ذكر مسجد رسول الله وذكر روضته المقدسة

المسجد المبارك مستطيل، وتحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به، ووسطه كله صحن مفروش بالرمال والحصى، فالجهة القبلية منها لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب شرق، والجهة الجوفية لها أيضاً خمس بلاطات على الصفة المذكورة، والجهة الشرقيةب لها ثلاث بلاطات، والجهة الغربية لها أربع بلاطات.
والروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية بما يلي الشرق؛ وانتظمت من بلاطاته ممايلي الصحن في السعة اثنين ونيفت البلاط الثالث بمقدار أربعة أشبار، ولها خمسة أركان بخمس صفحات، وشكلها شكل عجيب، لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله، والصفحات، وشكلها شكل عجيب، لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله، والصفحات الأربع محرفة من القبلة تحريفاً بديعاً، لايتأتى لأحد معه استقبالها في صلاته لأنه ينحرف عن القبلة.


وأخبرنا الشيخ الإمام العالم الورع، فقية العلماء، وعمدة الفقهاء، أبو ابراهيم اسحاق بن ابراهيم التونسي، رضي الله عنه، أن عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، اخترع ذلك في تدبير بنائها مخافة أن يتخذها الناس مصلى الله عليه وسلم. وأخذت أيضاً من الجهة الشرقية سعة بلاطين فانتظم داخلها من أعمدة الأبلطة ستة.وسعة الصفحة القبلية منها أربعة وعشرون شبراً، وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبراً، ومابين الركن الشرقي الركن الجوفي صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبراً. ومن الركن الجوفي الغربي صفحة سعتها أربعة وعشرون شبراً.
وفي هذه الصفحة صندوق آبنوس، مختم بالصندل، مصفح بالفضة، مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وطوله خمسة أشبار، وعرضه ثلاثة أشبار، وأرتفاعه أربعة أشبار. وفي الصفحة التي بين الركن الجوفي والركن الغربي موضع عليه ستر مسبل، يقال: إنه كان مهبط جبريل، عليه السلام. فجميع سعة الروضة المكرمةمن جميع جهاتها مئتا شبر واثنان وسبعون شبراً.


وهي مؤزرة بالرخام البديع النحت الراشع النعت. وينتهي الإزار منها نحو الثلث أو أقبل يسيراً، وعليه من الجدار المكرم ثلث آخر، وقد علاه تضميخ المسك والطيب بمقدار نصف شبر، مسوداً، مشققاً، متراكماً مع طول الأزمنة والأيام. ولاذي يعلوه من الجدار شبابيك عود متصلة بالسمك الأعلى، لأن أعلى الروضة المباركة متصل بسمك المسجد، و حيز إزار الرخام تنتهي الأستار، وهي لازوردية اللون، مختمة بخواتيم بيض مثمنة ومربعة. وفي داخل الخواتيم دوائر مستديرة ونقط بيض تحف بها، فمنظرها منظر بديع الشكل. وفي اعلاها رسم مائل البياض. وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، مسمار فضة، هو أمام الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام.و قدميه، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، رأس أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ورأس عمر الفاروق مما يلي كتفي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما فيقف المسلم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم، فيسلم ثم ينصرف يميناً وجه أبي بكر، ثم وجه عمر، رضي الله عنهما. وأمام هذه الصفحة المكرمة نحو العشرين قنديلاً معلقة من الفضة، وفيها اثنان من ذهب. وفي جوفي الروضة المقدسة حوض صغير مرخم،في قبلته شكل محراب، قيل: إنه كان بيت فاطمة، رضي الله عنها، ويقال: هو قبرها، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وعن يمين الروضة المكرمة المنبر الكريم، ومنه اليها اثنتان وأربعون خطوة، وهو في الحوض المبارك الذي طوله أربع عشر خطوة، وعرضه ست خطاً، وهو مرخم كله، وارتفاعه شبر ونصف، وبينه وبين الروضة الصغيرة، التي بين القبر الكريم والمنبر، وفيها جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة، ثماني خطوات.
وفي هذه الروضة بتزاحم الناس للصلاة، وحق لهم ذلك. وبإزائها لجهة القبلة عمود، يقال: إنه مطبق على بقية الجذع الذي حن للنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق. وارتفاع النبر الكريم نحو القامة او أزيد، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة، وطوله أربعة أشبار ونصف شبر.


والمنبر مغشى بعود الآبنوس، ومقعد الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، من أعلاه ظاهر قد طبق عليه بلوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من العقود عليه، فيدخل الناس أيديهم اليه ويتمسحون به تبركاً بلمس ذلك المقعد الكريم.وعلى رأس رجل المنبر اليمني، حيث يضع الخطيب يده اذا خطب، حلقة فضة مجوفة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في اصبعه صفة لاصغراً لأنها أكبر منها، لاعبة تستدير في موضعها، يزعم الناس أنها لعبة الحسن والحسين، رضي الله عنهما، في حال خطبة جدهما، صلوات الله وسلامه عليه.


وطول المسجد الكريم مئة خطوة وست وتسعون خطوة، وسعته مئة وست وعشرون خطوة، وعدد سواريه مئتان وتسعون، وهي أعمدة متصلة بالسمك دون قسي تنعطف عليها، فكأنها دعائم قوائم، وهي من حجر منحوت قطعاً قطعاً ململمة مثقبة توضع أنثى في ذكر ويفرغ بينهما الرصاص المذاب أن تتصل عموداً قائماً، وتكسى بغلالة جيار، ويبالغ في صقلها ودلكها فتظهر كأنها رخام أبيض. والبلاط المتصل بالقبلة من الخمسة بلاطات المذكورة تحف به مقصورة تكتنفه طولاً من غرب شرق، والمحراب فيها. ويصلي الإمام في الروضعة الصغيرة المذكورة جانب الصندوق، وبينهما وبين الروضة والقبر المقدس محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في غشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان، رضي الله عنه، البلاد. وبإزاء المقصورة جهة الشرق خزانتان كبيرتان محتويتان على كتب ومصاحف موقوفة على المسجد المبارك.

ويليهما في البلاط الثاني لجهة الشرق أيضاً دفة مطبقة على وجه الأرض مقفلة هي على سرداب يهبط اليه على ادراج تحت الأرض يفضي خارج المسجد دار أبي بكر الصيدق، رضي الله عنه، وهو كان طريق عائشة اليها. وبإزائها دار عمر بن الخطاب، ودار ابنه عبد الله، رضي الله عنهما: ولاشك أن ذلك الموضع هو موضع الخوخة المفضية لدار أبي بكر التي أمر النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، بإبقائها خاصة.


