وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ، وهو مستحب ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده . متفق عليه ، وليس بواجب ، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوه ، ولا أمروا به إلا من أراده ، ويجب بالنذر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله فليطعه رواه البخاري .
فصل :
ويصح من الرجال والنساء ، وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها لأنه يملك استمتاعها فلا تملك تفويته بغير إذنه ، وليس للعبد الاعتكاف بغير إذن سيده ، لأنه يملك نفعه ، فإن أذن لهما ، صح منهما ، لأن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يعتكفن بإذنه ، وإن شرعا فيه تطوعاً فلهما إخراجهما منه وإن كان بإذنهما ، لأنهلا يلزم بالشروع فيه ، وإن كان منذوراً مأذوناً فيه ، لم يجز إخراجهما منه سواء كان معيناً أو مطلقاً ، لأنه يتعين بالشروع ويجب إتمامه فلم يجز التحليل منه كالصوم ، وإن كان النذر والدخول فيه بغير إذن ، فلهما منعهما من ابتدائه وإخراجهما منه بعد الشروع فيه ، لأنه نذر يتضمن تفويت منافع مملوكة لغيرهما فأشبه نذر عارية عبد غيره .
فصل :
والمكاتب كالحر في الاعتكاف ، لأنه لا حق للسيد في نفعه ، ومن نصفه حر إن لم يكن بينهما مهايأة ، فهو كالقن ، لتعلق حق سيده بنفعه في زمن اعتكافه ، وإن كان بينهما مهايأة فهو في زمن سيده كالقن ، وفي زمن نفسه كالحر لعدم حق السيد فيه .
فصل :
ولا يصح إلا بنية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، ولأنه عبادة محضة فأشبه الصوم ، وإن كان فرضاً لزمه نية الفرضية ، ليميزه عن التطوع كصوم الفرض . وإن نوى الخروج منعه ففيه وجهان :
أحدهما : يبطل كما لو قطع نية الصوم .
والثاني ، لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج .
فصل :
ويصح بغير صوم ، وعنه : لا يصح إلا به ، لما روى ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم رواه أبو داود .
والمذهب الأول ، لما روي عن عمر أنه قال : يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك متفق عليه . ولو كان الصوم شرطاً لم يصح في الليل منفرداً ، ولأن كل عبادة صح بعضها بغير صوم صح جميعها بغيره كالحج، والأفضل الصوم ، ليجمعوا بين العبادتين ويخرج من الخلاف ، فعلى هذه الرواية يصح اعتكاف ليلة وبعض يوم ، وعلى الأخرى لا يصح أقل من زمن يصح فيه الصوم . وإن نذر أن يعتكف بصوم ، لزمه ، لأنه صفة مقصودة في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع .
فصل :
ولا يصح من رجل ولا امرأة إلا في المسجد ، لقول الله تعالى : {وأنتم عاكفون في المساجد} ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ، لأنها واجبة عليه فلا يجوز تركها ، ولا كثرة الخروج الذي يمكن التحرز منه ، والأفضل أن يعتكف في الجامع ، لأن ثواب الجماعة فيه أكثر ، ويصح من المرأة في جميع المساجد لعدم وجوب الجماعة عيها .
ومن نذر الاعتكاف في مسجد بعينه ، جاز الاعتكاف في غيره لأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعاً فلم يتعين بالنذر إلا المساجد التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى . متفق عليه . فإنها تتعين بالنذر ، فإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئه الاعتكاف في غيره ، لأنه أفضلها ، وإن نذره في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لفضله عليه ولم يجز في المسجد الأقصى ، لأنه مفضول ، وإن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له الاعتكاف فيهما ، لأنهما أفضل منه ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام رواه مسلم .
وفي المسند عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال يوم الفتح : يا نبي الله إني نذرت لأصلين في بيت المقدس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي بعث محمداً بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس .
فصل :
فإن عين بنذره زمناً ، تعين ولزمه أن يعتكف فيه ، لأن الله تعالى عين لعباده زمناً فتعين بالنذر ، فإن نزر اعتكاف العشر الأواخر لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين ، ويخرج منه بعد غروب شمس الشهر ، لأن ذلك هو العشر تاماً كان الشهر أو ناقصاً .
وعنه : أنه يدخل معتكفه إذا صلى الصبح ، لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح ثم يدخل معتكفه ، متفق عليه . وإن نذرت عشر ليالي من الشهر فخرج الشهر ناقصاً لزمه قضاء ليلة عن العاشرة ، لأنه صرح بذلك ، وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس من أوله ، ويخرج منه بعد غروبها من آخره تاماً كان الشهر أو ناقصاً ، لأنه ذلك هو الشهر . وإن نذر اعتكاف شهر مطلق خير بين اعتكاف ما بين هلالين وبين اعتكاف ثلاثين يوماً بالعدد لأن شهر العدد ثلاثون يوماً . ويلزمه التتابع ، لأن الشهر بإطلاقه ينصرف إلى المتتابع فلزمه كما لو نزر يوماً . وفيه وجه آخر لا يلزمه التتابع لأنه معنى يصح فيه التفريق فلم يجب التتابع فيه بمطلق النذر كما لو نذر اعتكاف ثلاثين يوماً ويدخل في نذره الليل والنهار ، لأن الشهر عبارة عنهما ، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوما ًلم يلزمه التتابع ، لأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع ، والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه .
وقال القاضي : يلزمه التتابع لما ذكرنا في الشهر ، فعلى قوله تدخل الليالي في نذره ، وعلى الأول لا تدخل الليالي إلا أن ينويها أو يشترطها بلفظه ، لأن اليوم اسم لبياض النهار ، والتثنية والجمع تكرار للواحد ، فإن شرط التتابع لزمه ودخل في نذره الليالي التي فيه خلل الأيام ، وكذلك إذا نذر الليالي متتابعة دخل في نذره الأيام التي في خللها لأن ذلك يدخل في خلل نذره المتتابع فلزمه كأيام العشر ، وإن نذر اعتكاف يوم ، لزمه دخول معتكفه قبل طلوع الفجر ، ويخرج منه بعد مغيب الشمس ليستوفي اليوم يقيناً ، ولا يجوز تفريق ذلك في ساعات ، لأن اليوم اسم للكامل المتتابع ، فإن قال : لله تعالى علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو لياليه أو شهراً بالليل أو بالنهار ، لزمه ما نذر ولم يدخل فيه ما سواه ، لأنه إنما يلزمه بلفظه ، فيجب ما يتناوله اللفظ . وإن نذر اعتكافاً معيناً متتابعاً ففاته ، لزمه قضاؤه متتابعاً ، لأن التتابع صفة فيه فلم يجز الإخلال بها في القضاء .
وإن لم يقل : متتابعاً ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه التتابع ، لأن الأداء متتابع فأشبه ما لو تلفظ بالتتابع .
والثاني : لا يلزمه لأن التتابع في الأداء حصل ضرورة التعيين لا من نذره ، فلم يجب في القضاء كقضاء رمضان ، فإن لم يكن التتابع واجباً في الأداء لم يجب القضاء بطريق الأولى .
فصل :
ولا يجوز الخروج من المسجد إلا لما لا بد له منه ، لما روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . متفق عليه . ولا خلاف في جواز الخروج لحاجة الإنسان ، وإن احتاج إلى مأكول أو مشروب وليس له من يأتيه به ، فله الخروج إليه ، لأنه مما لا بد له منه ، وإن حضرت الجمعة وهو في غير موضعها فله الخروج إليها ، لأنها واجبة بأصل الشرع فلم يجز تركها بالاعتكاف كالوضوء : وإن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه أو صلاة جنازة تعينت عليه أو دفنها أو حملها ، فعليه الخروج لذلك ، لأن وجوبه آكد لكونه حق آدمي ، ولا يبطل اعتكافه بشيء من هذا ما لم يطل الزمان ، لأنه خروج يسير مباح لم يبطل به الاعتكاف كحاجة الإنسان .
