طبقات الشعراء الإسلاميين
عشر طبقات: كل طبقة أربعة رهط متكافئين معتدلين.
جرير بن عطية بن الخطفي، واسم الخطفي حذيفة، بن بدر ابن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع.خطفه بيت قاله:
يرفعن لليل إذا ما أسـدفـا |
|
أعناق جنان وهاما رجفـا |
وعنقاً، بعد الرسيم، خيطفا |
|
&nnbsp; |
والفرزدق، واسمه همام، بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع. وإنما سمي الفرزدق لأنه شبه وجهه بالخبزة، وهي فرزدقة .
والأخطل، واسمه غياث، بن غوث بن الصلت بن طارقة ابن السيحان بن عمرو بن فدوكس بن عمرو بن مالك بن جشم بن بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. خطله قول كعب بن جعيل له: إنك لأخطل يا غلام! وراعي الإبل، واسمه عبيد بن حصين بن جندل بن قطن ابن ظويلم بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير. سمي راعي الإبل، لكثرة صفته للإبل وحسن نعته لها، فقالوا: ما هذا إلا راعي الإبل! فلزمته .
فاختلف الناس فيهم أشد الاختلاف وأكثره. وعامة الاختلاف، أو كله،في الثلاثة ومن خالف في الراعي قليل، كأنه آخرهم عند العامة .
سمعت يونس بن حبيب يقول: ما شهدت مشهداً قط ذكر فيه جرير
والفرزدق، فأجمع أهل ذلك المجلس على أحدهما.
وكان يونس يقدم الفرزدق بغير إفراط، وكان المفضل الراوية يقدمه تقدمة
شديدة.
وأخبرني أبو قيس العنبري ، عن عكرمة بن جرير: أن جريراً قال: نبعة الشعر الفرزدق. وقال ابن دأب، وسئل عنهما فقال: الفرزدق أشعر عامة، وجرير أشعر خاصة .
وكان الأشهب بن رميلة يفاخر الفرزدق، فكان الفرزدق يذكر فقيماً مع بني نهشل، فاستعدوا عليه زياداً، فهرب من زياد.
فحدثني جابر بن جندل الفزاري قال: أتى الفرزدق عيسى بن خصيلة السلمي فقال: يا أبا خصيلة، إن هذا الرجل قد أخافني، وقد لفظني جميع من كنت أرجو . قال: فمرحباً يا أبا فراس. فكان عنده ليالي، ثم قال له: إني أريد أن أخرج إلى الشام. فقال له: إن قمت ففي الرحب والسعة، وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها وألف درهم . فركب الناقة وخرج من عنده ليلاً وأرسل معه عيس بن خصيلة من أجازه من البيوت ، فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث، فقال يمدحه:
تَخَطَّى بِيَ البَهْزِيُّ حُمْلاَنَ مَنْ أَبَىمن النَّاسِ، الجَاني تُخافُ جَرَائِمُهْ |
|
|
فَتَى الجُودِ عِيسَى والمكارمِ والعُلَى، |
|
إذا المالُ لم تَرْفَعْ بَـخيلاً كرَائِمُـهْ |
ومَنْ كانَ يا عِـيسَـى يُؤَنِّـبُ ضَيْفَـهُ، |
|
فَضَيْفُكَ مَحْبُـورٌ هَنِيٌّ مَطَاعِـمُـهْ |
وقَالَ: تَـعَلَّمْ أَنَّها أَرْحَـبِــيَّةٌ، |
|
وأنّ لَها الَّليلَ الَّـدِي أنْـتَ جَاشِـمُهْ |
فَأَصْبَحْتُ، والمُلْقَى وَرَائي وحَنْبَلٌ،ومَا صَدَرَتْ حتّى عَلاَ النَّجْمَ عَاتِمُهْ |
|
|
تَزَاوَرُ عَن أَهْلِ الحُفَيْرِ، كأَنَّها |
|
ظَلِـيمٌ تَبَـارَيِ جُنْحَ ليلٍ نَعائِمُـهْ |
رَأَتْ بَيْنَ عَيْنَيْها رُوَيَّةَ، وانْجَلىلَهَا الصُّبْحُ عن صَعْلٍ أَسِيلٍ مَخَاطِمُـهْ |
|
|
وقال أيضاً فيه:
تَدَارَكَنـيِ أَسْبَابُ عِيسَى من الـرَّدَى، |
|
ومن يَكُ مَوْلاهُ فـلـيْسَ بِـوَاحِـدِ |
نَمَتْـهُ النَّـواصِي من سُلَيْمٍ إلى العُلَى، |
|
وَأَعْرَاقُ صِدْقٍ بـين نَصْـرٍ وخالِدِ |
سَأُثْنِي بما أَوْلَيْتنِي وأَرُبُّه،إِذَا القَوْمُ عَدُّوا فَضْلَهُمْ في المَشَاهِدِ |
|
|
فلما بلغ زياداً شخوصه، أتبعه على بن زهدم الفقيمي فلم يلحقه، فقال الفرزدق:
فَإِنَّكَ لوْ لاَقَيْتَنِي يَا ابْنَ زَهْـدَمٍ |
|
لأُبْتَ شَعُاعِيّاً على شَرِّ تِمْثَالِ |
فأتى بكر بن وائل فأجاروه، فأمن ، فقال:
وقَدْ مَيَّلَتْ بَيْنَ المَسيِرِ، فَلَـمْ تَـجِـدْ |
|
لِعَورْتِها كالحَيِّ بَـكْـر بـن وَائِلِ |
وسَارتْ إلى الأحْفَارِ خَمْساً، فَأصْبَحَتْ |
|
مَكَانَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الـمُـتـنَـاوِل |
والحصن: ثعلبة بن عكابة، أبو شيبان وقيس وذهل وتيم .
فأتى من وجهه ذلك سعيد بن العاص بالمدينة، وهو واليها ، فمدحه وعنده الحطيئة وكعب بن جعيل، فآمنه سعيد، فبلغه أن زياداً قال: لو أتاني لآمنته وأعطيته. فقال في كلمة:
دَعَانِـي زِيادٌ للعَطاء، ولَمْ أَكُنْ |
|
لآِتِـيَهُ، ما سَـاقَ ذُو حَـسَــبٍ وَفْـرَا |
وعِنْـد زيادٍ، لـو يُريدُ عَـطاءَهُـم، |
|
رِجالٌ كثيرٌ قـد يَرَى بِهِـمُ فَـقْــرَا |
قُعُودٌ لَدَى الأبْوَاب: طَالـبُ حَاجَةٍ |
|
عَوانٍ من الحاجَاتِ، أو حاجةٍ بـكْـرَا |
فَلمَّـا خَشِـينَـا أَن يكُونَ عَـطَـاؤُهُ |
|
أَدَاهِمَ سُوداَ أو مُـحَـدْرَجَةً سُـمْـرَا |
نَمَيْتُ إلى حَرْفٍ أَضَرَّ بِنَيِّهاسُرِى البِيدِ واسْتِعْراضُهَا البَلَدَ القَفْرَا |
|
|
يَؤُمُّ بها الآفَاقَ مَنْ لاَ يَرى لَهُ |
|
لَدَى ابنِ أبي سُفْيان جَـاهـاً ولا عُـذْرَا |
فلما اطمأن عند سعيد قال:
أَلاَ مَنْ مُبْـلـغٌ عَـنّـي زِياداً |
|
مُغَلْغَلِةً يَخُـبُّ بـهـا بَـرِيدُ |
بِأَنِّي قد فَرَرْتُ إلَـى سَـعـيدٍ |
|
ولا يُسْطَاعُ ما يَحْوِي سَـعِـيدُ |
فَرَرْتُ إليهِ مِن لَيْثٍ هِـزَبْـرٍ |
|
تَفَادَى مِنْ فَريسَتِـه الأُسُـودُ |
فإن شِئْتُ انْتَسَبْتُ إلى النَّصَارَى |
|
وناسَبنَي وناسَبْـتُ الـيَهـودُ |
وإن شِئْتُ انتَسَبْتُ إلى فُـقَـيْمٍ |
|
وناسَبَني وناسَبْـتُ الـقُـرودُ |
وأَبْغَضُهُم إليَّ بَـنُـو فُـقَـيْمٍ |
|
ولكنْ سَوْف أَ فْعَلُ ما تَـكِـيدُ |
وكان يدخل على القيان بالمدينة، فقال في قينة :
إذَا شِئْتُ غَنَّانِي من الـعَـاجِ قَـاصِـفٌ |
|
على مِعْصَـمٍ رَيَّانَ لَـمْ يَتَـخَـدَّدِ |
لِبَـيْضَـاءَ مـنْ أَهْلِ الـمدِينةِ، لم تَـعِـشْ |
|
ببُؤْسٍ، ولَم تَـتْـبَع حَمُولَةَ مُـجْحِـدِ |
نَعِمْتُ بها لَيْلَ التِّمامِ، فلم يَكَدْيُرَوِّي اسْتِقَائي هَامَةَ الحائِم الصَّدِى |
|
|
وَقامتْ تُخَشِّينِي زِياداً، وَأَجْفَلتْ |
|
حَوَاليَّ في بُرْدٍ يَمَانٍ ومُجْـسَدِ |
فقلْـتُ: دَعِيني منْ زِيادٍ فـإنَّـنـي |
|
أَرى الموْتَ وقَّافاً عَلَى كُلِّ مَرْصَدِ |
وقال:
أَلَمْ يَأْتِه أنِّي تَخَلَّلُ ناقَـتِـي |
|
بنَعْمَـانَ أَطْرافَ الأَرَاكِ النَّـواعِـمِ |
مُقيَّدَةً تَرْعَى الأَرَاكَ، ورَحْلُـها |
|
بمكَّةَ مُلْقـىً عَائِذٌ بالمَـحارِمِ |
فَدَعْني أَكُنْ، ما كُنْتُ حَيًّا، حَمَامَةًمن القَاطِنَات البَيْتَ غَيرِ الرَّوَائِمِ |
|
|
فأنشدها زياد فرق له، وقال عند ذلك: لو أتاني لآمنته.
وفي ذلك يقول البكري :
لَيالِي تَمنَّى أَنْ تكُونَ حَمامةً |
|
بمكَّةَ يُؤْوِيكَ السِّتَارُ المُحَرَّمُ |
فلما هلك زياد، رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو ابن عمرو بن عدس الدارمي ، فقال:
رَأَيْتُ زِيادةَ الإسْلامِ وَلَّتْ |
|
جِهَراً حين وَدَّعَها زِيادُ |
فقال الفرزدق:
أَمِسْكِين، أَبْكى الله عَيْنَـكَ، إِنَّـمـا |
|
جَرَى في ضَلاَلٍ دَمْعُها فَتحـدَّرَا |
بَكَيْتَ امْرَأً فَظّاً غَليظاً مُبَـغَّـضـاً |
|
ككِسْرَى، عَلَى عِدَّائِهِ، أوْ كقَيْصَرَا |
أَقُولُ لَهُ، لمَّـا أَتـانـي نَـعِـيُّهُ: |
|
بِهِ لا بِظَبْيٍ بالصَّـرَائِمِ أَعْـفَـرَا |
فأجابه به مسكين فقال، وهي أبيات:
أَلا أَيُّها المَرْءُ الَّذِي لَسْتُ قائماًولا قَاعَداً في الـقَـوْم إلآَّ انبَرَى لِيَا |
|
|
فَجِئْنِي بِعَمٍّ مِثْلِ عَمِّيَ، أوْ أَبٍ |
|
كَمِثْل أَبِي، أو خَالِ صِدْقٍ كَخَالِيَا |
كَعْمرِو بْن عمرٍو، أَوْ زُرَارَةَ ذِي النَّدىأَوِ البِشْرِ، من كُلٍّ فَرَعْتُ الرَّوابِيَا |
|
|
البشر: يعني خاله من النمر بن قاسط.
وقد مدحه مسكين فقال:
شُرَيْحٌ فارسُ النُّعْمانِ عَمِّي، |
|
وخالِي البِشْرُ بِشْرُ بَنِي هِلاَلِ |
وقاتِلُ خَالِهِ بِـأَبـيهِ مِـنّـا: |
|
سَمَاعَةُ، لم يَبِعْ حَسَباً بمَـالِ |
حدثني الحكم بن محمد، قال: كان تميم بن زيد، رجلاً من قضاعة، من بلقين، فكان على الهند، وفي جيشه رجل يقال له: خنيس أو حبيش، طالت غيبته على أهله، فأتت أمه قبر غالب بكاظمة، فأقامت عليه حتى علم الفرزدق مكانها. ثم أتته فطلبت إليه، فكتب إلى تميم بن زيد:
فَهَبْ لِي حُبيْشاً، وَاتَّخِذْ فيهِ مِنَّةً |
|
لِغُصَّةِ أُمّ ما يَسُوغُ شَرَابُهـا |
أَتَتْني فَعاذَتْ، يا تَمِيمُ، بِغلِـبٍ |
|
وبالحُفْرَةِ السَّافِي عَلَيْهِ تُرَابُها |
تَميِمَ بن زَيْد، لا تكُونَنَّ حَاجَتيِ |
|
بظَهْرٍ، فلاَيَخْفَى عَلَيْك جَوَابُها |
فلما أتاه كتابه لم يدر: أخنيس أم حبيش، وفي جيشه عدة: خنيس وحبيش، فأطلقهم جميعاً له.
أبو يحيى الضبي قال: ضرب مكاتب لبني منقر قبة على قبر غالب، فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا على قبر غالب بناء، ثم قدم عليه وهو بالمربد فقال :
بقَبْرِ ابنِ لَيْلَى عُذْتُ بَعْدَمَاخَشِيتُ الرَّدَى، أَوْ أَنْ أُرَدَّ عَلَى قَسْرِ |
|
|
فأَخْبرَني قَبْرُ ابنِ لَيْلَى فَقالَ لِي: |
|
فِكاكُكَ أَنْ تَلْقَى الفَرَزدقَ بالمِـصْـــر |
فقال الفرزدق: صدق أبي، أنخ أنخ. ثم طاف له في الناس، فجمع له مكاتبته وفضلا .
وكان ذو الأهدام - وهو نفيع، أحد بني جعفر بن كلاب - توثب على الفرزدق فهجاه، فجاءت أمه إلى قبر غالب فعاذت به، فقال الفرزدق:
نُبِّئْتُ ذَا الأَهْـدَامِ يَعْـوِي، ودُونَـهُ |
|
مِنَ الشَّام زَرَّاعاتُها وقُصُـورُهـا |
عَلَى حِينِ لم أتْرُكْ مِنَ الأَرْضِ حَيَّةً |
|
ولاَ نابِحاً إلاّ اسْتَسَرَّ عَـقُـورُهَـا |
كِلاَبٌ نبَحْنَ اللَّيْثَ منْ كلِّ جانـبٍ |
|
فعادَ عُـوَاءٍ نَـبـحٍ هَـريُرهَـا |
عَجُوزٌ تُصَلِّي الخَمْسَ عَاذَتْ بغَالبٍ |
|
فَلاَ وَالّذِي عَاذَتْ بهِ لا أضِيرُهَـا |
لَئِنْ نافِـعٌ لـم يَرْعَ أرْحَـامَ أُمِّـه |
|
وكانتْ كدَلْـوٍ لا يَزالُ يُعِـيرُهَـا |
لَبِئْسَ دَمُ المَوْلُود مَـسَّ ثِـيَابَـهـا |
|
عَشِيَّةَ نَادَي بِالغُلاَمِ بَـشـيرُهَـا |
وإِنِّي عَلَى إِشْفَاقِها من مَخافتـي، |
|
وَإنْ عَقَّها بِي نَافِعٌ، لمُجـيرُهَـا |
وَلَو أنَّ أُمَّ النَّاسِ حَوَّاءَ حَـارَبـتْ |
|
تَميمَ بن مُرٍ، لم تَجِدْ من يُجِيرُهَـا |
ويقال: إن هذا البيت ليس فيها.
قال: قدم الفرزدق من اليمامة، ودليله رجل من بلعنبر، فضل به، فقال:
وما نَحنُ، جَارتْ صُدُروُ رِكابِـنـا، |
|
بأَوَّلِ مَـنْ غَـرّتْ دِلالةُ عـاصِـم |
أرادَ طَرِيقَ العُنْصَليْنِ، فَـياسَـرَتْ |
|
بهِ العِيسُ في وَادِي الصُّوَى المُتَشَائِمِ |
وكيفَ يَضِلُّ العَنْـبَـرِيُّ بِـبَـلْـدَةٍ |
|
بها قُطِّعَتْ عَنْهُ سُيُورُ الـتَّـمـائمِ |
وجَاءَ بجُلْمُـودٍ لَـهُ مـثـلِ رَأْسِـهِ |
|
لِيَشْرَبَ ماءَ القَوْمِ بَيْنَ الـصَّـرَائمِ |
فلَمَّاتَصَافَـنَّـا الإدَاوَةَ أجْـهَـشَـتْ |
|
إلَىَّ غُضُونُ العَنْبَرِيِّ الجُـرَاضِـمِ |
فَآثَرْتُـه، لَـمَّـا رَأيْتُ الَّـذِي بِـهِ |
|
مِن الشَّرِّ أخْشَى لاَحقَاتِ المَـلاَوِمِ |
عَلَى سَاعةٍ، لَوْ أنّ في القومِ حَاتمـاً |
|
عَلَى جُودِه، ضَنَّتْ به نَفْسُ حَـاتِـم |
فأجابه عاصم:
وكَيْفَ يَضِلُّ الحَنْظَـلِـيُّ بـبَـلْـدَةٍ |
|
بهَـا وَلَـدَتْـهُ أُمُّـه غَـيرَ قـائمِ |
وزَوْرَاءَ ناءٍ ماؤُها مـن فَـلاَتِـهـا |
|
كَفَيْنا سُرَاها القَيْنْ والـقَـيْنُ نـائِمُ |
سرَينْا بهِ لَيْلَ التَّمامِ، فَـصَـبَّـحَـتْ |
|
بهِ العِيسُ مَروْىً من جِمَامِ الخَضَارِمِ |
وأنشد يونس للفرزدق حين طلق النوار:
نَدِمْتُ نَدَامةَ الكُسَعِيِّ لَمَّـا |
|
مَضَتْ مِنِّي مُطَلَّقةً نَـوَارُ |
وَكانَتْ جَنَّةً فَخَرجْتُ مِنْهَا، |
|
كآدَمَ حِينَ أخْرَجهُ الضِّرَارُ |
وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيْه عَمْـداً |
|
فأصْبَحَ مَا يُضِئُ به النَّهَارُ |
وَلَوْ ضَنَّتْ يَدَايَ بهَا ونَفْسِي |
|
لَكَان عَلىَّ لِلقَدَرِ الخِـيَارُ |
ومَا فَاَرْقتُها شِبَعاً، ولكِـنْ |
|
رأيْتُ الدَّهرَ يَأْخُذُ ما يُعارُ |
وكان خالد بن عبد الله القسري حبس الكميت بن زيد، أبا المستهل، الأسدي، فحدثني سلام أبو المنذر القاري: أن خالداً حبس الكميت بن زيد، وكان قال لخالد:
فَإنّي وتَمْدَاحِي يَزيدَ وخـالِـداً |
|
ضَلاَلاً، لَكالحادِي ولَيْسَ لَهُ إِبْلُ |
فكانت أم المستهل تدخل عليه، حتى عرف أهل السجن وبوابوه ثيابها وهيئتها. فدخلت عند غفلة منهم، فلبس ثيابها وتهيأ بهيئتها، ثم خرج، فقال:
خَرَجْتُ خُروجَ القِدْحِ قِدْحِ ابن مُقْبلِعَلَى الرَّغْمِ منْ تِلك النَّوابِح والمُشْلِى |
|
|
علَىَّ ثيابُ الغَانياتِ، وتَحْتَها |
|
عَزِيمةُ أَمْرٍ أشْبَـهَتْ سَـَّةَ النَّـصْـلِ |
ولذلك قالت القيسية لهشام، حين كلموه في أمر الفرزدق حين حبسه خالد: كلما كان في مضر ناب أو شاعر حبسه. يعنون الكميت والفرزدق.
