هذه المدينة موسم تجار الكفار، ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار، كثيرة الأرفاق برخاء الأسعار، مظلمة الآفاق بالكفر لايقر فيها لمسلم قرار، مشحونة بعبدة الصلبان، تغص بقاطنيها، وتكاد تضيق ذرعاً بساكنيها، مملوءة نتناً ورجساً، موحشة لاتوجد لغريب أنساً، أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بإرغاد العيش كفيلة، لاتزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان، مستندة جبال قد انتظمت حضيضها وخنادقها، والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها. ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية، لأن المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسه وتنصب منها البر خشبة يتصرف عليها، فالحمال يصعد بحمله اليها ولا يحتاج لزوارق في وسقها ولا في تفريغها الا ما كان مرسياً على البعد منها يسيراً، فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها واصطبلاتها، وذلك لإفراط عمق البحر فيها، وهو زقاق معترض بينها ونبين الأرض الكبيرة، بمقدار ثلاثة أميال، ويقابلها منه بلدة تعرف برية، وهي عمالة كبيرة. وهذه المدينة: مسينة، رأس جزيرة صقلية، وهي كثيرة المدن والعمائر والضياع، وتسميتها تطول.
وطلو هذه الخزيرة: وهو يأتزر بالسحب لإفراط سموه ويعتم بالثلج شتاء وصيفاً دائماً، وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف، وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة، وكثرة الخصب والرفاهة، مشحونة بالأرزاق على اختلافها، مملوءة بانواع الفواكه واصنافها، لكنها معمورة بعبدة الصلبان، يمشون في مناكبها، ويرتعون في أكنافها. والمسلمون معهم على املاكهم وضياعهم، وقد حسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم اتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها، والله عز وجل يصلح أحوالهم، ويجعل العقبى الجميلة مآلهم، بمنه. وجبالها لكها بساتين مثمرة بالتفاح والشاه بلوط والبندق والإحاص وغيرها من مالفواكه.
وليس في مسينه هذه من المسلمين الا نفر يسير من ذوي المهن، ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب، وأحسن مدنها قاعدة ملكها، والمسلمون يعرفونها بالمدينة، والنصارى يعرفونها ببلازمة، وفيها سكنى الحضريين من المسلمين، ولهم فيها المساجد، والأسواق المختصة بهم في بالأرباض كثير. وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها، وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها. لكن المدينة الكبيرة التي هي مسكن ملكها غليام أكبرها وأحفلها وبعدها مسينة. وبالمدينة إن شاء الله يكون مقامنا، ومنها نؤمل سفرنا حيث يقضي الله عز وجل من بلاد المغرب إن شاء الله.
وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب، ولكهم أو أكثرهم كاتم إيمانه متمسك بشريعة الإسلام، وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن اليهم في أحواله والمهم من أشغاله، حتى أن الناظر في مطبخته رجل من المسلمين، وله جملة من العبيد السود المسلمين، وعليهم قائد منهم. ووزراؤه وحجابه الفتيان، وله منهم جملة كبيرة، هم أهل دولته والمرتسمون بخاصته، وعليهم يلوح رونق مملكته، لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة، ومامنهم إلا من له الحاشية والخول والأتبارع.
ولهذا الملك القصور المشيدة والبساتين الأنيقة، ولاسيما مجضرة ملكة المدينة المذكورة. وله بمسينة قصر أبيض كالحمامة مطل على ساحل البحر. وهو كثير الاتخاذ للفتيان والجواري. وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أنعم ولا أرفه منه، وهو يتشبه في الأنغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك واظهار زينته بملوك المسلمين، وملكه عظيم جداً. وله الأطباء والمنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم، شديد الحرص عليهم، حتى أنه متى ذكر له أن طبيباً أو منجماً أجتاز ببلده أمر بإمساكه وأدر له أرزاق معيشته حتى يسليه عن وطنه، والله يعيذ المسلمين من الفتنة به بمنه. وسنة نحو الثلاثين سنة، كفى الله المسلمين عاديته وبسطته. ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته، على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به: الحمد لله حق حمده. وكانت علامة أبيه: الحمد لله شكراً لأنعمه.
المسلمون في دولة عليام وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن. ومن أعجب ماحدثنا به خديمه المذكور، وهو يحيى بن فتيان الطراز، وهو يطرز بالذهب في طراز الملك: أن الافرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة، تعيدها الجواري المزكورات مسلمة، وهن علىتكتم من ملكهن في ذلك كله، ولهن في فعل الخير أمور عجيبة. وأعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذعر لها هذا المشرك. فكان يتطلع في قصره فر يسمع الا ذاكراً لله ولرسوله من نسائه وفتيانه، وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به؛ تسكيناً لهم.
وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون، ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعاً وتأجراً، ويتصدق تقرباً الله وتزلفاً، ويفتك الأسرى ويربي الأصاغر منهم ويزوجهم ويحسن إليهم، ويفعل الخير ما استطاع. وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناؤ الله عز وجل بهم. لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح، من وجوههم وكبرائهم، بعد تقدمه رغبة منه تلينا في ذلك، فاحتفل في كرامتنا وبرنا وباح لنا بسره المكنون بعد مراقبة منه مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه. فسألنا عن مكلة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام، فأخبرناه، وهو يذوب شوقاً وتحرقاً، واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله، ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام، فائزون بما قصدتم له، رابحون إن شاء الله في متجركم. ونحن كاتمون إيماننا، خائفون على أنفسنا، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سراً، معتقلون في ملكة كافر بالله، قد وضع في أعناقنا ربقة الرق، فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج، واستهداء أدعيتهم، والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاسهد المقدسة، لنتخذها عدة للإيمان، وذخيرة للأكفان، فتفطرت قلوبنا له إشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة، واتحفناه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه. وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمناه سائر اخوانه من الفتيان.
