ولهذه البلدة قلعة يسكنها السلطان منحازة في الجهة الغربية من البلد، وهيو بإزاء باب الفرج من أبواب البلد، وبها جامع السلطان يجمع فيه، وعلى مقربة منها، خارج البلد في جهة الغرب، ميدانان كأنهما مبسوطان خزاً لشدة خضرتهما، وعليهما حلق، والنهر بينهما، وغيضة عظيمة من لحور متصلة بهما، وهما من أبدع المناظر، يخرج السلطان اليهما ويلعب فيهما بالصوالجة ويسابق بين الخيل فيهما، ولا مجال للعين كمجالها فيهما. وفي كل ليلة يخرج أبناء السلطان اليهما للرماية والمسابقة واللعب بالصوالجة. وبهذه البلدة أيضاً قرب مئة حمام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين داراً للوضوء يجري الماء فيها كلها. في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب، لأن المرافق بها كثيرة. وفي الذي ذكرناه من ذلك كفاية، والله يبقيها دار اسلام وأسواق هذه البلدة من أحفل اسواق البلاد وأحسنها انتظاماً وابدعها وضعاً، ولاسيما قيسارياتها، وهي مرتفعات كأنها الفناديق مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور، وكل قيسارية منفردة بضبتها واغلاقها الجديدة. ولها ايضاً سوق، يعرف بالسوق الكبير، يتصل من باب الجابية باب شرقي. وفيه بيت صغير جداً قد اتخذ مصلى الله عليه وسلم، وفي قبلته حجر يقال: أن ابراهيم، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم،كان يكسر عليه الآلهة التي كان يسوقها أبوه للبيع.
وحديث الدار المنسوبة لعمر بن عبد العزيز، التي هي اليوم خائفة للصوفية، وهي في الدهلير الذي في الباب الشمالي المعروف بباب الناطفيين، وقد تقدم التنبيه عليها قبل هذا، حديث عجيب، وذلك أن الذي اشتراها وبناها وجعل لها الأوقاف الواسعة وأمر بأن يدفن فيها وأن يختم على قبره القرآن كل جمعة وعين من تلك الأوقاف لمن يحضر ذلك كل جمعة رطلا من خبز الحواري، وهو ثلاثة أرطال من أرطال المغرب، رجل من العجم يعرف بالسميساطي، وسميساط بلدة من بلاد العجم، وكان موصوفاً بالورع والزهد، وأصل يساره وتموله، فيما ذكر لنا، أنه الفى يوماً من الأيام بالدهليز المذكور ازاء الدار المذكورة رجلاً أسود مريضاً مطروحاً بموضعه غير ملتفت اليه ولا معتنى به، فتأجر فيه والتزم تمريضه وخدمته والنظر له اغتناماً للثواب من الله عز وجل، فحانت وفاة الرجل، فاستدعى ممرضه السميساطي المذكور فقال له: أنت قد أحسنت الي وخدمتني ولطفت في تمريضي واشفقت لحالي وغربتي، فأنا اريد أن اكافئك على فعلك بي زائداً مكافأة الله عز وجل عني في الآجل، إن شاء الله؛ وذلك أني كنت من أحد فتيان الخليفة المعتضد العباسي، ومعروفاً بزمام الدار، وكانت لي حظوة ومكانة، فعتب علي في بعض الامر، فخرجت طريداً، فانتهيت هذه البلدة، فأصابني فيهامن أمر الله مااصابني، فسببك الله لي رحمة، فأنا اقلدك أمانة وأعهد اليك فيها عهداُ، اذا انا مت وغسلتني فانهض على بركة الله تع بغذاد وتلطف في السؤال عن دار صاحب الزمام فتى الخليفة، فاذا ارشدت اليها فصرف الحيلة في اكترائها، وارجو أن الله يعينك على ذلك، واذا سكنتها فاعمد موضع، سماه له فيها وذكر له امارة عليه، فاحفر فيه مقدار كذا وانزع اللوح الذي تجه معترضاً تحت الأرض وخذ الذي تجده مدفوناً تحت الأرض وصرفه في منافعك ومايوفقك الله اليه من وجوه البر والخير مباركاً لك في ذلكن إن شاء الله.