وأخبرنا يونس، قال: لما قدم المهدي، أتاه ابن الكميت مدلاً بطول مدح الكميت بني هاشم، فقال له المهدي: أليس أبوك الذي يقول:
فالآنَ صِرْتُ إلَى أُمَيَّةَ،والأُمُورُ لها مَصَائِرْ |
اذهب فليس لك عندنا شيء.
وقال الفرزدق يعاتب قومه:
جَزَى اللهَ عَنِّي في الخُطُوب مُجَاشعاً |
|
جَزَاءَ كَرِيمٍ عَالمٍ كَـيْفَ يَصْـنَـعُ |
يُرِقُّونَ عَظْمِي ما اسْتطَعُوا، وإِنَّنـي |
|
أَشِيدُ لَهُمْ بُنْـيَانَ مَـجْـدٍ وأرْفَـعُ |
وإنِّي لَتَنْهَانِي عنِ الجَهْلِ فـيهـمُ، |
|
إِذا كِدْتُ، خَلاَّتٌ من الحِلْم أَرْبَعُ |
حَيَاءٌ، وبُقْيَا، وانتظـارٌ، وأَنَّـنِـي |
|
كريمٌ، فأُعْطِي ما أشَاءُ وَأمْنَـعُ |
فإنْ أعفُ أسْتَبْقِي ذُنُوبَ مُجاشـعٍ |
|
فإنَّ العَصَا كانَتْ لِذي الحِلْمِ تُقْرَعُ |
أخبرني أبو يحيى الضبي قال: لما هرب الفرزدق من زياد حين استعدى عليه بنو نهشل في هجائه إياهم، أتى سعيد بن العاص - وهو على المدينة أيام معاوية - فاستجاره فأجاره، وعنده الحطيئة وكعب بن جعيل التغلبي، فأنشده الفرزدق مدحته إياه التي يقول فيها: ?تَرَى الغُرَّ الجَحَاجِحَ من قُرَيْشٍ=إذَا ما الأمْرُ فِي الحَدَثَانِ عَالاَ
بَنِي عَمِّ النَّبِي، ورَهْطَ عمرٍو، |
|
وعُثْمَانَ الأُلى غَلَبُوا فَعـالاَ |
قِياماً يَنْظُرُونَ إلـى سَـعـيدٍ |
|
كأنَّهُـمُ يَرَوْنَ بـهِ هِـلاَلاَ |
فقال الحطيئة: هذا والله هو الشعر، لا ما تعلل به منذ اليوم أيها الأمير، فقال له كعب بن جعيل: فضله على نفسك ولا تفضله على غيرك. قال: بل والله أفضله على نفسي وعلى غيري. يا غلام أدركت من قبلك، وسبقت من بعدك. ثم قال له الحطيئة: يا غلام لئن بقيت لتبرزن علينا. يا غلام، أنجدت أمك؟ قال: لا، بل أبي. يريد الحطيئة: إن كانت أمك أنجدت فإني أصبتها فأشبهتني. فألفاه لقن الجواب .
فنعاه عليه الطرماح حين هجاه ، فقال:
فاَسأَلْ قُفَيْرَةَ بالمَرُّوتِ: هَلْ شَهِدَتْسَوْطَ الحُطَيْئَةِ بَيْنَ السَّجْفِ والنَّضَدِ؟ |
|
|
أمْ كان في غَالِبٍ شِعْرٌ، فيُشْبِهُهُ |
|
شِعْرُ ابْنِها، فيُقالَ: الشِّـعْرُ من صَدَدِ؟ |
جَاءَتْ به نُطْفَةً من شَـرِّ مـا اتَّـسَـقَتْ |
|
مِنْهُ، إلى شَرِّ وَادٍ شُقَّ فيَ بَـلَـدِ |
قال: وأول شعر قاله الفرزدق، أن بني فقيم خرجوا يطلبون دماً لهم في قوم، فصالحوا منه على دية، فقال حين رجعوا:
لَقَدْ آبَتْ وُفُدُ بني فُقَـيْمٍ |
|
بآلَمِ ما تَؤُوبُ به الوُفُودُ |
فشكوه إلى أبيه واستعدوه منه، فقال: هو أوغد من ذاك، ليته يقول شعراً فقال الفرزدق:
تَعذَّرْتُ من شَتْمِ العَشيرةِ مُؤْلِياً |
|
وَلا بُدَّ للمَظنونِ أَنْ يتَعَـذَّرَا |
فلما سمعه أبوه قال: أنت صاحب الأول ? وكان يرعى غنماً لأهله - يعني في صغره - فذهب الذئب منها بكبش، فقال:
تَلُومُ على أنْ صَبَّحَ الذِّئبُ ضَأْنَـهـا |
|
فألْوَى بكَبْشٍ وَهْوَ في الرِّعْيِ رَاتِعُ |
وقدْ مَرَّ حَوْلٌ بعد حـوْلٍ وأشـهُـرٌ |
|
بِعَوْصٍ عَلَيهِ، وَهْوَ ظَمْـآنُ جَـائِعُ |
فلَمَّا رَأى الإقْـدامَ حَـزْمـاً، وأنَّـه |
|
أَخُو الموْتِ مَنْ سُدَّتْ عليهِ المَطَالِعُ |
أَغارَ عَلَى خوْفٍ وصَـادَف غِـرَّةً |
|
فَلاقَى الَّتي كانتْ عَليها المَطَامِـعُ |
ومَا كُنْتُ مِضْيَاعاً، ولكنّ هِمَّـتـي |
|
سِوَى الرَّعْيِ مَفْطُوماً ومُذأَنَا يافِـعُ |
أَبيِتُ أَسُومُ النَّفْسَ كـلَّ عَـظـيمةٍ، |
|
إذَا وُطِّنَتْ للمُكْثِرِين المَـضَـاجِـعُ |
فكان ذلك أول ما علم به من شعره وكان راعي الإبل يفضله، وفي ذلك هجاه جرير.
حدثني أبو بكر محمد بن واسع، وعبد القاهر بن السري السلميان قالا: كان منا - من بني حرام بن سمال - شويعر هجا الفرزدق، فأخذناه فأتيناه به فقلنا، ها هو ذا بين يديك، فإن شئت فاضرب، وإن شئت فاحلق، لا عدوى عليك ولا قصاص، قد برئنا إليك منه. فخلى عنه وقال:
فمنْ يَكُ خائفاً لأَذَاةِ شِعْرِي |
|
فقد أَمِن الهِجَاءَ بنو حَرَامِ |
هُمُ قَادُوا سَفِهَهُمُ، وخافُـوا |
|
قَلائِدَ مثلَ أطْوَاقِ الحمامِ |
وحدثني عبد القاهر السلمي قال: مر الفرزدق بمجلس بني حرام، ومعنا عنبسة مولى عثمان بن عفان، وهو جد عبد الكريم ابن روح، فقال: ياأبا فراس، متى تذهب إلى الأخرة قال: وما حاجتك إلى ذلك يا أخي قال: أكتب معك إلى أبي قال: أنا لا أذهب إلى حيث أبوك، أبوك في النار، أكتب إليه مع دبالويه واصطفانوس . حدثني عمر بن السكن الصريمي قال: مر الفرزدق ببني ربيع، وهو على بغلة، فوقف عليهم وفيهم ابن محكان، شاعرهم، وقد كان قال: من الفرزدق؟ غضباً لبني منقر حين هجاهم الفرزدق، وكان قال:
سِوَى أنَّ أعْرافَ الكَوادِنِ مِنْـقـراً |
|
قَبِيلةُ سَوْءٍ بارَ في النَّـاسِ سُوقُهَـا |
وأعْيَبُ مَا فِي المِنْقَرِيَّةِ أنَّهـا |
|
شَدِيدٌ ببَطْـنِ الحَنْظَليِّ لُـزُوقُهَـا |
رَأَتْ قَوْمَهَا سُوداً قِصَاراً، وأَبْصَرَتْفَتىً حَنْظَلِيّاً، كاَلهِلالِ، يَرُوقُهَا |
|
|
وقال الفرزدق يهجو ربيعاً:
كأَنَّ رُبَيْعاً مِنْ عَمَايَةِ مِـنْـقَـر |
|
أَتَانٌ دَعَاهَا، فاسْتَجَابَتْ، حِمَارُهَا |
تُرَجِّي رُبَيْعٌ أنْ يَجِئَ صِغَارُهـا |
|
بخَيْرٍ، وقَدْ أعْيَى رُبَيْعاً كِبارُهَا |
فلما قال البعـيث لـجـرير: |
|
|
تُرَجِّى كُلَيبٌ أن يَجِئَ حديثُهَا |
|
بخَيْرٍ، وقَد أعْيَى كُلَيْباً قَدِيمُهَـا |
قال الفرزدق:
إذَا مَا قلْتُ قَافِيةً شَـرُوداً |
|
تَنَحَّلَهَا ابنُ حَمْرَاءِ العِجَانِ |
فقال عمر بن سكن في حديثه: فقال له بنو ربيع: مرحباً بسيدنا وشاعرنا قال: أير البغل في حرم سيدكم ?! يعني ابن محكان.
حدثني أبو الغراف قال: أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي، فثقل عليه الكثير، وخشيه في القليل، وعنده عمرو بن عفري الضبي، راوية الفرزدق، وقد كان جرير هجاه لروايته للفرزدق، فقال:
وَنُبِّئْتُ جَـوَّابـاً وسَـكْـنـاً يَسُـبُّـنِـي |
|
وعَمْرَو بن عِفْرَى، لا سَلاَمٌ على عَمْرٍو |
فقال عمرو بن عفري لعبد الله بن مسلم، وهو الذي يلقب الفقير: لا يهولنك أمره، أنا أرضيه عنك! بدون ما كان هم له به، فأعطاه ثلاث مئة درهم، فقبلها ورضي. ثم بلغه صنيع ابن عفري فقال:
تَفَوَّقْتَ مالَ الباهِلـيِّ، كـأنّـمـا |
|
تَهِرُّ عَلَى المَالِ الَّذي أنْتَ كاسِبُـهْ |
فَلو كُنْتَ ضَبِّيّاً صَفَحْتُ، ولو سرَتْ |
|
عَلَى قَدَمِي حَيّاتُهُ وعـقَـارِبُـهْ |
وَلـكـنْ دِيَافـيٌّ أَبُـوهُ وَأُمُّــهُ |
|
بحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقارِبُـهْ |
فقال له ابن عفري - وأتاه في نادي قومه -: أجهد جهدك، فهل هو إلا هذا؟ فو الله لا أدع لك مساءة إلا أتيتها، ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته، ولا تنهى عن شيء إلا ركبته. فقال: إنك لا تدوم! إنك ترجع! فأكد عليه فقال: فاشهدوا أني أنهاه أن يفعل بأمه كذا وكذا.
حدثني شعيب بن صخر قال: تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي، من بلعدوية، مولاة لهم، فدعا الناس في وليمته، فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألفى الفرزدق عنده، فقال: يا أبا فراس، انهض فقال: إنه لم يدعني! فقال: إن ذبيان يؤتى وإن لم يدع. ثم قال: لا تخرج من عنده إلا بجائزة. فقام معه، فلما دخل على ذبيان قال:
كَم قال لِي ابنُ أبِي شَيْخٍ وقلتُ لَه: |
|
كيفَ السَّبيلُ إلى مَعْرُوفِ ذُبيْانِ؟ |
إِنّ القَلُوصَ إذا أَلْقَتْ جَـآجِـئَهـا |
|
بِمِثْل بابِكَ لم تَرْحَلْ بِحِـرمْـانِ |
قال: أجل يا أبا فراس، فادخل! فدخل فأعطاه ثلاث مئة درهم.
وحدثني أبو بكر المدني قال: قدم الفرزدق المدينة، فوافق بها موت طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري، وكان سيداً سخياً شريفاً، فقال: يا أهل المدينة، أنتم أذل قوم! قالوا: وما ذاك يا أبا فراس؟ قال: غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه من بينكم.
قال: وأتى مكة، فأتى عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، وهو سيد أهل مكة يومئذ، وليس عنده نقد حاضر، وهو يتوقع عطيته وعطية ولده. فقال: والله يا أبا فراس، ما وافقت عندنا نقداً، ولكن عروضاً إن شئت، فإن عندنا وصفاء فرهة، فإن شئت أخذتهم. قال: نعم فأرسل إليه بوصفاء من بنيه وبني أخيه، وقال: هم لك عندنا إلى أن تشخص. وجاءه العطاء فأخبره الخبر، وفداهم. فقال الفرزدق، ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان سيداً، يطوف بالبيت يتبختر:
تَمْشِي تَبَخْتَرُ حَوْلَ البَيْتِ مُنْتَحِياًلَوْ كُنْتَ عَمْرَو بنَ عبدِ الله لم تَزِدِ |
وتزوج الفرزدق النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي، فادعت عليه طلاقاً ، ونازعته........ حتى قدمت على ابن الزبير في خلافته، وأتبعها، واتهم رجلاً من قومه يعينونها، فقال الفرزدق:
أطَاعَت بَنِي أُمِّ النُّسَيْرِ، فأصْبَحَتْ |
|
عَلَى قَتَبٍ يَعْلُو الفَلاَةَ دَلِيلُـهـا |
تَأَمَّلْ أمِيرَ المُؤْمِنينَ، فَـإِنَّـهـا |
|
مُوَلِّهةٌ يُوهِي الحِجَارَةَ قِيلُـهـا |
فلجأت إلى أم هاشم بنت منظور بن زبان الفزاري،امرأة ابن الزبير، ولجأ الفرزدق إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير، وأمه تماضر بنت منظور، فكان حمزة إذا أصلح شيئاً من أمر الفرزدق، قلبت أم هاشم رأي عبد الله إلى النوار، فقال الفرزدق:
أَمَّا البَـنُـونَ فلمْ تُـقْبَلْ شَهَادتُهُـمْ، |
|
وشُفِّـعَـتْ بنتُ مَنْـظورِ بنِ زَبَّـانَـا |
لَيْسَ الشَّفِيعُ الذِي يَأتِيكَ مُنَّزراًمِثْلَ الشَّفِيعِ الَّذِي يأتِيكَ عُرْيَانَا |
|
|
أخبرني إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، عن أبيه قال، قال له ابن الزبير: ما حاجتك بها وقد كرهتك! كن لها أكره، وخل سبيلها، فخرج وهو يقول: ما أمرني بطلاقها إلا ليثب عليها! فبلغ ذلك ابن الزبير، فخرج وقد استهل هلال ذي الحجة، ولبس ثياب الإحرام يريد البيت ليحرم، فألفى الفرزدق بباب المسجد عند الباعة، فأخذ بعنقه فغمزها، حتى جعل رأسه بين ركبتيه فقال:
أَلاَ أَصْبحَتْ عِرْسُ الفَرَزْدقِ نَاشِزاًولَوْ رَضِيتْ رُمْحَ اسْتِهِ لاَسْتَقَرَّتِ |
والبيت لجعفر بن الزبير، فيما ذكر عبد الله بن مصعب.
وكان الفرزدق إذا أصاب دراهم أتى بها النوار، فتحرز بعضها وتعطيه يعضها، وكانت مسلمة تأله، فكانت تزعم أنه طلقها، ويجحدها، فاحتاج يوماً فقالت: أعطيك كذا وكذا درهماً على أن تشهد على طلاقي الحسن قال: نعم. فاعطته. فقال: أيها الشيخ، إني قد طلقت النوار. قال: قد سمعنا ما قلت. فلما حضرها الموت أوصته، وهو ابن عمها، أن يصلي عليها الحسن، فأخبره فقال: إذا فرغتم فأعلموني.وأخرجت، وجاء الحسن فسبقهم الناس، فانتظروهما، فأقبلا والناس ينظرون، قد استبطؤوهم. فقال الحسن: ما للناس؟ فقال الفرزدق: يرون خير الناس وشر الناس! قال: لست بخير الناس ولست بشرهم! وقال له الحسن، وهو على قبرها: ما أعددت لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله مذ سبعون سنة.
حدثني عامر بن أبي عامر - وهو صالح بن رستم الخراز - قال: أخبرني أبو بكر الهذلي، قال: إنا لجلوس عند الحسن، إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى جلس إلى حنبه، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد! الرجل يقول في كلامه: لا والله، بلى والله! ولا يريد اليمين! فقال الفرزدق: أو ما سمعت ما قلت في ذلك؟ فقال الحسن: ما كل ما قلت سمعوا!، وما قلت؟ قال: قلت:
ولَسْتَ بمأخُوذِ بشَيءٍ تَقُولْهُ |
|
إذَا لم تَعَمَّدْ عَافِداتِ العزائِمِ |
قال: ثم لم يلبث أن جاء رجل آخر فقال: يا أبا سعيد! إنا نكون في هذي المغازي، فنصيب المرأة لها زوج، أفيحل غشيانها ولم يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: أو ما سمعت ما قلت في ذلك؟ قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا! فما قلت في ذلك؟ قال: قلت:
وذَاتِ حَليلٍ أَنْكَحتْنَا رِمَاحُنا، |
|
حَلاَلاً لِمَنْ يَبْنِي بِها لم تُطَلَّقِ |
أخبرني محمد بن جعفر الزيبقي قال: أتى الفرزدق الحسن فقال: إني قد هجوت إبليس فاسمع. قال لا حاجة لنا فيما تقول. قال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس: الحسن ينهي عن هجاء إبليس. فقال الحسن: اسكت، فإنك عن لسانه تنطق.
وقال رجل لابن سيرين: وهو قائم مستقبل القبلة يريد أن يكبر: أتوضأ من الشعر؟ فانصرف بوجهه فقال:
أَلاَ أَصْبحَتْ عِرْسُ الفَرَزْدقِ نَاشِزاًولَوْ رَضِيتْ رُمْحَ اسْتِهِ لاَسْتَقَرَّتِ |
ثم توجه إلى القبلة وكبر.
أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز الماجشوني، عن يحيى ابن زيد قال: دخل رجل على الحسن فسمعه يقول: والله الذي لا إله إلا هو لتموتن، والله الذي لا إله إلا هو لتبعثن. ثم قال: والله الذي لا إله إلا هو لتحاسبن. قال: فقلت: هذا حلاف! فخرجت من عنده، فأتيت ابن سيرين، فإذا عنده جرير ينشده ويحدثه، هذا صاحب باطل! فتركتهما، فندمت. حدثني شعيب بن صخر، عن محمد بن زياد- وكان في ديماس الحجاج زماناً، حتى أطلقه سليمان حين قام - قال: انتهيت إلى الفرزدق، وهو ينشد بمكة بالردم مديح سليمان بن عبد الملك، وهو يقول:
وَكَمْ أطلقَـتْ كَفَّاكَ من قَيْدِ بائسٍ، |
|
ومِنْ عُقْدَةٍ ما كان يُرْجَى انْحِلالُهَــا |
كَثِيراً مِنَ الأَيْدِي الَّتي قدْ تَكَنَّعَتْوفَكَّكْتَ أعْنَاقاَ عَلَيْها غِلاَلُهَا |
|
|
فقلت: أنا والله أحَدُهم! قال: فأخَذَ بيدي وقال: أيّها الناس! سلوه، فو الله ما كذبت قط.
