باب حكم الماء الطاهر
يجوز التطهر من الحدث والنجاسة بكل ماء نزل من السماء : من المطر وذوب الثلج والبرد ، لقوله تعالى :{وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به} وقول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد متفق عليه . وبكل ما نبع من الأرض ، من العيون ، والبحار ، والآبار ، لما روى أبوهريرة رضي الله عنه قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .وكان النبي يتوضأ من بئر بضاعة رواه النسائي .
فصل :
فإن سخن بالشمس ، أوبطاهر ، لم تكره الطهارة به ، لأنها صفة خلق عليها الماء ، فأشبه ما لوبرده ، وإن سخن بنجاسة يحتمل وصولها إليه ، ولم يتحقق فهوطاهر ، لأن الأصل طهارته ، فلا تزول بالشك ، ويكره استعماله لاحتمال النجاسة . وذكر أبوالخطاب رواية أخرى : أنه لا يكره ، لأن الأصل عدم الكراهية . وإن كانت النجاسة لا تصل إليه غالباً ، ففيه وجهان :
أحدهما :يكره ، لأنه يحتمل النجاسة ، فكره كالتي قبلها .
والثاني : لا يكره ، لأن احتمال النجاسة بعيد ، فأشبه غير المسخن .
وإن خالط الماء طاهر لم يغيره ، لم يمنع الطهارة به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم : اغتسل مع زوجته في قصعة فيها أثر العجين رواه النسائي وابن ماجة والأثرم [و] لأن الماء باق على إطلاقه .
فإن كان معه ماء يكفيه لطهارته فزاده مائعاً لم يغيره ، ثم [تطهر] ،به ، صح لما ذكرنا .
وإن كان الماء لا يكفيه لطهارته ، فكذلك ، لأنه المائع استهلك في الماء كالتي قبلها .
وفيه وجه آخر : لا تجوز الطهارة به ، لأنه أكملها بغير الماء ، فأشبه ما لوغسل به بعض أعضائه .
وإن غير الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه أربعة :
أحدها : ما يوافق الماء في الطهورية ، كالتراب ، وما أصله الماء كالملح المنعقد من الماء ، فلا يمنع الطهارة به ، لأنه يوافق الماء في صفته ، أشبه الثلج .
والثاني : ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود ، فلا يمنع ، لأنه تغير عن مجاورة ، فأشبه ما لوتغير الماء بجيفة قربة .
الثالث : ما لا يمكن التحرز منه ، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء ، وما يجري عليه الماء من الكبريت والقار وغيرهما ، وورق الشجر على السواقي والبرك ، وما تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما ، فلا يمنع ، لأنه لا يمكن صون الماء عنه .
الرابع : ما سوى هذه الأنواع ، كالزعفران والأشنان والملح المعدني ، وما لا ينجس بالموت كالخنافس والزنابير ، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في الماء قصداً ، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً ، أوحبراً ، أوطبخ فيه ، سلبه الطهورية [بغير] خلاف ، لأنه زال اسم الماء ، فأشبه الخل .
وإن غير إحدى صفاته طعمه أولونه أوريحه ، ولم يطبخ فيه ، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لا يمنع ، لقول الله تعالى : {فلم تجدوا ماءً فتيمموا} ، ولأنه خالطه طاهر لم يسلبه اسمه ، ولا رقته ، ولا جريانه ، أشبه سائر الأنواع .
وعنه : لا تجوز الطهارة به ، لأنه سلب إطلاق اسم الماء ، أشبه ماء الباقلاء المغلي ، وهذا اختيار الخرقي ، وأكثر الأصحاب .
فصل :
فأن استعمل في رفع الحدث ، فهوطاهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم : صب على جابر من وضوئه رواه البخاري . ولأنه لم يصبه نجاسة فكان طاهراً ، كالذي تبرد به .وهل تزول طهوريته به ؟
فيه روايتان :
أشهرهما : زوالها ، لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران .
والثانية : لا تزول لأنه استعمال لم يغير الماء ، أشبه التبرد به .
وإن استعمل في طهارة مستحبة ، كالتجديد وغسل الجمعة ، والغسلة الثانية والثالثة ، فهوباق على إطلاقه ، لأنه لم يرفع حدثاً ، ولم يزل نجساً .
وعنه أنه غير مطهر ، لأنه مستعمل في طهارة شرعية ، أشبه المستعمل في رفع الحدث .
فصل :
وإن استعمل في غسل نجاسة ، فانفصل متغيراً بها أوقبل زوالها ، فهونجس ، لأنه متغير بنجاسه ، أوملاق لنجاسة لم يطهرها ، فكان نجساً ، كما لووردت عليه .
وما انفصل من الغسلة التي طهرت المحل غير متغير ، فهوطاهر إن كان المحل أرضاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء متفق عليه .
فلوكان المنفصل نجساً لكان تكثيراً في النجاسة .
وإن كان غير الأرض ، ففيه وجهان :
أظهرهما : طهارته كالمنفصل عن الأرض ، ولأن البلل الباقي في المحل طاهر والمنفصل بعد المتصل ، فكان حكمه حكمه .
والثاني : هونجس ، لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فتنجس بها ، كما لووردت عليه .
فإن قلنا بطهارته ، فهل يكون مطهراً ؟ على وجهين على الروايتين في المستعمل في رفع الحدث ، وقد مضى توجيههما .
فصل : وإذا انغمس المحدث في ماء يسير ينوي به رفع الحدث ،صار مستعملاً لأنه استعمل في رفع الحدث،ولم يرفع حدثه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه وهوجنب رواه مسلم . والنهي يقضي فساد المنهي عنه ، ولأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً فلم يرتفع الحدث عن سائره .
فصل :
وما سوى الماء من المائعات كالخل [والمرق] والنبيذ ، وماء الورد ، والمعتصر من الشجر ، لا يرفع حدثاً ، ولا يزيل نجساً ، ولقوله تعالى : {فلم تجدوا ماءً فتيمموا} فأوجب التيمم على من لم يجد ماء وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب : تحتيه ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه متفق عليه . فدل على أنه لا يجوز بغيره . والله أعلم
باب الماء النجس
إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته ، نجس بغير خلاف ، لأن تغيره لظهور أجزاء النجاسة فيه .
وإن لم تغيره لم يخل من حالين :
أحدهما :أن يكون قلتين فصاعداً ، فهوطاهر لم روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع ، فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث رواه الأئمة . وقال الترمذي : هذا الحديث حسن ، وفي لفظ لم ينجسه شيء وروى أبوسعيد رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله ، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي : بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؟ فقال : الماء طهور ولا ينجسه شيء . قال أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح .
قال أبوداود : قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع ، ولأن الماء الكثير لا يمكن حفظه في الأوعية ، فعفي عنه كالذي لا يمكن نزحه .
الثاني : ما دون القلتين ، ففيه روايتان :
أظهرهما : نجاسته لأن قوله : إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء يدل على أن ما لم يبلغها ينجس ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ، فليغسله سبع مرات متفق عليه . فدل على نجاسته من غير تغيير ، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه [في الأوعية] فلم يعف عنه ، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير .
والثانية : هوطاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الماء طهور لا ينجسه شيء . وروى أبوإمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على لونه أوطعمه أوريحه رواه ابن ماجة . ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير .
فصل :
وفي قدر القلتين روايتان :
إحداهما : [إنهما] أربعمائة رطل بالعراقي ، لأنه روي عن ابن جريج ويحيى بن عقيل : أن القلة تأخذ قربتين ، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصارت القلتان بهذه المقدمات أربعمائة رطل .
والثانية : هما خمسمائة رطل ، لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال : رأيت قلال هجر ، فرأيت القلة منها تسع قربتين أوقربتين وشيئاً . فالاحتياط أن يجعل الشيء نصفاً فيكونان خمس قرب .
وهل هذا تحديد أوتقريب ؟ .
فيه وجهان :
أظهرهما : أنه تقريب ، فلونقص رطل أورطلان لم يؤثر ، لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً ، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف ، وهذا لا تحديد فيه .
والثاني : أنه تحديد ، فلونقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة ، لأنا جعلنا ذلك احتياطاً ، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً ، كغسل جزء من الرأس مع الوجه .
فصل :
وجميع النجاسات في هذا سواء ما عدا بول الآدميين ، وعذرتهم المائعة ، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه متفق عليه . إلا أن يبلغ حداً لا يمكن نزحه ، كالغدران والمصانع بطريق مكة ، فذلك الذي لا ينجسه شيء ، لأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم ينصرف إلى ما كان في أرضه على عهده من آبار المدينة ونحوها .
وعنه أنه كسائر النجاسات لعموم الأحاديث التي ذكرناها ، ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام ، فكذلك في تنجيس الماء ، وحديث البول لا بد من تخصيصه ، فنخصه بخبر القلتين .
فصل :
وإذا وقعت النجاسة في ماء فغيرت بعضه فالمتغير نجس ، وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهوطاهر لعموم الأخبار فيه ، ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة ، فكان طاهراً كما لولم يتغير فيه شيء . وإن نقص عنهما فهونجس ، لأنه ماء يسير لاقى ماء نجس فنجس به . فإذا كان بين الغديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد .
فصل :
فأما الماء الجاري إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة ، فالجرية المتغيرة نجسة وما أمامها طاهر لأنها لم تصل إليه ، وما وراءها طاهر، لأنه لم يصل إليها . وإن لم يتغير منه شيء ، احتمل أنه لا ينجس لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض فيدخل في عموم الأخبار السابقة أولاً ، فلم ينجس كالراكد . ولوكان ماء الساقية راكداً لم ينجس إلا بالتغير ، فالجاري أولى لأنه أحسن حالاً .
وجعل أصحابنا المتأخرون كل جرية كالماء المنفرد ، فإذا كانت النجاسة في جرية تبلغ قلتين ، فهي طاهرة ما لم تتغير . وإن كان دون القلتين فهي نجسة ، وإن كانت النجاسة واقفة ، فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين ، فهي طاهرة وإلا فهي نجسة. وإن اجتمعت الجريات ، فكان في الماء قلتان طاهرتان ، متصلة لاحقة ، أوسابقة ، فالمجتمع كله طاهر ، إلا أن يتغيربالنجاسة ، لأن القلتين تدفعان النجاسة عن نفسهما ويطهرهما ما اجتمع معهما ، وإن لم يكن فالجميع نجس والجرية ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها وما قرب منها مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر .
فصل :
وهوفي ثلاثة أقسام :
الأول: ما دون القلتين ، فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين ، إما أن ينبع فيه ، أويصب عليه ، وسواء كان متغيراً فزال تغيره أوغير متغير فبقي بحاله .
الثاني : قدر قلتين ، فتطهيره بالمكاثرة المذكورة ، أوبزوال تغيره بمكثه .
الثالث : الزائد عن القلتين ، فتطهيره بهذين الأمرين ، أوبنزح يزيل تغيره ويبقى بعده قلتان ، ولا يعتبر صب الماء دفعة واحدة ، لأن ذلك يشق ، لكن يصبه على حسب ما أمكنه من المتابعة ، إما أن يجريه من ساقية ، أويصبه دلواً فدلواً . وإن كوثر بماء دون القلتين ، أوطرح فيه تراب ، أوغير ماء ، لم يطهره ، لأن ذلك لا يدفع النجاسة عن نفسه ، فلم يطهره الماء ، كما لوطرح فيه مسك ، ويتخرج أن يطهره ، لأنه تغير الماء ، فأشبه ما لوزال بنفسه ، ولأن علة التنجيس في الماء الكثير التغير ، فإذا زالت زال حكمها ، كما لوزال تغيير المتغير بالطاهرات .
فأما ما دون القلتين ، فلا يطهر بزوال التغير ، لأن العلة فيه المخالطة لا التغير .
فصل :
فإن اجتمع نجس إلى نجس ، فالجميع نجس وإن كثر ، لأن اجتماع النجس إلى النجس لا يتولد بينهما طاهر ، كالمتولد بين الكلب والخنزير ، ويتخرج أن يطهر إذا زال التغير ، وبلغ القلتين ، لما ذكرناه ، وإن اجتمع مستعمل إلى مثله ، فهوباق على المنع ، فإذا اجتمع مستعمل إلى طهور يبلغ القلتين ، فالكل طهور ، لأن القلتين تزيل حكم النجاسة ، فالاستعمال أولى ، فإن اجتمع مستعمل إلى طهور دون القلتين ، وكان المستعمل يسيراً ،عفي عنه ، لأنه لوكان مائعاً غير الماء ، عفي عنه ، فالمستعمل أولى وإن كثر ، بحيث لوكان مائعاً غلب على أجزاء الماء ، منع كغيره من الطاهرات .
باب الشك في الماء
إذا شك في نجاسته لم يمنع الطهارة به ، سواء وجد متغيراً أوغير متغير ، لأن الأصل الطهارة ، والتغير يحتمل أن يكون من مكثة ، أوبما لا يمنع ، فلا يزول في الشك .
وإن تيقن نجاسته ، ثم شك في طهارته ، فهونجس ، لأن الأصل نجاسته .
وإن علم وقوع النجاسة فيه ، ثم وجد متغيراً تغيراً يجوز أن يكون منها ، فهونجس ، لأن الظاهر تغيره بها .
وإن أخبره ثقة بنجاسة الماء ، لم يقبل حين يعين سببها لاحتمال اعتقاده نجاسته بما لا ينجسه ، كموت ذبابة فيه ، وإن عين سببها ، لزمه القبول ، رجلاً كان أوامرأة ، بصيراً أوأعمى ، لأنه خبر ديني ، فلزمه قبوله كرواية الحديث ، ولأن للأعمى طريقاً إلى العلم بالحس والخبر ، ولا يقبل خبر كافر ، ولا صبي ولا مجنون ولا فاسق ، لأن روايتهم غير مقبولة .
وإن أخبره أن كلباً ولغ في هذا الإناء دون هذا وقال آخر : إنما ولغ في هذا الإناء دون ذاك حكم بنجاستهما ، لأنه يمكن صدقهما ، لكونهما في وقتين . أوكانا كلبين . وإن عينا كلباً ووقتاً لا يمكن لا يمكن شربه فيه منهما ، تعارضا وسقط قولهما ، لأنه لا يمكن صدقهما ، ولم يترجح أحدهما .
فصل :
وإن اشتبه الماء النجس بالطاهر ، تيمم ، ولم يجز له استعمال أحدهما ، سواء كثر عدد الطاهر أولم يكثر . وحكي عن أبي علي النجاد أنه إذا كثر عدد الطاهر ، فله أن يتحرى ويتوضأ بالطاهر عنده ، لأن احتمال إصابة الطاهر أكثر ، والأول المذهب ، لأنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة ، فلم يجز التحري كما لوكان النجس بولاً ، أوكثر عدد النجس أواشتبهت أخته بأجنبيات ، ولأنه لوتوضأ بأحدهما ثم تغير اجتهاده في الوضوء الثاني ، فتوضأ بالأول ، لتوضأ بماء يعتقد نجاسته ، وإن توضأ بالثاني من غير غسل أثر الأول ، تنجس يقيناً وإن غسل أثر الأول ، نقض اجتهاده باجتهاده ، وفيه حرج ينتفي بقوله سبحانه : {وما جعل عليكم في الدين من حرج} فتركهما أولاً أولى .
وهل يشترط لصحة التيمم إراقتها أوخلطهما ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يشترط ليتحقق عدم الطاهر .
والثانية : لا يشترط ، لأن الوصول إلى الطاهر متعذر ، واستعماله ممنوع منه ، فلم يشترط عدم كماء الغير .
وإن اشتبه مطلق بمستعمل ، توضأ من كل إناء وضوءاً لتحصل له الطهارة بيقين ، وصلى صلاة واحدة . وإن اشتبهت بالثياب الطاهرة بالنجسة ، وأمكنه الصلاة في عدد النجس ، وزيادة صلاة ، لزمه ذلك لأنه أمكنه تأدية فرضه يقيناً من غير مشقة ، فلزم كما لواشتبه المطلق بالمستعمل ، وإن كثر عدد النجس ، فذكر بن عقيل أنه يصلي في أحدها بالتحري ، لأن اعتبار اليقين يشق ، فاكتفى بالظاهر ، كما لواشتبهت القبلة .
فصل :
وهوثلاثة أقسام :طاهر ، وهوثلاثة أنواع :
أحدها : الآدمي متطهراً كان ، أومحدثاً ، لما روى أبوهريرة ، قال لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فانخنست منه ، فاغتسلت ، ثم جئت ، فقال : أين كنت يا أبا هريرة ؟ قلت يا رسول الله ! كنت جنباً ، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة ، فقال : سبحان الله ! إن المؤمن ليس بنجس متفق عليه . وعن عائشة : أنها كانت تشرب من الإناء ، وهي حائض فيأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيها فيشرب رواه مسلم .
النوع الثاني : ما يؤكل لحمه ، فهوطاهر بلا خلاف .
الثالث : ما لا يمكن التحرز منه ، وهوالسنور ، وما دونها من الخلقة ، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك قالت : دخل علي أبوقتادة ، فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟! قلت نعم ، قال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : إنها ليس بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات رواه الترمذي ، وقال :حديث حسن صحيح . دل بمنطوقه على طهارة الهرة ، وبتعليله على الطهارة ما دونها ، لكونه مما يطوف علينا ، ولا يمكن التحرز عنه ، كالفأرة ونحوها ، فهذا سؤره وعرقه وغيرهما طاهر .
القسم الثاني : نجس ، وهو: الكلب والخنزير ، وما تولد منهما فسؤره نجس ، وجميع أجزائه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً متفق عليه . ولولا نجاسته ما وجب غسله ، والخنزير شر منه ، لأنه منصوص على تحريمه ، ولا يباح إنقاذه بحال . وكذلك ما تولد من النجاسات كدود الكنيف وصراصره ، لأنه متولد من نجاسة ، فكان نجساً ، كولد الكلب .
القسم الثالث : مختلف فيه ، وهوثلاثة أنواع كذلك :
أحدهما : سائر سباع البهائم والطير ، وفيهما روايتان :
إحداهما : أنها نجسة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال : إذا كان الماء قلتين ، لم ينجسه شيء فمفهومه : أنه ينجس إذا لم يبلغها ، ولأنه حيوان حرم لخبثه يمكن التحرز عنه ، فكان نجساً كالكلب .
والثانية : أنها طاهرة لما روى أبوسعيد الخدري أن رسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، تردها السباع والكلاب الحمر ، وعن الطهارة بها ، فقال : لها ما أخذت في أفواهها ، ولنا ما غبر طهور رواه ابن ماجة .
ومر عمر بن الخطاب وعمروبن العاص بحوض فقال عمرو: يا صاحب الحوض ! ترد على حوضك السباع ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض ! لا تخبرنا ، فإنا نرد عليها ، وترد علينا . رواه مالك في الموطأ .
النوع الثاني : الحمار الأهلي والبغل ، ففيهما روايتان :
إحداهما : نجاستهما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :في الحمر يوم خبير : إنها رجس متفق عليه ولما ذكرنا من السباع .
