امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة.
ونابغة بني ذبيان، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، ويكنى أبا أمامة.
وزهير بن أبي سلمى واسم أبي سلمى ربيعة بن رباح بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن مزينة.
والأعشى، وهو ميمون بن يس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، ويكنى أبا بصير.
أخبرني يونس بن حبيب: أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس بن حجر، وأهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً والنابغة.
وأخبرني يونس كالمتعجب: أن ابن أبي إسحاق كان يقول: أشعر أهل الجاهلية مرقش، وأشعر أهل الإسلام كثيّر. ولم يقبل هذا القول ولم يشيع. وأخبرني شعيب بن صخر، عن هارون بن إبراهيم، قال: سمعت قائلاً يقول للفرزدق: من أشعر الناس يا أبا فراس؟ قال: ذو القروح، يعني امرأ القيس. قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول:
وقاهم جدّهُمُ ببني أبـيهـم |
|
وبالأشقين ما كان العقابُ |
وأفلتُنّ عِلْبـاءُ جـريضـاً |
|
ولو أدركنه صفر الوطاب |
أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال: سمعت رجلاً يسأل يونس عن قوله: صفر الوطاب، فقال: سألنا رؤبة عنه فقال: لو أدركوه قتلوه وساقوا إبله، فصفرت وطابه من اللبن. وقال غيره: صفر الوطاب، أي أنه كان يقتل، فيكون جسمه صفراً من دمه، كما يكون الوطاب صفراً من اللبن.
وأخبرني شعيب بن صخر، قال: سمعت عيسى بن عمر ينشد عامر بن عبد الملك لزهير أو النابغة، فقال: يا أبا عبد الله، هذا والله لأقول الأعشى:
لسنا نقاتلُ بالعِـصِـيّ |
|
ولا نُرَامي بالحجارهْط |
وأخبرني أبان بن عثمان البجلي قال: مر لبيد بالكوفة في بني نهد، فأتبعوه رسولاً سؤولاً يسئله: من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل فأعادوه إليه، قال: ثم من؟ قال الغلام القتيل وقال غير أبان: ابن العشرين، يعني طرفة قال: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل يعني نفسه فهذان امرؤ القيس وطرفة.
قال يونس: كل شيء في القرآن: فأتبعه، أي طالبه وأتبعه، يتلوه.
فاحتج لامرئ القيس من يقدمه قال: ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار، ورقة النسيب وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى.
كان أحسن أهل طبقته تشبيهاً، وأحسن الإسلاميين تشبيهاً ذو الرمة.
وقال من احتج للنابغة: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر، والشعر يحتاج إلي البناء والعروض والقوافي، والمتكلم مطلق يتخير الكلام وإنما نبغ بالشعر بعدما أسن واحتنك، وهلك قبل أن يهتر.
ويروى أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم يقول:
فلست بمستبٍق أخاً لا تـلُـمّـه |
|
إلى شعثٍ، أي الرجال المهذب؟ |
قالوا: النابغة. قال: هو أشعرهم وبنو سعد بن زيد مناة تدعى هذا البيت لرجل من بني مالك بن سعد يقال له: شقة، أنشدناه له حلابس العطاردي. وأخبرني خلف الأحمر أنه سمع من أعراب بني سعد لهذا الرجل.
وأخبرني خلف: أنه سمع أهل البادية من بني سعد يروون بيت النابغة للزبرقان بن بدر، فمن رواه للنابغة قال:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له |
|
وتتقى مربِضَ المُستثفِرِ الحامي |
وهي الكلمة التي أولها:
قالت بنو عامرٍ: خالوا بني أسد |
|
يا بؤسَ للجهل ضرّاراً لأقوام |
ومن رواه للزبرقان بن بدر قال:
إن الذئاب ترى من لا كلاب لـه |
|
وتحتمي مربِض المُستَثفر الحامي |
ويروى: وتتقي، وهذا البيت في قوله:
أبلغ سراة بني عوف مغلغلة |
وسألت يونس عن البيت فقال: هو للنابغة، أظن الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاءه موضعه، لا مجتلباً له.
