيف، فاشتق الناس لهم هذا الاسم المذكور من اسم بلادهم، وهم قبائل شتى كبجيلة وسواها، يستعدون للوصول هذه البلدة المبالاكة قبل حلولها بعشرة أيام، فيجتمعون بين النية في العمرة وميرة البلد بضروب من الأطعمة كالحنطة وسائر الحبوب اللوبياء مادونها، ويجلبون السمن والسعل والزبيب واللوز. فتجمع ميرتهم بين الطعام والإدام والفاكهة. ويصلون في آلاف من العدد رجالاً وجمالاً موقرة بجميع ماذكر. فيرغدون معايس أهل البلد والمجاورين فيه يتقوتون ويدخرون، وترخص الأسعار، وتعم المرافق. فيعد منها الناس مايكفيهم لعامهم ميرة اخرى. ولولا هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش. ومن العجب في أمر هؤلاء المائرين أنهم لايبيعون من جميع ماذكرناه بدينار ولا بدرهم، إنما يبيونه بالخرق والعباءات والشمل، فأهل مكة يعدون لهم من ذلك مع الأقنعة والملاحف المتان وما أشبه ذلك مما يلبسه الأعراق ويبايعونهم به ويشارونهم. ويذكر أنهم متى اقاموا عن هذه الميرة ببلادهم تجب ويقع الموتان في مواشيهم وانعامهم، وبوصولهم بها تخصب بلادهم وتقع البركة أموالهم فمتى في قرب الوقت ووقعت منهم بعض غفلة في التأهب للخروج اجتمع نساؤهم فأخرجنهم. وكل هذا لطف من الله تع لحرمه البلد الأمين.


وبلادهم على ماذكر لنا خصيبة متسعة كثير التين والعنب واسعة المحرث وافرة الغلات، وقد اعتقدوا اعتقاداً صحيحاً أن البركة كلها في هذه الميرة التي يجلبونها، فهم من ذلك في تجارة رابحة مع الله عز وجل.
والقوم عرب صرحاء فصحاء جفاة أصحاء، لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية ولاسددت مقاصدهم السنن الشرعية، فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية، فهم اذا طافوا بالكعبة المقدسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الام المشفقة لائذين بجوارها متعلقين بأستارها فحيثما علقت أأيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها، وفي اثناء ذلك تصدع لسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب وتتفجر لها الأعين والجوامد فتصوب. فترى الناس حولهم باسطي ايديهم مؤمنين على أدعيتهم متلقنين لها من السنتهم، على أنهم طول مقامهم لايتمكن منهم طواف ولا يوجد سبيل استلام الحجر.


واذا فتح الباب الكريم فهم الداخلون بسلام، فتراهم في محاولة دخولهم يتسللون كأنهم بعض ببعض مرتبطون، يتصل منهم على هذه الصفة الثلاثون والأربعون أزيد من ذلك، والسلاسل منهم يتبع بعضهم بعضاً، وربما انفصمت بواحد منهم، يميل عن المطلع المبالاك البيت الكريم. فيقع الكل لوقوعه، فيشاهد الناظر لذلك مرأى يؤدي الضحك.


وأما صلاتهم فلم يذكر في مضحكات الأعراب أظرف منها، وذلك أنهم يستبلون البيت الكريم فيسجدون دون ركوع وينقرون بالسجود نقراً، ومنهم من يسجد السجدة الواحدة ومنهم من يسجد الثنتين والثلاث والابع ثم يرفعون رؤوسهم من الأرض قليلاً وأيدهم مبسوطة عليها، ويلتفتون يميناً وشمالاً التفات المروع ثم يسلمون أو يقومون دون تسليم ولا جلوس للتشهد، وربما تكلموا في أثناء ذلك، وربما رفع أحدهم رأسه من سجوده صاحبه وصاح به ووصاه بما شاء ثم عاد سجوده، غير ذلك من أحوالهم الغريبة.


ولا ملبس لهم سوى أزر وسخة أو جلود يستترون بها. وهم مع ذلك أهل بأس ونجدة، لهم القسي العربية الكبار كأنها في القطانين لاتفارقهم في أسفارهم، فمتى رحلوا الزيارة هاب أعراب الطريق الممسكون للحاج مقدمهم وتجنبوا اعتراضهم وخلوا لهم عن الطريق. ويصحبهم الحجاج الزائرون فيحمدون صحبتهم. وعلى ماوصفنا من أحوالهم فهم أهل اعتقاد للإيمان صحيح، وذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ذكرهم واثنى عليهم خيراً، وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء. وكفى بأن دخلوا في عموم قوله، صلى الله عليه وسلم، : الإيمان يمان غير ذلك من الأحاديث الواردة في اليمن واهله.وذكر أن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، كان يحترم وقت طوافهم ويتحرى الدخول في جملتهم تبركاً بأدعيتهم. فشأنهم عجيب كله.


وشاهدنا منهم صبياً في الحجر قد جلس احد الحجاج يعلمه فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. فكان يقول له: قل هو الله أحد فيقول الصبي: هو الله أحد فيعيد عليه المعلم، فيقول له: ألم تأمرني بأن أقول: هو الله أحد؟ قد قلت. فكابد في تلقينه مشقة، وبعد لأي ماعلقت بلسانه. وكان يقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، فيقول الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله. فيعيد عليه المعلم، ويقول له: لاتقل: والحمد لله انما قل: الحمد لله فيقول الصبي: اذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم، أقول: والحمد لله، للاتصال، واذا لم أقل بسم الله، وبدأبت قلت: الحمد لله، فعجبنا من أمره ومن معرفته طبعاً بصلة الكلام وفصله دون تعلم.


وأما فصاحتهم فبديعة جداً، ودعاؤهم كثير التخشيع للنفوس، والله يصلح أحوالهم وأحوال جميع عباده بمنه.

عودة العمرة

والعمرة في هذا الشهر كله متصلة ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساء، لكن المجتمع كله انما كان في الليلة الاولى، وهي ليلة الموسم عندهم. والبيت الكريم يفتح كل يوم من هذا الشهر المبارك. فاذا كان يوم التاسع والعشرون منه افرد للنساء خاصة، فيظهر للنساء بمكة في ذلك اليوم احتفال عظيم، فهو عندهم يوم زينتهم المشهور المستعد له.
وفي يوم الخميس الخامس عشر من الشهر المذكور شاهدنا من الاحتفال للعمرة قريباً من المشهد الأول المذكور في أوله، فكان لايبقى أحد من الرجال والنساء الاخرج لها. وبالجملة فالشهر المبارك كله معمور بأنواع العبادات من العمرة وسواها، ويختص أوله ونصفه من ذلك بخط متميز، وكذلك السابع والعشرون منه.
وفي عشي يوم الخميس المذكور كنا جلوساً بالحجر المكرم فما راعنا الا الامير مكثر طالعاً محرماً قد وصل من ميقات العمرة تبركاً بذلك اليوم وجرياً فيه على الرسم وابناؤه وراءه محرمين وقد حف به بعض خاصته. وبادر المؤذن الزمزمي للحين سطح قبة زمزم داعياً على عامته ومتناوباً في ذلك مع أخيه صغيره. وحانت صلاة العشاء مع فراغ الأمير من طوافه فصلى الله عليه وسلم خلف الامام الشافعي وخرج المسعى المبارك.
وفي يوم الجمعة السادس عشر منه خرجت قافلة كبيرة من الحاج في نحو اربع مئة جمل مع الشريف الداودي زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وفي جمادى الثانية قبله كانت ايضاً زيارة اخرى لبعض الحجاج في قافلة اصغر من هذه المذكورة. وبقيت الزيارة الشوالية والتي مع الحاج العراقي اثر الوقفة، إن شاء الله عز وجل. وفي التاسع عشر من شعبان كان انصراف هذه القافلة الكبيرة في كنف السلامة، والحمد لله.