وسمعت الحارث بن محمد بن زياد، قال: كتب يزيد بن المهلب حين فتح جرجان، إلى أخيه مدركة أو مروان: احمل الفرزدق ليقول في آثارنا، فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا. قال: أحسبه قال: عشرة آلاف درهم، فقال الفرزدق: ادفعها إلي. قال: اشخص وأدفعها إلى أهلك. فأبى، وخرج وهو يقول:
دَعَانِي إلى جُرْجَانَ والرَّيُّ دونَهُ |
|
لآِتِـيَهُ إنّـي إِذَنْ لــزَؤُورُ |
لآِتِيَ من آل المُـهَـلّـبِ ذَائِراً |
|
بأعْرَاضِهمْ والـدَّئراتُ تَـدُورُ |
سَآبَى وتأْبَى لِي تَميمٌ ورُبَّـمـا |
|
أبَيْتُ فلمْ يَقْدِرْ عـلـىَّ أمِـيرُ |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال: سمعت سلمة بن عياش قال: حبست في السجن، فإذا فيه الفرزدق - حبسه مالك بن المنذر بن الجارود - فكان يريد أن يقول البيت، فيقول صدره فأسبقه إلى القافية، ويجيء بالقافية فأسبقه إلى الصدر. قال لي: ممن أنت؟ قلت: من قريش. قال: كل أير حمار من قريش! من أيهم أنت؟ قلت: أفلا أخبرك بأذل منهم وألأم؟ قال: بلى! قلت: بنو مجاشع. قال: ويلك! ولم؟ قلت: أنت شاعرهم وسيدهم وابن سيدهم، جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن، لم يمنعوك! قال: قاتلك الله! أنا أبو خليفة نا ابن سلام قال: فأنشدني يونس النحوي وعبد القاهر السلمي للفرزدق، حين عزل يزيد مسلمة عن العراق، بعد قتله يزيد بن المهلب، واستعمل عمر بن هبيرة:
وَلَّتْ بمَسْلَمَةَ الرَّكـابُ مُـوَدَّعـاً |
|
فَارْعَىْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ المَـرْتَـعُ |
فَسَدَ الزَّمَانُ وبُـدِّلَـتْ أعْـلامُـهُ |
|
حتَّى أُمَيَّةُ عـن فَـزَارَةَ تَـنْـزِعُ |
ولَقَدْ علِمْـتُ إِذَا فَـزَارَةُ أُمِّـرَتْ |
|
أَنْ سَوْفَ تَطْمَعُ في الإمارةِ أشْجَعُ |
ولَخَلْقُ رَبِّكَ مَا هُمُ ولَمِـثْـلُـهُـمْ |
|
في مِثْلِ ما نالَتْ فَزَارةُ تَطْـمَـعُ |
تُزِعَ ابنُ بِشْرٍ وابنُ عمْرٍو قبـلـهُ |
|
وأخُو هَرَاةَ لِمِثْـلـهـا يتَـوَقَّـعُ |
ابن بشر: عبد الملك بن بشر بن مروان، كان مسلمة أمره على
البصرة. وابن عمرو: سعيد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان على
خراسان. وأخو هراة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص .
وقال إسماعيل بن عمار الأسدي، حين عزل ابن هبيرة وأمر خالد القسري:
عَجِبَ الفرزْدَقُ من فَزَارةَ أنْ رَأى |
|
عَنْها أُمَيَّةُ في المَشَارِقِ تَـنْـزِعُ |
فلقد رَأَى عَجَباً وأُحْـدِثَ بَـعْـدهُ |
|
أَمْرٌ تَطِيرُ لَه القُلُـوبُ وتَـفْـزَعُ |
بَكَتِ المَنَابِرُ من فَزَارةَ شَجْـوَهـا |
|
فاليَوْمَ من قَسْرٍ تَضِجُّ وتَـجْـزَعُ |
وبنُو أُمَيَّةَ أَضْرَعُونَـا لـلـعِـدَى |
|
لِلهِ دَرُّ مُلُوكِنا! مـا تَـصْـنَـعُ؟ |
كانُوا كتَاركةٍ بَـيِنَـهـا جَـانـبـاً |
|
سَفَهاً وغيْرَهُمُ تَصُونُ وتُـرْضِـعُ |
وقال قوم إن هذا البيت للفرزدق، ومن أنشده له قال:
ومُلُوكُ خِنْدِفَ أضْرَعُونَا للعِدَى |
ويروى للفرزدق في ابن هبيرة:
أَأَمِيرَ المُؤْمِنينَ! وأَنْتَ عَفٌّ |
|
كَريمٌ لَسْتَ بالطَّبِعِ الحَرِصِ |
أَوَلَّيْتَ العِـراقَ ورَافِـدَيْه |
|
فَزَارِيّاً أحذَّ يَدِ القَمِـيصِ؟! |
تَفنَّقَ بِالِعرَاقِ أَبُو المُثَـنَّـى |
|
وعَلَّم أَهْلَهُ أَكْلَ الخَبـيصِ |
وَلَمْ يَكُ قَبْلَها رَاعِي مَخَاضٍ |
|
لِيَأمَنَهُ على وَرِكَىْ قَلُوصِ |
وأنشدني له يونس:
جهز فإنك ممتاز ومبتـعـث |
|
إلى فزارة عيراً تحمل الكمرا |
إن الفزاري لو يعمى فأطـعـمـه |
|
أير الحمار طبيب أبرأ البـصـرا |
إن الفزاري لا يشفـيه مـن قـرم |
|
أطايب العيرحتى ينهش الـذكـرا |
لما أتوه بما في الـقـدر أنـكـره |
|
واسترجع الضيف لما أبصر الكمرا |
يقول لما رأى مـا فـي إنـائهـم: |
|
لله ضيف الفزاريين ما انتـظـرا |
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري والياً على ابن هبيرة حبسه في السجن، فنقب له سرب فخرج منه، فهرب إلى الشام، فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه:
لما رأيت الأرض قد سد ظـهـرهـا |
|
ولم تر إلا بطنهـا لـك مـخـرجـاً |
دعوت الذي نـاداه يونـس بـعـدمـا |
|
ثوى في ثلاث مظلمات فـفـرجـا |
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة |
|
وما سار سار مثلهـا حـين أدلـجـا |
خرجت ولم يمنن عـلـيك شـفـاعة |
|
سوى ربذ التقريب من آل أعـوجـا |
أغر من اللحق اللهـامـيم إذ جـرى |
|
جرى بك محبوك القرا غير أفحجـا |
جرى بك عريان الحـمـاتـين لـيلة |
|
به عنك أرخى الله ما كان أشـرجـا |
وما احتال محتال كحـيلـتـه الـتـي |
|
بها نفسه تحت الـصـريمة أولـجـا |
وظلماء تحت الأرض قد خضت هولها |
|
وليل كلون الطيلـسـانـي أدعـجـا |
هما ظلمتـا لـيل وأرض تـلاقـتـا |
|
على جامع من همه، ما تـعـرجـا |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني جابر بن جندل قال، قيل لابن هبيرة: من سيد أهل العراق؟ قال: الفرزدق، هجاني ملكاً ومدحني سوقة.
وقال لخالد بن عبد الله حين قدم العراق أمير لهشام:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية |
|
أتتنا تخطي من دمشق بخالد |
كيف يؤم الناس من كانت أمه |
|
تدين بأن الله ليس بـواحـد |
بني بيعة فيها الصليب لأمـه |
|
وهدم من كفر منار المساجد |
وقال أيضاً:
نزلت بجيلة واسطاً فتمكـنـت |
|
ونفت فزارة عن قرار المنزل |
وقال:
لعمري لئن كانت بجيلة زانها |
|
جرير لقد أخزى بجيلة خالد |
فلما قدم العراق أميراً، أمر على شرطة البصرة مالك ابن المنذر بن الجارود، فكتب إليه خالد: أن أحبس الفرزدق، فإنه هجا أمير المؤمنين بأبيات، قالها الفرزدق حين حفر خالد النهر الذي سماه المبارك:
أهلكت مال الله في غير حـقـه |
|
على نهرك المشؤوم غير المبارك |
وتضرب أقواماً براء ظهـورهـم |
|
وتترك حق الله في ظهر مالـك |
أإنفاقمال الله في غـير كـنـهـه |
|
ومنعاً لحق المرملات الضـرائك |
وكان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعى على مالك فرية، فأبطلها خالد.
أنا أبو خليفة، نا محمد بن سلام، قال حدثني أبو يحيى، قال: قال الفرزدق لابنه لبطة وهو محبوس: اشخص إلى هشام. ومدحه بقصيدة. وقال لابنه: استعن بالقيسية ولا يمنعك منهم هجائي لهم، فإنهم سيغضبون لك. وقال:
بكت عين محزون ففاض سجامها |
|
وطالت ليالي حادث لا ينامـهـا |
فإن نبك لا نبكي المصيبات إذ أتى |
|
بها الدهر والأيام جم خصامهـا |
ولكنما نبكي تـنـهـك خـالـد |
|
محارم منا لا يحل حـرامـهـا |
أنقتل فيكم أن قتلـنـا عـدوكـم |
|
على دينكم والحرب باد قتامهـا |
فغير أمير المؤمنـين فـإنـهـا |
|
يمانية حمقاء أنت هشـامـهـا |
قال: أنشدنيها أبو الغراف. فأعانته القيسية وقالوا: يا أمير المؤمنين! إذا ما كان في مضر ناب، أو شاعر، أو سيد، وثب عليه خالد فحبسه! وقال الفرزدق أبياتاً كتب بها سعيد بن الوليد الأبرش الكلبي وكلم له هشاماً:
إلى الأبرش الكلبي أسندت حاجة |
|
تواكلهـا حـياً تـمـيم ووائل |
على حين أن زلت بي النعل زلة |
|
فأخلف ظني كل حاف وناعـل |
فدونكم با أبن الولـيد فـإنـهـا |
|
مفضلة أصحابها في المحافـل |
ودونكها يا ابن الوليد فقم بـهـا |
|
قيام امرئ في قومه غير خامل |
فكلم له هشاماً فأمر بتخليته.
فقال يمدح الأبرش:
لقد وثب الكلبـي وثـبة حـازم |
|
إلى خير خلق الله نفساً وعنصرا |
إلى خير أبناء الخليفة لم يجـد |
|
لحاجته من دونها مـتـأخـراً |
أبي حلف كلب في تميم وعقدها |
|
كما سنت الآباء أن يتـغـيرا |
وكان حلف قديم بين كلب وتميم في الجاهلية، وذلك قول جرير:
تميم إلى كلب وكلـب إلـيهـم |
|
أحق وأولى من صداء وحميرا |
وقال الفرزدق:
أشـد حـبـال بـين حـيين مــرة |
|
حبال أمرت من تميم ومـن كـلـب |
وليس قضـاعـي لـدينـا بـخـائف |
|
ولو أصبحت تغلى القدور من الحرب |
وقال أيضاً:
ألم تر قيساً قيس عيلان شمـرت |
|
لنصري وحاطتني هناك قرومها |
فقد حالفت قيس على الناس كلهم |
|
تميماً فهم منها ومنها تميمـهـا |
وعادت عدوى إن قيساً لأسرتـي |
|
وقومي إذا ما الناس عد صميمها |
قال محمد بن سلام، وحدثني عبد القاهر بن السري، قال: قال عمر بن يزيد بن عمير الأسيدي - وسمعت يونس يقول: ما كان بالبصرة مولد مثله - قال: دخلت على هشام بن عبد الملك، وعنده خالد بن عبد الله القسري يتكلم ويذكر اليمن وطاعتها، فأكثر في ذلك، فصفقت تصفيقة دوي البهو منها. فقلت: تا الله ما رأيت كاليوم خطلاً! والله إن فتحت فتنة في الإسلام إلا باليمن! لقد قتلوا أمير المؤمنين عثمان، ولقد خرج ابن الأشعث على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإن سيوفنا تقطر من دماء بني المهلب! فلما نهضت، تبعني رجل من بني مروان حضر ذاك، فقال: يا أخا تميم! وريت بك زنادي! قد شهدت مقالتك، واعلم أن أمير المؤمنين موليه العراق، وإنها ليست لك بدار.
فلما ولى خالد استعمل على أحداث البصرة مالك بن المنذر، فكان لعمر مكرماً، ولحوائجه قضاء، إلى أن وجد عليه. وكان عمر لا يملك لسانه، فخرج من عنده وقد سأله حاجة فقضاها، فقال: كيف رأيت الفساء! سخرنا به منذ اليوم! وقال قائلون: إن خالداً كتب إليه فيه، فأخذه. وشهد عليه ناس من بني تميم وغيرهم، فضربه مالك حتى قتله تحت السياط.
وكان عمرو بن مسلم الباهلي أعان عليه، وكانت حميدة بنت مسلم عند مالك بن المنذر. وأعان عليه بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة، وكان يخاصم هلال بن أحوز في المرغاب خصومة طويلة، وكان عمر يعين على بشير، فقال الفرزدق:
لحا الله قوماً شاركوا في دمائنـا |
|
وكنا لهم عوناً على العـثـرات |
فجاهرنا ذو الغش عمرو بن مسلم |
|
وأوقد ناراً صاحب البـكـرات |
يعني بشيراً.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، قال حدثني خلاد بن يزيد، عن سلم بن قتيبة قال: رآني بشير بن عبيد الله وأنا أخاصم بعض أهلي وأنا شاب، فقال لي: يا ابن أخي! إني أراك ثبت المروءة، فإياك والخصومات، فإنها تذهب المروءة. فرأيته بعد ذلك يخاصم هلال ابن أحوز في المرغاب خصومة طويلة، فقلت له: أتذكر شيئاً قلته؟ قال: نعم! قلت: فما بالك تخاصم؟ قال: يا ابن أخي! إني أخاصم في عدل الخلافة، وأنت تخاصم في ضحضاح لا يواري أخمصك! وكانت عاتكة بنت الفرات بن معاوية البكائي، وأمها الملاءة بنت أوفى الحرشي، أخت زرارة، عند عمر بن يزيد، فخرجت إلى هشام، وأعانتها القيسة على مالك، فحمل مالك.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، فحدثني محمد بن الحارث قال: قال له هشام: يا ابن اللخناء! قتلت سيدك! قال: أما إن أمي التي تلخن حملت أباك على ركائبه إلى الشام - يعني مروان، وكان لجأ أيام الجمل إلى المسامعة جريحاً، فداووه ثم حملوه. وأم مالك: بحرية بنت مالك بن مسمع - فألقي في السجن، وقد مرض وبه بطن، فمات في مرضه، فقال الفرزدق:
ستعلم عبد القيس إن ما زال ملكها |
|
على أي حال يستمر مـريرهـا |
فأجابه النميري بقصيدة يقول فيها:
وكان كعنز حين قامت لحتفهـا |
|
إلى مدية مدفونة تستشـيرهـا |
وكان يجير الناس من سيف مالك |
|
فأصبح يبغي نفسه من يجيرها |
وقال الفرزدق:
تصرم مني ود بكر بن وائل |
|
وما كان مني ودهم يتصرم |
قوارص تأتيني ويحتقرونها |
|
وقد يملأالقطر الإناء فيفعم |
فأجابه أبو العطاف:
لعمري لئن كان الفرزدق عاتباً |
|
وأحدث صرماً للفرزدق أظلم |
لقد وسطتك الدار بكر بـن وائل |
|
وضمتك للأحشاء إذ أنت محرم |
ليالي تمني أن تكون حـمـامة |
|
بمكة يؤويك الستار المـحـرم |
فإن تنأ عنا لا تضرنا وإن تعـد |
|
تجدنا على العهد الذي كنت تعلم |
يعني حين هرب الفرزدق من زياد.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، قال، وحدثني أبو العطاف قال: لقي الفرزدق شاب من أهل البصرة فقال: يا أبا فراس، أسألك عن مسألة؟ قال: سل. قال: أيهما أحب إليك، تسبق الخير أو يسبقك؟ قال: يا ابن أخي، لم تأل أن شددت، وأحببت أن لا تجعل لي مخرجاً، أفتجيبني أنت إن أجبتك؟ قال: نعم! قال: فاحلف. فغلط عليه، ثم قال: نكون معاً لا يسبقني ولا أسبقه، أسألك الآن؟ قال: نعم! قال: فأيما أحب إليك، أن ترجع الآن إلى منزلك فتجد امرأتك قابضة بكذا وكذا من رجل، أو تجد رجلاً قابضاً بكذا وكذا منها؟ وكان أبو العطاف شاعراً شتاماً، وهو القائل لعمروابن هداب:
سموت إلى العلى وقصرت عنها |
|
فما بيني وبينك مـن عـتـاب |
قال ابن سلام، وأنشدني يونس للفرزدق:
من يأت عماراً ويشرب شربة |
|
يدع الصيام ولا تصلي الأربع |
كان الفرزدق أكثرهم بيتاً مقلداً. و"المقلد": البيت المستغني بنفسه، المشهور الذي يضرب به المثل. فمن ذلك قوله.
فيا عجباً حتى كليب تسبنـي |
|
كأن أباها نهشل أو مجاشع |
وكنا إذا الجبار صعر خـده |
|
ضربناه حتى تستقيم الأخادع |
وقوله:
ليس الكرام بما نحيك أباهم |
|
حتى ترد إلى عطية تعتل |
وقوله:
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً |
|
بصاحبه يوماً أحال على الـدم |
وقوله:
ترجى ربيع أن يجئ صغارها |
|
بخير وقد أعيى ربيعاً كبارها |
وقوله:
أكلت دوابرها الإكام فمشيها |
|
مما وجين كمشية الأطفال |
وقوله:
قوارص تأتيني وتحتقرونها |
|
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم |
وقوله:
أحلامنا تزن الجبال رزانة |
|
وتخالنا جنا إذا ما نجهـل |
وقوله:
فإن تنج منها من ذي عظيمة |
|
وإلا فإني لا إخالك ناجـياً |
وقوله:
وإنك إذ تسعى لتدرك دارمـاً |
|
لأنت المعني يا جرير المكلف |
وقوله:
ولو خير السيدي بـين غـواية |
|
ورشد أتى السيدي ما كان غاوياً |
وقوله:
ترى كل مظلوم إلينا فراره |
|
ويهرب منا جهده كل ظالم |
وقوله:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا |
|
وإن نحن أو مأنا إلى الناس وقفوا |
وقوله:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به |
|
نبا بيدي ورقاء عز رأس خالد |
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا |
|
ويقطعن أحياناً مناط الـقـلائد |
وقوله:
أقول له، لما أتاني نـعـيه |
|
به لا بظبي بالصرائم أعفرا |
وكان يداخل الكلام، وكان ذلك يعجب أصحاب النحو. من ذلك قوله يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك:
وأصبح ما في الناس إلا مملكاً |
|
أبو أمه حي أبوه يقـاربـه |
وقوله:
تالله قد سفهت أمـية رأيهـا |
|
فاستجهلت سفهاؤها حلماؤها |
وقوله:
ألستم عائجين بنـا لـعـنـا |
|
نرى العرصات أو أثر الخيام |
فقالوا إن فعلت فأغن عـنـا |
|
دموعاً غير راقئة السـجـام |
وقوله:
فهل أنت إن فاتت أتانك راحـل |
|
إلى آل بسطام بن قيس فخاطب |
وقوله:
فنل مثلها من مثلهم ثم دلهـم |
|
على دارمي بين ليلى وغالب |
وقوله:
تعال فإن عاهدتني لا تخوننـي |
|
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان |
وقوله:
إنا وإياك إن بلغن أرحـلـنـا |
|
كمن بواديه بعد المحل ممطور |
وقوله:
بني الفاروق أمك وابن أروى |
|
به عثمان مروان المصابـا |
وقوله:
إلى ملك ما أمه من محارب |
|
أبوه ولا كانت كليب تصاهره |
وقوله:
إليك أمير المؤمنين رمـت بـنـا |
|
هموم المنى والهوجل المتعسف |
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع |
|
من المال إلا مسحتاً أو مجلـف |
وقوله:
ولقد دنت لك بالتخلب إذ دنت |
|
منها بلا بخل ولا مـبـذول |
وكأن لون رضاب فيها إذ بدا |
|
برد بفرع بشامة مصقـول |
وقوله فيها لمالك بن المنذر:
إن ابن جباري ربيعة مالكاً |
|
لله سيف صنيعة مسلـول |
ما زال من آل المعلي قبله |
|
سيف لكل خليفة ورسول |
وقوله:
والشيب ينهض في الشباب كأنه |
|
ليل يصيح بجانـبـيه نـهـار |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني أبي قال، قال لهما - أعني الفرزدق وجريراً - بعض الخلفاء: حتى متى لا تنزعان؟ فقال جرير: يا أمير المؤمنين، إنه والله يظلمني! قال: صدق! أنا أظلمه، ووجدت أبي يظلم أباه.