وأمام الروضة المقدسة أيضاً صندوق كبير هو للشمع والأنوار التي توقد أمام الروضة كل ليلة. وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السدنة الحارسين للمسجد المبارك، وسدنته فتيان أحابيش وصقالب ظراف الهيئات نظاف الملابس والشارات، والمؤذن الراتب فيه أحد أولاد بلال، رضي الله عنه. وفي جهة جوف الصحن قبة كبيرة محدثة جديدة تعرف بقبة الزيت هي مخزن لجميع آلات المسجد المبارك ومايحتاج اليه فيه. وبإزائها في الصحن خمسة عشر نحلة. وعلى رأس المحراب، الذي في جدار القبة داخل المقصورة، حجر مربع أصفر قدر شبر في شبر، ظاهر البريق والبصيص، يقال: إنه كان مرآة كسرى، والله أعلم بذلك. وفي أعلاه داخل المحراب مسمار مثبت في جداره فيه شبه حق صغير لايعرف من أي شيء هو، ويزعم أيضاً أنه كان كأس كسرى، والله أعلم بحقيقة ذلك كله.


ونصف جدار القبلة الأسفل رخام، موضوع إزاراً على إزار، مختلف الصنعة واللون، مجزع أبدع تجزيع. والنصف الأعلى من الجدار منزل كله بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، قد انتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير أشجار مختلفات الصفات مائلة الأغصان بثمرها. والمسجد كله على تلك الصفة، لكن الصنعة في جدار القبلة احفل. والجدار الناظر الصحن من جهة القبلة كذلك، ومن جهة الجوف أيضاً. والغربي والشرقي الناظران الصحن مجردان أبيضان ومقرنصان قد زبنا برسم بتضمن أنواعاً من الأصبغة، مايطول وصفه وذكره من الاحتفال في هذا المسجد المبالاك المحتوي على التربة الطاهرة المقدسة، وموضعها أشرف، ومحلها أرفع من كل ماتزين به.


وللمسجد المبارك تسعة عشر باباً، لم يبق منها مفتحاً سوى أربعة في الغرب: منها اثنان، يعرف أحدهما بباب الرحمة، والثاني بباب الخشية، وفي الشرق اثنان: يعرف أحدهما بباب جبريل، عليه السلام، والثاني بباب الرجاء ويقابل باب جبريل، عليه السلام، دار عثمان، رضي الله عنه، وهي التي استشهد بها. ويقابل الروضة المكرمة، من هذه الجهة الشرقية، روضة جمال الدين الموصلي، رحمه الله، المشهور خبره وأثره، وقد تقدم ذكر مآثره.
وأمام الروضة المكرمة شباك حديد مفتوح روضة، تنسم منها روحاً وريحاناً. وفي القبلة باب صغير واحد مغلق، وفي الجوف أربعة مغلقة، وفي الغرب خمسة مغلقة أيضاً، وفي الشرق خمسة أيضاً مغلقة؛ فكملت بالأربعة المفتوحة تسعة عشر باباً. وللمسجد المبارك ثلاث صوامع: :إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة، والأثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع.

ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد

فأول مانذكر من ذلك مسجد حمزة، رضي الله عنه، وهو بقبلي الجبل المذكور، والجبل جوفي المدينة، وهو على مقدار ثلاثة أميال. وعلى قبره، رضي الله عنه، مسجد مبني. والقبر برحبة جوفي المسجد، والشهداء، رضي الله عنهم،بإزائه، والغار الذي أوى اليه النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم،بإزاء الشهداء أسفل الجبل. وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب حمزة ويتبرك الناس بها. وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج اليه على باب يعرف بباب البقيع، وأول ماتلقى عن يسارك عند خروجك، من الباب المذكور، مشهد صفية عمة النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أم الزبير بن العوام، رضي الله عنه، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني، رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء. وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وعليه قبة بيضاء. وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شحمة، وهو الذي جلده أبوه الحد، فمرض ومات، رضي الله عنهما. وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن جعفر الطيار، رضي الله عنه. وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي، رضي الله عنهما، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة، وأجمل منظر. على هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت لايه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين، رضي الله عنه، وعليه قبة الصغيرة مختصرة. وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم علي، رضي اله عنها وعن بنيها.


ومشاهد هذا البقيع أكثر من ان تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ماضم قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها وعن بنيها.
وقباء قبلي المدينة، ومنها اليها نحو الميلين. وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرمة. والطريق اليها بين حدائق النخل المتصلة. والمخيل محدق بالمدينة من جهاتها، وأعظمها جهة الغرب. والمسجد المؤس على التقوى بقباء مجدد، وهو مربع مستوى الطول والعرض، وفيه مئذنة طويلة بيضاء تظهر على بعد، وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وعليه حلق قصير شبه روضة صغيرة يتبرك الناس بالصلاة فيه. وفي صحنه، ممايلي القبلة، شبه محراب على مصطبة، هو أول موضع ركع فيه النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وفي قبلته محاريب وله باب واحد من جهة الغرب، وهو سبعة بلاطات في الطول، ومثلها في العرض.


وفي قبلة المسجد دار لبني النجار، وهي دار أبي أيوب الأنصاري. وفي الغرب من المسجد رحبة فيها بئر، وبإزائها على الشفير حجر متسع شبيه البيلة يتوضأ الناس فيه. ويلي دار بني النجار دار عائشةن رضي الله عنها، وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر، رضي الله عنهم، وبإزائها بئر أريس حيث تفل النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فعاد ماؤها عذباً بعدما كان أجاجاً وفيه وقع خاتمه من يد عثمان، رضي الله عنه، والحديق مشهور.


وفي آخر القرية تل مشرف يعرف بعرفات، يدخل اليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة. وسمي ذلك التل عرفات لأنه كان موقف النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، يوم عرفة، ومنه زويت له الأرض فأبصر الناس في عرفات. وآثار هذه القرية المكرمة ومشاهدها كثيرة لاتحصى.
وللمدينة المكرمة أربعة أبواب، وهي تحت سورين، في كل سور باب يقابله آخر، الواحد منها كله حديد، ويعرف باسمه باب الحديد؛ ويليه باب الشريعة ثم باب القبلة، وهو مغلق؛ ثم باب البقيع، وقد تقدم ذكره. وقبل وصولك سور المدينة من جهة الغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق الشهير ذكره الذي صنع النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، عند تحزب الأحزاب. وبينه وبين المدينة، عن يمين الطريق، العين المنسوبة للنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وعليها حلق عظيم مستطيل؛ ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل. وتحته سقابتان مستطيلتان باستطالة الحلق. وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض المذكور بجدار، فحصل الحوض محدقاً بجدارين. وهو يمد السقايتين المذكورتين، ويهبط إليهما على أدراج عددها نحو الخمسة والعشرين درجاً. وماء هذه العين المباركة يعم أهل الأرض فضلاً عن أهل المدينة، فهي لتطهر الناس واستقائهم وغسل أثوابهم. والحوض المذكور لا يتناول فيه غير الاستقاء خاصة صوناً له ومحافظة عليه. ومبقربة منه، مما يلي المدينة، قبة حجر الزيت، يقال: إن الزيت رشح للنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، من ذلك الحجر. ولجهة الجوف منه بئر بضاعة، وبإزائها لجهة اليسار جبل الشيطان حيث صرخ، لعنة الله، يوم أحد، حين قال: قتل نبيكم.
وعلى شفير الخندق المذكور حصن يعرف بحصن العزاب، وهو خرب، قيل: إن عمر، رضي الله عنه، بناه لعزاب المدينة. وأمامه، لجهة الغرب على البعد، بئر رومة التي اشترى نصفها عثمان، رضي الله عنه، بعشرين ألفاً. وفي طريق أحد مسجد علي، رضي الله عنه، ومسجد سلمان، رضي الله عنه، ومسجد الفتح الذي أنزلت فيه على النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، سورة الفتح.