عمرة الأكمة

وفي ليلة الثلاثاء السابع والعشرين منه. اعني من رجب، ظهر لاهل مكة أيضاً احتفال عظيم في الخروج العمرة لم يقصر عن الاحتفال الأول، فانجفل الجميع اليها، تلك الليلة، رجالاً ونساء على الصفات والهيئات المتقدمة الذكر تبركاً بفضل هذه الليلة لأنها من الليالي الشهيرة الفضل. فكانت مع صبيحتها عجباً في الاحتفال وحسن المنظر، جعل الله ذلك كله خالصاً لوجهة الكريم. وهذه العمرة يسمونها عمرة الأكمة، لأنهم يحرمون فيها من اكمة إمام مسجد عائشة، رضي الله عنها، بمقدار غلوة، وهي على مقربة من المسجد المنسوب لعلي، عليه السلام.
والأصل في هذه العمرة الاكمية عندهم أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشياً حافياً معتمراً واهل مكة معه فانتهى تلك الأكمة فأحرم منها، وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وجعل طريقه على ثنية الحجون المفضية المعلى التي كان دخول المسلمين يوم فتح لمكة منها، وحسبما تقدم ذكره. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة في ذلك اليوم بعينه وعلى تلك الأكمة بعينها.
وكان يوم عبد الله، رضي الله عنه، مذكوراً مشهوراً، لأنه أهدى فيه كذا وكذا بدنة، عدداً لم تتحصل صحته، فكنت أثبته، لكنه بالجملة كثير.


ولم يبق من أشراف مكة وذوي الاستطاعة فيها الا من اهدى، وأقام أهلها أياماً يطمعون ويطعمون ويتنعمون شكراً لله، عز وجل، على ماوهبهم من المعونة والتيسير في بناء بيته الحرام على الصفة التي كان عليها مدة الخليل ابراهيم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فنقضها الحجاج، لعنه الله وأعادها على ما كانت عليه مدة قريش، لأنهم كانوا اقتصروا في بنائه عن قواعد ابراهيم، صلى الله عليه وسلم، وابقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ذلك على حالة لحدثان عهدهم بالكفر، حسبما ثبت في رواية عائشة، رضى الله عنها، في موطإ مالك بن أنس، رضي الله عنه.

يوم طواف النساء

وفي اليوم التاسع والعشرين منه، وهو يوم الخميس، أفرد البيت للناس خاصة، فاجتمعن من كل أوب. وقد تقدم احتفالن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة، ولم تبق إمرأة بمكة إلا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم. فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم، على العادة، وأسرعوا في الخروج منه وافرجوا للنساء عنه. وأفرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر ولم يبق حول البيت المبارك أحد من الرجال تبادر النساء الصعود، حتى كاد الشيبيون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم، وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن، فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة، وظهر من تزاحمهن ماظهر من السرو اليمنيين مدة مقامهم بمكة وصعودهم يوم فتح بيت المقدس، وأشبهت الحال الحال، وتمادين على ذلك صدراً من النهار، وانفسحن في الطواف والحجر، وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان. وكان ذلك اليوم عندهن الأكبر، ويومهن الأزهر الأشهر، نفعهن الله به وجعله خالصاً لكريم وجهه. وبالجملة فهن مع الرجال مسكينات مفبونات يرين البيت الكريم ولا يلجنه ويلحظن الحجر المبارك ولا يستلمنه. فحظهن من ذلك كله النظر والأسف المستطير المستشعر. فليس لهن سوى الطواف على البعد، وهذا اليوم الذي هو من عام عام فهن يرتقبنه ارتقاب أشراف الأعياد ويكثرن له من التأهب والاستعداد، والله ينفعهن في ذلك، بحسن النية والاعتقاد، بمنه وكرمه.

غسيل البيت بماء زمزم

وفي اليوم الثاني منه بكر الشيبيون غسله بماء زمزم المبارك بسبب أن كثيراً من النساء أدخلن أبناءهن الصغار والرضع معهن، فيتحرى غسله تكريماً وتنزيهاً وازالة لما يحيك في النفوس من هواجس الظنون فيمن ليست له ملكة عقلية تمنعه من أن تصدر عنه حادثة نجس في ذلك الموطن الكريم والمحل المخصوص بالتقديس، والتعظيم، فعند انسياب الماء عنه كان كثير من الرجال والنساء يبادرون اليه تبركاً بغسل أوجههم وأيديهم فيه، وربما جمعوا منه في أوان قد اعدوها لذلك ولم يراعوا العلة التي غسل لها. وكان منهم من توقف عن ذلك، وربما لخظ الحال لحظة من لايستجيزها ولا يصوب العقل في ذلك. وما ظنك بماء زمزم المبارك قد صب داخل بيت الله الحرام وماج في جنبات أركانه الكرام ثم انصب ابازاء الملتزم والركن الأسود المستلم، أليس جديراً بأن تتلقاه الافواه فضلاً عن الأيدي، وتغمس فيه الوجوه فضلاً عن الأقدام؟ وحاشا لله أن تعرض في ذلك علة تمنع منه وشبهة من شبهات الظنون تدفع عنه، والنيات عند الله تع مقبولة، والمثابرة على تعظيم حرماته برضاه موصولة، وهو المجازي على الضمائر وخفيات السرائر، لا اله سواه.

شهر شبعبان المكرم

استهل هلاله ليلة السبت التاسع عشر لشهر نونبر. وفي صبيحته بكر الأمير مكثر الطواف على العادة في ذلك رأس كل شهر مع أخيه وبنيه ومن جرى الرسم بأستصحابه من القواد والأشياع والأتباع، وعلى الأسلوب المتقدم الذكر، والزمزمي يصرخ في مرقبته على عادته متناوباً مع أخيه صغيره.


وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر منه، وهو أول يوم من دجنبر، بعد طلوع الفجر، كسف القمر، وبدأ الكسوف والناس في صلاة الصبح في الحرم الشريف، وغاب مكسوفاً، وانتهى الكسوف ثلثه، والله يعرفنا حقيقة ألاعتبار بآياته.

