طبقات الشعراء الجاهليين - الطبقة الثانية

أوس بن حجر بن عتاب بن عبد الله بن عدي بن نمير بن أسيد بن عمرو بن تميم، وهو المقدم عليهم.

وبشر بن أبي خازم الأسدي وكعب بن زهير بن أبي سلمى.

والحطيئة، أبو مليكة، جرول بن أوس بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان.

وأوس نظير الأربعة المتقدمين، إلا أنا اقتصرنا في الطبقات على أربعة رهط.

وقال يونس، قال أبو عمرو بن العلاء: كان أوس فحل مضر، حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه. وكان زهير راويته.
وقال أبو على الحرمازي: كان أوس زوج أم زهير.

قلت لعمرو بن معاذ التيمي، وكان بصيراً بالشعر: من أشعر الناس؟ قال: أوس. قلت: ثم من؟ قال: أبو ذؤيب.

قال: فأوس شاعر مضر، والأعشى شاعر ربيعة.

... وكان أخوه بجير بن زهير أسلم، وشهد مع النبي عليه السلام فتح مكة وحنيناً، فأرسل إليه كعبٌ أبياتاً ينهاه عن الإسلام، وذكره للنبي عليه السلام فأوعده، فأرسل بجير إليه: "ويلك! إن النبي أوعدك، وقد أوعد رجالاً بمكة فقتلهم، وهو والله قاتلك أو تأتيه فتسلم"، فاستطير ولفظته الأرض.

أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام، قال: وأخبرني محمد بن سليمان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: قدم كعب متنكراً حين بلغه عن النبي ما بلغه، فأتى أبا بكر، فلما صلى الصبح أتى به وهو متلثم بعمامته، فقال: يا رسول الله! رجل يبايعك على الإسلام. وبسط يده وحسر عن وجهه، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير. فتجهمته الأنصار وغلظت عليه، لما ذكر به رسول الله، ولانت له قريش وأحبوا إسلامه وإيمانه. فأمنه رسول الله، فأنشد مدحته التي يقول فيها:  

بانت سعادُ، فقلبي اليومَ متبولُ

 

متيّم إثرها، لم يُشفَ، مكبولُ

حتى انتهى إلى قوله:

وقال كلّ خليلٍ كنـتُ آمُـلُـه

 

لا ألْفِينّكَ، إني عنك مشـغـولُ

فقلت: خلّوا سبيلي، لا أبالـكـم

 

فكلّ ما وعَد الرحمن مفعـولُ

كل ابنِ أنثى، وإن طالت سلامتُه

 

يوماً على آلةٍ حدباءَ محمـولُ

نُبّئتُ أن رسول الله أوعـدَنـي

 

والعفو عند رسول الله مأمـول

إلى قوله:

إن الرسول لَسَيفٌ يستضـاءُ بـه

 

مهنّدٌ من سيوف الله مسـلـولُ

في فتنةٍ من قريشٍ قال قائلـهـم

 

ببطن مكة، لما أسلموا: زولـوا

زالوا، فمازال أنكاسٌ ولا كشـفٌ

 

يوم اللّقاء، ولاسـودٌ مـعـازيلُ

لا يقع الطّعنُ إلا في نحـورهـم

 

وما بهم عن حياض الموت تهليلُ

فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من عنده من قريش، أي: اسمعوا! حتى قال:

يمشون مشْيَ الجمالِ الزّهرِ، يعصِمُهم

 

ضربٌ، إذا عرّد السود التـنـابـيلُ

يعرض بالأنصار، لغلطتهم كانت عليه. فأنكرت قريش ما قال، وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم! ولم يقبلوا ذلك حتى قال:

من سرّهُ كَرَمُ الحياةِ، فلا يزل

 

في مقنبٍ من صالحِ الأنصار

الباذلين نفوسهم لـنـبـيهـم

 

يوم الهياج وسطوة الجبـار

يتطهرون كأنه نُسُـكٌ لـهـم

 

بدماء من عَلِقوا من الكفـار

صدموا علياً يوم بدر صـدمةً

 

ذلتْ لوقعتها جمـيع نـزارِ

يعني بني علي بن مسعود، وهم بنو كنانة.

فكساه النبي صلى الله عليه بردة، اشتراها معاوية من آل كعب بن زهير بمال كثير قد سمي. فهي البردة التي تلبسها الخلفاء في العيدين. زعم ذلك أبان.

وكان الحطيئة متين الشعر شرود القافية، وكان راوية لزهير وآل زهير، واستفرغ شعره في بني قريع.

وقال لكعب بن زهير: قد علمت روايتي شعر أهل البيت وانقطاعي، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك وتضعني موضعاً، فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع. فقال كعب:

فمن للقوافي؟ شانها من يَحوكها

 

إذا ما ثوى كعبٌ وفوّز جرولُ

يقول، فلا يعيي بشيء يقولـه

 

ومن قائليها من يسيء ويعمل

كفيتك، لاتلقى من الناس واحداً

 

تَنَخل منها مثل ما يتـنـخـلُ

يُثقفها حتى تلينَ مـتـونـهـا

 

فيقصر عنها كل ما يتمـثـل

فاعترضه مزرد بن ضرار واسمه يزيد، وهو أخو الشماخ، وكان عريضاً أي شديد العارضة كثيرها فقال:

وباسْتِكَ إذ خلفتني خلف شاعـر

 

من الناس لم أكْفئ ولم أتنحـلِ

فإن تجْشبا أجشب، إن تتنـخـلا

 

وإن كنتُ أفتى منكما أتنـخّـلِ

ولستَ كحسّان الحسام بن ثابـتٍ

 

ولستَ كشمّاخ ولا كالمخـبّـلِ

وأنت امرؤٌ من أهل قدسِ أوارةٍ

 

أحلّتك عبد الله أكنافَ مبـهـلِ

مبهل: جبل لعبد الله بن غطفان. وقدس أوارة: جبل لمُزينة. فعزاه إلى مزينة.

وكان أبو سلمى وأهل بيته في بني عبد الله بن غطفان،فبهم يعرفون، وإليهم ينسبون، فقال كعب بن زهير يثبت أنه من مزينة:

ألا أبلغا هـا الـمـعـرّضَ آية

 

أيقظان قال القول إذ قال أو حلمْ

يقال: حلم في المنام أي حلم من الحلم إلى قوله:

أعيرتني عزّاً عزيزاً ومـعـشـرا

 

كراماً بنوا لي المجد في باذخٍ أشم؟

هم الأصل مني حيث كنت وإننـي

 

من المُزنييّن المُصفين بـالـكـرمْ

وقد كانت العرب تفعل ذلك، لايعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها، إلا قال: أنا من الذين عبتَ.

كان أبو ضمرة، يزيد بن سنان بن أبي حارثة، لاحى النابغة فنماه إلى قضاعة، فقال النابغة:

جمّع محاشك إلى يزيدُ، فإنني

 

أعددتُ يربوعاً لكم وتمـيمـاً

ولحقْتُ بالنسب الذي عيرتنـي

 

ووجدتُ نصرك يا يزيد، ذميماً

حدبَتْ عليّ بطونُ ضنّة كلها،

 

إنْ ظالماً فيهم وإن مظلومـاً

لولا بنو نهْد بن عوف أصبحت

 

بالنّعف أمك، يا يزيد، عقيمـاً

ضنّة بن كبير بن عذرة.

وكان رهط الزبرقان بن بدر يخلجون إلى بني كعب بن يشكر، إلى ذي المجاسد، عامر بن جشم بن كعب، فقال الزبرقان:

فإن أَكُ من كعبِ بن سعدٍ، فإننـي

 

رضيت بهم من حيّ صدقٍ ووالدِ

وإن يك من كعب بن يشكر منصبي

 

فإن أبانا عامرٌ ذو الـمـجـاسـدِ

قال ابن سلام: ولقد أخبرني بعض أهل العلم من غطفان أنهم من بني عبد الله من غطفان، وأن اعتزاءه إلى مزينة كقول هؤلاء، وأما العامة فهو عندهم مزنيّ ولبس لزهير، ولا لبنيه صليبةً، شعر يعتزون فيه إلى غطفان ولا إلى مزينة، إلا بيت كعب ذاك، وقول بجير:

صبحناهم بسبعٍ من سُلَـيْم

 

وألفٍ من بني عثمانَ وافِ

وقد يجوز أن يكون غير قومه من المزنيين، فذكرهم كما ذكر سليماً.

ولم يزل في ولد زهير ولم يتصل في ولد أحد من فحول الجاهلية ما اتصل في ولد زهير، ولا في ولد أحد من الإسلاميين ما اتصل في ولد جرير.

وكان الحطيئة قد عمر دهراً في الجاهلية، وبقي في الإسلام حيناً، وكان جشعاً سؤولاً  وكان مع علقمة بن علاثة حين نافر عامر بن الطفيل، فقال يفضل علقمة:

يا عام، قد كنت ذا باعٍ ومكـرمةٍ

 

لو أن مسعاة من جاريْتَـهُ أمَـمُ

جاريتَ فرعاً أجاد الأحوصان به،

 

ضخم الدّسيعةِ في عِرْنِينِه شمَـمُ

لا يُصْعِبُ الأمر إلا ريْثَ يركبُهُ،

 

ولايبيتُ على مالٍ لـه قـسـمُ

وكان الأعشى مع عامر بن الطفيل ولبيد بن ربيعة.

وشهد الحطيئة نفار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، أحد بني عدي بن فزارة، وزبّان بن سيار بن عمرو بن جابر، أحد بني مازن بن فزارة، فقال يفضل عيينة على زبان:

أبى لك آباءٌ، أبـى لـكَ مـجـدُهـم

 

سوى المجد، فانظر صاغراً من تنافره

قبورٌ أصابـتـهـا الـسـيوف ثـلاثةٌ

 

نجومٌ هوت في كل نـجـم مَـرائِرُه

فقبرٌ بأجـبـال، وقـبـر بـحـاجـرٍ

 

وقبر القليب أسعر الحرب سـاعِـرُه

وَشَرُّ المَنايا هـالِـكٌ وَسـطَ أَهـلِـهِ

 

كَهَلكِ الفَتَاةِ أَيقَظَ الحَـيَّ حـاضِـرُه

قبر بأجبالٍ: يريد قبر بدر بن عمرو، قتيل بني أسد بن خزيمة.

وقبر القليب، وهو الهباءة: قبر حذيفة بن بدر بن عمرو، قتيل بني عبس. وقبر بحاجر: يعني قبر حصن بن حذيفة بن بدر، قتيل بني عقيل بن كعب ونمير بن عامر.

قال: كان الحطيئة سؤولاً جشعاً، فقدم المدينة وقد أرصدت له قريش العطايا،والناس في سنة مجدبة، وسخطة من خليفة فمشى أشراف أهل المدينة بعضهم إلى بعض،فقالوا قد قدم علينا هذا الرجل، وهو شاعر، والشاعر يظن فيحقق، وهو يأتي الرجل من أشرافكم يسأل، فإن أعطاه جهد نفسه بهرها وإن حرمه هجاه. فأجمع رأيهم على أن يجعلوا له شيئاً معداً يجمعونه بينهم له فكان أهل البيت من قريش والأنصار يجمعون له العشرة والعشرين والثلاثين ديناراً، حتى جمعوا له أربعمئة دينار، وظنوا أنهم قد أغنوه فأتوه فقالوا له: هذه صلة آل فلان، وهذه صلة آل فلان فأخذها، فظنوا أ نهم قد كفوه عن المسئلة، فإذا يوم الجمعة قد استقبل الإمام ماثلا ينادي بعد الصلاة فقال: من يحملني على نعلين وقاه الله كبّة جهنم.

أخبرنا أبو خليفة، أخبرنا ابن سلام، قال وأخبرني يونس النحوي، خرج الحطيئة مع ابنته مليكة، وامرأته أُمامة، على ذَودٍ له ثلاث، فنزل منزلاً وسرح زوده. فلما قام للرواح فقد إحداهن، فقال:

أذئبُ الفـقـر أم ذئبٌ أنـيس

 

أصاب البكْرَ، أم حدَثُ الليالي؟

ونـحـن ثـلاثةٌ وثـلاث ذودٍ

 

لقد جار الزمان على عيالـي!

وكان سبب هجائه الزبرقان، أنه صادفه بالمدينة وكان قدمها على عمر رضي الله عنه، فقال الحطيئة: وددت أني أصبت رجلاً يحملني وأصفيه وأقتصر عليه. قال الزبرقان: قد أصبته، تقدم على أهلي فإني على إثرك. فقدم فنزل بحراه، وأرسل الزبرقان إلى امرأته أن أكرمي مثواه. وكانت ابنته مليكة جميلة، فكرهت امرأته مكانها، فظهرت لهم منها جفوة وبغيض بن عامر بن لأي بن شماس، أحد بني قريع بن عوف ينازع يومئذ الزبرقان الشرف؛ والزبرقان أحد بني بهدلة بن عوف، وبغيض أرسخ في الشرف من الزبرقان، وقد ناوأه الزبرقان ببدنه حتى ساواه بل اعتلاه فاغتنم بغيض وأخواه، علقمة وهوذة، ما فيه الحطيئة من الجوفة، فدعواه إلى ما عندهما، فأسرع. فبنوا عليه قبة، ونحروا له وأكرموه كل الإكرام وشدوا بكل طنب من أطناب خبائه جلة من برني هجر قال: والمخبل شاعر مفلق، وهو ابن عمهم يلقاهم إلى أنف الناقة، وهو جعفر بن قريع. قال: وقدم الزبرقان أسيفاً عاتباً على امرأته فمدح بني قريع، وذم الزبرقان فاستعدى عليه الزبرقان عمر، فأقدمه عمر، وقال للزبرقان: ما قال الزبرقان؟ فقال لي:

دع المكارم لا ترحل لبغيتـهـا

 

واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقال عمر لحسان: ما تقول؟ أهجاه؟ وعمر يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة قال: ذرق عليه! فألقاه عمر في حفرة اتخذها محبساً، فقال الحطيئة:

ماذا تقول لأفـراخٍ بـذي مـرخٍ

 

حُمْرِ الحواصلِ، لا ماءٌ ولا شجرُ

ألقيت كاسبهمْ في قعر مُظْـلـمةٍ

 

فاغفر عليك سلامُ الله يا عمـرُ

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه

 

ألقى إليك مقاليد النّهى البشـرُ

ما آثروك بها إذ بايعوك لـهـا

 

لكن لأنفسهم كانت بك الإثَـرُ

وكان الزبرقان شاعراً مفلقاً، وكان يعاتبه ولم يكن يهجوهم، وكان حليماً وكانا في عداوتهما مجملين، وقد تقدم عليه المخبل بالهجاء، فقال:

لعمـرك إن الـزبـرقـان لـدائبٌ

 

على الناس يعدو نوكه ومجـاهـاه

ولما رأيت العـزّ فـي دار أهـلـه

 

تمنيت، بعد الشيب أنـك نـاقـلـه

ولما نرَ الأخفاف تمشي على الذرى،

 

ولما يكن أعلى العِضاه أسـافـلـه

ولما يزُل عن رأس صهوة عصمهـا

 

ولما يدع وِردَ العراق مـنـاهـلـه

وينْفِسُ في ما أورثـتـنـي أوائلـي

 

ويرغب عـمـا أورثـتـه أوائلـه

فإن كنتَ لا تُمْسي بحظـك راضـياً

 

فدع عنك حظي إنني اليوم شاغلـه

أتيت امرءًا أحمى على الناس عرضَهُ

 

فما زلت، حتى أنت مقعٍ، تناضلـه

فأقع كما أقعى أبوك علـى اسـتـه

 

رأى أن ريماً فـوقـه لا يعـادلـه

ومدح سعيد بن العاص، وكان سعيد لا تأخذه العين، كان يقال له: عكة العسل، فقال:

خفيفُ المِعَى، لايملأ الهمّ صدره

 

إذا سمْته الزادَ الخبيث عـيوف

وقال له أيضاً:

سعيدٌ، فلا يغْرُرك خفة لحمه؛

 

تخدّد عنه اللحم وهو صليب

وهو أحد من اتصل به الشرف من خمسة آباء، وابنه عمرو بن سعيد.

أخبرني الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلي، بإجازته لي، يذكر عن محمد بن سلام: أن الحطيئة كان ينتمي إلى بني ذهل بن ثعلبة فقال:

إن اليمامة خير ساكنهـا

 

أهل القرية من بني ذُهْلِ

قال: والقرية، منازلهم، ولم ينبت الحطيئة في هؤلاء.

قال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء: دخل الحطيئة على سعيد بن العاص متنكراً فلما قام الناس وبقي الخواص: أراد الحاجب أن يقيمه، فأبى أن يقوم فقال سعيد: دعه. وتذاكروا أيام العرب وأشعارها، فلما أسهبوا قال الحطيئة: ما صنعتم شيئاً. فقال سعيد: فهل عندك علم من ذلك؟ قال: نعم. قال: فمن أشعر العرب؟ قال الذي يقول:

قد جعل المبتغونَ الخيرَ في هَرِمٍ

 

والسائلونَ إلى أبوابه طـرُقـا

قال: ثم من؟ قال: الذي يقول:

فإنك شمسٌ والملوك كواكـبٌ

 

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

يعني زهيراً والنابغة، ثم قال: وحسبك بي إا وضعت إحدى رجلي على الأخرى: ثم عويت في إثر القوافي كما يعوى الفصيل في إثر أمه! قال: فمن أنت؟ قال: أنا الحطيئة. فرحب به سعيد، وأمر له بألف دينار.