ولهم في فعل الجميل أخبار مأثورة، وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجيمع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذاً من مجلسه فيقضون صلاتهم. وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عز وجل، فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم، والله ينفعهم ويجعل خلاصهم بمنه.
ولهذا الملك بمدينة مسينة المذكورة دار صنعة البحر تحتوي من الأساطيل على ما لايحصى عدد مراكبه، وله بالمدينة مثل ذلك.
فكان نزولنا في أحد الفنادق، وأقمنا بها تسعة أيام، فلما كان ليلة الثلاثاء الثاني عشر للشهر المبارك المذكور، والثامن عشر لدجنبر، ركبنا في زورق متوجهين المدينة المتقدم ذكرهان، وصرنا قريباً من الساحل بحيث نبصره رأي العين، وأرسل الله علينا ريحاً شرقية رخاء طيبة زجت الزورق أهنأ تزجيه وسرنا نسرح اللحظ في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قنن الجبال مشرفة، وأبصرنا عن يمننا في البحر تسع جزائر قد قامت جبالاً مرتفعة: على مقربة من بر الجزيرة اثنتان منها، تخرج منهما النار دائماً، وابصرنا الدخان صاعداً منهما، ويظهر بالليل ناراً حمراء ذات السن تصعد في الجو، وهو البركان المشهور خبره، وأعلمنا أن خروجها من منافس في الجبلين المذكورين يصعد منها نفس ناري بقوة شديدة تكون عنه النار، وربما قذف فيها الحجر الكبيرر فتلقي به في الساعة الهواء لقوة ذلك النفس وتمنعه من الاستقرار والانتهاء القعر، وهذا من أعجب المسموعات الصحيحة.
وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة، المعروف بجبل النار، فشأنه أيضاً عجيب، وذلك أن ناراً تخرج منه في بعض السنين كالسيل العرم، فلا تمر بشيء الا أحرقته حتى تنتهي البحر فتركب ثبجه على صفحة حتى تغوص فيه، فسبحان المبدع في عجائب مخلوقاته، لا اله سواه. أن حللنا عشي يوم الأربعاء، بعد يوم الثلاثاء المؤرخ، مرسى مدينة سفلودي، وبينهاوبين مسينة مجرى ونصف مجرى.
هي مدين ساحلية كثيرة الخصب، واسيعة المرافقن ومنتظمة أشجار الأعناب وغيرها، مرتبة الأسواق، تسكنها طائفة من المسلمين، وعليها قنة جبل واسعة مستديرة، فيها قلعة لم ير أمنع منها اتخذوها عدة لأسطول يفجؤهم من جهة البحر من جهة المسلمين، نصرهم الله. وكان اقرعنا منها نصف الليل، فجئنا مدينة ثرمة ضحة يوم الخميس بسير رويد. وبين المدينتين خمسة وعشرون ميلا، فانتقلنا فيها من ذلك الزورق زروق ثان اكتريناه لكون البحريين الذين صحبونا فيه من أهلها.
هي أحسن وضعاً من التي تقدم ذكرها، وهي جصينة، تركب البحر وتشرف عليه، واللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيه المساجد، ولها قلعة سامية منيعة. وفي أسفل البلدة حمة قد أغنت أهلها عن اتخاذ حمام. وهذه البلدة من الخصب وسعة الرزق على غاية. والجزيرة بأسرها من أعجب بلاد الله في الخصب وسعة الأرزاق. فأقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور، ونحن قد أرسينا في واد بأسفلها ويطلع فيه المد من البحر ثم ينحسر عنه. وبتنا بها ليلة الجمعة، ثم انقلب الهواء غربياً، فلم نجد للإقرع سبيلاً، وبيننا وبين المدينة المقصودة المعروفة عند النصارى ببلارمة خمسة وعشرون ميلاً، فخشينا طول المقام، وحمدنا الله ع على ما أنعم به من التسهيل في قطع المسافة في يومين، وقد تلبث الزوارق في قطعها، على ما أعلمنا به، العشرين يوماً والثلاثين يوماً ونيفاً على ذلك.
فأصبحنا يوم الجمعة منتصف الشهر المبارك على نية من المسير في البر على أقدامنان فنفذنا لطيتنا وتحملنا بعض أسبابنا وخلفنا بعض الأصحاب على الأسباب الباقية في الزورق، وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثرة صادر ووارد، وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادورن بالسلام علينا ويؤنسوننا، فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل، عصم الله جميع أمة محمد، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، من الفتنة بهم بعزته ومنه، فانتهينا قصر سعد، وهو على فرسخ من المدينة، وقد أخذ منا الإعياء فملنا اليه وبتنا فيه.
وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقه قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة، لم يزل ولا يزال، بفضل الله، مسكناً للعباد منهم، وحوله قبور كثيرة للمسلمين: أهل الزهادة والورع، وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان، وبإزائه عني تعرف بعين المجنونة، وله باب وثيق من الحديد، وداخله مساكن، وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة، وهو كامل مرافق السكنى، وفي اعلاه مسجد من احسن مساجد الدنيا بهاء، مستطيل ذو حنايا مستطيلة، مفروش بحصر نظيفة، لم ير أحسن منها صنعة، وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلاً من أنواع الصفر والزجاج، وأمامه شارع واسع يستدير بأعلى القصر، وفي أسفل القصر بئر عذبة. فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه، وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه. وأكرمنا القوم الساكنون فيه. وله إمام يصلي بهم الفريضة والتراويح في هذا الشهر المبارك. وبمقربة من هذا القصر، بنحو الميل جهة المدينة، قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر، وداخله سقاية تفور بماء عذب. وأبصرنا للنصارى في هذه الطريق كنائس معدة لمرضى النصارى، ولهم في مدنهم مثل ذلك على صفة مارستانات المسلمين، وأبصرنا لهم بعكة وبصور مثل ذلك، فعجبنا من اعتنائهم بهذا القدر.