زيادة ماء زمزم

وفي يوم الجمعة الثاني من ذلك اليوم أصبح بالحرم أمر عجيب وذلك أنه لم يبق بمكة صبي الا وصبحه واجتمعوا كلهم في قبة زمزم، وينادون بلسان واحد: هللوا وكبروا ياعباد الله، فيهلل الناس ويكبرون. وربما دخل معهم من عرض العامة من ينادي معهم بندائهم. والناس والنساء يزدحمون على قبة البئر المباركة لأنهم يزعمون، بل يقطعون قطعاً جهلياً لاقطعاً عقلياً، أن ماء زمزم يفيض ليلة النصف من شعبان. وكانوا على ظن من هلال الشهر، لأنه قيل: أنه رؤس ليلة الجمعة في جهة اليمن. فبكر الناس القبة، وكان فيها من الازدحام مالم يعهد مثله، ومقصد التنور يستقون ويفيضون على رؤوس الناس الماء بالدلاء قذفاً، فمنهم من يصيبه في وجهه ومنهم من يصيبه في رأسه غير ذلك. وربما تمادى لشدة نفوذه من أيديهم، والناس مع ذلك يستزيدون ويبكون، والنساء من جهة اخرى يساجلنهم بالبكاء ويطارحنهم بالدعاء، والصبيان يضجون بالتهليل والتكبير، فكان مرأى هلائلاً مسموعاً رائعاً، لم يتخلص للطائفين بسببه طواف ولا للمصلين صلاة لعلو تلك تلك الأصوات وانشعال الأسماع والأذهان بها. ودخل القبة المذكورة أحدنا ذلك اليوم فكابد من لز الزحام عنتاً ومشقة، فسمع الناس يقولون: زاد الماء سبع اذرع. فجعل يقصد من يتوسم فيه بعض عقل ونظر من ذوي السبال البيض فيسأله عن ذلك، فيقول وأدمعه تسيل: نعم زاد الماء سبع أذرع، لا شك في ذلك، فيقول: أعن خبرة وحقيقة؟ فيقول: نعم.


ومن العجيب أن كان منهم من قال: أنه بكر سحر يوم الجمعة المذكور فالفى الماء قد قارب التنور بنحو القامة. فيا عجباً لهذا الاختراع الكاذب، نعوذ بالله من الفتنة! وكان من الأتفاق أن اعتنينا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التي سمعناها في ذلك واستمرارها مع سوالف الأزمنة عند عوام أهل مكة. فتوجه منا ليلة الجمعة من أدلى دلوه في البئر المباركة أن ضرب في صفح الماء وانتهى الحبل حافة التنور وعقد فيه عقداً يصح عندنا القياس به في ذلك. فلما كان في صبيحتها وتنادى الناس بالزيادة، الزيادة الظاهرة، خلص أحدنا في ذلك الزحام على صعوبة ومعه من استصحب الدلو وأدلاه فوجد القياس على حاله لم نيقص ولم يزد، بل كان من العجب أن عاد للقياس ليلة السبت فألفاه قد نقص يسيراً لكثرة ما امتاح الناس منه ذلك اليوم. فلو امتيح من البحر لظهر النقص فيه، فسبحان من خص به من البركة ووضع فيه من المنفعة.

وفي صبيحة يوم السبت الخامس عشر منه تتبعنا هذا القياس استبراء لصحة الحال فوجدناه على ماكان عليه، ولو أن لافظاً يلفظ ذلك اليوم بأنه لم يزد لصب في البئر صباً أول لدراسته الاقدام حتى تذيبه، نعوذ بالله من غلبات العوام، واعتدائها وركوبها جوامح أهوائها.

ليلة النصف من شعبان

وهذه الليلة المبالاكة، أعني ليلة النصف من شعبان، عند أهل مكة معظمه للأثر الكريم الوارد فيها، يبادرون فيها أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفراداً وجماعة، فينقسمون في ذلك اقاساماً مباركة، فشاهدنا ليلة السبت، التي هي ليلة النصف حقيقة، احتفالاً عظيماً في الحرم المقدس أثر صلاة العتمة، جعل الناس يصلون فيها جماعات جماعات، تراويح يقرأون فيها بفاتحة الكتاب ويقل هو الله أحد، عشر مرات في كل ركة أن يكملوا خمسن تسليمة بمئة ركعة، قد قدمت كل جماعة اماماً، وبسطت الحصر وأوقدت الشمع واشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نوره على الأرض وبسط شعاعه. فتلاقت الأنوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته، فيا لك مرأى لايتخيله المتخيل ولا يتوهمه المتوهم! فأقام الناس تلك الليلة على أقسام: فطائفة التزمت تلك التراويح مع الجماعة وكانت سبع جماعات أو ثمانياً، وطائفة التزمت الحجر المبارك للصلاة على انفراد، وطائفة خرجت للاعتمار؛ وطائفة آثرت الطواف على هذا كله، أغلبها المالكية، فكانت من الليالي الشهيرة المأمولة أن تكون من غرر القربات ومحاسنها، نفع الله به ولا أخلى من بركتها وفضلها وأوصل هذه المثابة المقدسة كل شيق اليها بمنه.


وفي تلك الليلة المباركة شاهد أحمد بن حسان منا أمراً عجيباً هو من غرائب الأحاديث المأثورات في رقة النفوس وذلك أنه أصابه النوم عند الثلث الباقي من الليل، فأوى المصطبة التي تحف بها قبة زمزم مما يقابل الحجر الأسود وباب البيت فاستلقى فيها لينام فاذا بإنسان من العجم قد جلس على المصطبة بإزائه مما يلي رأسه. فجعل يقرأ بتشويق وترقيق، ويتبع ذلك بزفير وشهيق، أحسن قراءة واوقعها في النفوس وأشدها تحريكاً للساكن، فامتنع المذكور من المنام استمتاعاً بحسن ذلك المسموع وما فيه من التشويق والتخشع، أن قطع القراءة وجعل يقول:

 

ان كان سوء الفعال أبعدني،

 

فحسن ظني اليك قربنـي

 

ويردد ذلك بلحن يتصدع له الجماد وينشق عليه الفؤاد. ومضى في ترديد ذلك البيت ودموعه تكف وصوته ترق وتضعف أن وقع في نفس أحمد بن حسان المذكور أنه سيغشى عليه؛ فما كان بين اعتراض هذا الخاطر بنفسه وبين وقوع الرجل مغشيا عليه من المصطبة الارض الا كلا ولا، وبقي ملقى كأنه لقى لاحراك به. فقام ابن حسان مذعوراً لهول ماعاينه متردداً في حياة الرجل أو موته لشدة تلك الوجبة، والموضع من الارض بائن الاتفاع، وقام أحد من كان بازائه نائماً، وأفاما متحيرين ولم يقدما على تحريك الرجل ولا على الدنومنه أن اجازت امرأة أعجمية، وقالت: هكذا تتركون هذا الرجل على مثل هذا الحال؟ وبادرت شيء من ماء فنضحت به وجهه، ودنا المذكوران منه وأقاماه فعندما أبصرهما زوى وجهه للحين عنهما مخافة أن تثبت له صفة في أعينهما وقام من فوره آخذاً جهة باب بني شيبة. وبقيا متعجبين مما شاهداه، وعض ابن حسان بنان الأسف على مافاته من بركة دعائه اذا لم يمكنه الحال استدعاءه منه، وعلى أنه لم تثبت له صورة في نفسه، فكان يتبرك به متى لقيه.
ومقامات هؤلاء الأعاجم في رقة الأنفس وتأثرها وسرعة انفعالها وشدة مجاهداتها في العبادات وطول مثابراتها على أفعال البر وظهور بركاتها مقامات عجيبة شريفة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر من الشهر المذكور كسف القمر وانتهى الكسوف منه مقدار ثلثيه، وغاب مكسوفاً عند طلوع الشمس، والله يلهمنا الاعتبار بآياته.