قال: وحدثني أبو الغراف قال: دخل الفرزدق على بلال فقال له: أحججت يا أبا فراس؟ قال: نعم. قال: فما رأيت؟ قال رأيت شيخاً يطوف بالبيت آخذة امرأته بحجزته، خلفها ولدان لها وهو يقول:
انت وهبت زائداً ومزيداً |
|
وكهلة أولج فيها الأجردا |
وهي تقول: إذا شئت! إذا شئت! فقلت له: ممن أنت يا شيخ؟ قال: أشعري. قال: كذبت! والله ما رأيت هذا، ولكن ائتفكتها من حينك.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني يونس قال: قدم الأحوص الشاعر فنزل على عمرو بن عبيد الأنصاري، فمر به الفرزدق فقال له: متى عهدك بالزنا يا أبا فراس؟ قال: مذ ماتت العجوز.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني أبو يحيى الضبي قال: بينما الفرزدق يسير، إذ مر برهط من بني كليب، فأخذوه فجاؤوه بأتان فقالوا له: إنك تعيرنا بالأتن، فوالله لا تريم حتى تنزو عليها. قال: دعوني لا أبا لكم! فأبوا عليه، قال: فهاتوا الصخرة التي كان يقوم عليها عطية! وقال الفرزدق حين صار إلى الحجاز ولجأ إلى سعيد:
نمتك العرانين الطوال ولا أرى |
|
لفعلك إلا حـامـداً غـير لائم |
فإلا تداركني من اللـه نـعـمة |
|
ومن آل حرب ألق طير الأشائم |
أخبرني أبو خليفة قال، حدثنا محمد بن سلام قال، قال الفرزدق وهو بالمدينة:
هما دلتاني مـن ثـمـانـين قـامة |
|
كما اقض باز أقتم الريش كـاسـرة |
فلما استوى رجلاي في الأرض قالتا |
|
أحي يرجـى أم قـتـيل نـحـاذره |
فقلت ارفعوا الأسباب لا يفطنوا بنـا |
|
ووليت في أعـجـاز لـيل أبـادره |
أبـادر بـوابـين قـد وكـلا بـنـا |
|
وأحمر من ساج تبص مـسـامـره |
وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت |
|
مغلقة دوني عـلـيهـا دسـاً كـره |
قال: فأنكرت ذلك قريش عليه، وأزعجه مروان عن المدينة، وهو واليها لمعاوية، وأجله ثلاثاً فقال:
يا مرو إن مطيتي محـبـوسة |
|
ترجوالحباء وربهـا لـم ييأس |
وأتيتني بصحيفة مـخـتـومة |
|
أخشى على بها حباء النقرس |
ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن |
|
نكداء مثلي صحيفة المتلمـس |
وقال في ذلك:
وأخرجني وأجلني ثلاثـاً |
|
كما وعدت لمهلكها ثمود |
وذكر ذلك جرير في مناقضته إياه، فقال:
وشبهت نفسك أشقى ثمود |
|
فقالوا ضللت ولم تهتـد |
يعني تأجيل مروان له ثلاثاً. وقال فيه أيضاً جرير:
تدليت تزنى من ثمـانـين قـامة |
|
وقصرت عن باع العلى والمكارم |
وهما قصيدتان.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال: سألت بشاراً العقيلي عن الثلاثة، فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه. فقلت: فجرير والفرزدق؟ قال: كان جرير يحسن ضروباً من الشعر لا يحسنها الفرزدق.
فضل جريراً عليه.
وقال العلاء بن حريز العنبري - وكان قد أدرك الناس وسمع - قال: كان يقال:
الأخطل إذا لم يجئ سابقاً فهو سكيت. والفرزدق لا يجئ سابقاً ولا سكيتاً،
فهو بمنزلة المصلى، وجرير يجئ سابقاً وسكيتاً ومصلياً. قال ابن سلام:
وتأويل قوله، أن للأخطل خمساً أو ستاً أو سبعاً طوالاً روائع غرراً جياداً،
هو بهن سابق، وسائر شعره دون أشعارهما، فهو فيما بقي بمنزلة السكيت -
والسكيت: آخر الخيل في الرهان -. ويقال إن الفرزدق دونه في هذه الروائع،
وفوقه في بقية شعره، فهو كالمصلي أبداً. والمصلي: الذي يجئ بعد السابق،
وقبل السكيت. وجرير له روائع هو بهن سابق، وأوساط هو بهن مصل، وسفسافات هو
بهن سكيت.
قال ابن سلام: وأهل البادية والشعراء بشعر جرير أعجب.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، وأخبرني أبان بن عثمان الكوفي قال: سئل الأخطل عن جرير بالكوفة فقال: دعوا جريراً أخزاه الله، فإنه كان بلاء على من صب عليه. وذكر من قوله:
ما قاد من عرب إلى جوادهـم |
|
إلا تركت جوادهم محسـوراً |
أبقت مراكضتي الرهان مجرباً |
|
عند المواطن يرزق التيسـيرا |
أخبرنا أبو خليفة، قال ابن سلام، قال مسلمة بن محارب بن سلم بن زياد: كان الفرزدق عند أبي في مشربة له، فدخل رجل فقال: وردت اليوم المربد قصيدة لجرير تناشدها الناس. فانتقع لون الفرزدق، قال: ليست فيك يا أبا فراس! قال: ففيمن؟ قال: في ابن لجأ التيمي.قال: أفحفظت منها شيئاً؟ قال: نعم، علقت منها ببيتين. قال: ما هما؟ قال:
لئن عمرت تيم زماناً بغـرة |
|
لقد حديت تيم حداء عصبصبا |
فلا يضغمن الليث عكلاً بغرة |
|
وعكل يشمون الفريس المنيبا |
فقال الفرزدق: قاتله الله! إذا أخذ هذا المأخذ لا يقام له! أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال: أخبرني يونس قال: كان الفرزدق يتضور ويجزع إذا أنشد لجرير، وكان جرير أصبرهما.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، وأخبرني أبو البيداء الرياحي قال، قال الفرزدق: إني وإياه لنغترف من بحر واحد، وتضطرب دلاؤه عند طول النهر.
قال ابن سلام: وذاكرت مروان بن أبي حفصة جريراً والفرزدق فقال: أحكم في الثلاثة بشعر، فإن الكلام يرويه كل قوم بأهوائهم. فقال:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنمـا |
|
حلو الكلام ومـره لـجـرير |
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب |
|
وحوى اللهى بمديحه المشهور |
كل الثلاثة قد أجاد فمـدحـه |
|
وهجاؤه قد سار كل مـسـير |
وسألت الأسيدي- أخا بني سلامة - عنهما فقال: بيوت الشعر أربعة: فخر، ومديح، ونسيب، وهجاء، وفي كلها غلب جرير، في الفخر في قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم |
|
حسبت الناس كلهم غضابا |
و في المدح قوله:
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح |
وفي الهجاء قوله:
فغض الطرف إنك من نمير |
|
فلا كعباً بلغت ولا كلابـاً |
وفي النسيب قوله:
إن العيون التي في طرفها مرض |
|
قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا |
وإلى هذا يذهب اهل البادية.
قال أبو عبد الله محمد بن سلام: وبيت النسيب عندي:
فلما التقى الحيان ألقيت العصـا |
|
ومات الهوى لما أصيبت مقاتله |
قلت للأسيدي: أما والله لقد أوجعكم يعني في الهجاء! فقال: يا أحمق، أو ذاك يمنعه أن يكون شاعراً! .
أنا أبو خليفة، قال نا ابن سلام قال، قال أبو الغراف: كان الخطفي ذا إبل ومال، فلما ولد جرير لعطية كان ينحله من إبله وماله. فولد للخطفي صبية، فرجع فيما كان نحل جريراً، فقال:
ألا حي رهبي ثم حي المطالـيا |
|
لقد كان مأنوساً فأصبح خـالـيا |
عفا الرسم إلا أن تذكر أو تـرى |
|
ثماماً حوالي منصب الخيم باليا |
إذا ما أراد الحي أن يتحمـلـوا |
|
وحنت جمال الحي حنت جماليا |
وإني لمغرور أعلل بالـمـنـى |
|
غداة أرجى أن مالـك مـالـيا |
وإني لعف الفقر مشترك الغنى |
|
سريع إذا لم أرض داري انتقاليا |
وليست لسيفي في العظام بقـية |
|
وللسيف أشوى وقعة من لسانيا |
ووفد جرير بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية وهو خليفة، وجرير حدث، فأنشده:
وإني لعف الفقر مشترك الغنى |
|
سريع إذا لم أرض داري انتقاليا |
قال: كذبت، ذاك جرير. قال: فانا جرير! قال: والله لقد فارق أمير المؤمنين معاوية الدنيا وهو يرى أن هذا البيت لي. أنا أبو خليفة قال، قال ابن سلام، أخبرني أبان بن عثمان البجلي قال: تنازع رجلان في عسكر المهلب في جرير والفرزدق - وهو بإزاء الخوارج - فصارا إليه وسألاه، فقال: لا أقول فيهما شيئاً - وكره أن يعرض نفسه - ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيدة بن هلال اليشكري، وهو مولى بني قيس بن ثعلبة، وهو يومئذ في عسكر قطري. فأتياه فوقفا حيال العسكر فدعواه، وخرج يجر رمحه، وظن أنه دعى للبراز، فقالا له: الفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله! قالا: نحب أن تخبرنا ثم نصير إلى ما تريد. قال: من يقول؟:
وطوى القياد مع الطراد بطونها |
|
طي التجار بحضرموت برودا |
قالا: جرير: قال. هو أشعرهما.
انا أبو خليفة، نا محمد بن سلام قال، أخبرني أبو رجاء الكلبي قال: كان لأمامة، امرأة جرير، ابن أخ ذو إبل يقال له عضيدة، لقصر في يده، فلم تزل به امرأته حتى زوجه ابنته، فعتب عليه فقال:
وغرتنا أمامة فافتـحـلـنـا |
|
عضيدة إذ تنخلت الفحـول |
إذا ما كان فحلك فحل سـوء |
|
خلجت النسل أو لؤم الفصيل |
انا أبو خليفة، أنا ابن سلام، أخبرنا أبو الغراف قال: دخل جرير على الوليد بن عبد الملك، وهو خليفة، وعنده عدي ابن الرقاع العاملي، فقال الوليد لجرير: أتعرف هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: هذا رجل من عاملة. قال: الذين يقول الله جل ثناؤه: "عاملة ناصبة، تصلى نار حامية" (سورة الغاشية 3،4)، ثم قال:
يقصر باع العاملي عن العلى |
|
ولكن أير العاملـي طـويل |
فقال العاملي:
أأمك كانت أخبرتك بـطـولـه |
|
أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول؟ |
فقال: لا، بل لم أدر كيف أقول. فوثب العاملي إلى رجل الوليد فقبلها وقال: أجرني منه. فقال الوليد لجرير: لئن سميته لأسرجنك ولألجمنك وليركبنك، فتعيرك بذلك الشعراء. فكنى جرير عن اسمه، واسمه عدي، فقال:
إني إذا الشاعر المغرور حربنـي |
|
جار لقبر على مران مرمـوس |
قد كان أشوس أبـاء فـأورثـنـا |
|
شغباً على الناس في أبنائنا الشوس |
أقصر فإن نزاراً لا يفـاخـرهـم |
|
فرع لئيم وأصل غير مغـروس |
وابنا نزار أحلانـي بـمـنـزلة |
|
في رأس أرعن عادي القدامـيس |
وابن اللبون إذا ما لز فـي قـرن |
|
لم يستطع صولة البزل القناعيس |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني أبو يحيى الضبي قال: ورد البعيث المجاشعي على بني سليط بن يربوع، وكان ولدهم وولدوه، فشكوا إليه قهر جرير صاحبهم - يعني غسان السليطي - فقال البعيث:
إذا يسرت معزي عطية وارتعت |
|
تلاعاً من المروت أحوى جميعها |
تعرضت لي حتى صككتك صكة |
|
على الوجه يكبو لليدين أميمهـا |
أليست كليب ألأم الناس كلـهـم |
|
وأنت إذا عدت كليب لـئيمـهـا |
وكانت أم البعيت أمة حمراء سجستانية، تسمي فرتنا، فكان يقال له: ابن حمراء العجان فهجاه جرير فثاوره، فضج إلى الفرزدق، والفرزدق يومئذ بالبصرة، وقد قيد نفسه وآلى لا يفك قيده حتى يقرأ القرآن فقال البعيث:
لعمري لئن ألهى الفرزدق قـيده |
|
ودرج نوار ذو الدهان وذو الغسل |
ليبتعثن منـي عـداة مـجـاشـع |
|
بديهة لأواني الجـراء ولا وغـل |
فقال جرير:
جزعت إلى درجي نوار وغسلها |
|
فأصبحت عبداً ما تمر وما تحلى |
وعده الناس مغلوباً حين استغاث.
قال، وقال الفرزدق: إني إن وثبت على جرير الآن حققت على البعيث الغلبة!
ولكني كأني وثبت عليهما، فأدع البعيث وآخذ جريراً. فقالوا: الطبيب أطب!
فقال:
لود جرير اللؤم لو كـان عـانـياً |
|
ولم يدن من زأر السود الضراغم |
وليس ابن حمراء العجان بمفلتـي |
|
ولم يزدجر طير النحوس الأشائم! |
وإنكما قد هجتماني عـلـيكـمـا |
|
فلا تجزعا واستسمعا للمراجـم |
وقال:
دعاني ابن حمراء العجان ولم يجد |
|
له إذ دعا مستأخراً عن دعـائيا |
فنفست عن أنفيه حتى تنـفـسـا |
|
وقلت له لا تخـش شـيئاً ورائيا |
فلما استطار كل واحد منهما في صاحبه، قال البعيث:
أشاركتني في ثعلب قد أكلتـه |
|
فلم يبق إلا رأسه وأكارعـه |
فدونك خصييه وما ضمت استه |
|
فإنك رمام خبيث مراتـعـه |
قال: وسقط البعيث بينهما.
ولج الهجاء نحواً من أربعين سنة، لم يغلب واحد منهما على صاحبه. ولم يتهاج شاعران في الجاهلية ولا الإسلام بمثل ما تهاجيا به وأشعارهما أكثر من أن نأتي عليها، ولكنا نكتب منها النادر.
وقال الفرزدق لجرير:
غلبتك بالمفقئ والمعنـى |
|
وبيت المحتبى والخافقات |
" المفقئ "، قوله:
ولست ولو فقأت عينـك واجـداً |
|
أبا لك إن عد المساعي كـدارم |
هو الشيخ وابن الشيخ لا شيخ مثله |
|
أبو كل ذي بيت رفيع الـدعـائم |
و "المعنى"، قوله:
وإنك إذ تسعى لتدرك دارمـاً |
|
لأنت المعني يا جرير المكلف |
و "المحتبى" قوله:
بيتاً زرارة محتب بـفـنـائه |
|
ومجاشع وأبو الفوارس نهشل |
و "الخافقات"، قوله:
وأين تقضي المالكان أمورها |
|
بخير وأين الخافقات اللوامع |
فقال جرير:
أقين بن قين، ما يسر نسـاءنـا |
|
بذي نجب انا ادعـينـا لـدارم |
هو القين وابن القين لا قين مثله |
|
لفطح المساحي أو لجدل الأداهم |
الجدل: الفتل. والأداهم: الحبال، نا أبو خليفة: كل من كان في عمله حديد فهو قين. بذي نجب: يوم التقت بنو حنظلة وبنو عامر، إلا بني مالك بن حنظلة .
قال ابن سلام: واشترى جرير جارية من رجل من أهل اليمامة، يقال له زيد، يعرف بابن النجار، ففركته وكرهت خشونة عيشه، فقال:
تكلفـنـي مـعـيشة آل زيد |
|
ومن لي بالمرقق والصنـاب! |
وقالت لا تضـم كـضـم زيد |
|
وما ضمي وليس معي شبابي! |
فقال الفرزدق:
لئن فركتك علـجة آل زيد |
|
وأعوزك المرقق والصناب |
لقدماً كان عيش أبيك جدبـاً |
|
يعيش بما تعيش به الكلاب |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، حدثني حاجب بن يزيد وابو الغراف قالا: تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين - وهو عبد الله - بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان على حكم أبيها، فاحتكم مئة من الإبل، فدخل على الحجاج فعذله وقال: تزوجتها على حكمها وحكم أبيها مئة بعير! وهي نصرانية! وجئتنا متعرضاً أن نسوقها عنك! اخرج، مالك عندنا شيء فقال عنبسة بن سعيد، وأراد نفعه: أيها الأمير! إنما هي من حواشي إبل الصدقة! فأمر له بها الحجاج، فوثب عليه جرير فقال:
يا زيق قد كنت من شيبان في حـسـب |
|
يا زيق ويحك من أنـكـحـت يازيق |
أنكحت ويلك قينـاً بـاسـتـه حـمـم |
|
يازيق ويحك أن بارت بـك الـسـوق |
غاب المثني فلـم يشـهـد نـجـيكـم |
|
والحوفزان ولم يشـهـدك مـفـروق |
يا رب قائلة بـعـد الـبـنـاء بـهـا |
|
لا الصهر راض ولا ابن القين معشوق |
أين الألى استنزلوا النعمـان ضـاحـية |
|
أم أين أبنـاء شـيبـان الـغـرانـيق |
قال: فلم يجبه الفرزدق، فقال جرير أيضاً:
فلا أنا معطي الحكم عن شف منصب |
|
ولا عن بنات الحنظـلـيين راغـب |
وهن كماء المزن يشفي به الصـدى |
|
وكانت ملاحاً غيرهن المـشـارب |
فلو كنت حراً كان عشر سـياقـكـم |
|
إلى آل زيق والوصيف المـقـارب |
فقال الفرزدق:
فنل مثلها من مثلهم ثم لـمـهـم |
|
على دارمي بين ليلى وغـالـب |
هم زوجوا قبلي لقيطاً وأنكحـوا |
|
ضراراً وهم أكفاؤنا في المناسب |
ولو قبلوا منا عطـية سـقـتـه |
|
إلى آل زيق من وصيف مقارب |
ولو تنكح الشمس النجوم بناتـهـا |
|
إذن لنكحناهن قبل الكـواكـب |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني الزراري، عن أبيه قال: ما كانت امرأة من بني حنظلة إلا ترفع لجرير اللوية في عكمها، تطرفه، لقوله:
وهن كماء المزن يشفي به الصدى |
|
وكانت ملاحاً غيرهن المشـارب |
فقلت للزراري: ما اللوية؟ قال: الشريحة من اللحم، وهي الفدرة من التمر، والكبة من الشحم، أو الجلة من الأقط، فإذا كانت الصفرية وذهبت اللبان وضاقت المعيشة، كانت طرفة عندهم.
وقال جرير:
أثائرة حدراء من جر بـالـنـقـا |
|
وهل لأبي حدراء في الوتر طالب |
أتثأر بسطاماً إذا ابتلت اسـتـهـا |
|
وقد بولت في مسمعيه الثعـالـب |
قال ابن سلام: والنقا الذي عناه جرير، هو الموضع التي قتلت
فيه بنو ضبة بسطاماً، وهو بسطام بن قيس. قال: فكرهت بنو شيبان أن يهتك جرير
أعراضهم، فلما أراد الفرزدق نقل حدراء، اعتلوا عليه وقالوا له: إنها ماتت.
قال جرير:
فأقسمت ما ماتت ولكنما التوى |
|
بحدراء قوم لم يروك لها أهلاً |
رأوا أن صهر القين عار عليهم |
|
وأن لبسطام على غالب فضلاً |
أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام، قال، حدثني حاجب بن يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة قال: قال جرير بالكوفة:
لقد قادني من حب ماوية الـهـوى |
|
وما كنت ألقى للـجـنـيبة أقـودا |
أحب ثرى نجد وبالـغـور حـاجة |
|
فغار الهوى يا عبد قيس وأنـجـدا |
أقول له يا عـبـد قـيس صـبـابة |
|
بأي ترى مستوقـد الـنـار أوقـدا |
فقال: أراهـا أرثـت بـوقـودهـا |
|
بحيث استفاض الجزع شيحاً وغرقدا |
فأعجبت الناس وتناشدوها.