والثانية : أنها طاهرة ، لأنه قال : إذا لم يجد غير سؤرهما ، تيمم معه ، ولوشك في نجاسته، لم يبح استعماله ، ووجهها ما روى جابر أن رسول (صلى الله عليه وسلم) سئل : أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال نعم ، وبما أفضلت السباع كلها رواه الشافعي في مسنده . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار والبغال ، وكان الصحابة يقتنونها ويصحبونها في أسفارهم ، فلوكانت نجسة ، لبين لهم نجاستها ، ولأنه لا يمكن التحرز عنها لمقتنيها ، فأشبهت الهرة ويحكم بطهارته ، ويجوز بيعها ، فأشبهت مأكول اللحم .
النوع الثالث : الجلالة وهي أكثر علفها النجاسة ، ففيها روايتان :
إحداهما : نجاستها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مركوب الجلالة وألبانها ، رواه أبوداود. ولأنها تنجست بالنجاسة ، والريق لا تطهر .
والثانية : أنها طاهرة ، لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة ، وهما طاهران .
وحكم أجزاء الحيوان من جلده وشعره وريشه حكم سؤره . لأنه من أجزائه ، فأشبه فمه ، فإذا وقع في الماء ثم خرج حياً ، فحكم ذلك حكم سؤره .
قال أحمد في فأرة سقطت في ماء ، ثم خرجت حية : لا بأس به .
فصل :
إذا أكلت الهرة نجاسة ، ثم شربت من ماء بعد غيبتها ، لم ينجس ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس مع علمه بأكل النجاسات . وإذا شربت قبل الغيبة ، فقال أبوالحسن الآمدي : ظاهر قول أصحابنا : طهارته ، للخبر . ولأننا حكمنا لطهارتها بعد الغيبة ، واحتمال طهارتها بها شك لا يزيل يقين النجاسة .
وقال القاضي : ينجس ، لأن أثر النجاسة في فمها ، بخلاف ما بعد الغيبة ، فإنه يحتمل أن تشرب من ماء يطهر فاها، فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك .
فصل :
والحيوان الطاهر على أربعة أضرب :
أحدها : ما تباح ميتته ، كالسمك ونحوه ، والجراد وشبهه فميتته طاهرة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والحل ميتته .
والثاني : ما ليست له نفس سائلة ، كالذباب والعقارب والخنافس ، فهوطاهر حياً وميتاً ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء أحدكم ، فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء {رواه البخاري بمعناه فأمر بمقله ، ليكون شفاء لنا إذا أكلنا ، ولأنه لا نفس له سائلة ، أشبه دود الخل إذا مات فيه .
والثالث : الآدمي ، ففيه روايتان :
أظهرهما : أنه طاهر بعد الموت ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليس بنجس ولأنه لوكان نجس العين ، لم يشرع غسله ، كسائر النجاسات .
والثانية : هونجس ، قال أحمد في صبي مات في بئر : تنزح ، وذلك لأنه حيوان له سائلة أشبه الشاة .
والرابع : ما عدا ما ذكرنا ، ما له نفس سائلة لا تباح ميتته ، فميتته نجسة ، لقوله تعالى : {حرمت عليكم الميتة} وقوله تعالى : {إلا أن يكون ميتة أودماً مسفوحاً أولحم خنزير فإنه رجس}.
باب الآنية
وهي ضربان :
مباح من غير كراهية : وهوإناء طاهر من غير جنس الإثمان ، ثميناً كان أوغير ثمين ، كالياقوت والبلور والعقيق والخزف والخشب والجلود والصفر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من جفنة ، وتوضأ من تور من صفر ، وتور من حجارة ، ومن قربة وإداوة .
والثاني : محرم ، وهوآنية الذهب والفضة ، لما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا من صحافهما ، فإن لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة ، وقال : الذي يشرب من آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليهما . فتوعد عليه بالنار ، فدل على تحريمه ، ولأن فيه سرفاً وخيلاء ، وكسر قلوب الفقراء ، ولا يحصل هذا في [ثمين] الجواهر ، لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس ، ويحرم اتخاذها ، ولأن ما حرم استعماله ، حرم اتخاذه [على] هيئة الاستعمال ، كالطنبور ، ويستوي في ذلك الرجال والنساء ، لعموم الخبر . وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى الزينة للأزواج ، فما عداه تجب التسوية فيه بين الجميع ، وما ضبب بالفضة أبيح إذا كان يسيراً ، لما روى أنس أن قدح الرسول صلى الله عليه وسلم انكسر ، فاتخذ من مكان الشعب سلسلة من فضة . رواه البخاري .
ولا يباح الكثير ، لأن فيه سرفاً ، فأشبه الإناء الكامل ، واشترط أبوالخطاب أن يكون لحاجة ،لأن الرخصة وردت في شعب القدح ، وهو لحاجة . ومعنى الحاجة أن تدعوالحاجة إلى ما فعله به ، وإن كان غيره يقوم مقامه . وقال القاضي : يباح من غير حاجة لأنه يسير ، إلا أن أحمد كره الحلقة ، لأنها تستعمل ، وتكره مباشرة الفضة بالاستعمال ، فأما الذهب ، فلا يباح لا في الضرورة ، كأنف الذهب ، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) : رخص لعرفجة بن سعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه ، فأمره أن يتخذ أنفاً من الذهب . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح . ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها ، لأنه في معنى أنف الذهب. وذكر أبوبكر في التنبيه أنه يباح يسير الذهب . وقال أبوالخطاب : ولا بأس بقبيعة السيف بالذهب ، لأن سيف عمر كان فيه سبائك من ذهب . ذكره الإمام أحمد . وعن مزيدة العصري قال : دخل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة . رواه الترمذي ، وقال هوحديث غريب .
فصل :
فإن تطهر في آنية الذهب والفضة ، ففيه وجهان :
أحدهما : تصح طهارته ، وهذا قول الخرقي ، لأن الوضوء جريان الماء على العضووليس بمعصية ، وإنما المعصية استعمال الإناء .
والثاني : لا تصح ، اختاره أبوبكر ، لأنه استعمال للمعصية في العبادة ، أشبه الصلاة في الدار المغصوبة .
فصل :
وهم ضربان :
أحدهما : من لا يستحل الميتة كاليهود ، فأوانيهم طاهرة [مباحة الاستعمال] ، لأن النبي أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة فأجابه ، رواه أحمد في المسند وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصرانية.
والثاني : من يستحل الميتات والنجاسات ، كعبد الأصنام والمجوس ، وبعض النصارى ، فلما لم يستعملوه في آنيتهم ، فهوطاهر ، وما استعملوه فهونجس ، لما روى أبوثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ قال (صلى الله عليه وسلم) لا تأكلوا فيها ، إلا أن تجدوا غيرها ، فاغسلوها ، ثم كلوا فيها متفق عليه . وما شك في استعماله فهوطاهر ، وذكر أبوالخطاب أن أواني الكفار كلها طاهرة .
وفي كراهية استعمالها روايتان :
إحداهما : تكره ، لهذا الحديث .
والثانية : لا تكره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل فيها .
فأما ثياب الكفار ، فما لم يلبسوه ، أوعلا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان ، فهوطاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون ثياباً من نسج الكفار . وما لاقى عوراتهم ، فقال أحمد : أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيهما ، فيحتمل وجوب الإعادة ، وهوقول القاضي ، لأنهم يتعبدون بالنجاسة ، ويحتمل ألا تجب ، وهوقول أبي الخطاب ، لأن الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشك .
فصل :
وجلود الميتة نجسة ، ولا تطهر بالدباغ في ظاهر المذهب ، لقول الله تعالى : {حرمت عليكم الميتة} والجلد جزء منها . وروى أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال : قرء علينا كتاب رسول الله في أرض جهينة ، وأنا غلام شاب : أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .
قال أحمد ما أصلح إسناده ، [تعجب منه] . ولأنه جزء من الميتة ، نجس بالموت ، فلم يطهر كاللحم . وعنه : يطهر منها جلد ما كان طاهراً حال الحياة ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال : ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ قالوا : إنها ميتة ، فقال : إنما حزم أكلها متفق عليه .
ولا يطهر جلد ما كان نجساً ، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم)- نهى عن جلود السباع وعن مياثر النمور رواه الأثرم . ولأن أثر الدبغ في إزالة نجاسة حادثة بالموت ، فيعود الجلد إلى ما كان عليه قبل الموت ، كجلد الخنزير .
وهل يعتبر في طهارة الجلد المدبوغ أن يغسل بعد دبغه ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يعتبر ، لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : أيما إهاب دبغ فقط طهر متفق عليه .
والثاني : يعتبر لأن الجلد محل النجس ، فلا يطهر بغير الماء ، كالثوب .
فصل :
وعظم الميتة وقرنها وظفرها وحافرها نجس لا يطهر بحال ، لأنه جزء من الميتتة فيدخل في عموم قول الله تعالى : {حرمت عليكم الميتة} والدليل على أنه منها قول الله تعالى : {قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} . ولأن دليل الحياة الإحساس والألم ، والضرس يؤلم ويحس بالضرس ، برد الماء وحرارته ، وما فيه حياة يحله الموت ، فينجس به كاللحم .
فصل :
وصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر لأنه لا روح له ، فلا يحله الموت ، لأن الحيوان لا يألم بأخذه ، ولا يحس ، ولأنه لوكانت فيه حياة لنجس بفصله من الحيوان في حياته ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما أبين من حي فهوميت رواه أبوداود بمعناه .
فصل :
وحكم شعر الحيوان وريشه حكمه في الطهارة والنجاسة ، متصلاً كان أومنفصلاً في حياة الحيوان أوموته ، فشعر الآدمي طاهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن واتفق على معناه . ولولا طهارته لما فعل ، ولأنه شعر حيوان طاهر ، فأشبه شعر الغنم .
فصل :
ولبن الميتة نجس ، لأنه مائع في وعاء نجس ، وإنفحتها نجسة لذلك ، وعنه : أنها طاهرة ، لأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا من جبن المجوس ، وهويصنع بالإنفحة وذبائحهم ميتة . فأما البيضة : فإن صلب قشرها ، لم ينجس ، كما لووقعت من شيء نجس ، وإن لم يصلب ، فهي كاللبن .
وقال ابن عقيل : لا تنجس إذا كان عليها جلدة تمنع وصول النجاسة إلى داخلها .
فصل :وكل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح ، كذبح المجوسي ، ومتروك التسمية ، وذبح المحرم للصيد ، وذبح الحيوان غير المأكول ، لأنه ذبح غير مشروع ، فلم يطهر كذبح المرتد .
باب السواك وغيره
السواك سنة مؤكدة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة متفق عليه . وعنه عليه السلام ، أنه قال : السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه الإمام أحمد في المسند ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة : عند الصلاة ، لما ذكرنا، وإذا قام من النوم ، لما روى حذيفة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك ، متفق عليه . ولأن النائم ينطبق فمه ، ويتغير . والثالث : عند تغير الفم بمأكول أوخلومعدته ، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم ، وإزالة رائحته . ويستحب في سائر الأوقات ، لما روى شريح بن هانئ ، قال : سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته ؟ قالت بالسواك . رواه مسلم .
قال ابن عقيل : لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال ، لأنه يزيل خلوف فم الصائم ، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً ، فلم يستحب إزالته ، كدم الشهداء .
وهل يكره ؟ على روايتين :
أحدهما : يكره لذلك .
والثانية : لا يكره ، لأن عامر بن ربيعة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لا أحصي يتسوك وهوصائم . قال الترمذي : هذا الحديث حسن ، ويستاك بعود لين ينقي الفم ، ولا يجرحه ولا يتفتت فيه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك بعود أراك ، ولا يستاك بعود رمان ، لأنه يضر بلحم الفم ، ولا عود ريحان ، لأنه يروى أنه يحرك عرق الجذام ، فإن استاك بإصبعه أوخرقة ، لم يصب السنة ، لأنها لم ترد به ، ولا يسمى سواكاً ، [قال ابن عبد القوي على القول المجود] : ويحتمل أن يصيب ، لأنه يحصل من الإنقاء بقدره .
فصل :
ومن السنة تقليم الأظافر ، وقص الشرب ، ونتف الإبط وحلق العانة ، لما روى أبوهريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم الفطرة خمس : الختان ،والاستحداد ،وقص الشارب ،وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط متفق عليه .
فصل :
ويجب الختان لأنه من ملة إبراهيم ، فإنه روي أن إبراهيم عليه السلام ، ختن نفسه متفق عليه . وقد قال الله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} ولأنه يجوز كشف العورة من أجله ، ولوأنه واجب ما جاز النظر إليها لفعل مندوب .
فإن كان كبيراً وخاف على نفسه من الختان ، سقط وجوبه .
باب فرائض الوضوء وسننه
أول فرائضه : النية : وهي شرط الطهارة الأحدث كلها ، الغسل، والوضوء، والتيمم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى متفق عليه . ولأنها عبادة محضة ، فلم تصح من غير نية ، كالصلاة .
ومحل النية : القلب ، لأنها عبارة عن القصد ، ويقال : نواك بخير ، أي : قصدك به . ومحل القصد القلب ، ولا يعتبر أن يقول بلسانه شيئاً ، فإن لفظ بما نواه كان آكد . موضع وجوبها عند المضمضة ن لأنها أول واجباته ،ويستحب تقديمها على غسل اليدين والتسمية ، لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه . ويستحب استدامة ذكرها في سائر وضوءه ، فإن عزبت في أثنائها جاز ، لأن النية في أول العبادة تشمل جميع أجزائها كالصيام ، وإن تقدمت النية الطاهرة بزمن يسير ، وعزبت عنه في أولها، جاز، لأنها عبادة ، فلم يشترط اقتران النية بأولها كالصيام .
وصفتها : أن ينوي رفع الحدث ، أي : إزالة المانع من الصلاة أوالطهارة ، لأمر لا يستباح إلا بها ، كالصلاة والطواف ومس المصحف ، وإن نوى الجنب بغسله قراءة القرآن صح ، لأنه يتضمن رفع الحدث ، وإن نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة ، كلبس ثوبه ودخول بيته والأكل ، لم يرتفع حدثه ، لأنه ليس بمشروع ، أشبه التبرد ، وإن نوى ما يستحب له الطهارة ، كقراءة القرآن ، وتجديد الوضوء وغسل الجمعة والجلوس في المسجد والنوم ، فكذلك في إحدى الروايتين ، لأنه لا يفتقر إلى رفع الحدث أشبه لبس الثوب ، والأخرى : يرتفع حدثه ، لأنه يشرع له فعل هذا ، وهوغير محدث ، وقد نوى ذلك ، فينبغي أن تحصل له ، ولأنها طهارة صحيحة ، فرفعت الحدث ، كما لونوى رفعه . وإن نوى رفع الحدث والتبرد ، صحت طهارته ، لأنه أتى بما يجزئه ، وضم إليه ما لا ينافيه ، فأشبه ما لونوى بالصلاة والعبادة والإدمان على السهر ، فإن نوى طهارة مطلقة ، لم يصح ، لأن منها ما لا يرفع الحدث ، وهوالطهارة من النجاسة . وإن نوى رفع حدث بعينه ، فهل يرتفع غيره ؟ على وجهين قال أبوبكر : لا يرتفع، لأنه لم ينوه ، أشبه إذا لم ينوشيئاً . وقال القاضي : يرتفع ، لأن الأحدث تتداخل ، فإن ارتفع بعضها ارتفع جميعها ، وإن نوى صلاة واحدة نفلاً أوفرضاً لا يصلي غيرها ، ارتفع حدثه ، ويصلي ما شاء ، لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا لسبب جديد ، ونيته للصلاة تضمنت رفع الحدث ، وإن نوى نية صحيحة ثم غير نيته ، فنوى التبرد في بعض الأعضاء ، لم يصح ما غسله للتبرد ، فإن أعاد غسل العضوبنية الطهارة ، صح، ما لم يعطل الفصل .
فصل :
ثم يقول : بسم الله . وفيها روايتان :
إحداهما: أنها واجبة في طهارات [الأحدث] كلها ، اختارها أبوبكر ، لما روى أبوسعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه . قال أحمد : حديث أبي سعيد أحسن شيء في الباب .
والثانية : أنها سنة اختارها الخرقي . قال الخلال ، الذي استقرت الروايات عنه : أنه لا باس به إذا ترك التسمية ، لأنها عبادة ، فلا تجب فيها التسمية كغيرها ، وضعف أحمد الحديث فيها، وقال : ليس يثبت في هذا الحديث ، واختلف من أوجبها في سقوطها بالسهو، فمنهم من قال : لا تسقط كسائر واجبات الطهارة ومنهم من أسقطها ، لأن الطهارة عبادة تشتمل على مفروض ومسنون ، فكان من فروضها ما يسقطه السهو، كالصلاة والحج ، فإن ذكرها في أثناء وضوئه ، سمى حيث ذكر .
ومحل التسمية اللسان ، لأنها ذكر ، وموضعها بعد النية ، ليكون مسمياً على جميع الوضوء.
فصل :
في غسل الكفين : ثم يغسل كفيه ثلاثاً لأن عثمان وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما ، وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه ، فغسلهما ثلاث مرات . متفق عليهما ، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء ، ثم إن كان لم يقم من نوم الليل ، فغسلهما مستحب لما روى أبوهريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده متفق عليه . ولم يذكر البخاري ثلاثاً فتخصيصه هذه الحالة بالأمر، دليله على عدم الوجوب في غيرها .
وإن قام في نوم الليل ففيه روايتان :
إحداهما : أنه واجب ، اختارها أبوبكر لظاهر الأمر ، فإن غمسهما قبل غسلهما ، صار الماء مستعملاً ، لأن النهي عن غمسهما يدل على أنه يفيد منعاً ، وإن غسلهما دون الثلاث ، ثم غمسهما، فكذلك ، لأن النهي باق ، وغمس بعض يده كغمس جميعها ، ويفتقر غسلها إلى النية ، لأنه غسل وجب تعبداً ، أشبه بالوضوء .
والرواية الثانية : ليس بواجب ، اختارها الخرقي ، لأن اليد عضولا حدث عليه ولا نجاسة ، فأشبهت سائر الأعضاء ، وتعليل الحديث يدل على أنه أريد به الاستحباب ، لأنه علل بوهم النجاسة ، ولا يزال اليقين بالشك ، فأن غمسهما في الماء فهوباق على إطلاقه .
فصل :
ثم يتمضمض ويستنشق ، لأن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر أنه مضمض واستنشق ، وهما واجبان في الطهارتين لقول الله تعالى : {فاغسلوا وجوهكم} ، وهما داخلان في حد الوجه ، ظاهران ، يفطر الصائم بوصول القيء أليهما ، ولا يفطر بوضع الطعام فيهما ، ولا يحد بوضع الخمر فيهما ، ولا يحصل الرضاع بوصل اللبن إليهما ، ويجب غسلهما من النجاسة ، فيدخلان في عموم الآية . وعنه : الاستنشاق وحده واجب لما روى أبوهريرة رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ] : إذا توضأ أحدكم ، فليجعل في أنفه، ثم لينتثر متفق عليه . وعنه : أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى ، لأنهما طهارة تعم جميع البدن ويجب فيها غسل ما تحت الشعور ، وتحت الخفين .