وقد تفعل ذلك العرب، لا يريدون به السرقة، قال أبو الصلت بن ربيعة الثقفي:
تلك المكارم لا قَعْبانِ من لبن |
|
شيبا بماء فعادا بعدُ أبـوالا |
وقال النابغة الجعدي، في كلمة فخر بها، ورد فيها على القشيري:
فإن يكن حاجبٌ ممن فخرت بـه |
|
فلم يكن حاجبٌ عمّـاً ولا خـالا |
هلاّ فخَرتَ بيَومي رَحْرحان، وقد |
|
ظنت هوازن أن العِزّ قـد زالا |
تلك المكارمُ لا قعبانِ من لـبـنٍ |
|
شيبَا بماءٍ فعـادا بـعـد أبـوالا |
ترويه عامر للنابغة، والرواة مجتمعون أن أبا الصلت بن أبي ربيعة قاله.
وقال غير واحد من الرجاز:
عند الصباح يحمد القوم السّرى |
إذا جاء موضعه جعلوه مثلاً، وقال امرؤ القيس:
وقوفاً بها صَحْبي على مَطِيّهُم |
|
يقولون: لا تهلك أسى وتجمّلِ |
وقال طرفة:
وقوفاً بها صَحبي علي مطيّهمُ |
|
يقولون: لا تهلك أسى وتجلّد |
ويروى عن الشعبي، عن ربعي بن حراش، أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم الذي يقول:
فألفيتُ الأمانة لم تخُنْهـا |
|
كذلك كان نوحٌ لا يخونُ |
وهذا غلط على الشعبي، أو من الشعبي، أو من ابن حراش. أجمع أهل العلم أن النابغة لم يقل هذا، ولم يسمعه عمر، ولكنهم غلطوا بغيره من شعر النابغة، فإنه قد ذكر لي أن عمر بن الخطاب سأل عن بيت النابغة:
حَلَفْتُ فلم أتركْ لنفسِـك رِيبة |
|
وليس وراء الله للمرء مذهب |
وحرىٌَ أن يكون هذا البيت، أو البيت الأول.
وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله. وقد تروى العامة أن الشعبي كان ذا علم بالشعر وأيام العرب، وقد روى عنه هذا البيت، وهو فاسدٌ. وروى عنه شيء يحمل على لبيد:
باتت تشكي إلى النفس مجهشة |
|
وقد حملتك سبعا بعد سبعـين |
فإن تعيشي ثلاثاً تبلغي أمـلاً |
|
وفي الثلاث وفاءٌ للثمـانـين |
ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث، ويستعان به على السهر عند الملوك، والملوك لا تستقصي.
وكان قتادة بن دعامة السدوسي من رواة الفقه، عالماً بالعرب وبأنسابها، ولم يأتنا عن أحدٍ من رواة الفقه من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة.
أخبرنا عامر بن عبد الملك قال: كان الرجلان من بني مروان يختلفان في الشعر، فيرسلان راكباً فينيخ ببابه، يعنى قتادة بن دعامة، فيسأله عنه ثم يشخص.
أخبرني سعيد بن عبيد، عن أبي عوانة أنه قال: شهدت عامر بن عبد الملك يسأل قتادة عن أيام العرب وأنسابها وأحاديثها، فاستحسنته. فعدت إليه فجعلت أسأله عن ذلك.
ويروى عن بعض أصحابنا، قال: رأيت راكباً فدم من الشأم، فأناخ على باب قتادة فسأله: من قتل عمراً وعامراً التغلبين يوم قضة؟ قال جحدر: فأعادوا إليه الرسول: كيف قتلهما جميعاً؟ فال أعتوراه، فطعن هذا بالسنان وهذا بالزج، فعادى بينهما. ثم رحل مكانه.
وكان أبوالمعتمر الشيباني كثير الحديث عن العرب، وعن معاوية وعمرو بن العاص وزياد وطبقتهم، وكان يقول أخذته عن قتادة وكان أبو بكر الهذلي يروى هذا العلم عن قتادة.
أخبرني عيسى بن يزيد بن دأب بإسناد له، عن ابن عباس قال، قال لي عمر: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت من هو يا أمير المؤمنين؟ قال زهير. قلت وكان كذلك! قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع وحشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه.