فلما صلينا الصبح توجهنا المدينة فجئنا لندخل، فمنعنا وحملنا الباب المتصل بقصور الملك الأفرنجي، أراح الله المسلمين من ملكته، وادينا المستخلف من قبله ليسألنا عن مقصدنا، وكذلك فعلهم بكل غريب، فسلك رحاب وابواب وساحات ملوكية، وأبصرنا من القصور المشرفة والميادين المنتظمة والبساتين والمراتب المتخذة لأهل الخدمة ماراع أبصارنا وأذهل أفكارنا، وتذكرنا قول الله عز وجل "ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون" وأبصرنا فيما أبصرناه مجلساً في ساحة فسيحة قد أحدق بها بستان وانتظمت جوانبها بلاطات، والمجلس قد أخذ استطالة تلك الساحة كلها، فعجبنا من طوله واشراف مناظره، فأعلمنا أنه موضع غذاء الملك مع اصحابه وتلك البلاطات والمراتب حيث تقعد حكامه. وأهل الخدمة والعمالة أمامه. فخرج تلينا ذلك المستخلف يتهادى بين خديمين يحفان به ويرفعان أذياله، فأبصرنا شيخاً طويل السبلة أبيضها ذا أبهة، فسألنا عن مقصدنا وعن بلدنا بكلام عربي لين، فأعلمناه، فأظهر الإشفاق علينا وأمر بانصرافنا بعد أن أحفى في السلام والدعاء، فعجبنا من شأنه.
وكان أول سؤاله لنا عن خبر القسطنطينية العظمى وما عندنا منه، فلم يكن عندنا مانعلمه به، وقد نقيد خبرها بعد هذا. وكان من أغرب ماشاهدناه من الأمور الفتانة أن أحد من كان قاعداً عند باب القصر من النصارى قال لنا عند انصرافنا عن القصر المذكور: تحفظوا بما عندكم يا حجاج من العمال الممكسين لئلا يقع عليكم. وظن أن عندنا تجارة تقتضي التمكيس. فاستجاب له أحد النصارى، فقال: ما أعجب أمرك، يدخلون حرم الملك، ويخافون من شيء، ماكنت أود لهم الا آلافاً من الرباعيات، انهضوا بسلام لاخوف عليكم. فقضينا عجباً مما شاهدناه وسمعناه.
وخرجنا أحد الفنادق فنزلنا فيه، وذلك يوم السبت السادس عشر للشهر المبارك، والثاني والعشرين لدجنبر، وفي خروجنا من القصر المذكور سكلنا بلاطاً متصلاً مشينا فيه مسافة طويلة، وهو مسقف، حتى انتهينا كنيسة عظيمة البناء. فاعلمنا أن ذلك البلاط ممشى الملك هذه الكنيسة.
هي بهذه الجزائر أم الحضارةن والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، عجيبة الشان، قرطبية البنيان، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان، يشقها نهر معين، ويطرد في جنباتها أربع عيون، قد زخرفت فيها لملكها دنياه، فاتخذها حضرة ملكه الإفرنجي أباده الله، تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب، ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب، فكم له فيها، لاعمرت به، من مقاصير ومصانع، ومناظر ومطالع، وكم له بجهاتها من ديارات قد زخرف بنيانها، ورفه بالأقطاعات الواسعة رهبانها، وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها، وعسى الله عن قريب أن يصلح لهذه الجزيرة الزمان، فيعيدها دار إيمان، وينقلها من الخوف للأمان، بعزته، انه على مايشاء قدير.
وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان، يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، لهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون اليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقيده في هذا الشهر المبارك، وأما الساجد فكثيرة لاتحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن. وبالجملة فهم عزباء عن اخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ولا أم لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم، تلافاهم الله بصنع جميل بمنه.
ومن جملة شبه هذه المدينة بقرطبة، والشيء قد تشبه بالشيء من إحدى جهاته، أن لها مدينة قديمة تعرف بالقصر القديم هي في وسط المدينة الحديثة، وعلى هذا المثال موضوع قرطبة، حرسها الله. وبهذا القصر القديم دياركأنها القصور المشيدة لها مناظر في الجو مطلة تحار الأبصار في حسنها.
ومن أعجب ماشاهدناه بها من أمور الكفران كنيسة تعرف بكنيسة الأنطاكي، أبصرناها يوم الميلاد، وهو يوم عيد لهم عظيم، وقد احتفلوا لها رجالاً ونساء، فأبصرنا من بنيانها مرأى يعجز الوصف عنه، ويقع القطع بأنها أعجب مصانع الدنيا المزخرفة جدرها الداخلة ذهب كلها، وفيها من ألواح الرخام الملون مالم ير مثله قط، قد رصعت كلها بفصوص الذهب وكللت بأشجار الفصوص الخضر ونظم أعلاها بالشمسيات المذهبات من الزجاج، فتخطفت الأبصار بساطع شعاعها، وتحدث في النفوس فتنة نعوذ بالله منها، وأعلمنا أن بانيها الذي تنسب اليه أنفق فيهاقناطير من الذهب، وكان وزيراً لجد هذا الملك المشرك، ولهذه الكنيسة صومعة قد قامت على أعمدة سوار من الرخام ملونة وعلت قبة على أخرى سوار كلها فتعرف بصومعة السواري، وهي من أعجب مايبصر من البنيان، شرفها الله عن قريب بالأذان، بلطفه وكريم صنعه.
وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين: فصيحات الألسن، ملتحفات، منتقبات، خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، وبررن لكنائسهن أو كنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخصب والتعطر. فتذكرنا على جهة الدعابة الأدبية قول الشاعر:
أن من يدخل الكنيسة يوماً |
|
يلق فيها جآذراً وظبـاء |
ونعوذ بالله من وصف يدخل مدخل اللغو، ويؤدي أباطيل اللهو، ونعوذ به من تقييد، يؤدي تفنيد، أنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. فكان مقامنا بهذه المدنة سبعة أيام، ونزولنا بها في احد فنادقها التي يسكنها المسلمون، وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك، والثامن والعشرين لشهر دجنبر، مدينة أطرابنش، بسبب مركبين بها: أحدهما يتوجه الأندلس والثاني سبتة، وكنا أقلعنا الاسكندرية فيه، وفيهما حجاج وتجار من المسلمين، فسلكنا على قرى متصلة وضياع متجاورة، وأبصرنا محارث ومزارع لم نر مثل تربتها طيباً وكرماً واتساعاً، فشبهناها بقنبانية قرطبة، أو هذه أطيب وأمتن.
وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدة تعرف بعلقمة، وهي كبيرة متسعة، فيها السوق والمساجد، وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون، وقمنا منها سحر يوم السبت الثالث والعشرين لهذا الشهر المبالاك، والتاسع والعشرين لدجنبر، فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحمة،وهو بلد كبير فيه حمامات كثيرة، وقد فجرها الله ينابيع في الأرض وأسالها عناصر لايكاد البدن يحتملها لإفراط حرها، فأجزنا منها واحدة على الطريق، فنزلنا اليها عن الدواب وأرحنا الأبدان بالاستحمام فيها. ووصلنا أطرابنش عصر ذلك اليوم، فنزلنا فيها في دار اكتريناها.
هي مدينة صغيرة الساحة، غير كبيرة المساحة، مسورة بيضاء كالحمامة، مرساها من أحسن المراسي وأوفقها للمراكب، ولذلك يقصد الروم كثراً اليها ولاسيما المقلعون بر العدوة، فإن بينها وبين تونس مسيرة يوم وليلة، فالسفر منها اليها لايتعطل شتاء ولا صيفاً الا ريثما تهب الريح الموافقة، فمجراها في ذلك مجرى المجاز الغريب. وبهذه المدينة السوق والحمام وجميع مايحتاج اليه من مرافق المدن، لكنها في لهوات البحر لإحاطته بها من ثلاث جهات، واتصال البر بها من جهة واحدة ضيقة، والبحر فاغر فاه لها من سائر الجهات، فأهلها يرون أنه لا بدله من الاستيلاء عليها وأن تراخى مدى أيامها، ولايعلم الغيب الا الله تع.
وهي مرفقة موافقة لرخاء السعر بها لأنها على محرث عظيم، وسكانها المسلمون والنصارى، ولكلا الفريقين فيها المساجد والكنائس، وبركها من جهة الشرق مائلاً الشمال على مقربة منها جبل عظيم مفرط السمو متسع في أعلاه قنة تنقطع عنه، وفيها معقل للروم، وبينه وبين الجبل قنطرة، ويتصل به في الجبل للروم بلد كبير، ويقال إن حريمه من أحسن حريم هذه الجزيرة، جعلها الله سبباً للمسلمين. وبهذا الجبل الكروم والمزارع، واعلمنا أن به نحو أربع مئة عين متفجرة، وهو يعرف بجبل حامد، والصعود اليه هين من احدى جهاته، وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة، إن شاء الله، ولا سبيل أن يتركوا مسلماً يصعد اليه، ولذلك أعدوا في ذلك المعقل الحصين، فلو أحسوا بحادثة حصلوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة. واعترض بينهم وبين الذي في اعلاه متصل به خندق كبير. وشأن هذا البلد العجيب، فمن العجب أن يكون فيه من العيون المتفجرة ما تقدم ذكره، وأطرابنش في هذا البسيط ولاماء لها الا من بئر على البعد منها، وفي ديارها آبار قصيرة الأرشية ماؤها كلها شريب لايساغ.
وألفينا المركبين الذين يرومان الاقلاع المغرب بها، ونحن، إن شاء الله، ؤمل ركوب أحدهما، وهو القاصد بر الأندلس، والله بمعهود صنعه الجميل كفيل بمنه. وفي غربي هذه البلدة: أطرابنش المذكورة، ثلاث جزائر في البحر على نحو فرسخين منها، وهي صغار متجاورة: احداها تعرف بمليطمة، والاخرى بيابسة، والثالثة تعرف بالراهب، نسبت راهب يسكنها في بناء أعلاها كأنه الحصن، وهي مكمن للعدو، والجزيرتان لاعمارة فيهما، ولايعمر الثالثة سوى الراهب المذكور.
استهل هلاله ليلة السبت الخامس من ينير بشهادة ثبتت عند حاكم أطرابنش المذكورة بأنه أبصر هلال شهر رمضان ليلة الخميس، ويوم الخميس كان صيام أهل مدينة صقلية المتقدم ذكرها، فعيد الناس على الكمال بحساب يوم الخميس المذكور، وكان مصلانا في هذا العيد المبارك بأحد مساجد أطرابنش المذكورة مع قوم من أهلها امتنعوا من الخروج المصلى الله عليه وسلم لعذر كان لهم. فصلينا صلاة الغرباء، جبر الله كل غريب وطنه، وخرج أهل البلد مصلاهم مع صاحب أحكامهم وأنصرفوا بالطبول والبوقات، فعجبنا من ذلك ومن اغضاء النصارى لهم عليه. ونحن قد اتفق كراؤنا في المركب المتوجه إن شاء الله بر الأندلس ونظرنا في الزاد، والله المتكفل بالتيسير والتسهيل.