ثم توفي الرجل الموصي، رحمه الله، وتوجه الموصى اليه بعهده بغداد، فيسر الله له في اكتراء الدار وانتهى الموضع المذكور فاستخرج منه ذخائر لا قيمة لها، عظيمة الشأن،كبيرة القدر، فدسها في احمال متاع ابتاعها وخرج دمشق من بغداد، فابتاع الدار المذكورة المنسوبة لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وبناها خانقة للصوفية واحتفل فيها وابتاع لها الأوقاف ضياعاً ورباعاً وجعلها برسم الصوفية، وأوصى بأن يدفن فيها وأن يختم القرآن على قبره كل جمعة، وعين لكل من يحضرذلك ماذكرناه. فوجد الغرباء والفقراء في ذلك مرفقاً كثيراً. فتغص الخانقة بالقرأة كل جمعة، فإذا ختموا القرآن دعوا له وانصرفوا واندفع لكل واحد منهم رطل من الخبز، على الصفة المذكورة. وبقي للمتوفى جميل الأثر والخير، رحمه الله ورضوانه عليه.
والكوثرية التي ذكرناها ايضاً بالجامع المكرم، والمقروءة كل يوم بعد العصر، المعينة لمن لايحفظ القرآن كان اصلها ايضاً أن أحد ذوي اليسار توفي واوصى بأن يدس قبره في الجامع المكرم واوقف وقفاً يغل مئة وخمسين ديناراً في السنة برسم من لايحفظ القرآن ويقرأ من سورة الكوثر الخاتمة، فينقسم له أربعون ديناراً، في كل ثلاثة أشهر من السنة. ويذكر أن أحد الملوك السالفين توفي أيضاً وأوصى بأن يجعل قبره الجامع المكرم بحيث لايظهر، وعين أوقافاً عظيمة تغل نحو الألف دينار وأربع مئة دينار في السنة وزائد لقراء سبع القرآن كل يوم. وموضع الاجتماع لقراءة هذا السبع المبارك كل يوم، اثر صلاة الصبح، بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة، رضي الله عنهم، ويقال: أن في ذلك الموضع هو القبر المذكور. وقراءة السبع لاتتعدى ذلك الموضع متصلاً مع جدار القبلة الجدار الشرقي، والله عز وجل لايضيع أجر المحسنين. وبقيت هذه الرسوم الشريفة مخلدة مع الأيام، نفع الله بها راسميها. وناميك فيها من بلاد يهدى فيها لهذه الصنائع الزلفة لرضوان الله، عز وجل، وللفقراء الملتزمين الجلوس في الجانب الشرقي من الجامع المكرم، الذين ليس لهم مأوى يأوون اليه، وقف وصعه بعض المتأجرين الموفقين برسمهم، مايطول ذكره من المآثر الاخراوية الصدقية التي كفل الله بها غرباء هذه الجهات.
ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد المستحسنة، المرجو لهم فيها من الله، عز وجل، قبول، أنهم في كل سنة يتوخون الوقوف يوم عرفة بجوامعهم اثر صلاة العصر، يفق بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم داعين ربهم التماساً لبركة الساعة التي يقف فيها وفد الله عز وجل وحجيج بيته الحرام بعرفات، فلا يزالون واقفين داعين متضرعين الله عز وجل، وبحجاج بيته الحرام متوسلين، أن يسقط قرص الشمس ويقدروا نفر الحاج فينفصلوا باكين على ماحرموه من ذلك الموقف العظيم بعرفات وداعين الله عز وجل في أن يوصلهم اليها ولا يخليهم من بركة القبول في فعلهم ذلك.