وأخبرني عمر بن موسى الجمحي، عن أخيه قدامة بن موسى، وكان من علماء أهل المدينة: أنه كان يقدم زهيراً. قلنا: فأي شعره كان أعجب إليه؟ قال: التي يقول فيها:
قد جعلَ المبتغون الخيرَ في هرِم |
|
والسائلون إلى أبوابه طُـرُقَـا |
مَنْ يلقَ يوماً على علاته هرمـاً |
|
يلقَ الّسماحة منه والنّدى خُلُقـا |
وقال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدّهم مبالغة في المدح،وأكثرهم أمثالاً في شعره.
وأخبرني أبو قيس العنبري ولم أرَ بدوياً يزيد عليه عن عكرمة بن جرير، قال: قلت لأبي: ياأبه، من أشعر الناس؟ قال: أعن أهل الجاهلية تسألني أم أهل الإسلام؟ قلت: ما أردت إلا الإسلام، فإذ ذكرت أهل الجاهلية فأخبرني عن أهلها. قال: زهير شاعرها. قال: قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة الشعر. قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر. قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: دعني، فإني أنا نحرت الشعر نحراً.
وقال أصحاب الأعشى: هو أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، وأكثرهم مدحاً وهجاء وفخراً ووصفاً، كل ذلك عنده.
وكان أول من سأل بشعره، ولم يكن له مع ذلك بيت نادر على أفواه الناس كأبيات أصحابه.
وشهدت خلفاً، فقيل له: من أشعر الناس؟ فقال: ما ننتهي إلى واحد يجتمع، كما لا يجتمع على أشجع الناس وأخطب الناس وأجمل الناس. قلت: فأيهم أعجب إليك يا أبا محرز؟ قال الأعشى. قال: أظنه قال: كان أجمعهم.
وكان أبو الخطاب الأخفش مستهتراً به يقدمه. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: مثله مثل البازي، يضرب كبير الطير وصغيره. ويقول: نظيره في الإسلام جرير، ونظير النابغة الأخطل ونظير زهير الفرزدق.
وروى سليمان بن إسحق الربالي، عن يونس، أنه قال: الشعر كالسراء والشجاعة والجمال، ولا ينتهي منه إلى غاية. أخبرني الميب بن سعيد، عن هشام بن القاسم، مولى بن غُبر - وقد رأيته، وكان علية أهل البصرة، وكان يصلى على جنائز بني غُبر - قال أول من سأل بشعره الأعشى.
ولم يقو من هذه الطبقة ولا من أشباههم إلا النابغة في بيتين، قوله:
أمِنَ آلِ ميَّة رائحٌ أو مُغتدِى |
|
عَجلانَ، ذا زادٍ وغيرَ مزوّدِ |
زَعَم البوارحُ أنّ رحلتنا غداً |
|
وبذاك خبّرنا الغدافُ الأسودُ |
وقوله:
سقطَ النّصيفُ ولم يرد إسقاطهُ |
|
فتناولتهُ واتقـتـنـا بـالـيدِ |
بمخضب رخص كأن بنـانـه |
|
عنم يكاد من اللطافة يعـقـدُ |
العنم: نبت أحمر يصبغ به، فقدم المدينة، فعيب ذلك عليه، فلم يأبه لهما حتى أسمعوه إياه في غناءٍ - وأهل القرى ألطف نظراً من أهل البدو، وكانوا يكتبون، لجوارهم أهل الكتاب - فقالوا للجارية: إذا صرت إلى القافية فرتلي. فلما قالت: الغداف الأسود ويعقد وباليد، علم وانتبه، فلم يعد فيه. وقال قدمت الحجاز وفي شعري صنعة، ورحلت عنها أشعر الناس.
قال يونس: عيوب الشعر أربعة: الزحاف، والسناد، والإقواء، والإيطاء، والإكفاء وهو الإ قواء. والزحاف أهونها وهو أن ينقص الجزء عن سائر الأجزاء، فينكره السمع ويثقل على اللسان. وهو في ذلك جائز. والأجزاء مختلفة فمنها ما نقصانه أخفى، ومنها ما نقصانه أشنع قال الهذلي:
لعّلك إما أمُّ عمرو تـبـدلـت |
|
سواكَ خليلاً شاتمي تستخيرها |
فهذا مزاحف في كاف سواك، وهو خفي، ومن أنشده:
لعلك إما أم عمرو تـبـدلـت |
|
خليلا سواك شاتمي تستخيرها |
فهذا أفظع، وهو جائز. والاستخارة: الاستعطاف. ويقال: تبغمت الظبية تستخير ولدها أي تستدعيه. ومنه قيل أستخير الله: أي أستعطفه.