ووصل أمر من ملك صقلية بعقلة المراكب بجميع السواحل بجزيرته بسبب الأسطول المذكور، خيب الله سعيه ولا تمم قصده. فبادر الروم الجنوبون، أصحاب المركبين المذكورين، الصعود فيهما تحصناً من الوالي، ثم امتد سبب الرشوة بينهم وبينه فاقاموا بمر كبيهم ينتظرون هواء يقلعون به. وفي هذا التاريخ المذكور وصلتنا أخبار موحشة من الغرب، منها تغلب صاحب ميورقة على بجاية، والله لا يحقق ذلك ويجعل العاقبة والهدنة للمسلمين بمنه وكرمه. والناس في هذه المدينة يرجمون الظنون في مقصد هذا الأسطول الذي يحاول هذا الطاغية تعميره، وعدد اجفانه، فيما يقال، ثلاث مئة: بين طرائد ومراكب، يقال: أكثر من ذلك، ويستصحب معه نحو مئة سفينة تحمل الطعام، والله يقطع به ويجعل الدائرة عليه. فمنهم من يزعم أن مقصده الإسكندرية، حرسها الله وعصمها، ومنهم من يقول: أن مقصده ميورقة، حرسها الله، ومنهم من يزعم أن مقصده إفريقية، حماها الله، ناكثاً لعهده في السلم بسبب الأنباء الموحشة الطارئة من جهة المغرب. وهذا أبعد الظنون من الإمكان لأنه مظهر للوفاء بالعهد، والله يعين عليه ولا يعينه، ومنهم من يرى ان احتفاله انما هو لقصد القسطنطينية العظمى بسبب ماورد من قبلها من النبأ العظيم الشأن، والمهدي للنفوس بشائر تتضمن عجائب من الحدثان، وتشهد للحديق المأثور عن المصطفى، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، بصدق البرهان، وذلك بأنه ذكر أن صاحبها توفي وترك الملك بعده لزوجه ولها ابن صغير، فقام ابن عم اله في الملك وقتل الزوج المذكورة وثقف الابن المذكور، ثم ابناً للثائر المذكور عطفته الرحم على الإبن المعتقل فأطلق سبيله، وكان أبوه قد أمره بقتله، فأطلق سبيله، وكان أبوه قد أمره بقتله، فرمت به الاقدار هذه الجزيرة بعد خطوب جرت عليه، فوردها على حالة ابتذال، ومهنة استعمال، خادماً لأحد الرهبان، مسدلاً على شارته الملوكية ستراً من الامتهان، ففشي الأمر، وذاع السر، ولم يغن عنه ذلك الستر. فاستحضر عن أمر الملك الصقلي غليام، المذكور قبل، واستنطق استفهم، فزعم أنه بعد لذلك الراهب وخديمه، ثم ان طائفة من الروم الجنويين المسافرين القسطنطينية أثبتوا صفته وحققوا أنه هو مع مخايل ولائل ملوكية لاحت منه: منها، فيما ذكر لنان أن الملك غليام خرج في يوم زينة له وقد اصطف الناس للسلام عليه وأحضروا الفتى المذكور في جملة الخاصة، فصقع الجميع خدمة للملك وتعظيماً لطوعه عليهم الا ذلك الفتى فإنه لم يزد على الإيمان في السلام، فعلم أن الهمة الملوكية منعته من المدخل مدخل السوقة، فاعتنى به الملك غليام وأكرم مثواه وأذكى عيون الاحتراس عليه خوفاً من اغتيال يلحقه بتدسيس من ابن عمه الثائر عليه.
وكانت له أخت موصوفة بالجمال علق بها ابن العم الثائر على الملك المذكور، فلم يمكنه تزويجها بسبب أن الروم لاتنكح في الأقارب، فحمله الحب المصمي والهوى المصم المعمي، والسعادة التي تفضي بصاحبها العاقبة الحسنى وترمي، على أخذها والتوجه بها الأمير مسعود صاحب الدروب وقونية وبلاد العجم المجاورة للقسطنطينية، وقد تقدم ذكر غنائه في الإسلام فيما مضى من هذا التقييد، وحسبك أن صاحب القسطنطينية لم يزل يؤدي الجزية اليه ولصالحه على ما يجاوره من البلاد، فأسلم مع ابنة عمه على يده، وسيق له صليب ذهب قد احمي عليه في النار فوضعه تحت قدمه، وهي عندهم أعظم علامات الترك لدين النصرانية والوفاء بذمة دين الاسلام، وتزوج ابنة العم المذكورة وبلغ هواه، وأخذ جيوش المسلمين معه القسطنطينية فدخلها بهم وقتل من أهلها نحو الخمسين الفاً من الروم، وأعانه الأغريقيون على فعله، وهم فرقة من أهل الكتاب وكلامهم بالعربية، وبينهم وبين سائر الفرق من جنسهم عداوة كامنة، وهم لايرون أكل لحم الخنزير، فشفوا نفوسهم من أعاديهم، وقرع الله نبع الكفر بعضه ببعض واستولى المسلمون على القسطنطينية ونقلت أموالها كلها، وهي مالا يأخذه الإحصاء، الأمير مسعود، وجعل من المسلمين فيها ماينيف على الاربعين الف فارس، واتصلت بلادهم بها. وهذا الفتح، اذا صح، من أكبر شروط الساعة، والله أعلم بغيبه.