فحدثني جابر بن جندل قال: فقال لنا جرير: أعجبتكم هذه الأبيات؟ قالوا: نعم! قال: كأنكم بالقين قد قال:
أعد نظراً ياعبد قيس فـإنـمـا |
|
أضاءت لك النار الحمار المقيدا |
فلم يلبثوا أن جاءهم في قول الفرزدق هذا البيت، وبعده:
حمار بمروت السحامة قاربـت |
|
وظيفيه حول البيت حتى تـرددا |
كليبية لم يجعل الله وجـهـهـا |
|
كريماً ولم يسنح بها الطير اسعدا |
فتناشدها الناس. فقال الفرزدق: كأنكم بابن المراعة قد قال:
وما عبت من نار أضاء وقودها |
|
فراساً وبسطام بن قيس مقـيدا |
قال: فإذا هي قد جاءت لجرير، وفيها هذا البيت ومعه:
فأوقدت بالسيدان نـاراً ذلـيلة |
|
وأشهدتمن سوآت جعثن مشهدا |
قال: واجتمعنا عند سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، وأتى بأسرى من الروم، قال ابن سلام: فأخبرني ابو يحيى الضبي قال: وفي حرسه رجل من بني عبس، قد علم أن سيأمر أصحابه بضرب أعناقهم فأتى الفرزدق، وذلك لسوء أثره في قيس، فقال: إن أمير المؤمنين حري أن يأمر بضرب عنق بعض هؤلاء الأسرى، وهذا سيفي، يكفيك أن تومي به فيأتي على ضريبته. وأتاه بسيف كليل كهام، فقال له الفرزدق: ممن أنت؟ قال: من بني ضبة أخوالك. وأمره سليمان بضرب عنق بعضهم، فتناول السيف من العبسي، ثم هزه فضرب به عنقه فما حص شعرة، ولم يؤثر به أثراً. فضحك سليمان والناس. فقال: هذه ضربة سيقول فيها هذا - يعني جريراً - وتقول فيها العرب! وقال:
فإن يك سيف خان أو قدر أبي |
|
لتأخير نفس حتفها غير شاهـد |
فسيف بني عبس وقد ضربوا به |
|
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد |
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا |
|
ويقطعن أحياناً مناط الـقـلائد |
وقال جرير:
بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع |
|
ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم |
ضربت به عند الإمام فأرعـشـت |
|
يداك وقالوا محدث غـير صـارم |
وقال:
أخزيت قومك في مقام قمتـه |
|
ووجدت سيف مجاشع لا يقطع |
وقال الفرزدق:
فهل ضربة الرومي جاعلة لكم |
|
أباً عن كليب أو أباً مثل دارم |
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهـم |
|
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم |
وقال اللعين:
سأحكم بين كلب بني كليب |
|
وبين القين قين بني عقال |
فإن الكلب مطعمه خبـيث |
|
وإن القين يعمل في سفال |
وقد حسر البعيث وأقعدته |
|
لئيمات المناخر والسبـال |
ويترك جده الخطفي جرير |
|
ويندب حاجباً وبني عقال |
قال ابن سلام: وسمعت يونس يقول: فلم يلتفتا لفته، وأراد أن يذكراه فيرفعه ذلك، فقال:
فما بقيا على تركتمانـي |
|
ولكن خفتما صرد النبال |
وقال الصلتان العبدي:
ألا إنما تحظى كليب بشعـرهـا |
|
وبالمجد تحظى نهشل والأقارع |
أنا الصلتاني الذي قد عـرفـتـم |
|
متى ما يحكم فهو بالحكم صادع |
أتتني تميم حين هابت قضاتـهـا |
|
فهل أنت للفصل المبين سامـع |
قضاء امرئ لا يرهب الشتم منكم |
|
وليس له في الحكم منكم منافـع |
فما رجع الأعشى قضية عامـر |
|
وما لتميم في قضـائي راجـع |
فإن يك بحر الحنظلـيين واحـداً |
|
فما تستوي حيتانه والضـفـادع |
فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثـلـه |
|
جرير ولكن في كليب تواضـع |
ويرفع من شعر الفـرزدق أنـه |
|
ينوء بحي للخـسـيسة رافـع |
يناشدني النصر الفرزدق بعدمـا |
|
ألحت عليه من جرير صواقـع |
فلم يرض واحد منهما قوله. فقال الفرزدق: أما الشرف فقد عرفه وأما الشعر، فما للبحراني والشعر؟! وقال جرير:
أقول ولم أملك سوابـق عـبـرة |
|
متى كان حكم الله في كرب النخل |
فقال الصلتان:
أعيرتنا بالنخل أن كان ما لـنـا |
|
لود أبوك الكلب لو كان ذا نخل |
فاعترضه خليد عينين، من أهل هجر، فقال:
وأي نبي كـان فـي غـير قـرية |
|
وما الحكم يا ابن اللؤم إلا مع الرسل |
وقال جرير:
فخل الفخر با ابن أبي خليد |
|
وأد خراج رأسك كل عام |
لقد علقت يمينك رأس ثور |
|
وما علقت يمينك باللجـام |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني أبو الغراف قال: قال الحجاج لهما - وهو في قصره بحزيز البصرة - ائتيا في لباس آبائكما في الجاهلية. فجاء الفرزدق وقد لبس الديباج والخز وقعد في قبة. وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد. فلبس جرير درعاً، وتقلد سيفاً، وأخذ رمحاً، وركب فرساً لعباد بن الحصين يقال له: المنخار، وأقبل في أربعين فارساً من بني يربوع، وجاء الفرزدق في هيئته. فقال جرير:
لبست سلاحي والفرزدق لعبة |
|
عليه وشاحاً كرج وجلاجله |
اعدوا مع الخز الملاب فإنما |
|
جرير لكم بعل وأنتم حلائله |
ثم رجعا. فوقف جرير في مقبرة بني حصن، ووقف الفرزدق في المربد.
فأخبرني أبي، عن محمد بن زياد قال: كنت أختلف بينهما يومئذ، فكأن جريراً كان يومئذ أظفرهما .
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني شعيب بن صخر، عن هارون بن إبراهيم قال: رأيتهما في مسجد دمشق، والفرزدق في عصابة من خندف، والناس عنق على جرير - قيس وموالي بني أمية - وهم يسلمون عليه ويسألونه: يا أبا حزرة، كيف كنت في مسيرك؟ وذلك لمديحه قيساً وقوله في العجم:
فيجمعنا والغر أولاد سـارة |
|
أب لا نبالي بعده من تغدرا |
قال أبو خليفة، سمعت عمارة بن عقيل بن بلال يقول: وافته في
يومه مئة حلة من بني الأحرار .
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، وحدثني أبو اليقظان، نا جويرية بن أسماء قال:
قلت لنصيب، مولى عبد الملك: يا أبا محجن، من أشعر الناس؟ فقالوا أخو بني
تميم. قلت: ثم من؟ قال أنا. قال: قلت: ثم من؟ قال ابن يسار النساء. فلقيت
إسماعيل بن يسار النسائي فقلت: يا أبا فائد من أشعر الناس؟ قال: أخو بني
تميم. قلت: ثم من؟ قال: أنا. قلت: ثم من؟ قال:: نصيب. قلت: إنكما لتتقارضان
الثناء! قال: وما ذاك؟ قال قلت: سألته فقال فيك مثل ما قلت فيه! قال:
إنه والله شاعر كريم ولا أظنه |
|
إلا بدأ بابن يسار قبل نصيب . |
قال ابن سلام: ومما قال جرير من الأبيات المقلدة قوله:
وليست لسيفي في العظام بقية |
|
وللسيف أشوى وقعة من لسانيا |
وقوله:
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا |
|
ليل يكر عليهم ونـهـار |
وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً |
|
أبشر بطول سلامة يا مربـع |
وقوله:
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح |
وقوله:
لا يأمنن قوي نـقـض مـرتـه |
|
إني أرى الدهر ذا نقض وإمرار |
وقوله:
أنا البازي المطل على نمير |
|
أتيح من السماء لها انصبابا |
وقوله:
وإني لعف الفقر مشترك الغنى |
|
سريع إذا لم أرض داري انتقاليا |
وقوله:
يحالفهـم فـقـر قـديم وذلة |
|
وبئس الخليطان المذلة والفقر |
فصبراً على ذل ربيع بن مالك |
|
وكل ذليل خير عادته الصبر |
وقوله:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا |
|
بأسهم أعداء وهن صـديق |
أوانس أما من أردن عنـاءه |
|
فعان ومن أطلقن فهو طليق |
وقوله:
إن الذين غدوا بلبك غـادروا |
|
وشلاً بعينك ما يزال معينـاً |
غيضن من عبراتهن وقلن لي |
|
ماذا لقيت من الهوى ولقينـا |
وقوله:
فغض الطرف إنك من نمير |
|
فلا كعباً بلغت ولا كلابـا |
إذا غضبت عليك بنو تمـيم |
|
حسبت الناس كلهم غضابـا |
وقوله:
إن العيون التي في طرفها مرض |
|
قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا |
وقوله:
يا أهل جزرة إني قد نصبت لكم |
|
بالمنجنيق ولما يرسل الحجـر |
وقوله:
ولما التقى الحيان ألقيت العصى |
|
ومات الهوى لما أصيبت مقاتلة |
وقوله:
تريدين أن أرضى وأنـت بـخـيلة |
|
ومن ذا الذي يرضى الأخلاء بالبخل |
فإنك لا يرضى إذا كـان عـاتـبـاً |
|
خليلـك إلا بـالـمـودة والـبـذل |
وقوله:
يا تميم إن بيوتـكـم تـيمـية |
|
قعس العماد قصيرة الأطناب |
قوم إذا حضر الملوك وفودهم |
|
نتفت شواربهم على الأبواب |
وقوله:
وكنت إذا نزلت بدار قـوم |
|
ظعنت بخزية وتركت عارا |
وقوله:
أتنسى إذ تودعنا سلـيمـى |
|
بعود بشامة سقي البشـام |
بنفسي من تجنبـه عـزيز |
|
على ومن زيارته لمـام |
ومن أمسى وأصبح لا أراه |
|
ويطرقني إذا هجع النيام |
وقوله:
وابن اللبون إذا ما لز في قـرن |
|
لم يستطع صولة البزل القناعيس |
وقوله:
لو كنت حراً يا ابن قين مجاشع |
|
شيعت ضيفك فرسخين وميلا |
وقوله:
لا يستطيع امتناعاً فقع قرقرة |
|
بين الطريقين بالبيد الأماليس |
وقوله:
لا يستطيع أخو الصبابة أن يرى |
|
حجراً أصم ولا يكون حـديداً |
وقوله:
لو أن عصم عمامتين ويذبلا |
|
سمعا حديثك أنزل الأوعالا |
أخبرني أبو خليفة، قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو اليقظان، عن جويرية بن أسماء قال: قدم الفرزدق اليمامة، وعليها المهاجرين بن عبد الله الكلابي فقال: لو دخلت على هذا فأصبت منه شيئاً ولم يعلم بي جرير! فلم تستقر به الدار حتى قال جرير:
رأيتك إذ لم يغنك الله بالـغـنـى |
|
رجعت إلى قيس وخدك ضـارع |
وما ذاك إن أعطى الفرزدق باسته |
|
بأول ثغر ضيعتـه مـجـاشـع |
فلما بلغ ذلك الفرزدق قال: لا جرم! والله لا أدخل عليه، ولا
أرزؤه شيئاً، ولا أقيم باليمامة، ثم رحل.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، أخبرني أبو الغراف قال: نعى الفرزدق لجرير
وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة، فقال:
مات الفرزدق بعد ما جدعتـه |
|
ليت الفرزدق كان عاش قليلا |
فقال له المهاجر: لبئس ما قلت! تهجو ابن عمك بعد ما مات!
لو رثيته كان أحسن بك. قال: والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل، وإن كان
نجمي موافقاً لنجمه، فلأرثينه. قال: بعد ما قيل لك! لو كنت بكيته ما نسيتك
العرب.
قال ابن سلام، فأنشدني معاوية بن أبي عمرو لجرير يرثي الفرزدق:
فلا ولدت بعد الفرزدق حامـل |
|
ولا ذات حمل من نفاس تعلت |
هو الوافد المأمون والراتق الثأي |
|
إذا النعل يوماً بالعشيرة زلـت |
انا أبو خليفة نا ابن سلام قال، حدثني يونس ابن حبيب النحوي قال: كان عبد الملك بن مروان لا يسمع لشعراء مضر ولا يأذن لهم، لأنهم كانوا زبيرية، فوقد إليه الحجاج وفادته التي وفدها، لم يفد إليه غيرها، فأهدى إليه جريراً. فدخل عليه فأذن له في النشيد، فقام فأنشد مديح الحجاج واحدة بعد واحدة، فأومأ إليه الحجاج أن ينشد مديح عبد الملك، فأنشده التي يقول فيها:
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح |
واعتمد على ابن الزبير فقال:
دعوت الملحدين أبـا خـبـيب |
|
جماحاً هل شفيت من الجماح |
وقد وجدوا الخليفة هـبـرزيا |
|
ألف العيص ليس من النواحي |
وما شجرات عيصك في قريش |
|
بعشات الفروع ولا ضواحـي |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، أخبرني أبو الغراف قال: لما أنشده فيها:
تعزت أم حزرة ثـم قـالـت |
|
رايت الموردين ذوي لقـاح |
تعلل وهي ساغـبة بـنـيهـا |
|
بأنفاس من الشبم الـقـراح |
سيكفيك العـواذل أرحـبـي |
|
هجان اللون كالفرد الـلـياح |
يعز على الطريق بمنكـبـيه |
|
كما أبترك الخليع على القداح |
فقال له عبد الملك: فهل ترويها مئة؟ فقال، وهل إليها من سبيل، جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين؟ وأعطاه مئة وثمانية من الرعاء.
فذكرها جرير في مديحه يزيد بن عبد الملك وهو خليفة، فقال:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانـية |
|
ما في عطائهم من ولا سرف |
أخبرني أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام قال: حدثنا أبو الغراف قال: أتى الفرزدق مجلس بني الهجيم في مسجدهم فأنشدهم. وبلغ ذلك جريراً، فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق، فقال له شيخ منهم: يا هذا، اتق الله! فإن هذا المسجد إنما بني لذكر الله والصلاة! فقال جرير: أقررتم للفرزدق ومنعتموني! وخرج مغضباً وهو يقول:
إن الهجيم قبيلة مـلـعـونة |
|
حص اللحى متشابهو الألوان |
هم يتركون بنيهم وبناتـهـم |
|
صعر النوف لريح كل دخان |
لو يسمعون بأكلة أو شـربة |
|
بعمان أصبح جمعهم بعمان |
قال: وخفة اللحى في بني هجيم ظاهرة. وقيل لرجل منهم: ما بالكم، يا بني الهجيم حص اللحى؟ قال: إن الفحل واحد.
أخبرني أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام قال: حدثني ابو يحيى الضبي قال: نازع جرير بني حمان في ركية لهم، فصاروا إلى إبراهيم بن عربي باليمامة يتحاكمون إليه، فقال جرير:
أعوذ بالأمـير غـير الـجـبـار |
|
من ظلم حمان وتحـويل الـدار |
ما كان قبل حفرنا من محـفـار |
|
وضربي المنقار بعد المنـقـار |
في جبـل أصـم غـير خـوار |
|
يصيح بالجب صياح الـصـرار |
له صهيل كصـهـيل الأمـهـار |
|
فاسأل بني صحب ورهط الجرار |
والسلميين العـظـام الأخـطـار |
|
والجار قد يخبر عن دار الجـار |
فقال الحماني:
ما لكليب من حمـى ولا دار |
|
غير مـقـام أتـن وأعـيار |
قعس الظهور داميات الثفار |
|
|
قال: فقال جرير: فعن مقامهن، جعلت فداك، أجادل! فقال ابن عربي للحماني: قد أقررت لخصمك! وحكم بها لجرير.
قال ابن سلام، وأخبرني أبو يحيى الضبي قال: بينا جرير يسير على راحلته، إذ هجم على أبيات من مازن وهلال - وهما بطنان من ضبة - فخافهم، لسوء أثره في ضبه، فقال:
فلا خوف عليك ولن تراعى |
|
بعقوة مازن زبني هـلال |
هما الحيان إن فزعا يطيرا |
|
إلى جرد كأمثال السعالـى |
أمازن يا ابن كعب إن قلبي |
|
لكم طول الحياة لغير قالي |
غطاريف يبيت الجار فيهـم |
|
قرير العين في أهل ومال |
قالوا: أجل، يا أبا حزرة، فلا خوف عليك.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال: حدثني أبو يحيى الضبي قال: كان الذي هاج الهجاء بين جرير وعمر بن لجأ، أن عمر كان ينشد أرجوزة له يصف فيها إبله، وجرير حاضر بالماء، فقال التيمي:
قد وردت قبل إني ضحائهـا |
|
تقرش الحيات في خرشائهـا |
جر العجوز الثنى من ردائها |
|
|
فقال له جرير: أخفقت مرها! قال: فكيف أقول؟ قال: تقول:
جر العروس الثنى من ردائها |
قال التيمي - وحمى - : فما قلت أنت أسوأ من قولي! قال: فما هو؟ قال: قولك:
وأوثق عند المردفات عشـية |
|
لحاقاً إذا ما جرد السيف لامع |
فجعلتهن مردفات غدوة، ثم تداركتهن عشية! قال: فكيف أقول؟ قال: تقول:
وأوثق عند الرهفات عشية |
قال: فقال جرير: فو الله لهذا البيت أحب إلي من بكري حزرة، ولكنك محلب للفرزدق.
فقال فيه جرير:
ألا سوانا أدرأتم يا بـنـي لـجـأ |
|
شيئأ يقارب أو وحشاً لهـا غـرر |
أحين كنت سماما يا بـنـي لـجـأ |
|
وخاطرت بي عن أحسابها مضرا |
إن الحفافيث عهدي يا بني لـجـأ |
|
يطرقن حين يسور الحية الذكـر |
خل الطريق لمن يبني المنـاربـه |
|
وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر |
انت ابن برزة منسوباً إلـى لـجـأ |
|
عبد العصارة والعيدان تعتـصـر |
ويروي:
ألست نزوة خوار عـلـى أمة |
|
عبد العصارة والعيدان تعتصر |
فقال التيمي يرد عليه:
لقد كذبت وشـر الـقـول أكـذبـه |
|
ما خاطرت بك عن أحسابها مضـر |
ألسـت نـزوة خـوار عـلـى أمة |
|
لا يسبق الحلبات اللـؤم والـخـور |
ما قلت من مرة إلا سأنـقـضـهـا |
|
يا ابن الأتان بمثلي تنقض الـمـرر |
قد أصبح الخز يبكي في بني الخطفي |
|
ياخز كرمان صبراً إنها الـهـتـر |
وقال أيضاً:
ما استردفت يوم الهذيل نساؤنـا |
|
ولا قمن في صف لسحجة سجداً |
ولكن منعناهن في الشرك بالقنـا |
|
وفي السلم صدقنا النبي محمـدا |
وقال أيضاً:
عجبت لما لاقت رياح من الأذى |
|
وما اقتبسوا مني وللشر قابـس |
غضاباً لكلب من كليب فرستـه |
|
هوى ولشدات الأسود فـرائس |
إذا ما ابن يربوع أتاك لمـأكـل |
|
على مجلس إن الأكيل مجالس |
فقل لبن يربوع ألست بداحـض |
|
سبالك عنا إنـهـن نـجـائس |
تمسح يربـوع سـبـالاً لـئيمة |
|
بها من مني العبد رطب ويابس |
يريد ما صنع أبو سواج الضبي باليربوعي.
