شعراء القرى العربية

وهي خمس: المدينة، ومكة، والطائف، واليمامة، والبحرين. وأشعرهن قرية المدينة.

شعراؤها الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج، واثنان من الأوس.

فمن الخزرج، من بني النجار: حسان بن ثابت. ومن بني سلمة: كعب بن مالك. ومن الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة. ومن الأوس: قيس بن الخطيم، من بني ظفر. وأبو قيس بن الأسلت، من بني عمرو بن عوف.

أشعرهم حسان بن ثابت. وهو كثير الشعر جيده، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضدت قريش واستبت، وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تنقى. وكان أبوه ثابت بن المنذر بن حرام، من سادة قومه وأشرافهم. والمنذر الحاكم بين الأوس والخزرج في يوم سميحة - وهو يوم من أيامهم مشهور -، وكانوا حكموا في دمائهم يومئذ مالك بن العجلان بن سالم بن عوف، فتعدى في مولى له قتل يومئذ، وقال: لا آخذ فيه إلا دية الصريح. فأبوا أن يرضوا بحكمه، فحكموا المنذر بن حرام، فحكم بأن هدر دماء قومه الخزرج، واحتمل دماء الأوس، فذكره حسان في شعره في قصيدته التي قال فيها:

مَنَع النّوْمَ بالعِشاءِ الهُمُومُ

وأسرت مزينة ثابتا، أبا حسان، فعرض عليهم الفداء فقالوا: لا نفاديك إلا بتيس! - ومزينة تسب بالتيوس - فأبي وأبوا. فلما طال مكثه، أرسل إلى قومه: أن أعطوهم أخاهم وخذوا أخاكم.

وحدثني يزيد بن عياض بن جعدبة أن النبي صلى الله عليه لما قدم المدينة، تناولته قريش بالهجاء، فقال لعبد الله بن رواحة: رد عني. فذهب في قديمهم وأولهم، فلم يصنع في الهجاء شيئا. فأمر كعب ابن مالك، فذكر الحرب، كقوله:

نصِلُ السُّيوفَ إذا قَصُرنَ بخَطْونا

 

قُدُماً ونُلْحِقُها إذا لم تَـلْـحَـقِ

فلم يصنع في الهجاء شيئا. فدعا حسان بن ثابت فقال: أهجهم وائت أبا بكر يخبرك - أي بمصائب القوم -. وكان أبو بكر علامة قريش، وكان جبير بن مطعم أخذ العلم عن أبي بكر.

أخبرنا شعبة، عن عدي بن ثابت الأنصاري: أنه سمع البراء بن عازب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه: أهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك.

قال ابن جعدبة في حديثه: وأخرج حسان لسانه حتى ضرب به على صدره وقال: والله يا رسول الله، ما أحب أن لي به مقولا في العرب. فصب على قريش منه شآبيب شر، فقال رسول الله صلى الله عليه: اهجهم، كأنك تنضحهم بالنبل.

ومن شعره الرائع الجيد، ما مدح به بني جفنة من غسان، ملوك الشام في كلمة:

للّه دَرُّ عِصابةٍ نـادَمْـتُـهُـمْ

 

يوماً بِجِلِّقَ في الزَّمانِ الأوَّلِ

يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهمُ

 

بَرَدَى يُصَفَّق بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

يُغشَوْن حَتَّى ما تَهِرُّ كِلابُهُـمْ

 

لا يَسْألون عن السَّوَادِ المُقْبِـلِ

أوْلادُ جَفْـنةَ عِـنْـدَ أبِـيهِـمُ

 

قَبْرِ اُبن مَارِيَة الكَريمِ المُفْضِلِ

وقال في الكلمة الأخرى الطويلة:

لنا الَجفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَـى

 

وأسْيافُنا يَقْطُرْن من نَجْـدَةٍ دَمَـا

أبَي فِعْلُنا المعروفِ أن نَنْطِقَ الخَنا

 

وقائِلُنا بالعُـرْفِ إلا تَـكـلُّـمَـا

وقوله:

وإن اُمْرىً أَمْسَى وأَصْبَح سَالمِاً

 

من الناس إِلا مَا جَنى لَسَعـيدُ

ولما قال للحارث بن عوف بن أبي حارثة المري:

وأًمَانَةُ المُرِّيِّ حَـيثُ لَـقِـتَـه

 

مثلُي الزُّجاجةِ صَدْعُها لم يُجْبَرِ

قال الحارث: يا محمد، أجرني من شعر حسان، فو الله لو مزج به الماء البحر مزجه.

