طبقة أصحاب المراثي

قال: وصيرنا أصحاب المراثي طبقة بعد العشر الطبقات.

أولهم: متمم بن نويره بن جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع، رثى أخاه مالكا.

والخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة، رثت أخويها صخرا ومعاوية.

وأعشى باهلة - واسمه عامر بن الحارث بن رياح بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن سلامة بن ثعلبة بن وائل بن معن - رثى المنتشر بن وهب بن عجلان بن سلمة بن كراثة بن هلال بن عمرو ابن سلامة بن ثعلبة بن وائل بن معن.

وكعب بن سعد بن عمرو بن عقبة - أو علقمة - بن عوف بن رفاعة، أحد بني سالم بن عبيد بن سعد بن جلان بن غنم بن غني بن أعصر، رثى أخاه أبا المغوار.

والمقدم عندنا متمم بن نويرة، ويكنى أبا نهشل، رثى أخاه مالك بن نويرة، وكان قبله خالد بن الوليد بن المغيرة، حين وجهه أبو بكر، رضى الله عنه، إلى أهل الردة. فمن الحديث ما جاء على وجهه، ومنه ما ذهب معناه علينا، للاختلاف فيه. وحديث مالك مما اختلف فيه فلم نقف منه على ما نريد. وقد سمعت فيه أقاويل شتى، غير أن الذي استقر عندنا أن عمر أنكر قتله، وقام على خالد فيه وأغلظ له، وأن أبا بكر صفح عن خالد وقبل تأوله.

وكان مالك رجلاً شريفاً فارساً شاعراً، وكانت فيه خيلاء وتقدم، وكان ذا لمة كبيرة، وكان يقال له الجفول. وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أمثاله من العرب، فولاه صدقات قومه بني يربوع. فلما قبض النبي صلى الله عليه اضطرب فيها فلم يحمد أمره، وفرق ما في يديه من إبل الصدقة، فكلمه الأقرع ابن حابس المجاشعي والقعقاع بن معبد بن زرازة الدارمي، فقالا له: إن لهذا الأمر قائماً وطالباً، فلا تعدل بتفرقة ما في يديك. فقال:

أَرَانْي اللّهُ بالنَّعَمِ المُـنَـدَّى

 

بِبُرْقَةِ رَحْرَحَانَ وقد أرَاني

تُمَشِّي يَا اُبنَ عَوْذَةَ في تَميمٍ

 

وَصَاحُبك الأُقَيْرِعُ تَلْحَياني

حَمَيْتُ جَميعَها بالسَّيْف صَلْتاً

 

ولم تَرْعَشْ يَدَايَ ولا بَنَاني

عوذة: يعني أم القعقاع، وهي معاذة: بنت ضرار بن عمرو .

وقال:

وقُاتُ: خُذُوا أَمْوَالكم غير خائفٍ

 

ولا ناظرٍ فيما يَجِيءُ من الغَدِ

فَإن قامَ بالأمر المُخَـوَّفِ قـائِمٌ

 

مَنَعْنا وقلنا: الدِّينُ دِينُ مُحَمَّـد

فطرق خالد مالكاً وقومه - وهم على ماءٍ لهم يقال له البعوضة تحت الليل -، فذعرهم، وأخذوا السلاح. فكان في حجة خالد عليهم، أنه أنظرهم إلى وقت الأذان فلم يسمع أذانا. وتقول بنو تميم: إنه لما هجم عليهم خالد قال: من أنتم؟ قالوا: المسلمون. قال: ونحن المسلمون، فما بال السلاح؟ قالوا: ذعر تمونا! قال: فضعوا السلاح.

والمجتمع عليه: أن خالداً حاوره وراده، وأن مالكاً سمح بالصلاة والتوى بالزكاة. فقال خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً، لا تقبل واحدة دون الأخرى؟ قال:قد كان يقول ذلك صاحبكم! قال: وما تراه لك صاحباً؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تحاولا، فقال له خالد: إني قاتلك. قال: وبذا أمرك صاحبك؟ قال: وهذه بعد! والله لا أقيلك.

فيقول من عذر مالكاً: إنه أراد بقوله: "صاحبك" أنه أراد القرشية. وتأول خالد غير ذلك فقال: إنه إنكار منه للنبوة. وتقول: بنو مخزوم: إن عمرو بن العاص قال لخالد - وقد كان لقيه وهو منصرف من عمان، وكان النبي صلى الله عليه وجهه إلى ابن الجلندي - فقال لخالد: يا أبا سليمان، إن رأت عينك مالكاً فلا تزايله حتى تقتله.

وكان خالد يحتج على مالك بأشعاره التي كتبنا. وكلم أبو قتاده الأنصاري خالداً في ذلك كلاماً شديداً فلم يقبله، فآلى يميناً أن لا يسير تحت راية أميرها خالداً أبدا. وقال له عبد الله بن عمر،وهو في القوم يومئذ: يا خالد، أبعد شهادة أبي قتادة؟ فأعرض عنه. ثم عاوده، فقال:يا أبا عبد الرحمن، اسكت عن هذا، فإني أعلم مالا تعلم. فأمر ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه، ففعل.