وكان أبو سواج أخذ بالبريرة صرد بن جمرة في شيء كان بينهما، فجاء بزنج فأوثبهم على جارية له، فكانوا يمنون في قعب، ثم حلب عليه فسقاه إياه، فقتله. وذلك قول الفرزدق لجرير، حين أمرهم الحجاج أن يأتوه في لباس آبائهم، فجاء جرير في الحديد، فقال الفرزدق:
وقد تلبس الحبلى السلاح وبطنها |
|
إذا انتطقت عبء عليها تعادله |
وذلك قول الأخطل لجرير:
تعيب الخمر وهي شراب كسرى |
|
ويشرب قومك العجب العجيبـا |
منى العبد عـبـد أبـي سـواج |
|
أحق من المدامة أن تـعـيبـا |
ثم وافى جرير والتيمي المدينة وقد وردها الوليد بن عبد الملك، وكان يتأله في نفسه، فقال: تقذفان المحصنات وتعضهان وتنفيان! فأمر ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري - وكان واليه على المدينة - بضربهما، فضربهما وأقامهما على البلس مقرونين، والتيمي يومئذ أشب من جرير وأقوى، فجعل يشول بجرير، وجرير يقول وهو المشول به:
جزعت من العذاب غريب تيم |
|
وملأت القميص مع الإزار |
ولست مفارقاً قربي حـتـى |
|
يطول تصعدي بك وانحداري |
فقال التيمي:
ولما أن قرنت إلى جرير |
|
أبى ذو بطنه إلا انحدارا |
فقال له قدامة بن إبراهيم الجمحي: بئسما قلت! جعلت نفسك المقرون إليه! قال: فكيف أقول؟ قال: تقول:
ولما لز في قربي جرير |
|
أبى ذو بطنه إلا انحدارا |
قال: لا والله، لا أقول له أبداً إلا هكذا.
قال أبو البيداء: لقى الفرزدق عمرو بن عطية أخا جرير - وهو حينئذ يهاجي ابن لجأ - فقال له: ويلك قل لأخيك: ثكلتك أمك! إيت التيمي من عل كما أصنع بك أنا وكان الفرزدق قد حمى وانف لجرير أن يتعلق به التيمي. قال ابن سلام وأنشدني له خلف الأحمر، يعني الفرزدق، شعراً يقوله للتيمي:
وما أنت إن قرما تميم تـسـامـيا |
|
أخا التيم إلا كالوشيظة في العظم |
فلو كنت مولى الظلم أو في ظلاله |
|
ظلمت ولكن لا يدى لك بالظلـم |
فأجابه ابن لجأ فقال:
كذبت أنا القرم الذي دق مالكاً |
|
وأفناء يربوع وما أنت بالقرم |
فحدثني أبو الغراف قال: مشت رجال تميم بين جرير والتيمي وقالوا: والله ما شعراؤنا إلا بلاء علينا! يثيرون مخازينا ويهجون أحياءنا وأمواتنا! فلم يزالوا يمشون بينهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة، أن لا يعودا في الهجاء فكف التيمي، وكان جرير لا يزال يسل الواحدة، فيقول التيمي: والله ما نقضت هذه ولا سمعتها! فيقول جرير: هذه كانت قبل الصلح! حدثني عثمان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن حرملة قال: لما ورد علينا هجاء جرير والتيمي قال لي سعيد بن المسيب: تروأ لنا مما قالا شيئاً. فأتيته وقد استقبل القبلة يريد أن يكبر. فقال: أرويت شيئاً؟ قلت: نعم! فأقبل علي بوجهه، فأنشدته للتيمي وهو يقول: هيه هيه! ثم أنشدته لجرير فقال: أكله أكله! أخبرني أبو الخطاب الزراري، عن حجناء بن جرير قال: قلت لأبي: ما هجوت قوماً قط إلا فضحتهم، - أو قال: أفسدتهم - إلا التيم! قال: يا بني إني لم أجد بناء فأهدمه، ولا حسباً أضعه أو قال: أصمه.
وكانت تيم رعاء غنم، فيغدون في غنمهم ثم يروحون، وقد جاء كل رجل منهم بأبيات، فيرفدون بها عمر بن لجأ. وكان أشعرهم، بعد أبن لجأ، السرندي.
وقيل لجرير: ما صنعت في التيم شيئاً؟ قال: إنهم شعراء لئام.
وحدثني مسمع بن عبد الملك - وهو كردين - قال: كان عرادة النميري نديماً للفرزدق، فقدم الراعي البصرة، فدعاه عرادة فأطعمه وسقاه، وقال: فضل الفرزدق على جرير. فأبى. فلما أخذ فيه الشراب، لم يزل به حتى قال:
يا صاحبي دنا الـرواح فـسـيرا |
|
غلب الفرزدق في الهجاء جريراً |
حدثني أبو الغراف قال كان الذي هاج الهجاء بين جرير والراعي - وهو عبيد بن حصين - أن الراعي كان يسأل عن جرير والفرزدق فيقول: الفرزدق أكرمهما وأشعرهما. فلقيه جرير فاستعاذه من نفسه ، وطلب إليه أن لا يدخل بينهما، وقال: أنا كنت أولى بعونك! إني لأمدحكم، وإنه ليهجوكم! قال: أجل، ولست لمساءتك بعائد. ثم بلغ جريراً أنه عاد في تفضيل الفرزدق عليه، فلقيه بالبصرة وجرير على بغلة، فعاتبه وقال: استعذتك ، فزعمت أنك غير داخل بيني وبين ابن عمي! قال: والراعي يعتذر إليه، وأقبل ابنه جندل - وكان فيه خطل وعجب - فقال لأبيه: ألا أراك تعتذر إلى ابن الأتان! نعم، والله لنفضلن عليك، ولنروين هجاءك، ولنهجونك من تلقاء أنفسنا. وضرب وجه بغلته وقال:
ألم تر أن كلب بني كليب |
|
أراد حياض دجلة ثم هابا |
فانصرف جرير مغضباً محفظاً. فقال الراعي لابنه: والله ليهجوني وإياك، فليته لا يجاوزنا! ولكن سيذكر نسوتك! وعلم الراعي أنه قد أساء، فندم. فتزعم نمير: أنه حلف أن لا يجيبه سنة، غضباً على ابه، وأنه مات في السنة. ويقول غيرهم: إنه كمد لما سمعها فمات.
وكان جرير، يوم جرى هذا بينهما بالبصرة، نازلاً على امرأة من كليب، فبات في علية لها، وهي في سفل دارها. قالت المرأة: فبات ليلته لا ينام، يتردد في البيت، حتى ظننت أنه عرض له جني، أو سنح له بلاء، حتى فتح له، فقال:
أقلى اللوم عاذل والعتـابـا |
|
وقولي إن أصبت لقد أصابا |
حتى قال:
إذا غضبت عليك بنو تميم |
|
حسبت الناس كلهم غضابا |
ثم أصبح فغدا إلى المربد فقال: يا بني تميم، قيدوا! - أي اكتبوا - فلم يجبه الراعي، ولم يهجه جرير بغيرها.
فقال لي بعض رواة قيس وعلمائهم: كان الراعي فحل مضر، حتى ضغمه الليث! يعني جريراً.
قال أبو البيداء: مر راكب يتغنى:
وعاو عوى من غير شيء رميته |
|
بقافية أسبابها تقطـر الـدمـا |
خروج بأفواه الرواة كـأنـهـا |
|
قرا هندواني إذا هز صمـمـا |
فسمعه الراعي، فأتبعه رسولاً فقال: لمن البيتان؟ قال: جرير. قال: والله لو اجتمعت الجن والإنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئاً. ثم قال لمن حضر: ويحكم! ألام على أن يغلبني مثل هذا! وإنما يعني جرير البعيث، وكذلك كان اعتراض البعيث جريراً في غير شيء.
حدثني أبان بن عثمان قال: كان سراقة البارقي شاعراً ظريفاً تحبه الملوك، حلو الحديث . وكان قاتل المختار، فأخذه أسيراً، فأمر بقتله، فقال: والله لا تقتلني حتى تنفض دمشق حجراً حجراً! فقال المختار لأبي عمرة: من يخرج أسرارنا؟ ثم قال: من أسرك؟ قال: قوم على خيل بلق عليهم ثياب بيض، لا أراهم في عسكرك! قال: فأقبل المختار على أصحابه فقال: عدوكم يرى من هذا ما لا ترون! قال: أني قاتلك. قال: والله يا أمين آل محمد، إنك تعلم أن هذا ليس باليوم الذي تقتلني فيه! قال: ففي أي يوم أقتلك؟ قال: يوم تضع كرسيك على باب مدينة دمشق، فتدعو بي يومئذ فتضرب عنقي، فقال المختار لأصحابه: يا شرطة الله! من يرفع حديثي؟ ثم خلى عنه. فقال سراقة - وكان المختار يكنى أبا إسحاق -:
ألا أبلغ أبا إسحاق عـنـي |
|
رأيت البلق دهماً مصمتات |
أرى عيني ما لم تبصـراه |
|
كلانا عالم بالـتـرهـات |
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً |
|
على قتالكم حتى الممـات |
ثم قدم سراقة، بعد ذلك، العراق مع بشر بن مروان. وكان بشر من فتيان قريش سخاء ونجدة، وكان ممدحاً، فمدحه جرير، والأخطل، والفرزدق، وكثير، وأعشى بني شيبان. وكان بشر يغري بين الشعراء، وهو أغرى بين جرير و الأخطل، فحمل سراقة على جرير حتى هجاه، فقال سراقة:
أبلغ تميماً غثها وسمـينـهـا |
|
والقول يقصد تـارة ويجـور |
أن الفرزدق برزت حلبـاتـه |
|
عفواً وغودر في الغبار جرير |
ما كنت أول محمر عثرت به |
|
آبـاؤه إن الـلـئيم عـثـور |
حرر كليباً إن خير صـنـيعة |
|
يوم الحساب الصوم والتحرير |
هذا القضاء البارقي وإنـنـي |
|
بالميل في ميزانـه لـجـدير |
فقال جرير في قصيدته التي قال فيها:
يا صاحبي هل الصباح منير |
|
أم هل للوم عواذلي تفتـير |
يا بشر إنك لم تزل في نعمة |
|
يأتيك من قبل العلى بشـير |
بشر أبو مروان إن عاسرته |
|
عسر وعند يساره ميسـور |
يا بشر حق لوجهك التبشـير |
|
هلا غضبت لنا وأنت أمير |
قد كان حقك أن تقول لبارق |
|
يا آل بارق فيم سب جـرير |
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها |
|
وابن اللئيمة للئام نـصـور |
أمسى سراقة قد عوى لشقائه |
|
خطب وأمك يا سراق يسير |
أسراق إنك قد غشيت ببارق |
|
أمراً مطالعه عليك وعـور |
أسراق إنك لا نزاراً نلـتـم |
|
والحي من يمن عليك نصير |
أكسحت باستك للفخار وبارق |
|
شيخان أعمى مقعد وكسير |
وقال جرير:
أمسى خليلك قد أجد فراقـا |
|
هاج الحزين وذكر الأشواقا |
وإذا لقيت مجيلساً من بارق |
|
لا قيت أطبع مجلس أخلاقا |
قفد الأكف عن المكارم كلها |
|
والجامعين مذلة ونفـاقـا |
ولقد هممت بأن أدمدم بارقاً |
|
فحفظت فيهم عمنا إسحاقا |
قال ابن سلام: يعني إسحاق الذبيح، ثم نزعا.
فمر جرير بسراقة بمنى، والناس مجتمعون على سراقة وهو ينشد، فجهره جماله، واستحسن نشيده. فقال جرير: من أنت؟ قال: بعض من أخزاه الله على يديك! قال: أما والله لو عرفتك لوهبتك لظرفك! قال: كان العباس بن يزيد الكندي هجا جريراً، وكانت الشعراء تعرض له ليهجوهم.
وكان يقول: لا أبتدي، ولكني أعتدي.
قال أبو الغراف: فتأناهم حولاً، وذلك قوله:
ألم ينه عني الناس أن لست ظالماً |
|
بريئاً وأني للمتاحـين مـتـيح |
فاتته كندة فاستعدوه من نفسه، وطلبوا أن لا يذكرهم. قال: فأخبروني بمساويه إن كنتم صادقين. ففرشوه أمره، فقالوا: هم أهل بيت كانوا في فزارة مجاورين، ثم تحولوا إلى بني كلاب، ثم تحولوا في طيئ، ومعه ابنة له جارية حدثة، فطبن لها غلام منهم يقال له عتاب، فكان يلاعبها، فقالوا إنها حبلت منه وولدت، وقتل الولد. وكانوا نزولاً في جبل يقال له شعبي، وكانوا أهل بيت سرو وجمال - قال: رأيت رجلاً من ولده فما رايت أجمل منه - فقال جرير:
ستطلع من ذرى شعبي قواف |
|
على الكندي تلتهب التهـابـا |
أيوماً في فزارة مستـجـيراً |
|
ويوماً ناشداً حلفـاً كـلابـاً |
أعتاباً تجاور حـين أجـنـت |
|
نخيل أجاً وأعنزه الربـابـا |
يخاتلها وتحسـبـه لـعـابـاً |
|
أساء غلام جيرتك اللعـابـا |
وما خفيت هضيبة يوم جرت |
|
ولا إطعام سخلتها الكـلابـا |
يقطع بالمشاقص حالبـيهـا |
|
وقد بلت مشيمتها التـرابـا |
وقد حملت ثمانـية وتـمـت |
|
لتاسعها وتحسبها كـعـابـا |
أعبداً حل في شعبي غريبـاً |
|
ألؤماً لا أبالك واغـتـرابـا |
إذا نزل الحجيج على قـنـيع |
|
دببت الليل تسترق العـيابـا |
فقد حلت يمـينـك إن إمـام |
|
أقام الحد واتبع الـكـتـابـا |
فيزعم الناس: انه لما أتته هذه البيات كمد فمات.
قال، وقال رجل من عبد القيس، يقال له: أحمر بن غدانة، من بني عصر:
علام تعني يا جرير وقد قـضـى |
|
أخو عصر أن قد علاك الفرزدق |
وإن امرأ سوى كـلـيبـاً بـدارم |
|
وسوى جريراً بالفرزدق أحمـق |
فأخذه عبد العزيز بن عمرو بن مرجوم - وكان سيد عبد القيس بالبصرة، وأبوه سيد، وجده سيد - وكان جده مرجوم اسمه: عامر بن عبيد، فنافر رجلاً من قومه إلى النعمان، فنفره عليه وقال: رجمتك بالشرف! فسمى مرجوماً ، وفيه يقول لبيد:
وقبـيل مـن لـكـيز شـاهـد |
|
رهط مرجوم ورهط ابن المعل |
فشده وثاقاً، فأرسل به إلى جرير وقال: احكم فيه فقال جرير:
لولا ابن عمرو بن مرجوم لقد خرجت |
|
شنعاء لا تتقي سمعـاً ولا بـصـرا |
إني لأرجو وراجي الخير مـدركـه |
|
أن يجبر الله في الدنيا بني عـصـرا |
كم من يتـيم ومـسـكـين وأرمـلة |
|
وبائس في قديم الدهر قـد جـبـرا |
وقال جرير يرد على الصلتان:
أقول ولم أملك أمال بن حنـظـل |
|
متى كان حكم الله في كرب النخل |
فاعترضه خليد عينين، من أهل هجر، فقال:
وأي نبي كـان مـن أهـل قـرية |
|
وما الحكم يا ابن اللؤم إلا مع الرسل |
فقال جرير:
فخل الفخر يا ابن أبي خليد |
|
وأد خراج رأسك كل عام |
لقد علقت يمينك رأس ثور |
|
وما علقت يمينك باللجـام |
وقال جرير:
كم عمة لك يا خلـيد وخـالة |
|
خضر نواجدها من الكـراث |
نبتت بمنبته فطاب لشمـهـا |
|
ونأت عن القيصوم والجثجات |
فسكت خليد.
وقال في أحمر بن غدانة:
نبئت عبداً بالعـيون يسـبـنـي |
|
أحيمر سواراً على كرب النخل |
فقال أحمر:
أعيرتنا بالنخل أن كان مالـنـا |
|
وود ابوك اللؤم لو كان ذا نخل |
فهم جرير ببني عصر، فأتاه عبد العزيز بن عمرو بن مرجوم، فشده فأرسله إلى جرير، وحمل جريراً وكساه.
ذكر الأخطل حدثني عامر بن عبد الملك المسمعي قال: لما بلغ الأخطل تهاجى جرير والفرزدق قال لا بنه مالك: انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما، وتأتيني بخبرهما. قال: فلقيهما، ثم استمع، فاتى اباه فقال: جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر. فقال الأخطل: فجرير أشعرهما، ثم قال:
إني قضيت قضاء غير ذي جنف |
|
لما سمعت ولما جاءني الخبـر |
أن الفرزدق قد شالت نعامـتـه |
|
وعضه حية من قومـه ذكـر |
ثم قدم الأخطل الكوفة على بشر بن مروان، فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بدارهم وحملان وكسوة وخمر - وبلغني أن الذي بعث بهذا شبة بن عقال المجاشعي - وقال للأخطل: فضل شاعرنا عليه وسبه. فقال الأخطل:
أخسأ كليب إليك إن مجاشـعـاً |
|
وأبا الفوارس نهشـلاً أخـوان |
قوم إذا خطرت غليك قرومهـم |
|
جعلوك بين كلا كـل وجـران |
وإذا وضعت أباك في ميزانهـم |
|
رجحوا وشال أبوك في الميزان |
فقال جرير:
ياذا العباية إن بشراً قد قضى |
|
أن لا تجوز شهادة النشوان |
وأخبرني أبو عبيدة النحوي قال: لما أتى الأخطل قول جرير:
جاريت مطلع الرهان بسنه |
|
روق شبيبته وعمرك فاني |
ويروى:
جاريت مطلع الرهان بروقه |
|
ماء الشباب وماء روقك فاني |
قال الأخطل: صدق ابن المراغة! وقد أديل مني حين أقول للنابغة بني جعدة:
لقد جارى أبو ليلى بقـحـم |
|
ومنتكث على التقـريب وان |
إذا خبط الخبار أكـب فـيه |
|
وخر على الجحافل والجران |
يروى:" إذا دخل الخبار" . وكان الأخطل من أسن أهل طبقته.
أنشدني محمد بن الفضل الهاشمي لجرير في محمد بن عمير ابن عطارد:
إنا لنعلم ما أبوك بـحـاجـب |
|
فالحق بأصلك من بني دهمان |
وهي قصيدة.
وقال لشبة بن عقال، وكانت فيه شوهة، وذاك في ولده بين:
فضح العشيرة يوم يسلح قائماً |
|
ظل النعامة شبة بن عقـال |
وقال للأخطل:
رشتك مجاشع سكراً بفلس |
|
فلا تهنيك رشوة من رشاكا |
وهي قصيدة طويلة.
وقال:
يا شب ويحك لا تكفر فوارسنـا |
|
يوم ابن كبشة عالي الملك جبار |
لولا حماية يربوع نـسـاءكـم |
|
كانت لغيركم فيهن أطـهـار |
قال ابن سلام: وسألت بشاراً المرعث: أي الثلاثة أشعر؟ فقال: لم يكن الخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه. قلت: فهذان؟ قال: كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير. فقلت لبشار: وأي شيء لجرير من المراثي إلا التي رثى بها امرأته؟ فأنشدني لجرير يرثي ابنه سوادة، ومات بالشام:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لـهـم |
|
كيف العزاء وقد فارقت أشبـالـي |
فارقتني حين كف الدهر من بصري |
|
وحين صرت كعظم الرمة البالـي |
أمسى سوادة يجلو مقلـتـي لـحـم |
|
باز يصرصر فوق المربأ العالـي |
قد كنت أعرفه مني إذا غـلـقـت |
|
رهن الجياد ومد الغاية الـغـالـي |
إن الثوى بذي الزيتون فاحتسـبـي |
|
قد أسرع اليوم في عقلي وفي حالي |
إلا تكن لـك بـالـديرين مـعـولة |
|
فرب باكية بـالـرمـل مـعـوال |
كأم بو عجـول عـنـد مـعـهـده |
|
حنت إلى جلـد مـنـه وأوصـال |
حتى إذا عرفـت أن لا حـياة بـه |
|
ردت هماهم حري الجوف مثكـال |
زادت على وجدها وجداً وإن رجعت |
|
في الصدر منها خطوب ذات بلبال |
حدثني عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي، عن المحرر بن أبي هريرة قال: إني بأريحا، في عسكر سليمان بن عبد الملك، وفيه جرير والفرزدق، إذ أتانا الفرزدق فقال: اشهدوا جنازة محمد ابن أخي، ثم قال:
بتـنـا بـدير أريحـاء بـلـيلة |
|
خدارية يزداد طولاً تمامـهـا |
أكابد فيها نفس أقرب من مشى |
|
أبوه بإمر غاب عني نيامـهـا |
وكنا نرى من غالب في محمـد |
|
شمائل يعلو الفاعلين كرامـهـا |
وكان إذا ما حل أرضاً تزينـت |
|
بزينته صحراؤها وإكـامـهـا |
سقي أريحاء الغيث وهي بغيضة |
|
إلينا ولكن كي ليسقاه هامـهـا |
ثم انصرف، وجاء جرير فقال: قد رأيت هذا و سمعت ما قال في
ابن أخيه، وما ابن أخيه، فعل الله به وفعل؟ وذكر اللعن. قال: ومضى جرير،
فلا والله ما لبثنا إلا جمعاً حتى جاء جرير فقام مقامه فقال: اشهدوا سوادة!