ويستحب المبالغة فيهما ، إلا أن يكون صائماً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة : وبالغ في الاستنشاق ، إلا أن تكون صائماً حديث صحيح . وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف ، ولا يجعله سعوطاً ، وفي المضمضة ، إدارة الماء في أقاصي الفم ، ولا يجعله وجوراً وهومخير بين أن يمضمض ويستنشق ثلاثاً من غرفة أومن ثلاث غرفات ، لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مضمض واستنشق من كف واحدة ، ففعل ذلك ثلاثاً ، وفي لفظ : أدخل يده في الإناء ، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات ، متفق عليهما . وإن شاء فصل بينهما ، لأن جد طلحة بن مصرف قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، يفصل بين المضمضة والاستنشاق . رواه أبوداود . ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه لأنهما منه ، لكن تستحب البدء بهما اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل :
ثم يغسل وجهه ، وذلك فرض بالإجماع ، لقوله تعالى : {فاغسلوا وجوهكم} وحده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً ، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ، ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن ناصيته ، ولا الأفرع الذي ينزل شعره على جبهته .
فإن كان في الوجه شعر كثيف يستر البشرة ، ولم يجب غسل ما تحته ، لأنه باطن أشبه [باطن] أقصى الأنف ، ويستحب تخليله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته . وروى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا توضأ ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه ، فخلل به لحيته ، وقال : هكذا أمرني ربي ، عز وجل رواه أبوداود .
وإن كان يصف البشرة ، وجب غسل الشعر والبشرة .
وإن كان بعضه خفياً ، وبعضه كثيفاً ، وجب غسل ظاهر الكثيف ، وبشرة الخفيف معه . وسواء في هذا شعر اللحية أوالحاجبين ، والشارب والعنفقة ، لأنها شعور معتادة على الوجه ، أشبهت اللحية .
وفي المسترسل من اللحية عن حد الوجه روايتان :
إحداهما لا يجب غسله ، لأنه شعر نازل عن محل الفرض ، أشبه الذؤابة في الرأس .
والثاني : يجب لأنه نابت في بشرة الوجه ، أشبه الحاجب . ويدخل في حد الوجه العذار، [وهو: الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن إلى الصدغ .
والعارض : الذي تحت العذار] . والذقن : هومجتمع اللحيين ، ويخرج منهما النزعتان ، وهما : ما ينحسر عنهما الشعر في فودي الرأس ، لأنهما في الرأس ، لدخولهما فيه . والصدغ : هوالذي عليه الشعر في حق الغلام ، محاذ لطرف الأذن الأعلى ، لأنه شعر متصل بالرأس ابتداء ، فكان من الرأس كسائره ، وقد مسحه النبي صلى الله عليه وسلم مع رأسه في حديث الربيع .
ويستحب أن يزيد في ماء الوجه ، لأن فيه غضوناً وشعوراً ، ودواخل وخوارج ، ويمسح مآقيه ، ويتعاهد المفصل وهوالبياض الذي بين اللحية والأذن ، فيغسله .
ولا يجب غسل داخل العينين . ولا يستحب ، لأنه لا يؤمن الضرر من غسلهما .
فصل :
ثم يغسل يديه إلى المرفقين ، وهوفرض بالإجماع ، لقول الله تعالى : {وأيديكم إلى المرافق} . ويجب غسل المرفقين ، لأن جابراً رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه ، رواه الدار قطني ، وفيه دار الماء وهذا يصلح بياناً ، لأن إلى بمعنى مع كقوله تعالى : {من أنصاري إلى الله } أي : مع الله] ، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} .
ويجب غسل أظفاره ، وإن طالت ، والأصبع الزائدة ، والسلعة ، لأن ذلك من يده ، وإن كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض ، وجب غسلها ، لأنها نابتة من محل الفرض ، أشبهت الإصبع ، وإن نبتت في العضد أوالمنكب ، لم يجب غسلها وإن حاذت محل الفرض ، لأنها من غير محل الفرض ، فهي كالقصيرة . وإن كانت له يدان متساويتان على منكب واحد ، وجب غسلهما لأن إحداهما ليست أولى من الأخرى .
وإن تقلعت جلدة من الذراع ، فتدلت من العضد ، لم يجب غسلها ،لأنها صارت من العضد ، وإن تقلعت من العضد ، فتدلت من الذراع ، وجب غسلها ، لأنها متدلية من محل الفرض . وإن تقلعت من إحداهما ، فالتحم رأسها بالأخرى ، وجب غسل ما حاذى محل الفرض منها. لأنها كالجلد الذي عليهما ، فإن كانت متجافية في وسطها ، غسل ما تحتها من محل الفرض . وإن كان أقطع فعليه غسل ما بقي من محل الفرض ، فإن لم يبق منه شيء ، سقط الغسل ، ويستحب أن يمس محل القطع بالماء ، لئلا يخلوالعضومن طهارة .
وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه ورجليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره ، وفي شأنه كله . متفق عليه . فإذا بدأ باليسرى جاز ، لأنهما كعضوواحد ، بدليل قوله سبحانه وتعالى : {وأيديكم وأرجلكم} فجمع بينهما .
فصل :
ثم يمسح رأسه ، وهوفرض بغير خلاف ، لقول الله تعالى : {وامسحوا برؤوسكم} وهوما ينبت عليه الشعر المعتاد من الصبي مع النزعتين . ويجب استيعابه بالمسح لقوله تعالى : {وامسحوا برؤوسكم} والباء للإلصاق، فكأنه قال امسحوا رؤوسكم وصار كقوله سبحانه : {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} قال ابن برهان : من زعم أن الباء للتبغيض ، فقد جاء أهل اللغة بما لا تعرفونه . وظاهر قول الإمام أحمد : المرأة يجزئها مسح مقدم الرأس ، لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها ، وعنه في الرجل : أنه يجزئه مسح بعضه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم : مسح بناصيته وعمامته . رواه مسلم .
وكيفما مسح الرأس أجزأ ، بيد واحدة ، أوبيدين ، إلا أن المستحب أن يمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه ، ثم يعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه ، لأن عبد الله بن زيد رضي الله عنهما قال في صفة وضوء النبي (ص) ، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ، متفق عليه . ولا يستحب تكرار المسح ، لأن أكثر من وصف وضوء النبي (ص) ، ذكر أنه مسح مرة واحدة ، ولأنه ممسوح في طهارة ، أشبه التيمم . وعنه : يستحب تكراره ، لأن النبي (ص) ، توضأ ثلاثاً ثلاثاً . وقال : هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي رواه ابن ماجه . ولأنه أصل في الطهارة، أشبه الغسل .
والأذنان في الرأس يمسحان معه ، لقول النبي (ص) : الأذنان من الرأس رواه أبوداود . وروت الربيع بنت معوذ أن النبي (ص) مسح برأسه ، وصدغيه ، وأذنيه ، مسحة واحدة . رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح . ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضوالمنفرد ، وإنما هما من الرأس وعلى وجه التبع ، ولا يجزىء مسحهما عنه لذلك ، وظاهر كلام أحمد أنه لا يحب مسحهما لذلك ، ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويجعل إبهاميه لظاهرهما ، ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ، ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده فوق رأسه أولم يرده ، لأن الرأس ما ترأس وعلا ، ولوأدخل يده تحت الشعر ، فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه ، لأن الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره ، ولومسح رأسه ثم حلقه ، أوغسل عضواً ثم قطع جزعاً منه أوجلده ، لم يؤثر في طهارته ، لأنه ليس ببدل عما تحته ، فلم يلزمه بظهره طهارة ، فإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار ظاهراً ، فتعلق الحكم به ، ولوحصل في بعض أعضائه شق أوثقب ، لزمه غسله لأنه صار ظاهراً.
فصل :
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ، وهوفرض لقوله تعالى : {وأرجلكم إلى الكعبين} ويدخل الكعبين في الغسل لما ذكرنا في المرفقين ، ولا يجزئ مسح الرجلين ، لما روى عمر أن رجلاً ترك موضع ظفر في قدمه اليمنى فأبصره النبي (ص) ، فقال : ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى رواه مسلم . وإن كان الرجل أقطع اليدين فقدر على أن يستأجر من يوضئه بأجرة مثله ، لزمه كما يلزمه شراء الماء . ولا يعفى عن شيء من طهارة الحدث، وإن كان يسيراً لما ذكرنا من حديث عمر .
ويستحب أن يخلل أصابعه ، لأن النبي (ص) : إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن .
فصل :
ويجب ترتيب الوضوء على ما ذكرنا في ظاهر المذهب ، وحكي عنه أنه ليس بواجب ، لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأعضاء المغسولة بالواو، ولا ترتيب فيها .
ولنا أن في الآية قرينة تدل على الترتيب ، لأنه أدخل الممسوح بين المغسولات ، وقطع النظير عن نظيره ، ولا يفعل الفصحاء هذا إلا لفائدة ، ولا نعلم هنا فائدة سوى الترتيب ، ولأن النبي (ص) لم ينقل عنه الوضوء إلا مرتباً ، وهويفسر كلام الله سبحانه بقوله مرة وبفعله مرة أخرى . فإن نكس وضوءه فختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه ، وإن غسل وجهه ويديه، ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه ، صح وضوءه إلا غسل رجليه ، فيغسلهما ويتم وضوءه.
فصل :
ويوالي في غسل الأعضاء وفي وجوب الموالاة روايتان :
إحداهما : يجب ، لأن النبي (ص) ، رأى رجلاً يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة . رواه أبوداود . ولولم تجب الموالاة لأجزأه غسلها ، ولأن النبي (ص) ، والى بين الغسل .
والثانية : لا تجب ، لأن المأمور به الغسل ، وقد أتى به ، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه توضأ وترك مسح خفيه حتى دخل المسجد ، فدعي لجنازة ، فمسح عليهما وصلى عليها . والتفريق المختلف فيه : أن يؤخر غسل عضوحتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمن المعتدل فإن أخر غسل عضولأمر في الطهارة من إزالة الوسخ أوعرك عضولم يقدح في طهارته .
فصل :
والوضوء مرة يجزىء ، والثلاث أفضل ، لأن النبي (ص) ، توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة ، ثم توضأ مرتين ، ثم قال : هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر ، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ، ثم قال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي أخرجه ابن ماجة . وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فلا بأس ، فقد حكى عبد الله بن زيد وضوء رسول الله (ص) فغسل يديه مرتين ، ثم مضمض واستنثر ثلاث [ وغسل وجهه ثلاثاً ] ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم الرأس ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم درهما ثم رجع من المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه ، متفق عليه . ولا يزيد عن ثلاث لأن أعرابياً سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم رواه أبوداود ، ويكره الإسراف في الماء لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) مر على سعد وهويتوضأ فقال : لا تسرف قال : يا رسول الله : في الماء إسراف ؟ قال : نعم وإن كنت على نهر جار رواه ابن ماجة .
فصل :
ويستحب إسباغ الوضوء ، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل ، لأن أبا هريرة رضي الله عنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد ، ورجله حتى أشرع في الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله (ص) يتوضأ ، وقال : قال رسول الله (ص) : أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله متفق عليه .
فصل :
لا بأس بالمعاونة على الوضوء والغسل بتقريب الماء ، وحمله وصبه لأن النبي (ص) كان يحمل له الماء ، ويصب عليه . قال أنس رضي الله عنه : كان النبي (ص) ، ينطلق لحاجته فآتيه أنا وغلام من الأنصار بإداوة من ماء يستنجي به ، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي (ص) ، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء فصببت عليه من الإداوة ، فغسل وجهه وذكر بقية الوضوء ، متفق عليهما . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا نعد لرسول الله (ص) ثلاثة آنية في الليل مخمرة ، إناء لطهره ، وإنا لسواكه ، وإنا لشرابه ، أخرجه ابن ماجة .
فصل :
وفي تنشيف بلل الغسل والوضوء روايتان :
إحداهما: يكره ، لأن ميمونة رضي الله عنها وصفت غسل النبي (ص) ، قالت : فأتيته بالمنديل فلم يردها ، وجعل ينفض الماء بيده ، متفق عليه .
والأخرى : لا بأس به ، لأنه إزالة الماء عن بدنه ، أشبه نفضه بيديه .
فصل :
ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لما روى عمر رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه قال : من توضأ وأحسن وضوئه ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء رواه مسلم .
فصل :
والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة : النية ، وغسل الوجه ، وغسل اليدين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين .
وخمسة فيها روايتان : الترتيب ، والموالاة ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والتسمية .
والسنن سبعة : غسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق ، وتخليل اللحية ، وأخذ ماء جديد للأذنين ، وتخليل الأصابع ، والبداءة باليمنى والدفعة الثانية والثالثة .
باب المسح على الخفين
وهو جائز بغير خلاف لما روى جرير رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، متفق عليه . قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا ، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، ولأن الحاجة تدعوإلى لبسه ، وتلحق المشقة بنزعه ، فجاز المسح عليه كالجبائر ويختص جوازه في الوضوء دون الغسل ، لما روى صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين ، أوسفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم . أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح . ولأن الغسل يقل فلا تدعوالحاجة إلى المسح على الخف فيه بخلاف الوضوء ، ولجواز المسح عليه شروط أربعة : أحدها أن تكون ساتراً لمحل الفرض من القدم كله ، فإن ظهر منه شيء لم يجز المسح ، لأن حكم ما استتر المسح ، وحكم ما ظهر الغسل ، ولا سبيل إلى الجمع بينهما ، فغلب الغسل ، كما لوظهرت إحدى الرجلين ، فإن تخرقت البطانة دون الظهارة، أوالظهارة دون البطانة جاز المسح ، لأن القدم مستور به ، وإن كان فيه شق مستطيل ينضم لا يظهر منه القدم ، جاز المسح عليه لذلك ، وإن كان الخف رقيقاً يصف لم يجز المسح عليه ، لأنه غير ساتر ، وإن كان ذي شرج في موضع القدم ، وكان مشدوداً لا يظهر شيئاً من القدم إذا مشى جاز المسح عليه ، لأنه كالمخيط .
فصل :
الثاني : أن يمكن متابعة المشي فيه ، فإن كان يسقط من القدم لسعته ، أوثقله لم يجز المسح عليه ، لأن الذي تدعوالحاجة إليه هوالذي يمكن متابعة لمشي فيه ، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة (رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : مسح على الجوربين النعلين . أخرجه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح . قال الإمام أحمد : يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أوثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه ، أشبه الخف . فإن شد على رجليه لفائف ، لم يجز المسح عليها ، لأنها لا تثبت بنفسها إنما تثبت بشدها .
فصل :
الثالث : أن يكون مباح فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير ، لأن لبسه معصية ، فلا تستباح به الرخصة ، كسفر المعصية .
فصل :
الرابع : أن تلبسهما على طهارة كاملة ، لما روى المغيرة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، في سفر فأهويت لأنزع خفيه ، قال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما متفق عليه . فإن تيمم ، ثم لبس الخف ، لم يجز المسح عليه ، لأن طهارته لا ترفع الحدث . وإن لبست المستحاضة ، ومن به سلس البول خفاً على طهارتهما فلهما المسح لأنها صارت ناقصة في حقها ، فأشبهت التيمم .
وإن غسل إحدى رجليه ، فأدخلها الخف ، ثم غسل الأخرى فأدخلها ، لم يجز المسح ، لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة .
وعنه : يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس ، فأشبه ما لونزع الأول ، ثم لبسه بعد أن غسل الأخرى .
وإن تطهر ولبس خفيه ، فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف ، لم يجز المسح ، لأن الرجل حصلت على مقرها وهومحدث فأشبه من بدأ اللبس محدثاً ، وإن لبس خفاً على طهارة ، ثم لبس فوقه آخر ، أوجرموقاً قبل أن يحدث جاز المسح على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحاً أومخرقاً ، لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي فيه لبسه على طهارة كاملة ، أشبه المنفرد ، وإن لبس الثاني بعد الحدث ، لم يجز المسح عليه لأنه لبسه على غير طهارة ، وإن مسح الأول ، ثم لبس الثاني ، لم يجز المسح عليه ، لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل فلم تكمل الطهارة.
وإن كان التحتاني صحيحاً ، والفوقاني مخرقاً ، فالمنصوص جواز المسح لأن القدم مستور بخف صحيح . وقال بعض أصحابنا : لا يجوز ، لأن الحكم تعلق بالفوقاني ، فاعتبرت صحته بالمنفرد . وإن لبس المخرق فوق لفافة ، لم يجز المسح عليه ، لأن القدم لم يستتر بخف صحيح ، وإن لبس مخرقاً فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل أن لا يجوز المسح لذلك ، واحتمل أن يجوز ، لأن القدم استتر بهما فصارا كالخف الواحد .
فصل :
ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، لما روى عوف بن
مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم . قال الإمام أحمد : هذا أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك ، آخر غزاة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهوآخر فعله .
وسفر المعصية كالحضر ، لأن ما زاد يستفاد بالسفر ، وهومعصية فلم يجز أن يستفاد به الرخصة .
ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس في إحدى الروايتين ، لأنهما عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها ، كالصلاة . والآخر من حين المسح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بالمسح ثلاثة أيام ، فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها .
وإن أحدث من الحضر ، ثم سافر قبل المسح ، أتم مسح مسافر ، لأنه بدأ العبادة في السفر .
وإن مسح في الحضر ، ثم سافر ، أومسح في السفر ثم أقام ، أتم مسح مقيم ، لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر ، فإن وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم كالصلاة ، وإن مسح المسافر أكثر من يوم وليلة ، ثم أقام ، انقضت مدته في الحال . وإن شك هل بدء المسح في الحضر ، أوفي السفر بنى على مسح الحضر ، لأن الأصل الغسل والمسح رخصة ، فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل . وإن لبس وأحدث ، وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أوبعدها ، وقلنا : ابتداء المدة من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر، وفي الصلاة على أنه مسح بعدها ،لأن الأصل بقاء الصلاة ، في ذمته ، ووجوب غسل الرجل فرددنا كل واحد منهما إلى أصله .
فصل :
والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه ، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على أصابع قدميه ، ثم يجرهما على ساقيه ، لما روى المغيرة رضي الله عنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما ، حديث حسن صحيح . وعن علي رضي الله عنه قال : لوكان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه . رواه بن داود .
فإن اقتصر على مسح الأكثر من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على مسح أسفله لم يجزه لأنه ليس محلاً للمسح أشبه الساق .
فصل :
إذا انقضت مدة المسح ، أوخلع خفيه ، أوأحدهما بعد المسح ، بطلت طهارته في أشهر الروايتين ، ولزمه خلعهما ، لأن المسح أقيم مقام الغسل ، فإذا زال بطلت الطهارة في القدمين، فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض .
والثانية ، يجزئه غسل قدميه ، لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم يجد الماء . وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف ، بطل المسح ، لأن استباحة المسح تعلقت باستقرارهما ، فبطلت بزواله كاللبس .
وإن مسح على الخف الفوقاني ، ثم نزعه ، بطل مسحه ، ولزمه نزع التحتاني ، لأنه زال الممسوح عليه ، فأشبه المنفرد .