قال ابن سلام: سمعني يونس يوماً أراد التميمية في خالد وأعذره، فقال: يا أبا عبد الله، أما سمعت بساقي أم تميم؟ وصارت أم تميم إلى خالد بنكاح أو سباء، وعابه عليه عمر بن الخطاب قال: قتلت امرأ مسلماً ووثبت على امرأته بعقرباء، يوم بني حنيفة.

قال: ومن أحسن ما سمعت من عذر خالد، ما ذكروا أن عمر قال لمتمم بن نويرة: ما بلغ من جزعك على أخيك؟ - وكان متمم أعور - قال: بكيت عليه بعيني الصحيحة حتى نفد ماؤها، فأسعدتها أختها الذاهبة. فقال: عمر لو كنت شاعراً لقلت في أخي أجود مما قلت. قال أمير المؤمنين، لو كان أخي أصيب مصاب أخيك ما بكيته. فقال عمر: ما عزاني أحد عنه بأحسن مما عزيتني.

وبكى متمم مالكاً فأكثر وأجاد، والمقدمة منهن قوله:

لَعمْرِي ومَا دَهْرِي بتَأبين هَالكٍ

 

ولا جَزَعٍ ممَّا أصابَ وأوْجَعَا

قال ابن سلام: وأخبرني يونس بن حبيب: أن التأبين مدح الميت والثناء عليه، قال رؤبة:

فَامْدَحْ بِلالاً غَيرَ مَا مُؤَبَّنِ

والمدح للحي.

وبكت الخنساء أخويها صخراً ومعاوية. فأما صخر فقتلته بنو أسد، وأما معاوية فقتلته بنو مرة غطفان. فقالت في صخر كلمتها التي تقول فيها:

وإنّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِه

 

كأنّه عَلَمٌ في رَأْسه ناَرُ

وقالت في معاوية:

ألا مَا لِعَيْنِكِ أمْ مَالَـهَـا؟

 

لَقَدْ أَخْضَلَ الدَّمْعُ سِرْبَالَها

وقالت في صخر الكلمة الأخرى:

أمِنْ حَدَثِ الأَيَّام عَـيْنُـك تَـهْـمُـلُ

 

وتَبْكي على صَخْرٍ وفي الدّهْر مَذهَلُ

وأعشى باهلة، رثى المنتشر بن وهب الباهلي، قتيل بني الحارث بن كعب فقال في كلمته:

لا يَأمَنُ الناسُ مُمْسَاهُ ومُصْبَحَهُ

 

مِن كلّ أَوْبٍ وإنْ لم يَغْزُ يُنْتَظَرُ

لا يَغْمِزُ السَّاقَ من أَيْن ولا وَجَعٍ

 

ولا يَزَالُ أمامَ القوْمِ يَقْـتَـفِـرُ

إنّي أَشُدُّ حَزِيمي ثُمّ يُدْرِكنـي

 

مِنْك البَلاَءُ ومِنْ آلائِك الذِّكَرُ

فإن جَزِعْنا فمثْلُ الشَّرِّ أَجْزَعَنَا

 

وإنْ صَبَرْنَا فَإنَّا معْشَرٌ صُبُرُ

إمَّا سَلَكْتَ سبيلاً كُنْتَ سالِكَهـا

 

فَاذْهبْ فَلاَ يُبْعِدَنْك الله مُنْتَشِرُ

لا يُصْعِبُ الأَمْرَإلا رَيْثَ يَرْكَبُه

 

وكُلَّ أمْرٍ سِوَى الفَحْشاءِ يأتَمِرُ

والرابع: كعب بن سعد الغنوي، رثى أخاه أبا المغوار بكلمة قال فيها:

فَخـبَّـرتُـمانـي أَنَّـا الموتُ بـالقُرَى

 

فكيفَ وهذي رَوْضَةٌ وكَـثِــيبُ!

وماءُ سَـماءِ كان غَـيْرَ مَحَـمَّةٍ

 

بِدَاويَّةٍ تَـجْـري عليه جَـنـوبُ

ومَنِْلَةٍ في دَارِ صِـدْقٍ وغِـبْـطَةٍ

 

وما اُقـتْـاَلَ في حُكْـمٍ عَلَـىَّ طَبِـيبُ

فلو كانَتِ الَموْتَـى تُبـاعُ اُشْتَـريتُه

 

بما لم تَكُنْ عنه النُّفُـوس تَطِـيبُ

بِعَيْنِـيَّ أو كِلْتَـا يَدَيَّ وقيل لـي

 

هُوَ الغانِمُ الجَذْلانُ حـين يَؤُوبُ

ودَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدَى؟

 

فَلَـمْ يَسْـتَـجِبْـهُ عند ذَاك مُـجِيبُ

فَقُلْتُ: ادْعُ أُخْرَى وارْفَع الصَّوْتَ دَعْوة

 

ًلعلَّ أبَا المِغْوارِ مِنْكَ قَرِيبُ