ومن أعظم ما شاهدناه من مناظر الدنيا الغريبة الشأن، وهيا كلها الهائلة البنيان، المعجزة الصنعة والاتقان، المعترف لوصفها بالتقصير لسان كل بيان: الصعود أعلى قبة الرصاص المذكورة في هذا التقييد، القائمة وسط الجامع المكرم، والدخول في جوفها، واحالة لحظ الاعتبار في بديع وضعها، مع القبة التي في وسطها كأنها كرة مجوفة داخلة وسط كرة أخرى أعظم منها؛ صعدنا اليه في جملة من الأصحاب المغاربة ضحوة يوم الاثنين الثامن عشر لجمادى الأولى المذورة من مرقى في الجانب الغربي من بلاط الصحن كان صومعة في القديم، وتمشينا على سطح الجامع المكرم، وكله ألواح رصاص منتظمة، كما قد تقدم الذكر لذلك، وطول كل لوح أربعة أشبار، وعرضه ثلاثة أشبار، وربما اعترض في الألواح نقص أو زيادة، حتى انتهينا القبة المذكورة، فصعدنا اليها على سلم منصوب، وريح الميد تكاد تطير بنا، فحبونا في الممشى المطيف بها، وهو من رصاص، وسعته ستة أشبار، فلم نستطع القيام عليه لهول الموقف فيه، فأسرعنا الولوج في جوف القبة على أحد شراجيبها المفتحة في الرصاص، فأبصرنا مرأى تحار فيه العقول، وتفق دون ادراك هيبة وصفه الافهام، وجلنا في فرش من الخشب العظام حول القبة الصغيرة الداخلة في جوف القبة الرصاصية على الصفة التي ذكرناها، ولها طيقان يبصر منها الجامع ومن فيه، فكنا نبصر الرجال فيه كأنهم الصبيان في المحاضر.
وهذه القبة مستديرة كالكرة، وظاهرها من خشب قد شد باضلاع من الخشب الضخام موثقة بنطق من الحديد، ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها. وداخل هذه القبة، وهو مايلي الجامع المكرم، خواتيم من الخشب منتظم بعضها ببعض قد اتصل اتصالاً عجيباً، وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب، مزخرفة التلوين، بديعة القرنصة، يرتمي الأبصار شعاع ذهبها، وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموها؛ أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتماً مطروحاً جوف القبة، لم يكن طوله أقل من ستة أشبار في عرض اربعة. وهو تلوح في انتظامها للعين كأن دور كل واحدة منها شبراً وسبران الغاية لعظم سموها.
والقبة الرصاص محتوية على هذه القبة المذكورة وقد شدت أيضاً بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام، موثقة الاوساط بنطق الحديد، وعددها ثمان وأربعون ضلعاً، بين كل ضلع وضلع أربعة أشبار، قد انعطفت انعطافاً عجيباً، واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب اعلاها، ودور هذه القبة الرصاصية ثمانون خطوة، وهي مئتا شبر وستون شبراً، والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها، وانما هذا الذي ذكرناه نبذة يستدل بها على ماوراءها. وتحت الغارب المستطيل المسمى النسر، الذي تحت هاتين القبتين، مدخل عظيم هو سقف للمقصورة، بينه وبينها سماء جص مزينة، وقج انتظم فيه من الخشب مالا يحصى عدده، وانعقد بعضها ببعض، وتقوس بعضها على بعض، وتركبت تركيباً هائلاً منظره. وقد أدخلت في الجدار كله دعائم للقبتين المذكورتين. وفي ذلك الجدار حجارة، كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة، لاتنقلها الفيلة فضلاً عن غيرها. فالعجب كل العجب من تطليعها ذلك الموضع المفرط السمو، وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك، فسبحان من ألهم عباده هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على التأتي لما ليس موجوداً في طبائعهم البشرية، ومظهر آياته على أيدي من يشاء من خلقه، لا اله سواه؟ والقبتان على قاعدة مستديرة من الحجارة العظيمة قد قامت فوقها أرجل قصار ضخام من الحجارة الصم الكبار، وقد فتح بين كل رجل ورجل شمسية، وستدارت الشمسيات باستدارتها، والقبتان في رأي العين واحدة، وكنينا عنها باثنين لكون الواحدة في جوف الأخرى، والظاهر منها قبة الرصاص.