رمضان المعظم

استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر، عرفنا الله فضله وحقه ورزقنا القبول فيه. وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور لموافقته مذهبة ومذهب شيعته العلويين ومن اليهم، لانهم يرون صيام يوم الشك فرضاً، حسبما يذكر، والله أعلم بذلك.


ووقع الاحتفال في المسجد الحرام الهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً؛ فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماماً لها في ناحية من نواحي المسجد؛ والحنبلية كذلك؛ والحنفية كذلك، والزيدية، وأما المالكية فأجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العالم أحفل جمعاً وأكثر شمعاً، لأن قوماً من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعاً كثيراً من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيها قنطار وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسنا وترتمي الأبصار نوراً، وكاد لايبقى في المسجد زاوية ولا ناحية الا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج السمجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعاً تنخلع له النفوس خشية ورقة.

ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة

في الحجر ولم يحضر التراويح، ورأى أن ذلك أفضل ما يغتنم، وأشرف عمل يلتزم، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم.

 

والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهاداً، وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل الطواف مع جماعة، فاذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة يسمعها المسجد لعلو صوتها، كأنها ايذان بالعود الصلاة، فاذا فرغوا من تسليمتين، عادوا للطواف اسبوع، فاذا كملوه ضربت الفرقعة وعادوا الصلاة تسليمتين، ثم عادوا للطواف، هكذا أن يفرغوا من عر تسليمات، فيكمل لهم عشرون ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون.

وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة، أو لهم إمام الفريضة، وأوسطم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن علي الفنكي القرطبي، وقراءته ترق الجمادات خشوعاً. وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك، وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المفرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء الآخرة. وهي لامحالة من جميلة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم، قدسه الله. والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من السمجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير. فإذا قرب تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالإذان، وثوب المؤذنون من كل ناحية بالأذان. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما علم أن الوق قد انقطع.

سيف الإسلام

وفي ليلة الثلاثاء من الشهر مع العشي طاف الأمير مكثر بالبيت مودعاً وخرج للقاء الأمير سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر أن صح وصوله الينبوع، وأنه عرج المدينة لزيارة الرسول،صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وتقدمت أثقاله الصفراء. والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية، فخرج هذا الأمير المذكور متلقياً ومسلماً، وفي الحقيقة مستسلماً، والله تع عرف المسلمين خيراً.
وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوساً بالحجر لمكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه. فبينا نحن كذلك دخل منصرفاً من لقاء الأمير سيف الاسلام المذكور وطائفاً بالبيت المركم طواف التسليم، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه، والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الاسلام الزاهر، وضرب أبنيته فيه، ومقدمته من العسكر قد وصلت الحرم، وزاحمت الأمير مكثراً في الطواف.


فبينا الناس ينظرون اليهم اذا سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة، فما راعهم الا الأمير سيف الاسلام داخلاً من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه، والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغص بالنظارة والوافدين، والأصوات بالدعاء له ولاخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الاسماع وأذهلت الاذهان؛ والزمزمي المؤذن في مرقبته رافعاً عقيرته بالدعاء له والثناء عليه؛ وأصوات الناس تعلو على صوته، والهول قد عظم مرأى ومستمعاً. فلحين دنو الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطائت الالباب مهابة وتعظيماً لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار، مؤتي الملك من يشاء، ونازع الملك ممن يشاء، سبحانه، جلت قدرته وعز سلطانه.

ثم نهافتت هذه العصابة الغزية على بيت الله العتيق تهافت الفراش على المصباح، وقد نكس أذقانهم الخضوع، وبلت سبالهم الدموع. وطاف القاضي أو زعيم الشيبيين بسيف الاسلام، والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام، فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر منزله.


وعندما أكمل سيف الاسلام طوافه صلى الله عليه وسلم خلف المقام ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا السعي، فابتدأه ماشياً على مدميه توضعاً وتذللاً لمن يجب التواضع له، والسيوف مسلوتة أمامه، وقد اصطف الناس من أول المسعى آخره سماطين مثل ماصنعوا أيضاً في الطواف، فسعى على قدميه طريقين من الصفا المروة، ومنها الصفا، وهرول بين الميلين الاخضرين، ثم قيده الاعياء فركب وأكمل السعي راكباً، وقد حشر الناس ضحى.


ثم عاد الامير السمجد الحرام على حالته من الارهاب والهيبة وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة، وقد بادر الشيبيون باب البيت المكرم ليفتحوه، ولم يكن يوم فتحه، وضم الكرسي الذي يصعد عليه، فرقي الامير فيه، وتناول زعيم الشيبيين فتح الباب، فاذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام، فوقف وفقة دهش مذعور، ووقف الامير على الادراج، فيسر الله للحين في وجود المفتاح، ففتح الباب الكريم، ودخل الامير وحده مع الشيبي وأغلق الباب، وبقي وجوه الاغزاز وأعيانهم مزدحمين على ذلك الكرسي، فبعد لأي مافتح لامرائهم المقربين فدخلوا. وتمادى مقام سيف الاسلام في البيت الكريم مدة طويلة، ثم خرج، وانفتح الباب للكافة منهم. فيا له من ازدحام وتراكم وانتظام، حتى صاروا كالعقد المستطيل وقد اتصلوا وتسللوا. فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت، حسبما تقدم وصفه. وركب الامير سيف الاسلام وخرج مضرب أبنتيه بالموضع المذكور. وكان هذا اليوم بمكة من الايام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن، فسبحان من لاينقضي ملكه ولا يبيد سلطانه، لا اله سواه. وصحب هذا الامير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناماً لطريق البر والامن فوصلوا في عافية وسلامة، والحمد لله.


وفي ضحوة يوم الخميس بعده كنا أيضاً بالحجر المكرم، فاذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف. فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الامير مكثر وغاشيته الاقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة شرب رقيق سحابي اللون قد علا كورها على رأسه كأنها سحبابة مركومة وهي مصفحة بالذهب، وتحت الحلة خلعتان من الدبيقي المرسوم البديع الصنعة، خلعها عليه الامير سيف الاسلام، فوصل بها فرحاً جذلان، والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الاسلام اشادة بتكرمته واعلاماً بمأثرة منزلته. فطاف بالبيت المكرم شكراً لله على ماوهبه من كرامة هذا الامير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه، والله يصلحه ويوفقه بمنه.


