عرض كتاب كليلة ودمنة - مثل اللص والفقير

وليس ينبغي للعاقل أن يغبط أحداً إذا ساق الله له صنيعاً. فلعلّ الله يرزقه مثله من حيث لا يدري. ومن أمثال ذلك أن رجلاً كانت به فاقةُ وعري، فألجأه الأمر إلى أن سأل أقاربه وأصدقاءه فلم يجد عند أحدهم فضلاً يعود به عليه. فبينما هو ذات ليلةٍ في منزله إذ أبصر سارقاً يجول في منزله، فقال: والله ما في منزلي شيء أخاف عليه. فاجتهد السارق جهده، فبينما هو يجول إذ وقعت يده على خابيةٍ فيها حنظة، فقال: والله ما أحبّ أن يكون عنائي الليلة باطلاً، ولعلي لا أصل إلى موضع آخر، ولكن أحمل هذه الحنطة، فهي خيرٌ من الرجوع بغير شيء. ثم بسط رداءه ليصبّ عليه الحنطة، فقال الرجل: ليس لي على هذا صبر، أيذهب هذا بهذه الحنطة وليس ورائي سواها، فيجتمع عليّ العريّ وذهاب ما كنت أقتات به، ولا تجتمع والله هاتان الخلتان على أحد إلا أهلكتاه. ثم صاح بالسارق وأخذ هراوة كانت عند رأسه. فلم يكن للسارق إلا الهرب منه، فترك رداءه ونجا بنفسه، فأخذه الرجل وغدا كاسياً.

وليس ينبغي أن يركن إلى مثل هذا المثل ويدع ما يجب عليه من العمل والسعي لصلاح معاشه، ولا أن ينظر إلى من تؤاتيه المقادير وتساعده على غير التماس منه. فإن أولئك في الناس قليل، والجمهور منهم من أتعب نفسه في الكدّ والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد. وينبغي أن يكون حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه، ولا يعرّض نفسه لما يجلب عليه العناء والشقاء، فيكون كالحمامة التي تفرّخ الفراخ للذبح ولا يمنعها ذلك أن تعود فتفرخ في موضعها وتقيم بمكانها وتؤخذ فراخها ثانية فتذبح.

وقد يقال إن الله تعالى قد جعل لكل شيء سبباً، ومن تجاوز في الأشياء حدها أوشك أن يلحقه تقصير عن بلوغها. ويقال من كان سعيه لآخرته ودنياه فحياته له وعليه. ويقال في ثلاثة أشياء يجب على صاحب الدنيا إصلاحها فيبذل جهده فيها: منها أمر معيشته، ومنها ما بينه وبين الناس، ومنها ما يكسبه الذكر الجميل بعده. وقد قيل في أمور كنّ فيه لم يستقم له عمل، منها التواني، ومنها تضييع الفرص، ومنها التصديق لكلّ مخبر بشيءٍ عقله ولا يعرف استقامته فيصدّقه.

وينبغي للعاقل أن يكون لهواه متهماً ولا يقبل من كلّ أحد حديثاً لا يتمادى في الخطإ إذا التبس عليه أمره حتى يتبين له الصواب وتتوضح له الحقيقة، ويكون كالرجل الذي يجوز عن الطريق فيستمرّ على الضلال ولا يزداد في السير إلا جهداً وعن القصد إلا بعداً. وكالرجل الذي تقذى عيناه ولا يحكّهما حتى ربما كان ذلك الحك سبباً لذهابهما. وعلى العاقل أن لا يصدّق بالقضاء والقدر ويأخذ بالحزم، ويحب للناس ما يحبّه لنفسه، ولا يلتمس صلاح نفسه بفساد غيره، فإنه من فعل ذلك كان خليقاً أن يصبه ما أصاب التاجر من رفيقه.