ومن جملة عجائب ماعايناه في هاتين القبتين أن لم نجد فيهما عنكبوتاً ناسجاً على بعد العهد من التفقد لهما من أحد والتعاهد لتنظيف مساحتهما، والعنكبوت في أمثالهما موجود كثير. وقد كان حقق عندنا أن الجامع المكرم لاتنسج فيه العنكبوت، ولايدخله الطير المعروف بالخطاف، وقد تقدم ذكرنا لذلك في هذا التقييد. فانصرفنا منحدرين، وقد قضينا عجباً عجاباً من هذا المنظر العظيم شأنه، المعجز وضعه، المرتفع عن الإدراك وصفه، ويقال: أنه ما على ظهر المعمور أعجب منظراً ولا أبعد سمواً ولا أغرب بنياناً من هذه القبة الا مايحكى عن قبة بيت المقدس، فانها يحكى أنها أبعد في الارتفاع والسمو من هذه وجملة الأمر أن منظرها والوقوف على هيئة وضعها وعظيم الاستقدار فيها عند معاينها بالصعود اليها والولوج داخلها من أغرب ما يحدث به من عجائب الدنيا، والقدرة لله الواحد القهار، لا اله سواه.
ولأهل دمشق وغيرها من هذه البلاد في جنائزهم رتبة عجيبة، وذلك أنهم يمشون أما الجنائز بقراء يقرأون القرآن بأصوات شجية، وتلاحين مبكية، تكاد تنخلع لها النفوس شجواً وحناناً، يرفعون أصواتهم بها، فتتلقاها الآذان بأدمع الأجفان، وجنائزهم يصلى الله عليه وسلم عليها في الجامع قبالة المقصورة، فلا بد لك جنازة من الجامع، انتهوا بابه قطعوا القراءة، ودخلوا موضع الصلاة عليها، الا أن يكون الميت من أئمة الجامع أو من سدنته، فإن الحالة المميزة له في ذلك أن يدخلوه بالقراءة موضع الصلاة عليه. وربما اجتمعوا اللعزاء بالبلاط الغربي من الصحن بإزاء باب البريد، فيصلون أفراداً أفراداً، ويجلسون وأمامهم ربعات من القرآن يقرأونها، ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل وصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانهم ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة الدين، فتسمع ماشئت من صدر الدين أو شمسه أو بدره أو مجمه أو زينه أو بهائه أو جماله أومجده أو فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه، مالا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة؛ وتتبعها، ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضاً من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الإسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتي الفريقين، مالانهاية له من هذه الألفاظ المحالية. فيصعد كل واحد منهم التشريعة ساحباً أذياله من الكبر، ثانياً عطفه وقذاله. فإذا استكملوا وفرغوا من القراءة وانتهى المجلس بهم منتهاه قام وعاظهم واحداً واحداً بحسب رتبهم في المعرفة فوعظ وذكر ونبه على خدع الدنيا وحذر وأنشد في المعنى ماحضر من الأشعار ثم ختم بتعزية صاحب المصاب والدعاء له وللمتوفى ثم قعد، وتلاه آخر على مثل طريقته أن يفرغوا ويتفرقوا. فربما كان مجلساً نافعاً لمن يحضره من الذكرى. ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، واذا لقي أحد منهم آخر مسلماً يقول: جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة، كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطياً، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم ايماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحط وآخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هوباً. وهذه الحالة من الانعكاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لقينات النساء، وعند استعراض رقيق الإماء، فيا عجباً لهولاء الرجال، كيف تحلوا بسمات ربات الحجال، لقد ابتذلوا أنفسهم فما تأنف النفوس الأبية منه، واستعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه! لهم في الشأن طرائق عجيبة في الباطل. فيا للعجب منهم، اذا تعاملوا بهذه المعاملة وانتهوا هذه الغاية في الألفاظ بينهم فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟! لقد تساوت الأذناب عندهم والرؤوس، ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس! فسبحان خالق الخلق أطواراً، لاشريك له، ولا معبود سواه.