وهو نحو قول الفرزدق:
فإن كان هذا الأمرُ في جاهلـيةٍ |
|
علمتَ من المولى القليلُ حلائبُهْ |
ولو كان هذا غير دينِ محـمـدٍ |
|
لأديتَهُ، أو غصّ بالماء شاربُـهْ |
مزاحف خفي، ومن قال: "لأديت أو لغص بالماء شاربه" فهو أفظع. وهو أكثر من أن يعد.
وكان الخليل بن أحمد يستحسنه في الشعر إذا قل في البيت والبيتين، فإذا توالى وكثر في القصيدة سمج.
فإن قيل: كيف يستحسن منه شيء وقد قيل هو عيب؟ قال: يكون هذا مثل القبل والحول واللثغ في الجارية، قد يشتهى القليل منه الخفيف، وهو إن كثر عند رجل في جوار، أو اشتد في جارية، هجن وسمج. والواضح في الخيل يستطرف ويشتهى خفيفه، مثل الغرة والتحجيل، فإذا كثر وفشا كانت هجنة ووهناً. وخفيف البلق يحتمل في الخيل، ولم أر أبلق قط ولم أسمع به سابقاً.
والإقواء هو الإكفاء، مهموز وهو أن يختلف إعراب القوافي، فتكون قافية مرفوعة، وأخرى مخفوضة أو منصوبة، وهو في شعر الأعراب كثير، ودون الفحول من الشعراء، ولا يجوز لمولد لأنهم قد عرفوا عيبه، والبدوي لا يأبه له فهو أعذر.
فقلت ليونس: أكان عبيد الله بن الحر يقوي؟ قال: الإقواء خير منه يعني من فوقه من الشعراء يقوى غير أن الفحول قد استجازوا في موضع نحو قول جرير:
عرينٌ من عُرَينةَ ليس منّـا |
|
بَرِءتُ إلى عُرَيْنة من عرينِ |
عرفنا جعفراً وبني عُـبـيدٍ |
|
وأنْكرْنا زعانِـف آخـرين |
وقال سحيم بن وثيل:
عَذَرْتُ البُزْلَ إن هي خاطرتْني |
|
فما بالي وبالُ ابن الـلّـبُـونِ |
وماذا يدري الشعـراء مـنـي |
|
وقد جاوزتُ رأسَ الأربعـينِ |
فموضع هذه الأبيات له ولجرير، النصب، ولكنه كأنه سكت عند القافية.
ومنه الإيطاء، وهو أن تتفق القافيتان في قصيدة واحدة، فإن كان أكثر من قافيتين فهو أسمج له، وقد يكون. ولا يجوز لمولد، إذ كان عنده عيباً. فإذا اتفق اللفظ واختلف المعنى، فهو جائز، نحو قولك: "محمد" تريد الاسم، و "جواد محمد"، تريد الفعل. وتقول: "خيار"، تريد: خيار من الله، وتقول: "خيار"، أي خيار من قوم، فيجوز. ونحو هذا كثير، وأهل البادية لا ينكرونه. وأنشد سلمة ابن عياش أبحية النميري، كلمة طويلة جداً يقول فيها:
طَرِبتَ وما هذا بحِين تَطـربِ |
|
ورأسُك مُبيض العذارين أشيبُ |
قال له النميري: أرى فيها عيباً. قال: ما هو؟ قال: لم أرك أعدت قافية بعد قافية. عده عيباً. أظنه عابه إذ رأى أنه هرب منه. والمواطأة في الأمر، يقال منه: واطأته على كذا وكذا، ومنه: "ليواطئوا عدة ما حرم الله" أي ليوافقوا.
كانت العرب تحرم أربعة أشهر من السنة، كما كان بأيديهم من إرث إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكانت توالى عليهم ثلاثة أشهر: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فيطول عليهم أن لا يغزوا ولا يحاربوا، وكان لهم نسأة من بني كنانة، تؤخر المحرم عاماً وترده عاما،و ذلك قول الله عز وجل: "إنما النسى زيادة في الكفر" (سورة التوبة: 37) وهي في الذين يريدون أن يجعلوا أربعة حرما. المحرم، عام حجة الوداع من النبي صلى الله عليه، الشهر الذي حرمه الله بعينه، فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
وكان الذي يسمع الناس عنه صلى الله عليه وسلم، ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي، وكان في صوته رقاع. فأصاب بعد ذلك في عهد عمر بن الخطاب حداً بالشأم، فضرب فأدركته الحمية، فلحق بالروم، فهلك فيهم، فكره الناس بعد ذلك أن يقيموا حداً بأرض العدو.
وكانت العرب تسمى رجباً: الأصم، ويسمونه منصل الأسنة، وكانوا ينصلون أسنتهم فيه لموضع الحرب، قال دريد بن الصمة:
تَدَاركَهُ في مُنْصِلِ الألّ بعـدمـا |
|
مضى غير دَأْدَاةٍ، وقد كاد يعطبُ |
والدأداةُ: الليلة التي تكون في آخر الشهر يشك فيها.
والسّنَاد: وهو أن تختلف القوافي نحو: نقيبٌ وعيبٌ؛ وقريبٌ، وشيبٌ، منه قول الفضل ابن العباس اللهبي:
عبدُ شمْس أبي، فإن كنتِ غَضْبيَ |
|
فامْلئي وجهك الجميلَ خُمُوشَـا |
وقال:
وبنا سميت قريش قريشا |
وقال:
..... ولا تمليت عيشا |
وقال عدي بن زيد:
فناجاها، وقد جمعت فُيُوجا |
|
على أبوابِ حصْنٍ مُصْلتينا |
فقدمت الأديم لراهـشـيه |
|
وألفى قولها كذباً ومـينـا |
قال المفضل: "كذباً مبيناً"، فر من السناد، والرواية هي الأولى على قوله: "وميتا".
وقال الفضل بن عبد الرحمن بن عباس، في مرثية زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم:
..... ليس ذا حين الجمود |
ثم قال:
..... فوق العمود" |
ثم قال:
وكيف جمود دمعك بعد زيد |
ومنه قول العرب: خرج القوم برأسين متساندين، أي هذا على حياله وهو من قولهم: "كانت قريش يوم الفجار متساندين"، أي لا يقودهم رجل واحد.
وقال الحجاج، فأفرط وجاوز السناد، مع حذقه:
ثم رأى أهل الدّسِيعِ الأعظـم |
|
خِنْدف، والجد الخِضَمّ المُخْضم |
وعليةَ الناس وأهل الـحُـكّـمِ |
|
ومستقر المصحف المـرقـم |
عند كريم مـنـهـم مـكـرم |
|
معلم آى الـهـدى مـعـلـم |
مبـاركٍ لـلأنـبـياء خـاتـمِ |
|
وخِنْدِفٌ هامة هذا الـعـالـمِ |
فساند في بيتين سناداً فاحشاً أخذه الناس عليه.
وأخبرني سلمة بن عياش، قال قلت لرؤبة: أبوك أشعر منك. قال: أنا أشعر منه، هو يقول:
وخندف هامة هذا العالم |
وقال العجاج:
يا ليت أيام الصبا رواجعا |
وهي لغة لهم، سمعت أبا عون الحرمازي يقول: "ليت أباك منطلقاً، وليت زيداً قاعداً". وأخبرني أبو يعلى: أن منشأه بلاد العجاج، فأخذها عنهم.
وقد تغلط مقاحيم الشعراء وثنيانهم والمقحم: الذي يقتحم سناً إلى أخرى، ليس بالبازل ولا المستحكم. والثنيان: العاجز الواهن، قال أوس بن حجر:
وقد رام بحري قبل ذلك طامياً |
|
من الشعراء كل عودٍ ومقحم |
وقال أوس بن مغراء:
ثُنْياننا، إن أتاهم، كان بدأهُمُ |
|
وبدؤهم، إن أتانا، كان ثنيانا |
فيغلطون في السين والصاد، والميم والنون، والدال والطاء، وأحرف يتقارب مخرجها من اللسان، تشتبه عليه. أنشدني أبو العطاف:
أرْمي بها مطالع النجـوم |
|
رمىَ سليمان بذي غضونِ |
وقال زغيب بن نسير العنبري:
نظرت بأعلى الصوقِ والبابُ دونَه |
|
إلى نَعَمٍ ترعى قوافي مـسـردِ |
الصوق: السوق. ثم قال: "كحيل مخلط"، فقلت له: قل "معقد" فيصح لك المعنى وتستقيم القوافي. قال: أجل! فاستعدته فعاد إلى قوله الأول. وقال أبو الدهماء العنبري:
فلا عيبَ فيها غير أن جـنـينـهـا |
|
جهيضٌ، وفي العينين منها التخاوُصُ |
ثم قال: "بالثياب الطيالس" ثم قال: "والماء جامس". وكان يقول: "الصويق، وبر مكيول، وثوب مخيوط". وقال أبو الدهماء يهجو شويعرا من عكل وكان أبو الدهماء أفصح الناس فقال يذكر جردانه:
ويلُ الحَبالى إذ أصاب الرّكَبَا |
|
يستخرجُ الصبيان منه خِذَما |
واستحسن الناس من تشبيه امرئ القيس:
كأنّ قلوبَ الطّيرِ رطْبـاً ويابـسـاً |
|
لدَى وَكْرِها العُنّابُ والحشفُ البالي |
وقوله:
كأني بفَتْخَاءِ الجـنـاحـين لـقـوةٍ |
|
دفوفٍ من العِقبان، طأطأتُ شمْلالِ |
وقوله:
بعِجِلزَةٍ قد أترَزَ الجَريُ لحمَهـا |
|
كميتٍ، كأنها هِـرَاوةُ مِـنْـوَالِ |
وصُم حوامٍ ما يقين من الوجـى، |
|
كأن مكان الردفِ منها على رالِ |
وقوله:
نظرتُ إليها، والنجوم كأنـهـا |
|
مصابيحُ رُهبانٍ تُشبّ لقُـفـالِ |
كأن الصّوَار، إذ تجاهَدْنَ غُدوةً |
|
على جمزَى خيلٌ تجول بأجلال |
وقوله:
أيقتلني والمشرَفيّ مضُاجعـي |
|
ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغوالِ؟ |
وقوله:
كأني غداة البين حين تحمـلـوا |
|
لدَى سَمُراتِ الحيّ، ناقفُ حنظلِ |
وقوله:
مكرٍ مفرٍ مقبـلٍ مـدبـرٍ مـعـاً |
|
كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من علِ |
وقوله:
له أيْطلاَ ظبيٍ، وساقا نعـامةٍ |
|
وإرخاء سرحان، وتقريبُ تتفُلِ |
وقوله:
دَريرٍ كخُذْرُوفِ الوليدِ، أدَرّه |
|
تتابعُ كفّيه بخيطٍ موصّـلِ |
وقوله:
كُمَيْتٍ، يَزِلّ اللّبْدُ عن حالِ متْنِه |
|
كما زلّتِ الصّفواءُ بالمتنـزّلِ |
وقوله:
كأن دماءَ الهادياتِ بنحـرِهِ |
|
عُصارةُ حِنّاءٍ بشيبٍ مُرَجّلِ |
وقوله:
وليلٍ كموجِ البحرِ، أرخى سُدُوله |
|
عليّ، بأنواع الهموم ليبـتـلـي |
قوله:
فيالكَ من ليلٍ كأن نجـومَـهُ |
|
بأمراسِ كتّانٍ إلى صُمّ جندلِ |
خيروا بينه وبين قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي |
|
وإن خِلتُ أن المُنتأى عنك واسع |
فزعم بعض الأشياخ أن بيت النابغة أحكمهما وقوله:
ترائبها مصقولةٌ كالسّجنجلِ |
هي المرآة بالرومية.
وقوله:
إذا ما الثّريا في السماء تعرّضت |
|
تعرّضَ أثناء الوشاح المفصّـلِ |
قال: فأنكر قومٌ قوله: "إذا ما الثريا في السماء تعرّضت". وقالوا: الثريا لا تعرض. وقال بعض العلماء عني الجوزاء. وقد تفعل العرب بعض ذلك، قال زهير:
فَتُنتجْ لكمْ غِلمانَ أشأم، كلهـم |
|
كأحمر عادٍ، ثم تُرضع فتفطم |
يعني: أحمر ثمود. وقوله:
يظلّ العذارى يرتمين بلحمها |
|
وشحمٍ كهُداب الدّمَقسِ المُفتّلِ |
وقال يصف فرساً:
بذي ميعه،كأن أدبي ساقـطـه |
|
وتقريبه،هوناً، دآليل ثعـلـب |
عظيم،طويل مطمـئن،كـأنـه |
|
بأسفل ذي مأوان،سرحه مرقب |
له أيطلا ظبي وساقا نعـامـه |
|
وصهوة غير قائم فوق مرقب |
له جؤجؤ حشر.كآن لجـامـه |
|
يعالى به في رأس جذع مشذب |
وعينان كالماويتين،ومـحـجـر |
|
إلى سند مثل الرياح المنضـب |
اذا ما جرى شأوين وابتل عطفه |
|
نقول هزيز الريح مرت بأثأب |
كأن دماء الهاديات بـنـحـره |
|
عصارة حناء بشيب مخضـب |
وقال أيضاً:
تروح كأنها مما أصاب |
|
معلقه بأحقيها الدلـى |
إذا ما قام حالبها أرنّـتْ |
|
كأنّ الحيّ صبحهم نَعِيّ |
أخبرني يونس بن حبيب، قال، قال ذو الرمة: من أحسن الناس وصفاً للمطر؟ فذكروا قول عبيد:
دانٍ مُسِفٍ فُوَيْقَ الأرض هيْدَبُه |
|
يكاد يدفعُهُ من قام بـالـراحِ |
فمن بنجوته كمن بمَحـفـلـه |
|
والمستكِنّ كمن يمشي بقرواحِ |
فجعلها يونس لعبيد، وعلى ذلك كان إجماعنا، فلما قدم المفضل صرفها إلى أوس بن حجر وذكروا قول عبد بني الحسحاس:
نَعِمْتُ به ظنّـا، وأيقـنـتُ أنـه |
|
يحُط الوُعولَ والصّخور الرّواسيا |
وما حرّكتْه الريح حتى ظننتـه |
|
بحرّةِ ليلى أو بنـخـلة ثـاويا |
فدرّ على الأنهاء أول مُـزْنِـهِ |
|
فعنّ طويلاً يسكب الماء ساحيا |
رُكامٌ يسُحُ الماء عن كل فـيقةٍ |
|
ويغدر في القيعان رَنقاً وصافيَا |
ومرّ على الأجبال أجبالِ طـيئ |
|
كما سُقْتَ منكوبَ الّدوابر حافيا |
أجشّ هزيمٌ سيْلُـهُ مـع ودْقِـهِ |
|
ترى خُشُبَ الغُلاّن فيه طوافيا |
بكى شجْوَه واغتاظ حتى حسبتُهُ |
|
من البعد لما جلجل الرعدُ حاديا |
فقال ذو الرمة: بل قول امرئ القيس أجود حيث يقول:
ديمةٌ هَطْلاءُ فيهـا وطـفٌ |
|
طبق الأرض تحرّى وتَدرّ |
تُخرجُ الودّ إذا ما أشجـذت |
|
وتواريه إذا ما تشـتـكـرْ |
وترى الضبّ خفيفاً ماهـراً |
|
ثانيا بُرثنهُ مـا ينْـعَـفِـرْ |
وترى الشجراء في ريقهـا |
|
كرؤوس قُطّعت فيها الخُمُرْ |
ساعةً، ثم انتحـاهـا وابـلٌ |
|
ساقط الأكناف واهٍ منهمـرْ |
راحَ تمْريهِ الصبا، ثم انتحى |
|
فيه شؤبوبُ جنوبٍ منفجـر |
ثجّ حتى ضـاق عـن آذيه |
|
عرض خيمٍ فخفافٌ فيسـر |
قد غدا يحملني في أنـفـه |
|
لاحقُ الأيطلِ محبوكٌ ممر |