فصل :
في المسح على العمامة : ويجوز المسح على العمامة لما روى المغيرة رضي الله عنه قال : توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسح على الخفين والعمامة . حديث [ حسن ] صحيح . وعن عمر بن أمية رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه . رواه البخاري . وروى الخلال بإسناده عن عمر رضي الله عنه قال : من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله . ولأن الرأس عضوسقط فرضه في التيمم ، فجاز المسح على حائله كالقدمين . ويشترط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه ، لأنه جرت العادة بكشفه في العمائم ، فعفي عنه بخلاف بعض القدم ويشترط أن بكون لها ذؤابة أوتكون تحت الحنك ، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة ، وقد نهي عن التشبه بهم ، فلم تستبح بها الرخصة ، كالخف المغصوب ، فإن كانت ذات حنك جاز المسح عليها ، وإن لم يكن لها ذؤابة ، لأنها تفارق عمائم أهل الذمة .
وإن أرخى لها ذؤابة ، ولم يتحنك ، ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز المسح عليها لذلك .
والثاني : لا يجوز ، لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط ، قال أبوعبيدة : الاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء .
فصل :
وحكمها في التوقيت ، واشترط تقديم الطهارة ، وبطلان الطهارة بخلعها ، كحكم الخف لأنها أحد الممسوحين على سبيل البدل ، وفيما يجزئه مسحه منها ؟ روايتان :
إحداهما : مسح أكثرها لما ذكرنا .
والثاني : يلزمه استيعابها ، لأنها بدل من جنس المبدل ، فاعتبر كونه مثله ، كما لوعجز عن قراءة الفاتحة ، وقدر على قراءة غيرها اعتبر أن يكون بقدرها ، ولوعجز عن القراءة فأبدلها بالتسبيح لم يعتبر كونه بقدرها . وإن خلع العمامة بعد مسحها . وقلنا لا يبطل الخلع الطهارة . لزمه مسح رأسه ، وغسل قدميه ، ليأتي بالترتيب .
وإن قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس ، فظهرت ناصية ، ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه مسحها معه ، لأن المغيرة رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم : توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين . ولأنه جزء من الرأس ظاهر ، فلزم مسحه ، كما لوظهر سائر رأسه .
والثاني : لا يلزمه ، لأن الفرض تعلق بالعمامة ، فلم يجب مسح غيرها ، كما لوظهر أدناه .
وإن انتقض من العمامة كور ، ففيه روايتان :
أحدهما : يبطل المسح لزوال الممسوح عليه .
والأخرى : لا يبطل ، لأن العمامة باقية ، أشبه كشط الخف مع بقاء البطانة .
فصل :
ولا يجوز المسح على الكلوتة ولا وقاية المرأة لأنها لا تستر جميع الرأس ، ولا يشق نزعها ، فأما القلانس المبطنات ، كدنيات القضاة والنوميات ، وخمار المرأة ، ففيهما روايتان :
إحداهما : يجوز المسح عليها لأن أنساً رضي الله عنه مسح على قلنسوته . وعن عمر رضي الله عنه : إن شاء حسر عن رأسه ، وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته . وكانت أم سلمة تمسح على الخمار . وقال الخلال : قد روي المسح على القلنسوة من رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد ، صحاح واختاره لأنه ملبوس للرأس معتاد أشبه العمامة .
والثاني : لا يجوز لأنه لا يشق نزع القلنسوة ، ولا يشق على المرأة المسح من تحت خمارها ، فأشبه الكلوتة والوقاية .
فصل :
ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر ، لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمسح عليها . رواه ابن ماجه ، ولأنه ملبوس يشق نزعه ، فجاز المسح عليه كالخف ، ولا إعادة على الماسح كما ذكرنا .
ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة لأن المسح عليها إنما جاز للضرورة ، فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة .
وتفارق الجبيرة الخف بثلاثة أشياء :
أحدها : يجب مسح جميعها ، لأنه مسح للضرورة أشبه التيمم ، ولأن استيعابها بالمسح لا يضر بخلاف الخف .
الثاني : أن مسحها لا يتوقف ، لأنه جاز لأجل الضرورة فيبقى ببقائه .
الثالث : أنه يجوز في الطهارة الكبرى ، لأنه مسح أجيز للضرورة أشبه التيمم .
وفي تقدم الطهارة روايتان :
إحداهما : يشترط لأنه حائل منفصل يمسح عليه ، أشبه الخف ، فإن لبسها على غير طهارة ، أوتجاوز بشدها موضع الحاجة ، وخاف الضرر بنزعها تيمم لها ، كالجريح العاجز عن غسل جرحه .
والثانية : لا يشترط ، لأنه مسح أجيز للضرورة ، فلم يشترط تقدم الطهارة له كالتيمم .
فصل:
ولا فرق بين الجبيرة على الكسر ، أوجرح يخاف الضرر بغسله لأنه موضع يحتاج إلى الشد عليه ، فأشبه الكسر ، ولووضع على الجرح دواء ، وخاف الضرر بنزعه ، مسح عليه ، نص عليه . وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة ، فألقمها مرارة ، فكان يتوضأ عليها .
باب نواقض الطهارة الصغرى
وهي ثمانية : الخارج من السبيلين ، وهو نوعان :
معتاد فينقض بلا خلاف ، لقول الله تعالى : {أوجاء أحد منكم من الغائط} ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ولكن من غائط وبول ونوم وقوله : فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أويجد ريحاً وقال في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ متفق عليه .
النوع الثاني : نادر كالحصى والدود والشعر والدم ، فينقض أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال للمستحاضة : تتوضأ عند كل صلاة رواه أبوداود ، ودمها غير معتاد ، ولأنه خارج من السبيل ، أشبه المعتاد ، ولا فرق بين القليل والكثير .
فصل :
الثاني : خروج النجاسة من سائر البدن ، وهونوعان :
غائط وبول فينقض قليل وكثيره ، لدخوله في النصوص المذكورة .
الثاني : دم وقيح وصديد وغيره ، فينقض كثيره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لفاطمة بنت أبي حبيش : إن دم عرق فتوضئي لكل صلاة رواه الترمذي فعلل بكونه دم عرق ، وهذا كذلك ، ولأنها نجاسة خارجة من البدن ، أشبهت الخارج من السبيل . ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم : إن كان فاحشاً فعليه الإعادة ، قال الإمام أحمد : عدة من الصحابة تكلموا فيه ، ابن عمر عصر بثرة فخرج دم ، فصلى ولم يتوضأ ، وابن أبي أوفى عصر دملاً ، وذكر غيرهما ، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً .
وظاهر مذهب أحمد أنه لا حد للكثير إلا ما فحش ، لقول ابن عباس .
وقال ابن عقيل : إنما يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس ، لا المتبذلين ، ولا الموسوسين ، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس الأوساط .
وعن أحمد : أن الكثير شبر في كثير .
وعنه : قدر الكف فاحش .
وعنه : قدر عشر أصابع كثير ، وما يرفعه بإصبعه الخمس يسير .
وقال الخلال : والذي استقر عليه قوله : إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه .
فصل :
الثالث : زوال العقل ، وهونوعان :
أحدهما : النوم فينقض ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولكن من غائط وبول ونوم . وعنه عليه السلام أنه قال : العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ رواه أبوداود . ولأن النوم مظنة الحدث ، فقام مقامه كسائر المظان . ولا يخلومن أربع أحوال :
أحدها : أن يكون مضجعاً أومتكئاً أومعتمداً على شيء ، فينقض الوضوء قليله وكثيره ، لما رويناه .
والثاني : أن يكون جالساً غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله ، لما روى أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعوداً ثم يصلون ، ولا يتوضؤون رواه مسلم بمعناه . ولأن النوم إنما نقض ، لأنه مظنة لخروج الريح من غير علمه ، ولا يحصل ذلك ههنا، لأنه يشق التحرز منه لكثرة وجوده من منتظري الصلاة ، فعفي عنه ، وإن كثر واستثقل ، نقض ، لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه .
الحال الثالث : القائم ، ففيه روايتان :
إحداهما : إلحاقه بحالة الجلوس ، لأنه في معناه .
والثانية : ينقض يسيره ، لأنه لا يحتفظ حفاظ الجالس .
الرابع : الراكع والساجد ، وفيه روايتان :
أولهما : أنه كالمضجطع لأنه ينفرج محل الحدث ، فلا يتحفظ ، فأشبه المضطجع .
والثانية : أنه كالجالس ، لأنه على حال من أحوال الصلاة ، أشبه الجالس .
والمرجع في اليسير والكثير إلى العرب ، ما عد كثيراً فهوكثير ، وما لا فلا ، لأنه لا حد له في الشرع فيرجع فيه إلى العرف ، كالقبض والإحراز ، وإن تغير عن هيئته انتقض وضوءه لأنه دليل على كثرته استثقال فيه .
النوع الثاني : زوال العقل بجنون أوإغماء أوسكر ينقض الوضوء ، لأنه لما نص على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء ، لأنها أبلغ في إزالة العقل ، ولا فرق بين الجالس وغيره ، والقليل والكثير ، لأن صاحب هذه الأمور لا يحس بحال ، بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه ، وإن خرج منه شيء قبل استثقاله في نومه أحس به .
الرابع : أكل لحم الجزور فينقض الوضوء ، لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم توضأ من لحوم الإبل رواه مسلم . قال أبوعبد الله : فيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث البراء بن عازب ، وجابر بن سمرة . ولا فرق بين قليله وكثيره ، ونيئه ومطبوخه ، لعموم الحديث .
وعنه في من أكل وصلى ولم يتوضأ : إن كان يعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بالوضوء منه فعليه الإعادة ، وإن كان جاهلاً فلا إعادة عليه .
وفي اللبن روايتان :
إحداهما : لا ينقض لأنه ليس بلحم .
والثانية : ينقض ، لما روى أسيد بن حضير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : توضؤوا من لحوم الإبل وألبانها رواه أحمد في المسند .
وفي الكبد والطحال ، وما لا يسمى لحماً وجهان :
أحدهما : لا ينقض لأنه ليس بلحم .
والثاني : ينقض ، لأنه من جملته ، فأشبه اللحم ، وقد نص الله على تحريم لحم الخنزير فدخل فيه سائر أجزائه .
ولا ينقض الوضوء مأكول غير احم الإبل ، ولا ما غيرت الناس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحم الغنم : وإن شئت فلا توضأ ويروى أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ترك الوضوء مما غيرت النار . رواه أبوداود .
فصل :
والخامس : لمس الذكر فيه ثلاث روايات :
إحداهن : لا ينقض [ الوضوء ] ، لما روى قيس بن طلق [ عن أبيه ] أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سئل عن الرجل يمس ذكره ، وهوفي الصلاة . قال : هل هوإلا بضعة منك رواه أبوداود . ولأنه جزء من جسده ، أشبه يده .
والثانية : ينقض وهي أصح ، لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مسه ذكره فليتوضأ . قال أحمد رضي الله عنه : هوحديث صحيح . وروى أبوهريرة نحوه ، وهومتأخر عن حديث طلق ، لأن في حديث طلق أنه قدم ، وهم يؤسسون المسجد ، وأبوهريرة قدم حين فتحت خبير فيكون ناسخاً له .
والثالثة : إن قصد إلي مسه نقض ، ولا ينقض من غير قصد ، لأنه لمس فلم ينقض بغير قصد كلمس النساء .
وفي لمس حلقة الدبر ، ومس المرأة فرجها روايتان :
إحداهما : لا ينقض لأن تخصيص الذكر بالنقض دليل على عدمه من غيره .
والثانية : ينقض ، لأن أبا أيوب وأم حبيبة قالا : سمعنا النبيصلى الله عليه وسلم يقول : من مس فرجه فليتوضأ قال أحمد حديث أم حبيبة صحيح . وهذا عام ولأنه سبيل فأشبه الذكر .
وحكم لمسه فرج غيره حكم لمس فرج نفسه صغيراً كان أوكبيراً ، لأن نصه على نقض الوضوء بمس ذكر نفسه ، ولم يهتك به حرمة وهذا تنبيه على نقضه بمس من غيره .
وفي مس الذكر المقطوع وجهان :
أحدهما : لا ينقض كمس يد المرأة المقطوعة .
والآخر : ينقض ، لأنه مس ذكر . وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه ، لأنه ليس بفرج . ولا ينقض مس فرج البهيمة ، لأنه لا حرمة لها ، ولا مس ذكر الأنثى المشكل ، ولا قبله ، لأنه لا يتحقق كونه فرجاً . وإن مسهما معاً نقض لأن أحدهما فرج . وإن مس رجل ذكره لشهوة نقض ، لأنه إن كان ذكراً فقد مس ذكره ، وإن كانت امرأة فقد مسها لشهوة . وإن مست امرأة قبله لشهوة لما ذكرنا . واللمس الذي ينقض هواللمس بيده إلى الكوع ، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه ، لأن أبا هريرة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ من المسند ، ورواه الدار قطني بمعناه . واليد المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم .
ولا ينقض غير الفرج كالعانة والأنثين وغيرهما ، لأن تخصيص الفرج به دليل على عدمه فيما سواه .
فصل :
السادس : لمس النساء وهوأن تمس بشرته بشرة أنثى ، وفيه ثلاث روايات :
إحداهن : ينقض بكل حال ، لقوله تعالى : {أولامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا}
والثانية : لا ينقض لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ . رواه أبوداود وعن عائشة رضي الله عنها قالت : فقدت النبي (ص) ، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه ، وهما منصوبتان ، وهوساجد . رواه النسائي ومسلم . ولوبطل وضوءه لفسدت صلاته .
والثالثة : هي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان لشهوة ، ولا ينقض لغيرها جمعاً بين الآية والأخبار ، ولأن اللمس ليس بحدث وإنما هوداع إلى الحدث ، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعوا فيها إلى الحدث كالنوم .
ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة ، وذوات المحارم وغيرهن ، لعموم الأدلة فيه .
وإن لمست امرأة رجلاً ففيه روايتان :
إحداهما : أنها كالرجل ، لأنها ملامسة توجب طهارة فاستوى فيها الرجل والمرأة كالجماع .
والثانية : لا ينقض وضوءها ، لأن النص لم يرد فيها ، ولا يصح قياسها على المنصوص ، لأن اللمس منه أدعى إلى الخروج .
وهل ينقض وضوء الملموس ؟ فيه روايتان .
وإن لمس سن امرأة أوشعرها أوظفرها لم ينقض وضوءه . لأنه لا يقع عليها الطلاق بإيقاعه عليه ، وإن لمس عضواً مقطوعاً ، لم ينقض وضوءه ، لأنه لا يقع عليه اسم امرأة ، وإن مس غلاماً أوبهيمةً أومست امرأة امرأة، لم ينقض الوضوء ، لأنه ليس محلاً لشهوة الآخر شرعاً .
فصل :
السابع : الردة عن الإسلام ، وهوأن ينطق بكلمة الكفر ، أويعتقدها ، أويشك شكاً يخرجه عن الإسلام ، فينتقض وضوءه لقول الله تعالى : {لئن أشركت ليحبطن عملك} ولأن الردة حدث لقول ابن عباس : الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان . فيدخل في عموم قوله عليه السلام : لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ متفق عليه . ولأنها طهارة من حدث ، فأبطلتها الردة كالتيمم .
فصل :
الثامن : غسل الميت . عده أصحابنا من نواقض الوضوء ، لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء . وقال أبوهريرة : أقل ما فيه الوضوء ، لأنه مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث . ولا فرق بين الميت المسلم ، والكافر ، والصغير والكبير في ذلك ، لعموم الأمر والمعنى .
وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب ، فإنه قال : أحب إلي أن يتوضأ . وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث موقوفاً على أبي هريرة والوضوء كذلك ، ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا هوفي معنى المنصوص ، والأصل عدم وجوبه ، فيبقى عليه ، وما عدا هذا لا ينقض بحال .
فصل :
ومن تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لا فهوعلى طهارته ، لما روي عن النبي (ص) أنه قال : إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه هل خرج شيء أولم يخرج ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أويجد ريحاً رواه مسلم والبخاري ، ولأن اليقين لا يزال بالشك .
وإن تيقن الحدث ، شك في الطهارة ، فهومحدث لذلك .
وإن تيقنهما ، وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن كان متطهراً فهومحدث الآن لأنه تيقن زوال تلك الطهارة ، بحدث وشك هل زال أم لا ، فلم يزل يقين الحدث بشك الطهارة ، وإن كان قبلهما محدثاً ، فهوالآن متطهر لما ذكرنا في التي قبلها .
فصل :
ولا تشترط الطهارتان معاً إلا لثلاثة أشياء :
الصلاة : لقول النبي (ص) : لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ .
والطواف : لقول النبي (ص) : الطواف في البيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام رواه الشافعي في مسنده .
ومس المصحف : لقول الله تعالى : {لا يمسه إلا المطهرون} . وفي كتاب النبي (ص) لعمر بن حازم : لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر رواه الأثرم . ولا بأس بحمله في كمه أوبعلاقته ، وتصحفه بعود ، لأنه ليس بمسه له ، ولذلك لوفعله بامرأة لم ينتقض وضوءه .
وإن مس المحدث كتاب فقه ، أورسالة فيها آي من القرآن جازه لأنه لا يسمى مصحفاً ، والقصد منه غير القرآن ، ولذلك كتب النبي (ص) إلى قيصر في رسالته : {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} الآية ، متفق عليه . وكذلك إن مس ثوباً مطرزاً بآية من القرآن .
وإن مس درهماً مكتوباً عليه آية فكذلك في أحد الوجهين لما ذكرنا .
والثاني : لا يجوز لأنه معظم ما فيه من القرآن .
وفي مس الصبيان ألواحهم ، وحملها على غير طهارة وجهان :
أحدهما : لا يجوز لأنهم محدثون ، فأشبهوا البالغين .
والثاني : يجوز لأن حاجتهم ماسة إلى ذلك ولا تتحفظ طهارتهم ، فأشبه الردهم .
ومن كان طاهراً وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضوالطاهر جاز ، لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث .
فصل :
ويستحب تجديد الطهارة ، لأن النبي (ص) كان يتوضأ لكل صلاة طلباً للفضل . رواه البخاري .
وصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ليبين الجواز . رواه مسلم .
باب آداب التخلي
يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول : بسم الله . لما روى علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول : بسم الله رواه بن ماجة والترمذي . ويقول : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا دخل الخلاء قال ذلك . متفق عليه .
فإذا خرج قال : غفرانك ، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ، لما روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك حديث حسن . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال : الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني رواه ابن ماجة ، ويقدم رجله اليسرى في الدخول ورجله اليمنى في الخروج ، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه ، ويضع ما فيه ذكر الله أوقرآن صيانة له ، فإذا كان ذلك دراهم ، فقال أحمد رضي الله عنه : أرجوأن لا يكون به بأس . قال : والخاتم فيه اسم الله يجعله في بطن كفه ، ويدخل الخلاء .
فصل :
وإن كان في الفضاء أبعد لما روى جابر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد .
ويستتر عن العيون ، لما روى أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره .
ويرتاد لبوله مكاناً رخواً لئلا يترشش عليه . ولا يرفع ثوبه حتى يدنومن الأرض لما روء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنومن الأرض أخرج هذه الأحاديث الثلاثة أبوداود .
ويبول قاعداً لأنه أستر له ، وأبعد من أن يترشش عليه .
فصل :
ولا يجوز استقبال القبلة في الفضاء بغائط ولا بول ، لما روى أبوأيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أوغربوا . قال أبوأيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحوالكعبة ، فننحرف عنها ، ونستغفر الله ، متفق عليه .
