ذكر مدينة حماة

مدينة شهيرة في البلدان، قديمة الصحبة للزمان، غير فسيحة الفناء، ولا رائقة البناء، أقطارها مضمومة، وديارها مركومة، لايهش البصر اليها، عند الإطلال عليها، كأنها تكن بهجتها تخفيها، فتجد حسنها كامناً فيها، حتى اذا جست خلالها، ونقرت ظلالها، ابصرت بشرقيها نهراً كبيراً، تتسع في تدفقه أساليبه، وتتناظر بشطيه دواليبه، قد انتظمت طرتيه، بساتين تتهدل أغصانها عليه، وتلوح خضرتها عذاراً بصفحتيه، ينسرب في ظلالها، وينساب على سمت اعتدالها، وبأحد شطيه المتصل بربضها مطاهر منتظمة بيوتاً عدة، يخترق الماء من دواليبه جميع نواحيها، فلا يجد المغتسل أثر أذى فيها وعلى شطه الثاني المتصل بالمدينة السفلى جامع صغير قد فتح جداره الشرقي عليه طيقاناً تجتلي منها منظراً ترتاح النفس اليه، وتتقيد الأبصار لديه. وبإزاء ممر النهر بجوفي المدينة قلعة حلبية الوضع، وإن كانت دونها في الحصانة والمنع، سرب لها من هذا النهر ماء ينبع فيها، فهي لا تخاف الصدى، ولا تتهيب مرام العدى.


وموضوع هذه المدينة في وهدة من الأرض عريضة مستطيلة، كأنها خندق عميق، يرتفع لها جانبان: أحدهما كالجبل المطل، والمدينة العليا متصلة بصفح ذلك الجانب الجبلي، والقلعة في الجانب الآخر في ربوة منقطعة كبيرة مستديرة قد تولى نحتها الزمان، وحصل لها بحصانتها من كل عدو الأمان، والمدينين السفلى تحت القلعة متصلة بالجانب الذي يصب النهر عليه، وكلتا المدينتين صغيرتان. وسور المدينة العلينا يمتد على رأس جانبها العلي الجبلي يطيف بها.


وللمدينة السفلى سور يحدق بها من ثلاثة جوانب، لأن جانبها المتصل بالنهر لايحتاج سور. وعلى النهر جسر كبير معقود بصم الحجارة يتصل من المدينة السفلى ربضها. وربضها كبير فيه الخانات والديار، وله حوانيت يستعجل فيها المسافر حاجاته أن يفرغ لدخول المدينة، وأسواق المدينة العليا أحفل وأجمل من أسواق المدينة السفلى، وهي الجامعة لجميع الصناعات والتجارات، وموضوعها حسن التنظيم، بديع الترتيب والتقسيم، ولها جامع أكبر من الجامع الأسفل، ولها ثلاث مدارس ومارستان على شط النهر بإزاء الجامع الصغير.
وبخارج هذه البلدة بسيط فسيح عريض قد انتظم أكثره شجيرات الأعناب وفيه المزارع والمحارث، وفي منظره انشراح للنفس وانفساح. والبساتين متصلة على شطي النهر، وهو يسمى العاصي، لأن ظاهر انحداره من سفل علو، ومجراه من الجنوب الشمال، وهو يجتاز على قبلي حمص وبمقربة منها.


فكان مقامنا بحماه عشي يوم السبت المذكور، ثم رحلنا منها وأسرينا الليل كله وأجتزنا في نصفه هذا النهر العاصي المذكور على جسر كبير معقود من الحجارة، وعليه مدينة رستن التي خربها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وآثارها عظيمة. ويذكر الروم القسطنطينيون أن بها أموالاً جمة مكنوزة، والله أعلم بذلك، فوصلنا مدينة حمص مع شروق الشمس من يوم الأحد الموفي عشرين لربيع الأول، وهو أول يوليه، فنزلنا بظاهرها بخان السبيل.

مدينة حمص

هي فسيحة الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، موضوعة في بسيط من الأرض عريض مداه، لايخترقه النسيم بمسراه، يكاد البصر يقف دون منتهاه، أفيح أغبر، لاماء ولاشجر، ولاظل ولا ثمر، فهي تشتكي ظماءها، وتستقي على البعد ماءها، فيجلب لهامن نهيرها العاصي، وهو منها بنحو مسافة الميل، وعليه طرة بساتين تجتلي العين خضرتها، وتستغرب نضرتها، ومنبعه في مغارة يصفح جبل فوقها بمرحلة بموضع يقابل بعلبك، أعادها الله، وهي عن يمين الطريق دمشق.


وأهل هذه البلدة موصوفون بالنجدة والتمرس بالعدو لمجاورتهم اباه، وبعدهم في ذلك أهل حلب. فأحمد خلال هذه البلدة هواؤها الرطب، ونسيمها الميمون تخفيفه وتجسيمه، فكأن الهواء النجدي في الصحة شقيقه وقسيمه. وبقبلي هذه المدينة قلعة حصينة منيعة، عاصية غير مطيعة، قد تميزت وانحازت بموضوعها عنها. وبشرقيها جبانة فيها قبر خالد بن الوليد، رضي الله عنه، هو سيف الله المسلول، ومعه قبر ابنه عبد الرحمن، وقبر عبيد الله بن عمر، رضي الله عنهم. وأسوار هذه المدينة غاية في العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود، وابوابها أبواب حديد، سامية الإشراف، هائلة المنظر، رائعة الإطلال والأناقة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة. وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء، ملفقة البناء، لا اشراق لآفاقها، ولا رونق لأسواقها، كاسدة لاعهدلها بنفاقها. وماظنك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة، وهو معقل العدو، فهو منه تتراءى نارة، ويحرق اذا يطير شراره، ويتعهد اذا شاء كل يوم مغارة.


وسألنا أحد الأشياخ بهذه البلدة: هل فيها مارستان على رسم مدن هذه الجهات؟ فقال، وقد أنكر ذلك: حمص كلها مارستان! تبييناً شهادة أهلها فيها! وبها مدرسة واحدة، وتجد في هذه البلدة عند اطلالك عليها من بعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها، بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس، يقع للحين في نفسك خياله، وبهذا الاسم سميت في القديم، وهي العلة التي أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها، حسبما يذكر. وهذا التشبيه وان لم يكن بذاته، فله لمحة من احدى جهاته.


وأقمنا بها يوم الأحد المذكور ويوم الاثنين بعده، وهو الثاني ليوليه، أول الظهر، ورحلنا منها وتمادينا العشي، ونزلنا بقرية خربة تعرف بالمشعر فعشينا بها الدواب، ثم رحلنا عند المغرب وأسرينا طول ليلتنا، وتمادى سيرنا الضحى الا على من يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور، ونزلنا بقرية كبيرة للنصارى المعاهدين تعرف بالقارة، ليس فيها من المسلمين أحد، وبها خان كبير كأنه الحصن المشيد في وسطه صهريج كبير مملوء ماء يتسرب له تحت الأرض من عين على البعد، فهو لايزال ملآن، فأرحنا بالخان المذكور الظهر ثم رحلنا منه قرية تعرف بالنبك، بها ماء جار ومحرث متسع، فنزلنا بها للتعشية، ثم رحلنا منها بعد اختلاس تهويمة خفيفة.
وأسرينا الليل كله، فوصلنا خان السلطان مع الصباح، وهو خان بناه صلاح الدين صاحب الشام. وهو في نهاية الوثاقة والحسن، بباب حديد على سبيلهم في بناء خانات هذه الطرق كلها واحتفالها في تشييدها، وفي هذا الخان ماء جار يتسرب سقاية في وسط الخان كأنها صهريج، ولها منافس ينصب منها الماء في سقاية صغيرة مستديرة حول الصهريج ثم يغوص في سرب في لأرض.


والطريق من حمص دمشق قليل العمارة الا في ثلاثة مواضع أو أربعة، منها هذه الخانات المذكور مريحين ومستدركين للنوم أول الظهر، ثم رحلنا وجزنا بثنية العقاب و منها يشرف على بسيط دمشق وغوطتها، وعند هذه الثنية مفرق طريقين: أحداهما التي جئنا منها، والثانية آخذة شرقاً في البرية على السماوة العراق، وهي طريق قد قصد لكنها لاتدخل الا في الشتاء. فانحدرنا منها بين جبال في بطن واد البسيط ونزلنا منه بموضع يعرف بالقصير، فيه خان كبير والنهر جار أمامه، ثم رحلنا منه مع الصبح وسرنا في بساتين متصلة لايوصف حسنها، ووصلنا دمشق في الضحى الأعلى من يوم الخميس الرابع والعشرين لربيع الأول والخامس ليوليه، والحمد لله رب العالمين.

شهر ربيع الآخر

استهل هلاله يوم الأربعاء بموافقة الحادي عشر ليوليه، ونحن بدمشق نازلين فيها بدار الحديث غربي جامعها المكرم.

مدينة دمشق

جنة المشرق، ومطلع حسنه المشرق وهي خاتمة بلاد الاسلام التي استقرينانها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت من موضوع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تع المسيح وأمه، صلى الله عليه وسلم الله عليهما، منها ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل شبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم: هلموا معرص للحسن ومقيل، قد سمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت الظماء، فتكاد تناديك بها لاصم الصلاب: أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب؛ قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لاشك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها.

جامعها المكرم

هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً، واتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين. وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. ومن عجيب شأنه أنه لاتنسج به العنكبوت ولاتدخله، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك، رحمه الله، ووجه ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفاً من الصناع من بلاده، وتقدم اليه بالوعيد في ذلك أن توقف عنه. فأمتثل أمره مذعناً بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التاريخ. فشرع في بنائه، وبلغت الغايات في التأنق فيه، وانزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغربية، قد مثلت أشجاراً، وفرعت اغصاناً منظومة بالفصوص، ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف، فجاء يغشي العيون وميضاً وبصيصاً. وكان مبلغ النفقة فيه، حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وضعه في ذكر بنائه، مئة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومئتا ألف دينار، فكان مبلغ الجميع أحد عشر ألف دينار ومئتي ألف دينار.


والوليد هذا الذي اخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه، لأنه كان قسمين: قسماً للمسلمين وهو الشرقي، وقسماً للنصارى وهو الغربي، لأن أبا عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، دخل البلد من الجهة الغربية، فانتهى نصف الكنيسة، وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى، ودخل خالد بن الوليد، رضي الله عنه، عنوة من الجانب الشرقي وانتهى النصف الثاني وهو الشرقي، فاجتازه المسلمون وصيروه مسجداً، وبقي النصف المصالح عليه وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى، أن عوضهم منه الوليد، فأبوا ذلك، فانتزعه منهم قهراً وطلع لهدمه بنفسه، وكانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم يجن، فبادر الوليد وقال: أنا أول من يجن في الله، وبدأ الهدم بيده، فبادر المسلمون وأكملوا هدمه. واستعدوا عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أيام خلافته وأخرجوا العهد الذي بأيديهم من الصحابة، رضي الله عنه، في ابقائه عليهم، فهم بصرفه اليهم، فأشفق المسلمون من ذلك ثم عوضهم منه بمال عظيم أرضاهم به، فقبلوه.


ويقال: إن أول من وضع جداره القبلي هود النبي، عليه السلام. وكذلك ذكر ابن المعلى في تاريخه، والله اعلم بذلك، لا اله سواه، وقرأنا في فضائل دمشق عن سفيان الثوري، رضي الله عنه، أنه قال: إن الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة. وفي الحديق عن النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أنه يعبد الله عز وجل فيه بعد خراب الدنيا اربعين سنة.

تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته

ذرعه في الطول من الشرق الغرب مئتا خطوة، وهما ثلاث مئة ذراع، وذرعه في السعة من القبلة الجوف مئة خطوة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مئتا ذراع. فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرين مرجعاً. وهو تكسير مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، غير أن الطول في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، من القبلة الشمال. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاثة مستطيلة من الشرق الغرب، سعة كل بلاط منها ثماني عشر خطوة، والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية وستين عموداً، منها أبرع وخمسون سارية، وثماني أرجل جصية تتخللها، واثنتان مرخمة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن، وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم، مرصعة بفصوص من الرخام ملونة، قد نظمت خواتيم، وصورت محاريب وأشكالاً غريبة، قائمة في البلاط الأوسط، تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب، سعة كل رجل منها ستة عشر شبراً، وطولها عشرون شبراً، وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشر خطوة، وفي العرض ثلاث عشرة خطوة فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبراً. ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته: الشرقية والغربية والشمالية؛ سعته عشر خطاً، وعدد قوائمه سبع وأربعون: منها أربع عشرة من الجص، وسائرها سوار. فيكون سعة الصحن، حاشا المسقف القبلي والشمالي، مئة ذراع. وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص.
أعظم مافي هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها، يتصل من المحراب الصحن، وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما. والقبة الرصاصية قد أغضت الهواء وسطه، فإذا استقبلتها ابصرت منظراً رائعاً، ومرأى هلائلاً، يشبهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه، والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين، ونصف الثاني عن شمال، جناحاه. وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، ثهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو.


والجامع المكرم مائل الجهة الشمالية من البلد. وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون: منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر، وفي القبة المتصلة بالمحراب مع مايليها من الجدار أربع عشرة شمسية، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست، وفي ظهر الجدار الصحن سبع وأربعون شمسية.


وفي الجامع المكرم ثلاث مقصورات: مقصورة الصحابة، رضي الله عنهم، وهي أول مقصورة وضعت في الإسلام، وضعها معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، وبإزاء محرابها عن يمين مستقبل القبلة باب حديد، كان يدخل معاوية، رضي الله عنه، المقصورة منه المحراب. وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى الله عليه وسلم أبي الدرداء، رضي الله عنه، وخلفها كانت دار معاوية، رضي الله عنه، وهي اليوم سماط عظيم للصفارين، يتصل بطول جدار الجامع القبلي، ولاسماط أحسن منظراً منه ولا أكبر طولاً وعرضاً. وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخليل برسمه، وهي اليوم مسكونة، وفيها مواضع للمكادين. وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبراً، وعرضها نصف الطول.


ويليها لجهة الغرب، في وسط الجامع، المقصورة التي أحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسة الجامع؛ حسبما تقدم ذكره، وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة.


وكانت مقصورة الصحابة أولاً في نصف الحظ الإسلامي من الكنيسة، وكان الجدار حيث أعيد المحراب في المقصورة المحدثة، فلما أعيدت الكنيسة كلها مسجداً صارت مقصورة الصحابة طرفاً في الجانب الشرقي، وأحدثت المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية. وبالجانب الغربي بازاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون. وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجبة كأنها مقصورة صغيرة. وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة، كان وضعها للصلاة فيها أحد أمراء الدولة التركية، وهي لاصقة بالجدار الشرقي. وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة. وفي الجدار المتصل بالصحن، المحيط بالبلاطات القبلية، عشرون باباً متصلة بطول الجدار قد علتها قسي جصية مخرمة كلها على هيئة الشمسيات، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه. والبلاط المتصل بالصحن، المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات، على أعمدة، وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله.


ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو متفرجهم ومتنزهم كل عشية، تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق غرب، من باب جيرون باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه، ومنهم من يقرأ، لايزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع نقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون، ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال انما هو بالعشي فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم، لايزالون على ذلك كل يوم. وأهل البطالة من الناس يسمونهم الحراثين.


وللجامع ثلاث صوامع: واحدة في الجانب الغربي، وهي كالبرج المشيد، يحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها أغلاق يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي، رحمه الله، ويسكنه اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من أهل قلعة يحصب المنسوبة لهم، وهو قريب لبني سعيد المشتهرين بالدينا وخدمتها، وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين.


وفي الصحن ثلاث قباب: إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام، مستطيلة كالبرج، مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة، كأنها الروضة حسناً، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال: إنها كانت مخزناً لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ماذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة، وهي خمسة عشر ألف دينار مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق، قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء علو، فيرتفع وينثني كأنه قضيب لجين، يشره الناس لوضع أفواهم فيه للشرب استظرفاً واستحساناً، ويسمونه قفص الماء. والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدةعلى هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها.


وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي مسجد كبير، في وسطه صحن، قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير، يجري الماء فيه دائماً من صحفة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه اليها، ويعرف هذا الموضع بالكلاسة، ويصلي فيه اليوم صاحبنا الفقيه الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي، ويتزاحم الناس على الصلاة فيه خلفه التماساً لبركته واستماعاً لحسن صوته.
وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعاً وأجملها بناء؛ يذكر الشيعة أنه مشهد لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وهذا من أغرب مختلقاتهم. ومن العجيب أنه يقابله، في إلجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن، موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي، مجلل بستر في أعلاه، وأمامه ستر أيضاً منسدل، يزعم أكثر الناس أنه موضع لعائشة، رضي الله عنها، وأنها كانت تسمع الحديث فيه. وعائشة، رضي الله عنها، في دخول دمشق كعلي، رضي الله عنه، لكن لهم في علي، رضي الله عنه مندوحة من القول، وذلك أنهم يزعمون أنه رؤي في المنام مصلياً في ذلك الموضع فبنت الشيعة فيه مسجداً. واما الموضع المنسوب لعائشة، رضي الله عنها، فلا مندوحة فيه وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع. وكان هذا الجامع المبالاك، ظاهراً وباطناً، منزلاً كله بالفصوص المذهبة، مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدم وجدد، وذهب أكثر رخامه، فاستحال رونقه، فأسلم مافيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. ومحرابه من أعجب المحاريب الاسلامية حسناً وغرابة صنعة، يتقد ذهباً كله. وقد قامت في وسط محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات مفتولات فتل الأسورة كأنها مخروطة، لم ير شيء أجمل منها، وبعضها حمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبالاك، مع مايتصل من قبابة الثلاث، واشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه، واتصال شعاع الشمس بها، وانعكاسه كل لون منها، حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة، يتصل ذلك بجداره القبلي كله، عظيم لايلحق وصفه ولاتبلغ العبارة بعض مايتصوره الخاطر منه، والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنه.


وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان رضي الله عنه، وهو المصحف الذي وجه به الشام وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه.


وله أربعة أبواب: باب قبلي، ويعرف بباب الزيادة، وله دهليز كبير متسع، له أعمدة عظام، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم، وله مرأى رائع، ومنه يفضى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي كانت دار معاوية، رضي الله عنه، وتعرف بالخضراء؛ وباب شرقي، وهو أعظم الأبواب، ويعرف بباب جيرون؛ وباب غربي، ويعرف بباب البريد؛ وباب شمالي، ويعرف بباب الناطفيين.


وللشرقي والغربي والشمالي أيضاً من هذه الأبواب دهاليز متسعة، يفضي كل دهليز منها باب عظيم، كانت كلها مداخل للكنيسة فبقيت على حالها، وأعظمها منظراً الدهليز المتصل بباب جيرون، يخرج من هذا الباب بلاط طويل عريض قد قامت أمامه خمسة أبواب مقوسة لها ستة أعمدة طوال. وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي، رضي الله عنهما ثم نقل القاهرة. وبإزائه مسجد صغير ينسب لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه. وبذلك المشهد ماء جار. وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها الدهليز، وهو كالخندق العظيم، يتصل باب عظيم الارتفاع، ينحسر الطرف دونه سمواً، قد حفته أعمدة كالجذوع طولاً وكالأطواد ضخامة.
وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قامت عليها شوارع مستديرة، فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم، وعليها شوارع أخر مستطيلة فيها الحجر والبيوت، وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام عليه قبة تقلها أعمدة من الرخام، ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء لم ينعطف عليها تعتيب. وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع الهواء أزيد من القامة لم.وحوله أنابيب صغار ترمي الماء علو فيخرج عنها كقضبان اللجين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف. وعن يمين الخارج من باب جيون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفة، ولهاهيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيراً هندسياً، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما: أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع بالبندقتين فيهما تعودان داخل الجدار الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر؛ لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تتغلق الأبواب كلها تنقضي الساعات، ثم تعود حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، وفإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها، درب بشأنها وانتقالها، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج موضعها. وهي التي يسميها الناس المنجانة.


ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين، وفيه سماط لبيع الفواكه، وفي أعلاه باب عظيم يصعد اليه على أدراج، له أعمدة سامية في الهواء. وتحت الأدراج سقايتان مستديرتان: سقاية يميناً، وسقاية يساراً، لك سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل. ودهليز الباب الشمالي في زوايا علىمصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة، وهي محاضر لمعلمي الصبيان.


وعن يمين الخارج في الدهليز خانقة مبنية للصوفية في وسطها صهريج ويقال: أنها كانت دار عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا. والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه، ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها. وعن يمين الخارج أيضاً من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه ولها مطاهر على الصفة المذكورة.


وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان يسيراً لهما رأسان من الصفر مستطيلان مشرجبان قد خرما أحسن تخريم، يسرجان ليلة النصف من شعبان فيلوحان كأنهما ثريتان مشتعلتان. واحتفال أهل هذه البلدة لهذه الليلة المذكورة أكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم.


وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم، كل يوم اثر صلاة الصبح، لقراءة سبع من القرآن دائماً، ومثله اثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرأون فيها سورة الكوثر الخاتمة. ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لايجيد حفظ القرآن. وللمجتمعين على ذلك اجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمس مئة إنسان. وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم. فر تخلو القراءة منه صباحاً ولا مساءً. وفيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي، يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم.
ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعةز وأغرب مايحدث به أن سارية من سواريه، هي بين المقصورتين القديمة والحديثة، لها وقف معلوم يأخذه المستند اليها للمذاكرة والتدريس. أبصرنا بها فقيهاً من أهل اشبيلية يعرف بالمرادي. وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحاً يستند كل انسان منهم سارية ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن. وللصبيان أيضاً على قراءتهم جراية معلومة. فأهل الجدة من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذها وهذا من المفاخر الاسلامية.


وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير، يأخذ منه المعلم لهم مايقوم به وينفق منه على الصبيان مايقوم بهم وبكسوتهم؛ وهذا أيضاً من أغرب مايحدث به من مفاخر هذه البلاد. وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها انما هو تلقين، ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها، تنزيهاً لكتاب الله عز وجل عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو. وقد يكون في اكثر البلاد الملقن على حدة والمكتب على حدة فينفصل من التلقين التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة. ولذلك مايتأتيى لهم حسن الحظ، لأن المعلم له لايشتغل بغيره، فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك، ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه.


ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات، في كل جانب سقاية، كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية، والماء يجري في كل بيت منها. وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة أنابيب منتظمة بطوله. وأحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون، وهي أكبرها وفيهامن البيوت ماينيف على الثلاثين، وفيها زائداً على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية، والواحد بعيد من الآخر، ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبراً، والماء نابع فيهما. والثانية في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين، والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد، والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة. وهذه ايضاً من المرافق العظيمة للغرباء وسواهم. والبلد كله سقايات قلما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه، من سقاية، والمرافق به أكثر من أن توصف، والله يبقيه دار اسلام بقدرته.

مشاهده المكرمة وآثره المعظمة

فاولها مشهد رأس يحيى بن زكرياء، عليه السلام، وهو مدفون بالجامع المكرم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية، رضي الله عنهم، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة، وفوقه قنديل كأنه من بلور مجوف، كأنه القدح الكبير، لايدري أمن زجاج عراقي أم صوري هو أم من غير ذلك. ومولد ابراهيم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تعرف ببرزة، وهي من أجمل القرى، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنه مصعد الأنبياء، صلوات الله عليهم، ومطلعهم، وهو في الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيق، وقد بني عليه مسجد كبير مرتفع مقسم على مساجد كثيرة كالغرف المطلة، وعليه صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، الكوكب ثم القمر ثم الشمس، حسبما ذكره الله تعلى في كتابه عز وجل، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج اليهن وهذا كله ذكره الحافظ محدث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق، وهو ينيف علىمئة مجلد. وذكر أيضاً أن بين باب الفراديس، وهو أحد أبواب البلد، وفي الجهة الشمالية من الجامع المبارك، على مقربة منه جبل قاسيون، مدفن سبعين ألف نبي، وقيل: سبعون ألف شهيد، وأن الأنبياء المدفونين به سبع مئة نبي، والله أعلم.


وخارج هذا البلد الجبانة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين، وبركتها شهيرة. وفي طرفها مما يلي البساتين وهدة من الأرض متصلة بالجبانة، ذكر انها مدفن سبعين نبياً، وعصمها الله ونزهها من أن يدفن فيها أحد، والقبور محيطة بها، وهي لا تخلو من الماء حتى عادت قرارة له، كل ذلك تنزيه من الله تع لها.


وبجبل قاسوين أيضاً لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم، لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، يتصل من نحو نصف الجبل المغارة، وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حمراً في الحجارة تحك فتستحيل، وهي كالطريق في الجبل، وتنقطع عند المغارة، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها، فكان يقال: أنها لون حجارة الجبل، وانما هي من الموضع الذي جر منه القاتل لأخيه حيث قتله حتى انتهى المغارة، وهي من آيات الله تع، وآياته لاتحصى. وقرأناً في تاريخ ابن المعلى الأسدي أن تلك المغارة صلى الله عليه وسلم فيها ابراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب، عليهم وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام. وعليها مسجد قد أتقن بناؤه، ويصعد اليه على أدراج، وهو كالغرفة المستديرة، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها، وبه بيوت ومرافق للسكنى. وهو يفتح كل يوم خميس والسرج من الشمع والفتائل تقد في المغارة، وهيو متسعة. وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وعليه بناء، وهو موضع مبارك. وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجوع، ذكر أن سبعين نبياً ماتوا فيها جوعاً، وكان عندهم رغيف فلم يزل كل واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليهم من يد يد حتى لحقتهم المنية، صلوات الله عليهم. وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبني، وأبصرنا فيه السرج تقد نهاراً.


ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض بيضاء ورباع، حتى أن البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع مافيه. وكل مسجد يستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يعين لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها وهذه ايضاً من المفاخر المخلدة. ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف. ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريقة المباركة مسارعة مشكورة عند الله عز وجل.


وبآخر هذا الجبل المذكور، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذه البلد، الربة المباركة المذكورة في كتاب الله تع: مأوى المسيح وأمه، صلوات الله عليهما، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً واشراقاً واتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع، هي كالقصر المشيد، ويصعد اليها على أدراج. والمأوى المبالاك منها مغارة صغيرة في وسطها، وهي كالبيت الصغير. وبإزائها بيت يقال: إنه مصلى الله عليه وسلم الخضر صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، ولاسيما المأوى المبارك. وله باب حديد صغير ينغلق دونه، والمسجد يطيف بها، ولها شوارع دائرة، وفيها سقاية لم ير أحسن منها، قد سبق اليها الماء من علو، وماؤها ينصب على شاذروان في الجدار متصل بحوض من رخام يقع الماء فيه، لم ير أحسن من منظره.وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كل بيت منها ويستدير بالجانب المتصل بجدار الشادروان.
وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومقسم مائه، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار، يأخذ كل نهر طريقه، وأكبر هذه الأنهار نهر يعرف بثورا، وهو يشق تحت الربوة، وقد نقر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرب واسع كالغار، وربما انغمس الجسور من سباح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشق متسربه تحت الربوة ويخرج أسفلها، وهي مخاطرة كبيرة.


ويشرف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد، ولا اشراف كإشرافها حسناً وجمالاً واتساع مسرح للأبصار. وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرب وتسيح في طرق شتى، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها. وشرف موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلو مدحه. وشأنها في موضوعات الدنيا الشريفة خطير كبير.


ويتصل بها أسفل منها، بمقربة من المسافة، قرية كبيرة تعرف بالنيرب، قد غطتها البساتين، فلا يظهر منها الا ماسما بناؤه. وبها جامع لم ير أحسن منه مفروش سطحه كله بفصوص الرخام الملون، فيخيل لناظره أنه ديباج مبسوط. وفيه سقاية ماء رائقة الحسن، ومطهرة لها عشرة أبواب، يجري الماء فيها ويطيف بها. وفوقها لجهة القبلة قرية كبيرة، هي من أحسن القرى، تعرف بالمزة، وبها جامع كبير وسقاية معينة، وبقرية النيرب حمام، وأكثر قرى هذه البلدة فيها الحمامات. وفي الجهة الشرقية من البلد، عن يمين الطريق مولد ابراهيم، عليه السلام، قرية تعرف ببيت لاهية، يريدون الآلهة، وكانت فيها كنيسة هي الآن مسجد مبالاك، وكان آزر أبو ابراهيم ينحت فيها الآلهة ويصورها فيجيء الخليل ابراهيم، صلوات الله عليه وعلى نبينا الكريم، فيكسرها. وهي اليوم مسجد يجتمع فيه أهل القرية، وسطحه كله مفروش بفصوص الرخام الملونة، منتظم كله خواتيم وأشكالاً بديعة، يخيل لمبصرها أنها فرش متقنة مزخرفة، وهو من المشاهد الكريمة.


وللربوة المباركة أوقاف كثيرة من بساتين وأرض بيضاء ورباع. وهي معينة التقسيم لوظائفها. فمنها ماهو معين باسم النفقة في الأدم للبائتين فيها من الزوار، ومنها ماهو معين للأكسية برسم التغطية بالليل، ومنها ماهو معين للطعام، تقاسيم تستوفي جميع مؤنها، ومؤن الأمين الراتب فيها برسم الإمامة، والمؤذن الملتزم خدمتها، ولهم على ذلك كله مرتب معلوم في كل شهر. وهي خطة من أعظم الخطط.


والأمين فيها الآن من بقية المرابطين المسوفيين ومن أعيانهم، يعرف بأبي الربيع سليمان بن ابراهيم بن مالك، وله مكانة من السلطان ووجوده الدولة وله في الشهر خمسة دنانير حاشاً فائدة الربوة، وهو متسم بالخير ومرتسم به، وهو متعلق بسبب من أسباب البر في ايواء أهل الغرب من الغرباء المنقطعين بهذه الجهات، يسبب لهم وجوه المعايش من إمامة في مسجد أو سكنى بمدرسة تجرى عليه فيها النفقة أو التزام زاوية من زوايا المسجد الجامع يجبى اليه فيها رزقه أو حضور في قراءة سبع، أو سدانة مشهد من المشاهد المباركة يكون فيه، ويجري عليه مايقوم به من أوقافه، غير ذلك من الوجوه المعاشية على هذه السبيل المباركة مما يطول شرحه. فالغريب المحتاج هنا، اذا كان على طريقة الخير، مصون محفوظ غير مريق ماء الوجه.


وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال، ممن عهد الخدمة والمهنة، يسبب له أيضاً أسباب غريبة من الخدمة. أما بستان يكون ناطوراً فيه، أو حمام يكون عيناً على خدمته، وحافظاً لأثواب داخليه، أوطاحونة يكون أميناً عليها، أو كفالة صبيان يؤديهم محاضرهم ويصرفهم منازلهم، غير ذلك من الوجوه الواسعة.


وليس يؤتمن فيها كلها سوى المغاربة الغرباء، لأنهم قد علا لهم بهذا البلد صيت في الأمانة، وطار لهم فيها ذكر، وأهلها لا يأتمنون البلديين. وهذا من إلطاف الله تع بالغرباء، وله الحمد والشكر على مايولي عباده. وإن شاء أحد المتعلقين بأسباب المعارف التعرض هنالك للسطان يقبله ويكرمه ويرتبه ويجري عليه بحسب قدره ومنصبه، وقد طبعت هذه البلاد وملوكها على هذه الفضائل قديماً وحديثاً. وقد تسلسل بنا القول غير الباب الذي نحن فيه، والحديث ذو شجون، والله كفيل بحسن العون، لارب سواه.


وبغربي البلد جبانة كبيرة تعرف بقبور الشهداء، فيها كثير من الصحابة والتابعين الأئمة الصالحين، رضي الله عنهم، فالمشهور بها من قبور الصحابة، رضي الله عنهم، قبر أبي الدرداء وقبر زوجته أم الدرداء، رضي الله عنهما، وموضع مبارك فيه تاريخ قديم مكتوب عليه في هذا الموضع قبر جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، منهم فضالة بن عبيد، وسهل بن الحنظلية، من الذين بايعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، تحت الشجرة، وخال أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه؛ وقبره مسنم في الموضع المذكور.
وقرأت في فضائل دمشق: أن أم المؤمنين أم حبيبة أخبت معاوية، رضي الله عنهما، مدفونة بدمشق. وقبر واثلة بن الأسقع من أهل الصفة. وفي الجهة التي تلي هذا الموضع المبارك تاريخ فيه مكتوب: هذا قبر اوس بن أوس الثقفي. وحول هذا الموضع المذكور، على مقربة منه، قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وفي رأس القبر المبالاك تاريخ باسمه، رضي الله عنه.


والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، قد جرب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم قبور كثيرة من الصحابة وسواهم من الصاليحن ممن قد ذهب اسمه وغبر ذكره، ومشاهد كثيرة لأهل البيت، رضي الله عنهم، رجالاً ونساءً، وقد احتفل الشيعة في البناء عليهم، ولها الأوقاف الواسعة. ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قد بني عليه مسجد حفيل رائق البناء، وبإزائه بستان كله نارنجن والماء فيه من سقاية معينة. والمسجد كله ستور معلقة في جوانبه صغار وكبار. وفي المحراب حجر عظيم قد شق بنصفين والتحم بينهما ولم يبن النصف عن النصف بالكلية، يزعم الشيعة أنه انشق لعلي، رضي الله عنه، اما بضربه بسيفه أو بأمر من الأمور الإلهية على يديه. ولم يذكر عن علي، رضي الله عنه، أنه دخل قط هذا البلد، اللهم الا أن زعموا أنه كان في النوم، فلعل جهة الرؤيا تصح لهم اذ لاتصح لهم جهة اليقظة. وهذا الحجر أوجب بنيان هذا المشهد.


وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنيين بها. وقد عمروا البلاد بمذاهبهم، وهم فرق شتى: منهم الرافضة، وهم السبتابون؛ ومنهم الإمامية والزيدية، وهم يقولون بالتفضيل خاصة؛ ومنهم الإسماعلية والنصيرية وهم كفرة فإنهم يزعمون الإلهية لعلي، رضي الله عنه، تع الله عن قولهم؛ ومنهم الغرابية، وهم يقولون: أن علياً رضي الله عنه، كان أشبه بالنبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، من الغراب بالغراب، وينسبون الروح الأمين، عليه السلام قولاً تع الله عنه علواً كبيراً؛ فرق كثيرة بضيق عنهم الإحصاء، قد أضلهم الله وأضل بهم كثيراً من خلقه، نسأل الله العصمة في الدين، ونعوذ به من زيغ الملحدين. وسلط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنبوية، سنيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها. وكل من الحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يحزمونه السراويل فيلحقونه بهم، ولا يرون أن يستعدي أحد منهم في نازلة تنزل به، لهم في ذلك مذاهب عجيبة. واذا أقسم أحدهم بالفتوة بر قسمه. وهم يقتلون هؤلاء الروافض أينما وجدوهم. وشأنم عجيب في الأنفة والائتلاف.
ومن المشاهد المكرمة مشهد سعد بن عبادة رئيس الخزرج، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وهو بقرية تعرف بالمنيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه. وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء، والقبر في وسطه، وعند رأسه مكتوب: هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. ومن مشاهد أهل البيت، رضي الله عنهم: مشهد أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، ويقال لها زينب الصغرى، وأم كلثوم، كنية أوقعها عليها النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، لشبهها بابنته أم كلثوم، رضي الله عنها، والله أعلم بذلك، ومشهدها الكريم بقرية قبلي البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ، وعليه مسجد كبير، وخارجه مساكن، وله أوقاف، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الست أم كلثوم، مشينا اليه وبتنا به وتبركنا برؤيته، نفعنا الله بذلك.


وبالجبانة التي بغربي البلد، من قبور أهل البيت، كثير، رضي الله عنهم، منهما قبران عليهما مسجد يقال انهما من ولد الحسن والحسين، رضي الله عنهما، ومسجدآخر فيه قبر يقال أنه لسكينة بنت الحسين، رضي الله عنهما، أو لعلها سكينة أخرى من أهل البيت ومن المشاهد أيضاً قبر بجامع النيرب، في بيت بالجهة الشرقية منه، يقال أنه لأم مريم، رضي الله عنها. وبقرية دارية قبر أبي مسلم الخولاني، رضي الله عنه،وعليه قبة هي علامة القبر، وبها أيضاً قبر أبي سليمان الداراني، رضي الله عنه. وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال، وهي لجهة الغرب منه. ومن المشاهد الكريمة التي لم تعاينها ووصفت لنا قبراً شيث ونوح، عليهما السلام، وهما بالبقاع، وهي على يومين من البلد وحدثنا من ذرع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً، وفي قبر نوح ثلاثين. وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له. وعلى هذه القبور بناء، ولها أوقاف كثيرة، ولها قيم يلتزمها.

ومن المشاهد المباركة أيضاً، بالجبانة الغربية وبمقربة من باب الجابية، قبر أويس القرني، رضي الله عنه، وقبور خلفاء بني أمية، رحمهم الله، يقال: أنها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبانة المذكورة، وعليها اليوم بناء يسكن فيه. والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالنقييد وانما رسم من ذلك ماهو مشهور ومعلوم. ومن المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الاقدام، وهو على مقدار ميلين من البلد ممايلي القبة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ بلاد الحجاز والساحل وديار مصر. وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه: كان بعض الصالحين يرى النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، في النوم، فيقول: ههنا قبر أخي موسى، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع وهو بين غالية وغويلية كما ورد في الأثر، وهما موضعان. وشأن هذا المسجد في البركة عظيم، ويقال: إن النور ما خلا قط من هذا الموضع الذي يذكر أن القبر فيه حيث الحجر المكتوب. وله أوقاف كثيرة. فأما الأقدام ففي حجارة في الطريق اليه معلم عليها، تجد اثر القدم في كل حجر، وعدد الأقدام تسع، ويقال. أنها أثر قدم موسى، عليه السلام، والله أعلم بحقيقة ذلك، لا اله سواه.

شهر جمادى الأول

استهل هلاله ليلة الجمعة، بموافقة العاشر لشهر أغوشت العجمي.


بعض أحوال البلد لهذه البلدة ثمانية أبواب. باب شرقي، وهو شرقي وفيه منارة بيضاء يقال: أن عيسى، عليه السلام، ينزل فيها، لما جاء في الأثر أنه ينزل بالمنارة البيضاء شرقي دمشق، ويلي هذا الباب باب توما، وهو أيضاً في حيز الشرق؛ ثم باب السلام، ثم باب الفراديس، وهو شمالي؛ ثم باب الفرج، ثم باب النصر، وهو غربي؛ ثم باب الجابية كذلك ؛ ثم باب الصغير، وهو بين الغرب والقبلة.


والمسجد الجامع مائل الجهة الشمالية من البلد، والأرباض به مطيفة الا من جهة الشرق مع مايتصل بها من القبلة يسيراً. والأرباض كبار، والبلد ليس بمفرط الكبر، وهو مائل للطول، وسككه ضيقة مظلمة، وبناؤه طين وقصب، طبقات بعضها فوق بعض، ولذلك مايسرع الحريق اليه، وهو كله ثلاث طبقات، فيحتوي من الخلق على ماتحتوي ثلاث مدن، لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقاً، وحسنه كله خارج لاداخل.


وفي داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن عظيم، تعرف بكنيسة مريم، ليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها. وهي حفيلة البناء، تتضمن من التصاوير أمراً عجيباً تبهت الأفكار، وتستوقف الأبصار، ومرآها عجيب، وهي بأيدي الروم، ولا اعتراض عليهم فيها.


وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة، وبها مارستانان قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون اليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون اليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد مايصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل انسان منهم. والمارستان الآخر على هذا الرسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر. وهذا القديم هو غربي الجامع المكرم. وللمجانين المعتقلين أيضاً ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون، نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر. وتندر من بعضهم النوادر الظريفة، حسبما كنا نسمع به. ومن أعجب ما حدثت به من ذلك: أن رجلاً كان يعلم القرآن، وكان يقرأ عليه أحد أبناء وجوه البلد ممن أوتي مسحة جمال، واسمه نصر الله، وكان المعلم يهيم به، فزاد كلفه حتى اختبل وأدي المارستان، واشتهرت علته وفضيحته بالصبي، وربما كان يدخله أبوه اليه، فقيل له: اخرج، وعد لما كنت عليه من القرآن. فقال متماجناً تماجن المجانين: وأي قراءة بقيت لي؟ مابقي في حفظي من القرآن شيء سوى: "اذا جاء نصر الله" فضحك منه، ومن قوله. ونسأل الله العافية له ولكل مسلم، فلم يزل كذلك حتى توفي سمح الله له.


وهذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام، والمدارس كذلك. ومن أحسن مدارس الدنيا منظراً مدرسة نور الدين، رحمه الله، وبها قبره، نوره الله. وهي قصر من القصور الأنيقة، ينصب فيها الماء في شاذ روان وسط نهر عظيم ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة أن يقع في صهريج كبير وسط الدار.


فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظرن فكل من يبصره يجدد الدعاء لنور الدين، رحمه الله. وأما الرباطات التي يسمونها الخوانق فكثيرة، وهي برسم الصوفية. وهي قصور مزخرفةن يطرد فيها جميعها الماء على أحسن منظر يبصر. وهذه الطائفة الصوفية هم الملوك بهذه البلاد، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها، وفرغ خواطرهم لعباته من الفكرة في أسباب المعايش، وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان. فالسعداء الموفقون منهم قد حصل لهم بفضل الله تع نعيم الدنيا والآخرة. وهم على طريقة شريفة، وسنة في المعاشرة عجيبة، وسيرتهم في التزام رتب الخدمة غريبة، وعوائدهم من الاجتماع للسماع المشوق جميلة، وربما فارق منهم الدنيا في تلك الحالات المنفعل المثابر رقة وتشوقاً. وبالجملة فأحوالهم كلها بديعة، وهم يرجون عيشاً طيباً هنيئاً.
ومن أعظم ماشاهدناه لهم موضع يعرف بالقصر، وهو صرح عظيم مستقل في الهواء، في أعلاه مساكن لم ير أجمل اشرافاً منها، وهو من البلد بنصف الميل، له بستان عظيم يتصل به، وكان متنزهاً لاحد ملوك الاتراك. فيقال: أنه كان فيه احدى الليالي على راحة، فاجتاز به قوم من الصوفية، فهريق عليهم من النبيذ الذي كانوا يشربونه في ذلك القصر. فرفعوا الأمر لنور الدين، فلم يزل حتى استوهبه من صاحبه ووقفه برسم الصوفية مؤبداً لهم. فطال العجب من السماحة بمثله، وبقي أثر الفضل فيه مخلداً لنور الدين، رحمه الله.
ومناقب هذا الرجل الصالح كبيرة، وكان من الملوك الزهاد. وتوفي في شوال سنة تسع وستين وخمس مئة، واستولى بعده على الأمر صلاح الدين، وهو على طريقة من الفضل شهيرة، وشأنه في الملوك كبير، وله الأثر الباقي شرفه من ازالة المكوس بطريق الحجاز، ودفعه عوضاً عنها لصاحب الحجاز. وكانت الأيام قد استمرت قديماً بهذه الضريبة اللعينة أن محا الله رسمها على يدي هذا الملك العادل، أصلحه الله.


ومن مناقب نور الدين، رحمه الله تع، أنه كان عين للمغاربة الغرباء، والملتزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك، أو قافاً كثيرة، منها طاحونتان وسبعة بساتين وأرض بيضاء وحمام ودكانان بالعطارين. وأخبرني أحد المغاربة الذين كانوا ينظرون فيه، وهو أبو الحسن علي بن سردال الجياني المعروف بالأسود: أن هذا الوقف المغربي يغل، اذا كان النظر فيه جيداً، خمس مئة دينار في العام. وكان له، رحمه اللهن بجانبهم فضل كبير، نفعه الله بما أسلف من الخير، وهيأ دياراً موقوفة لقراء كتاب الله عز وجل يسكنونها.

مرافق الغرباء

ومرافق الغرباء بهذه البلدة أكثر من أن يأخذها الاحصاء، ولاسيما لحفاظ كتاب الله، عز وجل، والمنتمين للطلب. فالشأن بهذه البلدة لهم عجيب جداً.


والاتساع أوجد. فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثيرة فأولها فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فاذا كانت الهمة فقد وجد السبيل الاجتهاد، ولا عذر للمقصر الا من يدين بالعجز والتسويف، فذلك من لايتوجه هذا الخطاب عليه، وانما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والاولاد تقرع سن الندم على زمن التضييع، والله يوفق ويرشد، لا اله سواه، قد نصحت أن ألفيت سامعاًن وناديت أن اسمعت مجيباً، "ومن يهد الله فهو المهتد"، جلت قدرته، وتع جده. ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها الا مباجرة أهلها لإكرام الغرباء وايثار الفقراء، ولاسيما أهل باديتها، فانك تجد من بدار بر الضيف عجباً، كفى بذلك شرفاً لها. وربما يعرض أحدهم كسرته على فقير فيتوقف عن قبولها، فيبكي الرجل ويقول: لو علم الله في خيراً لأكل الفقير طعامي، لهم في ذلك سر شريف.

من عجيب أمر المشارقة

ومن عظيم أمرهم تعظيمهم للحاج، على قرب مسافة الحج منهم، وتيسير ذلك لهم، واستطاعتهم لسبيله. فهم يتمسحون بهم عند صدورهم، ويتهافتون عليهم تبركاً بهم. ومن أغرب ما حدثناه من ذلك: أن الحاج الدمشقي مع من انضاف اليهم من المغاربة عند صورهم دمشق في هذا العام، الذي هو عام ثمانين، خرج الناس لتلقيهم: الجم الغفير نساء ورجالاً، يصافحونهم ويتمسحون بهم، وأخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها، وأخرجوا اليهم الأطعمة. فأخبرني من أبصر كثيراً من النساء يتلقين الحاج ويناولنهم الخبز، فإذا عض الحاج فيه اختطفنه من أيديهم وتبادرن لأكله تبركاً بأكل الحاج له ودفعن له عوضاً منه دراهم، غير ذلك من الأمور العجيبة ضد ما اعتدنا في المغرب في ذلك، وضع بنا في بغداد عند تلقي الحاج بها مثل ذلك أو قريب منه. ولو شئنا استقصاء هذه الأمور لخرجت بنا عن مقصد التقييد، وانما وقع الإلماع بلمحة دالة يكتفى بها عن التطويل. وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم أن أحب ضيعة من الضياع فيكون فيها طيب العيش، ناعم البال، وينثال الخبز عليه من أهل الضيعة، ويلتز الإمامة أو التعليم أو ماشاء. ومتى سئم المقام خرج ضيعة أخرى أو يصعد جبل لبنان أو جبل الجودي فيلقي بها المريدين المنقطعين الله، عز وجل، فيقيم معهم ماشاء، وينصرف حيث شاء.
? نصارى جبل لبنان ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان اذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا اليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع الله عز وجل فتجب مشاركتهم.

وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا، فيه أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة، وقلماً يخلو من التبتيل والزهادة. واذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض.

الحرب واتفاق النصارى والمسلمين

ومن أعجب مايحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من اعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو اشف قليلاً، وهو سرارة أرض فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي أربع مئة قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره.


واختلاف القوافل من مصر دمشق على بلاد الافرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق عكة كذلك. وتجار النصارى ايضاً لايمنع أحد منهم ولا يعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الآمنة على غاية. وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب.
هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك. ولاتعترض الرعايا ولا التجار، فالأمن لايفارقهم في جميع الأحوال سلماً أو حرباً. وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه، والله يعلي كلمة الإسلام بمنه.