ابنه.
ثم قال:
كان سوادة يجلو مقلـتـي لـحـم |
|
باز يصرصر فوق المربأ العالـي |
ودعتني حين كف الدهر من بصري |
|
وحين صرت كعظم الرمة البالـي |
إلا تكن لـك بـالـديرين بـاكـية |
|
فرب باكية بالـرمـل مـعـوال |
قالوا نصيبك من أجر فقلت لـهـم |
|
كيف العزاء وقد فارقت أشبالـي |
ما قيل في الأخطل وأحاديثه حدثني ابو يحيى الضبي قال: كان عبد الرحمن بن حسان ويزيد بن معاوية يتقاولان، فاستعلاه ابن حسان. قال يزيد لكعب ابن جعيل التغلبي: أجبه عني، واهجه؟ فقال: والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار! ولكني أدلك على الشاعر الماهر الفاجر! فتى منا يقال له: غياث بن الغوث، نصراني.
وكان كعب سماه الأخطل، وذاك أنه سمعه ينشد هجاء فقال: يا غلام، إنك لأخطل اللسان.
قال أبو يحيى: قال كعب بن جعيل: إني قد هجوت نفسي ببيتين، وقد ضممت عليهما، فمن أصابهما فهو الشاعر. فقال الأخطل:
سميت كعباً بشر العـظـام |
|
وكان أبوك سمي الجـعـل |
وإن مـحـلـك مـن وائل |
|
محل القراد من است الجمل |
قال: هما هذان! قال أبو يحيى: أرسل إليه يزيد: أن أهجهم! فقال: كيف أصنع بمكانهم؟ أخافهم على نفسي! قال: لك ذمة أمير المؤمنين وذمتي. فذلك حين يقول:
ذهبت قريش بالسماحة والندى |
|
واللؤم تحت عمائم الأنصـار |
فجاء النعمان بن بشير الأنصاري إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين بلغ منا أمر ما بلغ منا مثله في جاهلية ولا إسلام!قال: من بلغ ذاك منكم؟ قال: غلام نصراني من بني تغلب. قال: ما حاجتك فيه؟ قال: لسانه. قال ذاك لك.
وكان النعمان ذا منزلة من معاوية، وكان معاوية يقول: يا معشر الأنصار! تستبطئونني، وما صحبني منكم إلا النعمان بن بشير! وقد رأيتم ما صنعت به! وكان ولاه الكوفة وأكرمه. فأخبر الأخطل، فصار إلى يزيد، فدخل يزيد إلى أبيه فقال: يا أمير المؤمنين، هجوني وذكروك، فجعلت له ذمتك وذمتي على أن رد عني! فقال معاوية للنعمان: لا سبيل إلى ذمة أبي خالد.
فذاك حيث يقول الخطل:
أبا خالد دافعت عـنـي عـظـيمة |
|
وأدركت لحمي قبـل أن يتـبـددا |
وأطفأت عني نار نعمان بـعـدمـا |
|
أغـذ لأمـر فـاجـر وتـجـردا |
ولما رأى نعمان دوني ابـن حـرة |
|
طوي الكشح إذ لم يستطعني وعردا |
وما مفعم يعلـو جـزائر حـامـر |
|
يشق إليها خـيزرانـاً وغـرقـدا |
تحرز منه أهل عانات بـعـد مـا |
|
كسا سورها الأدنى غثاء منضـدا |
كأن بنات الماء في حـجـراتـهـا |
|
أباريق أهدتها دياف لـصـرخـدا |
يقمص بالمـلاح حـتـى يشـفـه |
|
الحذار وإن كان المشيح المعـودا |
بمطـرد الآذى جـون كـانـمـا |
|
زفا بالقراقير النعام الـمـطـردا |
بأجود سيبـاً مـن يزيد إذا غـدت |
|
به بخته يحملن ملـكـاً وسـوددا |
يقلص بالسيف الـطـويل نـجـاده |
|
خميص إذا السربال عنه تـقـددا |
حدثني يونس، وعامر بن عبد الملك، وأبو الغراف، فألفت ما قالوا، قال: اتى الأخطل الكوفة، فأتى الغضبان بن القبعثري الشيباني، وهو يومئذ سيد بكر بن وائل، فسأله في حمالة، وكان سؤلة - على مثال فعلة - قال: إن شئت أعطيتك ألفين، وإن شئت أعطيتك درهمين. قال: ما بال الألفين، وما بال الدرهمين؟ قال: إن أعطيتك ألفين، لم يعطكها إلا قليل، وإن أعطينا درهمين، لم يبق بكري بالكوفة إلا أعطاك درهمين، وكتبنا لك إلى إخواننا من أهل البصرة، فلم يبق بكري إلا أعطاك درهمين، فخفت عليهم المؤونة وكثر لك النيل. قال: فهذه إذن. قال: نقسمها لك إلى أن ترجع من البصرة. فكتب له بالبصرة إلى سويد بن منجوف السدوسي، وهو زعيم بكر بن وائل بالبصرة.
قال يونس بن حبيب في حديثه: فنزل على آل الصلت ابن حريث الحنفي . فأخبرني من سمعه أنه قال: والله لا أزال أفعل ذاك.
ثم رجع إلى الحديث الأول، قال: وأتى سويداً بالكتاب، فأخبره بحاجته. قال: نعم! وأقبل على قومه فقال: هذا أبو مالك قد أتاكم يسألكم أن تجمعوا له، وهو أهل أن نقضي حاجته، وهو الذي يقول:
إذا ما قلت قد صالحت بكراً |
|
أبى البغضاء لا النسب البعيد |
وأيام لنـا ولـهـم طـوال |
|
يعض الهام فيهن الـحـديد |
ومهراق الدمـاء بـواردات |
|
تبيد المخزيات ومـا تـبـيد |
هما أخوان يصطليان نـاراً |
|
رداء الموت بينهمـا جـديد |
فهيجهم على الأخطل. قالوا: فلا ها الله! إذن والله لا نعطيه شيئاً.
فخرج وهو يقول:
فإن تمنع سدوس درهميها |
|
فإن الريح طيبة قـبـول |
تواكلني بنو العلات منهـم |
|
وغالت مالكاً ويزيد غول |
صريعاً وائل هلكا جميعـاً |
|
كان الرض بعدهما محول |
يريد: مالك بن مسمع، ويزيد بن رويم الشيباني.
وقال لسويد بن منجوف، وكان سويد رجلاً تقتحمه العين، وليس بذي منظرة:
وما جذع سوء خرق السوس أصله |
|
لما حملـتـه وائل بـمـطـيق |
ويروى:"خرب السوس جوفه".
وكان الأخطل مع مهارته وشعره، يسقط. كان مدح سماكاً الأسدي - وهو سماك الهالكي، بن عمير بن عمرو بن أسد، وبنو عمرو يلقبون القيون، ومسجد سماك بالكوفة معروف، وكان من أهلها، فخرج أيام على هارباً فلحق بالجزيرة - فمدحه الأخطل فقال:
نعم المجير سماك من بني أسد |
|
بالمرج إذ قتلت جيرانها مضر |
قد كنت أحسبه قينـاً وأنـبـؤه |
|
فاليوم طير عن أثوابه الشرر |
ويروى:" قد كنت أنبؤه قيناً وأخبره".
إن سماكاً بني مجداً لأسـرتـه |
|
حتى الممات وفعل الخير يبتدر |
فقال سماك: يا أخطل، أردت مديحي فهجوتني! كان الناس يقولون قولاً فحققته! فلما هجا سويداً: يا أبا مالك، والله ما تحسن أن تهجو ولا تمدح! لقد أردت مدح الأسدي فهجوته - يعني قوله: "قد كنت أحسبه قيناً" - وأردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلاً كلها حملتني أمورها، وما طمعت في بني ثعلبة، فضلاً عن بكر ، فزدتني تغلب . أبان بن عثمان البجلي، قال: مر الأخطل بالكوفة في بني رؤاس، ومؤذنهم ينادي بالصلاة، فقال بعض شبانهم: أبا مالك، ألا تدخل فتصلي؟ فقال:
أصلي حيث تدركني صلاتي |
|
وليس البر وسط بني رؤاس |
حدثني أبو الحصين المدني قال: بينا الأخطل قد خلا مع صاحب له بخميرة لهما في نزهة، إذ طرأ عليهما طارئ لا يعرفانه ولا يستخفانه، فشرب شرابهما، وثقل عليهما، فقال الأخطل:
وليس القذى بالعود يسفط في الخمـر |
|
ولا بذباب خطـبـه أيسـر الأمـر |
ولكن شخصـاً لا يسـر بـقـربـه |
|
ترامى به الغيظان من حيث لا ندري |
ابان بن عثمان، حدثني أبي، قال: دعا الأخطل شاب من شباب أهل الكوفة إلى منزله، فقال: يا ابن أخي، أنت لا تحتمل المؤونة، وليس عليك محتمل! فلم يزل به حتى انتجعه. فاتى الباب فقال: يا شقراء! فخرجت إليه امرأة، فقال لها: أعلمي فلاناً مكاني. فقال لأمه: هذا أبو مالك قد زارنا! فباعت غزلاً فاشترت لهم لحماً ونبيذاً وريحاناً، فدخل خصاً لهم، فأكل معه وشرب، فقال في ذلك:
وبيت كظهر الفيل جل متاعـه |
|
أباريقه والشارب المتقـطـر |
ترى فيه أثلام الأصيص كأنهـا |
|
إذا بال فيها الشيخ حفر معـور |
لعمرك ما عشنا بيوم مـعـيشة |
|
من الدهر إلا يوم شقراء أقصر |
حوارية لا يدخل الذم بـيتـهـا |
|
مطهرة يأوي إليها مـطـهـر |
قال ابو يحيى الضبي: اجتمع الفرزدق وجرير والأخطل عند بشر بن مروان، وكان يغرى بين الشعراء، فقال للأخطل: احكم بين الفرزدق وجرير. قال: أعفني أيها الأمير! قال: احكم بينهما! فاستعفاه بجهده، فأبى إلا أن يقول، فقال: هذا حكم مشؤوم!ثم قال: الفرزدق ينحت بذلك، وكان سبب الهجاء بينهما. فقال جرير في حكومته:
يا ذا العباية إن بشراً قد قضى |
|
أن لا تجوز حكومة النشوان |
فدعوا الحكومة لستم من أهلها |
|
إن الحكومة في بني شيبـان |
قلوا كليبكم بلقحة جـارهـم |
|
يا خزر تغلب لستم بهجـان |
وقال الأخطل يرد عليه:
ولقد تقايستم إلى أحـسـابـكـم |
|
وجعلتم حكماً من الصـلـتـان |
فإذا كلـيب لا يسـاوي دارمـاً |
|
حتى يساوي حصـرم بـأبـان |
وغذا جعلت اباك في ميزانهـم |
|
رجحوا وشال أبوك في الميزان |
وإذا وردت الماء كان لـداروم |
|
عفواته وسهـولة الأعـطـان |
ثم استطار الهجاء.
وحدثني رجل من بني مروان، شامي، قال: اجتمع جرير والأخطل عند عبد الملك بن مروان، فقال له الأخطل: أين تركت أعيار أمك؟ قال: ترعى مع خنازير أبيك! أبو الغراف قال: تناشدا عند الوليد بن عبد الملك، فأنشد الأخطل كلمة عمرو بن كلثوم:
ألا هبى بصحنك فاصبحا |
فتحرك الوليد، فقال: مغر يا جرير! يريد قصيدة أوس بن مغراء السعدي، ثم القريعي:
ماذا يهيجك من دار بفيحـانـا |
|
قفر توهمت منها اليوم عرفانا |
منا النبي الذي قد عاش مؤتمناً |
|
وصاحباه وعثمان بن عفانـا |
تحالف الناس مما يعلمون لنـا |
|
ولا نحالف إلا الله مـولانـا |
محمد خير من يمشي على قدم |
|
وكان صافية لله خلـصـانـا |
فقال الأخطل: أعلى تعصب يا أمير المؤمنين! وعلى تعين! وانا صاحب عبد الرحمن بن حسان، وصاحب قيس، وصاحب كذا!! وكان الأخطل مستعلياً قيساً في حربهم، فقال:
إن السيوف غدوهـا ورواحـهـا |
|
تركت هوازن مثل قرن الأغضب |
وكان يونس ينشد هذا البيت:"غدوها ورواحها"، جعله ظرفاً.
وقال الأخطل:
لقد خبرت والأنباء تنمي |
|
لقد نجاك يا زفر الفرار |
إلى أن قال:
ألا أبلغ الجحاف هل هو ثائر |
|
بقتلي أصيبت من سليم وعامر |
فجمع لهم الجحاف السلمي ، وهو أحد بني فالج بن ذكوان، وولد بالبصرة هو وزفر بن الحارث، وكانا عثمانيين، فلما ظهر على بن أبي طالب على أهل البصرة، خرجا إلى الشام، فسادا أهلها. وزفر، من بني نفيل بن عمرو بن كلاب، من ولد يزيد بن الصعق، وهو سيد شريف، وله يقول القطامي حين أسره فمن عليه:
من البيض الوجوه بني نفيل |
|
أبت أخلاقهم إلا ارتفاعـا |
فجمع لهم الجحاف جمعاً فأغار على البشر، وهي منازل تغلب، فأسرف في القتل فيهم، فاستخذأ الأخطل، فقال:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقـعة |
|
إلى الله منها المشتكى والمعول |
فإلا تغيرها قريش بمـلـكـهـا |
|
يكن عن قريش مستماز ومزحل |
فقال: إلى أين؟ لا أم لك! قال: إلى النار.
فوثب عليه جرير عند استخذائه فقال:
فإنك والجحاف حين تـعـضـه |
|
أردت بذاك المكث والورد أعجل |
سما لكم ليلاً كـأن نـجـومـه |
|
قناديل فيهن الذبال الـمـفـتـل |
فما ذر قرن الشمس حتى تبينـوا |
|
كراديس يهديهن ورد محـجـل |
وما زالت القتلى تمج دمـاءهـا |
|
مع المد حتى ماء دجلة أشكـل |
فالا تعلـق مـن قـريش بـذمة |
|
فليس على أسياف قيس معـول |
بكى دوبل، لا يرقيء الله دمعـه! |
|
ألا انما يبكي من الـذل دوبـل |
أنا أبو خليفة، قال ابن سلام، قال أبو الغراف، قال الأخطل: والله ما سمتني أمي دوبل الا يوما واحدا! فمن أين سقط الى الخبيث!! وقال الجحاف يجيب الأخطل:
أبا مالك، هل لمتني مذ حضضتني |
|
على القتل؟ أم هل لامني لك لائم؟ |
ولقى الجحاف الأخطل فقال: أبا مالك، كيف رأيت؟ قال: رأيت شيخا فاجرا.
وقال لي أبان الأعرج: أدرك الجحاف الجاهلية. فقلت له: لم تقول ذاك؟ قال لقوله:
شهدن مع النبي مسومات |
|
حنينا وهي دامية الكلام |
نعرض للطعان إذا التقينا |
|
وجوها لا تعرض للطام |
فقلت له: إنما عني خيل قومه بني سليم.
وذكرت ذلك لعبد القاهر بن السري فقال: جدي قيس ابن الهيثم أعطى حكيم بن أمية جارية ولدت له الجحاف في غرفة في دارنا - لا أحسبه إلا قال -: رأيتها.
وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال:رأيت الجحاف يطوف بالبيت في أنفه خزام وهو يقول: اللهم أغفر لي، ولا أراك تفعل! فقلت: من هذا؟ قالوا: الجحاف. وكان بعد ذلك يتأله ويظهر التوبة.
ومر عكرمة بن ربعى الفياض التيمي بأسماء بن خارجة، حين فتلت تغلب عميربن الحباب، فقال عكرمة لأسماء: أبا مالك، قتلت تغلب عميرا في دارهم! قال: نعم، ومقبلا غير مدبر! قال: نعم. قال: فلا بأس! قال: فلما أدبر عكرمة قال أسماء:
يدي لك رهن من سليم بـغـارة |
|
تشيب لها أصداغ بكر بـن وائل |
وأن يتركوا رهط الفدوكس عصبة |
|
أيامي يتامى عرضة للـقـبـائل |
قال ابن سلام: قدم الأخطل الكوفة، فأتى حوشب ابن رويم الشيباني،فقال: اني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي! فنهره. فأتى شداد بن البزيعة فسأله، فاعتذر اليه. فأتى عكرمة الفياض، وكان كاتبا لبشر بن مروان، فسأله وأخبره بمارد عليه الرجلان، فقال: أما اني لا أتهرك ولا أعتذر اليك، ولكني أعطيك احداهما عينا والأخرى عرضا. قال: وحدث أمر بالكوفة فاجتمع له الناس في المسجد، فقيل له: ان أردت أن تكافئ عكرمة يوما فاليوم فلبس جبة خز، وركب فرسا، وتقلد صليبا من ذهب، وأتى باب المسجد، ونزل عن فرسه. فلما رآه حوشب وشداد نفسا عليه ذلك، وقال له عكرمة: يا أبا مالك! فجاء فوقف، وابتدأ ينشد قصيدته:
لمن الديار بحائل فوعال |
حتى انتهى الى قوله:
ان ابن ربعي كفانـي سـيبـه |
|
ضغن العدو وعذرة المختـال |
أغلبت حين تواكلتـنـي وائل، |
|
ان المكارم عند ذاك غوالـي |
ولقد مننت علي ربيعة كلهـا، |
|
وكفيت كل مـواكـل خـذال |
كابن البزيعة أو كآخر مثـلـه، |
|
أولى لك ابن مسيمة الأجمـال |
ان اللئيم اذا سألت بـهـرتـه، |
|
وترى الكريم يراح كالمختـال |
واذا عدلت به لارجالا لم تجـد |
|
فيض الفرات كراشيح الأوشال |
قال: فجعل عكرمة يبتهج ويقول: هذه والله أحب الي من حمر النعم!.
أنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، أنا ابن سلام قال: أخبرني أبو الغراف قال: لما قال جرير:
اذا أخذت قيس عليك وخـنـدف |
|
بأقطارها، لم تدر من أين تسرح؟ |
فما أنشده الأخطل قال:لامن أين! سد والله على الدنيا! حتى أنشد قوله:
فمالك في نجدحصاة تعـدهـا |
|
ومالك في غورى تهامة أبطح |
فقال الأخطل: لا ابالي والله أن لا يكون! فتح، والصليب لي القول! ثم قال:
ولكن لنا بـر الـعـراق وبـحـره |
|
وحيث يرى القرقور في الماء يسبح |
أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال، قال أبو الخطاب، حدثني نوح بن جرير قال: قلت لأبي: أنت أشعر أم الأخطل؟ فنهرني وقال: بئس ما قلت! وما أنت وذاك لاأم لك! فقلت: وما أنا وغيره! قال لقد أعنت عليه بكفر وكبر سن، وما رأيته الا خشيت أن يبتلعني.
وفي حديث أبي قيس العنبري، عن عكرمة بن جرير، حين سأل أباه عن الشعراء، فقال في الأخطل: يجيد نعت المولك، ويصيب صفة الخمر.
أخبرني أبو خليفة قال: أنبأنا محمد بن سلام قال: حدثني شيخ من ضبيعة قال: خرج جرير الى الشأم، فتزل منزلا لبني تغلب، فخرج متلثما عليه ثياب سفره، فلقيه رجل لا يعرفة، فقال: ممن الرجل؟ قال: من بني تميم. قال: أما سمعت ما قلت لغاوي بني تميم؟ - فأنشده مما قال لجرير - فقال: أما سمعت ما قال لك غاوي بني تميم؟ - فأنشده - ثم عاد الأخطل وعاد جرير في نقضه، حتى كثر ذلك بينهما. فقال التغلبي: من أنت؟ لا حياك الله! والله لكأنك جرير قال: فأنا جرير.قال: وأنا الأخطل أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام قال: سمعت سلمة بن عياش يقول: تذاكرنا جريرا والفرذدق والأخطل، فقال قائل: من مثل الأخطل؟ ان في كل بيت له بيتين، اذ يقول:
ولقد علمت، اذا العشار تروحت |
|
هدج الرثال، تكبهن شـمـالا، |
انا نعجل بالعبيط لـضـيفـنـا |
|
قبل العيال، ونقتل الأبـطـالا |
ولو شاء لقال:
ولقد علمت اذا العشار |
|
تروحت هدج الرثال |
أنا نعجل بالـعـبـيط |
|
لضيفنا قبل العـيال |
فكان هذا شعرا، وكان على غير ذلك الوزن.
وقيل للأخطل عند الموت: أتوصي أبا مالك فقال:
أوصي الفرزدق عند الممات |
|
بأم جـرير وأعـيارهــا |
وزار القبور أبـو مـالـك |
|
برغم العـداة وأوتـارهـا |
أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام قال، فحدثني أبان بن عثمان قال: لما بلغ الفرزدق قول الأخطل، جعل يحن عليه ويقول: سآخذ بوصية أخي أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام قال، حدثني محمد بن حفص بن عائشة التيمي قال: قال اسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: خرجت مع أبي الى الشام، فخرجت الى دمشق أنظر الى بتائها، فاذا كنيسة، واذا الأخطل في ناحيتها. فلما رآني أنكرني، فسأل عني فأخبر بنسبي، فقال: يافتى ان لك موضعا وشرفا، وان الأسقف قد حبسني، فأنا أحب أن تأتيه تكلمه في اطلاقي. قال: قلت: نعم! فذهبت الى الأسقف وانتسبت له، فكلمته وطلبت اليه في تخليته. فقال: مهلا، أعيذك بالله أن تكلم في مثل هذا، فان لك موذعا وشرفا، وهذا ظالم يشتم أعراض الناس ويهجوهم! فلم أزل به حتى قام معي فدخل عليه الكنيسة، فجعل يوعده ويرفع عليه العصا،والأخطل يتضرع اليه، وهو يقول له: أتعود؟ أتعود؟ فيقول: لا! قال اسحاق: فقلت له: يا أبا مالك تهابك الملوك، وتكرمك الخلفاء، وذكرك في الناس عظيم أمره، وأنت تخضع لهذا هذا الخضوع وتستحذي له! قال: فجعل يقول لي: انه الدين! انه الدين! أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام، حدثني محمد بن الحجاج الأسسيدي قال: خرجت الى الصائفة، فنزلت منزلا لبني تغلب، فلم أجد به طعاما ولا شرابا ولا علفا لدابتي شرى ولا قرى، ولم اجد ظلا. فقلت لرجل منهم: أما في داركم هذه مسجد أستظل بفيئه؟ قال: ممن أنت؟ قلت:من بني تميم. قال: ما كنت أرى عمك جريرا الا قد أخبرك حين قال:
فينا المساجد والامام، ولاترى |
|
في دار تغلب مسجدا مغمورا |
أخبرني أبو خليفة، اجازة، عن محمد بن سلام قال، قال ابان بن عثمان، حدثني سماك بن حرب، عن ضوء بن اللجلاج قال: دخلت حماما باكوفة وفيه الأخطل، قال، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني ذهل. قال: أتروي للفرزدق شيئا؟ قلت: نعم. قال: ما أشعر خليلي! على أنه ما أسرع مارجع في هبته! قلت: وما ذاك: قال: لقوله:
أبني غدانة، انني حررتكـم |
|
فوهبتكم لعطية بن جعـال |
لولا عطية لاجتدعت أنوفكم |
|
من بين ألأم آنف وسبـال |
وهبهم في الأول، ورجع في الآخر! فقلت: لو أنكر الناي كلهم هذا ما كان ينبغي أن تنكره أنت.قال: كيف؟ قلت: هجوت زفر بن الحارث، ثم خوفت الخليفة منه فقلت:
بني أمية، اني ناصح لـكـم |
|
فلا يبيتن فيكم آمنـا زفـر |
مفترشا كافتراش الليث كلكلة |
|
لوقعة كائن فيها له جـزر |
ومدحت سماك بن مخرمة فقلت:
قدكنت أحسبه قينا وأخبـره، |
|
فاليوم طير عن أثوابه الشرر |
لو أردت المبالغة في هجائه ما زدت على هذا! فقال لي الأخطل: والله لولا أنك من قوم سبق لي منهم ما سبق، لهجوتك هجاء يدخل معك قبرك. ثم قال:
ما كنت هاجي قوم بعد مدحهم |
|
ولا تكدر نعمي بعد ما تجب |
مقلدات الأخطل أنا أبو خليفة، أنا أبو سلام أنا أبو الغراف قال: أنشد الأخطل قصيدته التي يقول:
واذا افتقرت الي الذخائر، لم تجد |
|
ذخرا يكون كصالح الأعمـال |
فقال له هشام بن عبد الملك: هنيئا لك أبا مالك الإسلام! - أو قال: أسلمت! - قال: مازلت مسلماً! - يقول: في ديني -.
أخبرنا أبو خليفة اجازة، عن محمد بن سلام قال، قال لي معاوية بن أبي عمرو بن العلاء: أي البيتين عندك أجود؟: قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح |
أم قول الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم |
|
وأعظم الناس أحلاما اذا قدروا |
فقلت: بيت جرير أحلى وأسير، وبيت الأخطل أجزل وأرزن. فقال: صدقت! وهكذا كانا في أنفسهما عند الخاصة والعامة.
وقال الأخطل فيها:
حشد على الحق، من قول الخناخـرس |
|
وان ألمت بهم مكـروهة صـبـروا |
بنـي أمـية، انـي نـاصـح لـكـم |
|
فلا تبـيتـن فـيكـم آمـنـا زفـر |
فان مـشـهـدة كـفـر وغـــائلة |
|
وما تغـيب مـن أخـلاقـه دعـر |
ان العداوة تلقـاهـا، وان أقـدمـت، |
|
كالعهر يكمـن أحـيانـاويتـنـشـر |
بني أمية، قـد نـاضـلـت دونـكـم |
|
أبناء قوم هـم آووا وهـم نـصـروا |
وقيس عيلان حتى أقبـلـوا رقـصـا |
|
فبايعوك جهارا بـعـدمـا كـفـروا |
ضجوا من الحرب اذ عضت غواربهم، |
|
وقيس عيلان من أخلاقها الضـجـر |
وقوله لجرير:
قوم اذا استنبح الأضياف كلبهم، |
|
قالوا لأمهم: بولي على النار |
وقوله له:
يا ابن المراغة، ان عمى اللذا |
|
قتلا الملوك وفككا الأغـلالا |
وأخوهم السفاح ظمأ خـيلـه |
|
حتى وردن جبى الكلاب نهالا |
فانعق بضأنك يا جرير فإنمـا |
|
منتك نفسك في الخلاء ضلالا |
منتك نفسك أن تكون كـدارم |
|
أو أن توازن حاجبا وعقـالا |
وقوله في قصيدته التي أوقع فيها بقيس قبيلة قبيلة، وشبب بهند بنت أسماء:
ألا يا اسلمى ياهند هند بنـي بـدر |
|
وإن كان حيانا عدي آخر الدهـر |
وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتنـي |
|
بسهمك والرامي يصيب ولا يدري |
وقال فيها:
وقد سرني من قيس عيلان أننـي |
|
رأيت بني العجلان سادوا بني بدر |
قال: واستنشد سلم بن قتيبة - وهو أمير على البصرة - عيسى بن عمر، وكان أحسن الناس نشيدا، فأنشده كلمة الأخطل هذه فلما مضى فيها انتبه فأقصر. فقال له سلم: اضرب بها وجوهنا في ظلمة الليل أبا عمرو.
وقوله لجرير:
نخست بيربوع لتدرك دارمـا! |
|
لقد ضل من مناك تلك الأمانيا! |
جريت شباب الدهر لم تستطعهم |
|
أفالآن لما أصبح الدهر فانـيا! |
أتشتم قوما أثلوك بـنـهـشـل |
|
ولولاهم كنتم كعكل مـوالـيا؟ |
وقوله لمصقلة بن هبيرة الشيباني:
دع المغمر لا تسأل بمصـرعـه |
|
واسأل بمصقلة البكري: ما فعلا؟ |
إن ربيعة لن تنـفـك صـالـحة |
|
ما دافع الله عن حوبائك الأجـلا |
وقوله لبشر بن مروان:
إذا أتيت أبا مـروان تـسـألـه |
|
وجدته: حاضراه الجود والحسب |
وقوله:
فقلت: أصبحونا لا أبا لأبيكـم؟ |
|
وما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا |
وقال فيها لخالد بن عبد الله بن أسيد:
أبي عودك المعجوم إلا صلابة |
|
وكفاك إلا نائلا حين تـسـأل |
وقوله:
وشارب مربح بالكأس نادمنـي |
|
لا بالحصور ولا فيها بسـوار |
عذراء لم يجتل الخطاب بهجتها |
|
حتى اجتلاها عبادي بـدينـار |
وقوله ليزيد بن معاوية:
وترى عليه إذا العيون شزرنه |
|
سيما الحليم وهيبة الجـبـار |
الراعي والراعي: عبيد بن حصين، كان من رجال العرب ووجوه قومه، وكان يقال له في شعره: كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل! أي أنه لا يحتذي شعر شاعر ولايعارضه، وكان مع ذلك بذيا هجاء لعشيرته، قال له جرير:
وقرضك في هوازن شر قرض |
|
تهجيها وتمتـدح الـوطـابـا |
قال ابن سلام: وسمعت يونس وقيل له: ما يعني الراعي بقوله:
يبيت الحية النضناض منـه |
|
مكان الحب يستمع السرارا |
قال يونس: الحب: القرط، وقال: الشنف. والنضناض: الذي يخرج لسانه. قال يونس: يقولون: "حية ذكر، ونعامة ذكر، وشاة ذكر، وبطة ذكر" - ولم أسمعه منه -.
وكان بعد هجاء جرير له مغلبا. قال رجل من قومه، علامة وراوية فصيح: كان فحل مضر حتى ضغمه الليث! يعني جريرا.
ولقد هجا الراعي فأوجع. قال لابن الرقاع العاملي:
لو كنت من أحد يهجى هجوتكـم |
|
يا ابن الرقاع ولكن لست من أحد |
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبـا |
|
وابنا نزار فأنتم بيضة الـبـلـد |
أخبرنا أبو خليفة قال، أخبرنا محمد بن سلام قال، قال أبو الغراف: جاور راعي الإبل بني سعد بن زيد مناة بن تميم، فنسب بامرأة منهم، من بني شمس، ثم أحد بني وابش، فقال:
بني وابش إنا هوينا جـواركـم |
|
وما جمعتنا نية قبلهـا مـعـا |
خليطين من حيين شتى تجـاورا |
|
جميعا وكانا بالتفريق أضـيعـا |
أرى أهل ليلى لا يبالي أميرهم |
|
على حالة المحزون أن يتصدعا |
وقال فيها أيضا:
تذكر هذا القلب هند بـنـي سـعـد! |
|
سفاها وجهلا ما تذكر مـن هـنـد!! |
تذكر عهدا كـان بـينـي ووبـينـهـا |
|
قديما وهل أبقت لك الحرب من عهد!! |
قال ابن سلام: فلما بلغهم شعره أزعجوه وأصابوه بأذى، فخرج عنهم، وقال فيهم:
أرى إبلي تكالأ راعـياهـا |
|
مخافة جارها الدنس الذميم |
وقد جاورتهم فرأيت سعـدا |
|
شعاع الأمر عازبة الحلـوم |
فأمى أرض قومك! إن سعدا |
|
تحملت المخازي عن تمـيم |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، وحدثني أبو يحيى الضبي قال: وفد الراعي إلى عبد الملك يشكو بعض عماله، وكانت قيس زبيرية، وكان عبد الملك ثقيل النفس عليه، فأتاه وقد قال في مديحه بشر بن مروان، في كلمة يعتذر من تزبر قومه:
فلو كنت من أصحاب مروان إذ دعا |
|
بعذراء يممت الهـدى إذ بـدالـيا |
على بردى إذ قال: إن كان عهدهم |
|
أضيع فكونـوا لاعـلـى ولالـيا |
ولكنني غبيت عنهـم فـلـم يطـع |
|
رشيد ولم تعص العشـيرة غـاويا |
قال: فأنشدتها جابر بن جندل، أبا عبد الله الفزاري، فقال: هو الذي يخطب الدراهم حتى أتت قومه.
وقال لعبد الملك:
إني حلفت على يمـين بـرة |
|
لا أكذب اليوم الخلـيفة قـيلا |
ما إن أتيت أبا خبـيب وافـدا |
|
يوما أردت لبيعتـي تـبـديلا |
ولا أتيت نجيدة بن عـويمـر |
|
أبغى الهدى فيزيدني تضلـيلا |
أزمان قومي والجماعة كالذي |
|
لزم الرحالة أن تميل ممـيلا |
أخذوا العريف فشققوا حيزومه |
|
بالأصبحية قائما مـغـلـولا |
كهداهد كسر الرماة جنـاحـه |
|
يدعو بقارعة الشريف هديلا |
فارفع مظالم عيلت أبنـاءنـا |
|
عنا وأنقذ شلونا الـمـأكـولا |
ولئن بقيت لأدعـون لـطـية |
|
تدع الفرائض بالشريف قليلا |
فقال له عبد الملك: وأين من الله والسلطان، لا أم لك؟! فقال: يا أمير المؤمنين: من عامل إلى عامل، ومصدق إلى مصدق فلم يحظ ولم يحل منه بشيء.
فوفد إليه من قابل، فقال في كلمة أخرى:
أما الفقير الذي كانت حلوبته |
|
وفق العيال فلم يترك له سبد |
واختل ذو المال والمثرون قد بقيت |
|
على التلاتل من أموالهم عـقـد |
فإن رفعت بهم رأسا نعشـتـهـم |
|
وإن لقوا مثلها في قابل فسـدوا |
فقال له عبد الملك: أنت العام أعقل منك عام أول.
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، حدثني أبو الورد الكلابي قال: اجتمع الراعي: أما الشعر فالأمير أعلم به، ولكن والله ماتمخضت تغلبية عن مثلك! - وأم بشر: قطية بنت بشر بن عامر بن مالك أبي براء ملاعب الأسنة - وقال له الراعي:
نزلت من البطحاء في آل جعفر |
|
ومن عبد شمس منزلا متعالـيا |
وقال الأخطل في حرب تغلب وقيس، في التي هجا فيها قبائل قيس:
وقد سرني من قيس عيلان أننـي |
|
رأيت بني العجلان سادوا بني بدر |
وقد غبر العجلان حينا إذا بـكـى |
|
على الزاد ألقته الوليدة في الكسر |
فيصبح كالخفاش يدلـك عـينـه |
|
فقبح من وجه لئيم ومن حـجـر |
فعارضه الراعي فقال:
برهظ ابن كلثوم بدأنا فأصبحوا |
|
لتغلب أذنابا وكانوا نواصـيا |
وغارتنا أودت ببهراء إنـهـا |
|
تصيب الصريح مرة والمواليا |
وقال وكانت امرأة من العرب، من بني نمير، حسانة، وكانت تظغن مع الراعي إذا ظغن، وتحل معه إذا حل. فغار رجل منهم - يقال إنه من قيس كبة - فقطع بطانها لما رحلت، فسقط هودجها وعنتت، فقال الراعي:
ولم أر معقورا به وسط معـشـر |
|
أقل انتصارا باللـسـان وبـالـيد |
سوى نظر ساج بـعـين مـريضة |
|
جرت عبرة منها ففاضت بإثـمـد |
بكت عين من أذرى دموعك إنمـا |
|
وشى بك واش من بني أخت مسرد |
فلو كنت معذورا بنصرك طـيرت |
|
صقوري غربان البعير الـمـقـيد |
قال وكان أوس بن مغراء السعدي القريعي يهاجي النابغة الجعدي وراعي الإبل وابن السمط، من بني عامر بن صعصعة، فقال الراعي لأوس بن مغراء:
وأوس بن مغراء الهجين يسبني |
|
وأوس بن مغراء الهجين أعاقبه |
تمنى قريش أن تكون أخاهـم! |
|
لينفعك القول الذي أنت كاذبه! |
قريش الذي لا تستطيع كلامـه |
|
ويكسر عند الباب أنفك حاجبه!! |
فسالم أوس بن مغراء، الجعدي وابن السمط، فقال الراعي في صلحهم:
فإن كنت يا ابن السمط سالمت دوننا |
|
وقيس أبو ليلى فلمـا نـسـالـم |
وإن كنتما أعطيتما القوم موثـقـا |
|
فلا تغدوا واستسمعا للـمـراجـم |
فإني زعـيم أن أقـول قـصـيدة |
|
محبرة كالنقب بين الـمـخـارم |
خفيفة أعجاز المـطـي ثـقـيلة |
|
على قرنها نزالة بـالـمـواسـم |
أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، حدثني جابر بن جندل الفزاري بقصة، وفي إثرها قال: وضاف الراعي رجل من بني كلاب في سنة حصاء ولم يحضره قرى، وكان الكلابي على ناب له، فأمر الراعي ابن أخ له، يقال له حبتر، فنحرها، فأطعمها إياه ولا يعلم الكلابي فعيره بنوعم له من قومه كانوا يهاجونه: الحلال وخنزر، فزعم أنه أخلفها له، وقال الراعي:
عجبت من السارين والـريح قـرة |
|
إلى ضوء نار بين فردة والـرحـا |
||
إلى ضوء نار يستوي القد أهلـهـا |
|
وقد يكرم الأضياف والقد يشتـوي |
||
فلما أتونا فـاشـتـكـينـا إلـيهـم |
|
بكوا وكلا الحيين مما بـه بـكـى |
||
بكى معوز مـن أن يلام وطـارق |
|
يشد من الجوع الإزار على الحشـا |
||
فطأطأت طرفي هل أرى من سمينة |
|
تدارك فيها ني عامين والصـوى! |
||
فأبصرتها كـومـاء ذات عـريكة |
|
هجانا من اللاتي تمتعن بالصـوى |
||
فأومضت إيماضا خفيا لـحـبـتـر |
|
ولله عينا حبـتـر! أيمـا فـتـى! |
||
فقلت له: ألصق بأيبـس سـاقـهـا |
|
فإن يجبر العرقوب لا يرقأ النسـا |
||
فقام إليهـا حـبـتـر بـسـلاحـه |
|
مضى غير منكود ومنصله انتضى |
||
كأني وقد أشبعته من سـنـامـهـا |
|
كشفت غطاء عن فؤاجي فانجلـى |
||
فبتـنـا وبـاتـت قـدرنـا هـزة |
|
لنا قبل ما فيه شواء ومصطـلـى |
||
وأصبح راعينـا بـريمة عـنـدنـا |
|
بستين أنقتـهـا الأسـنة والـخـلا |
||
فقلت لرب الناب: خذها فتـية |
|
وناب عليها مثل نابك في الحيا |
||