ومن عجيب حال الصغير عندهم والكبير، بجميع هذه الجهات كلها، أنهم يمشون وأيديهم خلف قابضين بالواحدة على الأخرى، ويركعون للسلام على تلك الحالة المشبهة بأحوال العناة مهانة واستكانة، كأنهم قد سيموا تعنيفاً، وأوثقوا تكتيفاً، وهم يعتقدون تلك الهيئة لهم تمييزاً لهم في ذوي الخصوصية وتشريفاً، ويزعمون أنهم يجدون بها نشاطاً في الأعضاء، وراحة من الاعياء، والمحتشم منهم من يسحب ذيله على الأرض شبراً أو يضع خلفه اليد الواحدة على الآخرى، قد اتخذوا هذه المشية بينهم سنناً، وكل منهم قد زين له سوء علمله فرآه حسناً، أستغفر الله منهم! فإن لهم من آداب المصافحة عوائد تجدد لهم الإيمان، وتستوهب لهم من الله الغفران، لما بشر بيه الحديث المأثور عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، في المصافحة، فهم يستعملونها اثر الصلوات، ولاسيما اثر صلاة الصبح وصلاة العصر.
واذ1 سلم الإمام وفرغ من الدعاء أقبلوا عليه بالمصافحة، وأقبل بعضهم على بعض يصافح المرء عن يمينه وعن يساره، فيتفرقون عن مجل مغفرة، بفضل الله عز وجل، وقد تقدم الذكر فيما سلف من هذا التقييد أنهم يستعملونها عند رؤية الأهلة، ويدعو بعضهم لبعض بتعرف بركة ذلك الشهر ويمنه واستصحاب السعادة والخيثر فيه وفيما يعود عليه من أمثاله، وتلك أيضاً طريقة حسنة ينفعهم الله بها لما فيها من تعاطي الدعوات وتجديد المودات، ومصافحة المؤمنين بعضهم بعضاً رحمة من الله تع ونعمة.
وقد تقدم الذكر أيضاً في غير موضع من هذا الكتاب عن حسن سيرة السلطان بهذه الجهات: صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب، وماله من المآثر المأثورة في الدنيا والدين، ومثابرته على جهاد أعداء الله، لأنه ليس أمام هذه البلدة بلدة للاسلام، والشام أكثره بيد الإفرنج، فسبب الله هذا السلطان رحمة للمسلمين بهذه الجهات، فهو لايأوي لراحة، ولايخلد دعة، ولايزال سرجه مجلسه؛ انا بهذه البلدة نازلون منذ شهرين اثنين وحللناها وقد خرج لمنازلة حصن الكرك، وقد تقدم الذكر أيضاً له، وهو عليه محاصر حتى الآن، والله تع يعينه على فتحه. وسمعنا أحد فقهاء هذه البلدة زعمائها المسلمين بسدة هذا السلطان والحاضرين مجلسه يذكر عنه في حضرة محفل علماء البلد وفقهائه ثلاث مناقب في ثلاث كلمات حكاها عنه رأينا اثباتها هناك: أحداها أن الحلم من سجاياه، فقال، وقد صفح عن جريرة أحد الجناة عليه: أما أنا فلأن أخطئ في العفو أحب الي من أن أصيب في العقوبة. وهذا في الحلم منزع أحنفي. وقال أيضاً، وقد تنوشدت بحضرته الأشعار وجرى ذكر من سلف من أكارم الملوك وأجوادهم: والله لو وهبت الدنيا للقاصد الآمل لما كنت أستكثرها له، ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي لما كان عوضاً مما أراقه من حر ماء وجهه في استمناحه اياي. وهذا في الكرم مذهب رشيدي او جعفري. وحضره أحد مماليكه المتميزين لديه بالخطة والأثرة مستعدياً على جمال ذكر أنه باعه جملاً معيباً أو صرف عليه جملاً بعيب لم يكن فيه، فقال السلطان له: ماعسى أن أصنع لك، وللمسلمين قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته، والشحنة عندهم صاحب الشرطة، فالحق بقضي لك أو عليك. وهذا في العقد مقصد عمري. وهذه كلمات كفى بها لهذا السلطان فخراً، والله يمتع ببقائه الإسلام والمسلمين بمنه.