فصل :
وإذا خرج لذلك فليس عليه العجلة في مشيه أكثر من عادته ، لأن ذلك يشق عليه ، ويجوز أن يسأل على المريض أو غيره في طريقه ولا يعرج إليه ولا يقف ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة . متفق عليه . ولأنه بالوقوف يترك اعتكاف وبالسؤال لا يتركه ، وإن احتاج إلى قضاء الحاجة وثم سقاية أقرب من منزله ، وأمكنه التنظيف فيها ، وهو ممن لا يحتشم من دخولها ، ولا نقص عليه فيه : لم يكن له المضي إلى منزله ، لأنه خروج لغير حاجة ، وإن كان له منزلان فليس له قصد الأبعد لذلك ، فإن خشي ضرراً أو نقصاً في مروءته ، أو انتظاراً طويلاً ، فله قصد منزله ، وإن بعد ، فإن بذل له صديق أو غيره الوضوء في منزله لم يلزمه ، لأنه يحتشم ويشق عليه .
فصل :
لا يخرج لعيادة مريض ، ولا حضور جنازة لم تتعين عليه .
وعنه : أنه يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ، ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه لأن ذاك يروى عن علي رضي الله عنه ، والأولى أولى ، لقول عائشة رضي الله عنها : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، رواه أبو داود . ولكن إن كان متطوعاً فله ترك اعتكافه لفعل ذلك ، ثم يعود إلى الاعتكاف ، وإن كان واجباً لم يجز له تركه لما ليس بواجب ، وإن شرط فعل ذلك في نذره فله فعله ، وكذلك إن شرط العشاء في أهله ، جاز ، لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقوف ، وإن شرط أنه متى مرض أو عرض له عارض خرج ، جاز شرطه لذلك ، وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد ، لم يصح شرطه ، لأن هذا ينافي الاعتكاف فلم يصح شرطه كتركه الإقامة في المسجد .
فصل :
وإن خرج لما له منه بد ، بطل اعتكافه . فإن كان ناسياً ، فقال القاضي : لا يبطل لأنه فعل المنهي عنه في العبادة ناسياً فلم يبطلها كالأكل في الصوم وقال ابن عقيل : يبطلها ، لأنه ترك الاعتكاف فاستوى عمده وسهوه كترك النية وحكم المكره حكم الناسي ، لأنه في معناه في العفو بالخبر الوارد فيهما ، وإن أخرج بعض جسده ، جاز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله . متفق عليه . وله صعود سطح المسجد لأنه منه ، ولهذا منع الجنب من اللبث فيه . وفي رحبة المسجد ما يدل على روايتين ، وجمع القاضي بينهما بحملهما على حالين فقال : إن كان عليها حائط وباب ، فهي كالمسجد ، لأنها معه تابعة له ، وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكمه ، وإن خرج إلى منارة خارجة من المسجد بطل اعتكافه ، لأنها ليست منه قال أبو الخطاب : ويحتمل أن لا يبطل ، لأنها منارة المسجد كالمتصلة به .
فصل :
وإذا دعت الحاجة إلى ترك الاعتكاف لأمر لا بد منه كحيض المرأة أو نفاسها ، أو وجوب الاعتداد عليها في منزلها ، أو لمرض يتعذر معه الاعتكاف إلا بمشقة شديدة ، أو لوقوع فتنة يخاف منها على نفسه أو ماله أو منزله ، أو لعموم النفير والاحتياج إلى خروجه ، فله ترك الاعتكاف لأن هذا يسقط به الواجب بأصل الشرع ، وهو الجمعة والجماعة فغيره أولى . وإذا زال العذر والاعتكاف تطوع . فإن شاء رجع إليه وإن شاء لم يرجع ، لأنه لا يلزم بالشروع . وإن كان منذوراً لم يخل من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون نذر أياماً معلومة مطلقة فعليه إتمام باقيها حسب ، لأنه يأتي بالمنذور على وجهه .