وللمدينة المكرمة سقاية ثالثة داخل باب الحديد يهبط اليها على ادراج وماؤها معين. وهي بمقربة من الحرم الكريم. وبقبلي هذا الحرم المكرم دار امام دار الهجرة مالك بن أنس، رضي الله عنه. يطيف بالحرم كله شارع مبلط بالحجر المنحوت المفروش. فهذاذكر ماتمكن على الاستعجال من آثار المدينة المكرمة ومشاهدها على جهة الاقتضاب والاختصار، والله ولي التوفيق.

الخاتون بنت الأمير مسعود

ومن عجيب ماشاهدناه من الأمور البديعة الداخلة مدخل السمعة والشهرة، أن احدى الخواتين المذكورات، وهي بنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها وذكر أبيها، وصلت عشي يوم الخميس السادس لمحرم، ورابع يوم وصولنا المدينة، مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، راكبة في قبتها، وحولها قباب كرائمها وخدمها، والقراء أمامها، والفتيان والصقالب بأيديهم مقامع الحديد يطوفون حولها، ويدفعون الناس أمامها، أن وصلت باب المسجد المكرم، فنزلت تحت ملحفة مبسوطة عليها، ومشت أن سلمت على النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، والخول أمامها، والخدام يرفعون أصواتهم بالدعاء لها، إشادة بذكرها، ثم وصلت الروضة الصغيرة التي بين القبر الكريم والمنبر فصلت فيها تحت الملحفة، والناس يتزاحمون عليها، والقامع تدفعهم عنها. ثم صلت في الحوض بازاء المنبر، ثم مشت الصفحة الغربية من الروضة المكرمة فقعدت في الموضع الذي يقال: انه كان مهبط جبريل، عليه السلام، وأرخي الستر عليها، واقام فتيانها وصقالبها وحجابها على رأسها خلف الستر تأمرهم بأمرها، واستجلبت معها المسجد حملين من المتاع للصدقة. فما زالت في موضعها الليل.

وعظ رئيس العلماء

وقد وقع الإيذان بوصول صدر الدين رئيس الشافعية الأصبهاني الذي ورث النباهة والوجاهة في العلم كابراً عن كابر لعقد مجلس وعظ تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة السابع من المحرم. فتأخر وصوله هدء من الليل والحرم قد غص بالمنتظرين، والخاتون جالسة موضعها. وكان سبب تأخره تأخر أمير الحاج لأنه كان على عدة من وصوله، أن وصل ووصل الأمير، وقد أعد لرئيس العلماء المذكور وهو يعرف بهذا الاسم، توارثه عن أب فأب، كرسي بأزاء الروضة المقدسة، فصعده، وحضر قراؤه أمامه، فابتدروا القراءة بنغمات عجيبة وتلاحين مطربة مشجية، وهو يلحظ الروضة المقدسة فيعلن بالبكاء ثم أخذ في خطبة من انشائه سحرية البيان، ثم سلك في أساليب من الوعظ باللسانين، وأنشد أبياتاً يديعة من قوله، منها هذا البيت، وكان يردده في كل فصل من ذكره، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، يشير الروضة:

 

هاتيك روضته تفوح نسيماً

 

صلوا عليه وسلموا تسليماً

 

واعتذر من التقصير لهول ذلك المقام، وقال: عجباً للأكن الأعجم كيف ينطق عند أفصح العرب! وتمادى في وعظه أن أطار النفوس خشية ورقة، وتهافتت عليه الأعاجم معلنين التوبة، وقد طاشت البابهم، وذهلت عقولهم، فيلقون نواصيهم بين يديه، فيستدعي جلمين ويجزها ناصية ناصية، ويكسو عمامته المجزوز الناصية، فيوضع عليه للحين عمامة أخرى من أحد قرائه أو جلسائه ممن قد عرف منزعه الكريم في ذلك، فبادر بعمامته لاستجلاب الغرض النفيس لمكارمه الشهيرة عندهم، فلا زال يخلع واحدة بعد أخرى، أن خلع منها عدة وجزا نواصي كثيرة، ثم ختم مجلسه بأن قال: معشر الحاضرين، قد تكلمت لكم ليلة بحرم الله عز وجل، وهذه الليلة بحرم رسوله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ولابد للواعظ من كدية، وأنا أسألكم حاجة أن ضمنتموها لي أوقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس كلهم بالإسعاف، وشهيقهم قد، فقال: حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم، وتبسطوا أيديكم، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عني، ويسترضي الله عز وجل لي. ثم أخذ في تعداد ذنوبه والاعتراف بها، فأطار الناس سمائهم، وبسطوا أيديهم للنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، داعين له، باكين متضرعين، فما رأيت ليلة أكثر دموعاً، ولا أعظم خشوعاً، من تلك الليلة، ثم انفض المجلس وانفض الأمير وانفضت الخاتون من موضعها. وعند وصول صدر الدين المذكور، أزبل الستر علنها وبقيت بين خدمها وكرائمها متلفعة في ردائها فعاينا من أمرها في الشهرة الملوكية عجباً.


وأمر هذا الرجل صدر الذين عجيب في قعدده وأبهته، وملوكيته، وفخامة آلته، وبهاء حالته، وظاهر مكنته ووفور عدته، وكثرة عبيده وخدمته، واحتفال حاشيته وغاشيته، فهو من ذلك على حال يقصر عنها الملوك. وله مضرب كالتاج العظيم في الهواء، مفتح على أبواب على هيئة غريبة الوضع، بديعة الصنعة والشكل، تطل على المحلة من بعد، فتبصره سامياً في الهواء. وشأن هذا الرجل العظيم لا يستوعبه الوصف؛ شاهدنا مجلسه فرأينا رجلاً يذوب طلاقة وبشراً، ويخف للزائر كرامة وبراً، على عظيم حرمته وفخامة بنيته، وهو أعطي البسطتين علماً وجسماً، استجزناه فأجازنا نثراً ونظماً. وهو أعظم من شاهدنا يهذه الجهات.