استهل هلاله ليلة الأحد التاسع من شهر شتنبر العجمي ونحن بدمشق، حرسها الله، على قدم الرحلة عكة، فتحها الله والماس ركوب البحر مع تجار النصارى وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف المعروف عندهم بالصليبية، عرفنا الله في ذلك معهود خيرته، وتكفلنا بكلاءته وعصمته، بعزته وقدرته، انه سبحانه الحنان المنان، ولي الطول والاحسان، لارب غيره، وكان انفصالنا منها عشي يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور، وهو الثالث عشر من شهر شتنبر المذكور، في قافلة كبيرة من التجار المسافرين بالسلع عكة.
ومن أعجب مايحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج بلاد الافرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين، شاهدنا من ذلك عند خروجنا أمراً عجيباً، وذلك أن صلاح الدين عند منازلته حصن الكرك، المتقدم الذكر في هذا التاريخ، قصد اليه الافرنج في جميعهم، وقد تألبوا من كل أوب وراموا أن يسبقوه موضع الماء ويقطعوا عنه الميرة من بلاد المسلمين. فصمد لهم وأقلع عن الحصن بجملته وسبقهم موضع الماء. فحادوا عن طريقه وسلكوا طريقاً وعراً ذهب فيه أكثر دوابهم، وتوجهوا حصن الكرك المذكور، وقد سد عليهم بنيات الطرق القاصدة بلادهم ولم يبق لهم الا طريق عن الحصن يأخذ على الصحراء ويبعد مداه عليهم بتحليق يعترض فيه. فاهتبل صلاح الدين في بلادهم الغرة وانتهز الفرصة وقصد قصدها عن الطريق القاصدة، فدهم مدينة نابلوس وهجمها بعسكره فاستولى عليها وسبى كل من فيها وأخذ اليها حصوناً وضياعاً. وامتلأت أيدي المسلمين سبياً لايحصى عدده من الافرنج، ومن فرقة من اليهود تعرف بالسمرة منسوبة السامري. وانبسط فيهم القتل الذريع، وحصل المسلمون منها على غنائم يضيق الحصر عنها، مااكتفت من الأمتعة الذخائر والأسباب والأثاث، النعم والكراع، غير ذلك. وكان من فعل هذا السلطان الموفق أن أطلق أيدي المسلمين على جميع مااحتازته، وسلم لهم ذلك، فاحتازت كل يد ماحوت وامتلأت غنى ويساراً. وعفى الجيش على رسوم تلك الجهات التي مرعليها من بلاد الفرنج، وآبوا غانمين فائزين بالسلامة والغنيمة والاياب، وتخلصوا من أسرى المسلمين عدداً كثراً، وكانت عزوة لم يسمع مثلها في البلاد.
وخرجنا نحن من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه، وكان مبلغ السبي آلافاً لم نتحقق احصاءها ولحق السلطان بدمشق يوم السبت بعدنا الاقرب ليوم انفصالنا وأعلمنا أنه يجم عسكره قليلاً وبعود الحصن المذكور، فالله يعينه ويفتح عليه بعزته وقدرته. وخرجنا نحن بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة! فان مبيتنا ليلة الجمعة بدارية، وهي قرية من دمشق على مقدار فرسخ ونصف ثم رحلنا منها صبيحة يوم الجمعة بعده قرية تعرف ببيت جن، هي بين جبال، ثم رحلنا منها صبيحة يوم السبت مدينة بانياس، واعترضنا في نصف الطريق شجرة بلوط عظيمة الجرم متسعة التدويح، أعلمنا أنها تعرف بشجرة الميزان، فسألنا عن ذلك، فقيل لنا: هي حد بين الأمن والخوف في جهة بلاد المسلمين ولو بباع أو شبر أسر، ومن أخذ دونها جهة بلاد الافرنج بقدر ذلك أطلق سبيله، لهم في ذلك عهد يوفون به، وهو من أظرف الاتباطات الافرنجية وأغربها.