الثاني : نذر أياماً متتابعة غير معنية فهو مخير بين البناء والقضاء وكفارة يمين ، وبين أن يبتدئها ولا كفارة عليه .
الثالث : نذر مدة معينة فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه فعل المنذور في وقته ، إلا في الحيض والنفاس فإنه لا كفارة في الخروج له ، لأنه خروج لعذر معتاد فأشبه الخروج لحاجة الإنسان .
وذكر القاضي : أن كل خروج لواجب كالشهادة المتعينة . والنفير العام وقضاء العدة فلا كفارة فيه ، لأنه خروج واجب أشبه الخروج للحيض . وذكر أبو الخطاب رواية تدل على أن كل من ترك المنذور لعذر لا كفارة عليه ، قياساً على خروج الحائض من الاعتكاف .
فصل :
ويحرم على المعتكف الوطء لقول الله تعالى : {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ، فإن وطئ فسد اعتكافه ، لأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالصوم والحج ، والعامد والساهي سواء ، لأن الجماع في العبادة يستوي عمده وسهوه بدليل الحج والصوم ولا كفارة عليه نص عليه .
وعنه : عليه الكفارة ، لأنها عبادة يفسدها الوطء فوجب به الكفارة كالحج .
والأول : المذهب ، لأنها عبادة لا تجب بأصل الشرع ، ولا تلزم بالشروع فلا يجب بإفسادها كفارة ، كصوم غير رمضان ، وهذا ينقض القياس الأول .
واختلف موجبوا الكفارة فيها :
فقال القاضي : هي ككفارة الوطء في رمضان قياساً لها عليها .
وعن أبي بكر : هي كفارة يمين ، لأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر كفاراته . وأما المباشرة فيما دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فهي مباحة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله وهو معتكف ، وإن كانت لشهوة فهي محرمة ، لقول عائشة : السنة للمعتكف أن لا يمس امرأة ولا يباشرها . رواه أبو داود .
فإن فعل فأنزل أفسد اعتكافه وإلا فلا ، كقولنا في الصوم . وإن شرب مسكراً أو ارتد فسد اعتكافه ، لأنه خرج بذلك عن أن يكون من أهل المسجد فصار كالخارج منه ، وكل موضوع فسد اعتكافه التطوع فلا قضاء عليه ولا غيره لأنه لا يلزم بالشروع فهو كصوم النفل ، وإن كان نذراً متتابعاً بطل ما مضى منه واستأنف ، لأن التتابع وصف في الاعتكاف أمكن أن يأتي به فلزمه ، كعدة الأيام . وإن كان نذره مدة معينة ففيه وجهان :
أحدهما : يبطل ما مضى ويستأنف ، لأنه اعتكاف متتابع فأشبه المقيد بالتتابع لفظاً .
والثاني : لا يبطل الماضي ويستأنف ، لأن التتابع حصل ضرورة التعيين ، والتعيين مصرح به في النذر ، فالمحافظة على المصرح به أولى . فعلى هذا يقضي ما أفسده ويتم كما لو أفسد لعذر ، وعليه كفارة في الوجهين جميعاً .
فصل :
وليس للمعتكف بيع ولا شراء إلا لما لا بد منه كالطعام ونحوه ، ولا يتكسب بالصنعة ، لأن الاعتكاف لزوم طاعة الله وعبادته في المسجد والتجارة فيه تنافيه ، فإن النبي (ص) نهى عن البيع والشراء في المسجد . وهو حديث حسن ، فإن خرج ترك اعتكافه ولا يخيط في المسجد ولا يعمل صنعة ، سواء كان محتاجاً إلى ذلك أو لو يكن ، لأن المسجد لم يبن لذلك ، قال أحمد رضي الله عنه في المعتكف يخيط : لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يعمل . وإن فعل شيئاً من ذلك في المسجد لم يفسد اعتكافه لأنه لا ينافيه .