وأشعار حسان وأحاديثه كثيرة.

وكعب بن مالك، شاعر مجيد. قال يوم أحد في كلمة:

فَجِئْنَا إلى مَوْجٍ من البَحْر وَسْطَه

 

أَحابِيشُ منهم حَاسِرٌ ومُقَـنَّـعُ

ثلاثةُ آلافٍ ونـحـنُ نَـصِـيَّةٌ

 

ثَلاَثُ مِئِينَ إن كَثُرْنـا وأَرْبَـعُ

وكانوا سبعمئة.

فَرَاحُوا سِراعاً مُوجِفينَ كأنَّهُـمْ

 

جَهَامٌ هَرَاقتْ مَاءهُ الرِّيحُ مُقْلِعُ

ورُحْنَا وأُخْرَانا تَطَانَا كـأنَّـنـا

 

أُسُودٌ على لَحْمٍ بِبِيشهً ظُـلَّـعُ

وقال كعب في أيام الخندق:

مَنْ سَرَّهُ ضَرْبٌ يُرَعْبِلُ بْعضُه

 

بَعْضاً كمْعَمَعةِ الأَباءِ المُحْرَقِ

فَلْيَأتِ مَأْسَدةً تُسَلُّ سُيوفُـهـا

 

بَيْن المَذَادِ وبَيْنَ جِزْعِ الخَنْدَقِ

وقال بعد ذلك في كلمة أيضا:

قَضَيْنا من تِهامَةَ كلَّ رَيْبٍ

 

وخَيْبَرَ ثُمّ أجْمَمْنَا السُّيُوَفَـا

نُخَيِّرها ولو نَطقت لَقَالـتْ

 

قَوَاطِعُهنَّ: دَوْساً أو ثَقِيفَـا

فَلَسْتُ لِحَاصِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا

 

بساحَةِ دَارِكم مِنَّا أُلُـوفَـا

فنَنتَزِعُ العُروشَ ببَطْن وَجٍّ

 

ونَتْرُكُ دَارَكم مِنَّا خُلُوفَـا

ونُرْدي الَّلاتَ والعُزَّي ووَدْا

 

ونَسْلُبُها القَلاَئِدَ والشُّنوفَـا

حدثني عمر بن معاذ التيمي المعمري وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه لكعب بن مالك: أترى الله نسي لك قولك:

زَعَمَتْ سَخِينةُ أنْ سَتَغْلِبُ رَبَّها

 

ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِـبُ الـغَـلاَّبِ

وكان أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك، هو وهلاك ابن أمية ومرارة بن الربيع، فتاب الله عليهم، كما قص في سورة براءة.

ويروي أن قومه قالوا في ذلك: لو اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه ببعض ما يعتذر به الناس، عذرك. قال: إني لأصنعهم لساناً وأقدرهم على ذلك، ولكن والله لا أعتذر إليه بكذب وإن عذرني فيطلعه الله عليه. فيقال: إن الله عز وجل أنزل فيه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" (سورة التوبة 119). وشهد العقبة ولم يشهد بدرا.

وعبد الله بن رواحة، عظيم القدر في قومه، سيد في الجاهلية، ليس في طبقته التي ذكرنا أسود منه. شهد بدراً. وكان في حروبهم في الجاهلية يناقض قيس بن الخطيم. وكان في الإسلام عظيم القدر والمكانة عند رسول الله صلى الله عليه.