هذه المدينة ثغر بلاد المسلمين، وهيو صغيرةن ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر يقضي أحد أبواب المدينة، وله مصب تحت أرجاء . وكانت بيد الافرنج فاسترجعها نور الدين، رحمه الله. ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للافرنج يسمى هونين، بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ. فهم يتشاطرون الغلة على استواء، ومواشيهم مختلطة، ولا حيف يجر يبنهما حصن الافرنج المذكور فكان مبيتنا بها، ثم رحلنا منها يوم الاحد سحراً، واجتزنا في طريقنا بين هونين وتبنين بواد ملتف الشجر، وأكثر شجره الرند، بعيد العمق كأنه الخندق الشحيق المهوى، تلتقي حافتاه، ويتعلق بالسماء أعلاه، يعرف بالاسطيل لو ولجته العساكر لغابت فيه، لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه؛ المهبط اليه والمطلع عنه عقبتان كؤودان، فعجبنا من أمر ذلك المكان. فأجزناه ومشينا عنه يسيراً وانتهينا حصن كبير من حصون الافرنج يعرف بتبنين، وهو موضع تمكيس القوافل، وصاحبته خنزيرة تعرف بالملكة، وهو ام الملك الخنزير صاحب عكة، دمرها الله، فكان مبيتنا أسفل ذلك الحصن، ومكس الناس تمكيساً غير مستقصى، والضريبة فيه دينار وقيراط من الدنانير الصورية على الراس، ولا اعتراض على التجار فيه لأنهم يقصدون موضع الملك الملعون، وهو محل التعشير، والضريبة فيه قيراط من الدينار، والدينار أربعة وعشرون قيراطاً.
وأكثر المعترضين في هذا المكس المغاربة، ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلاد المسلمين، وذكل لمقدمة منهم أحفظت الافرنج عليهم، سببها أن طائفة من أنجادهم عزت مع نور الدين، رحمه الله، أحد الحصون فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الافرنج بهذه الضريبة المكسية ألزموها رؤوسهم، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم. وقال الافرنج: أن هولاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسألهم ولا نرزأهم شيئاً، فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع اخوانهم المسلمين علينا وجب ن نضع هذه الضريبة عليهمن فللمغاربة في أداء هذا المكس سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم ويخفف عنتهم عنهم.
ورحلنا من تبنين، دمرها الله، سحر يوم الاثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة، سكانهاكلها مسلمون، وهم مع الافرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أو أن ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولايعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضاً. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكل مابأيدي الافرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل، رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد اشربت الفتنة قلوب اكثرهم لما يبصرون عليه اخوانهم من أخل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيثه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكي الصنف الاسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه الملك له من الافرنج، ويأنس بعدله، ف الله المشتكي من هذه الحال، وحسبنا تعزية وتسلية ماجاء في الكتاب العزيز: أن هي الا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء.
فنزلنا يوم الاثنين المذكور بضيعة من ضياع عكة، على مقدار فرسخ، ورئيسها الناظر فيهامن المسلمين مقدم من جهة الافرنج على من فيها من عمارها من المسلمين. فأضاف جميع أهل القافلة حفيلة أحضرهم صغيراً وكبيراً في غرفة متسعة بمنزله وأنالهم ألواناً من الطعام قدمها لهم، فعمهم بتكرمته. وكنا فيمن حضر هذه الدعوة. وبتنا تلك الليلة وصبحنا يوم الثلاثء العاشر من الشهر المذكور، وهو الثامن عشر لشتنبر، مدينة عكة، ودمرها الله، وحملنا الديوان، وهو خان معد لنزول القافلة، وأمام بابه مصاطب مفروشة فيها كتاب الديوان من النصارى بمحابر الآبنوس المذهبة الحلى، وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها، ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له يعرف بالصاحب، لقب وقع عليه لمكانه من الخطة، وهم يعرفون به كل محتشم متعين عندهم من غير الجند. وكل مايجبى عندهم راجع الضمان، وضمان هذا الديوان بمال عظيم. فأنزل التجار رحالهم به ونزلوا في أعلاه، طلب رحل من لاسلعة له لئلا يحتوي على سلعة مخبؤءة فيه وأطلق سبيله فنزل حيث شاء. وكل ذلك برفق وتؤدة دون تعنيف ولاحمل. فنزلنا بها في بيت اكتريناه من نصرانية بإزاء البحر، وسألنا الله تع حسن الخلاص وتيسير السلامة.