وفي يوم الجمعة وصل الامير سيف الاسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم، فدخله مع الامير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا. وتزاحم الغز للدخول تزاحماً أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسي الذي يصعد عليه فلم يغن ذلك شيئاً، وأقاموا على الازدحام في الصعود باشالة بعضهم على بعض، وداموا على هذه الحالة أن وصل الخطيب، فخرجوا لاستماع الخطبة، وأغلق الباب. وصلى الله عليه وسلم الأمير سيف الاسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية. فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب مضرب أبنيته. وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده اليمن، والله يعرف أهلها من المسلمين في مقدمة خيراً بمنه.

تراويح رمضان

وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه، وكل وتر من الليالي العشر الاواخر يختم فيها القرآن. فأولها ليلة احدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور منزله طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما. ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم ممايلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع، فاستدار بالمحراب كله. وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله. ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان. وحضر الإمام الطفل فصلى الله عليه وسلم التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام اليه رجالاً ونساءً، وهو في محرابه لايكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به.العينين، مخضوب الكفين الزندين، فلم يستطع الخلوص منبره من كثرة الزحام، فأخذخ أحد سدنة تلك الناحي ة في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسماً وأشار على الحاضرين مسلماً. وقعد بين يديه قراء، فابتدروا القراءة على لسان واحد. فلما أكملوا عشراً من القرآن، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أتوار الشمع في ايديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب، عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك، فيسكت الخطيب أن يفرغوا ثم يعود لخطبة. وتمادي فيها متصرفاً في فنون من التذكير.


وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق، كرمه الله، فحسر عن ذراعيه مشيراً اليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام فأشار اليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفض ذلك الجمع العظيم، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وان لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة اذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان.
ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع، كالقاضي وسواه، خصوا بطعام حفيل وحلوى على عادتهم في مثل هذا المجتمع. وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ماذكر.

ثم كانت ليلة خمس وعشرين، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد أبناً لذلك سنة نحو من سن الخطيب الأول المذكور. فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيماً، أحضر فيها من ثريات الشمع أربعاً مختلفات الصنعة:منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة. فصففت أمام حطيمه وتوج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل كله سرجاً ومشاعيل وشمعاً، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور. وأحضر الشمع في أتوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب، فجلل دائره الاعلى كله شمعاً، وأحدق الشمع في الأتوار به، فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللاً أيضاً بالكسوة الملونة. واحتفل الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الاول. فختم الصبي المذكور ثم برز من محرابه منبره يسحب أذيال الحفر في أثواب رائقة المنظر، فتسور منبره وأشار بالسلام على الحاضرين وأبتدأ خطبته بسكينة ولين ولسان على حالة الحياء مبين. فكأن الحال على طفولتها كانت أو قر من الاولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع.


وحضر القراء بين يديه على الرسم الاول وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة فيسكت خلال اكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن ثم يعود خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون اتوار الشمع بأيديهم ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى. فعندما يصل فصل من تذكير أو تخشيع يرفعون أصواتهم بيا رب يارب يكررونها ثلاثاً أو أربعاً، وربما جارهم في النطق بعض الحاضرين، أن فرغ من خطبة ونزل. وجرى الامام اثره على الرسم من الاطعام لمن حضر من أعيان المكان أما باستدعائهم منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك منازلهم. ثم كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الاحد، فكانت الليلة الغراء، والختمة الزهراء، والهيبة والموفورة الكهلاء، والحالة التي تمكن عند الله تع في القبول والرجاء. وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم؟ وأنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم.


ووقع النظر والاحتفال لهذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة، وأقيمت أزاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة، فاتصل منها صف كاديمسك نصف الحرم عرضاً ووصلت بالحطيم المذكور، ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات، فكانت الطبقة العليا منها خشباً مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقاً بعضها ببعض كظهر الشيهم نصب عليها الشمع، والطبقتان تحتها الواح مثقوبة ثقباً متصلاً وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها.


وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغار وتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها نقباً ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصغيرة لايزيد منها أنبوب على أنبوب في القد. وأوقدت فيها المصابيح، فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة وتشتمل نوراً، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة اتصلت الركن المذكور، وأوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة، وصففت طرة شباكها شمعاً مما يقابل البيت المككرم. وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف، على الصفة المذكورة، جللت كلها شمعاً. ونصب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم، في أتوار تناسبهاكبراً، وصفت تلك الأتوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعاً في اتوار من الصفر فجاءت كأنها دائرة نور ساطع، واحدقت بالحرم المشاعيل. وأوقد جميع ما ذكر.


وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة، وقد وضعت بيد كل منهم كرة من الخرق المشبعة سليطاً، فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات. وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربعة فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة ايقادها. فيخيل للناظر أن النار تشب من شرفة شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار. وفي اثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب على لسان واحد، فيرتج الحرم لأصواتهم. فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يعشي الأبصار شعاع تلك الأنوار، فر تقع لمحة طرف الاعلى نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر. فيتوهم المتوهم، لهول مايعاينه من ذلك، أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.


وتقدم القاضي فصلى الله عليه وسلم فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة اليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح، تعظيماً لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها.


وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق، حسبما تقدم الذكر أولاً له، فيما سلف من هذا التقيد، ووضع في محله الكريم المتخذ مصلى الله عليه وسلم مستوراً بقبته التي يصلي الناس خلفها. فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق. فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام.


فما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعاً، وأعينهم قد سالت دموعاً، والأنفس قد أشعرت من فضل القدر المشرف ذكرها في التنزيل، والله، عز وجل، لايخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها، انه كريم منان، لا اله سواه.


ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولاًن بعد هذه الليلة المذكورة،بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير، بحسب اختيار كل واحد منهم. ورسم طوافهم اثر كل تسليمتين باق على حاله، والله ولي القبول من الجميع. ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة، والمشار اليه منهم المالكي، فتقدم باعداد اعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض بدون القامة يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط، فأدير بالشمع أعلاها وأحدق اسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند أول الشهر المبارك واحدق أيضاً داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط، فكان مغظراً مختصراً ومشهداً عن احتفال المباهاة منزهاً موقراً، رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب، نصبت للشمع فيه عوضاً من الأتوار أنافي من الأحجار. فجاءت الحال غريبة في الاختصار، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار، داخله مدخل التواضع والاستصغار.
واحتفل جميع المالكية للختمة، فتناوبها أئمة التراويح، فقضوا صلاتهم سراعاً عجالاً، كاد يلتقي طرفاها خفوقاً واستعجالاً. ثم تقدم احدهم فعقد حبوته بين تلك الاثافي وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي فأرسلها معادة الاسماع نقيلاً لحنها على الطباع، ثم انفض الجمع، وقد جعد في شؤونه الدمع، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع، أطلقت عليه أيدي الانتهاب، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أويهاب. وعند الله تع في ذلك الجزاء والثواب، انه سبحانه الكريم الوهاب.


وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمداً يحق هذه النعمة وشكراً، وجعلها للمعاد لنا ذخراً، ووفانا عليها ثواباً من لديه وأجراً يرجى بفضله وكرمه، أنه لايضيع لديه ايام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطراً، إنه الحنان المنان، لارب سواه.

شهر شوال

استهل هلاله ليلة الثلاثاء السادس عشر من ينير، يمن الله مطلعه، ورزقنا بركته، وهذا الشهر المبارك هو فاتحة أشهر الحج المعلومات، وبعده تتصل ثلاثة الأشهر الحرم المباركات. وكانت ليلة استهلال هلاله من الليالي الحفيلة في المسجد الحرام، زاده الله تكريماً؛ جرى الرسم المذكور ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم، وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من الحرم، وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس.وأكثر الأئمة تلك الليلة أحيا، وأكثر الناس على مثل تلك الحال بين طواف وصلاة وتهليل وتكبير، يقبل الله من جميعهم، أنه سميع الدعاء كفيل بالرجاء سبحانه لا اله سواه.

عيد رمضان

فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر، لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام، لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مصلى الله عليه وسلم يخرج الناس اليه، رغبة في شرف البقعة وفضل بركتها وفضل صلاة الامام خلف المقام ومن يأتم به. فأول من بكر الشيبيون، وفتحوا باب الكعبة المقدسة، وأقام زعيمهم جالساً في العتبة المقدسة، وسائر الشيبيين داخل الكعبة أن أحسوا بوصول الأمير مكثر فنزلوا اليه، وتلقوه بمقربة من باب النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فانتهى البيت المكرم، وطاف حوله أسبوعاً، والناس قد احتفلوا لعيدهم، والحرم قد غص بهم، والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعاً صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوباً في ذلك مع اخيه. فلما اكمل الأمير الاسبوع عمد مصطبة قبة زمزم، مما يقابل الركن الأسود، فعقد بها، وبنوه هن يمينه ويساره، ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبيون لمكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بأبصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم من حجابته وسدانته، فسبحان من خصهم بالشرف في خدمته. وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة، فأنشدوه واحداً اثر واحد أن فرغوا من انشادهم. وفي اثناء ذلك تمكن وقت الصلاة، وكان ضحى من النهار، فأقبل القاضي الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين، والفرقعة المتقدمة ذكرها أمامه، وقد صك الحرم صوتها، وهو لابس ثياب سواده، فجاء المقام الكريم، وقام الناس للصلاة، فلما قضوها رقي المنبر، وقد ألصق موضعه المعين له كل جمعة، من جدار الكعبة المكرمة، حيث الباب الكريم شارعاً، فخطب خطبة بليغة، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر، فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره، أن فرغ من خطبته.


وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله، وبادروا البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجاً. فكان مشهداً عظيماً وجمعاً بفضل الله تعلى مرحوماً، جعله الله ذخيرة للمعاد، كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الأعياد، بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقدر عليه. وأخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركاً باحتساب الخطا اليها، والدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين من الصدر الأول وسواه، رضي الله عن جميعهم، وحشرنا في زمرتهم، ونفعنا بمحبتهم فالمرء، كما قال، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم مع من أحب.

مناسك الحج

وفي يوم السبت التاسع عشر منه، والثالث لفبرير، صعدنا منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكتري لنا فيها اعداداً لمقام بها أيام التشريق، إن شاء الله، فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحاً، مدينة عظيمة الآثار، واسعة الاختطاط، عتيقة الوضع، قد درست منازل يسيرة متخذة للنزول تحف بجانبي طريق كأنه ميدان انبساطاً وانفساحاً، ممتد الطول.


فأول مايلقى المتوجه اليها عن يساره، وبمقربة منها، مسجد البيعة المباركة، التي كانت أول بيعو في الاسلام، عقدها العباس، رضي الله عنه، للنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، على الانصار، حسب المشهر من ذلك.
ثم يفضى منه جمرة العقبة، وهي أول منى للمتوجه من مكة وعن يسار المار اليها، وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم فيها من حصى الجمرات. ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعافب الدهور وتوالي الازمنة، لكن الله، عز وجل، فيها سر كريم من اسراره الخفيات، لا اله سواه. وعليها مسجد مبارك، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم التي ذكرناها، فيجعلها الرامي عن يمينه مستقبلاً مكة، شرفها الله، ويرمي بهاسبع حصيات، وذلك يوم النحر اثر طلوع الشمس، ثم ينحر أويذبح ويحلق، والمحلق حولها، والمنحر في كل موضع من منى لأن منى كلها منحر، كما قال، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وقد حل له كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوف طواف الافاضة. وبعد هذه الجمرة العقبية موضع الجمرة الوسطى،ولها أيضاً علم منصوب، وبينهما قدر الغلوة، ثم بعدها يلقى الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى.
وفي وقت الزوال من ثاني يوم النحر ترمى في الأولى سبع حصيات، وفي الوسطى كذلك، وفي العقبة كذلك، فتلك احدى وعشرون حصاة. وفي اليوم الثالث من يوم النحر، في الوقت بعينه، كذلك على الترتيب المذكور، فتلك اثنتان واربعون حصاة في اليومين وسبع رميت في العقبة يوم النحر وقت طلوع الشمس، كما ذكرناه، وهي المحلات للحاج ماحرم عليه سوى النساء والطيب، فتلك تكملة تسع وأربعين جمرة.وفي إثر ذلك ينفصل الحاج مكة من ذلك اليوم. واختصر في هذا الزمان إحدى وعشرون كانت ترمى في اليوم الرابع على الترتيب المذكور، وذلك لاستعجال الحاج خوفاً من العرب الشعبيين غير ذلك من محذورات الفتن المغيرات لآثار السنن، فمضى العمل اليوم على تسع وأربعين حصاة، وكانت في القديم سبعين، والله يهب القبول لعباده.
والصادر من عرفات منى أول مايلقى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. وفي يوم النحر تكون جمرة العقبة أولى منفردة بسبع حصيات، حسبما تقدم ذكره، ولا يشترك معها سواها في ذلك اليوم، ثم في اليومين بعده ترجع الآخرة على الترتيب حسبما وصفناه، بحول الله عز وجل. وبعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيراً ويلقى منحر الذبيح، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.حيث فدي بالذبح العظيم. وعلى الموضع المبارك مسجد مبني، وهو بمقربة من سفح ثبير. وفي موضع المنحر المذكور حجر قد الصق بالجدار المبني فيه أثر قدم صغيرة، يقال: إنه أثر قدم الذبيح، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، عند تحركه،فلان الحجر له بقدرة الله، عز وجل، إشفاقاً وحناناً فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله.


ويفضى من ذلك مسجد الخيف المبارك، وهو آخر منى في توجهك، أعني من المعمورة منها بالبنيان. وأما الآثار القديمة فآخذة أبعد غاية أمام المسجد. وهذا المسجد المبارك متسع الساحة كأكبر ما يكون من الجوامع.والصومعة وسط رحبة المسجد. وله في القبلة أربعة بلاطات يشملها سقف واحد.


وهو من المساجد الشهيرة بركة وشرف بقعة. وكفى بما ورد في الأثر الكريم من أن بقعته الطاهرة مذفن كثير من الأنبياء، صلوات الله عليهم.


وبمقربة منه عن يمين المار في الطرق، حجر كبير مسند صفح الجبل مرتفع عن الأرض يظل ماتحته، ذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، قعد تحته مستظلاً ومس رأسه المكرم فيه فلان له حتى أثر فيه تأثيراً بقدر دور الرأس. فيبادر الناس لوضع رؤوس في ذلك الموضع تبركاً واستجارة لها بموضع مسه الرأس المكرم أن لاتمسها النار بقدرة الله، عز وجل.


فلما قضى معاينة هذه المشاهد الريمة أخذنا في الانصراف مستبشرين بما وهبنا الله من فضله في مباشرتها. ووصلنا مكة قريب الظهر، والحمد لله على مامن به.


وفي يوم الأحد بعده، وهو الموفي عشرين لشوال، صعدنا الجبل المقدس حراء وتبركنا بمشاهدة الغار في أعلاه الذي كان النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، يتعبد فيه، وهو أول موضع نزل فيه الوحي عليه، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ورزقنا شفاعته، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على سنته ومحبته، بمنه وكرمه، لا رب سواه.


وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه، وهو السادس من فبرير، اجتمع الناس كافة للاستسقاء تجاه الكعبة المعظمة بعد أن ندبهم القاضي ذلك وحرضهم على صيام ثلاثة أيام قبله. فاجتمعوا في هذا اليوم الرابع المذكور وقد أخلصوا النيات لله عز وجل، وبكر السيبيون ففتحوا الباب المكرم من البيت مقابم الخليل ابراهيم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وعلى نبينا، ووضع على عتبة باب البيت المكرم، واخرج مصحف عثمان، رضي الله عنه، من خزانته، ونشر بازاء المقام المطهر، فكانت دفته الواحدة عليه والثانية على الباب الكريم. ثم نودي في الناس بالصلاة جامعة، فصلى الله عليه وسلم القاضي بهم خلف موضع المقام المتخذ مصلى الله عليه وسلم ركعتين، قرأ في إحداهما بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بالغاشية، ثم صعد المنبر، وقد الصق موضعه المعهود من جدار الكعبة المقدسة، فخطب خطبة بليغة و فيها الاستغفار ووعظ الناس وذكرهم وخشعهم وحضهم على التوبة والإنابة لله عز وجل، حتى نزفت دمعها العيون رداءه، وحول الناس أرديتهم اتباعاً للسنة.
ثم انفض الجميع راجين رحمة الله عز وجل غير قانين منها، والله يتلافى عباده بلطفه وكرمه. وتمادى استسقاؤه بالناس ثلاثة أيام متوالية، على الصفة المذكورة، وقد نال الجهد من أهل الحجاز وأضر بهم القحط وأهلك مواشهيم الجدب، لم يمطروا في الربيع ولا الخريف ولا الشتاء إلا مطراً طلا غير كاف ولا شاف، والله عز وجل لطيف بعباده، غير مؤاخذهم بجرائمهم، إنه الحنان المنان، لارب سواه. وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال صعدنا جبل ثور لمعاينة الغار المبارك الذي أولى اليه النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، مع صاحبه الصديق، رضي الله عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته أولاً في هذا التقييد. وولجناه من الموضع الذي يعسر الولوج منه على البعض من الناس تبركاً بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارك، قدسه الله؛ لأن مدخل النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، كان منه. وكان لأحد الصاعدين إليه ذلك اليوم من المصريين موقف خجله وفضيحة، وذلك أنه رام الولوج فيه على ذلك الموضع الضيق فلم يقدر بحيلة وعاود ذلك مراراً فلم يستطع حتى استوقف الناس ما عاينوه من ذلك وبكوا له إشفاقاً ولجأوا الله عز وجل في الدعاء، فلم يغن ذلك شيئاً، وكان فيهم من هو اضخم منه فيسر الله عليه. وطال تعجب الناس منه واعتبارهم.
وأعلمنا بعد انفصالنا في ذلك اليوم بأن هذا الموقف المخجل وقع لثلاثة أناس في ذلك اليوم بعينه، عصمنا الله من مواقف الفضيحة في الدنيا والآخرة.


وهذا الجبل صعب المرتقى جداً، يقطع الأنفاس تقطيعاً، لايكاد يبلغ منتهاه إلا وقد ألقى بالأيدي إعياء وكلالاً. وهو من مكة على مقدار ثلاثة أميال، وعلى ذلك القدر هو جبل حراء منها، والله تع لايخلينا من بركة هذه المشاهد بمنه وكرمه.


وطول الغار ثمانية عشر شبراً، وسعته أحد عشر شبراً في الوسط منه، وفي حافتيه ثلثا شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع مدخله خمسة أشبار أيضاً، لأن له بابين، حسبما ذكرناه أولاً.
وفي يوم الجمعة بعده وصل السرو اليمنيون في عدد كثير مؤملين زيارة قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وجلبوا ميرة مكة على عادتهم، فاشتبشر الناس بقدومهم استبشاراً كبيراً، حتى إنهم أقاموه عوض نزول المطر، ولطائف الله لسكان حرمه الشريف واسعة، إنه سبحانه لطيف بعباده لا إله سواه.

شهر ذي القعدة

استهل هلاله لية الأربعاء، بموافقة الرابع عشر من شهر فبرير، بشهادة ثبتت عند القاضي في رؤيته. وأما الاكثر الاغلب من أخل المسجد الحرام فلم يبصروا شيئاً، وطال ارتفاعهم إثر صلاة المغرب، وكان منهم من يتخيله فيشير إليه فإذا حققه تلاشى عنده نظره وكذب خبره، والله أعلم بصحة ذلك.


وهذا الشهر المبارك ثاني الاشهر الحرم وثاني اشهر الحج، أطلع الله هلاله على المسلمين بالامن والايمان والغفرة والرضوان، بعزته ورحمته.

مسجد مولد النبي

وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه دخلنا مولد النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وهو مسجد حفيل البنيان، وكان داراً لعبد الله بن عبد المطلب، أبي النبي، صفة صهريج صغير سعته ثلاثة أشبار وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر مطوقة بالفضة فتكون سعتها مع الفضة المتصلة بها شبراً. ومسحنا الخدود في تلك الموضع المقدس الذي هو مسقط لأكرم مولود على الأرض وممس لأطهر سلالة وأشرفها، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. وبازائه محراب حفيل القرنصة، مرسومة طرته بالذهب. وقد تقدم الوصف لهذا كله.


وهذا الموضع المبارك هو شرقي بالكعبة متصل بصفح الجبل. ويشرف عليه بمقربة منه جبل أبي قبيس، وعلى مقربة منه أيضاً مسجد، عليه مكتوب: هذا المسجد هو مولد علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه؛ وفيه تربى رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وكان داراً لأبي طالب عم النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وكافله.