وفي يوم الجمعة المذكور، وهو السابع من محرم، شاهدنا من أمور البدعة أمراً ينادى له الإسلام: يالله يا للمسلمين. وذلك أن الخطيب وصل للخطبة، فصعد منبر النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وهو، على ما يذكر، على مذهب غير مرضي، ضد الشيخ الإمام العجمي الملازم صلاة الفريضة في المسجد المكرم. فذلك على طريقة من الخير والورع، لائقة بأمام مثل ذلك الموضع الكريم. فلما أذن المؤذنون قام هذا الخطيب المذكور للخطبة، وقد تقدمته الرايتان السوداوان وقد ركزنا بجانبي المنبر الكريم، فقام بينهما، فلما فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في السرعة، وابتدر الجمع مردة من الجذمة يخترقون الصفوف، ويتخطون الرقاب، كدية على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق، فمنهم من يطرح الثوب النفيس، ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها، وقد أعدها لذلك، ومنهم من يخلغ عمامته فينبذها، ومنهم من يتجرد عن برده فيلقي به، ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب، ومنهم من يمد يده بالدينار ولا دينارين غير ذلك، ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه، ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيبن في أثناء هذه الحال كلها، جالس على النبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على النار بلحظات يكرها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة، أن كاد الوقت ينقضي، والصلاة تفوت، وقد ضج من له دين وصحة من الناس، وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء، فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم أمامه، فلما أرضاه قام وأكمل الخطبة وصلى الله عليه وسلم بالناس. وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين، يائسين من فلاح الدنيا متحققين أشراط الآخرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد!  وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة، فيا له وداعاً عجباً ذهلت له النفوس ارتياعاً حتى طارت شعاعاً، واستشرت به النفوس التياعاً حتى ذابت انصداعاً! وما ظنك بموقف يناجي بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الأفئدة، وتطيش به الألباب الثابتة المتئدة، فوا أسفاه واأسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بداً من فراقه، فما يستطيع الصبر سبيلاً، ولا تسمع في هول ذلك المقام إلا رنة وعويلاً، وكل بلسان الحال ينشد:

محبتي تقتضي مقامـي

 

وحالتي تقتضي الرحيلا

بو أنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة، وجعله شفيعاً لنا يوم القيامة واحلنا من فضله في جواره دار المقامة، برحمته انه غفور رحيم، جوا كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام، أو لها يوم الاثنين وآخرها يوم الجمعة.

من المدينة العراق

وفي ضحوة يوم السبت الثامن لمحرم المذكور، والحادي والعشرين من شهر أبريل، كن رحيلنا من المدينة المكرمة العراق، قرب الله لنا المرام وسهل علينا السبيل. واستصحبنا منها الماء لثلاثة أيام، فنزلنا يوم الاثنين، ثالث يوم رحيلنا المذكور، بوادي العروس، فتزود الناس منها الماء، يحفرون عليه في الأرض بئراً فينبع منها ماء عذب معين يروي الأمة التي لا يحصى لها عدد من هذه المحلة مع جمالها التي تنيف على عددها، ولله القدرة سبحانه.


وصعدنا من وادي العروس أرض نجد، وخلفنا تهامة وراءنا، ومشينا في بسيطة من الأرض ينحسر الطرف دون أدناها ولا يبلغ مداها، وتنسمنا نسيم نجد وهواءها المضروب به المثل، فانتعشت النفوس والأجسا ببرد نسيمه وصحة هوائه. ونزلنا يوم الثلاثاء، رابع يوم رحيلنا، على ماء يعرف بماء العسيلة. ثم نزلنا يوم الأربعاء، خامس يوم رحيلنا، بموضع يعرف بالنقرة، وفيها آبار وصانع كالصهريج العظام، وجدنا أحدها مملوءاً بماء المطر، فعم جميع المحلة ولم ينضب على كثرة المحلة واستماحها.


وصفة مراحل هذا الأمير بالحاج أن يسري من نصف الليل ضحية، ثم ينزل أول الظهر، ثم يرحل وينزل مع العشاء الآخرة. ثم يقوم نصف الليل؛ هذا دأبه.


ونزلنا ليلة الخميس الثالث عشر لمحرم، وسادس يوم رحيلنا، على ماء يعرف بالقرورة، وهي مصانع مملوءة بماء المطر. وهذا الموضع هو وسط أرض نجد. وما أرى أن في المعمور أرضاً أفسح بسيطاً، ولا أوسع أنفاً، ولا أطيب نسيماً ولا أصح هواء، ولا أمد استواء، ولا أصفى جواً، ولا أنقى تربة، ولا أنعش للنفوس والأبدان، ولا أحسن اعتدالاً، في كل الأزمان، من أرض نجد. ووصف محاسنها يطول والقول فيها يتسع.


وفي يوم الخميس المذكور، مع ضحوة النهار، نزلنا بالحاجر، والماء فيه في مصانع، وربما حفروا عليه حفراً قريبة العمق يسمونها أحفاراً، واحدها حفر. وكنا نتخوف في هذا الطريق قلة الماء، لاسيما مع عظم هذا الجمع الأنامي والأنعامي، الذين لو وردو البحر لأنزفوه واستقوه، فأنزل الله من سحب رحمته ما أعاد الغيطان غدراناً، وأجرى المسول سيولاً، وصير الوهاد مملوءة عهاداً. فكنا نبصر مذانب الماء سائحة على وجه الأرض فضلاً من الله ونعمة، ولطفاً من الله بعباده ورحمة، والحمد لله على ذلك. وفي اليوم المذكور أجزنا بالحاجر واديين سيالين، وأما البرك والقرارات فلا تحصى.