وفي استدبارها روايتان :
إحداهما : لا يجوز ، لهذا الحديث .
والأخرى : يجوز ، لما روى ابن عمر قال رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على حاجته ، مستقبل الشام مستدبر الكعبة . متفق عليه .
وفي استدبارها في البنيان روايتان :
إحداهما : لا يجوز لعموم النهي .
والثانية : يجوز ، لما روى عراك بن مالك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم ، فقال : أوقد فعلوا ؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة رواه الإمام أحمد وابن ماجه . قال أحمد : أحسن حديث يروى في الرخصة حديث عراك ، وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن . سماه مرسلاً ، لأن عراكاً لم يسمع من عائشة . وعن مروان الأصفر أنه قال : أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة ، ثم جلس يبول إليه فقلت : يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا ؟ قال : بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس . رواه أبوداود .
ويكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريماً لهما ، وأن يستقبل الريح لئلا ترد البول عليه .
فصل :
ويكره أن يبول في شق أوثقب ، لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى أن يبال في الجحر رواه أبوداود .ولأنه لا يأمن أن يكون مسكناً للجن ، أويكون فيه دابة تلسعه ، ويكره البول في طريق أوظل ينتفع به ، أومورد ماء ، لما روى معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل رواه أبوداود ، ويكره البول في موضع تقع فيه الثمرة لئلا تتنجس به ، والبول في المغتسل ، لما روى عبد الله بن مغفل قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل في مغتسله رواه بن ماجة . قال أحمد رضي الله عنه : إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة فذهب فلا بأس .
فصل :
يكره أن يتكلم على البول أويسلم ، أويذكر الله تعالى بلسانه لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل وهويبول ، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال : كرهت أن أذكر الله إلا على طهر رواه أبوداود والنسائي وابن ماجة . ويكره الإطالة أكثر من الحاجة ، لأنه يقال : إن ذلك يدمي الكبد ، ويأخذ منه الباسور . ويتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى ، لما روى سراقة بن مالك قال : علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى ، وننصب اليمنى. رواه الطبراني في معجمه ولأنه أسهل لخروج الخارج ، ويتنحنح ليخرج ما تم ، ثم يسلت من أصل ذكره فيما بين المخرجين ، ثم ينتره برفق ثلاثاً فإذا أراد الاستنجاء تحول من موضعه لئلا يرش على نفسه .
فصل :
ولاستنجاء واجب من كل خارج من السبيل معتاداً كان أونادراً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ وقال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه رواه أبوداود . عن ابن أبي أوفى عن النبي(ص) والنسائي وأحمد والدار قطني وقال : إسناد حسن صحيح . ولأن المعتاد نجاسة لا مشقة في إزالتها فلم تصح الصلاة معها كالكثير ، والنادر لا يخلومن رطوبة تصحبه غالباً ، ولا يجب من الريح، لأنها ليست نجسة ، ولا يصحبها نجاسة ، وقد روي : من استنجى من الريح فليس منا رواه الطبراني في المعجم الصغير .
فصل :
وإن تعدت النجاسة المخرج بم لم تجر العادة به ، كالصفحتين ومعظم الحشفة لم يجزئه إلا الماء ، لأن ذلك نادر ، فلم يجز فيه المسح ، كيده وإن لم يتجاوز قدر العادة جاز بالماء والحجر ، نادراً كان أومعتاداً ، لحديث ابن أبي أوفى ، ولأن النادر خارج يوجب الاستنجاء أشبه المعتاد . والأفضل الجمع بين الماء والحجر يبدأ بالحجر ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول ، فإني أستحييهم ، فإن النبي (ص) ، كان يفعله . حديث صحيح . ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف . ولأن الحجر يزيل عين النجاسة ، فلا تباشرها يده ، فإن اقتصر على أحدهما جاز ، والماء أفضل ، لأن أنساً قال : كان النبي (ص) إذا خرج لحاجة أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء ، يعني : يستنجي به متفق عليه . ولأنه يزيل عين النجاسة وأثرها ويطهر المحل.
وإن اقتصر على الحجر أجزأ بشرطين :
أحدهما : الإنقاء وهوأن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء بحيث يخرج الآخر نقياً .
والثاني : استيفاء ثلاثة أحجار ، لقول سلمان رضي الله عنه : لقد نهانا - يعني النبي (ص) - أن نستنجي باليمين ، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، وأن نستنجي برجيع أوعظم . رواه مسلم . فإن كان الحجر كبيراً فمسح بجوانبه ثلاث مسحات أجزأه . ذكره الخرقي ، لأن المقصود عدد المسحات دون عدد الأحجار بدليل أنا لم نقتصر على الأحجار بل عديناه إلى ما في معناه من الخشب والخرق .
وقال أبوبكر لا يجزئه اتباعاً للفظ الحديث ، وقال : لا يجزئه الاستجمار بغير الأحجار ، لأن الأمر ورد بها على الخصوص ، ولا يصح ، لأن في سياقه وإن نستنجي برجيع أوعظم فيدل على أنه أراد الحجر ، وما في معناه ، ولولا ذلك لم يخص هذين بالنهي ، وروى طاوس أن النبي (ص) ، قال : فليستطب بثلاثة أحجار ، أوثلاثة أعواد ، أوثلاثة حثيات من تراب رواه الدارقطني . ولأنه نص على الأحجار لمعنىً معقول، فيتعداه الحكم كنصه على الغضب في منع القضاء .
فصل :
ويجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق ، غير مطعوم ، لا حرمة له ، ولا متصل بحيوان ، فيدخل فيه الحجر ، وما قام مقامه من الخشب والخرق والتراب ، ويخرج منه المائع ، لأنه يتنجس بإصابة النجاسة ، فيزيد المحل تنجساً ، ويخرج منه النجس ، لأن النبي (ص) ، ألقى الروثة ، وقال : إنها ركس رواه البخاري . ولأنه يكسب المحل نجاسة . فإن استجمر به ، والمحل رطب ، لم يجزه الاستجمار بعده ، لأن المحل صار نجساً بنجاسة واردة عليه ، فلزم غسله ، كما لوتنجس بذلك في حال طهارته ، ويخرج ما لا ينقي كالزجاج والفحم الرخولأن الإنقاء شرط ، ولا يحصل به ، ويخرج المطعومات والروث والرمة ، وإن كانا ظاهرين لما روى ابن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : لا تنجسوا بالروث ، ولا بالعظام فأن زاد إخوانكم من الجن رواه مسلم . علل النهي بكونه زاداً للجن فزادنا أولى . ويخرج ما له حرمة كالورق المكتوب ، لأن له حرمة ، أشبه المطعوم ، ويخرج منه ما يتصل بحيوان ، كيده ، وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها ، لأنه ذوحرمة ، فأشبه سائر أعضاءها . وإن استجمر بما نهى عنه لم يصح، لأن الاستجمار رخصة فلا تستباح بالمحرم كسائر الرخص .
فصل :
ولا يستجمر بيمينه ، ولا يستعين بها فيه ، لحديث سلمان وروى أبوقتادة أن النبي (ص) قال : لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهويبول ، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه متفق عليه . فيأخذ ذكره بيساره ، ويمسح به الحجر أوالأرض ، فإن كان الحجر صغيراً أمسكه بعقبيه ، أوبإبهامي قدميه ، فمسح عليه ، فإن لم يمكنه ، أخذ الحجر بيمينه ، والذكر بيساره ، فمسحه على الحجر .
ولا يكره الاستعانة باليمنى في الماء ، لأن الحاجة داعية إليه ، فإذا استجمر بيمينه أجزأه ، لأن الاستجمار بالحجر لا باليد ، فلم يقع النهي على ما يستنجي به .
فصل :
وكيف حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه إلا أن المستحب أن يمر حجراً من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه ، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك ، ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين ، لما روي عن النبي (ص) ، أنه قال : أولا يجد أحدكم حجرين للصفحتين ، وحجراً للمسربة رواه الدارقطني ، وقال إسناد حسن . ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تتنجس يده به عند الاستجمار في الدبر ، والمرأة مخيرة في البداءة بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها .
فصل :
فإن توضأ قبل الاستنجاء ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجزئه ، لأنها طهارة يبطلها الحدث ، فاشترط تقديم الاستنجاء عليها كالتيمم .
والثانية : يصح لأنها نجاسة فلم يشترط تقديم إزالتها كالتي على ساقه ، فعلى هذه الرواية إن قدم التيمم على الاستجمار ففيه وجهان :
أحدهما : يصح قياساً على الوضوء .
والثاني : لا يصح لأنه لا يرفع الحدث ، وإنما تستباح به الصلاة ، فلا تباح مع قيام المانع . وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير الفرج ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح قياساً على نجاسة الفرج .
والثاني : يصح لأنها نجاسة لم توجب التيمم فلم تمنع صحته كالتي على ثوبه .
باب ما يوجب غسله
الموجب له في حق الرجل ثلاث أشياء :
الأول : إنزال المني ، وهوالماء الدافق تشتد الشهوة عند خروجه ، ويفتر البدن بعده . وماء الرجل أبيض ثخين ، وماء المرأة أصفر رقيق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر رواه مسلم . فيجب الغسل بخروجه في النوم واليقظة ، لأن أم سليم قالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : نعم إذا رأت الماء متفق عليه . فإن خرج لمرض من غير شهوة لم يوجب ، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض ، ولا يخرج في المرض إلا رقيقاً . فإن احتلم فلم يرى بللاً فلا غسل عليه ، لحديث أم سليم . وإن رأى منياً ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل ، لما روت عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ، ولا يذكر احتلاماً ، فقال : يغتسل . وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم ، ولا يجد البلل ، فقال : لا غسل عليه رواه أبوداود . فإن وجد منياً في ثوب ينام فيه هووغيره ، فلا غسل عليه ، لأن الأصل عدم وجوبه ، فلا يجب بالشك .
وإن لم يكن ينام فيه غيره ، وهوممن يمكن أن يحتلم كابن اثني عشر سنة فعليه الغسل .
وإعادة الصلاة من أحدث نومة نامها ، لأن عمر رضي الله عنه رأى في ثوبه منياً بعد أن صلى ، فاغتسل وأعاد الصلاة .
فصل :
والمذي : ماء رقيق يخرج بعد الشهوة متسبباً لا يحس بخروجه ، فلا غسل فيه ، ويجب منه الوضوء ، لما روى سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : كنت ألقى من المذي شدة وعناء ، فكنت أكثر منه الاغتسال ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألته عنه ، فقال : يجزيك من ذلك الوضوء ، حديث صحيح . وهل يوجب غسل الذكر والأنثيين ؟ على روايتين :
إحداهما : لا يوجب ، لحديث سهل .
والثانية : يوجب لما روى علي رضي الله عنه قال : كنت رجلاً مذاء ، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته ، فأمرت المقداد فسأله ، فقال : يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ، رواه أبوداود .
والودي : ماء أبيض يخرج عقب البول ، فليس فيه إلا الوضوء ، لأن الشرع لم يرد فيه بزيادة عليه .
فإن خرج منه شيء ولم يدر ، أمني هوأوغيره ؟ في يقظة فلا غسل فيه ، لأن المني الموجب الغسل يخرج دفقاً بشهوة ، فلا يشتبه بغيره ، وإن كان في نوم ، وكان نومه عقيب شهوة بملاعبة أهله ، أوتذكر فهومذي ، لأن ذلك سبب المذي ، والظاهر أنه مذي ، وإن لم يكن كذلك اغتسل ، لحديث عائشة في الذي جد البلل ، ولأن خروج المني في النوم معتاد ، وغيره نادر ، فحمل الأمر على المعتاد .
فصل :
وإن أحس بانتقال المني من ظهره ، فأمسك ذكره فلم يخرج ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا غسل عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا رأت الماء .
والثانية : يجب ، لأنه خرج من مقره ، أشبه ما لوظهر .
فإن اغتسل فخرج بعد ذلك ، وجب الغسل على الرواية الأولى ، لأن الواجب متعلق بخروجه ، ولم يجب على الثانية ، لأنه تعلق بانتقاله ، وقد اغتسل له .
وعنه : إن خرج قبل البول ، وجب الغسل ، لأنا نعلم أنه المني المنتقل ، فإن خرج بعده لم يجب لأنه يحتمل أنه غيره ، وهوخارج لغير شهوة ، وفي فضلة المني الخارج بعد الغسل الروايات الثلاث .
فصل :
والثاني : التقاء الختانين ، وهوتغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن عري عن الإنزال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل رواه مسلم . وختان الرجل : الجلدة التي تبقى بعد الختان ، وختان المرأة ، جلدة كعرف الديك في أعلى الفرج يقطع منها في الختان ، فإذا غابت الحفشة في الفرج تحاذى ختاناهما فيقال : التقيا وإن لم يتماسا .
ويجب الغسل في الإيلاج في كل فرج ، قبل أودبر ، من آدمي ، أوبهيمة ، حي أوميت ، لأنه فرج أشبه قبل المرأة .
فإن أولج من قبل الخنثى المشكل ، فلا غسل عليهما لأنه لا يتيقن كونه فرجاً فلا يجب الغسل بالشك.
فصل :
والثالث : إسلام الكافر وفيه روايتان :
إحداهما : يوجب الغسل اختارها الخرقي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة بن أثال ، وقيس بن عاصم أن يغتسلا حين أسلما ، ولأن الكافر لا يسلم من حدث لا يرتفع حكمه باغتساله ، فقامت مظنة ذلك مقامه ، ولا يلزمه أن يغتسل للجنابة ، لأن الحكم تعلق بالمظنة ، فسقط حكم المظنة كالمشقة في السفر .
والثانية : لا غسل عليه اختارها أبوبكر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : إنك تأتي قوماً أهل كتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، فأن هم أطاعوك لذلك ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات متفق عليه . ولم يأمرهم بالغسل ، ولوكان أول الفروض لأمر به ، ولأنه أسلم العدد الكثير ، والجم الغفير ، فلوأمروا بالغسل لنقل نقلاً متواتراً .
فإن أجنب في حال كفره احتمل أنه لا يجب الغسل عليه لما ذكرناه واحتمل أنه يجب ، وهوقول أبي بكر ، لأن حكم الحدث باق .
فصل :
أما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة ، وتزيد بالغسل من الحيض ، والنفاس ، ونذكره في بابه .
ولا يجب الغسل في الولادة العارية من الدم ، لأن الإيجاب من الشرع ، ولم يوجب لها ، ولا هي في معنى المنصوص عليه .
وعنه يجب بها ، لأنها لا تكاد تعرى من نفاس موجب ، فكانت مظنة له ، فأقيمت مقامه كاتقاء الختانين مع الإنزال .
فصل :
ولا يجب الغسل بغير ذلك ، من غسل ميت ، أوإفاقة مجنون ، أومغمىً عليه ، لما ذكرناه .
فصل :
ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث ، ويحرم عليه قراءة آية فصاعداً ، لقول علي رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ، ويأكل معنا اللحم ، ولم يكن يحجبه . أوقال : يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة . رواه أبوداود . وفي بعض آية روايتان :
إحداهما : يحرم قراءته ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تقرأ الحائض والجنب شيئاً من القرآن رواه أبوداود .
والأخرى : يجوز ، لأن الجنب لا يمنع من قول : بسم الله ، والحمد لله ، وذلك بعض آية .
فصل :
ويحرم عليه اللبث في المسجد لقوله تعالى : {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} . ، يعني مواضع الصلاة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أحل المسجد لحائض ، ولا جنب رواه أبوداود . ولا يحرم العبور عفي المسجد ، لقوله تعالى : {إلا عابري سبيل} ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : ناوليني الخمرة من المسجد قالت : إني حائض ، قال : إن حيضك ليست في يدك .
قال بعض أصحابنا : إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد ، لأن الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهوجنب ، توضأ ثم دخل فجلس فيه ، ولأن الوضوء يخفف بعض حدثه فيزول بعض ما منعه .
فصل :
ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة ، لما روى ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله أيرقد أحدنا وهوجنب ؟ قال : نعم ، إذا توضأ أحدكم فليرقد متفق عليه . ويستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أويعود للجماع ، ويغسل فرجه ، فأما الحائض فلا يستحب لها شيء من ذلك ، لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ، ولا يصح منها .
باب الغسل من الجنابة
وهي على ضربين : كامل ، ومجزئ .
الضرب الأول : الكامل ، يأتي فيه بتسعة أشياء : النية ، وهوأن ينوي الغسل للجنابة ، أواستباحة ما لا يستباح إلا بالغسل ، كقراءة القرآن ، واللبث في المسجد ثم يسمي ، ثم يغسل يديه ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء . ثم يغسل ما به من الأذى ، ويغسل فرجه وما يليه ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بها أصول شعره ، ويخلله بيده ، ثم يفيض الماء على سائر جسده ، ثم يدلك بدنه بيده ، وإن توضأ إلا غسل رجليه ، ثم غسل قدميه آخراً ، فحسن . قال أحمد رضي الله عنه : الغسل من الجنابة على حديث عائشة ، يعني قولها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يخلل شعره بيديه ، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته ، أفاض عليه الماء ثلاث مرات ، ثم غسل سائر جسده .
وقالت ميمونة : وضع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة ، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أوثلاثاً ، ثم تمضمض ، واستنشق ، وغسل وجهه ، وذراعيه ، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده ، فأتيته بالمنديل فلم يردها ، وجعل ينفض الماء بيده . متفق عليهما .
الضرب الثاني : المجزئ ، وهوينوي ، ويعم بدنه وشعره بالغسل ، والتسمية ههنا كالتسمية في الوضوء فيما ذكرنا ، ويجب إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر وإن كان كثيفاً ، لحديث عائشة ، ولا يجب نقضه إن كان مضفوراً لما روت أم سلمة قالت : قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين رواه مسلم ، ولا ترتيب الغسل ، لأن الله تعالى قال : {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ولم يقدم بعض البدن على بعض لكن يستحب البداءة بما ذكرناه ، والبداءة بغسل الشق الأيمن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في طهوره ، ولا موالاة فيه ، لأنه طهارة لا ترتيب فيها فلم يكن فيها موالاة كغسل النجاسة.
فصل :
فأما غسل الحيض ، فهوكغسل الجنابة سواء إلا أنه يستحب لها أن تأخذ شيئاً من المسك أوطيب أوغيره ، فتتبع به أثر الدم ، ليزيل [ زفورته ] لما روت عائشة رضي الله عنها: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض ، فقال : خذي فرصة من مسك ، فتطهري بها فقالت : كيف أتطهر بها ؟ فقالت عائشة : قلت : تتبعي بها أثر الدم . رواه مسلم . فإن لم تجد مسكاً فغيره من الطيب ، فإن لم تجد فالماء كاف .
وهل عليها نقض شعرها للغسل منه ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يجب ، لأنه غسل واجب أشبه الجنابة .
والثانية : يجب ، ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته ، وإنما عفي عنه في الجنابة ، لأنه يتكرر فيشق النقض فيه ، بخلاف الحيض .
فصل :
والأفضل تقديم الوضوء على الغسل ، للخبر الوارد ، فإن اقتصر على الغسل ونواهما أجزأه عنهما لقول الله تعالى : {إن كنتم جنبا فاطهروا} ولم يأمر بالوضوء معه ] ، ولأنهما عبادتان من جنس : صغرى وكبرى ، فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية ، كالحج ، والعمرة .
وعنه : لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ ، لأنهما نوعان يجبان بسببين ، فلم يدخل إحداهما في الآخر ، كالحدود . وإن نوى إحداهما دون الآخر ، فليس له غيرها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وإنما لكل امرئ ما نوى .
فصل :
ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا ، ويتوضآ من إناء واحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هووزوجته من إناء واحد ، يغرفان منه جميعاً ، متفق عليه . وقال ابن عمر كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، رواه أبوداود ، ويجوز للمرأة التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة ، وللرجل التطهر بفضل طهور الرل وفضل طهور المرأة ما لم تخل به .
فإن خلت به ، ففيه وجهان :
إحداهما : يجوز أيضاً ، لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت : أجنبت فاغتسلت من جفنة ، ففضلت فيها فضلة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليغتسل منها ، فقلت : إني اغتسلت منه فقال : إن الماء ليس عليه جنابة رواه أبوداود ولأنه ماء لم ينجس ، ولم يزل عن إطلاقه ، فأشبه فضله الرجل .
والثانية : لا يجوز للرجل التطهر به ، لما روى الحكم بن عمروقال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة ، حديث حسن . قال أحمد رحمه الله : جماعة من الصحابة كرهوه ذكر منهم ابن عمر وعبد الله بن سرجس وخص ما خلت به ، لقول عبد الله بن سرجس : توضأ أنت ههنا ، وهي ههنا ، فأما إذا خلت به فلا تقربنه .
ومعنى الخلوة : أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح .
وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل .
وإنما تؤثر خلوته في الماء اليسير ، لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير ، فهذا أولى .
ولا يخرج الماء الذي خلت به المرأة عن إطلاقه . بل يجوز للنساء التطهر به من الحدث والنجاسة .
وللرجل إزالة النجاسة به ، لأن منع الرجل من الوضوء به تعبد ، فوجب قصره على مورده .
وذكر القاضي أنه لا يزيل النجاسة ، لأن ما لا يرفع الحدث لا يزيل النجس ، كالخل .
وهذا لا يمكن القول بموجبه ، فإن هذا يرفع حدث المرأة بخلاف الخل .
باب التيمم
التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله ، لعدم ، أومرض ، لقول الله تعالى : {وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أوعلى سفر} إلى قوله : {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} . وروى عمار قال : أجنبت فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فذكرت ذلك له فقال : إنما يكفيك أن بقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه , ووجهه . متفق عليه . والسنة في التيمم أن يضرب بيديه على الأرض ضربة واحدة ، ثم يمسح بها وجهه ، ويديه إلى الكوعين ، للخبر ، ولأن الله تعالى أمر بمسح اليدين . واليد عند الإطلاق في الشرع تتناول اليد إلى الكوع ، بدليل قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . وإن مسح يديه إلى المرفقين ، فلا بأس ، لأنه قد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسواء فعل ذلك بضربتين أوأكثر . ويستحب تفريق أصابعه عند الضرب ليدخل الغبار فيما بينهما ، وإن كان التراب ناعماً فوضع اليدين عليه وضعاً أجزأه ، ويسمح جميع ما يجب غسله من الوجه ، مما لا يشق ، مثل باطن الفم ، والأنف ، وما تحت الشعور الخفيفة ، لقوله تعالى : {امسحوا بوجوهكم} وكيفما مسح بعد أن يستوعب الوجه والكفين إلى الكوعين ، جاز لأن المستحب في الضربة الواحدة أن يمسح وجهه بباطن أصابع يديه ، وظاهر كفيه بباطن راحتيه ، وإن مسح بضربتين ، مسح بأولاهما وجهه ، وبالثانية يديه ، فإن مسح إلى المرفقين ، وضع بطون أصابع اليسرى على ظهور أصابع اليمنى ، ثم يمرهما إلى مرفقيه ، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ، ويمر عليه ، ويرفع إبهامه ، فإن بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم مسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك ، ثم مسح إحدى الراحتين بالأخرى ، ويخلل بين أصابعه ، وإن يممه غير جاز ، كما يجوز أن يوضئه .
وإن أثارت الريح عليه تراباً ، فمسح وجهه بما على يديه جاز ، وإن مسح وجهه بما عليه لم يجز ، لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به ، ويحتم أن يجزئه إذا صمد للريح ، لأنه بمنزلة مسح غيره له .
فصل :
وفرائض التيمم : النية ، لما ذكرناه في الوضوء ، ومسح الوجه والكفين ، للأمر به ، وترتيب اليدين على الوجه قياساً على الوضوء ، وفي التسمية والموالاة روايتان ، كالوضوء .
فأما النية ، فهوأن ينوي استباحة ما لا يباح إلا به ، فإن نوى صلاة مكتوبة أبيح له سائر الأشياء لأنه تابع لها ، فيدخل في نية المتبوع ، وإن نوى نفلاً أوصلاة مطلقة ، لم يبح له الفرض ، لأن التيمم لا يرفع الحدث ، وإنما تستباح به الصلاة ، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه ، وله قراءة القرآن لأن النافلة تتضمن القرآن ، وليس له الجنازة المتعينة ، لأنها فرض ولوكانت نفلاً فله فعلها .
وإن نوى قراءة القرآن لم يكن له التنفل لأنه الأعلى .
فإن نوى رفع الحدث لم يجزئه . لأن التيمم لا يرفع الحدث .
وعنه : ما يدل على أنه يرفع الحدث ، فيكون حكمه حكم الوضوء في نيته .
ولا بد له من تعيين ما تيمم له من الحدث الموجب للغسل ، أوالوضوء أوالنجاسة ، فإن تيمم للحدث ونسي الجنابة ، أوالجنابة ونسي الحدث ، لم يجزئه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : وإنما لكل امرئ ما نوى ولأن ذلك لا يجزئ في الماء وهوالأصل ، ففي البدل أولى .
فصل :
ويجوز التيمم عن جميع الأحداث لظاهر الآية ، وحديث عمار وروى عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل مع القوم ، فقال : يا فلان ، ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ قال : أصابتني جنابة ولا ماء عندي ، قال : عليك بالصعيد فإنك يكفيك متفق عليه .
ويجوز التيمم للنجاسة على البدن ، لأنها طهارة مشترطة للصلاة ، فناب فيها التيمم ، كطهارة الحدث .
واختار أبوالخطاب أنه يلزمه الإعادة إذا تيمم لها عند عدم الماء .
وقيل في وجوب الإعادة روايتان :
إحداهما : لا يجب ، لقول عليه السلام : التراب كافيك ما لم تجد الماء وقياساً على التيمم الحدث .
والأخرى تجب الإعادة ، لأنه صلى بالنجاسة ، فلزمته الإعادة ، كما لوتيمم .
ولا يجوز التيمم عن النجاسة في غير البدن ، لأنها طهارة في البدن فلا تؤثر في غيره كالوضوء .
فصل :
ولجواز التيمم ثلاث شروط :
أحدها : العجز عن استعمال الماء ، وهونوعان :
أحدهما : عدم الماء ، لقول الله تعالى : {فلم تجدوا ماء} . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عسر سنين ، فإن وجدت الماء فأمسه جلدك رواه أبوداود .
النوع الثاني : الخوف على نفسه باستعمال الماء ، لمرض أوقرح يخاف باستعمال الماء تلفاً أوزيادة مرض أوتباطؤ البرء أوشيئاً فاحشاً في جسمه ، لقول الله تعالى : {وإن كنتم مرضى أوعلى سفر} ، وقوله تعالى : {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} وإن وجد ماء يحتاج إلى شربه للعطش ، أوشرب رفيقه أوبهائمه ، أوبينه وبينه سبع أوعدويخافه على نفسه أوماله ، أوخاف على ماله إن تركه وذهب إلى الماء ، فله التيمم لأنه خائف الضرر باستعماله ، فهوكالمريض . وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى ، لما روى عمروبن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عمروأصليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته من بالذي منعني من الاغتسال ، ثم قلت سمعت الله يقول : {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} فضحك النبيصلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً . رواه أبوداود .
ولأنه خائف على نفس ، أشبه المريض ، ولا إعادة عليه إن كان مسافراً ، لما ذكرنا .
وإن كان حاضراً ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه الإعادة لذلك .
والثانية : يلزمه ، لأنه ليس بمريض ، ولا مسافر ، فلا يدخل في عموم الآية ، ولأن الحضر مظنة إمكان إسخان الماء ، فالعجز عنه عذر غير متصل .
وإن قدر على إسخان الماء ، لزمه كما يلزمه شراء الماء ، ومن كان واجداً للماء فخاف فوت الوقت لتشاغله بتحصيله ، أواستسقائه لم يبح له التيمم ، لأن الله تعالى قال : {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا واجد .
وإن خاف فوات الجنازة فليس له التيمم لذلك .
وعنه : يجوز ، لأنه لا يمكن استدراكها .
فصل :
والثاني : طلب الماء شرط في الرواية المشهورة ، لقوله تعالى : {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ، ولا يقال : لم يجد إلا لمن طلب ، ولأنه بدل ، فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل ، كالصيام في الظهار .
وعنه : ليس بشرط ، لأنه ليس بواجب قبل الطلب ، فيدخل في الآية .
وصفة الطلب أن ينظر يمينه ، وشماله ، وأمامه ، ووراءه ، وإن كان قريباً من حائل ، من ربوة ، أوحائط ، علاه فنظر حوله . وإن رأى خضرة أونحوها استبرأها .
وإن كان معه رفيق ، سأله الماء فإن بذله له لزمه قبوله . لأن المنة لا تكثر في قبوله .
وإن وجد ماء يباع بثمن المثل أوبزيادة غير مجحفة بماله ، وهوواجد للثمن ، غير محتاج إليه ، لزمه شراؤه ، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة .
فإن لم يبذله له صاحبه ، لم يكن له أخذه قهراً ، وإن استغنى عنه صاحبه ، لأن له بدلاً ، وإن علم بماء قريب ، لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أوماله أوفوت الوقت أوالرفقة وإن تيمم ثم رأى ركباً ، أوخضرة ، أوشيئاً يدل على الماء ، أوسراباً ظنه ماء قبل الصلاة ، لزمه الطلب لأنه وجد دليل الماء ، وبطل تيممه ، لأنه وجب عليه الطلب ، فبطل تيممه ، كما لورأى ماء . وإن رأى الركب ونحوه في الصلاة ، لم تبطل لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة ، فلا يبطلها في الشك .
فصل :
الثالث : دخول الوقت شرط ، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم ، فلم يصح تيممه ، كما لوتيمم وهوواجد للماء ، وإن كان التيمم لنافلة ، لم يجز في وقت النهي عن فعلها ، لأنه قبل وقتها ، وإن تيمم لفائتة أونافلة قبل وقت الصلاة ، ثم دخل الوقت بطل تيممه ، وإن تيمم لمكتوبة في وقتها ، فله أن يصليها وما شاء من النوافل قبلها وبعدها ، ويقضي فوائت ، ويجمع بين الصلاتين ، لأنها طهارة أباحت فرضاً ، فأباحت سائر ما ذكرناه ، كالوضوء .ومتى خرج الوقت بطل التيمم في ظاهر المذهب ، لأنها طهاة عذر وضرورة ، فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة .
وعنه : يصلي بالتيمم حتى يحدث ، قياساً على طهارة الماء .
فصل :
والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت إن رجا وجود الماء ، لقول علي رضي الله عنه في الجنب : يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت ، ولأن الطهارة في الماء فريضة . وأول الوقت فضيلة ، وانتظار الفريضة أولى . وإن يئس من الماء ، استحب تقديمه لئلا يترك فضيلة متيقنة لأمر غير مرجو.
ومتى تيمم وصلى صحت صلاته ، ولا إعادة عليه ، وإن وجد الماء في الوقت ، لما روى عطاء بن يسار ، قال : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة ، وليس معهما ماء ، فتيمما صعيداً طيباً ، فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يعد : أجزأتك الصلاة وقال للذي أعاد : لك الأجر مرتين رواه أبوداود . وقال : قد روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحيح أنه مرسل ، ولأنه أدى فريضة بطهارة ، فأشبه ما لوأداها بطهارة الماء .
فإن علم أن في رحله ماء نسيه ، فعليه الإعادة ، لأنها طهارة واجبة ، فلم تسقط بالنسيان ، كما لونسي عضواً لم يغسله ، وإن ضل عن رحله ، أوضل عنه غلامه الذي معه الماء ، فلا إعادة عليه ، لأنه غير مفرط ، وإن وجد بقربه بئراً أوغديراً علامته ظاهرة ، أعاد لأنه مفرط في الطلب ، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه .
فصل :
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله ، وتيمم للباقي إن كان جنباً ، لقول الله تعالى : {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا واجد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم رواه البخاري . وقال : إذا وجدت الماء فأمسه جلدك ولإنه مسح أبيح للضرورة ، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة .
وإن كان محدثاً ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه استعماله لذلك .
والآخر : لا يلزمه ، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي ، فبطلت طهارته ، بخلاف غسل الجنابة .
وإن كان بعض بدنه صحيحاً ، وبعضه جريحاً ، غسل الصحيح ، وتيمم للجريح جنباً كان أومحدثاً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي أصابته الشجة : إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أويعصب على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده رواه أبوداود ، لأن العجز ههنا ببعض البدن ، وفي الاعواز العجز ببعض الأصل ، فاختلفا ، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة ، فله العدول إلى الصوم ، ولوكان بعضه حراً فملك بنصفه الحر مالاً ، لزمه التكفير بالمال ، ولوتكن كالتي قبلها .
فصل :
ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها ، لأنه بدل عنها . فإن تيمم لجنابة ، ثم أحدث منع ما يمنعه المحدث من الصلاة والطواف ، ومس المصحف ، لأن التيمم ناب عن الغسل ، فأشبه المغتسل إذا أحدث ، ويزيد التيمم بمبطلين :
أحدهما : القدرة على استعمال الماء سواء وجدت في الصلاة أوقبلها أوبعدها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك دل بمفهومه على أنه ليس بطهور عند وجود الماء ، وبمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده ، ولأنه قدر على استعمال الماء ، فأشبه الخارج من الصلاة .
فعلى هذا إن وجد في الصلاة خرج ، وتوضأ ، واغتسل إن كان جنباً ، واستقبل الصلاة ، كما لوأحدث في أثنائها .
وعنه : إذا وجده في الصلاة لم يبطل ، لأنه شرع في المقصود ، فأشبه المكفر يقدر على الإعتاق بعد شروعه في الصيام إلا أن المروذي روى عنه أنه قال : كنت أقول : إنه يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث أنه يخرج . وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية .
والثاني : خروج الوقت يبطلها لما ذكرناه ، فإن خرج وهوفي الصلاة بطل ، كما لوأحدث .
ومن تيمم وهولابس خفاً أوعمامة ، يجوز المسح عليهما ، ثم خلع أحدهما ، فقد ذكر أصحابنا أنه يبطل تيممه ، لأنه من مبطلات الوضوء ، ولا يقوى ذلك عندي ، لأنها طهارة لم يمسح عليهما ، فلم تبطل بخلعهما ، كالملبوس على غير طهارة بخلاف الوضوء .
فصل :
ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير ، وهوما بين قرتين قريبتين ، لقوله تعالى : {أوعلى سفر} ولأن الماء يعدم في القصير غالباً ، أشبه الطويل ، ويجوز في الحضر للمرض للآية ، ولأنه عذر غالب يتصل ، أشبه السفر . وإن عدم الماء في الحضر لحبس ، تيمم ولا إعادة عليه ، لأنه في عدم الماء ، وعجزه عن طلبه كالمسافر ، وأبلغ منه فألحق به ، وإن عدمه لغير ذلك ، وكان يرجوه قريباً ، تشاغل بطلبه ، ولم يتيمم ، وإن كان ذلك يتمادى ، تيمم وصلى وأعاد لأنه عذر نادر غير متصل . ويحتمل أنه لا يعيد ، لأنه في معنى عادم الماء في السفر ، فألحق به .
وإن كان مع المسافر ماء ، فأراقه قبل الوقت ، أومر بماء قبل الوقت ، فتركه ، ثم عدم الماء في الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه ، لأنه لم يخاطب باستعماله .
وإن كان ذلك في الوقت ، ففيه وجهان :
أحدهما : تلزمه الإعادة ، لأنه مفرط .
والثاني : لا تلزمه ، لأنه عادم للماء أشبه ما قبل الوقت .
فصل :
ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد لقوله تعالى : {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وما لا غبار له لا يمسح شيء منه .
وقال ابن العباس : الصعيد تراب الحرث ، والطيب : هوالطاهر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله تعالى قبلي جعل لي التراب طهوراً رواه الشافعي في مسنده ولوكان غيره طهوراً ذكره فيما من الله به عليه .
وعنه : يجوز التيمم بالرمل والسبخة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : جعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً رواه البخاري ومسلم . وقال ابن أبي موسى : إن لم يجد غيرهما ، تيمم بهما .
وإن دق الخزف أوالحجارة ، وتيمم به لم يجزئه ، لأنه ليس بتراب .
وإن خالط التراب جص ، أودقيق ، أوزرنيخ ، فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات .
وإن خالط ما لم يعلق باليد ، كالرمل والحصى ، لم يمنع التيمم به ، لأنه لا يمنع وصول الغبار إلى اليد .
وإن ضرب بيده على صخرة عليها غبار ، أوحائط ، أولبد ، فعلا يديه غبار ، أبيح التيمم به ، لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه ، وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ، ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه . رواه أبوداود .
ولا بأس أن يتيمم الجماعة من موضع واحد ، كما يتوضؤون من حوض واحد .
وإن تناثر من التراب على العضوبعد استعماله شيء :
احتمل أن يمنع من استعماله مرة ثانية ، لأنه كالماء المستعمل .
واحتمل أن يجوز لأنه لم يرفع حدثاً ولم يزل نجساً ، بخلاف الماء .
فصل :
فإن عدم الماء والتراب ووجد طيناً ، لم يستعمله ، وصلى على حسب حاله ، ولم يترك الصلاة ، لأن الطهارة شرط ، فتعذرها لا يبيح أمر الصلاة ، كالسترة ، والقبلة . وفي الإعادة روايتان :
إحداهما : لا تلزمه ، لأن الطهارة شرط ، فأشبهت السترة والقبلة .
والثانية : تلزمه ، لأنه عذر نادر غير متصل ، أشبه نسيان الطهارة .
فصل :
إذا اجتمع جنب ، وميت ، وحائض ، معهم ماء لأحدهم لا يفضل عنه ، فهوأحق به ، ولا يجوز أن يؤثر به ، لأنه واجد للماء ، فلم يجزئه التيمم ، فإن آثر به وتيمم ، لم يصح تيممه مع وجوده لذلك . وإن استعمله الآخر ، فحكم المؤثر به حكم من أراق الماء .
وإن كان الماء لهم ، فهم فيه سواء ، وإن وجدوه ، فهوللأحياء دون الميت ، لأنه لا وجدان له .
وإن كان لغيرهم فأراد أن يجوز به ، فالميت أولى به ، لأن غسله خاتمة طهارته ، وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان .
وإن فضل عنه ما يكفي أحدهما ، فالحائض أحق به لأن حدثهما آكد ، وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة الوطء ، وإن اجتمع على رجل حدث ونجاسة ، فغسل النجاسة أولى ، لأن طهارة الحدث لها بدل مجمع عليه ، بخلاف النجاسة .
وإن اجتمع محدث وجنب ، فلم يجدا إلا ما يكفي المحدث ، فهوأحق به ، لأنه يرفع جميع حدثه ، وإن كان يكفي الجنب وحده ، فهوأحق به ، لما ذكرنا في الحائض . وإن كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه ، ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يقدم الجنب لما ذكرنا .
والثاني : المحدث ، لأن فضلته يلزم الجنب [ استعمالها ] فلا تضيع ، بخلاف فضلة الجنب .
والثالث : التسوية : لأنه تقابل الترجيحان فتساويا ، فتدفع إلى من شاء منهما ، أويقرع بينهما والله أعلم .
باب الحيض
وهودم ترخيه الرحم يخرج من المرأة في أوقات معتادة يتعلق به ثلاثة عشر حكماً :
أحدها : تحريم فعل الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة متفق عليه .
والثاني : سقوط فرضها ، لقول عائشة رضي الله عنها : كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، متفق عليه .
والثالث : تحريم الصيام ، ولا يسقط وجوبه ، لحديث عائشة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل ؟ قلن بلى ، رواه البخاري .
والرابع : تحريم الطواف ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة إذ حاضت : افعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت حتى تطهري متفق عليه .
والخامس : تحريم قراءة القرآن ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن رواه الترمذي .
والسادس : تحريم مس المصحف ، لقوله تعالى : {لا يمسه إلا المطهرون} ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمروبن حزم : لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر رواه الأثرم .
والسابع : تحريم اللبث في المسجد ، لما ذكرناه من قبل .
والثامن : تحريم الطلاق ، لما نذكره في النكاح .
والتاسع : تحريم الوطء في الفرج ، لقوله تعالى : {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} .
ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء غير النكاح رواه مسلم .
وقالت عائشة : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني ، وأنا حائض ، متفق عليه . ولأنه وطء حرم للأذى ، فاختص بمحله ، كالوطء في الدبر .
والعاشر : منع صحة الطهارة ، لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمرار يمنع صحتها كالبول .
والحادي عشر : وجوب الغسل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : دعي الصلاة قدر الأيام التي تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي متفق عليه .
الثاني عشر : وجوب الاعتداد به ، لما نذكره في العدد .
الثالث عشر : حصول البلوغ به لما نذكره في موضعه .
فإذا انقطع دمها ولم تغتسل زالت أربعة أحكام : سقوط فرض الصلاة ، لأن سقوطه بالحيض قد زال ، ومنع صحة الطهارة لذلك ، وتحريم الصيام ، لأن وجوب الغسل لا يمنع فعله ، كالجنابة ، وتحريم الطلاق ، لأن تحريمه لتطويل العدة ، وقد زال هذا المعنى .
وسائر المحرمات باقية لأنها تثبت في حق المحدث الحدث الأكبر ، وحدثها باق ، وتحريم الوطء باق ، لأن الله تعالى قال : {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن} قال
مجاهد : حتى يغتسلن .
فإن لم تجد الماء تيممت ، وحل وطؤها ، لأنه قائم مقام الغسل ، فحل به ما يحل بالغسل وإن تيممت للصلاة حل وطؤها ، لأن ما أباح الصلاة أباح ما دونها .
وإن وطئ الحائض قبل طهرها ، فعليه كفارة [ دينار أو] نصف دينار ، لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض . قال : يتصدق بدينار أوبنصف دينار . قال أبوداود : كذا الرواية الصحيحة .
وعن أحمد : لا كفارة فيه ، لأنه وطء حرم للأذى ، فلم تجب به كفارة كالوطء في الدبر ، والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه .
وإن وطئها بعد انقطاع دمها ، فلا كفارة عليه ، لأن حكمه أخف ولم يرد الشرع بالكفارة فيه
فصل :
وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين ، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس بحيض ، ولا يتعلق به أحكامه ، لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك ، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة .
وأقل الحيض يوم وليلة .
وعنه : يوم ، لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره ، فعلم أنه رده إلى العادة ، كالقبض والحرز . وقد وجد حيض معتاد يوماً ، ولم يوجد أقل منه .
قال عطاء : رأيت من تحيض يوماً ، وتحيض خمسة عشر .
قال عبد الله الزبيري : كان في نسائنا من تحيض يوماً ، وتحيض خمسة عشر يوماً .
[ وأكثره خمسة عشر يوماً ] لما ذكرنا .
وعنه سبعة عشرة يوماً .
وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر ، فقال لشريح : قل فيها ، فقال : إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدن أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك الصلاة فيها ، وإلا فهي كاذبة ، فقال علي رضي الله عنه : قالون ، يعني جيد . وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر ، ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الحيض ، وأقل الطهر .
وعنه : أقله خمسة عشر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي . وليس لأكثر حد ، وغالب الحيض ست أوسبع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش
تحيضي - في علم الله - ستة أيام أوسبعة ، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً ، أوثلاثة وعشرين كما تحيض النساء ، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن حديث حسن . وغالب الطهر أربعة وعشرون أوثلاثة وعشرون ، لهذا الحديث .
وإذا بلغت المرأة ستين عاماً يئست من المحيض ، لأنه لم يوجد لمثلها حيض معتاد ، فإن رأت دماً فهودم فاسد ، وإن رأته بعد الخمسين ، ففيه روايتان :
إحداهما : هودم فاسد أيضاً ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض .
والثانية : إن تكرر بها الدم فهوحيض ، وهذا أصح لأنه قد وجد ذلك .
وعنه : أن نساء العجم ييأسن في خمسين ، ونساء العرب إلى ستين ، لأنهن أقوى جلبة .
وقال الخرقي : إذا رأت الدم ، لها خمسون سنة ، فلا تدع الصلاة ، ولا الصوم ، وتقضي الصوم احتياطاً .
وإن رأته بعد الستين ، فقد زال الإشكال ، فتصوم وتصلي ، ولا تقضي .
والحامل لا تحيض ، وإن رأت دماً فهودم فاسد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حامل حتى تستبرأ بحيضة يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة ، فدل على أنها لا تجتمع معه .
فصل :
والمبتدأ فيها الدم في سن تحيض لمثله تترك الصلاة والصوم ، لأن دم الحيض جبلة وعادة ، ودم الفاسد عارض لمرض ونحوه ، والأصل عدمه ، فإن انقطع لدون يوم وليلة ، فهودم فاسد ، وإن بلغ ذلك جلست يوماً وليلة ، فإن انقطع دمها لذلك اغتسلت وصلت ، وكان ذلك حيضها .
وإن زاد عليه ففيه أربع روايات :
أشهرهن : أنها تغتسل عقيب اليوم والليلة ، وتصلي ، لأن العبادة واجبة بيقين ، وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه ، فلا تسقطها بالشك .
فإن انقطع دمها ، ولم يعبر أكثر الحيض ، اغتسلت غسلاً ثانياً ، ثم تفعل ذلك في شهر آخر .
وعنه : تفعله في شهري آخرين .
فإن كان في الأشهر كلها مدة واحدة ، علمت أن ذلك حيضها ، فانتقلت إليه ، وعملت عليه ، وأعادت ما صامت الفرض فيه ، لأننا تبينا أنها صامته في حيضها .
والثانية : تجلس ما تراه من الدم إلى أكثر الحيض ، لأنه دم يصلح حيضاً ، فتجلسه كاليوم والليلة .
والثالثة : تجلس ستاً أوسبعاً لأن الغالب في النساء هكذا يحضن ، ثم تغتسل وتصلي .
والرابعة : تجلس عادة نسائها لأن الغالب أنها تشبههن في جميع ذلك ، فإذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون ، وتكرر ، صار عادة ، فانتقلت إليه ، وأعادت ما صامته من الفرض فيه .
وإن عبر دمها أكثر الحيض ، علمنا استحاضتها فنظر في دمها ، فإن كان متميزاً بعضه أسود ثخين منتن ، وبعضه رقيق أحمر ، وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض ، ولا ينقص عن أقله ، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود ، فتجلسه ، فإذا خلفته اغتسلت وصلت ، لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت : يا رسول الله إني أستحاض ، فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قال : لا إنما ذلك عرق ، ليس بالحيض ، فإذا أقبلت الحيضة ، فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت ، فاغسلي عنك الدم ، وصلي متفق عليه . يعني بإقباله : سواده ونتنه ، وبإدباره : رقته وحمرته . وفي لفظ ، قال : إذا كان دم الحيض ، فإنه أسود ، يعرف فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الأحمر فتوضئي إنما هوعرق رواه النسائي , وقال ابن عباس : ما رأت الدم البحراني ، فإنها تدع الصلاة ، إنما والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم . ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل ، فرجع إلى صفته عند الاشتباه ، كالمني والمذي . إن لم تكن مميزة ، جلست من كل شهر ستة أيام ، أوسبعة ، لما روي أن حمنة بنت جحش قالت : يا رسول الله ، إني أستحاض حيضة شديدة ، منكرة ، قد منعتني الصوم والصلاة ، فقال لها : تحيضي ستة أيام ، أوسبعة أيام ، في علم الله ، ثم اغتسلي ، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت ، فصلى ثلاثاً وعشرين ليلة أوأربعاً وعشرين ليلة وأيامها ، وصومي فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن رواه الترمذي ، وقال حديث حسن . وذكر أبوالخطاب في المبتدأة هذه الروايات الأربع ، وحكي عن ابن عقيل في المبتدأة المميزة أنها تجلس بالتمييز في أول مرة ، لما ذكرنا من الأخبار ، ولأن التمييز يجري مجرى العادة ، والمعتاد تجلس عدة أيام عادتها ، كذلك المميزة .
فصل :
وإن استقرت لها عادة ، فما رأت من الدم فيها فهوحيض سواء كان كدرة أوصفرة أوغيرها ،لما روى مالك عن علقمة عن أمه : أن النساء كن يرسلن بالدرجة ، فيها الشيء من الصفرة ، إلى عائشة فتقول : لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء . قال مالك وأحمد : هوبياض أبيض يتبع الحيضة ، ولأنه دم من زمن العادة أشبه الأسود .
فإن تغيرت العادة ، لم تخل من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن ترى الطهر قبل تمامها ، فإنها تغتسل وتصلي ، لأن ابن عباس قال : لا يحل لها رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل . ولأنها طاهر فتلزمها الصلاة ، كسائر الطاهرات .
وإن عاودها الدم في عادتها ، ففيه روايتان :
إحداهما : تتحيض فيه ، وهي الأولى ، لأنه دم صادف العادة ، فكان حيضاً كالأول .
والثانية : لا تجلس حتى تتكرر ، لأنه جاء بعد طهر ، فلم يكن حيضاً بغير تكرار ، كالخارج عن العادة .
وإن عاودها بعد العادة ، وعبر أكثر الحيض ، فهواستحاضة ، وإن لم يعبر ذلك وتكرر ، فهوحيض ، وإلا فلا ، لأنه لم يصادف عادة ، فلا يكون حيضاً بغير تكرار .
القسم الثاني : أن ترى الدم في غير عادتها ، قبلها أوبعدها مع بقاء عادتها ، أوطهر فيها ، أوفي بعضها ، فالمذهب أنها لا تجلس ما خرج عن العادة حتى تكرر ، وفي قدره روايتان :
إحداهما : ثلاثاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : دعي الصلاة أيام أقرائك وأقل ذلك ثلاثاً .
والثانية : مرتان ، لأن العادة مأخوذة من المعاودة ، وذلك يحصل بمرتين ، فعلى هذا تصوم وتصلي فيما خرج عن العادة مرتين أوثلاثاً فإن تكرر ، انتقلت إليه ، وصار عادة ، وأعادت ما صامته من الفرض فيه ، لأنا تبينا أنها صامته في حيضها .
قال الشيخ رحمه الله : ويقوى عندي أنها تجلس متى رأت دماً يمكن أن يكون حيضاً . وافق العادة أوخالفها ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ، ولم تقيده بالعادة وظاهر الأخبار تدل على أن النساء كن يعددن ما يرينه من الدم حيضاً من غير افتقاد عادة ، ولم ينقل عنهن ذكر العادة ، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان لها ولا الاستفصال عنها إلا في التي قالت : إني أستحاض فلا أطهر ، وشبهها من المستحاضات ، أما في امرأة يأتي دمها في وقت يمكن أن يكون حيضاً ، ثم يطهر فلا ، والظاهر أنهن جرين على العرف في اعتقاد ذلك حيضاً ، ولم يأت من الشرع تغيير ، ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير تقدم عادة ، ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف ، والعرف أن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص ، وفي اعتبار العادة على هذا الوجه ، إخلال ببعض المتنقلات عن الحيض بالكلية ، مع رؤيتها للدم في وقت الحيض على صفته ، وهذا لا سبيل إليه .
فصل :
القسم الثالث : أن ينضم إلى العادة ما يزيدان بمجموعهما على أكثر الحيض ، فلا تخلومن حالين :
أحدهما : أن تكون ذاكرة لعادتها ، فإن كانت غير مميزة ، جلست قدر عادتها ، واغتسلت بعدها وصلت وصامت ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي متفق عليه . وإن كانت مميزة ففيها روايتان :
إحداهما : تعمل بالعادة ، لهذا الحديث .
والأخرى : تعمل بالتمييز ، وهواختيار الخرقي ، لما تقدم من أدلته .
الحال الثاني : أن تكون ناسية لعادتها :
فإن كانت مميزة ، عملت بتمييزها ، لأنه دليل لا معارض له ، فوجب العمل به كالمبتدأة .
وإن لم تكن مميزة فهي على ثلاثة أضرب :
إحداهن : المتحيرة وهي الناسية لوقتها وعددها ، فهذه تتحيض في كل شهر ستة أيام أوسبعة ، على حديث حمنة بنت جحش ، ولأنه غالب عادات النساء ، فالظاهر ، أنه حيضها .
وعنه : أنها ترد إلى عادة نسائها ، كما تقدم .
وقيل : فيها الروايات الأربعة .
ويجعل حيضها من أول كل شهر في أحد الوجهين ، لقول النبي (ص) : تحيضي في علم الله ستة أيام ، أوسبعة أيام ، من كل شهر ، ثم اغتسلي ، وصلي ثلاثة وعشرين يوماً فجعل حيضها من أوله ، والصلاة في بقيته .
والآخر : تجلسه بالاجتهاد ، لأن النبي (ص) ردها إلى الاجتهاد في العديد بين الست والسبع ، فكذلك في الوقت .
وإن علمت أن حيضها في وقت من الشهر كالنصف الأول ولم تعلم موضعه منه ، ولا عدده فكذلك ، إلا أن اجتهادها يختص بذلك الوقت دون غيره .
الضرب الثاني : أن تعلم عددها وتنسى وقتها ، نحوأن تعلم أن حيضها خمس ولا تعلم لها وقتاً .
فهذه تجلس قدر أيامها من أول كل شهر في أحد الوجهين .
وفي الآخر تجلسه بالتحري .
وإن علمته في وقت من الشهر ، مثل أن علمت أن حيضها في العشر الأول من الشهر أوالعشر الأوسط ، جلست قدر أيامها من ذلك الوقت دون غيره .
الضرب الثالث : ذكرت وقتها ونسيت عددها ، مثل أن تعلم أن اليوم العاشر من حيضها ، ولا تدري قدره ، فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة ، واليوم العاشر حيض بيقين .
فإن علمته أول حيضها ، جلست بقية أيامها بعده ، وإن علمته آخر حيضها ، جلست الباقي قبله .
وإن لم تعلم أوله ولا آخره جلست مما يلي أول الشهر في أحد الوجهين وفي الآخر تجلس بالتحري .
فصل :
ومتى ذكرت الناسية عادتها ، رجعت إليها ، لأنها تركتها للعجز عنها ، فإذا زال العجز ، وجب العمل بها لزوال العارض ، فإن كانت مخالفة لما عملت قضت ما صامت من الفرض في مدة العادة ، وما تركت من الصلاة والصيام فيما خرج عنها ، لأننا تبينا أنها تركتها وهي طاهرة .
فصل :
ولا تصير المرأة معتادة حتى تعلم طهرها وشهرها ، ويتكرر .
وشهرها : هوالمدة التي يجتمع لها فيه حيض وطهر ، وأقل ذلك أربعة عشر يوماً ، يوم للحيض وثلاثة عشر للطهر ، وغالبه الشهر المعروف ، لحديث حمنة ، ولأنه غالب عادات النساء ، وأكثره ، لا حد له [ لأن أكثر الحيض لا يتعداه ] وتثبت العادة بالتمييز ، كما لوتثبت بانقطاع الدم ، فلورأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود ، ثم احمر وعبر أكثر الحيض ، وتكرر ذلك ثلاثاً ، ثم رأت في الرابع دماً مبهماً ، كان حيضها أيام الدم الأسود ، لأنه صار عادة لها .
فصل :
والعادة على ضربين : متفقة ومختلفة .
فالمتفقة : مثل من تحيض خمسة من كل شهر ، والمختلفة مثل من تحيض في شهر ثلاثة ، وفي الثاني أربعة ، وفي الثالث خمسة ، ثم يعود إلى الثلاثة ، ثم إلى أربعة على هذا الترتيب، أوفي شهر ثلاثة ، وفي الثاني خمسة ، وفي الثالث أربعة ، ثم تعود إلى الثلاثة ، فكل ما أمكن ضبطه من ذلك ، فهوعادة مستقرة ، وما لم يمكن ضبطه نظرت إلى القدر الذي تكرر منه ، فجعلته عادة ، كأنها رأت في شهر ثلاثة ، وفي شهر أربعة ، وفي شهر خمسة ، فالثلاثة حيض ، لتكررها ثلاثاً .
فإذا رأت في الرابع ستة ، فالأربعة حيض : لتكررها ثلاثاً ، فإذا رأت في الخامس سبعة ، فالخمسة حيض ، وعلى هذا ما تكرر ، فهوحيض ، وما فلا .
فصل :
في التلفيق : إذا رأت يوماً دماً ، ويوم طهراً ، فإنها تغتسل ، وتصلي في زمن الطهر ، لقول ابن عباس رضي الله عنه : لا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل ، ثم إن انقطع الدم لخمسة عشر فما دون ، فجميعه حيض ، تغتسل عقيب كل يوم وتصلي في الطهر، وإن عبر الخمسة عشر ، فهي مستحاضة ترد إلى عادتها ، فإن كانت عادتها ، سبعة متوالية ، جلست ما وافقها من الدم ، فيكون حيضها منه ثلاثة أيام ، أوأربعة ، وإن كانت ناسية ، فأجلسناها سبعة ، وإن أجلسناها أقل الحيض ، جلست يوماً وليلة لا غير ، وإن كانت مميزة ، ترى يوماً دماً أسود ، ثم ترى نقاء ثم ترى أسود إلى عشرة أيام ، ثم ترى دماً أحمر وعبر ، ردت إلى التمييز ، فيكون حيضها زمن الدم الأسود دون غيره ولا فرق بين أن ترى الدم زمناً يكون أن يكون حيضاً كيوم وليلة ، أودون ذلك ، كنصف يوم ، ونصف ليلة ، فإن كان النقاء أقل من ساعة ، فالظاهر أنه ليس بطهر ، لأن الدم يجري تارة ، وينقطع أخرى ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء .
فصل :
وإذا رأت ثلاثة أيام دماً ثم طهرت اثني عشر يوماً ، ثم رأته ثلاثة دماً ، فالأول حيض ، لأنها رأته في زمان إمكانه ، والثاني استحاضة ، لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض ، لكونه لم يتقدمه أقل الطهر ، ولا من الحيض الأول ، لأنه يخرج عن الخمسة عشر . والحيضة الواحدة لا تكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً . فإن كان بين الدمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرر ، فهما حيضتان ، لأنه أمكن جعل كل واحد منهما حيضة منفردة ، لفصل أقل الطهر بينهما ، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر عشر يوماً مثل أن ترى يومين دماً وتطهر عشرة ، وترى ثلاثة دماً وتكرر فهما حيضة واحدة ، لأنه لم يخرج زمنها عن مدة أكثر الحيض . وعلى هذا يعتبر ما ألقي من المسائل في التلفيق .
فصل :
في المستحاضة وهي :
التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس . وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها ، لأنها نجاسة غير معتادة ، أشبه سلس البول ، فإن اختلط حيضها باستحاضتها ، فعليها الغسل عند انقطاع الحيض ، لحديث فاطمة ، ومتى أرادت الصلاة ، غسلت فرجها ، وما أصابها من الدم ، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها ، واستوثقت بالشد ، والتلجيم ، ثم توضأت وصلت ، لما روي أن النبي (ص) قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم : أنعت لك الكرسف يعني القطن ، تحشي به المكان . قالت : إنه أشد من ذلك ، فقال : تلجمي .
وعن أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله (ص) ، فاستفتت لها
أم سلمة رسول الله (ص) فقال : لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر ، قبل أن يصيبها الذي أصابها ، فلتترك الصلاة ، قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ، ثم لتستثفر بثوب ، ثم لتصل رواه أبوداود . فإن خرج الدم بعد الوضوء لتفريط في الشد ، أعادت الوضوء لأنه حدث أمكن التحرز عنه .
وإن خرج لغير تفريط فلا شيء عليها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : اعتكفت مع رسول الله (ص) امرأة من أزواجه ، فكانت ترى الدم ، والصفرة والطست تحتها ، وهي تصلي . رواه البخاري . ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط ، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها ، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها ، وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى ، لما روي في حديث فاطمة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لها : اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي قال الترمذي هذا حديث صحيح . ولأنها طهارة عذر وضرورة ، فقيدت بالوقت ، كالتيمم . وإن توضأت قبل الوقت ، بطل وضوءها بدخوله ، كما في التيمم ، وإن انقطع دمها بعد الوضوء ، وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه لأنه لا يمكن الصلاة فيه ، وإن لم تكن فيه عادة أوكانت عادتها انقطاعه مدة طويلة ، لزمها استئناف الوضوء ، وإن كانت في الصلاة ، بطلت لأن العفوعن الدم ، لضرورة جريانه فيزول بزواله ، وحكم من به سلس البول أوالمذي أوالريح أوالجرح الذي لا يرقأ دمه حكمها في ذلك إلا أن ما لا يمكن عصبه يصلي بحاله ، فقد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً .
فصل :
قال أصحابنا ولا توطأ مستحاضة لغير ضرورة ، لأنه أذى في الفرج ، أشبه دم الحيض ، فإن الله تعالى قال : {هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فعلله بكونه أذى . وإن خاف على نفسه العنت ، أبيح الوطء ، لأنه يتطاول ، فيشق التحرز منه ، وحكمه أخف ، لعدم ثبوت أحكام الحيض فيه .
وحكى أبوالخطاب فيه عن أحمد رضي الله عنه روايتان :
إحداهما : كما ذكرنا .
والثانية : يحل مطلقاً لعموم النص في حل الزوجات ، وامتناع قياس المستحاضة على الحائض ، لمخالفتها لها في أكثر أحكامها ، ولأن وطء الحائض ربما يتعدى ضرره إلى الولد، فإنه قد قيل : إنه يكون مجذوماً بخلاف دم المستحاضة .
فصل :
ويستحب لها الغسل لكل صلاة ، لأن عائشة رضي الله عنها روت : أن أم حبيبة استحيضت . فسألت النبي (ص) فأمرها أن تغتسل لكل صلاة . [ رواه أبوداود ] . وإن جمعت بين الصلاتين بغسل واحد ، فهوحسن ، لما روي أن النبي (ص) قال لحمنة : فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ، ثم تغتسلين حتى تطهرين ، وتصلين الظهر والعصر جميعاً ، ثم تؤخرين المغرب ، وتعجلين العشاء ، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين ، وتغتسلين مع الصبح ، كذلك فافعلي إن قويت على ذلك هوأعجب الأمرين إلي وهوحديث صحيح . وإن توضأت لوقت كل صلاة أجزأها لما ذكرنا سابقاً .
باب النفاس
وهوخروج الدم ، بسبب الولادة ، وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به ، لأنه دم حيض مجتمع ، احتبس لأجل الحمل . فإن خرج قبل الولادة بيومين ، أوثلاثة ، فهونفاس ، لأن سبب خروجه الولادة ، وإن خرج قبل ذلك ، فهودم فاسد ، لأنه ليس بنفاس ، لبعده من الولادة ، ولا حيض لأن الحامل لا تحيض .
وأكثر النفاس أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت : كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أوأربعين ليلة . رواه أبوداود .
وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي ، ويستحب لزوجها الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين .
فإن عاودها الدم في مدة النفاس ، فهونفاس ، لأنه في مدته أشبه الأول .
وعنه : أنه مشكوك فيه ، تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطاً ، لأن الصوم واجب بيقين ، فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه ، ويفارق الحيض المشكوك فيه ، لكثرته وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه .
وما زاد على أربعين ، فليس بنفاس ، وحكمها فيه حكم غير النفساء ، إذا رأت الدم وصادف عادة الحيض فهوحيض ، وإلا فلا .
فصل :
وإذا ولدت توأمين فالنفساء من الأول ، لأنه دم خرج عقيب الولادة ، فكان نفاساً ، كما لوكان منفرداً ، وآخر منه ، فإذا أكملت أربعين من ولادة الأول انقضت مدتها ، لأنه نفاس واحد ، لحمل واحد ، فلم تزد العادة منه على أربعين .
وعنه : أنه من الأول ، ثم تستأنفه في الثاني ، لأن كل واحد منهما سبب للمدة ، فإذا اجتمعا اعتبر أولها من الأول ، وآخرها من الثاني ، كالوطء في إيجاب العدة .
باب أحكام النجاسات
بول الآدمي نجس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يعذب في قبره : إنه كان لا يستتر من بوله متفق عليه . والغائط مثله .
والودي : ماء أبيض يخرج عقيب البول ، حكمه حكم البول لأنه في معناه .
والمذي نجس ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في المذي : اغسل ذكرك ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد ، أشبه البول .
وعنه : أنه كالمني : لأنه خارج بسبب الشهوة ، أشبه المني .
وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه نجس لأنه بول حيوان غير مأكول ، أشبه بول الآدمي إلا بول ما لا نفس له سائلة ، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد .
وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر .
وعنه أنه كالدم ، لأنه رجيع . والمذهب الأول ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلوا في مرابض الغنم حديث صحيح ، وكان يصلي فيها قبل بناء مسجده ، وقال للعرنيين : انطلقوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها متفق عليه .
ومني الآدمي طاهر ، لأن عائشة قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيصلي فيه ، متفق عليه . ولأنه بدء خلق آدمي ، فكان طاهراً كالطين .
وعنه : أنه نجس ، يجزئ فرك يابسه ، ويعفى عن يسيره لما روي عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تغسل المني عن ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حديث صحيح ، لأنه خارج من مخرج البول أشبه المذي .
وفي رطوبة فرج المرأة روايتان :
إحداهما : أنها نجس ، لأنها بلل من الفرج ، لا يخلق منه الولد ، أشبه المذي .
والثانية : أنها طاهرة ، لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهومن جماع ، لأن الأنبياء لا يحتلمون ، وهويصيب رطوبة الفرج .
والقيء نجس ، لأنه طعام استحال في الجوف إلى الفساد ، أشبه الغائط .
وفي كل حيوان غير الآدمي ومنيه ، في حكم بول في الطهارة والنجاسة ، لأنه في معناه .
والنخامة طاهر ، سواء خرجت من رأس ، أوصدر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أوتحت قدمه ، فإن لم يجد فليقل هكذا ووصف القاسم . وتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض رواه مسلم .
وذكر أبوالخطاب أن البلغم نجس ، قياساً على القيء ، والأول أصح ، والبصاق والمخاط والعرق ، وسائر رطوبات الآدمي طاهرة ، لأنه من جسم طاهر ، وكذلك هذه الفضلات ، من كل حيوان طاهر .
فصل :
والدم نجس ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء في الدم : اغسليه بالماء متفق عليه . ولأنه نجس لعينه ، بنص القرآن ، أشبه الميتة ، إلا دم السمك ، فإنه طاهر ، لأن ميتته طاهرة مباحة .
وفي دم ما لا نفس له سائلة ، كالذباب والبق والبراغيث والقمل ، روايتان :
إحداهما : نجاسته لأنه دم أشبه المسفوح .
والثانية : طهارته ، لأنه دم حيوان ، لا ينجس بالموت ، أشبه دم السمك وإنما حرم الدم المسفوح .
والعلقة نجسة ، لأنها دم خارج من الفرج ، أشبه الحيض .
وعنه : إنها طاهرة لأنها ، لأنها بدء خلق آدمي ، أشبهت المني .
والقيح نجس ، لأنه دم استحال إلى نتن وفساد ، والصيد مثله ، إلا أن أحمد قال : هما أخف حكماً من الدم ، لوقوع الخلاف بين نجاستهما ، وعدم النص فيهما .
وما بقي من الدم في اللحم معفوعنه .
ولوعلت حمرة الدم في القدر ، لم يكن نجساً ، لأنه لا يمكن التحرز منه .
فصل :
والخمر نجس ، لقول الله تعالى : {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} ، ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر ، فكان نجساً كالدم ، والنبيذ مثله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام رواه مسلم . ولأنه شراب فيه شدة مطربة ، أشبه الخمر .
فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت ، لأن نجاستها لشدتها المسكرة ، وقد زال ذلك ، من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر ، كالماء الذي تنجس بالتغير [ إذا زال تغيره ] .
وإن خللت لم تطهر لما روي : أن أبا طلحة ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن أيتام ورثوا خمراً فقال : أهرقها ، قال : أفلا أخللها ؟ قال : لا ، رواه أحمد في مسنده و
الترمذي . ولوجاز التخليل ، لم ينه عنه .
ويتخرج أن تطهر لزوال علة التحريم ، كما لوتخللت ، ولا يطهر غيرها من النجاسات بالاستحالة .
فلوأحرقت فصارت رماداً أوتركت في ملاحة ، فصارت ملحاً لم تطهر ، لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمر ، فإن نجاستها لمعنى زال بالانقلاب .
ودخان النجاسة وبخارها نجس ، فإن اجتمعت منه شيء ، أولاقى جسماً صقيلاً ، فصار ماءً ، فهونجس .
وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة ، وغبارها ، فلم يجتمع منه شيء ، ولا ظهرت صفته فهومعفوعنه ، لعدم إمكان التحرز منه .
فصل :
ولا يختلف المذهب ، في نجاسة الكلب والخنزير ، وما تولد منهما ، إذا أصابت غير الأرض أنه يجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب ، سواء كان من ولوغه أوغيره ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ، إحداهن التراب متفق عليه ولمسلم : أولاهن التراب .
وعنه : يغسله سبعاً ، وواحدة التراب ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا ولغ الكلب في الإناء ، فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب رواه مسلم والأولى أصح لأنه يحتمل أنه على عد التراب ثامنة ، لكونه من الماء ، من غير جنسه ، والأولى جعل التراب ، من الأولى للخبر ، وليكون الماء بعده ، فينظفه ، وحيث جعله جاز ، لقوله في اللفظ الآخر : وعفروه الثامنة بالتراب . فيدل على أن عين الغسلة غير مرادة .
وإن جعل مكان التراب جامداً آخر كالأشنان ، ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يجزئه ، لأن نصه على التراب تبينه على ما هوأبلغ منه في التنظيف .
والثاني : لا يجزئه ، لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب ، فلم يقم غيره مقامه كالتيمم .
والثالث : يجزئه إن عدم التراب ، أوكان مفسداً للمغسول للحاجة ، وإلا فلا .
وإن جعل مكانه غسلة ثامنة ، لم يجزه ، لأنه أمر بالتراب ،معونة للماء ، في قلع النجاسة ، أوللتعبد ، ولا يحصل بالماء وحده ، وقد ذكر فيه الأوجه الثلاثة ، وإن ولغ في الإناء كلب ، أووقعت فيه نجاسة أخرى ، لم تغير حكمه ، لأن الغسل لا يزداد بتكرار النجاسة ، كما لوولغ فيه الكلب مرات .
وإن أصاب الثوب منم ماء الغسلات ، ففيه وجهان :
أحدهما : يغسل سبعاً إحداهن بالتراب ، لأنها نجاسة كلب .
والثاني : حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه في الغسل في التراب وفي عدد الغسلات ، لأن المنفصل كالبلل الباقي ، وهويطهر بباقي العدد كذلك هذا .
فصل :
والنجاسات كلها على الأرض ، يطهرها أن يغمرها الماء ، فيذهب عينها ولونها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء متفق عليه .
ولوكانت أرض البئر نجسة فنبع عليها الماء طهرها .
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ، ولا ريح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بغسل بول الأعرابي ، ولأنه محل نجس ، أشبه الثوب .
وإن طبخ اللبن المخلوط بالزبل النجس ، لم يطهر ، لكن ما يظهر منه يحترق فيذهب عينه ، ويبقى أثره ، فإذا غسل طهر ظاهره ، وبقي باطنه نجساً لوحمله مصل ، لم تصح صلاته . وإن ظهر من باطنه شيء فهونجس .
فصل :
إذا أصاب أسفل الخف ، أوالحذاء نجاسة ، ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : يجزئ دلكه بالأرض ، لما روى أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه ، فطهورهما التراب وفي لفظ : إذا وطئ بنعله ، رواه أبوداود . لأنه محل تتكرر فيه النجاسة ، فأجزأ فيه المسح ، كمحل الاستنجاء .
والثانية : يجب غسله لأنه ملبوس فلم يجز فيه المسح كظاهره .
والثالثة : يجب غسله من البول والعذرة لفحشهما ، ويجزئ دلكه من غيرهما .
فإن قلنا : يجزئ المسح ، ففيه وجهان :
أحدهما : يطهر اختاره ابن حامد ، للخبر .
والثاني : لا يطهر، لأنه محل نجس فلم يطهره المسح كغيره .
وفي محل الاستنجاء بعد الاستجمار وجهان أيضاً :
أحدهما : يطهر ، قال أحمد رضي الله عنه في المستجمر يعرق في سراويله : لا بأس به ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الروث والرمة : لا يطهرن دليل على أن غيرهما يطهر .
والثاني : لا يطهر ، لما ذكرنا في القياس .
فصل :
ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضج ، وهوأن يغمره بالماء ، وإن لم يزل عنه لما روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير ، لم يأكل الطعام ، إلى رسول الله (ص) فأجلسه في حجره ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله . متفق عليه .
ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل ، لما روى علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ص) بول الغلام ينضح ، وبول الجارية يغسل رواه أحمد في المسند ، فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل بولهما ، لأن الرخصة وردت فيمن لم يطعم ، فبقي من عداه على الأصل .
وفي المذي روايتان :
إحداهما : يجزئ نضحه ، لما روى سهل بن حنيف ، قال كنت ألقى من المذي شدة وعناء ، فقلت : يا رسول الله ، فكيف بما أصاب ثوبي منه ؟ قال : يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء ، فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .
والثانية : يجب غسله لأن النبي (ص) أمر بغسل الذكر منه ، ولأنه نجاسة من كبير ، أشبه البول .
فصل :
وما عدا المذكور من النجاسات ، في سائر المحال ، فيه روايتان :
إحداهما : يجزئ مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها من غير عدد ، قياساً على نجاسة الأرض ، ولأن النبي (ص) قال لأسماء في الدم : اغسليه بالماء ولم يذكر عدداً . وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات ، فلم يزل النبي (ص) يسأل ، حتى جعل الغسل من البول مرة . رواه أبوداود .
والثانية : يجب فيها العدد ، وفي قدره روايتان :
إحداهما : سبع ، لأنها نجاسة من غير الأرض ، فأشبهت نجاسة الكلب .
وفي اشتراط التراب وجهان .
والثانية : ثلاث ، لقول النبي (ص) : إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فلا يغمس يديه في الإناء ، حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده أمر بالثلاث ، وعلل بوهم النجاسة ، ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها .
فإن قلنا بالعدد ، لم يحتبس برفع الثوب من الماء غسلة ، حتى يعصره ، وعصر كل شيء يحبسه ، فإن كان بساطاً ثقيلاً أوزلياً فعصره بتقليبه ودقه ، حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء.
فصل :
وإذا غسل النجاسة ، فلم يذهب لونها أوريحها لمشقة إزالته ، عفي عنه ، لما روي أن
خولة بنت يسار قالت : يا رسول الله أرأيت لوبقي أثره ، تعني : الدم ، فقال رسول اله (ص) : الماء يكفيك ، ولا يضرك أثره رواه أبوداود بمعناه .
فصل :
ويعفى عن يسير الدم في غير المائعات ، لأنه لا يمكن التحرز منه ، فإن الغالب أن الإنسان ، لا يخلومن حبة وبثرة ، فألحق نادره بغالبه ، وقد روي عن جماعة من الصحابة الصلاة من الدم ، ولم يعرف لهم مخالف .
وحد اليسير ما لا ينقض مثله الوضوء ، وقد ذكر في موضوعه .
والقيح والصديد كالدم لأنه مستحيل منه .
وفي المني إذا حكمنا بنجاسته روايتان :
إحداهما : أنه كالدم ، لأنه مستحيل منه .
والثانية : لا يعفى عنه ، لأنه يمكن التحرز منه .
وفي المذي ، وريق البغل والحمار وعرقهما ، وسباع البهائم وجوارح الطيور وبول الخفاش ، روايتان :
إحداهما : يعفى عن يسيره ، لمشقة التحرز منه ، فإن المذي يكثر من الشباب ، ولا يكاد يسلم مقتني هذه الحيوانات من بللها ، فعفي عن يسيرها كالدم .
والثانية : لا يعفى عنهما ، لعدم ورود الشرع فيها .
وفي النبيذ روايتان :
إحداهما : يعفى عن يسيره ، لوقوع الخلاف فيه .
والثانية : لا يعفى عنه ، لأن التحرز عنه ممكن .
وما عدا هذا من النجاسة ، لا يعفى عن شيء منه ، ما أدركه الطرف منها ، وما لم يدركه ، لأنها نجاسة ، لا يشق التحرز منها ، فلم يعف عنها كالكثير .