دار خديجة، رضوان الله عليها

ودخلت أيضاً في اليوم المذكور دار خديجة الكبرى، رضوان الله عليها، وفيها قبة الوحي، وفيها أيضاً مولد فاطمة، رضي الله عنها. وهو بيت صغير مائل للطول. والمولد شبه صهريج صغير وفي وسطه حجر أسود. وفي البيت المذكور مولد الحسن والحسين ابنيها، رضي الله عنهما، ومسقط شلو الحسن ولاصق بمسقط شلو الحسين وعليهما حجران مائلان السواد كأنهما علامتان للمولدين المباركين الكريمين. ومسحنا الخدود في هذه المساقط المكرمة المخصوصة بمس بشرات المواليد الكرام، رضوان الله عليهم. وفي الدار المكرمة أيضاً مختبأ النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، شبيه القبة، وفيه مقعد في الأرض عميق شبيه الحفرة داخل في الجدار قليلاً وقد خرج عليه من الجدار حجر مبسوط كأنه يظل المقعد المذكور، قيل: إنه كان الحجر الذي كان غطى النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، عند اختبائه في الموضع المذكور، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. وعلى كل واحد من هذه الموالد المذكورة قبة خشب صغيرة تصون الموضع غير ثابتة فيه. فاذا جاء المبصر لها نحاها ولمس الموضع الكريم وتبرك به ثم أعادها عليه.


وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر المذكور نفذ أمر الأمير مكثر بالقبض على زعيم الشيبيين محمد بن اسماعيل وانتهاب منزله ومصرفه عن حجابة البيت الحرام، طهره الله، وذلك لهنات نسبت اليه لاتليق بمن نيطت به سدانة البيت العتيق: ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم، أعاذنا الله من سوء القضاء، ونفوذ سهام الدعاء، بمنه.


وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور تو مجيء السرويين اليمنين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الإدام والفواكه اليابسة فأرغدوا البلد؛ ولولاهم لكان من اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد ومشقة، فهم رحمة لهذا البلد الامين. ثم توجهوا الزيارة المباركة، التربة المباركة، طيبة مدفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ووصلوا في أسرع مدة، قطعوا الطريق من مكة المدينة في يسير أيام، ومن صحبهم من الحاج حمد صحبتهم. وفي اثناء مغيبهم وصلت طوائف أخر منهم للحج خاصة لضيق الوقت عن الزيارة فأقاموا بمكة، ووصل الزوار منهم فضاق بهم المتسع.


فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من الشهر المذكور فتح البيت العتيق، وتولى فتحه من الشيبيين ابن عم الشيبي المعزول، وهو أمثل طريقة منه على ما يذكر. فازدحم السرو للدخول على العادة، فجاموا بأمر لم يعهد فيما سلف، يصعدون أفواجاً حتى يغص الباب الكريم بها فلا يستطيعون تقدماً ولا تأخراً أن يلجوا على أعظم مشقة ثم يسرعون الخروج، فيضيق الباب الكريم بهم، فتتحدر الفوج منهم على المصعد وفوج أخرى صاعدة فيلتقيان وقد ارتبط بعضهم بعض، فربما جمل المنحدرون في صدور الصاعدين، وربما وقف الصاعدون للمنحدرين وتضاغطوا أن يميلوا فيقع البعض على البعض. فيعاين النظارة منهم مرأى هلائلاً: فمنهم سليم، وغير سليم، وأكثرهم انما ينحدرون وثباً على الرؤوس والأعناق.


ومن أعجب ماشاهدناه في يوم الاثنين المذكور أن صعد بعض من الشيبيين أثناء ذل الزحام يرومون الدخول البيت الكريم فبلم يقدروا على التخلص فتعلقوا بأستار حافتي عضادتي الباب ثم إن أحدهم تمسك بإحدى الشرائط القنبية الممسكة للأستار أن علا الرؤوس والأعناق فوطئها ودخل البيت، فلم يجد موطئاً لقدمه سواها لشدة تراصهم وتراكمهم وانضمام بعضهم بعض. وهذا الجمع الذي وصل منهم في هذا العام لم يعهد قط مثله فيما سلف من الأعوام، ولله القدرة المعجزة، لااله سواه.


وفي هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة نحو قامة ونصف من الجدر من الجوانب الأربعة، ويسمعون ذلك احراماً لها، فيقولون: أحرمت الكعبة. وبهذا جرت العادة دائماً في الوقت المذكور من الشهر. ولاتفتح من حين أحرامها الا بعد الوقفة.


فكأن ذلك التشمير ايذان بالتشمير للسفر وايذان بقرب وقت وداعها المنتظر، لاجعله الله آخر وداع، وقضى لنا اليها بالعودة وتيسير سبيل الاستطاعة بعزته وقدرته.


وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين قبل هذا اليوم المذكور كان دخولنا البيت الكريم على حال اختلاس وانتهاز فرصة أوجدت بعض فرجة من الزحام، فدخلناه دخول وداع اذا لايتمكن دخوله بعد ذلك لترادف الناس عليه ولاسيما الا عاجم الواصلون مع الأمير العراقي، فإنهم يظهرون من التهافت عليه والبدار إليه والازدحام فيه ماينسي أحوال السرو اليمنيين لفظاظتهم وغلظتهم، فلا يتمكن لاحد منهم النظر فضلاً عن غير ذلكن والله عز وجل لايجعله آخر العهد ببيته الكريم ويرزقنا العود ايه على خير وعافية بمنه ولطيف صنعه. وفي يوم احرام الكعبة المذكور اقلعت من موضع المقام المقدس القبة الخشبية التي كانت عليه ووضعت عوضها قبة الحديد اعداداً للاعاجم المذكورين، لانها لو لم تكن حديداً لاكلوها اكلاً فضلاً عن غير ذلك، لماهم عليه من صحة النفوس شوقاً هذه المشاهد المقدسة وتطارحهم بأجرامهم عليها، والله ينفعهم بنياتهم، بمنه وكرمه.


وفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور جاء زعيم الشيبيين المعزول يتهادى بين بنيه زهواً واعجاباً ومفتاح الكعبة المقدسة بيده قد أعيد اليه، ففتح الباب الكريم وصعد مع بنيه السطح المبارك الأعلى بأمراس من القنب غليظة يوثقونها في أوتاد الحديد المضروبة في السطح ويرسلونها الأرض فيربط فيها شبيه محمل من العود ويجلس فيه أحد سدنة البيت من الشيبيين، فيصعد به على بكرة معدة لذلك في أعلى السطح المذكور، فيتولى خياطة مامزقته الريح من الأستار، فسألنا عن كيفية صرف هذا الشيبي المعزول خطته على صحة الهنات المنسوبة اليه، فأعلمنا أنه صودر عليها بخمس مئة دينار مكية استقرضها ودفعها. فطال التعجب من ذلك والاعتبار، وتحققنا أن إظهار القبض عليه لم يكن غيرة ولا أنفة على حرمات الله المنتهكة على يديه، مع كونها في خطة دونها الخلافة رفعة، والحال تشبه بعضها بعضاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، و الله المشتكى من فساد ظهر حنتى في اشراف بقاع الارض، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.