وفي يوم الجمعة بعده نزلنا ضحوة النهار سميرة، وهي موضع معمور، وفي بسيطها شبه حصن يطيف به حلق كبير مسكون، والماء فيه في آبار كثيرة إلا أنها زعاق ومستنقعات وبرك، وتبايع العرب فيها مع الحاج فما أخرجوه من لحم وسمن ولبن، ووقع الناس على قرم وعيمة، فبادروا الابتياع لذلك بشقق الخام التي يستصحبونها لمشاراة الأعراب لأنهم لا يبايعونهم إلا بها. وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بالجبل المخروق، وهو جبل في بيداء من الأرض، وفي صفحة الأعلى ثقب نافذ تخترقه الرياح. ثم رحنا من ذلك الموضع وبتنا بوادي الكروش على غير ماء، ثم أرينا منه وأصبحنا على فيد يوم الأحد وهي حصن كبير مبرج مشرف في بسيط من الأرض يمتد حوله ربض يطيف به سور عتيق البنيان، وهو معمور بسكان من الأعراب، ينتعشون مع الحاج في التجارات والمبايعات وغير ذلك من المرافق، وهناك يترك الحاج بعض زادهم إعداداً للإرمال من الزاد عند انصرافهم، ولهم بها معارف يتركون أزويتهم عندهم. وهذا نصف الطريق من بغداد مكة على المدينة، شرفها الله، أو أقل يسيراً، ومنها الكوفة اثنا عشر يوماً في طريق سهلة طيبة، واليماه فيها بحمد الله موجودة في مصانع كثيرة. ودخل أمير الحاج هذا الموضع المذكور على تعبئة وأهبة ارهاباً للمجتمعين به من الأعراب لئلا يداخلهم الطمع في الحاج، فهم يلحظونهم مستشرفين مكانهم لكنهم لايجدون اليهم سبيلاً، والحمد لله. والماء بهذا الموضع كثير في آبار تمدها عيون تحت الاض، ووحد الحاج فيها مصنعاً قد اجتمع فيه الماء من المطر، فانتزف للحين، وامتلأت أيدي الحاج القرمين من أغنام العرب بالمبايعة المذكورة، فلم يبق مضرب ولا خيمة ولا ظلالة الا و جانبها كبش أو كبشان، بحسب القدرة والوجد فعم جميع المحلة غنم العرب. وكان ذلك اليوم عيداً من الأعياد، وكذلك عمتهم أيضاً جمالهم لمن أرد الابتياع منهم من الجمالين وسواهم للاستظهار على الطريق. وأما السمن والعسل واللبن فلم يبق الا من تحمل أو استعمل منها بقدر حاجته.


وأقام الناس يومهم ذلك مريحين بها ظهر يوم الاثنين بعده، ثم أسروا نصف اليل ترتيب سيرهم المذكور قبل، ونزلوا ضحوة يوم الثلاثاء الثامن عشر لمحرم، وهو أول يوم من مايه، بموضع يعرف بالأجفر، وهو مشتهر عندهم بموضع جميل وبثينة العذريين، ثم أقلعنا ظهر يوم الثلاثاء المذكور على العادة ونزلنا بالبيداء مع العشاء الآخرة، ثم أسرينا منها ونزلنا ضحوة يوم الأربعاء بزرود، وهي وهدة في بسيط من الأرض فيها رمال منهالة، وبها حلق كبير داخلة دويرات صغار هو شبيه الحصن، يعرف بهذه الجهات بالقصر. والماء بهذا الموضع في آبار غير عذبة، فنزلنا ضحوة يوم الخميس الموفي عشرين لمحرم،والثالث لمايه، يموضع يعرف بالثعلبية ولها مبنى شبه الحصن خرب لم يبق منه الا الحلق، وبإزائه مصنع كبير الدور من أوسع مايكون من الصهاريج وأعلاها، والمهبط اليه على أدراج كثيرة من ثلاث جهات، وكان يه من ماء المطر ماعم جميع المحلة. ووصل هذا الموضع جمع كثير من العرب رجالاً ونساء واتخذوا به سوقاً عظيمة حفيلة للجمال والكباش والسمن واللبن علف الإبل، فكان يوم سوق نافقة.


وبقي من هذا الموضع الكوفة من المناهل التي تعم جميع المحلة ثلاثة: أحدها زبالة، والثاني واقصة، والثالث منهل من ماء الفرات على مقربة من الكوفة. وبين هذه المناهل مياه موجودة لكنها لاتعم، وهذه الثلاثة المذكورة هي التي تعم الناس والإبل وهي التي تردها رفهاً. وفي هذا المنهل الذي للثعلبية شاهدنا من غلبة الناس على الماء أمراً هائلاً لايكاد يشاهد مثله في تغلب المدن والحصون بالقتال. وحسبك أن مات في ذلك الموضع ضغطاً بشدة الزحام وغطاً تحت الماء بالأقدام سبعة رجال بادروا لمورد الماء فحصلوا على مورد الفناء، رحمهم الله، وغفرلهم. وفي ضحوة يوم الجمعة بعده نزلنا بموضع يعرف ببركة المرجوم، وهي مصنع وقد بني له فيما يعلوه من الأرض مصب يؤدي الماء اليه على بعد واحكم ذلك احكاماً يدل على قدرة الإتساع وقوة الإستطاع. ولهذا المرجوم المذكور مشهد على قارعة الطريق وقد علا كأنه هضبة شماء، وكل مجتاز عليه لا بد أن يلقي عليه حجراً. ويقال: إن أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك، والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب. وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الأدم يبيعونها من الحاج. وكان هذا المصنع مملوءاً من ماء المطر، فغمر الناس وعمهم، والحمد لله. وهذه المصانع والرك والآبار والمنازل التي من بغداد مكة هي آثار زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه؛ انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تع كل سنة من لدن وفاتها الآن. ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها، والرضا عنها.


وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بموضع يعرف بالشقوق، وفيه مصنعان ألفيناهما مملوءين ماء عذباً صافياً. فأراق الناس مياههم، وجددوا مياهاً طيبة، واستبشروا بكثرة الماء، وجددوا شكر الله على ذلك. وأحد هذين المصنعين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لايكاد يقطعه السابح الا عن جهد ومشقة. وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين. فتنعم الناس من مائه سباحة، واغتسالاً، وتنظيف أثواب، وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر.
ومن لطائف صنع الله تع بوفده وزوار حرمه أن كنت هذه المصانع كلها عند صعود الحاج من بغداد مكة دون ماء، فأرسل الله من سحب رحمته ما أترعها ماء معداً لصدر الحاج، فضلاً من الله، ولطفاً بوفده المنقطعين إليه.
ورحنا من ذلك الموضع المذكور وبتنا بموضع يعرف بالتنانير، وكان فيه أيضاً مصنع مملوء ماء. وأسرينا منه ليلة يوم الأحد الثالث والعشرين لمحرم، واجتزنا سحراً بزبالة، وهي قرية معمورة، وفيها قصر مشيد من قصور الأعراب ومصنعان للماء وآبار، وهي من مناهل الطريق الشهيرة. ونزلنا عندما ارتفع النهار من اليوم المذكور بالهيثمين، وفيها مصنعان للماء، ولا نكاد نمو بحول الله يوماً بموضع الا والماء يوجد فيه، والشكر لله على ذلك.
وبتنا ليلة الاثنين الرابع والعشرين لمحرم المذكور على مصنع مملوء ماء، فسقى الناس بالليل واستقوا. وهذا الموضع هو دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان. ومع الصباح من يوم الاثنين المذكور صعدنا العقبة، وليست بالطويلة الكؤود، ولكن ليس بالطريق وعر غيرها، فهي شهيرة بهذا السبب. ونزلنا عند ارتفاع النهار على مصنع دون ماء وأجزنا مصانع كثيرة، ومامنها مصنع الا و جانبه قصر مبني من قصور الأعراب، والطريق كلها مصانع. ورضي الله عن التي اعتنت بسبيل وفد الله هذا الاعناء.


ثم نزلنا ضحوة يوم الثلاثاء بعده بواقصة، وهي وهدة من الأرض منفسحة فيها مصانع للماء مملوءة وقصر كبير وبإزائه أثر بناء، وهي معمورة بالأعراب، وهي آخر مناهل الطريق، وليس بعدها الكوفة منها مشهور الا مشارع ماء الفرات، ومنها الكوفة ثلاثة أيام، وبها يتلقى الحاج كثير من أهل الكوفة وهم مستجلبون إليهم الدقيق والخبز والتمر والأدم والفواكه الحاضرة في ذلك الوقت. وينهئ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة، والحمد لله عز وجل، على مامن به من التيسير والتسهيل حمداً يستوجب المزيد، وستصحب من كريم صنعه المعهود.


وبتنا ليلة الأربعاء السادس والعشرين بموضع يعرف بلورة، وفيها مصنع كبير وجده الناس مملوءاً فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل. ثم أسرينا منها، وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع يعرف بلورة، وفيها مصنع كبير وجده الناس مملوءاً فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل. ثم أسرينا منها، وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع فيه آثار بناء يعرف بالقرعاء، وفيه أيضاً مصنع ماء، وله ستة مخازن، وهي صهاريج صغار، تؤدي الماء المصانع، استقى الناس فيها وسقوا. وكثرت المصانع حتى لاتكاد الكتب تحصرها ولا تضبطها، والحمد لله على منته وسابغ نعمته. وبتنا ليلة الخميس بعده على مصنع عظيم مملوء ماء، ثم نزلنا ضحوة اليوم المذكور بمنارة تعرف بمنارة القرون، وهي منارة في بيداء من الأرض، لابناء حولها قد قامت في الأرض كأنها عمود مخروط من الآجر، وقد تداخل فيها من الخواتيم الآجرية مثمنة ومربعة أشكال بديعة. ومن غريب أمرها أنها مجللة كلها قرون غزلان مثبتة فيها، فتلوح كظهر الشيهم. وللناس فيها خبر يمنع ضعف سنده من اثباته. وعلى مقربة من هذه المنارة قصر ذو بروج مشيدة، وبإزائه مصنع عظيم وجد مملوءاً ماءً، والحمد لله على مامن به.
واجتزنا عشي يوم الخميس المذكور على العذيب، وهو وادٍ خصيب، وعليه بناء، وحوله فلاة خصيبة، فيها مسرح للعيون وفرجه. وأعلمنا أن بمقربة منه بارقاً. ووصلنا منه الرحبة، وهي مبقربة منه، وفيها بناء وعمارة، ويجري الماء فيها من عين نابعة في أعلى القرية المذكورة. وبتنا أمامها بمقدار فرسخ، ثم أسرينا ليلة الجمعة الثامن والعشرين لمحرم المذكور نصف الليل واجتزنا على القادسية، وهي قرية كبيرة، فيها حدائق من النخيل، ومشارع من ماء الفرات وأصبحنا بالنجف، وهو يظهر الكوفة كأنه حدبينها وبين الصحراء، وهو صلب من الأرض منفسح متسع، للعين فيه مراد استحسان وانشراح. ووصلنا الكوفة مع طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور، والحمد لله على ما أنعم به من السلامة.

ذكر مدينة الكوفة

هي مدينة كبيرة عتيقة البناء، قد استولى الخراب على أكثرها، فالغامر منها أكثر من العامر. ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال تضربها، وكفاك بتعاقب الأيام والليالي محيياً ومنفنياً. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها ممايلي شرقي البلد، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة، المنحوتة قطعة على عطعة، مفرغة بالرصاص، ولا قسي عليها، على الصفة التي ذكرناها في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وهي نهاية الطول، متصلة بسق السمجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض مسجداً أطول منه ولا أعلى سقفاً.
وبهذا الجامع المكرم آثار كريمة: فمنها بيت بإزاء المراب عن يمين المستقبل القبلة، يقال: انه كان مصلى الله عليه وسلم ابراهيم الخليل، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وعليه ستر أسود صوناً له، ومنه خرج الخطيب لابساً ثياب السواد الخطبة. فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه. وعلى مقربة منه، ممايلي الجانب الأيمن من القبلة، محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير، وهو محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي ذلك الموضع ضربه الشقي اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف، فالناس يصلون فيه باكين داعين. وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي، المتصل بأخر البلاط الغربي، شبيه مسجد صغير محلق عليه أيضاً بأعواد الساج، هو موضع مفار التنور الذي كان آية لنوح، عليه السلام، وفي ظهره، خارج المسجد، بيته الذي كان فيه، وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد إدريس، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد، يقال إنه منشأ السفينة. ومع آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والبيت الذي غسل فيه. ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت ابنة نوح، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.


وهذه الآثار الكريمة تلقيناها من ألسنة أشياخ من أخل البلد فاثبتناها حسبما نقلوها إلينا، والله أعلم بصحة ذلك كله.


وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه. وفي جوفي الجامع على بعد منه يسير سقاية كبيرة من ماء الفرات فيها ثلاثة أحواض كبار. وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعلي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجى ميتاً على مايذكر. ويقال: إن قبره فيه، والله أعلم بصحة ذلك. وفي هذا المشهد بناء حفيل على ماذكر لنا، لأنالم نشاهده بسبب أن وقت المقام بالكوفة ضاق عن ذلك، لأنالم نبت فيها سوى ليلة يوم السبت. وفي غدائه رحلنا ونزلنا قريب الظهر على نهر منسرب من الفرات. والفرات من الكوفة على مقدار نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي. والجانب الشرقي كله حدائق نخيل ملتفة يتصل سوادها ويمتد امتداد البصر. ورحلنا من ذلك الموضع وبتنا ليلة الأحد منسلخ محرم بمقربة من الحلة ثم جئناها يوم الأحد المذكور.

ذكر مدينة الحلة

هي مدينة كبيرة، عتيقة الوضع، مستطيلة، لم يبق من سورها الا حلق من جدار ترابي مستدير بها. وهي المدينة اأسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية. وهيو قوية العمارة، كثيرة الخلق، متصلة حدائق النخيل داخلاً وخارجاً، فديارها بين حدائق النخيل، وألفينا بها جسراً عظيماً معقوداً على مراكب كبار متصلة من الشط تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظماً وضخامة ترتبط خشب مثبتة في كلا الشطين، تدل على عظم الاستطاع والقدرة؛ أمر الخليفة بعقدة على الفرات اهتماماً بالحاج واعتناء بسبيله وكانوا قبل ذلك يعبرون في المراكب، فوجدوا هذا الجسر قد عقده الخليفة في مغيبهم، ولم يكن عند شخوصهم مكة شرفها الله.
وعبرنا الجسر ظهر يوم الأحد المذكور ونزلنا بشط الفرات علىمقدار فرسخ من البلد، وهذا النهر كاسمه فرات، هو من أعذب المياه وأخفها، وهو نهر كبير زخار، تصعد فيه السفن وتنحدر.


والطريق من الحلة بغداد أحسن طريق وأجملها، في بسائط من الأرض وعمائر، تتصل بها القرى يميناً وشمالاً. ويشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها، فمحرثها لاحد لاتساعه وانفساحه، فللعين في هذا الطريق مسرح انشراح، وللنفس مراح انبساط وانفساح، والأمن فيها متصل، بحمد الله سبحانه وتع.

شهر صفر سنة ثمانين

هلاله على الكمال من ليلة الاثنين، بموافقة الرابع عشر من مايه، استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة.


وفي ضحوة يوم الاثنين المذكور حلنا وأجزنا جسراً على نهر يسمى النيل، وهو فرع متشعب من الفرات، وكان عليه ازدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين أن انفرج ذلك الزدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين أن انفرج ذلك المزدحم وعبرنا على سلامة وعافية، والحمد لله.
ومن مدينة الحلة يتسلسل الحاج أرسالاً وأفواجاً: فمنهم المتقدم، والمتوسط، والمتأخر، لايعرج المستعجل على التغذر، ولا المتقدم على المتأخر، فحيثما شاؤوا من طريقهم نزلوا وأراحوا واستراحوا، وسكنت نفوسهم من روعة نقر الكوس الذي كانت الافئدة ترجف له بداراً للرحيل واستعجالاً للقيام، فربما كان النائم منهم يهذي بنقر الكوس فيقوم عجلاً وجلاثم يتحقق أنها من أضغاث أحلامه فيعود منامه.


ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطير المعترضة في طريقهم بغذاد، فلا تكاد تمشي ميلاً الا وتجد قنطرة علىنهر متفرع من الفرات، فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطير، وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون للطريق اعتناء من الخليفة بسبيل الحاج دون اعتراض منهم لاستنفاع بكدية أو سواها.


فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطير دفعة لما فرغوا من عبورها ولتراكمةا وقوعاً بعض على بعض.


والأمير طشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه حضرة خليفته. وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة.


وسيرة هذا الأمير بالرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة، وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة، وهو من التواضع ولين الجانب وقرب المكان على وتيرة سعيدة، نفعه الله ونفع المسلمين به. وفي عصر يوم الاثنين المذكور نزلنا بقرية تعرف بالقنطرة كثيرة الخصب، كبيرة الساحة، متدفقة جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى وأجملها، وبها قنطرة على فرع من فروع الفرات كبيرة محدودبة، يصعد اليها وينحدر عنها، فتعرف القرية بها، وتعرف أيضاً بحصن بشير. وألفينا حصاد الشعير بهذه الجهات في هذا الوقت الذي هو نصف مايه.


ورحلنا من القرية المذكورة سحر يوم الثلاثاء الثاني لصفر، فنزلنا قائلين ضحوته بقرية تعرف بالفراش، كثيرة العمارة، يشقها الماء، وحولها بسيط أخضر جميل المنظر. وقرى هذه القرية المذكورة خان كبير يحدق به جدار عال له شرفات صغار.


ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران، وهذه القرية من أحسن قرى الأرض، وأجملها منظراً، وأفسحها ساحة، وأوسعها اختطاطاً، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل. وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرف موضعها أن دجلة تسقي شرقيها، والفرات يسقي غربيها، وهي كالعروس بينهما، والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذيه النهرين الشريفين المباركين.


ومن شرف هذه القرية أيضاً أن بإزائها، لجهة الشرق منها، إيوان كسرى وأمامها بيسير مدائنه. وهذا الإيوان بناء عال في الهواء، شديد البياض، لم يبق من قصوره إلا البعض، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة، وأما المدائن فخراب، اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مرأى عجيباً. ومن فضائل هذه القرية أيضاً أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي، رضي الله عنه. فما اختصت تربتها بهذا الدفين المبارك، رضي الله عنه، إلا لفضل تربتها.


والقرية على شط دجلة، وهي تعترض بينها وبين المشهد الكريم المذكور، وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب، ويبعث النفس دائماً على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طرباً، وإن كان نازح الدار مغترباً، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور، وهو على مرحلة منها، فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونفعنا الغلة ببرد مائها،أحسنا من نفوسنا، على حال وحشة الاغتراب، دواعي من الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيهاعلى أهلٍ وسكن!

 

سقى الله باب الطاق صوب عمامةٍ

 

ورد الاوطـان كـل غــريب

 

وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مدائن كسرى حسبما ذكرناه وانتهينا صرصر وهي أخت زريران المذكورة حسناً أو قريب منها. ويمر بجانبها القبلي نهر كبير متفرع من الفرات عليه جسر معقود على مراكب تحف بها من الشط الشط سلاسل حديد عظام، على الصفة التي ذكرناها في جسر الحلة، فعبرناه وأجزنا القرية ونزلنا قائلين، وبيننا وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ.


وبهذه القرية سوق حفيلة ومسجد جامع كبير جديد. وهي من القرى التي ثملأ النفوس بهجة وحسناً. وهذان النهران الشريفان دجلة والفرات قد أغنت شره تهما عن وصفهما، وملتقاهما مابين واسط والبصرة، ومنها انصبابهما البحر، ومجراهما من الشمال الجنوب، وحسبهما ماخصهما الله به من الركة هما وأخاهما النيل، مما هو مذكور مشهور، ورحلنا من ذلك الموضع قبيل الظهر من يوم الأربعاء المذكور وجئنا بغداد قبيل العصر، والمدخل اليها على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها.

ذكر مدينة السلام بغداد

هذه المدينة العتيقة، وأن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منا الاشهير اسمها. وهي بالإضافة ماكانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب اليها كالظل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر الا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لاتصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ، هو من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن الهوى، الا أن يعصم الله منها، مخوفة. وأما أهلها فر تكاد تلقى منهم الا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الاحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن ألو جود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لايستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لايعتقدون أن الله بلاداً أو عباداً سواهم، يسحبون أذيالهم أشراً وبطراً، ولا يغيرون في ذات الله منكراً، يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار، ولا يعلمون أن فضله، بمقتضى الحديث المأثور، في النار، يتبايعون بينهم بالذهب قرضاً، ومامنهم من يحسن الله فرضاً، فلا نفقة فيها الا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولاتقع من أهل موازينها ومكاييلها على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لايبالون في ذلك بعيبن كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب. فالغريب فيهم معدوم الإرفاق، متضاعف الإنفاق، لايجد من أهلها الا من يعامله بنفاق، أو يهش اليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وانبائها، أستغفر الله الا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لاجرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تع مايحط كثيراً من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ بتكلم فيه، فالموفق فيهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة.

