دار الخلافة

واما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة، وكفاها بذلك شرفاً واحتفالاً ! ودور الخليفة مع آخرها، وهي تقع منها في نحو الربع أو أزيد، لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلون اعتقالاً جميلاً لايخرجون ولايظهرون، ولهم المرتبات القائمة بهم. وللخليفة من تلك الديار جزء كبير،قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائقة والبساتين الأنيقة. وليس له اليوم وزير انما له خديم يعرف بنائب الوزراة، يحضر الديوان المحتوي على أموال الخلافة وبين يديه الكتب فينفذ الأمور؛ وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على سائر الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية، يعرف بالصاحب مجد الدين استاذ الدار، هذا لقبه، ويدعى له إثر الدعاء للخليفة، وهو قلماً يظهر للعامة اشتغالاً بما هو بسبيله من أمور تلك الديار وحراستها والتكفل بمغالقها وتفقدها ليلاً ونهاراً. ورونق هذا الملك انما هو على الفتيان والأحابش المجابيب، منهم فتى اسمه خالص، وهو قائد العسكرية كلها، أبصرناه خارجاً أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم، وحوله نحو خمسين سيفاً مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به فشاهدنا من أمره عجباً في الدهر، وله القصور والمناظر على دجلة.

وقد يظهر الخليفة في بعض الأحيان بدجلة راكباً في زرورق. وقد يصيد في بعض الأوقات في البرية، وظهوره على حالة اختصار تعمية لأمره على العامة، فلا يزدادأمره مع تلك التعمية الا اشتهاراً. وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة ويؤثر التحبب لهم، وهو ميمون النقيبة عندهم قد استسعدوا بأيامه رخاء وعدلاً وطيب عيش فالكبير والصغير منهم داعٍ له.

أبصرنا هذا الخليفة المذكور، وهو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء بنور الله محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف، ويتصل نسبه أبي الفضل جعفر المقتدر بالله، السلف فوقه من أجداده الخلفاء، رضوان الله عليهم بالجانب الغربي أمام منظرته به وقد انحدر عنها صاعداً في الزورق قصره بأعلى الجانب الشرقي على الشط، وهو في فتاء من سنه، اشقر اللحية صغيرها كما اجتمع بها وجهه، حسن الشكل، جميل المنظر، أبيض اللون، معتدل القامة، رائق الرواء، سنه نحو الخمس وعشرين سنة، لابساً ثوباً أبيض شبه القباء برسوم ذهب فيه، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس مما هو كالفنك وأشرف، متعمداً بذلك ذي الأتراك تعمية لشأنه، لكن الشمس لاتخفى وأن سترت، وذلك عشية يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين، وأبصرناه أيضاً عشي يوم الاحد بعده متطلعاً من منظرته المذكورة بالشط الغربي، وكنا نسكن بمقربة منها.


والشرقية حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب، تشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم الا الله تع الذي أحصى كل شيء عدداً. وبها من الجوامع ثلاثة، كل يجتمع فيها: جامع الخليفة متصل بداره، وهو جامع كبير، وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة، مرافق الوضوء والطهور؛ وجامع السلطان، وهو خارج البلد، ويتصل به قصور تنسب للسلطان أيضاً المعروف بشاه شاه، وكان مدبر أمر أجداد هذا الخليفة، وكان يسكن هنالك، فابتنى الجامع أمام مسكنه؛ وجامع الرصافة، وهو على الجانب الشرقي المذكور، وبينه وبين جامع هذا السلطان المذكور مسافة نحو الميل، والرصافة تربة الخلفاء العباسيين، رحمهم الله. فجميع جوامع البلد ببغداد المجع فيها أحد عشر.

الحمامات والمساجد والمدارس

وأما حماماتها فلا تحصى عدةً، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام اسود صقيل. وحمامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم، لأن شأنه عجيب، يجلب من عين بين البصرة والكوفة، وقد أنبط الله ماء هذه العين ليتولد منه القار، فهو يصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف ويجلب وقد انعقد، فسبحان خالق مايشاء لا اله سواه.


وأما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير فضلا عن الاحصاء.


والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة الا وهي يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية وهي التي ابتناها نظام الملك، وجددت سنة أربع وخمس مئة. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير الفقهاء المدرسين بها، ويجرون بها على الطلبة مايقوم بهم، ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد، فرحم الله واضعها الأول ورحم من تبع ذلك السنن الصالح.

أبواب الشرقية الأربعة

وللشرقية أربعة أبواب: فأولها، وهو في أعلى الشط، باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية. هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط أسفله، هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة. وداخلها في الأسواق أبواب كثيرة. وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف، وأين هي مما كانت عليه؟ هي اليوم داخلة تحت قول حبيب:

 

لاانت انت ولا الديار ديار

 

الرحيل من بغداد الموصل  واتفق رحيلنا من بغداد الموصل اثر صلاة العصر من يوم الاثنين الخامس عشر لصفر، وهو الثامن والعشرون لمايه، فكان مقامنا بها ثلاثة عشر يوماً، ونحن في صحبة الخاتونين: خاتون بنت مسعود المتقدمة الذكر في هذا التقييد، وخاتون ام عز الدين صاحب الموصل، وصحبتهما حاج الشام والموصل وأرض الأعاجم المتصلة بالدروب التي طاعة الأمير مسعود والد احدى الخاتونين المذكورتين، وتوجه جاج خراسان ومايليها صحبة الخاتون الثالثة ابنة الملك الدقوس، وطريقهم على الجانب الشرقي من بغداد، وطريقنا نحن الموصل على الجانب الغربي منها. وهاتان الخاتونان هما أميرتا هذا العسكر الذي توجهنا فيه وقائدناه، والله لايجعلنا تحت قول القائل:

ضاع الرعيل ومن يقوده

 

ولهما أجناد برسمهما، وزادهما الخليفة جنداً يشيعونهما مخافة العرب الخفاجيين المضرين بمدينة بغداد، وفي تلك العشية التي رحلنا فيها فجأتنا خاتون المسعودية المترفة شباباً وملكاً، وهي قد استقلت في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين الواحدة أمام الآخرى وعليهما الجلال المذهبة، وهما تسيران بها سير النسيم سرعة وليناً، وقد فتح لها أمام الهودج وخلفه بابان، وهي ظاهرة في وسطه متنقبة، وعصابة ذهب على رأسها، وأمامها رعيل من فتيانها وجندها، وعن يمينها جنائب المطايا والهماليج العتاق، ووراءها ركب من جواريها قد ركبن المطايا والهماليج على السروج المذهبة وعصبن رؤوسهن بالعصائب الذهبيات والنسيم يتلاعب بعذباتهن، وهو يسرن خلف سيدتهن سير السحاب. ولها الرايات والطبول البوقات تضرب عند ركوبها وعند نزولها.
وأبصرنا من نخوة الملك النسائي واحتفاله رتبة تهز الأرض هزاً، وتسحب أذيال الدنيا عزاً. ويحق أن يخدمها العز، ويكون لها هذا الهز، فان مسافة مملكة أبيها نحو الأربعة أشهر، وصاحب القسطنطينية يؤدي اليه الجزية، وهو من العدل في رعيته على سيرة عجيبة، ومن موالاة الجهاد على سنة مرضية.
وأعلمنا أحد الحجاج من أهل بلدنا أن في هذا العام الذي هو عام تسعة وسبعين الخالي عنا استفتح من بلاد الروم نحو الخمسة وعشرين بلداً، ولقبه عز الدين، واسم أبيه مسعود، وهذا الإسم غلب عليه، وهو عريق في المملكة عن جد فجد. ومن شرف خاتون هذه واسمها سلجوقة، أن صلاح الدين استفتح آمد بلد زوجها نور الدين، وهي من أعظم بلاد الدنيا، فترك البلد لها كرامة لأبيها وأعطاها المفاتيح، فبقي ملك زوجها بسببها. وناهيك من هذا الشأن! والملك ملك الحي القيوم، يؤتي الملك من يشاء لا إله سواه.


فكان مبيتنا تلك الليلة بإحدى قرى بغداد، نزلناها مضى هدء من الليل، وبمقربة منها دجيل، وهو نهر يتفرع من دجلة يسقي تلك القرى كلها.


وغدونا من ذلك الموضع، ضحى يوم الثلاثاء السادس عشر لصفر المذكور، والقرى متصلة في طريقنا، فاتصل سيرنا إثر صلاة الظهر، ونزلنا وأقمنا باقي يومنا ليلحق من تأخر من الحجاج ومن تجار الشام الموصل. ثم رحلنا قبيل نصف الليل، وتمادى سيرنا أن ارتفع النهار، فنزلنا قائلين ومريحين على دجيل. وأسرينا الليل كله، فنزلنا مع الصباح بمقربة من قرية تعرف بالحربة، من أخصب القرى وأفسحها. ورحلنا من ذلك الموضع وأسرينا الليل كله، ونزلنا مع الصباح من يوم الخميس الثامن عشر لصفر على شط دجلة بمقربة من حصن يعرف بالمعشوق، ويقال: انه كان متفرجاً لزبيدة ابنة عم الرشيد وزوجه، وعلى قبالة هذا الموضع في الشط الشرقي مدينة سر من رأى، وهي اليوم عبرة من رأي: أين معتصمها، وواثقها، ومتوكلها؟! مدينة كبيرة قد استولى الخراب عليها الا بعض جهات منها هي اليوم معمورة. وقد أطنب المسعودي، رحمة الله، في وصفها ووصف طيب هوائها ورائق حسنها.وهي كما وصف وإن لم يبق الا الأثر من محاسنها، والله وارث الأرض ومن عليها، لا اله غيره فأقمنا بهذا الموضع طول يومنا مستريحين، وبيننا وبين مدينة تكريت مرحلة، ثم رحلنا منه وأسرينا الليل كله، فضبحنا تكريت مع الفجر من يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وهو أول يوم من يونيه، فنزلنا ظاهرها مستريحين ذلك اليوم.

ذكر مدينة تكريت

هي مدينة كبيرة واسعة الأرجاء، فسيحة الساحة، حفيلة الأسواق، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، أهلها أحسن أخلاقاً وقسطاً في الموازين من أهل بغداد، ودجلة منها في جوفيها، ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة، ويطيف بالبلد سور قد أثر الوهن فيه. وهي من المدن العتيقة المذكورة.


ورحلنا مع عشي اليوم المذكور واسرينا طول الليل، وأصبحنا يوم السبت الموفي عشرين منه بشط دجلة، فنزلنا مريحين. ومن ذلك الموضع يستصحب الماء ليوم وليلة، فاستصحبناه. ورحلنا ذلك اليوم ضحوة، فأسرينا الليل، ونزلنا لأخذ نفس راحة واختلاس سنة نوم، فهو منا هنيهة، ورحلنا وأسأدنا الصباح. وتمادى سيرنا أن ارتفع النهار من يوم الأحد بعده، فنزلنا قائلين بقرية على شط دجلة تعرف بالجديدة، وبمقربة منها قرية كبيرة اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصناً لها، وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثيقه. والقرى والعمائر من هذا الموضع الموصل متصلة. ومن هنا ينتثر انتظام الحاج في المشي فينبسط كل في طريقه متقدماً ومتأخراً، وبطيئاً ومستعجلاً، آمناً مطمئناً.

فرحلنا منها قريب العصر، وتمادى سيرنا المغرب، ونزلنا آخذين غفوة سنة خلال ما تتعشى الإبل. ورحلنا قبل نصف الليل وأدلجنا الصباح.


وفي ضحوة هذا اليوم، وهو يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر، والرابع ليونيه، ومررنا بموضع يعرف بالقيارة من دجلة، وبالجانب الشرقي منها، وعن يمين الطريق الموصل، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد أنبط الله فيها عيوناً كباراً وصغاراً تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان، ويصنع له أحواض يجتمع فيها فتراه شبه الصلصال منبسطاً على الأرض أسود أملس، صقيلاً ورطباً، عطر الرائحة، شديد التعلك، فيلصق بالأصابع لأول مباشرة من اللمس، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق أسود تقذفه جوانبها فيرسب قاراً، فشاهدنا عجباً كنا نسمع به فنستغرب سماعه.


ومبقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة، أبصرنا على البعد منها دخاناً، فقيل لنا: أن النار تشعل فيه اذا أرادوا نقله فتنشف النار رطوبته المائية وتعقده، فيقطعونه قطرات ويحملونه، وهو يعم جميع البلاد الشام عكة جميع البلاد البحرية، والله يخلق مايشاء، سبحانه تع جده، وجلت قدرته، لارب غيره. ولا شك أن على هذه الصفة هي العين التي ذكر لنا أنها بين الكوفة والبصرة، وقد ذكرنا أمرها في هذا التقيي، ومن هذا الموضع الموصل مرحلتان.


وأجزنا تلك العيون القارية ونزلنا قائلين، ثم رحنا وسرنا العشي، ونزلنا بقرية تعرف بالعقيبة، ومنها تصبح الموصل إن شاء الله فأسرينا منها بعد نصف الليل ووصلنا الموصل عنذ ارتفاع النهار من يوم الثلاثاء الثالث والعشرين لصفر، والخامس من يونيه، ونزلنا بربضها في أحد الخانات بمقربة من الشط.

ذكر مدينة الموصل

هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة، قد طالت صحبتها للزمن، فأخذت أهبة استعدادها لحوادث الفتن، قد كادت أبراجها تلتقي انتظاماً لقرب مسافة بعضها من بعض، وباطن الداخل منها بيوت، بعضها على بعض، مستديرة وللمقاتلة في هذه البيوت حرز وقاية، وهي من المرافق الحربية. وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصاً، ينتظمها سور عتيق البنية مشيد البروج، وتتصل بها دور السلطان. وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متسع يمتد من أعلى البلد أسفله. ودجلة شرقي البلد، وهي متصلة بالسور، وأبراجه في مائها.
وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق، وأحدث فيه بعض أمراء البلدة، وكان يعرف بمجاهد الدين، جامعاً على شط دجلة، ما أرى وضع جامع أحفل منه، بناء يقصر الوصف عنه وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك نقش في الآجر. وأما مقصورته فتذكر بمقاصير الجنة، ويطيف به شبابيك حديد، تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة لامقعد أشرف منها ولا أحسن، ووصفه يطول، وانما وقع الإلماع بالبعض جرياً الاختصار، وأمامه مارستان حفيل من بناء مجاهد الدين المذكور. وبنى أيضاً داخل البلد وفي سوقه قيسارية للتجار، كأنها الخان العظيم، تنغلق عليها أبواب حديد، وتطيف بها دكاكين وبيوت، بعضها على بعض، قد جلي ذلك كله في أعظم صورة من البناء المزخرف الذي لامثيل له. فما أرى في البلاد قيسارية تعدلها.
وللمدينة جامعان: أحدهما جديد، والآخر من عهد بني أمية. وفي صحن هذا الجامع قبة، داخلها سارية رخام قائمة، قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رخامها، وفي أعلاها خصة رخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة كأنه قضيب من البلور معتدل ثم ينعكس أسفل القبة. ويجمع في هذين الجامعين القديم والحديث، ويجمع أيضاً في جامع الربض. وفي المدينة مدارس للعلم نحو الست أو أزيد على دجلة، فتلوح كأنها القصور المشرفة. ولها مارستان حاشا الذي ذكرناه في الربض.
وخص الله هذه البلدة بتربة مقدسة فيها مشهد جرجيس، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقد بني فيه مسجد، وقبره في زاوية من أحد بيوت المسجد عن يمين الداخل اليه. وهذا المسجد هو بين الجامع الجديد وباب الجسر، يجده المار الجامع من باب الجسر عن يساره. فتبر كنا بزيارة هذا القبر المقدس والوقوف عنده، نفعنا الله بذلك.
ومما خص الله به هذه البلدة أن في الشرق منها اذا عبرت دجلة على نحو الميل تل التوبة، وهو التل الذي وقف به يونس، عليه السلام، بقومه ودعا ودعوا حتى كشف الله عنهم العذاب، وبمقربة منه على قدر الميل أيضاً العين المباركة المنسوبة اليه، ويقال: أنه أمر قومه بالتطهر فيها واضمار التوبة، ثم صعدوا على التل داعين.
وفي هذا التل بناء عظيم هو رباط يشتمل على بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات، يضم الجميع باب واحد، وفي وسط ذلك البناء بيت ينسدل عليه ستر وينغلق دونه باب كريم مرصع كله، يقال: أنه كان الموضع الذي وقف فيه يونس، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ومحراب هذا البيت يقال. انه كان بيته الذي كان يتعبد فيه، ويطيف بهذا البيت شمع كأنه جذوع النخل عظماً، فيخرج للنا هذا الرباط كل ليلة جمعة ويتعبدون فيه. وحول هذا الرباط قرى كثيرة، ويتصل بها خراب عظيم، يقال: انه كان مدينة نينوى، وهي مدينة يونس عليه السلام، وأثر السور المحيط بهذه المدينة ظاهر، وفرج الأبواب فيه بينة، وأكوام أبراجه مشرفة. بتنا بهذا الرباط المبالاك ليلة الجمعة السادس والعشرين لصفر، ثم صبحنا العين المباركة، وشربنا من مائها وتطهرنا فيها وصلينا في المسجد المتصل بها، والله ينفع بالنية في ذلك بمنه وكرمه.


وأهل هذه البلدة على طريقة حسنة، يستعملون أعمال البر، فلا تلقى منهم الاذا وجه طلق وكلمة لينة، ولهم كرامة للغرباء واقبال عليهم، وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم. فكان مقامنا في هذه البلدة أربعة أيام.

المشاهد الدنيوية الحفيلة

ومن أحفل المشاهد الدنيوية المريبة بروز شاهدناه يوم الأربعاء ثاني يوم وصولنا الموصل للخاتونين: أم عز الدين صاحب الموصل، وبنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها، فخرج الناس على بكرة أبيهم ركباناً ومشاة، وخرج النساء كذلك، وأكثرهن راكبات، وقد اجتمع منهن عسكر جرار. وخرج امير البلد للقاء والدته مع زعماء دولته. فدخل الحاج المواصلة صحبة خاتونهم على احتفال وأبهة قد جللوا اعناق ابلهم بالحرير الملون، وقلدوها القلائد المزوقة.
ودخلت خاتون المسعودية تقود عسكر جواريها وأمامها عسكر رجالها يطوفون بها، وقد جللت قبتها كلها سبائك ذهب مصوغة أهلة ودنانير سعة الأكف وسلاسل وتماثيل بديعة الصفات، فلا تكاد تبين من القبة موضعاً، ومطيتاها تزحفان بها زحفاً، وصخب ذلك الحلي يسد المسامع، ومطاياها مجللة الأعناق بالذهب، ومراكب جواريها كذلك؛ مجموع ذلك الذهب لايحصى تقديره. وكان مشهداً أبهت الأبصار، وأحدث الاعتبار، وكل ملك يفنى الا ملك الواحد القهار، لاشريك له.


وأخبرنا غير واحد من الثقات، ممن يعرف حال خاتون هذه، وأنها موصوفة بالعبادة والخير، مؤثرة لأفعال البر. فمنها أنها أنفقت في طريقها هذا الحجاز، في صدقات ونفقات في السبيل، مالاً عظيماً، وهي تحب الصالحين والصالحات تزمورهم متنكرة رغبة في دعائهم. وشأنها عجيب كله على شبابها وانغماسها في نعيم الملك. والله يهدي من يشاء من عباده. وفي عشي اليوم الرابع من المقام بهذه البلدة، وهو يوم الجمعة السادس والعشرين لصفر المذكور، ورحلنا منها على دواب أشتريناها بالموصل تفادياً من معاملة الجمالين، على أن القدر المحمود لم يسبب لنا الا صحبة الأشبه منهم، ومن شكرناه على طول الصحبة، وتماديها من مكة، شرفها الله، الموصلن فأسرينا ليلة السبت بعيد نصف الليل ثم نزلنا بقرية من قرى الموصل، ورحلنا منها ضحوة يوم السبت المذكور، وقلنا بقرية تعرف بعين الرصد، وكان مقيلنا تحت جسر معقود على واد يتحدر فيه الماء، وكان مقيلا مباركاً. وفي تلك القرية خان كبير جيد. وفي محلات الطريق كلها خانات. واتفق مبيتنا تلك الليلة بالقرية المذكورة، واسرينا منهاواصبحنا يوم الاحد بقرية تعرف بالمويلحة، وأسرينا منها وبتنا بقرية كبيرة تعرف بجدال لها حصن عتيق. وفي يومنا هذا رأينا، عن يمين الطريق، جبل الجودي المذكور في كتاب الله تع الذي استوت عليه سفينة نوح، عليه السلام، وهو جبل عال مستطيل. ثم رحلنا في السحر الأعلى من يوم الاثنين التاسع والعشرين لصفر، فكان مبيتنا في قرية من قرى نصيبين، ومنها اليها مرحلة، ويعرف الموضع المذكور بالكلاي.

شهر ربيع الأول من سنة ثمانين

استهل هلاله ليلة الثلاثاء، بموافقة الثاني عشر من يونيه، ونحن بالقرية المذكورة، فرحلنا منا سحر يوم الثلاثاء المذكور ووصلنا نصيبين قبل الظهر من اليوم المذكور.

مدينة نصيبين أبقاها الله

شهيرة العتاقة والقدم، ظاهرها شباب، وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصغر، يمتد أمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر، قد أجرى الله فيه مذانب من الماء تسقيه، وتطرد في نواحيه، وتحف بها عن يمين وشمال لساتين ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، ينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافتيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فرحم الله أبا نواس الحسن بن هانئ حيث يقول: طابت نصيبين لي يوماً فطبت لها ياليت حظي من الدنيا نصيبين فخارجها رياضي الشمائل، أندلسي الخمائل، يرف غضارة ونضارة، ويتألق عليه رونق الحضارة، وداخلها شعت البادية باد عليه، فلا مطمح للبصر اليه، لاتجد العين فيه فسحة مجال، ولا مسحة جمال. وهذا النهر ينسرب اليها من عين معينة منبعها بجبل قريب منها، تنقسم منها مذانب تخترق بسائطها وعمائرها ويتخلل البلد منها جزء، فيتفرق على شوارعها ويلج في بعض ديارها ويصل جامعها المكرم منه سرب يخترق صحنه، وينصب في صهريجين: أحدهما وسط الصحن، والآخر عند الباب الشرقي منه، ويفضي سقايتين حول الجامع.

وعلى النهر المذكور جسر معقود من ضم الحجارة يتصل بباب المدينة القبلي. وفيها مدرستان ومارستان واحد، وصاحبها معين الدين أخو عز الدين صاحب الموصل، ابنا أتابك. ولمعين الدين أيضاً مدينة سنجار، وهي عن يمين الطريق الموصل.


ويسكن في احدى الزوايا الجوفية من جامعها المكرم الشيخ أبو اليقظان الأسود الجسد الأبيض الكبد، أحد الأولياء الذين نور الله بصائرهم بالإيمان، وجعلهم من الباقيات الصالحات في الزمان، الشهير المقامات، الموصوف بالكرامات، نضو التبتل والزهادة، ومن أخلقت جدته العبادة، قد اكتفى بنسج يده، ولا يدخر من قوت يومه الثلاثاءأسعدنا الله بلقائه، وأصحبنا من بركة دعائه عشي يوم الثلاثاء مستهل ربيع الأول، فحمدنا الله عز وجل على أن من علينا برؤيته، وشرفنا بمصافحته، والله ينفعنا بدعائه، انه سميع مجيب، لا اله سواه. فكان نزولنا بها في هان خارجها، وبتنا بها ليلة الأربعاء الثاني من ربيع الأول. ورحلنا صبيحته في قافلة كبيرة من البغال والحمير: حرانيين وحلبيين وسواهم من أهل البلاد، بلاد بكر وما يليها، وتركنا حاج هذه الجهات وراء ظهورنا على الجمال، فتمادى سيرنا أول الظهر، ونحن على اهبة وحذر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل نصيبين مدينة دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يعن الله سلاطينها على قمعهم وكف عاديتهم، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان باب نصيبينن ولا دافع لهم ولا مانع الا الله، عز وجل . فقلنا يوم الأربعاء المذكور، ورأينا ذلك اليوم، عن يمين طريقنا، بقرب من صفح الجبل، مدينة دارى العتيقة، وهي بيضاء كبيرة، لها قلعة مشرفة. ويليها بمقدار نصف مرحلة مدينة ماردين، وهي في صفح جبل في قنته لها قلعة كبيرة هي من قلاع الدنيا الشهيرة، وكلتا المدينتين معمورة.

مدينة دنيصر

هي في بسيط من الأرض فسيح، وحولها بساتين الرياحين والخضر، تسقى بالسواقي، وهي مائلة الطبع البادية، ولا سور لها، وهي مشحونة بشراً، ولها الأسواق الحفيلة، والأرزاق الواسعة، وهي مخطر لأهل بلاد الشام وديار بكر وآمد وبلاد الروم التي تلي طاعة الأمير مسعود وما يليها، ولها المحرث الواسع، ولها مرافق كثيرة. فكان نزولنا مع القافلة ببراح ظاهرها، وأصبحنا يوم الخميس الثالث لربيع الأول بها مريحين، وخارجها مدرسة جديدة بقية البناء فيها، ويتصل بها حمام، والبساتين حولها، فهي مدرسة جيدة بقية البناء فيها، ويتصل بها حمام، والبساتين حولها، فهي مدرسة ومأنسة. وصاحب هذه البلدة قطب الدين، وهو أيضاً صاحب مدينة دارى ومدينة ماردينة ماردين ورأس العين، وهو قريب لابني أتابك.


وهذه البلدة لسلاطين شتى كملوك طوائف الأندلس، كلهم قد تحلى مجلية تنسب الدين، فلا تسمع الا القاباً هائلة، وصفات لذي التحصيل غير طائلة، قد تساوي فيها السوقة والملوك، واشتراك فيها الغني والصعلوك، ليس فيهم من اتسم بسمة به تليق، أو اتصف بصفة هو بها خليق، الا صلاح الدين صاحب الشام وديار مصر والحجاز واليمن، المشتهر الفضل والعدل، فهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، وماسوى ذلك في سواه فزعازع ريح، وشهادات يردها التجريح، ودعوى نسبة للدين برحت به أي تبريح!

ألقاب مملكة في غير موضعهـا

 

كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

 

ونرجع حديث المراحل، قربها الله: فكان مقامنا بدنيصر أن صلينا الجمعة، وهو اليوم الرابع لربيع ( الأول)، تلوم أهل القافلة بها لشهود سوقها، لأن بها يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد بعدها سوق حفيلة، يجتمع لها أهل هذه الجهات المجاورة لها والقرى المتصلة بها، لأن الطريق كلها يميناً وشمالاً قرى متصلة وخانات مشيدة، ويسمون هذه السوق المجتمع اليها من الجهات البازار، وأيام كل سوق معلومة.
ورحلنا إثر صلاة الجمعة فاجتزنا على قرية كبيرة لها حصن تعرف بتل العقاب، هي للنصارى المعاهدين الذميين، ذكرتنا هذه القرية بقرى الأندلس حسناً ونضارة، تحفا البساتين والكروم وأنواع الأشجار، وينسرب بإزائها نهر ترف الظلال عليه، وخطها متسع، والبساتين قد انتظمته، وشاهدنا بها من الخنانيص أمثال الغنم كثرة وأنساً بأهلها. ثم وصلنا عشي النهار قرية أخرى تعرف بالجسر، هي الآن لناس من المعاهدين، وهم فرقة من فرق الروم، فكان مبيتنا بها ليلة السبت الخامس لربيع المذكور، ثم أسحرنا منها ووصلنا مدينة راس العين قبيل الظهر من يوم السبت المذكور.

مدينة رأس العين

هذا الاسم لهامن أصدق الصفات، وموضوعها به أشرف الموضوعات، وذلك أن الله تع فجر أرضها عيوناً وأجراها ماء معيناً، فتقسمت مذانب وانسابت جداول تنبسط في مروج خضر، فكأنهاسبائك اللجين ممدودة في بساط الزبر جسد، تحف بها أشجار وبساتين قد انتظمت حافتيها آخر أنتهائها من عمارة بطحائها. وأعظم هذه العيون عينان: احداهما فوق الأخرى، فالعليا منهما نابعة فوق الارض في صم الحجارة كأنها في جوف غار كبير متسع يبسط الماء فيه حتى يصير كالصهريج العظيم ثم يخرج ويسيل نهراً كبيراً كأكبر مايكون من الانهار وينتهي العين الأخرى ويلتقي بمائها. وهذه العين الثانية عجب من عجائب مخلوقات الله عز وجل، وذلك أنها نابعة تحت الأرض من الحجر الصلد بنحو أربع قامات أو أزيد، ويتسع منبعها حتى يصير صهريجاً في ذلك العمق، ويعلو بقوة نبعه حتى يسيل على وجه الأرض. فربما يروم السابح القوي السباحة الشديدة الغوص في أعماق المياه أن يصل بغوصه قعره فيمجه الماء بقوة انبعاثاً منبعه، فلا يتناهى في غوصه مقدار نصف مسافة العمق أو أقل شيئاً؛ شاهدنا ذلك عياناً. وماؤها أصفى من الزلال وأعذب من السلسبيل، يشف عما حواه، فلو طرح الدينار فيه في الليلة الظلماء لما أخفاه، ويصاد فيها سمك جليل من أطيب مايكون من السمك.


وينقسم ماء هذه العين نهرين: أحدهما آخذ يميناً، والآخر يساراً. فالأيمن يشق خانقة مبنية للصوفية والغرباء بإزاء العين، وهي تسمى الرباط أيضاً، والأيسر ينسرب على جانب الخانقة وتفضي منه جداول مطاهرها ومرافقها المعدة للحاجة البشرية، ثم يلتقيان أسفلها مع نهر العين الأخرى العليا، وقد بنيت على شط نهر هما المجتمع بيوت أرحى تتصل على شط موضوع وسط النهر كأنه سد. ومن مجتمع ماء هاتين العينين منشأ نهر الخابور.
وبمقربة من هذه الخانقة بحيث تناظرها مدرسة بإزائها حمام، وكلاهما قد وهى وأخلق وتعطل، وما أرى كان في موضوعات الدنيا مثل موضوع هذه المدرسة، لأنها في جزيرة خضراء والنهر يستدير بها من ثلاثة جوانب والمدخل اليها من جانب واحد، وامامها ووراءها بستان، وبإزائها دولاب يلقي الماء بساتين مرتفعة عن مصب النهر. وشأن هذا الموضع كله عجيب جداً: فغاية حسن القرى بشرقي الأندلس أن يكون لها مثل هذا الموضع جمالاً أو تتحلى بمثل هذه العيون، ولله القدرة في جميع مخلوقاته.


وأما المدينة فللبداوة بها اعتناء، وللحضارة عنها استغناء لاسور يحصنها، ولادور أنيقة النباء تحسنها، قد ضحيت في صحرائها كأنا عودة لبطحائها، وهي مع ذلك كاملة مرافق المدن، ولها جامعان حديث وقديم، فالقديم بموضع هذه العيون، وتتفجر أمامه عين معينة هي دون اللتين ذكرناهما. وهو من بنيان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، لكنه قد أثر القدم فيه حتى آذن بتداعيه. والجامع الآخر داخل البلد، وفيه يجمع أهله. فكان مقامنا بها ذلك اليوم نزهة لم نختلس في سفرنا كله مثلها.


فلما كان عند المغيب من يوم السبت الخامس لربيع المذكور، وهو السادس عشر ليونيه، رحلنا منها رغبة في الإسآد وبرد الليل وتفادياً من حر هجيرة التأويب، لأن منها حران مسيرة يومين لاعمارة فيها. فتمادى سيرنا الصباح ثم نزلنا في الصحراء على ماء جب وأرحنا قليلاً، ثم رفعنا ضحوة النهار من يوم الأحد وسرنا ونزلنا قريب العصر على ماء بئر بموضع فيه برج مشيد وآثار قديمة يعرف ببرج حواء، فبتنا به، ثم رفعنا منه بعد تهويم ساعة وسرينا الصباح، فوصلنا مدينة حران مع طلوع الشمس من يوم الاثنين السابع لربيع المذكور، والثامن عشر ليونيه، والحمد لله على تيسيره.


مدينة حران حفظها الله بلد لا حسن لديه، ولا ظل يتوسط برديه، قد اشتق من اسمه هواؤه، فلا يألف البرد ماؤه، ولاتزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه، ولا تجد فيه مقيلا، ولا تتنفس منه الا نفساً ثقيلاً، قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء، فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة. أستغفر الله! كفى بهذا البلد شرفاً وفضلاً أنه البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبالاك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة، صلوات الله عليهما، ومتعبداً لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقراً للصالحين المتزهدين، ومثابة للسائحين المتبتلين. لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان بن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب اليه. وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم. فوصلنا الشيخ وهو قد نيف على الثمانين، فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور، فملنا اليه ولقيناه، ودعا لنا، ثم ودعناهم وانصرفنا مسرورين بلقاء رجلين من رجال الآخرة.


ولقينا أيضاً بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة، فلقينا رجلاً من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا، وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس، لايغطي رأسه تواضعاً لله عز وجل حتى عرف بذلك، وصلنا منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحاً.

 

وبهذه البلدة كثير من أهل الخير، وأهلها هينون معتدلون، محبون للغرباء مؤثرون للفقراء. وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة الشام على هذا السبيل من حب الغرباء واكرام الفقراء؛ وأهل قراها كذلك. فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زاداً، لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة. وشأن أهل هذه الجهات في هذا السبيل، عجيب، والله ينفعهم بما هم عليه.وأما عبادهم وزهادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء، والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم، بمنه وكرمه.


لهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام، عجيبة الترتيب، مسقفة كلها بالخشب.فلا يزال أهلها في ظل ممدود، فتخترقها كأنك تخترق داراً كبيرة الشوارع، قد بني عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك. ويتصل بهذه الأسواق جامعها فالمكرم، وهو عتيق مجدد قد جاء على غابة الحسن، وله صحن كبير فيه ثلاث مرتفعة على سوار رخام، وتحت كل قبة بئر عذبة، وفي الصحن أيضاً قبة رابعة عظيمة قد قامت على سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار، وفي وسط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبراً.


وهذه القبة من بنيان الروم، وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد، يقال: انه كان مخزناً لعدتهم الحربية، والله أعلم. والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب والحنايا، وخشبة عظام طوال لسعة البلاط، وسعته خمس عشرة خطوة، وهو خمسة أبلطة، ومارأينا جامعاً أوسع حنايا منه. وجداره المتصل بالصحن، الذي عليه المدخل اليه، مفتح كله أبواباً، عددها تسعة عشر باباً: تسعة يميناً، وتسعة شمالاً، والتاسع عشر منها باب عظيم وسط هذه الأبواب، يمسك قوسه من أعلى الجدار أسفله، بهي المنظر، جميل الوضع، كأنه باب من أبواب المدن الكبار. ولهذه الأبواب كلها أغلاق من الخشب البديع الصنعة والنقش، تنطبق عليها على شبه أبواب مجالس القصور. فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به مرأى عجيباً قلماً يوجد في المدن مثل انتظامه.


ولهذه البلدة مدرسة ومارستان، وهي بلدة كبيرة، وسورها متين حصين بنيان الجامع المكرم. ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما، ومنقطعة أيضاً عن سورها بحفير عظيم يستدير بها قد شيدت حافاته بالحجارة المركرمة، فجاء في نهاية الوثاقة والقوة. وسور العلقة وثيق الحصانة. ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضاً منها بين سورها وجبانتها، ومصبه من عين هي على بعد من البلد. والبلد كثير الخلق، واسع الرزق، ظاهر البركة، كثير المساجد، جم المرافق، على أحفل مايكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين، وطاعته صلاح الدين وهذه البلاد كلها من الموصل نصيبين الفرات، المعروفة بديار ربيعة، وحدها من نصيبين الفرات مع مايلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين، فهم طاعته وان كانوا مستبدين، وفضله يبقى عليهم، ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله.


فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء بعده، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين، فلقيناه بمسجده، فرأينا رجلاً عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر، وكرم لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.


وفي ليلة الأربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعد تهويم ساعة، فأسرينا الصباح ونزلنا مريحين بتل عبدة، وهو موضع عمارة، وهذا التل مشرف متسع كأنه المائدة المنصوبة، وفيه أثر بناء قديم، وبهذا الموضع ماء جار. وكان رحيلنا منه عند المغرب، واسرينا الليل كله، واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد، وهو نصف الطريق من حران الفرات، ويقابلها على اليمين من الطريق، في استقبالك الفرات الشام، مدينة سروج التي شهر ذكرها الحريري بنسبة أبي زيد اليها، وفيها البساتين والمياه المطردة حسبما وصفها به في مقاماته.
فكان وصولنا الفرات ضحوة النهار، وعبرنا في الزوارق المقلة المعدة للعبور قلعة جديدة على الشط تعرف بقلعة نجم، وحولها ديار بادية، وفيها سويقة يوجد فيها المهم من علف وخبز، فأقمنا بها يوم الخميس العاشر لربيع الأول المذكور مريحين خلال ماتكمل القافلة بالعبور. واذا عبرت الفرات حصلت في حد الشام وسرت في طاعة صلاح الدين دمشق.


والفرات حد بين ديار الشام وديار ربيعة وبكر. وعن يسار الطريق، في استقبالك الفرات الشام، مدينة الرقة، وهي على الفرات، وتليها رحبة مالك بن طوق وتعرف برحبة الشام، وهي من المدن الشهيرة، ثم رحلنا منها عند مضي ثلث الليل الأول وأسرينا ووصلنا مدينة منبج مع الصباح من يوم الجمعة الحادي عشر لربيع المذكور، والثاني والعشرين ليونيه.

مدينة منبج

بلدة فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، يجف بها سور عتيق ممتد الغاية والأنتهاء، جوها صقيل ومجتلاها جميل، ونسيمها أرج النشر عليل، نهارها يندى ظله، وليلها كما قيل فيه: سحر كله؛ تحف بغربيها وبشرقيها بساتين ملتفة الأشجار، مختلفة الثمار. والماء يطرد فيها، ويتخلل جميع نواحيها، وخصص الله داخلها بآبار معينة، شهدية العذوبة، سلسبيلية المذاق، تكون في كل دار منها البئر والبئران. وارضها أرض كريمة، تستنبط مياهاً كلها. وأسواقها وسككها فسيحة متسعة، ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعاً وكبراً، وأعالي أسواقها مسقفة.


وعلى هذا الترتيب اسواق أكثر مدن هذه الجهات، لكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب، حتى أخذ منها الخراب. كانت من مدن الروم العتيقة، ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها. ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها. ومدن هذه الجهات كلها لاتخلو من القلاع السلطانية وأهلها أهل فضل وخير، سنيون شافعيون، وهي مطهرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة، كما تجده في الأكثر من هذه البلاد، فمعاملاتهم صحيحة، وأحوالهم مستقيمة، وجادتهم الواضحة في دينهم من اعتراض بنيات الطريق سليمة.
فكان نزولنا خارجها، في أحد بساتينها، وأقمنا يوماً مريحين ثم رحلنا نصف الليل، ووصلنا بزاعة ضحوة يوم السبت الثاني عشر لربيع المذكور.

بلدة بزاغة

بقعة طيبة الثرى، واسعة الذرى، تصغر عن المدن وتكبر عن القرى، بها سوق تجمع بين المرافق السفرية، والمتاجر الحضرية. وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة، رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها، فأمر بثلم بنائها، حتى غادرها عورة منبوذة بعرائها. ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة، وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة. ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب، هي باب بين بزاعة وحلب، وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لايحصي عددهم الا الله، فطار شرارهم، وقطع هذه السبيل فسادهم واضرارهم، حتى داخلت أخل هذه البلاد العصبية، وحر كتهم الأنفة والحمية، فتجمعوا من كل أوب عليهم، ووضعوا السيوف فيهم، فاستأصلوهم عن آخرهم، وعجلوا بقطع دابرهم، وكومت بهذه البطحاء جماجمهم، وكفى الله المسلمين عاديتهم وشرهم، وأحاق بهم مكرهم، والحمد لله رب العالمين.
وسكانها اليوم قوم سنيون، فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين، ورحلنا منها في الليل وأسرينا الصباح، ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول، والرابع والعشرين ليونيه.

مدينة حلب

بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمان يطير، خطابها من الملوك كثير، ومحلها من التقديس أثير، فكم هاجت من كفاح، وسلت عليها من بيض الصفاح، لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، عتيقة في الأزل، حديثة وأن لم تزل، قد طاولت الأيام والأعوام، وشيعت الخواص والعوام، هذه منازلها وديارها، فاين سكانها قديماً وعمارها؟ وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين امراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ أجل، فني جميعهم، ولم يأن بعد فناؤها! فيا عجباً للبلاد تبقى وتذهب أملاكها، ويهلكون ولا يقضى هلاكها، تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها، وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها. هذه حلب، كم أدخلت من ملوكها في خبر كان، ونسخت ظرف الزمان بالمكان، أنث اسمها فتحلت بزينة الغوان، ودانت بالغدر فيمن خان، وتجلت عروساً بعد سيف دوالتها ابن حمدان، هيهات! هيهات! سيهرم شبابها، ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها، وتتطرق جنبات الحوادث إليها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا اله سواه، سبحانه جلت قدرته.


وقد خرج بنا الكلام عن مقصده، فلنعد ماكنا بصدده، فنقول: ان من شرف هذه القلعة أنه يذكر أنها كانت قديماً في الزمان الأول ربوة يأوي اليها ابراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، بغنيمات له فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها فلذلك سمت حلب، والله أعلم. وبها مشهد كريم له يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه.
ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع، وقد صنع عليه جبان، فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ أبد الدهر، والطعام يصبر فيها الدهر كله، وليس في شروط الحصانة أهم ولا آكد من هاتين الحلتين. ويطيف بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلدن ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الحصانة والحسن أعظم من أن ننتهي وصفه. وسورها الأعلى كله أبراج منتظمة، فيها العلالي المنيفة، والقصاب المشرفة، قد تفتحت كلها طيقاناً. وكل برج منها مسكون، وداخلها المساكن السلطانية، والمنازل الرفيعة الملوكية.


وأما البلد فموضوعه ضخم جداً، حفيل التركيب، بديع الحسن، واسع الأسواق كبيرها، متصلة الانتظام مستطيلة، تخرج من سماط صنعة سماط صنعة أخرى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية، وكلها مسقف بالخشب، فسكانها في ظلال وارفة. فكل سوق منها تقيد الأبصار حسناً وتستوقف المستوفز تعجباً.


وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالاً، ومطيفة بالجامع المكرم، لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية. وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة، قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت، فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم. وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط متسع مفتح كله أبواباً قصرية الحسن الصحن، عددها ينيف على الخمسين باباً، فيستوقف الأبصار حسن منظرها، وفي صحنه بئران معينان. والبلاط القبلي لامقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره، فما أرى في بلد من البلاد منبراً على شكله وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه المحراب فتجللت صفحاته كلها حسناً على تلك الصفة الغريبة. وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل بسمك السقف، وقد قوس اعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس، واتصال الترصيع من المنبر المحراب مع ما يليها من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال، فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف.


ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسناً واتقان صنعة فهما في الحسن روضة تجاور اخرى. وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة، ومن أظرف مايلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتاً وغرفاً ولها طيقان يتصل بعضها ببعض، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنباً، فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدلياً أمامها، فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئاً دون كلفة ولا مشقة. وللبلدة سوى هذه المدرسة نحو أربع مدارس أو خمس. ولها مارستان.


وأمرها في الاحتفال عظيم، فهي بلدة تليق بالخلافة، وحسنها كله داخل لا خارج لها الا نهير يجري من جوفيها قبليها ويشق ربضها المستدير بها، فإن لها ربضاً كبيراً فيه من الخانات مالا يحصى عدده. وبهذا النهر الأرجاء، وهي متصلة بالبلد وقائمة وسط ربضه. وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله. وكيفما كان الأمر فيه داخلاً وخارجاً فهو من بلاد الدنيا التي لانظير لهاءن والوصف فيه يطول.


فكان نزولنا في خان يعرف بخان أبي الشكر، فأقمنا به أربعة أيام ورحلنا ضحوة يوم الخميس السابع عشر لربيع المذكور، والثامن والعشرين ليونيه. ووصلنا قنسرين قبيل العصر، فأرحنا بها قليلاً ثم انتقلنا قرية تعرف بتل تاجر، فكان مبيتنا بها ليلة الجمعة الثامن عشر منه.


وقنسرين هذه هي البلدة الشهيرة في الزمان، لكنها خربت وعادت كأن لم تغن بالأمس، فلم يبق الا آثارها الدارسة، ورسومها الطامسة، ولكن قراها عامرة منتظمة لأنها على محرث عظيم مد البصر عرضاً وطولاً. وتشبهها من البلاد الأندلسية جبان، ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيان تأنساً بشبه الوطن وتعللا به مثلما فعل في أكثر بلادها، حسب ما هو معروف.


ثم رحلنا من ذلك الموضع، عند الثلث الماضي من الليل، فأسرينا وسرنا ضحوة من النهار، ثم نزلنا مريحين بموضع يعرف بباقدين في خان كبير يعرف بخان التركمان، وثيق الحصانة. وخانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعاً وحصانة، وأبوابها حديدن وهي من الوثاقة في غاية. ثم رحلنا من هذا الموضع وبتنا بموضع يعرف بتمنى في خان وثيق على الصفة المذكورة.


ثم أسحرنا منه يوم السبت التاسع عشر لربيع الأول المذكور، وهو آخر يوم من يونيه، ورأينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين، يوم الجمعة المذكور، بلاد المعرة، وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين، وهي من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً. ووراءها جبل لبنان وهو سامي الاتفاع، ممتد الطول، يتصل من البحر البحر، وفي صفحته حصون للملاحدة الإسماعيلية، فرقة مرقت من الإسلام وادعت الإلهية في أحد الانام، قيض لهم شيطان من الإنس يعرف بسنان خدعهم بأباطيل وخيالات موه عليهم باستعمالها، وسحرهم بمحالها، فاتخذوه الهاً يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه، وحصلوا من طاعته وامتثال أمره بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى ويستعجل في مرضاته الردى، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بقدرته، نعوذ به سبحانه من الفتنة في الدين، ونسأله العصمة من ضلال الملحدين، لارب غيره،ولا معبود سواه. وجبل لبنان المذكور هو حد بين بلاد المسلمين والإفرنج، لأن وراءه أنطاكية واللاذقية وسواهما من بلادهم، أعادها الله للمسلمين، وفي صفح الجبل المذكور حصن يعرف بحصن الأكراد، هو للإفرنج، ويغيرون منه على حماة وحمص، وهو بمرأى العين منهما. فكان وصولنا مدينة حماة في الضحى الأعلى من يوم السبت المذكور، فنزلنا بربضها في أحد خاناته.