وقال عبد الله بن رواحة، وهو آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه في غمرة القضاء، يقودها، وقد اجتمع أهل مكة وغلمانهم ينظرون إليه، وهو يقول:

خَلُّوا بَني الكُفَّار عن سَبِيِلِـهِ

 

خَلُّوا فكلُّ الخَيْرِ مَعْ رَسُولِهِ

نَحنُ ضَرَبنا كُمْ على تَأْوِيِلِـهِ

 

كما ضَربنَا كُمْ على تَنْزِيلِهِ

ضَرْباً يُزِيلُ الهَامَ عن مَقِيلِهِ

 

ويُذْهِلُ الخليلَ عن خَلِيلِـهِ

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة منصرفة من العمرة، فخرص على أهل خيبر، فقال لهم لما شكوا الخرص:

فنحنُ نأخذُها بذلـك قـالـوا

 

بهذا قامتِ السَّموات والأرضُ

وقد روى عمر بن أبي زائدة قال: سمعت مدرك بن عمارة ابن عقبة بن أبي معيط يقول: قال عبد الله بن رواحة: مررت بمسجد رسول الله صلى الله عليه وهو في نفر من أصحابه، فأضب القوم: يا عبد الله بن رواحة! يا عبد الله بن رواحة! فعرفت أن رسول الله صلى الله عليه دعاني، فانطلقت إليهم مسرعا، فسلمت، فقال: ههنا. فجلست بين يديه فقال - كأنه يتعجب من شعري -: كيف تقول الشعر إذا قلته؟ قلت: أنظر في ذلك ثم أقول. قال: فعليك بالمشركين. قال: فلم أكن أعددت شيئا، فأنشدته، فلما قلت:

فَخبِّرُوني أَثْمانَ العَبَـاءِ مـتَـى

 

كُنْتُم بَطَاريقَ أو دَانتْ لكم مُضَرُ؟

قال: فكأني عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه الكراهة إذ جعلت قومه أثمان العباء فقلت:

نُجَالِدُ النَّاسَ عَنْ عُرْضٍ فَنَأْسِرُهمفِينَا النَّبيُّ وفينَا تُنْزَلُ السُّوَرُ

 

وقد عَلمتم بأنًّا ليسَ غَالِبَنَا

 

حيُّ من النـاس إنْ عَـزُّوا وإن كَـثُروا

يَا هَـاشِـمَ الخَيرِ إنَّ الّله فَـضَّلكم

 

عَلَـى البَرِيَّة فَـضلاً مَالَهُ غِـيَرُ

إنّي تَـفَرَّسْـتُ فِيكَ الخيرَ أعرِفُهُ

 

فِراسةً خَالفتْهُـمْ في الّذي نَـظَرُوا

ولوْ سألتَ أَو اسْتَنْصَرتَ بَعْضَهُمُ

 

في جُلِّ أَمْرِكَ ما آوَوْا اوَما نَصَـرُوا

فَثَبَّـتَ الّلهُ مَا آتَاكَ مـن حَـسَنٍ

 

تَثْبِيتَ مُوسى ونَصْراً كالّذي نُصِـرُوا

فأقبل على بوجهه متبسماً. ثم قال: وإياك فثبت الله.

وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مؤته ثالث ثلاثة أمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وابن رواحة. فلما قتل صاحباه، كأنه تكره الإقدام فقال:

أقْسَمتُ يا نَفْسُ لَتَنْـزِلِـنَّـهْ

 

طَائِعَةً أوْلا لتُـكْـرَهِـنَّـهْ

وَطَالما قَدْ كُنْت مُطْمَـئِنَّـهْ

 

مَا لي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجنَّةْ؟

فقتل يومئذ.

وأبو قيس بن الأسلت، وهو شاعر مجيد، وهو الذي يقول في حرب بينهم وبين الخزرج:

قَدْ حَصَّتِ البَيضَةُ رأْسي فَما

 

أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْـجَـاعِ

أَسْعَى عَلَى جُلِّ بَني مَالـكٍ

 

كُلُّ امرئ في شَأنِهِ سَـاعِ

وهو يقول في قصيدة:

فَلَسْتُ لَحِاصِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْنَا

 

نُجالِدُ كُمْ كَأَنَّا شَرْبُ خَمْرِ

مَلَكْنْا النَّاسَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ

 

فَلَمْ نُغْلَبْ وَلَمْ نُسْبَق بِوِتْـرِ

هَمْمنَا بِالإقامَةِ ثُمَّ سِـرْنَـا

 

مَسِيرَ حُذَيْفَةِ الخَيْرِ بْنِ بَدْرِ

وذكروا أنه أقبل يريد النبي صلى الله عليه، فقال له عبد الله ابن أبي: خفت والله سيوف الخزرج! قال: لا جرم، والله لا أسلم حولاً. فمات في الحول.

قيس بن الخطيم شاعر، فمن الناس من يفضله على حسان شعراً - ولا أقول ذلك -.

وهو الذي يقول يوم بعاث:

أتعْرِفُ رَسْماً كاُطِّرادِ المّذَاهِبِ

 

لِعَمْرَةَ قَفْراً غيرَ مَوْقِفِ رَاكبِ

عمرة: بنت رواحة، أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان ابن بشير الأنصاري:

دِيارُ التَّي كادتْ ونَحنُ على مِنيٍ

 

تَحُلُّ بنا لَوْلا نَجـاءُ الـرّكـائبِ

تَراءَت لنَا كالشَّمْسِ تحتَ غَمامةٍ

 

بَدَا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحَاجِـبِ

ولَمْ أَرَهَا إلا ثَلاثاً عَلَـى مِـنـيٍ

 

وعَهْدي بها عَـذْرَاءَ ذَاتَ ذَوائِبِ

ومَثْلِكِ قَدْ أصْبَيْتُ لَيستْ بـكَـنَّةٍ

 

ولا جَارةٍ ولا حَليلَةٍ صَـاحِـبَ

أَرِبْتُ بدَفْع الحَرْب حتّى رأيتُهـا

 

عَلَى الدَّفْع لا تَزْدَادُ غيرَ تَقارُب

فلمَّا رأيْتُ الحرْبَ حرْباً تَجَرَّدتْ

 

لَبِسْتُ مع البُرْدَيْنِ ثَوْبَ المُحَاربِ

مُضَاعَفةً يَغْشَى الأَنامِلَ رَيْعُـهـا

 

كأَنَّ قَتِيرَهَا عُيُونُ الـجَـنـادِبِ

إذَا ما فَرَرْنَا كان أَسْـوَأَ قَـرِّنـا

 

صُدودُ الخُدودِ وازوِارُ المناكـبِ

وهو الذي يقول:

تَرَاءَتْ لنا يومَ الرَّحِيل بِمُقْلَـتَـي

 

غَرِيرٍ بمُلتَفٍّ مِنَ السِّدْرِ مُـفْـرَدِ

وَجِيدٍ كجِيدِ الـرِّئْم حَـالٍ يَزِينُـهُ

 

عَلَى النَّحْرِ مَنْظومٌ وفَصْلُ زَبرْجَدِ

وكأَنَّ الثُّرَيَّا فوقَ ثُغْرةِ نَحْـرِهـا

 

تَوَقَّدُ في الظلَّـمـاءِ أيَّ تَـوَقُّـدِ

وإنِّي لاغْنَى النَّاسِ عَنْ مُتَكـلِّـفٍ

 

يَرَى النَّاسَ ضُلالاً ولَيْسَ بمُهْتَدِي

أُكَثِّر أهْلي من عِـيالٍ سِـوَاهُـمُ

 

وأَطْوِي على الماءِ القَرَاحِ المُبَرَّدِ

وقال:

طَعَنْتُ اُبنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَة ثائرٍلَهَا نَفَذٌ لَوْلا الشَّعَاعُ أَضَاءَهَا

وكان قيس مقيماً على شركه، وأسلمت امرأته، وكان يقال لها حواء، فكان يصدها عن الإسلام ويعبث بها، يأتيها وهي ساجدة فيقلبها على رأسها. وكان رسول الله صلى الله عليه وهو بمكة قبل الهجرة، يسأل عن أمر الأنصار وعن حالهم، فأخبر بإسلامها، وما تلقى من قيس. فلما كان الموسم، أتاه صلى الله عليه في مضربه، فلما رأى النبي صلى الله عليه رحب به وأعظمه. فقال له النبي صلى الله عليه: إن امرأته قد أسلمت، وإنك تؤذيها، فأحب أن لا تعرض لها.

قال: نعم وكرامة يا أبا القاسم، لست بعائد في شيء تكرهه. فلما قدم المدينة قال لها: إن صاحبك قد لقيني، فطلب إلى أن لا أعرض لك، فشأنك وأمرك.