مجالس علم ووعظ

فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار اليه بالتقديم في العلوم الأصولية. حضرنا مجلس بالمدرسة المذكورة اثر. صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين من العلوم، من تفسير كتاب الله عز وجل، وايراد حديث رسوله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، والتكلم على معاينة. ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب، وما قصر، وتقدم وماتأخر، ودفعت اليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها أن فرغ منها.
وحان المساء فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقوراً هيناً ليناً، ظهرت فيه البركة والسكينة؛ ولم تقصر عن ارسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سميا آخر مجلسه، فإنه سرت حمياً وعظه النفوس حتى أطارتها خشوعاً، وفجرتها دموعاً، وبادر التائبون اليه سقوطاً على يده ووقوعاً، فكم ناصية جز، وكم مفصل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحز فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة، وتتغمد الجناة، وتستدام العصمة والنجاة، والله تع يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه، وانه المنعم الكريم، لا رب سواه، ولا معبود الا اياه.


وشهدنا له فيها مجلساً ثانياً اثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم مجلسه سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهز عظيم وتطريف آماق، تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسروراً بحضوره، ومتجملاً به، فأتى بأفانين من العلوم، على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد، المشتهر المآثر والمكارم، المقدم بين الأكابر والأعاظم. ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه، الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بازاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولازيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدار، فاما نظمه فرضي الطباع، مهياري الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان.
ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القراء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئاً، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فاذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات أن يتكاملوا قراءة، وقد أتو بآيات مشتبهات، لايكاد المتقد الخاطر يحصلها عدداً، أو يسميها نسقاً. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في ايراد خطبته، عجلاً مبتدراً، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه درراً، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقراً، وأتى بها على نسق القراءة لها، لامقدماًولا مؤخراً. ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ماقرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً! أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، وان هذا لهو الفضل المبين فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر! ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقاً، وذابت بها الأنفس احتراقاً، أن علا الضجيج، وتردد بشهقائه النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعياً له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع اليه، فشاهدنا هولأ يملأ النفوس انابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم تركب ثبج البحر، وتعتسف مغازات القفر الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناحجة، والحمد لله على أن من بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله.
وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل، وتطير اليه الرقاع، فيجاوب أسرع من طرفة عين. وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا اله سواه. ثم شاهدنا مجلساً ثانياً له، بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر، بباب بدر في ساحة قصور الخليفة، ومناظره مشرفة عليه. وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة، رخص بالوصول اليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة فيدخلون ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر.وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد المنبر، وأرخى طيلسانه عن رأسه توااضعاً لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاءوا، وأطربوا ما أرادوا. وبدرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من القراءة، وقد احصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب أن أكملها، وكانت الآية الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس فتمادى على هذا السين وحسن أي تحسين، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته، وكنى عنها بالستر الأشرف، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ، كل ذلك بديهة لاروية؛ ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها العيون، وابدت النفوس سر شوقها المكنون وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لاتملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولاتجد للصبر سبيلاً.


ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجداً، ويعود موضعها النسيبي زهداً. وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام:

 

أين فؤادي أذابه الوجـد

 

وأين قلبي فما صحا بعد

ياسعد زدني بذكـرهـم

 

بالله قل لي فديت ياسعد

 

ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيهن والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، أن خاف الإفحام، فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشاً عجلاًن وقد أطار القلوب وجلا، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر.


فمن معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب. فياله من مشهد ماأهول مرآه، وما أسعد من رآه! نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته، بمنه وفضله.

وفي أول مجلسه أنشد قصيداً نير القبس، عراقي النفس، في الخليفةن أو له:

في شغلٍ من الغرامِ شاغـل

 

من هاجه البرق بسفح عاقل

 

يقول فيه عند ذكر الخليفة:

 

ياكلمات الله كوني عوذة

 

من العيون للإمام الكامل

 

ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طرباً، ثم أخذ في شأنه وتمادى في ايراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلماً في الدنيا يعطي من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده لا اله غيره.


وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه، بالإضافة ماعهدناه من متكلمي الغرب. وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة، شرفها الله، مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد، فصغرت، بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ، في نفوسنا قدراً، ولم نستطب لها ذكراً. وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدين، وهيهات! الفتيان كثير، والمثل بمالك يسير! ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه.


وحضرنا له مجلساً ثالثاً، يوم السبت الثالث عشر لصفر، بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي، فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجباً، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحباً، وأسال من أدمعهم وايلا سكباً، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتاً من النسيب شوقاً زهدياً وطرباً، أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والهاً مكتئباً، وغادر الكل متندماً على نفسه منتحباً، لهفاف ينادي: ياحسرنا واحرابا، والمنادون يدورون بنننحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ماصحا، فسبحان من خلفه عبرة لأولي الألباب، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب، لااله سواه. هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي، ودجلة بينهما فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب والستولى عليه، وكان المعمور أولاً. وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يصلى الله عليه وسلم فيا الجمعة، فأكبرها القرية، وهو التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر، فحملته دجلة بمدها السيلي، فعاد الناس بعبرون ابا ولزرق، والزوارق فيها لا تحصى كثرة، فالناس ليلا ونهاراً من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالاً ونساء. والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دور الخليفة والآخر فوقه لكثرة الناس. والعبور في الزوارق لا ينقطع منها.
ثم الكرخ، وهي مدينة مسورة.


ثم محلة باب البصرة، وهي أيضاً مدينة، وبها جامع المنصور، رحمه الله، وهو جامع كبير عتيق البنيان حفيله.
ثم الشارع، وهي ايضاً مدينة، فهذه الأربع أكبر المحلات.

وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون احوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون اليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل اليه من دجلة.


وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها، كالوسيطة، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات. ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضاً في دجلة.

ومن أسماء المحلات العتابية، وبها تصنع الثياب العتابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان.

ومنها الحربية، وهي أعلاها، وليس وراءها الا القرى الخارجة عن بغداد أسماء يطول ذكرها.

وباحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء. وفي الطريق باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متسع السنام، عليه مكتوب: هذا قبر عون ومعين، من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر، رضي الله عنهما، مشاهد كثيرة ممن لم تحضرنا تسميته من الأولياء والصالحين والسلف الكريم، رضي الله عن جميعهم.

وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بازاء محلة الرصافة، وبالرصافة كان باب الطاق المشهور على الشط، وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، وبه تعرف المحلة. وبالقرب من تلك المحلة قبر الإمام احمد بن حنبل، رضي الله عنه، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي، رحمه الله، وقبر الحسين بن منصور الحلاج. وببغداد من قبور الصالحين كثير، رضي الله عنهم. وبالغربية هي البساتين والحدائق، ومنها تجلب الفواكه الشرقية.