ألفينا هذا الحديث بهذه الجزيرة مستفيضاً على ألسنة المسلمين والنصارى محققين له لاشك عندهم فيه، أنبأت به مراكب الروم التي وصلت من القسطنطينية. وكان أول سؤال مستخلف الملك بالمدينة لنا، يوم احضرنا لديه عند دخولنا المدينةن عما عتدنا من خبر القسطنطينية، فلم يكن عندنا علم ولا تعرفنا معنى السؤال عنها الا بعد ذلك. وتحققوه أيضاً من جهة ملك هذا الصبي وما كان من اتباع الثائر عليه اياه عيوناً يروم اغتياله. فهو اليوم بسبب ذلك عند صاحب صقلية محترس محافظ عليه، لايكاد يصل لحظ العيون إليه. وأخبرنا أنه رطيب غصن الصبا، محتدم حمرة الشباب، صقيل رونق الملك، عليه ناظر في علم اللسان العربي وغيره، بارع في الأدب الماوكي، ذو دهاء على فتوة سنة وغمرية شبيبته، فالملك الصقلي على مايذكر يروم توجيه الأسطول المذكور القسطنطينية أنفة لهذا الصبي المذكور، وماجرى عليه، وكيفما توجه الأمر فيه من هذه المقاصد فالله عز وجل ينكصه خاسراً على عقبه، ويعرفه شؤم مذهبه، ويجعل قواصف الرياح خاسفة به، انه على مايشاء قدير. وهذا الخبر القسطنطيني، حققه الله، من أعظم عجائب الدنيا وكوائنها المرتقبة، ولله القدرة البالغة في أحكامه وأقداره.
استهل هلاله ليلة الاثنين الرابع من شهر فبرير ونحن بمدينة اطرابنش، المتقدم ذكرها، منتظرين انسلاخ فصل الشتاء وإقلاع المركب الجنوبي الذي أملنا ركوبه الأندلس، إن شاء الله عز وجل، والله سبحانة ييمن مقصدنا وييسر مرامنا بمنه وكرمه.
وفي مدة مقامنا بهذه البلدة تعرفنا مايؤلم النفوس تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عباد الصليب بها، دمرهم الله، وماهم عليه معهم من الذل والمسكنة، والمقام تحت عهده الذمة، وغلظة الملك، طوارئ دواعي الفتنة في الدين على من كتب الله عليه الشقاء من ابنائهم ونسائهم. وربما تسبب بعض اشياخهم أسباب نكالية تدعوه فراق دينه، فمنها قصة اتفقت في هذه السنين القريبة لبعض فقهاء مدينتهم التي هي حضرة ملكهم الطاغية، ويعرف بابن زرعة، ضغطته العمال بالمطالبة حتى أظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية، ومهر في حفظ الإنجيل ومطالعة سير الروم وحفظ قوانين شريعتهم، فعاد في جملة القسيسين الذين يستفتون في الإحكام النصرانية، وربما طرأ حكن اسلامي فيستفتى أيضاً فيه لما سبق من معرفته بالأحكام الشرعية، ويقع الوقوف عند فتياه في كلا الحكمين، وكان له مسجد بإزاء داره أعاده كنيسة، نعوذ بالله من عواقب الشقاوة وخواتم الضلالة، ومع ذلك فاعلمنا أنه يكتم إيمانه. فلعله داخل تحت الاستثناء، في قوله: "الا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان".ووصل هذه الأيام هذه البلدة زعيم أهل هذه الجزيرة من المسلمين وسيدهم القائد ابو القاسم بن حمود، المعروف بابن الحجر، وهذا الرجل من أهل بيت بهذه الجزيرة توارثوا السيادة كابراً عن كابر، وقر لدينا مع ذلك أنه من أهل العمل الصالح، مريد للخير، محب في أهله، كثير الصنائع الأخروية من افتكاك الأسارى، وبث الصدقات في الغرباء والمنقطعين من الحجاج، مآثر جمة، ومناقب كريمة، فارتجت هذه المدينة لوصوله، وكان في هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية الزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه افتروا عليه فيها أحاديث مزورة نسبوه فيها مخاطبة الموحدين أيدهم الله، فكادت تقضي عليه لولا حارس المدة، وتوالت عليه مصادرات أغرمته نيفاً على الثلانين ألف دينار مؤمينة، ولم يزل يتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه حتى بقي دون مال، فاتفق في هذا الأيام رضي الطاغية عنه وأمره بالنفوذ لمهم اشغاله السلطانية، فنفذها نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله، وصدرت عنه عند وصوله هذه البلدة رغبة في الاجتماع بناءن فاجتمعنا به، فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذ الجزيرة مع أعدائهم مايبكي العيون دماً، ويذيب القلوب ألماً، فمن ذلك أنه قال: كنت أود لو أباع أنا وأخل بيتي، فلعل البيع كان يخلصنا مما نحن فيه، ويؤدي بنا الحصول في بلاد المسلمين. فتأمل حالاً يؤدي بهذا الرجل، مع جلالة قدره وعظم منصبه، أن يتمنى مثل هذا التمنين مع كونه مثقلاً عيالاً وبنين وبنات، فسألنا له من الله عز وجل حسن التخلص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذه الجزيرة. وواجب على كل مسلم الدعاء لهم في كل موقف يقفه بين يدي الله عز وجل، وفارقناه باكياً مبكياً، واستمال نفوسنا بشرف منزعه، وخصوصية شمائله، ورزانة حصاته، وشمول مبرته وتكرمته، وحسن خلقه وخليقته. وكنا قد أبصرنا له ولإخوته ولأهل ببته بالمدينة دياراً كأنها القصور المشيدة الأنيقة، وشأنهم بالجملة ولأهل بيته بالمدينة دياراً كأنها القصور المشيدة الأنيقة، وشأنهم بالجملة كبير لا سيما هذا الرجل منهم. وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج وصعاليكهم أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء ولزاد، والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى عليها بمنه.
ومن أعظم مامني به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه أو تغضب المرأة على ابنتها فتلحق المغضوب عليه أنفة تؤديه التطارح في الكنيسة فيتنصر ويتعمد، فلا يجد الاب للابن سبيلاً ولا الأم للبنت سبيلاً. فتخيل حال من يمنى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعاً لوقوع هذه الفتنة فيهم! فهم الدهر كله في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال. وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم مااتفق على أهل جزيرة أقريطش من المسلمين، في المدة السالفة، فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغيرة من النصارى والاستدراج الشيء بعد الشيء حالاً بعد حال حتى اضطروا التنصر عن آخرهم، وفر منهم من قضى الله بنجاته، وحقت كلمة العذاب على الكافرين، والله غالب على امره؛ لا اله سواه.
ومن عظم هذا الرجل الحمودي المذكور في نفوس النصارى، أبادهم الله، أنهم يزعمون أنه لو تنصر لما بقي في الجزيرة مسلم الا وفعل فعله اتباعاً واقتداء به، تكفل الله بعصمته جميعهم ونجاهم مما هم فيه بفضله وكرمه. ومن أعجب ما شاهدناه من أحوالهم التي تقطع النفوس إشفاقا وتذيب القلوب رأفة وحناناً أن أحد أعيان هذه البلدة وجه ابنه أحد أصحابنا الحجاج راغباً في أن يقبل منه بنتاً بكراً صغيرة السن قد زاهقت الإدراك، فإن رضيها تزوجها وإن لم يرضها زوجها ممن رضي لها من أهل بلده، ويخرجها مع نفسه راضية بفراق أبيها واخوتها طمعاً في التخلص من هذه الفتنة ورغبة في الحصول في بلاد المسلمين. فطاب الأب والإخوة نفساً لذلك لعلهم يجدون السبيل للتخلص بلاد المسلمين بأنفسهم اذا زالت هذه العقلة المقيدة عنهم. فتأجر هذا الرجل المرغوب إليه بقبول ذلك وأعناه على استغنام هذه الفرصة المؤدية خير الدنياوالآخرة. وطال عجبنا من حال تؤدي بإنسان السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة من القلب وإسلامها يد من يغربها واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق اليها والوحشة دونها، كما أنا استغربنا حال الصبية، صانها الله، ورضاها بفراق من لها رغبة في الإسلام واستمساكاً بعروته الوثقى، والله عز وجل يعصمها ويكفلها ويؤنسها بنظم شملها ويجعل الصنع لها بمنه. واستشارها الأب فيما هم به من ذلك فقالت له: أن أمسكتني فأنت مسؤول عني. وكانت هذه الصبية دون أم ولها أخوان وأخت صغيرة أشقاء لها.
غم هلاله علينا لتوالي الأنواء، فأكملنا أيام شهر ذي القعدة بحسابه من ليلة الأربعاء السادس لشهر مارس ونحن بهذه المدينة المذكورة طامعين في قرب السفر مستبشرين بطيب الهواء، والله ييسر مرامنا ويتكفل بسلامتنا بعزته. واتفق أن أبصرنا الهلال ليلة الأربعاء كبيراً، فعلم أنه من ليلة الثلاثاء، فانتقل حساب الشهراليها.
وفي ظهر يوم الأربعاء التاسع من الشهر المذكور، والثالث عشر من مارس، وهو يوم عرفة، عرفنا الله بركته وبركة الموقف الكريم فيه بعرفات، كان صعودنا المراكب، يمنه الله ورزقنا السلامة فيه، مبيتين للسفر، قرب الله علينا مسافته، فأصبحنا على ظهر المركب صبيحة يوم عيد الأضحى، نفعنا الله بمقاساة الوحشة فيه، ونحن نيف على الخمسين رجلاً من المسلمين، عصم الجميع ونظم شملهم بأوطانهم بمنه وكرمه، انه سبحانه كفيل بذلك ورمنا الإقلاع فلم توافق الريح، فلم نزل نتردد من المركب البر ونبيت السفر كل ليلة اثني عشر يوماً أن أذن الله بالإقلاع صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي الحجة المذكور، والخامس والعشرين لماررس، فأقلعنا على بركة الله تع في ثلاث مراكب من الروم قد توافقت على الاصطحاب في الجري وأن يمسك المتقدم منها على المتأخر، فوصلنا جزيرة الراهب، وقد تقدم ذكرها ي هذا التقييد، وبينها وبين أطرابنش نحو ثمانية عشر ميلاً، فتغيرت الريح علينا، فملنا مرساها.
فكان من الاتفاق العجيب أن ألفينا فيها مركب مركون الجنوي المقلع من الإسكندرية بنحو مئتي رجل ونيف من أصحابنا الحجاج المغاربة الذين كنا فارقناهم بمكة، قدسها الله، في ذي الحجة من سنة تسع، ولم نسمع لهم خبراً منذ فارقناهم ولا سمعوا لنا، وكان فيهم جماعة من أصحابنا من أهل أغرناطة، منهم الفقيه أبو جعفر بن سعد صاحبنا ونزيلنا بمكة مدة مقامنا فيها، فلحين ما علموا بنا تطلعوا تلينا من المركب متعلقين بحافاته وجوانبه رافعين أصواتهم ببشرى السلامة واللقاء مسرورين بالاجتماع باكين من الفرح دهشين ذاهلين لوقوع المسرة من نفوسهم، ونحن لهم على مثل تلك الحال. فان يوماً مشهوداً اتخذناه عقب العيد عيداً جديداً. ونزل الأصحاب بعضهم بعض، وباتوا وبتنا بأسر ليلة وانعمها، وجعلنا هذا الإجتماع عنواناً كريماً لما نؤمله من انتظام الشمل بالأوطان، إن شاء الله عز وجل.
وأهب الله علينا ريحاً طيبة في سحر تلك الليلة، وهي ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور فأقلعنا بها ونحن في أربعة مراكب كلها تؤمل جزيرة الأندلس، بحول الله تع، وسرنا ذلك اليوم كله بريح تزجي المراكب تزجيه حثيثة، ونحن من الشوق الأندلس بحال تكاد لها النفوس تقوم مقام الرياح في حث الرياح وانزعاجها، والله يمن بالتسهيل والتعجيل. ثم انقلبت الريح غربية، بعد مسير يوم وليلتين، فضربت في وجوهنا فأنكصتنا على الأعقاب فرجعنا عوداً على بدء مرسى جزيرة الراهب، فوصلنا اليه ليلة الخميس الرابع والعشرين من الشهر المذكور. ثم أقلعنا منه عشي يوم الجمعة بعده منفردين دون المراكب المذكورة. فأزعجتنا ريح شديدة خرق لها المركب في الجري، فأصبحنا يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر ونحن على طرف جزيرة سردانية وقد قطعناها جرياً، وطولها أزيد من مئتي ميل، فاستبشرنا وسررنا. وقدر للمركب في يوم وليلتين قطع نيف على خمس مئة ميل، فكان أمراً مستغرباً، ثم أن الريح الموافقة ركدت عنا وهتب ريح أسقطتنا ليلة الاثنين الثامن والعشرين منه، وهو أول أبريل، جهة بر إفريقية، فأرسينا يوم الاثنين المذكور بجزيرة تعرف بخالطة، وهي جزيرة غر معمورة، ويقال: أنها كانت معمورة، ي القديم،وهي مقصد العدو، وبينها وبين البر المذكور نحو ثلاثين ميلاً، وهو منا رأي العين، فأقمنا بها بعد أهوال لقيناها في دخول مراساها، عصم الله منها، وتوالت الأنواء علينا فيها ونحن ننتظر فرجاً من الله تع. وكان مقامنا فيها أربعة أيام، آخرها يوم الخميس مستهل محرم.
غم هلاله علينا فحسبناه على الكمال من ليلة الخميس الرابع لشهر أبريل، عرفنا الله بركة هذه السنة ويمنها ورزقنا خيرها ووقانا شرها ومن علينا بنظم الشمل فيها، إنه سميع مجيب.
وفي ليلة الجمعة الثاني منه أهب الله علينا ريحاً شرقية أقلعنا بها، وهي لينة رخاء، أن استشرت فعادت ريحاً شديدة جرى بها المركب أقوى جري وأعدله، ومازلنا منذر كبنا البحر نتنسم هذا الأفق الشقي شوقاً ريحه فلا يهب منه نسيم حتى خلناه لعدمه عنقاء مغرباً، أن تداركنا الله بلطفه وجيمل صنعه فأجراه لنا الآن في شهر نيسان، عرفنا الله السلامة بمنه وكرمه.
وصحبتنا هذه الريح الشرقية نحو يومين سرنا فيهما سيراً حثيثاً، وتركنا جزيرة سردانية عن يميننا، ثم تلاعبت بنا الرياح المختلفة فأقمنا بها نضرب البحر طولاً وعرضاً ولايتراءى لنابر حتى ساءت ظنون وتوهمنا اسقاط الرياح لنا جهة بر برشلونة، دمرها الله، أن أذن الله بالفرج فأبصرنا بر جزيرة يابسة ليلة السبت العاشر من الشهر المذكور، ونحن لانكاد نتبينه لبعد خيالاً خفياً، فلما كان يوم السبت المذكور بان لنا، فدخلنا مرسى الجزيرة المذكورة مع الليل بعد مكايدة اختلاف الرياح في دخوله. فأرسينا والمدينة منا على مقدار أربعة أميال، وكان إرساؤنا بازاء فر منتيرة وهي منقطعة عن جزيرة يابسة؛ وبينهما مقدار أربعة أميال أو خمسة ؛ وفيها قرى كثيرة معمورة، فأقمنا بمرساها ونحن بمقربة من الجبلين المنقطعين المتناظرين المعروفين بالشيخ والعجوز. وفي تلك الليلة مع المغيب أبصرنا جبال بر الأندلس، وأقربها منا جبل جانية المعروف بقاعون. فحدقت الأبصار لهذا البر سوراً بمرآه واستبشرت الأنفس بالدنو منه. وأصبحنا يوم الأحد الحادي عشر من الشهر بالمرسى المذكور والريح غربية نحن ننتظر تتميم الصنع الجميل من الله عز وجل بإرسال الريح الموافقة، نشراً بين يدي رحمته إن شاء الله.
وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثالث عشر منه أقلعنا على اليمن والبركة بريح شرقية لينة المهب لها نفس خافت، داعين لله عز وجل في إحياء ذمائها، وتقوية اجرائها، وجبال دانية أمامنا رأي العين، والله يتمم فضله علينا، ويكمل صنعه بعزته لنا. وتمادت وانتشرت بفضل الله تع، فنزلنا بقرطاجنة عشي يوم الخميس الخامس عشر منه، شاكرين لله على ما من به من السلامة والعافية، والحمد لله رب العاليمن، وصلواته علىمحمد خاتم النبيين، إمام المرسلين. ثم أقلعنا منها إثر صلاة الجمعة السادس عشر منه فبتنا في فحص قرطاجنة بالبرج المعروف ببرج الثلاثة صهاريج، ثم منه يوم السبت مرسيه، ومنها في اليوم بعينه لبرالة، ثم منها يوم الأحد لورقة، ثم منها يوم الاثنين المنصورة، ثم منها يوم الثلاثاء قنالش بسطة، ثم منها يوم الأربعاء وادي آش، ثم منها يوم الخميس الثاني والعشرين لمحرم، والخامس والعشرين لأبريل، المنزل بغرناطة:
فألقت عصاها واستقر بها النوى |
|
كما قر عيناً بالإياب المسافـر |
والحمد لله على الصنع الجميل الذي أولاه، والتيسير والتسهيل الذي والاه، وصلواته على سيد المرسلين الأولين منهم والآخرين محمد رسوله الكريم ومصطفاه، وعلى آله وأصحابه الذين اهتدوا بهداه، وسلم وشرف وكرم. فكانت مدة مقامنا من لدن خروجنا من غرناطة وقت إيابنا هذا عامين كاملين وثلاثة أشهر ونصفاً، والحمد لله رب العالمين.