فصل :
وليس له أن يبول في المسجد في إناء ، لأن هذا يقبح ويفحش فوجب صيانة المسجد عنه ، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله ، وإن أراد الفصد أو الحجامة ، أو القيء فيه فهو كذلك ، لأنه إراقة النجاسة فهو كالبول ، وإن دعت إلى ذلك ضرورة ، خرج من المسجد ففعله ، كما يخرج لحاجة الإنسان وإن استغنى عنه فليس له فعله و للمستحاضة الاعتكاف وتحترز بما يمنع تلويث المسجد ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : اعتكفت مع رسول الله (ص) في المسجد امرأة من نسائه فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي . أخرجه البخاري . ولأن هذا لا يمنع الصلاة فلم يمنع الاعتكاف ، بخلاف ما قبله .
فصل :
ويجوز للمعتكف الأكل في المسجد ، ويضع سفرة أو غيرها يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد ، ويغسل يده في طست ليفرغ خارج المسجد ، ولا يجوز له الخروج لغسل يديه ، لأنه خروج لما له منه بد ، وله أن يتنظف ويرجل شعره ويغسله ، لأن النبي (ص) كان يفعله وهو معتكف ، وله أن يتطيب ويلبس رفيع الثياب ، لأن هذه عبادة لا تحرم اللباس، فلا تحرم ذلك كالصوم ، وله أن يتزوج ويشهد النكاح لذلك ، وله أن يحدث غيره ويأمر بحاجته ، لما روت صفية رضي الله عنها : أن رسول الله (ص) كان معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً ، فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني . متفق عليه .
فصل :
ويستحب له التشاغل بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن ، واجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال ، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش والإكثار من الكلام ، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ، ففي الاعتكاف الذي هو استشعار بطاعة الله تعالى ولزوم عبادته ، وبيته أولى ، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لن لما لم يبطل بمباح الكلام ، لم يبطل بمحرمه كالصوم .
فصل :
فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام لما روى قيس بن مسلم قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس ، فرآها لا تتكلم ، فقال : ما لها لا تتكلم ؟ فقالوا : حجت مصمتة ، فقال لها : تكلمي فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية ، فتكلمت رواه البخاري . وعن علي رضي الله عنه عن رسول الله (ص) أنه قال : لا صمات يوم إلى الليل رواه أبو داود . فإن نذر ذلك فهو كنذر المعاصي على ما سيأتي .
قال ابن عقيل : ولا يجوز جعل القرآن بدلاً من الكلام ، لأنه استعمال له في غير ما هو له ، فهو كتوسد المصحف ، وقد جاء : لا يناظر بكتاب الله . أي : لا يتكلم به عند الشيء تراه كأن ترى لرجلاً جاء في وقته فتقول : وجئت على قدر يا موسى . وذكر أبو عبيد نحو هذا .
فصل :
وأما قراءة القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومذاكرتهم وكتابة العلم فحكي فيه روايتان :
إحداهما : يستحب ، اختارها أبو الخطاب ، لأن ذلك أفضل العبادات لتعدي نفعه ، و يمكن فعله في المسجد فكان مستحباً له كالصلاة .
والثانية : لا يستحب وهو ظاهر المذهب ، لأن الاعتكاف عبادة شرط لها المسجد فلم يستحب ذلك فيها كالطواف والصلاة . وعلى هذه الرواية فعله لهذه الأمور أفضل من اعتكافه الشاغل عنها . قال المروذي : قلت لأبي عبد الله إن رجلاً يقرئ في المسجد يريد أن يعتكف لعله أن يختم في كل يوم ؟ فقال : إذا فعل هذا كان لنفسه ، وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب إلي .
فصل :
ومن اعتكف العشر الأخير من رمضان استحب أن يبيت ليلة الفطر في معتكفه ، ثم يخرج من المصلى في ثياب اعتكافه ، لأن أبا قلابة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأب مجلز والمطلب بن حنطب وإبراهيم النخعي كانوا يستحبون ذلك ، ولأنها ليلة تتلو العشر ورد الشرع بالترغيب في قيامها والعبادة فيها ، فأشبهت ليالي العشر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .