الحج من أركان الإسلام وفروضه ، لقول الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } ولما روينا فيما مضى وروى مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتم وتجب العمرة على من يجب عليه الحج لقول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله} . ولما روى الضبي بن معبد قال : أتيت عمر فقلت إني أسلمت يا أمير المؤمنين وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما . فقال : هديت لسنة نبيك . رواه النسائي .
ويجب ذلك في العمر مرة ، لحديث أبي هريرة ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : لا يدخل مكة إلا محرم ، إلا الحطابين . إلا أن يكون دخوله لقتال مباح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر . متفق عليه . و دخل أصحابه غير محرمين . أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد ، فلهم الدخول بغير إحرام ، لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين ، وقسنا عليهم من هو في معناهم . ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجاً فينتفي بقول الله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } .
فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناها فسقط لذلك .
فصل :
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة : الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم ، والحرية ، والاستطاعة لقول الله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع ، والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له ، ومنافعه مستحقة فهذا أعظم عذراً من الفقير .
وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام : قسم يشترط للصحة وهو : الإسلام والعقل ، فلا يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم .
وقسم يشترط للإجزاء ، وهو البلوغ والحرية ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ، ثم عتق فعليه حجة أخرى رواه الشافعي و الطيالسي في مسنديهما . ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب ، كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت ، وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله ، أجزأهما عن حجة الإسلام ،لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما ، كما لو وجد ذلك قبل الإحرام . وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضاً لذلك ، وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال .
الثالث : شرط الوجوب حسب ، وهو الاستطاعة ، فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه ، لأنه إنما سقط عنه رفقاً به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً ، لكن إن كان الحج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم ، كره له ، لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه ، وإن لم يكن كلاً على حد ، لقوته على المشي والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه ، فهو مستحب له لقول الله تعالى : { يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر } ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل .
فصل :
والاستطاعة من حق البعيد : القدرة الزاد والراحلة ، لما روى ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد .
والزاد : هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه .
فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج ، لأن عليه غربته ضرراً ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه .
وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص ، أو بزيادة لا تجحف بماله لزمه ، وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة ، ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحميلها ، ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء ، لأنه لا يستغنى عنها . ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء ، وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به العادة مثله ، وما لا يتخوف الوقوع منه ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل ، ونفقة عياله إلى أن يعود ، وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم ، لأن هذا واجب عليه يتعلق به حق آدمي ، فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه .
وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت ، قدم ، لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة ، وإن لم يخف وجب الحج ، لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب ، ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه ذلك ، أو آلات لصناعته المحتاج إليها أو كتب من العلم يحتاج إليها ، لم يلزمه صرفه في الحج ، لأنه لا يستغنى عنه ، أشبه النفقة ، ومن كان من ذلك فاضلاً عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن واسع يكفيه بعضه ، فعليه صرف ذلك في الحج ، ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالاً يحج به ، لم يلزمه قبوله ، وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله ، لم يلزمه قبوله ، لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبياً .
فصل :
فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة ، ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه ، لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة ، وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه ، لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة .
فصل :
واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء . وهي إمكان المسير ، وهو أن تكمل الشرائط فيه ، وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه . وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من خوف ولا غيره . والمحرم للمرأة فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها ، لأنه لا يستطاع فعله بدونها فكانت شرطاً للوجوب كالزاد والراحلة .
وعنه : أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب ، لأنها أعذار تمنع نفس الأداء فقط فلم تمنع الوجوب كالمرض ، وإذا قلنا : هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها فلا شيء عليه كالفقير ، وإن قلنا : هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت فيه الشرائط الخمس ، حج عنه كالمريض . وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة ، فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه ، لأن فيه مشقة وتعزيراً .
وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها ، بعيدة كانت أو قريبة ، براً أو بحراً الغالب السلامة فيه ، فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه ، كالبر إذا كان فيه مانع ، فإن كان الطريق آمناً لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه الأداء ، لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد ، فإن كانت يسيرة ؟.
فقال ابن حامد : يلزمه لأنها غرامة ممكنة ، يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد .
وقال القاضي : لا يلزمه ، لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه ، كسائر الواجبات .
فصل :
فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء خاصة ، فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه ، أو كبر ، أقام من يحج عنه ويعتمر ، لما روى أبو رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : حج عن أبيك واعتمر وهو حديث حسن ، فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه ، لأنه أتى بما أمر به ، فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب ، لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة ، كالصحيح الفقير ، فإن استناب ثم مات ، لم يجزئه ووجب الحج عنه ، لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج ، كما لو برئ ، وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يجوز ، لأنها حجة لا تلزمه أدائها فجاز له الاستنابة فيها كالمغصوب .
والثانية : لا يجوز : لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة .
فصل :
ومن كملت الشرائط في حقه ، لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة رواه ابن ماجه . وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً رواه الترمذي ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام .
فصل :
وحج الصبي صحيح ، لما روى ابن عباس قال : رفعت امرأة صبياً فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : نعم ولك أجر رواه مسلم . والكلام فيه في أربع أمور :
أحدها : في إحرامه ، إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه ولا يصح من غير إذنه ، لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع . وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه الذي يلي ماله، ومعنى إحرامه عنه : عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرماً دون الولي ، كما يعقد له النكاح ، فلذلك صح أن يحرم عنه الولي محلاً كان أو محرماً ممن حج عن نفسه وممن لم يحج ، فإن أحرمت عنه أمه ، صح في ظاهر كلام أحمد ، لأنه قال : يحرم عنه أبواه ، وهو ظاهر حديث ابن عباس .
وقال القاضي : لا يصح لعدم ولايتها على ماله ، وفي سائر عصباته وجهان ، بناء على القول في الأم ، فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجهاً واحداً .
الثاني : أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله ، وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه ، لما روى جابر رضي الله عنه قال : كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم رواه ابن ماجه ، وإن أمكنه المشي في الطواف وإلا طيف به محمولاً ، فقد روى الأثرم عن أبي اسحق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة . ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه .
الثالث : أن ما فعله من محظورات الإحرام ، إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه ، فلا فدية فيه ، لأن عمد الصبي خطأ ، وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه فدية ، وفي محلها روايتان :
إحداهما : تجب في مال الصبي ، لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي .
والثانية : تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله . وإن و طىء الصبي أفسد حجه . ووجبت البدنة ويمضي في فاسده ، وعليه القضاء إذا بلغ ، وهل يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة ، لو صلحت ، أجزأت ، وهو أن يبلغ في وقوفها أجزأ القضاء أيضاً وإلا فلا .
الرابع : أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقته الحضر فهو في ماله ، لأنه الوالي لم يكلفه ذلك ، وما زاد ففي محله ، روايتان كالفدية سواء .
فصل :
وفي حج العبد وهو صحيح ، لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر ، وإلا فالكلام فيه في أمور أربعة :
أحدها : أنه إن أحرم ، صح إحرامه بإذن سيده وبغير إذنه ، لأنها عبادة بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة ، فإن أحرم بغذن سيده لم يجز تحليله ، لأنها عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان ، وإن أحرم بغير إذنه ، فقال أبو بكر : لا يملك تحليله لذلك ، وقال ابن حامد : له تحليله وهو أصح ، لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه ، كالاعتكاف ، فإن أذن له ثم رجع قبل إحارمه فهو كمن لم يأذن ، فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان ، بناء على الوكيل هو ينعزل بالعزل قبل علمه به ؟ على روايتين .
الثاني : إذا نذر العبد الحج انعقد نذره ، لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به ، لأنه أذن في التزامه ، وإن كان بغير إذنه فله منعه ، ذكره ابن حامد .
وقال القاضي : لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال حق سيده ، فمتى عتق فعليه الوفاء به ، ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام .
الثالث : أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط ، لأنه كالمعسر وأدنى منه ، فإن ملكه السيد هدياً وأذن له في الفدية به وقلنا : إنه يملك ، فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام ، وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه ، لأن النسك له ، فكانت الفدية عليه ، كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها .
وقال القاضي : هو على سيده ، لأنه بإذنه .
الرابع : أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة ، ثم إن كان الإحرام مأذوناً فيه لم يكن لسيده تحليله منه ، وإن لم يكن مأذوناً فيه فله تحليله ، لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحاً ، فحكمه في ذلك حكمه .
فصل :
في حج المرأة ثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يحل لها السفر بغير محرم ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ،أن تسافر مسيرة يوم ، إلا ومعها ذو محرم متفق عليه . والمحرم زوجها ، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب ، أو سبب مباح ، كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها فأما عبدها فليس بمحرم لها ، لأنها تحل له إذا عتق وليس بمأمون عليها ، ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم ، لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع ، فأشبه التحريم باللعان ، ونفقة المحرم عليها ، لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة ، ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء ، لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير ، وإن مات المحرم في الطريق ، مضت إذا كانت قد تباعدت ، وإن كانت قريبة رجعت . وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت ، و أجزأها حجها ، كما لو تكلف رجل مسألة الناس والحج .
الثاني : أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض ، لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان ، ويستحب لها استئذانه جمعاً بين الحقين ، وله منعها من حج التطوع ، لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد ، فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه .
الثالث : أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة ، لأنها واجبة في المنزل ، تفوت ، فقدمت على الحج الذي لا يفوت . وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها ، مضت في سفرها ، لأنه لا بد من سفرها ، فالسفر الذي يحصل به الحج أولى ، وإن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها .
فصل :
سمن وجب الحج عليه فمات قبل فعله ، وجب الحج عنه ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها ، مات ولم يحج ، قال : حجي عن أبيك رواه النسائي ، ولأنه حق مستقر تدخل النيابة فلم يسقط بالموت ، كالدين ، ويحج عنه من رأس ماله ، لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين .
فصل :
ويستناب عنه ، وعن المغصوب من حيث وجب عليهما ، إما من بلدهما ، أو من الموضع الذي أيسرا منه ، ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات ، لأن الحج واجب عليه من بلده ، فوجب أن تكون النيابة عنه منه ، لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه ، فيؤدي من حيث وجب .
وإن خرج للحج فمات في الطريق ، استنيب عنه من حيث انتهى إليه ، لأنه أسقط عنه ما ساره .
وإن مات بعد فعل بعض المناسك ، فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في جميعه كالزكاة ، وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره ، فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده ، حج عنه من حيث تبلغ ، نص عليه أحمد في الوصية بالحج ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه ، كمن قدر على الصلاة قاعداً .
وذكر القاضي أنه لا يحج عنه ، لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال ، والأول أولى .
فصل :
فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي ، احتمل تقديم الدين ، لتأكده بحاجة الآدمي إليه ، وغنى الله عن حقه ، واحتمل أن يتحاصا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال : أرأيت لو كان على أخيك دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم ، قال : فاقض فالله أحق بالوفاء رواه النسائي . فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة .
فصل :
ويستناب عن الميت وإن لم يأذن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالحج عنه ولا إذن له ، علم أن الإذن غير معتبر ، ولا يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه ، لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة ، وتجوز النيابة عنهما بحج التطوع ، لأن ما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة ، فأما القادر على الحج بنفسه ، فلا تجوز له الاستنابة في الفرض ، لأنه عليه في بدنه ، فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه .
فصل :
ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه ، لما روى ابن عباس قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شبرمة قال : قريب لي ، قال : هل حججت قط ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة . رواه أبو داود . ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج ، ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما ، ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما ، لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام ، فلم يجز تقديمهما عليه كالحج عن غيره ، فإن أحرم عن غيره أو نذر أو نفل قبل فرضه ، انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه .
وعنه : يقع عن غيره ونذره ونفله ، لقول النبي (ص) : إنما لامرئ ما نوى والأول المذهب ، لحديث ابن عباس في الحج عن غيره ، ووجود معناه في النذر و النفل . ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعاً أو نفلاً أو نذراً وعليه حجة الإسلام انصرف إليها ، لأن فعل نائبه كفعله ، وهكذا إن حج عن الميت نذراً أو نفلاً قبل حجة الإسلام ، وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عام واحد صح ، لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام ، وأي النائبين أحرم أولاً وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها ، وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه ، لأنه يتعذر وقوعه عنهما ، وليس أحدهما أولى به من الآخر .
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضاً لذلك واحتمل صحته ، لأن الإحرام يصح مبهماً ، فصح عن المجهول ، وله صرفه إلى من شاء منهما ، فإن لم يصرفه حتى طاف شوطاً لم يجز عن واحد منهما ، لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ ، وليس أحدهما أولى به من الآخر ، وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه ، انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به .
باب المواقيت
وللحج ميقاتان :
ميقات مكان ، وميقات زمان ، فأما ميقات المكان فالمنصوص عليه خمسة . لما روى ابن عباس قال : وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم . قال : فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ، ممن كان يريد الحج والعمرة ، فمن كان دونهن فمهله من أهله ، وكذلك أهل مكة يهلون منها متفق عليه . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق . رواه أبو داود . فهذه المواقيت لكل من مر عليها من أهلها ومن غيرهم للخبر . ومن منزله بين الميقات ومكة، فميقاته : منزله ، للخبر ، وميقات من بمكة منها ، وسواء في ذلك أهلها ، أو غيرهم للخبر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المتمتعين من أصحابه فأحرموا منها ، وعنه فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة : أهل من الميقات . فإن لم يفعل فعليه دم . وذكر القاضي فيمن دخل مكة محرماً عن غيره بحج ، أو عمرة ، ثم أراد أن يحج عن نفسه ، أو دخل مكة محرماً لنفسه ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة أنه يلزمه الإحرام من الميقات ، فإن لم يفعل فعليه دم ، لأنه جاز الميقات مريداً للنسك لنفسه وأحرم دونه فلزمه دم ، كما لو تجاوزه غير محرم ، ولنا الخبر . وإن كل ميقات لمن أتى عليه فكذلك مكة ، ولأن هذا حصل بمكة حلالاً على وجه مباح ، فكان له الإحرام منها بلا دم ، كما لو كان الإحرامان لشخص واحد ومن أي موضع في مكة أحرم جاز ، لأنها كلها موضع للنسك ، وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز أيضاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في حجة الوداع : إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء وهي خارج من مكة ، ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت البلدة فيه ، وغيرها كالبحر. وميقات العمرة للمكي ومن في الحرم ، من الحل ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم . متفق عليه . وكانت بمكة يومئذ . ومن أي الحل أحرم جاز . لأن المقصود بالإحرام منه الجمع بين الحل والحرم في النسك ، لأن أفعال العمرة كلها في الحرم ، إلا الإحرام ، بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الحل للوقوف بعرفة ، فيحصل الجمع بين الحل والحرم .
فصل :
ومن جاوز الميقات مريداً لموضع قبل مكة ، ثم بدا له الإحرام ، أحرم من موضعه ، كما أن من دخل مكة يحرم منها ، وإن مر به كافر أو عبد أو صبي ، فأسلم الكافر ، وأعتق العبد ، و بلغ الصبي دونه ، أحرموا من موضعهم ولا دم عليهم ، لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام فيه ، فأشبهوا المكي والمتجاوز غير مريد لمكة .
وعنه في الكافر يسلم : يخرج إلى الميقات ، فإن خشي الفوات أحرم من موضعه وعليه دم ، والصبي والعبد في معناه ، لأنهم تجاوزوا الميقات غير محرمين ، قال أبو بكر : وبالأول أقول ، وهو أصح لما ذكرناه ، ومن لم يكن طريقه على ميقات ، فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم ، لما روى ابن عمر قال ، لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً ، وهو جور عن طريقنا ، و إنا إن أردنا قرن شق علينا ، قال : فانظروا وخذوها من طريقكم ، فحد لهم ذات عرق . رواه البخاري . ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير ، فإذا اشتبه على الإنسان صار إلى اجتهاده فيه كالقبلة ، فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبله ، لأن تقديم الإحرام عليه جائز وتأخيره حرام .
فصل :
والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من ذي الحليفة ، فإن أحرم قبله ، جاز ، لأن الصبي بن معبد أحرم قبل الميقات قارناً فذكر ذلك لعمر فقال : هديت لسنة نبيك . ومن بلغ الميقات مريداً للنسك ، لم يجز له تجاوزه بغير إحرام ، لما تقدم من حديث ابن عباس ، فإن تجاوزه غير محرم ، لزمه الرجوع ليحرم منه ، لأن من قدر على فعل الواجب لزمه ، فإن رجع فأحرم منه فلا دم عليه ، لأنه أدى الواجب فأشبه من لم يتجاوزه ، فإن لم يمكنه الرجوع لخوف أو خشية الفوات فأحرم من موضعه ، أو أحرم من موضعه لغير عذر ، فعليه دم لأنه ترك الواجب من مناسك الحج فإن رجع بعد ذلك إلى الميقات لم يسقط الدم ، لأنه استقر عليه بإحرام من دونه ، فأشبه من لم يرجع ، فإن أحرم المكي بالحج من الحل الذي يلي عرفة فهو كالمحرم من دون الميقات ، وإن أحرم من الحل الذي يلي الجانب الآخر ، ثم سلك الحرم فهو كالمحرم قبل الميقات ، وإن أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه كالذي يحرم بعد ميقاته ، ثم إن خرج قبل الطواف إلى الحل وعاد ، ففعل أفعاله تمت عمرته ، وعليه دم ، وإن لم يخرج وفعل أفعالها ففيه وجهان :
أحدهما : يجزئه ، ويجبرها بدم ، كالذي يحرم من دون ميقاته .
والثاني : لا يجزئه ، لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج ، فعلى هذا لا يعيد بأفعاله ، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها .
فصل :
وميقات الزمان : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، لقول الله تعالى : { الحج أشهر معلومات } معناه : وقت الحج ، لأن الحج أفعال وليس بأشهر فلم يكن بد من التقدير . وعن ابن مسعود وجابر بن الزبير أنهم قالوا : أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، والاختيار أن لا يحرم بالحج قبل أشهره ، لأنه تقديم للعبادة على وقتها فكره ، كتقديمها على ميقات المكان ، فإن فعل انعقد إحرامه ، لأنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام بالحج قبله كالآخر فأما العمرة فلا ميقات لها في الزمان ، ويجوز الإحرام بها في جميع السنة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عمرة في رمضان تعدل حجه . متفق عليه . واعتمر في ذي القعدة وفي ذي الحجة مع حجته ، رواه أنس ، وهو حديث صحيح .
باب الإحرام
يستحب الغسل للإحرام ، لما روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل . حديث حسن . وعن جابر قال : أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمداً بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أصنع ؟ قال : اغتسلي و استثفري بثوب وأحرمي رواه مسلم . فإن لم يجد ماء لم يتيمم ، لأنه غسل مسنون يراد للتنظيف فلا يسن التيمم عند العجز عنه كغسل الجمعة . وقال القاضي : يستحب له التيمم قياساً على غسل الجنابة ، ويستحب له التنظيف بإزالة الشعر والشعث وقطع الرائحة وتقليم الأظفار ، لأن الغسل شرع لذلك ، ثم يتجرد من المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين ، لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ، ويستحب أن يتطيب في بدنه ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أطيب ، رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت ، وقالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم . متفق عليهما ، ولا يتطيب في ثوبه ، فإن فعل فله استدامته حتى ينزعه ، فمتى نزعه ثم لبسه فعليه الفدية ، لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب دون استدامته . ولو نقل الطيب عن بدنه من موضع إلى موضع آخر فعليه الفدية ، وإن سال بالحر وغيره إلى موضع آخر ، فلا فدية عليه ، لأنه ليس من جهته .
فصل :
ويستحب أن يحرم عقيب صلاة إما مكتوبة أو نافلة ، وروى الأثرم قال : سألت أبا عبد الله : أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته ؟ فقال : كل قد جاء في دبر الصلاة ، وإذا علا البيداء ، وإذا استوت به ناقته ، فوسع فيه كله .
والمشهور الأول ، لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من صلاته ثم خرج ، فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته واستوت به قائمة أهل ، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا : أهل حين استوت به راحلته وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ، ثم سار حتى علا البيداء فأهل ، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا : أهل حين علا البيداء ، رواه أبو داود وهذا فيه فضل بيان وزيادة علم ، فيتعين الأخذ به، وتقديمه على ما خالفه .
فصل :
وينوي الإحرام بقلبه ، ولا ينعقد من غير نية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة ، فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً ، وإن نوى الإحرام من غير تلبية ،انعقد إحرامه ، لأنه عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها كالصوم ، فإن نوى إحراماً فسبق لسانه إلى غيره ، انعقد إحرامه بما نواه ، دون ما نطق به ، لأن النية هي الإحرام ، فاعتبرت دون النطق .
فصل :
ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويعينه ، ويشترط فيه : أن محلي حيث يحبسني ، فيقول : اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني ، فإن حبسني حابس فمحلي حيث يحبسني، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج . وعنها قالت : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني متفق عليهما . ويفيد هذا الشرط شيئين :
أحدهما : أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل .
والثاني : أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره ، وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يجري مجراه ، قال ابن مسعود : اللهم إني أريد العمرة إن تيست لي وإلا فلا حرج علي . لأن المقصود المعنى ، وإنما أعتبر اللفظ لتأديته له .
فصل :
ويجوز الإحرام بنسك مطلق وله صرفه إلى أيها شاء ، وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان ، صح ، لما روى أبو موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي : بم أهللت ؟ قلت : لبيك بإهلال كإهلال رسول الله . قال : أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا ، و المروة ، ثم أمرني أن أحل ، متفق عليه ، ثم إن تبين له ما أحرم فلان فإحرامه مثله ، وإن تبين أن فلاناً لم يحرم فله صرفه إلى ما شاء كالمطلق ، لأنه عقد الإحرام ، وعلق عين النسك على إحرام فلان ، فلما لم يحرم فلان ، بطل التعيين وبقي المطلق .
وإن علم أن فلاناً احرم ولم يعلم بما أحرم ، أو شك هل أحرم أم لا ، فهو كالناسي لإحرامه ، وللناسي لما أحرم به صرفه إلى أي نسك شاء لأنه إن صادف ما أحرم به فقد أصاب وإن صرفه إلى عمرة ، وكان إحرامه بغيرها فإن فسخه إليها جائز مع العلم فمع الجهل أولى ، فإن صرفه إلى قران وكان إحرامه بعمرة ، فقد أدخل عليها الحج وهو جائز ، وإن كان مفرداً فقد أدخل العمرة على الحج وهو لغو لا يفيد ، ولا يقدح في حجه ، كما لو فعله مع العلم .
وإن صرفه إلى الإفراد وكان معتمراً ، فقد أدخل الحج على العمرة فصار قارناً ، ولا تبطل العمرة بترك نيتها ، فإن كان قارناً فهو على حاله لذلك .
والنصوص عن أحمد رضي الله عنه أنه يجعل المنسي عمرة .
قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب ، لأن ذلك مستحب مع العلم فمع عدمه أولى ، فعلى هذا إن صرفه إلى عمرة ، فهو متمتع حكمه حكم من فسخ الحج إلى العمرة ، وإن صرفه إلى القران لم يجزئه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون مفرداً فلم يصح إدخال العمرة على حجة ، ولا يلزمه دم القران ، لأنه شاك فيما يوجبه ، ويصح له الحج هاهنا ، وفيما إذا صرفه إلى الإفراد فإن كان شكه بعد الطواف لم يكن له صرفه إلا إلى العمرة ، لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز ، فإن صرفه إلى إفراد أو قران ، تحلل بأفعال الحج ولم تجزئه عن واحد من النسكين ، لأنه شاك في صحته ولا دم عليه للشك فيما يوجبه ، إلا أن يكون معه هدي فيجزئه عن الحج ، لأن إدخال الحج على العمرة في حقه جائز بعد الطواف .
فصل :
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين ، انعقد إحرامه بإحداهما ، ولا يلزمه للأخرى قضاء ولا غيره ، لأنهما عبادتان لا يلزم المضي فيهما ، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين ، ولو أفسد نسكه ثم أحرم بغيره من جنسه ، لم يلزمه للثاني شيء ولم يصح لذلك .
فصل :
وهو مخير إن شاء أحرم متمتعاً، أو مفرداً قارناً ، لحديث عائشة . والتمتع : هو الإحرام بعمرة من الميقات ، فإن فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه ، والإفراد : الإحرام بالحج مفرداً ، والقران : الإحرام بهما معاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الإحرام بالحج قبل الطواف ، لما روت عائشة قالت : أهللنا بعمرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه هدي فليحل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً متفق عليه . فإن أحرم بحج ثم أدخل عليه عمرة ، لم يصح ولم يصر قارناً لأنه لم يرد بذلك أثر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر ، لأن إحرامه بها لا يزيده عملاً على ما لزمه بإحرام الحج ، ولا بغير ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة . ومن طاف للعمرة ثم أحرم بالحج معها ، لم يصح لأنه قد أتى بمقصودها وشرع في التحلل منها ، إلا أن يكون معه هدي فله ذلك ، لأن من ساق هدياً ، لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه لقول الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ، فلا يتحلل بطواف ، ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة ، ويصير قارناً بخلاف غيره .
فصل :
وأفضل الأنساك التمتع ، لما روى جابر أنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم : حلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ومن الصفا و المروة ، وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ قال : افعلوا ما أمرتكم ، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثلما أمرتكم به ، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله قال : ففعلوا . متفق عليه . وعنه : إن ساق الهدي فالقران أفضل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل إذا كان معه الهدي . وقد روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة . متفق عليه . والأول أصح ، لقول النبي (ص) : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت فيدل هذا على فضيلة المتعة ، وقد روى عمر وعلي وسعد وابن عمر و حفصة وعائشة وعمران بن حصين رضوان الله عليهم أن النبي (ص) كان متمتعاً ، وإنما منعه الحل سوق الهدي ، ومعنى حديث أنس : أن النبي (ص) أدخل الحج على العمرة حين امتنع عليه الحل منها . ثم بعد التمتع والإفراد ، لأنه يأتي بنسكين كاملين ، و القارن يقتصر على عمل الحج ، ثم القران بعدهما .
فصل :
ويستحب للقارن والمفرد إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج ، وينويا عمرة مفردة ، ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير ليصيرا متمتعين ، لحديث جابر .
ويروى عن إبراهيم الحربي أنه قال : قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة تقول بفسخ الحج ! فقال أحمد : وقد كنت أرى أن لك عقلاً ، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج ، أتركها لقولك ! فأما من ساق الهدي فليس له ذلك ، للحديث ولقول الله تعالى : { لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } .
فصل :
ويجب على المتمتع دم لقول الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } .والدم الواجب شاة أو سبع بدنة ، للآية . قال أبو حمزة : سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها ، وسألته عن الدم فقال : فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم . متفق عليه، ولا يجب الدم إلا بشروط خمسة .
أحدها : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، لقول الله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ، وحاضروا المسجد : أهل الحرم ، ومن بينه وبينه مسافة القصر، لأن الحاضر القريب ، والقريب : دون مسافة القصر .
الثاني : أن يعتمر في أشهر الحج لأن المعتمر من غير أشهره لم يجمع بين النسكين فلم يجب عليه دم كالمفرد ، ولو أحرم بالعمرة من غير أشهر الحج ، وحل منها في أشهره ، لم يكن متمتعاً لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به ، ولأنه أتى به من غير أشهر الحج فلم يصر متمتعاً كالطواف .
الثالث : أن يحج من عامه ، فإن أخر الحج إلى عام آخر ، لم يكن متمتعاً لأن المتمتع بالعمرة إلى الحج يقضي الموالاة بينهما ، ولم يوال فأشبه المعتمر من غير أشهر الحج .
الرابع : أن لا يسافر بينهما سفر يقصر فيه ، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع ، فإن خرج ثم رجع فليس بمتمتع ، ولأنه إذا سافر لزمه الإحرام من الميقات ، أو من حيث انتهى إليه فلا يترفه بأحد السفرين ، فأشبه المفرد .
الخامس: أن يحل من عمرته، فإن أدخل عليها الحج لم يجب دم المتعة ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : أهللنا بعمرة فقدمنا مكة وأنا حائض ، لم أطف بالبيت ولا بين الصفا و المروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله (ص) فقال : انقضي رأسك و امتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت : ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله (ص) مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه ، فقال : هذه مكان عمرتك فقضى الله حجها و عمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة . متفق عليه . ولأنه يصير قارناً أشبه ما لو أحرم بهما ، وذكر القاضي أنه يشترط أن ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها أنه متمتع ، لأنه جمع بين عبادتين ، فافتقر إلى النية كالجمع بين الصلاتين ، وظاهر الآية يدل على عدم اشتراط هذا ، لأنه يوجد المتمتع بدونه والترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كما لو نوى .
فصل :
وفي وقت وجوبه روايتان :
إحداهما : إذا أحرم بالحج لقول الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وبإحرام الحج يفعل ذلك فيجب الدم .
والثانية : إذا وقف بعرفة ، لأن الحج لا يحصل إلا به ، وهو معرض للفوات قبله فلا يحصل التمتع ، فأما وقت ذبحه فقال أحمد : إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي نحره عن عمرته ، لئلا يضيع أو يموت أو يسرق ، فإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ، لأن أصحاب النبي (ص) قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى ، فجوز النحر قبل إحرامه بالحج ، لأنه حق مال يتعلق بشيئين فجاز تقديمه على أحد سببيه كالزكاة .
فصل :
فإن لم يجد الهدي فعله صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، لقول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } وتعتبر القدرة في موضعه لأنه موقت له بدل ، فاعتبرت قدرته في وقته كالوضوء ووقت صيام الثلاثة قبل يوم النحر لقول الله تعالى : { في الحج } . الحج ، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة ، ليحصل صومها أو بعضه بعد إحرام . وإن قدمه على ذلك بعد إحرام العمرة ، جاز ، لأنه وقت جاز فيه نحر الهدي فجاز فيه الصيام كبعد إحرام الحج ، ومعنى قوله: { في الحج } أي في وقته . ولا يجوز تقديم النحر ولا الصوم قبل إحرام العمرة ، لأنه تقديم له على سببه ، فأشبه تقديم الزكاة على النصاب ، ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله للآية ، ، ولما روى ابن عمر أن النبي (ص) قال : فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله متفق عليه . فإن صامها بعد حجه بمكة أو في طريقه جاز ، لأنه صوم واجب جاز تأخيره في حق من يصح منه الصوم فجاز تقديمه ، كرمضان في حق المسافر ، ولا يجب التتابع في شيء من صوم المتعة ، لأن الأمر فيه مطلق فلم يجب التتابع فيه كقضاء رمضان ، فإن لم يصم الثلاث قبل أيام النحر صام أيام منى في إحدى الروايتين لقول ابن عمر وعائشة : لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للممتع إذا لم يجد الهدي .
والثانية : لا يصومها ، لنهي النبي (ص) عن صوم أيام التشريق ، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام . وهل يلزمه لتأخيره دم ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يلزمه ، لأنه آخر الواجب من المناسك عن وقته فلزمه دم كتأخير الجمار .
والثانية : لا يلزمه دم ، لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته ، فلم يجب عليه بفواته كفارة كصوم رمضان .
وقال القاضي : إن أخره لغير عذر لتفريطه ، لزمه ، وإن أخره لعذر لم يلزمه وإن أخر الهدي الواجب لعذر من ضياع نفقة ونحوها فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدي الواجب ، وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه إلا قضاؤه لذلك .
الثانية : عليه هدي آخر ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين . ولأنه من نسك موقت فوجب بتأخيره دم كالرمي .
فصل :
من دخل في الصوم ثم قدر على الهدي ، لم يلزمه الانتقال إليه ، لأن الصوم شرع فيه لعدم الهدي فلم يلزمه الانتقال عنه كصوم السبعة ، وله الانتقال عنه كصوم السبعة ، وله الانتقال إليه ، لأنه الأصل وهو أكمل . وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه حتى قدر على الهدي ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه الهدي ، لأن الصوم استقر عليه ، أشبه الشارع فيه .
والثانية : يلزمه لأنه وجد المبدل قبل شروعه في البدل أشبه الواجد له حال الوجوب .
فصل :
ويجب على القارن دم ، لأنه يروى أن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، ولأن القران نوع تمتع فيدخل فيه عموم الآية ، ولأنه ترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع، ويشترط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، وحكمه حكم دم المتعة فيما ذكرناه .
فصل :
وإذا حاضت المتمتعة قبل الطواف للعمرة فخشيت فوات الحج ، أو خشي ذلك غيرها ، أحرم بالحج مع العمرة وصار قارناً لحديث عائشة ، ولأنه يجوز إدخال الحج على العمرة لغير عذر فمع خشية الفوات أولى .
فصل :
وتجزئ عمرة القارن وعمرة المفرد من أدنى الحل عن عمرة الإسلام وعنه : لا تجزيان ، لقول النبي (ص) لعائشة لما أعمرها أخوها : هذه مكان عمرتك والصحيح : الأول ، لقول الصبي بن معبد لعمر إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما ، يعني أهللت بالمكتوبين . فقال عمر : هديت لسنة نبيك ، ولأنها عمرة صحيحة فكانت مجزئة كعمرة المتمتع والمكي ، ولأن الحج مع تأكيده يجزئ الإحرام به من مكة فالعمرة من أدنى الحل أولى ، وأما حديث عائشة فهو حجة على إجزاء إحدى العمرتين المختلف فيهما ، ولا حجة فيه على عدم الإجزاء في الأخرى ، لأنه إنما أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها لما سألته ذلك ، ولم يبدأها به .
فصل :
ويسن للمحرم التلبية ، لأن النبي (ص) لبى ورفع صوته وأمر برفع الصوت بها ، وصفتها : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، لما روى ابن عمر أن هذه تلبية رسول الله (ص) . متفق عليه . وتجوز الزيادة عليها لأن عمر زاد : لبيك ذا النعماء والفضل الحسن ، لبيك مرهوباً ومرغوباً إليك ، لبيك ، وزاد ابنه : لبيك و سعديك ، والخير بيديك لبيك ، و الرغباء إليك والعمل . وزاد أنس لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً ، وسمعهم النبي (ص) فلم ينكر ، ولا تستحب الزيادة لاقتصار النبي (ص) عنها . قال جابر : وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله (ص) تلبيته ، رواه مسلم . ويستحب أن يصلي على النبي (ص) بعدها ، لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان ، ثم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار ، ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته لقول أنس : سمعت رسول الله (ص) يقول : لبيك عمرة وحجاً متفق عليه ، وقول ابن عباس قدم رسول الله (ص) وأصحابه وهم يلبون بالحج ، قال أحمد : إذا لبى القارن بهما بدأ بالعمرة ، لحديث أنس . وقال أبو الخطاب لا يستحب ذكر الإحرام فيها .
فصل :
ويستحب البداءة بالتلبية إذا ركب راحلته ، لقول ابن عباس ، أوجب رسول الله (ص) الإحرام حين فرغ من صلاته ، فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل ، أي لبى ، ويستحب رفع الصوت بها لما روي عن النبي (ص) أنه قال : أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال حديث صحيح ، ولا يجهد نفسه بذلك لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته ، ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها ، لأنه يخاف الافتتان بها ، ويستحب الإكثار منها ، لأنها ذكر ، ولأنه يروى عن رسول الله (ص) أنه قال : ما من مسلم يضحي لله يلي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه ، فعاد كما ولدته أمه رواه ابن ماجة ، ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع : إذا علا نشزاً أو هبط وادياً ، أو تلبس بمحظور ناسياً ، وفي دبر الصلوات المكتوبات وإذا التقت الرفاق وفي إقبال الليل والنهار وبالأسحار ، لأن النخعي قال : كانوا يستحبون التلبية دبر الصلوات المكتوبة ، وإذا هبط وادياً وإذا علا نشزاً ، وإذا لقي راكباً ، وإذا استوت به راحلته ، ولأن في هذه المواضع ترتفع الأصوات ، ويكثر الضجيج ، وقد قال النبي (ص) : أفضل الحج : العج و الثج وهو حديث غريب . و العج : رفع الصوت ، و الثج : إسالة الدماء . وحكم التلبية دبر الصلاة حكم التكبير في أيام عيد النحر ، وتجزئ التلبية مرة واحدة ، لعدم الأثر في تكرارها ، ولا بأس بالزيادة ، لأنها زيادة ذكر ، وتستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر مساجد الحرم وبقاعه ، لأنها مواضع النسك ، ولا يستحب إظهارها في مساجد الحل وأمصاره ، لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة فقال : إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت.
باب محظورات الإحرام
وهي تسعة أحدها : الجماع ، لقول الله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } ، وقال ابن عباس الرفث : الجماع . وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة ، لأنه محرم للوطء فحرم المباشرة لشهوة كالصيام ، ويحرم عليه النظر لشهوة ، لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة .
فصل :
الثاني : عقد النكاح ، لا يجوز للمحرم أن يعقد لنفسه ولا لغيره ، ولا يجوز عقده لمحرم ، ولا على محرمة ، لما روى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ، رواه مسلم . ولأن الإحرام يحرم الطيب فحرم النكاح كالعدة ، وإن فعل فالنكاح باطل ، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، ولا بأس بالرجعة ، لأنها إمساك للزوجة ، بدليل قول الله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } . ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود ، ولا إذنها ، فلم تحرم كإمساكها بترك الطلاق .
وعنه : لا يحل لأنه عقد وضع لإباحة البضع ، أشبه النكاح . ويجوز أن يشهد في النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول ، وليس للشاهد فيهما شيء . وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة ، للخبر ، ولا يجب بالتزويج فدية ، لأنه عقد فسد للإحرام فأشبه شراء الصيد .
فصل :
الثالث : قطع الشعر ، لقول الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } . نص على حلق الرأس ، وقسنا عليه سائر شعر البدن ، لأنه يتنظف ويترفه به ، فأشبه حلق الرأس ، وقص الشعر وقطعه ونتفه كحلقه ، ولا يحرم عليه حلق شعر الحلال ، لأنه لا يترفه بذلك . وإن خرج في عينه شعر أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه ، فله إزالته ولا فدي عليه ، لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذاه من غير فدية كالصيد ، وإن كان الأذى من غير الشعر ، كالقمل فيه ، والقروح برأسه ، أو صداع ، أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فله إزالته ، وعليه الفدية ، لما نذكره ، ولأنه فعل المحرم لدفع ضرر غيره ، فلزمته الفدية ، كما لو قتل الصيد لمجاعة ، بخلاف من آذاه الشعر .
فصل :
الرابع : تقليم الأظافر يحرم ، لأنه جزء ينمى ، ويترفه بإزالته أشبه الشعر ، وإن انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه كالشعر المؤذي ، وإن قص أكثر مما انكسر فعليه فديته ، وإن احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فعل وعليه الفدية ، كحالق الرأس دفعاً لأذى قمله .
فصل :
الخامس : لبس المخيط ، يحرم عليه لبس كل ما عمل للبدن على قدره أو على قدر عضو منه ، كالقميص والبرنس والسراويل والخف ، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ، إلا أحداً لا يجد نعلين فيلبس الخفين ، و ليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا يلبس من الثياب شيء مسه زعفران أو ورس متفق عليه وسواء في هذا ما كان من خرق أو جلد ، مخيط بالإبر أو ملصق بعضه ببعض ، لأنه في معنى المخيط ، والتبان والران كالسراويل ، لأنه في معناه وإن شق الإزار ، وجعله ذيلين شدهما على ساقيه ، لم يجز ، لأنه كالسراويل وتجب الفدية باللبس ، لأنه محرم في الإحرام فتعلقت به الفردية كالحلق ، ولا يجوز له عقد ردائه عليه ، لأن ابن عمر قال : لا تعقد عليك شيئاً ، ولأنه يصير بالعقد كالمخيط ، ولا يجوز له أن يزره عليه ، ولا يخله بشوكة ولا غيرها ، ولا يغرز طرفيه في إزاره ، لأنه في معنى عقده ، وله أن يعقد إزاره ، لأنه يحتاج إليه لستر العورة ، ولذلك جاز للمرأة لبس المخيط في إحرامها لكونها عورة ، وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل ، ولا يعقده ، ولكن يدخل بعضه في بعض ، وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته ، ويدخل السيور بعضها في بعض ، فإن لم يثبت عقده ، لقول عائشة رضي الله عنها : أوثق عليه نفقتك ، ولأن هذا مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز الإزار ، فأما المنطقة وما لا نفقة فيه ، فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه ، فإن احتاج إلى عقد المنطقة ، لوجع ظهره ، فعل وفدى ، نص عليه ، لأن هذا نادر ، فأشبه حلق الشعر لوجع الرأس .
فأما القباء ونحوه فقال الخرقي : يطرحه على كتفيه ، ولا يدخل يديه في كميه ، لأنه لا يحيط ببدنه ، أشبه الاتشاح بالقميص .
وقال القاضي : عليه الفدية ، لأنه لبس المخيط على العادة في لبسه ، فلزمه الفدية ، كما لو أدخل يديه في كميه . ومن لم يجد إزاراً ، فله لبس السراويل ولا فدية عليه ، لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين متفق عليه . ومن عدم الرداء لم يبح له لبس القميص ، لأنه يمكنه أن يرتدي به على صفته ، ولا يمكن أن يتأزر بالسراويل ، ومتى وجد الإزار لزمه خلع السراويل للخبر. ويحرم على المحرم لبس الخفين للخبر ، فإن لم يجد نعلين ، لبس خفين ، ولا يقطعهما ، ولا فداء عليه ، لحديث ابن عباس ، وعنه : لا يلبسهما حتى يقطعهما أسفل من الكعبين ، فإن فعل افتدى ، لأن في حديث ابن عمر زيادة ، والزيادة من الثقة مقبولة ، وإن لبس خفاً مقطوعاً مع وجود النعل ، فعليه الفدية للخبر ، وليس له لبس الجمجم ، و اللالكة في ظاهر كلام أحمد ، لأنه في معنى الخف المقطوع ، فإن لم يجد النعلين ، فله لبس ذلك من غير فداء كالخفين .
قال أحمد : لا يلبس نعلاً لها قيد ، وهو السير المعترض على الزمام ، ويقطع العقب يعني الشراك .
قال القاضي : إذا كانا عريضين يستران القدم فلا فدية فيه ، لأن حكمهما أخف من حكم الخف، وقد أباح لبسه عند عدم النعل من غير قطع ، فها هنا أولى .
ومن وجد نعلاً لا يمكنه لبسها لبس الخف ، وافتدى ، نص عليه ، لأن إسقاط الفدية مشروط بعدم النعل ، والقياس أنه لا فدية عليه ، لأن العجز كالعدم في الانتقال إلى البدل ، وقد قام مقامه هاهنا في الجواز ، فكذلك في سقوط الفدية . فأما المحرمة ، فلها لبس المخيط كله ، إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه ، لما روى ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب ، وما مس الورس والزعفران من الثياب ، ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب ، من معصفر ، أو خز ، أو حلي ،أو سراويل، أو قميص أو خف . رواه أحمد بإسناده .
وروى البخاري منه : لا تتنقب المرأة ، ولا تلبس القفازين . ولأن إحرام المرأة في وجهها حرم عليها تغطيته . وإن احتاجت إلى سترة ، سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره ، لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذونا ، سدلت إحدانا جلبابها على رأسها ، فإذا جاوزونا كشفناه . رواه أبو داود .
قال القاضي : ويكون ما تسدله متجافياً ، ولا يصيب البشرة ، قال الشيخ رحمه الله : ولم أجد هذا عن أحمد ، ولا في الحديث ، والظاهر أنه غير معتبر .
فصل :
السادس : تغطية الرأس ، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم ، ولقوله في الذي مات محرماً لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ويحرم تغطية بعضه ، لأن النهي تناول جميعه ، ولا يجوز أن يعصبه بعصابة ولا سير ، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به ، سواء كان فيه دواء ، أو لا دواء فيه ، ولا يطينه بطين ولا حناء ، ولا دواء يستره ، لأنه نوع تغطية ، وفيه الفداء لما ذكرنا في اللباس . فإن حمل عليه طبقاً ، أو وضع يده عليه ، فلا بأس ، لأنه لا يقصد به الستر ، ولو ترك فيه طيباً قبل إحرامه ، لم يمنع من استدامته ، لقول عائشة : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله وهو محرم ، ولا يمنع من تلبيده بصمغ ، وعسل ، ليتلبد ويجتمع الشعر ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني لبدت رأسي و هو محرم . متفق عليه ، ولا يمنع من تغطية وجهه ، لأن عثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت أجازوه ، وعنه : يمنع منه ، لأنه في بعض لفظ حديث ابن عباس في الميت المحرم ، ولا تخمروا وجهه ولا رأسه متفق عليه وفي تظليل المحمل روايتان : إحداهما : ليس له أن يتظلل به ، لأن ابن عمر قال : أضح لمن أحرمت له ، أي : ابرز للشمس ، ولأنه ستر رأسه بما يقصد به الترفه ، أشبه تغطيته ، وتلزمه الفدية ، لما ذكرنا .
والثانية :له أن يتظلل ، لأنه ليس بمباشر للرأس ، أشبه الخيمة ، وله أن يتظلل بثوب على عود ، لما روت أم الحصين قالت : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلمحجة الوداع فرأيت أسامة و بلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر ، رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . رواه مسلم . ولا بأس بالتظلل بالخيمة والسقف والشجرة وأشباه ذلك ، لأنه لا يلازمه أشبه ظل الجبال والحيطان .
فصل :
السابع : الطيب يحرم عليه استعماله في بدنه و ثيابه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميت المحرم ولا تقربوه طيباً وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران وتجب به الفدية لما ذكرنا في اللباس ، ويحرم عليه المبخر بالطيب و المصبوغ به ، قياساً على المزعفر ، ولا يجوز أن يأكل طيباً ، ولا يكتحل به ، ولا يستعط به ،ولا يحتقن به ، لأنه استعمال للطيب ، وإن كان في الطعام طيب يظهر ريحه ، لم يجز أكله لأنه يأكل طيباً ، وإن لم يظهر له ريح جاز أكله ، وإن ظهر لونه ، وإن ظهر طعمه فظاهر كلام أحمد المنع منه ، لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة ، وإن لبس ثوباً كان مطيباً فانقطع ريحه ، وكان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه ، فعليه الفدية لأنه مطيب ، وإلا فلا ، وإن فرش فوق المطيب ثوب صفيق يمنع الرائحة والمباشرة ، فلا فدية عليه بالنوم عليه ، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ، فعليه الفدية ، لأنه يمنع منه استعمال الطيب في ثيابه ، كما يمنع منه في بدنه . والطيب كل ما يتطيب به ، أو يتخذ منه طيب ، كالمسك والكافور والعنبر والزعفران و الورس والورد والبنفسج ، و الأدهان المطيبة بشيء من ذلك ، كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها .
وفي الريحان الفارسي روايتان :
إحداهما : ليس بطيب ، لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال في المحرم : يدخل البستان ويشم الريحان ، ولأنه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه بنت البرية .
والثانية : هو طيب ، لأنه يتخذ للطيب ، أشبه الورد في سائر النبات الطيب الرائحة الذي لا يتخذ منه طيب كالمرزنجوش والنرجس والبرم وجهان قياساً على الريحان ، وقال أبو الخطاب في الورد والخيري والبنفسج والياسمين روايتان ، كالريحان ، والصحيح أنه طيب ، لأنه يتخذ منه طيب ، فهو كالزعفران ، فأما نبت البرية ، كالشيح و القيصوم و الإذخر و الخزامى والفواكه كالأترج والتفاح والسفرجل والحناء فليس بطيب ، لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب ، فأشبه العصفر ، وقد ثبت أن العصفر ليس بطيب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : و لتلبس ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر وكان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرمن في المعصفرات ، وإن مس المحرم طيباً يعلق بيده ، فعليه الفدية ، لأنه طيب يده ، وإن مس ما لا يعلق بيده ، كقطع الكافور والعنبر فلا فدية ، لأنه لم يتطيب ، وإن شمه فعليه الفدية ، لأنه يستعمل هكذا ، وإن شم العود فلا فدية عليه ، لأنه لا يستعمل هكذا ولا تقصد رائحته ، وإن تعمد لشم الطيب ، مثل أن دخل الكعبة ، وهي تجمر ، أو حمل مسكاً ليشم رائحته ، أو جلس عند العطار لذلك ، فعليه الفدية ، لأنه شمه قاصداً له ، مبتدئاً به في الإحرام فأشبه ما لو باشره ، وإن لم يقصد ذلك ، كالجالس عند العطار لحاجة أخرى ، أو دخل الكعبة ليتبرك بها أو حمل الطيب من غير مس للتجارة ، فلا يمنع منه ، لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه .
فصل :
الثامن : الصيد ، حرام صيده وقتله وأذاه لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم } وقوله : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } فإن أخذه لم يملكه ، لأن ما حرم لحق غيره ، لم يملكه بالأخذ من غير إذنه ، كمال غيره ، وعليه إرساله من موضع يمتنع فيه ، فإن تلف من يده ضمنه كمال الآدمي ، وإن كان الصيد لآدمي ، فعليه رده إليه ، لأنه غصبه منه ، ويحرم عليه تنفيره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة : لا ينفر صيدها متفق عليه . وهذا في معناه ، فإن نفره ، فصار إلى شيء هلك به ، ضمنه ، لخبر عمر رضي الله عنه ، ولأنه هلك بسبب من جهته ، فأشبه من نصب له شركاً فهلك به . ويحرم عليه الإعانة على قتله ، بدلالة ، بقول ، أو إشارة ، أو إعارة آلة ، لما روى أبو قتادة أنه كان مع أصحاب له، محرمين وهو لم يحرم ، فأبصرو حماراً وحشياً ، وأنا مشغول أخصف نعلي ، فلم يؤذنوني ، به ، وأحبو لو أني أبصرته ، فركبت ونسيت السوط والرمح ، فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح ، قالوا : والله لا نعينك عليه . وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه ، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا ما بقي من لحمها متفق عليه . ولأن ما حرم قتله حرمت الإعانة عليه ، كالآدمي ، فإن فعل فقتله حلال فالجزاء على المحرم ، لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهما ، ولأن فعله سبب إتلافه ، فتعلق به الضمان كتنفيره، وإن قتله محرم آخر ، فالجزاء بينهما ، وإن كان المدلول ، رأى الصيد قبل الدلالة ، فلا شيء فيها ، لأنها لم تكن سبباً لإتلافه ، وإن ضحك المحرم عند رؤية الصيد ففطن الحلال ، فلا شيء فيه ، لأن في حديث أبي قتادة ، فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم ، فنظرت فإذا حمار وحش .
وفي رواية : إذا أبصرت بأصحاب يتراؤون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش ، ويحرم عليه الأكل مما أشار عليه أو أعان عليه ، أو كان له أثر في ذبحه ، مثل أن يعيره سكيناً، لحديث أبي قتادة ، ويحرم عليه أكل ما صاده ، أو صيد لأجله ، لما روى جابر قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صيد البر لكم حلال ، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم قال الترمذي : هذا أحسن حديث في الباب . ويباح أكل ما عدا ذلك للحديثين ، فإن أكل مما منع من أكله مما لزمه ضمانه كالذي صاده ، أو دل علية ، لم يضمنه بالأكل لأنه قد ضمنه بالقتل ، فلم يضمنه بالأكل كشاة غيره ، وكذلك إن وجب على غيره ضمانة ، وإن لم يكن ضمن بالقتل ، كالذي صاده حلال من أجله ، ضمنه بالأكل بمثله لحماً ، لأنه إتلاف جزء للصيد ، حرمه الإحرام ، فتعلق به الضمان ، كإتلاف أجزاء الحي ، وإن ذبح المحرم الصيد ، حرم على كل أحد ، لأنه منع من الذبح لحق الله ، فلم يبح ذبحه كالمجوسي ، وما حرم عليه لدلالة ، أو إعارة آلة ، أو صيد من أجله ، لم يحرم على الحلال ، لأن لا فعل منه فيه .
فصل :
ويحرم عليه شراء الصيد و اتهابه ، لما روى ابن عباس ، أن الصعب بن جثامة ، أهدى إلى النبي (ص) حماراً وحشياً ، فرد عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم متفق عليه ، ولأنه سبب يتملك به الصيد ، فلم يملكه به المحرم ، كالاصطياد ، ومتى ملك الصيد بجهة محرمة ، حتى حل ، لم يبح له ، وعليه إرساله ، فإن تلف أو أتلفه فعليه فداؤه ، لأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله ، وإن ذبحه بعد التحلل لم يبح عند القاضي، لأنه صيد لزمه ضمانه، فلم يبح ذبحه، كحلال الإحرام .
وقال أبو الخطاب : يباح ، لأنه ذبحه في حال حله ، فأبيح كغيره ، وإن أحرم وفي ملكه صيد ، لم يزل ملكه عنه ، لأنه ملك فلا يزول بالإحرام ، كملك البضع ، وله بيعه وهبته ، وإن كان في يده المشاهدة أو قفص أو حبل معه ، فعليه إرساله ، فإن لم يفعل فأرسله إنسان ، فلا ضمان عليه ، لأنه ترك فعل الواجب ، فإن ترك حتى تحلل ، فحكمه حكم ما صاده ، قال في الشرح : فملكه باق عليه . وإن مات من يرثه وله صيد ورثه ، لأن الملك بالإرث يثبت حكماً ، بغير اختياره ، ويثبت للصبي والمجنون فأشبه استدامة الملك ، ويحتمل أن لا يملكه ، لأنه ابتداء ملك فأشبه الشراء .
فصل :
والصيد المحرم : ما جمع صفات ثلاث :
أحدها : أن يكون من صيد البر ، لأن صيد البحر حلال ، لقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } وصيد البحر ما يفرخ فيه ويأوي إليه ، فأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم لأنه يتعيش في البحر ولا يعيش فيه ، وفي الجراد الجزاء لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ، ولأنه لا يعيش إلا في البر فهو كسائر الطير ، وعنه : لا جزاء فيه، لأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من صيد البحر ، ويروى عن النبي (ص) من طريق ضعيف .
الثاني : أن يكون وحشياً ، فأما الأهلي كبهيمة الأنعام ، والدجاج ، فليس بمحرم ، لأنه ليس بصيد ، ولذلك يذبح الهدايا والأضاحي ،والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال ، فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والغزال والحمام لم يحل وفيه الجزاء ، ولو توحش الإنسي لم يحرم .
الثالث : أن يكون مباحاً ، فلا يحرم قتل غيره بالإحرام ولا جزاء فيه ، لقول النبي (ص) : خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور متفق عليه فثبت إباحة هذه الخمس بالنص ، وقسنا عليهن ما في معناهن مما فيه أذى ،فأما غير المأكول مما لا أذى فيه ، فيكره قتله ولا جزاء فيه ، لأن الصيد ما كان مأكولاً ، إلا أن ما تولد بين مأكول وغيره ، كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب، و العسبار: ولد الذئبة من الضبع ، يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً لحرمة القتل ، كما غلبت فيه حرمة الأكل . والمتولد بين أهلي ووحشي يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً للتحريم وفي الثعلب الجزاء ، مع الخلاف في أكله ، تغليباً للتحريم ، وفي القمل روايتان :
إحداهما : لا شيء فيه لتحريم أكله وأذاه فهو كالبراغيث .
والثانية : فيه الجزاء لأنه يترفه بإزالته ، وأي شيء تصدق به كان خيراً منه . قال القاضي : وإنما الروايتان في ما ألقاه من شعره ، أما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه ، فلا شيء فيه رواية واحدة لشبهه بالبراغيث .
فصل :
وما حرم من الصيد ، حرم كسر بيضه ، لما روي عن النبي (ص) (( أنه قال في بيض النعام ، يصيبه المحرم يضمنه)) رواه الدارقطني . ولأنه خارج من الصيد يصير منه مثله فهو كالفرخ ، وإن كسر بيضاً لم يحل أكله، ولا يحرم على حلال، لأنه لا يحتاج إلى زكاة . وقال القاضي : يحرم على كل أحد قياساً على الصيد ، وإن كسر بيضاً مذراً فلا شيء عليه ، لأنه ليس بحيوان ولا يخلق منه حيوان فهو كالأحجار ، قال أصحابنا إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة ، و الأول أولى . وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر فحضنه وأفراخ فلا شيء عليه ، وكذلك إن كسره فخرج منه فراخ فعاشت ، وإن لم تعش الفراخ أو لم تحضنه ، أو ترك مع بيضه شيئاً نفر من الصيد فلم يحضنه ، ضمنه ، لأنه أتلفه ، وإن باض في طريقه أو على فراشه ، فنقله فلم يحضنه الصيد حتى تلف ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه ، لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما لو قتله للجماعة .
والثاني : لا شيء عليه ، لأنه ألجأه إلى إتلافه فأشبه ما لو صال عليه صيد فدفعه فقتله ، وإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان كذلك .
فصل :
وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط ، أو تغطية رأسه ، أو الطيب لمرض ، أو شدة حر ، فعله ، وعليه الفدية ، قياساً على الحلق ، وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه ، لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما ذكرناه ، وإن صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه فلا جزاء فيه ، لأنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي .
وقال أبو بكر : عليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه ، فأشبه ما لو قتله لأكله والأول أصح . وإن خلص صيداً من سبع أو شبكة ليرسله فتلف ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه ، لأنه تلف بفعله فليضمنه كالمخطئ .
والثاني : لا يضمنه ، لأنه تلف بفعل مباح لمصلحته فلم يضمنه ، كالآدمي يتلف بمداواة وليه.
فصل :
يكره للمحرم حك شعره بأظفاره كيلا ينقطع ، فإن انقطع به فله شعره لزمته فديته ، ويكره الكحل بالإثمد غير المطيب ، لأنه زينة ، والحاج أشعث أغبر ، وهو في حق المرأة أشد كراهة ، لأنها محل الزينة ولا فدية فيه ، لأن وجوبها من الشارع ، ولم يرد بها ههنا ، ويكره لبس الخلخال ، والتزين بالحلي لذلك ، وهو مباح لحديث ابن عمر ، ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين ، ويكره أن يدهن بدهن غير مطيب لذلك ، وعن أحمد رضي الله عنه في جوازه روايتان ، إلا أنه يحتمل أن تختص الروايتان بدهن الشعر ، لأنه يذيل الشعث ، ويسكن الشعر ، ويزينه ، ويباح التدهن في غيره ، لأن للمحرم أكل الدهن فكان له أن يدهن به . وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي (ص) ادهن بدهن غير مقتت ، أي : غير مطيب ، يعني وهو محرم [والأولى أصح ] . إلا أنه من رواية فرقد وهو ضعيف . ولا فدية فيه بحال لما ذكرنا ، وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح والمراء لقول الله : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج قال ابن عباس : الفسوق : المنابرة بالألقاب ، وتقول لأخيك : يا فاسق يا ظالم ، والجدال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه . وروى أبو هريرة : أن النبي (ص) قال من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه متفق عليه .
ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع ، لقول النبي (ص) : من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ففي حال الإحرام والتلبس بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى .
فصل :
ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء و السدر و الخطمي ولا فدية عليه . وعنه : عليه الفدية ، والأول أصح ، لقول النبي (ص) في الميت المحرم : اغسلوه بماء وسدر . وقال عبد الله بن حنين : امترى بن عباس و المسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه ، فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري ، أسأله كيف رأيت رسول الله (ص) يغسل رأسه وهو محرم ؟ قال : فصب على رأسه مقبلاً ومدبراً وقال : هكذا رأيت رسول الله (ص) يفعل متفق عليه ويجوز أن يحتجم ولا يقطع شعراً ، لما روى ابن عباس أن رسول الله (ص) احتجم وهو محرم . متفق عليه .
ويجوز أن يفتصد ، كما يجوز أن يحتجم ، ويتقلد بالسيف عند الضرورة ، لأن أصحاب رسول الله (ص) دخلوا في عمرة القضية ، متقلدين سيوفهم ، ولا بأس بالتجارة والتكسب والصناعة ، لقول الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } . قال ابن عباس : كان ذو المجاز وعكاظ متجراً للناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } في مواسم الحج . رواه البخاري .
فصل :
ومن جامع ، أفسد حجه وعليه بدنة ، سواء كان عالماً أو جاهلاً ، عامداً أو ناسياً ، لأنه في معنى يتعلق به قضاء الحج ، فاستوى عمده وسهوه ، كالفوات . وإن حلق أو قلم ناسياً أو جاهلاً ، فعليه الفدية ، لأنه إتلاف ، فاستوى عمده وسهوه ، كإتلاف مال الآدمي . ويتخرج أن لا فدية عليه ، قياساً على اللبس ، وإن قتل الصيد مخطئاً ، فعليه جزاؤه ، لأنه ضمان مال ، فأشبه ضمان مال الآدمي .
وعنه : لا جزاء عليه ، لقول الله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } مفهومه أن لا شيء في الخطأ ، وإن تطيب ولبس ناسياً أو جاهلاً ، فلا فدية عليه ، لما روى يعلى بن أمية : أن رجلاً أتى إلى النبي (ص) وعليه جبة ، وعليه أثر خلوق ، فقال: يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : اخلع عنك هذه الجبة ، واغسل عنك أثر الخلوق ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك متفق عليه . . ولم يأمره بفدية لجهله ، وقسنا عليه الناسي ، ، لأنه في معناه ، وعنه ، عليه الفدية ، لأنه فعل حرمه الإحرام ، فاستوى عمده وسهوه كالحلق ، والأول : المذهب . والحلق إتلاف لا يمكن تلافيه ، ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل ، فعليه إزالة ذلك ، فإن استدامه فعليه الفدية ، لأنه تطيب ولبس من غير عذر فأشبه المبتدئ به . وحكم المكره ، حكم الناسي ، لأنه أبلغ منه في العذر .
وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطباً ، ففيه وجهان :
أحدهما : عليه الفدية ، لأنه قصد مس الطيب .
والثاني : لا فدية عليه ، لأنه جهل تحريمه ، فأشبه من جهل تحريم الطيب . ومن طيب أو حلق رأسه ، بإذنه فلفدية عليه ، لأن ذلك ينسب إليه ، وإن حلق رأسه مكرهاً أو نائماً ، فالفدية على الحالق ، لأنه أمانة عنده فالفدية على من أتلفه بغير إذنه ، كالوديعة . وإن حلق وهو ساكت لم ينكر ، فالفدية عليه ، كما لو أتلف الوديعة وهو يقدر على حفظها فلم يفعل ، وإن كشط من جلده قطعة عليها شعر ، أو قطع إصبعاً عليها ظفر ، فلا فدية عليه ، لأنه زال تبعاً لغيره، فلم يضمنه ، كما لو قطع أشفار عيني إنسان ، فإنه لا يضمن أهدابها .
باب الفدية
من حلق رأسه وهو محرم ، فعليه ذبح شاة ، أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، أو صيام ثلاثة أيام ، لقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وروى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعلك تؤذيك هوام رأسك ؟ قال : نعم يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع تمر ، أو نسك شاة متفق عليه ، وسواء حلق لعذر أو غيره . وعنه : فيمن حلق لغير عذر ، عليه الدم ، من غير تخيير ، لأن الله تعالى خير ، بشرط العذر فإن عدم الشرط ، زال التخيير ، والأول أولى ، لأن الحكم ثبت من غير عذر المعذور تبعاً له ، و التبع لا يخالف أصله ، وإنما الشرط لإباحة الحلق ، ، لا التخيير ، وفي حلق أربع شعرات ما في حلق الرأس كله ، لأنها كثير ، فتعلقت بها الفدية كالكل ، وفي الثلاث روايتان :
إحداهما : هي كالكل ، قال القاضي : هو المذهب لأنه يقع عليها ، اسم الجمع المطلق ، فهي كالأربع .
والثانية : لا يجب فيها ذلك ، وهي اختيار الخرقي . لأن الثلاث آخر القلة ، وآخر الشيء منه.
وفيما دون ذلك ثلاث روايات :
إحداهن : في كل شعرة مد من طعام ، لأن الله تعالى عدل الحيوان بالطعام ، هاهنا بالصيد ، وأقل ما يجب منه مد من طعام فوجب .
والثانية : قبضة من طعام ، لأنه لا تقدير له في الشرع ، فيجب المصير إلى الأقل ، لأنه اليقين .
والثالثة : درهم ، لأن إيجاب جزء من الحيوان يشق ، فصرنا إلى قيمته وأقل ذلك درهم ، وإزالة الشعر بالقطع والنتف والنورة وغيرها كحلقه ، لأنها في معناه ، والأظفار كالشعر في الفدية ، لأنها في معناها ، وفي بعض الشعرة أو الظفر ما في جميعه ، كما أن في القصيرة مثل ما في الطويلة، وإن حلق شعر رأسه وبدنه ، فعليه فدية واحدة ، لأنه جنس واحد فأجزأته فدية واحدة ، كما لو لبس عمامة وقميصاً ، وهذا اختيار أبي الخطاب .
وحكي رواية أخرى : أن عليه فديتين ، اختاره القاضي ، لأن حلق الرأس يتعلق به نسك ، دون شعر البدن فيخالفه في الفدية ، ومن أبيح له الحلق ، فهو مخير ، في الفدية قبله وبعده كما يتخير في كفارة اليمين ، قبل الحنث وبعده .
فصل :
ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب ، فعليه الفدية ، مثل حلق رأسه ، لأنه في معناه ، فقسناه عليها ، وإذا لبس عمامة وقميصاً وسراويل وخفين ، فعليه فدية واحدة ، لأنه جنس واحد فأشبه ما لو طيب رأسه وبدنه ، وإن لبس وتطيب وحلق وقلم ، فعليه لكل جنس فدية ، لأنها أجناس مختلفة ، فلم تتداخل كفاراتها بالأيمان والحدود ، وعنه : إن فعل ذلك دفعة واحدة ، ففديته واحدة ، لأن الكل محظور فأشبه اللبس في رأسه وبدنه . وإن كرر محظوراً واحداً فلبس ، ثم لبس أو تطيب ، ثم تطيب أو حلق ، ثم حلق ، ففدية واحدة ، ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني .
وعنه : إن فعله لأسباب ، مثل من لبس أول النهار للبرد ، ووسطه للحر ، وآخر للمرض ففديات ، لأن أسبابه مختلفة ، فأشبه الأجناس المختلفة ، والأول أولى ، لأن الحكم يتعلق بالمحظور لا بسببه ، فأشبه الحالف بالله ثلاثة أيمان ، على شيء واحد ، ، لأسباب مختلفة ، وقليل اللبس والطيب و كثيره سواء ، وحكم كفارة الوطء في التداخل مثل ما ذكرنا ، لأنها ليست ضماناً .
فأما جزاء الصيد ، فلا تداخل فيه ، وكلما قتل صيداً حكم عليه .
وعنه : أنه يتداخل ، كسائر الكفارات .
وعنه : لا يجب الجزاء ، إلا في المرة الأولى ، لقول الله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } ولم يذكر جزاء ، والأول المذهب ، لقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } . وهذا يقتضي كل قاتل ، ومثل الصيدين ، أكثر من مثل واحد ، ولأنه ضمان مال يختلف باختلافه فوجب في كل مرة ، كضمان مال الآدمي .
قال أحمد : روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ ، و فيمن قتل ولم يسألوه ، هل كان قتل قبل هذا أم لا ؟ .
فصل :
وإذا وطئ المحرم ، في الفرج ، في الحج ، قبل التحلل الأول ، فعليه بدنة ، لأن ذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنه ، وسواء كان الفرج قبلاً أو دبراً ، من آدمي أو من بهيمة ، لأنه وطء في فرج ، أشبه وطء الآدمية ، وإن وطئت المحرمة مطاوعة ، فعليها بدنة ، لأنها أفسدت حجها بالجماع فوجبت عليها البدنة كالرجل ، وإن وطئ الرجل محرمة مطاوعة ، فعلى كل واحد منهما بدنة لأن ابن عباس قال للمجامع : اهد ناقة ، ولتهد ناقة ، ولأنه إفساد حج شخصين فأوجبت بدنتين كالوطء من رجلين .
وعنه : يجزئهما هدي واحد ، لأنه جماع واحد ، فأشبه ما لو أكرهها ، فإن وطئها نائمة ، أو مكرهة ، ففيها روايتان :
إحداهما : أن الواجب هدي واحد عليه دونها ، لأنها معذورة ، لم يلزمها كفارة ، كالمكرهة على الوطء في الصيام .
والثانية : يجب هديان ، لأنه إفساد حجة اثنين ، فعلى هذا يحتمل الرجل عنها ، لأن الإفساد وجد منه ، ، فكان موجبه عليه ، كما تجب عليه نفقة قضائها ، ويحتمل أن تكون عليها ، لأنها وجبت لفساد حجها ، وإن وطئ في العمرة ، أو وطئ في الحج بعد التحلل الأول ، فعليه شاة ، لأنه فعل محظور لم يفسد حجاً ، فلم يوجب بدنة ، كالقبلة .
ومتى وطئ المحرم دون الفرج ، أو قبل أو لمس لشهوة ، فلم ينزل ، فعليه شاة لأنه فعل محرم بالإحرام ، لم يفسد الحج ، فوجبت به الشاة كالحلق ، وإن أنزل فعليه بدنة ، لأنه استمتاع ، بالمباشرة أوجب الغسل ، فأوجب البدنة كالوطء في الفرج ، وإن نظر فلم ينزل ، فلا شيء عليه . وإن نظر فصرف بصره فأنزل ، فعليه شاة ، وإن كرر النظر حتى أنزل ففيه روايتان:
إحداهما : شاة ، يروى ذلك عن ابن عباس ، ولأنه ليس بمباشرة ، فلم يوجب البدنة ، كما لو صرف بصره .
والثانية : فيه بدنة ، اختاره الخرقي لأنه إنزال باستمتاع ، فأوجب البدنة كالمباشرة ، وإن فكر فأنزل ، فلا شيء عليه ، لما ذكرنا في الصوم ، وإن أمذى في هذه المواضع ، فهو كمن لم ينزل ، لأنه خارج ، لا يوجب الغسل أشبه البول .
فصل :
ومن لزمته بدنة ، أجزأته بقرة ، لأن جابراً قال : وهل هي إلا من البدن ، ولأنها تقوم في الأضاحي والهدايا مقامها ، فكذا هاهنا ، ويجزئه سبع من الغنم لذلك ، وإن لم يجد هدياً ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ولأن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو ، قالوا للواطئين : اهديا هدياً ، فإن لم تجدا فصوما ، ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم ، وهم الأصل في ثبوت حكم الوطء ، وإليهم المرجع فيه ، فكذا في بدله ، وقال أصحابنا : تقوم البدنة فيشتري بقيمتها طعاماً يتصدق به ، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً قياساً مع البدنة الواجبة في فدية النعامة .
باب جزاء الصيد
يجب الجزاء في الصيد لقول الله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } الآية . وهو ضربان :
ما له مثل من النعم : وهي بهيمة الأنعام ، فيجب فيه مثله للآية ، وهو نوعان ، ما قضت الصحابة فيه ، فيجب فيه ما قضت ، لأنه حكم مجتهد فيه ، واجتهادهم أحق أن يتبع .
فمن ذلك الضبع ، قضى فيها عمر وابن عباس بكبش ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيها بذلك . رواه أبو داود وغيره ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
والنعامة ، قضى فيها عثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية ببدنة .
وحمار الوحش ، وفيه روايتان :
إحداهما : فيه بقرة ، لأن عمر قضى فيه بها .
والثانية : فيه بدنة ، لأن أبا عبيدة وابن عباس قضيا فيه بها ، وقضاء عمر أولى . لأنه أقرب إلى ما قضي به ، وعن ابن مسعود أنه قضى في بقرة الوحش ، ببقرة .
وقال ابن عباس : في الإبل ، بقرة . وقال ابن عمر : في الأروى ، بقرة .
وقضى عمر في الظبي ، بشاة ، وفي اليربوع بجفرة وهي التي لها أربعة أشهر في المعز .
وفي الأرنب بعناق ، وهي أصغر من الجفرة . وفي الضب بجدي .
والضرب الثاني : ما لم تقض فيه الصحابة ، فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة ، لقول الله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } ويجوز أن يكون القاتل أحدهما : لدخوله في العموم ، ولما روى طارق بن شهاب قال : خرجنا حجاجاً ، فأوطأ منا رجل . يقال له إربد . ضباً ، ففزر ظهره ، فقدمنا على عمر فسأله إربد ، فقال له : احكم فيه يا إربد . قال : أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم ، فقال عمر : إنما أمرتك أن تحكم ، ولم آمرك أن تزكيني ، فقال إربد : أرى فيه جدياً ، قد جمع الماء والشجر ، فقال عمر : فذلك فيه . رواه سعيد بن منصور ، ولأنه واجب لحق الله فجاز أن يكون من وجب عليه أميناً فيه كالزكاة .
وفي كبير الصيد كبير مثله ، وفي الصغير صغير مثله ، وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله ، وإن فدى الذكر بالأنثى ، جاز ، لأنها أفضل ، وإن فدى الأنثى بالذكر ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجزئ لذلك .
والآخر : يجزئ ، لأن لحمه أوفر وهو المقصود ، وإن فدى أعور من عين ، بأعور من أخرى ، جاز لأن المقصود منهما واحد ، وإن فدى معيباً بمعيب من جنس آخر ، لم يجز ، لأنهما مختلفان .
وإن أتلف صيداً ماخضاً ، ففيه قيمة مثله ماخض ، قال القاضي ، لأن قيمته أكثر من مثله .
وقال أبو الخطاب : فيه مثله ماخض للآية . وإن جنى على ماخض ، فأتلف جنينها ، ففيه ما نقصها ، كما لو جرحها ، وإن جرح حياً ثم مات ضمنه بمثله .
فصل :
الضرب الثاني : ما لا مثل له : وهو الطير وشبهه من صغار الصيد ، ففيه قيمته ، إلا الحمام ، فإن فيه شاة ، لأن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن عباس : قضوا في حمام الحرم بشاة ، والحمام : كل ما عب الماء وهدر ، كالحمام المعروف ، و اليمام و الجوازل و القماري ، و الرقاطي ، و الدباسي ، والقطا لأن هذا كله حمام ، وقال الكسائي : كل مطوق حمام ، فعلى قوله يكون الحجل حماماً ، وعلى الأول ليس بحمام ، وما كان أصغر من الحمام ، ففيه قيمته ، لأن لا مثل له ، وما كان أكبر منه ، ففيه وجهان :
أحدهما : فيه قيمته لأن القياس يقتضيها في جميع الطير ، تركناه في الحمام ، لقضاء الصحابة ، ففيما عداه يبقى على القياس .
والثاني : فيه شاة ، لأن إيجابها في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه . وقد روي عن ابن عباس وجابر ، أنهما قالا : في الحجلة والقطا و الحبارى : شاة شاة . وإن نتف ريش طائر ففيه ما نقص ، فإن عاد فنبت ، ففي ضمانه وجهان ، كغصن الشجرة إذا نبت ، وفي بيض الصيد قيمته .
فصل :
ومن وجب عليه جزاء صيد ، فهو مخير بين إخراج المثل ، أو يقوم المثل ، ويشتري بقيمته طعاماً ، ويتصدق به ، أو يصوم عن كل مد يوماً ، لقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } و [ أو] للتخيير ، و عنه : أنها على الترتيب ، فيجب المثل ، فإن لم يجد [ أطعم فإن لم يجد ] صام ، ككفارة القتل . وعنه : لا طعام في الجزاء ، وإنما ذكره ليعدل به الصيام ، والمذهب الأول ، لأنه ظاهر النص فلا تعويل على ما خالفه .
فصل :
وإن اشترك جماعة في قتل صيد ، فعليهم جزاء واحد .
وعنه : على كل واحد جزاء ، لأنها كفارة قتل ، أشبهت كفارة قتل الآدمي .
وعنه : إن كفروا بمال فجزاء واحد ، وإن كفروا بالصيام فكفارات ، والأولى أولى ، [ن ذلك يروى عن عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم ، ولأنه بدل متلف يتجزأ ، فيقسم بدله بين المشتركين ، كالديات وقيم المتلفات ، وإن اشترك حلال وحرام ، فلا شيء على الحلال . و هل يكمل الجزاء على الحرام ، أو يكون حكمه ، حكم المشارك لحرام ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يضمنه بمثله ، لأن ما وجب ضمان جملته بمثله ، وجب في بعضه مثله ، كالمكيلات.
والآخر تجب قيمة قدره ، من مثله ، لأن الجزء يشق إخراجه ، فصرنا إلى قيمة .
وإن جرح صيد فأزال امتناعه ، فقتله حلال ، أو سبع ، فعلى المحرم جزاء جميعه ، لأنه سبب تلفه ، وإن قتل محرم آخر ، فعلى الأول ما نقصه ، والباقي على الثاني . وإن برئ وزال نقصه فلا شيء فيه ، كالآدمي ، وإن نقص فعليه نقصه ، وإن برئ غير ممتنع ، فعليه جزاء جميعه ، لأنه عطله ، فصار كالتالف ، وإن غاب ولم يعلم خبره ، فعليه نقصه ، لأنه المتيقن .
فصل :
و القارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد ، وسائر الكفارات ، لأنهم سواء في الإحرام ، فوجب استواؤهم في ذلك .
فصل :
وصيد الحرم على الحلال والحرام ، لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها فقال العباس : إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر متفق عليه . و حكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام ، لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء ، والسمك في التحريم كصيد البر ، لعموم قوله : لا ينفر صيدها ولأن حرمته بمحله ، وهما في المحل سواء ، وعنه : لا يحرم ، لأنه لا يحرمه الإحرام ، فلم يحرمه الحرام كالسباع . وسائر الحيوانات حكمها في الحرم حكمها في الإحرام ، فما حرمه الإحرام من الصيد حرمه الحرم ، وما أبيح فيه من الأهلي وغير المأكول ، لم يحرمه الحرم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم رواه مسلم . إلا أن القمل لا يحرمه الحرم ، رواية واحدة . ويجب الجزاء على كل قاتل في الحرام ، مسلماً كان أو كافراً ، صغيراً أو كبيراً ، لأن حرمته لمحله ، وهو ثابت بالنسبة إلى كل قاتل ولو قتل محرم صيداً حرمياً ، لزمه جزاء واحد ، لأن المقتول واحد ، فكان جزاؤه واحداً كما لو قتله حلال .
فصل :
ومن ملك صيداً في الحل ، فأدخله الحرم ، لزمه رفع يده عنه ، وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه ، ضمنه ، وإن ذبحه ، صار ميتة ، لأن الحرم سبب التحريم الصيد ، فحرم استدامة إمساكه ، كالإحرام . وإن أمسكه في الحرم ، فأخرجه إلى الحل ، لزمه إرساله كالمحرم ، إذا مسك الصيد حتى حل .
وإن رمى في الحرم صيداً في الحل ، أو أرسل كلبه عليه ، أو قتل صيداً على غصن في الحل ، أصله في الحرم ، فلا ضمان فيه ، لأنه صيد حل ، قاتله حلال فلم يضمن ، كما لو كان قاتله في الحل ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا ينفر صيدها يدل بمنطوقه على تحريمه في المسألة الأولى ، وبمفهومه على حله في الثانية . وإن رمى من الحل صيداً في الحرم ، أو أرسل كلبه عليه فقتله ، أو قتل صيداً على غصن في الحرم ، أصله في الحل ، ضمنه ، لأنه صيد حرمي معصوم بمحله . وعن أحمد فيهما جميعاً روايتان .
فإن كانا جميعاً في الحل ، فدخل السهم أو الكلب الحرم ، ثم خرج ، فقتل صيداً في الحل ، لم يضمن بحال ، لأن الصيد والصائد جميعاً في الحل .
وإن رمى صيداً في الحل ، فدخل السهم الحرم ، فقتل فيه صيداً ، ضمنه لأن العمد والخطأ واحد في الضمان . وإن أرسل كلبه على صيد في الحل ، فدخل فقتله في الحرم ، أو قتل غيره ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يضمن ، لأن للكلب اختباراً ، وقد دخل باختياره ، فلم يضمن جنايته ، بخلاف السهم .
والثانية : إن كان الصيد قريباً من الحرم ، ضمنه ، لتفريطه بتعرضه للاصطياد في الحرم وإن كان بعيداً ، لم يضمن ، لعدم تفريطه ، ولا يؤكل لأنه صيد حرمي .
وقال أبو بكر : عليه الضمان بكل حال . وإن جرحه في الحل ، فدخل الحرم فمات فيه ، لم يضمنه ، وحل أكله لأنه ذبحه في الحل . وإن وقف صيد في الحرم والحل ، فقتله ضمنه ، تغليباً للتحريم .
وإن أمسك طائراً في الحل ، فهلك فراخه في الحرم ، ضمن الفراخ وحدها ، لأنه أتلفها في الحرم .
وإن أمسك الطائر في الحرم ، فهلك الفراخ في الحل ، ضمن الطائر وحكم الفراخ ، حكم ما لو رمى من الحرم صيداً في الحل ، لأن صيد الحل ، هلك بسبب كان منه في الحرم .
وإن نفر صيداً حرمياً ، فهلك في نفوره بسبع أو غيره ، في حل أو حرم ضمنه ، لأنه هلك بتنفيره المنهي عنه ، وإن سكن من نفوره ، ثم أهلك ، لم يضمنه لأن هلاكه بغير سببه . وقد روي عن عمر رضي الله عنه : أنه دخل دار الندوة ، فعلق رداؤه ، فوقع عليه حمام ، فخاف أن يبول عليه ، فأطاره ، فانتهزته حية فقال أنا أطرت ، فسأل من معه ، فحكم عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث بشاة .
فصل :
ويحرم قلع شجر الحرم ، و حشيشه كله ، لحديث ابن عباس ، إلا الإذخر . وما زرعه الإنسان ، لأنه كالحيوان الأهلي ، وإن غرس شجرة ، فقال أبو الخطاب : له قلعها لأنه أنبتها الآدميون ، فأشبه الزرع . وإن أخذه من الحرم ، فغرسه ، لم يبح قلعه ، لأنه حرمي ، ويحتمل كلام الخرقي تحريم قلع الشجر كله ، لقوله عليه السلام : لا يعضد شجرها وذكر القاضي و أبو الخطاب : أنه يباح قطع الشوك والعوسج ، لأنه بمنزلة السباع من الحيوان ، والحديث صريح في أنه لا يعضد شوكها ، واتباعه أولى .
ولا بأس بقطع ما يبس ، لأنه بمنزلة الميت ، وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق ، أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي لذلك ، وما قطعه الآدمي لم يبح له ولا لغيره الانتفاع به لظاهر كلام أحمد ، لأنه قطع محرم ، لحرمة الحرم ، فأشبه ذبح الصيد . ولا يجوز أخذ ورق الشجر الأخضر، لأن في بعض الألفاظ : ولا يخبط شجرها ولأنه يضر بالشجر ، أشبه نتف ريش الطير .
فصل :
ويجب الجزاء في ذلك ، فيجب في الشجرة الكبيرة ، بقرة، وفي الصغيرة شاة ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : في الدوحة بقرة ، وفي الجزلة شاة ، والدوحة : الكبيرة ، و الجزلة : الصغيرة . وإن قطع غصناً ، ضمنه بما نقص ، كأغصان الحيوان ، فإن خلف مكانه ، فهل يسقط الضمان ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يضمنه ، كشعر الآدمي وسنه .
والثاني : يضمنه ، لأنه أتلفه .
وإن قلع شجرة ، لزمه ردها إلى موضعها ، كمن صاد صيداً لزمه إرساله ، فإن أعادها فيبست ، ضمنها ، لأنه أتلفها ، وإن نبتت كما كانت ، لم يضمنها ، كالصيد إذا أرسله ، وإن نقصت ، ضمن نقصها ، كالصيد سواء .
فصل :
ويحرم قطع حشيش الحرم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يختلي خلاها ويضمنه بقيمته ، كما يضمن صغار الصيد بقيمته ، وإن استخلف فهل يسقط الضمان ؟ على وجهين .
وفي إباحة رعيه وجهان :
أحدهما : يباح ، لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه قطع الإذخر .
والثاني : يحرم ، لأنه تسبب في إتلافه ، فهو كإرسال الكلب على الصيد ، وتباح الكمأة لأنه لا أصل لها ، فأشبهت الثمرة .
فصل :
ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه ، لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كرهاه . ولا يكره إخراج ماء زمزم ، لأنه يستخلف ، ويعد للإتلاف ، فأشبه الثمرة .
فصل :
ويحرم صيد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وشجرها ، لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة فقال : اللهم إني أحرم ما بين جبليها ، مثل ما حرم إبراهيم مكة وفي لفظ : ولا يقطع شجرها متفق عليه .
ولا جزاء في صيدها وشجرها ، لأنه موضع ، يجوز دخوله بغير إحرام ، فأشبه صيد ، وجب ، ولأن الإيجاب من الشارع ، ولم يرد به ، وعنه : فيه الجزاء ، وهو سلب القاتل لأخذه ، لما روي أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق ، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه فسلبه ، فلما رجع سعد ، جاء أهل العبد ، فكلموه أن يرد عليهم ، فقال : معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يرد عليهم . رواه مسلم . وفي لفظ . قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال : من وجد أحداً يصيد منه فليسلبه رواه أبو داود .
وحد حرمها : ما بين لابتيها ، بريد في بريد ، وقال أحمد : كذا فسر أنس بن مالك ، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما بين لابتيها حرام متفق عليه.
فصل :
ويفارق حرم مكة ، في أن من أدخل إليها صيداً من خارج ، فله إمساكه وذبحه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : يا أبا عمير ما فعل النغير متفق عليه . وهو طائر كان يلعب به ، فلم ينكر عليهم إمساكه .
ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف ، لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا : يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح ، و إنا لا نستطيع أرض غير أرضنا ، فرخص لنا . فقال : القائمتان والوسادة والعارضة والمسند ، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء رواه الإمام أحمد ، فأما صيد وج وشجره ، وهو واد من أودية الطائف ، فحلال ، لأن الأصل ، الحل . وقد روي فيه حديث ، ضعفه أحمد ، وذكره الخلال في كتاب العلل .
فصل :
وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد ، لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم ، لقول الله تعالى: هدياً بالغ الكعبة . وكذلك دم التمتع والقران ، لأنه نسك ، فأشبه الهدي . ودم فدية الأذى ، يختص بالمكان الذي وجب سببه فيه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالذبح والإطعام بالحديبية ، ولم يأمر بإيصاله إلى الحرم ، ونحر علي رضي الله عنه حين حلق رأس الحسين بالسقبا . وفي معناه ما وجب بلبس أو طيب أو نحوه ، وقال القاضي : ما وجب بفعل محظور ، فيه روايتان :
إحداهما : محله ، حيث وجد سببه ، كفدية الأذى والإحصار .
والثانية : محله الحرم ، لقول الله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } وقال ابن عقيل : إن فعل المحظور لعذر يبيحه ، فحمل هديه موضع فعله ، وإن فعل لغير عذر ، فمحله الحرم . وأما هدي المحصر ، فمحل نحره محل حصره ، لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً ، فحالت كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه ، وحلق رأسه بالحديبية ، روى البخاري نحوه وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال ، ولأنه جاز التحلل في غير موضعه للحصر ، فيجوز النحر في غير موضع النحر ، وعن أحمد : لا يجوز نحره ، إلا في الحرم . لقول الله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } فعلى هذا يبعثه إلى الحرم ، ويواطئ من يبعثه على اليوم الذي ينحره فيه ، فيحل حينئذ . وأما الصيام كله فيجزئه بكل مكان ، لأنه لا نفع فيه لأهل المكان ، فلا يختص بالمكان ، كرمضان .
فصل :
وما وجب لمساكين الحرم ، لم يجز ذبحه إلا في الحرم ، وفي أي موضع منه ذبح جاز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : كل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر وطريق رواه ابن ماجة . مفهومه أنه لا يجوز النحر في غيره مما ليس في معناه . إذا نحر ففرقه على المساكين ، فإن أطلقها لم يقتطعونها ، جاز لأن النبي (ص) نحر بدنات خمساً ، ثم قال : من شاء فليقتطع رواه أبو داود . ومساكين الحرم من حله من أهله وغيرهم ، لأن النبي (ص) أطلقها لمن حضره .
باب دخول مكة وصفة العمرة
ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل ، ويدخلها من أعلاها من ثنية كداء ، ويخرج من أسفلها ، لما روي عن ابن عمر أنه كان يغتسل ، ثم يدخل مكة ، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله ، وقال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من ثنية العليا التي بالبطحاء ، وخرج من الثنية السفلى ، متفق عليهما ، ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة ، لقول جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى ، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ، ودخل المسجد . رواه مسلم .
ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت ، ويرفع يديه ، لما روى ابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه ، وقال : اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفاً وتعظيماً وبراً رواه الشافعي في مسنده ، وعن سعيد بن المسيب : أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول : (( اللهم أنت السلام ومنك السلام ، حينا ربنا بالسلام )) . ذكر الأثرم هذا الدعاء وزاد : الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ، الحمد لله الذي بلغني بيته ، ورآني لذلك أهلاً ، الحمد لله على كل حال ، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام ، وقد جئتك لذلك ، اللهم تقبل مني ، واعف عني ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت ، وما زار من الدعاء فحسن .
فصل :
ويبدأ بالطواف ، لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قدم مكة ، توضأ ، ثم طاف بالبيت ، متفق عليه ، ولأن الطواف تحية المسجد ،فاستحبت البداءة به ، كالركعتين في غيره من المساجد ، وينوي المتمتع به طواف العمرة ، وينوي المفرد و القارن الطواف للقدوم .
ويسن الاضطباع فيه ، وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ، ويتركه مكشوفاً ، ويرد طرفيه على منكبه الأيسر ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت ، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى رواه أبو داود .
ويطوف سبعاً ، يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه ، لقول جابر : حتى أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثاً ، ومشى أربعاً ، ومعنى استلامه : مسحه بيده ، ويستحب تقبيله ، لما روى أسلم قال : رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر ، وقال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك . متفق عليه ، فإن لم يمكنه تقبيله ، استلمه ، وقبل يده ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده ، رواه مسلم ، فإن استلمه بشيء في يده قبله ، لما روى ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في البيت ، ويستلم الركن بمحجن عنه ويقبل المحجن . رواه مسلم . وإن لم يمكنه أشار بيده إليه ، لما روى ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه ، وكبر .
ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند استلامه : بسم الله والله أكبر إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . ويحاذي الحجر بجميع بدنه ، ليستوعب جميع البيت والطواف ، ثم يأخذ في الطواف على يمين نفسه ، ويجعل البيت على يساره ، ويطوف سبعاً يرمل في الثلاث الأول منها ، وهو إسراع المشي مع مقاربة الخطى ، ولا يثبت وثباً ، ويمشي أربعاً لحديث جابر ، وروى ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ، ومشى أربعاً . متفق عليه . ولا يرمل في غير هذا الطواف لذلك . فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع ، لأنه سنة فات محلها ، فلم يقضه في غيره كالجهر في الأوليين ، ولا يقضى في الأخريين .
ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف ، لم يقضه فيما بعده ، كمن فاته الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر ، ويكون الحجر داخلاً في طوافه ، لأن الحجر في البيت ، ولا يطوف على جدار الحجر ، ولا شاذروان الكعبة ، لأنه من البيت ، فيجب أن يطوف به .
ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي ، لما روى ابن عمر : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني ، وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء )) ، رواه مسلم ، وقال : ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام متفق عليه ، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك ، كلما حاذى الحجر كبر . ويقول بين الركنين : ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار لما روى عبد الله بن السائب : أنه سمع رسول الله (ص) يقول ذلك ما بين ركن بني جمح ، والركن الأسود . رواه أبو داود . ويقول في بقية الطواف : اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً رب اغفر وارحم ، واعف عما تعلم ، وأنت الأعز الأكرم ويصلي على النبي (ص) ، ويدعو بما أحب ، ويستحب أن يدنو من البيت ، لأنه المقصود .
فإن كان يمكنه الرمل بعيداً ، ولا يمكنه قريباً ، فالبعيد أولى . لأنه يأتي بالسنة المهمة .
ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف ، لأنه صلاة ، والصلاة محل القرآن .
ويجوز الشرب في الطواف ، لأن النبي (ص) شرب في الطواف . رواه ابن المنذر .
ويستحب أن يدع الحديث كله ، إلا ذكر الله أو قراءة القرآن ، أو دعاء أو أمراً بمعروف ، أو نهياً عن منكر ، لما روى ابن عباس أن النبي (ص) قال: الطواف في البيت صلاة ، إلا أن الله أباحكم فيه الكلام ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير رواه الترمذي .
فصل :
فإذا فرغ من الطواف ، صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم ، يقرأ فيهما بـ قل يا أيها الكافرون وسورة الإخلاص . لما روى جابر أن النبي (ص) طاف في البيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ، قرأ فيهما : قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد رواه مسلم وإن صلاهما في غير هذا الموضع ، أو قرأ غير ذلك أجزأه .
فصل :
ويشترط لصحة الطواف تسعة أشياء :
الطهارة من الحدث والنجس ، وسترة العورة ، لحديث ابن عباس ، وقول النبي (ص) : لا يطوف في البيت عريان . متفق عليه . ولأنها عبادة تتعلق بالبدن ، فاشترط فيها ذلك ، كالصلاة .
وعنه : فيمن طاف للزيارة ناسياً لطهارته حتى رجع ، فحجه ماض ، ولا شيء عليه ، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان . وعنه : فيمن طاف للزيادة غير متطهر : أعاد ما كان بمكة ، فإن رجع ، جبره بدم ، وهذا يدل على أن الطهارة ليست شرطاً ، إنما هي واجب ، يجبره الدم ، فكذلك يخرج من طهارة النجس والستارة ، لأنها عبادة لا يشترط فيها الاستقبال ، فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف .
الرابع : النية ، لأنها عبادة محضة ، فأشبهت الصلاة .
الخامس : الطواف لجميع البيت ، فإن سلك الحجر ، أو طاف على جدار الحجر ، أو على شاذروان الكعبة ، لم يجزئه ، لأن الله تعالى قال : وليطوفوا بالبيت العتيق . وهذا يقضي الطواف لجميعه ، والحجر منه ، لقول النبي (ص) : الحجر في البيت متفق عليه .
السادس : الطواف سبعاً ، فإن ترك منها شيئاً وإن قل ، لم يجزئه ، لأن النبي (ص) طاف سبعاً ، فيكون تفسيراً لمجمل قوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } فيكون ذلك هو الطواف المأمور به ، وقد قال عليه السلام : خذوا عني مناسككم .
السابع : أن يحاذي الحجر في ابتداء طوافه ، بجميع بدنه ، فإن لم يفعل لم يعتد بذلك الشوط ، واعتد له ، بما بعده .
ويأتي بشوط مكانه ، ويحتمل أن لا يجب هذا ، لأنه لما لم يجب محاذاة جميع الجحر ، لم تجب المحاذاة بجميع البدن .
الثامن : الترتيب ، وهو أن يطوف على يمينه ، فإن نسكه ، لم يجزئه لما ذكرنا في السادس ، ولأنها عبادة تتعلق بالبدن ، فكان الترتيب فيها شرطاً كالصلاة .
التاسع : الموالاة شرط لذلك ، إلا أنه إذا أقيمت الصلاة ، أو حضرت جنازة ، فإنه يصلي ، ثم يبني ، لقول النبي (ص) : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة رواه مسلم .
وعنه : إذا أعيا في الطواف ، فلا بأس أن يستريح ، وقال : إذا كان له عذر ، بنى ، وإن قطعه من غير عذر ، أو لحاجة ، استقبل الطواف .
وعنه : فيمن سبقه الحدث ، روايتان :
إحداهما : يستأنف قياساً على الصلاة .
والثانية : يتوضأ . ويبني إذا لم يطل الفصل ، فيخرج في الموالاة روايتان :
إحداهما : هي شرط كالترتيب .
والثانية : ليست شرطاً حال العذر ، لأن الحسن غشي عليه ، فحمل ، فلما أفاق أتمه .
فصل :
وسننه: استلام الركن، وتقبيله ، أو ما قام مقامه ، من الإشارة والدعاء، والذكر في مواضعه ، والاضطباع ، والرمل ، والمشي في مواضعه ، لأن ذلك ، هيئة في الطواف ، فلم تجب كالجهر ، والإخفات في الصلاة. وركعتا الطواف ، ليست واجبة ، لأن الأعرابي ، لما سأل النبي (ص) عن الفرائض ، ذكر الصلوات الخمس قال : فهل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع متفق عليه .
ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة ، فلم تجب ، كسائر النوافل ، ولكنه سنة مؤكدة ، وإن صلى المكتوبة بعد طوافه ، أجزأته عنهما ، فإن جمع بين الأسابيع ، وصلى لكل أسبوع ركعتين ، جاز ، لأن عائشة و المسور بن مخرمة فعلا ذلك ، ولا تجب الموالاة بينهما لما ذكرنا ، وأن يطوف ماشياً ، وإن طاف راكباً أجزأه ، لأن النبي (ص) طاف على بعيره ، وأمر أم سلمة فطافت راكبة من وراء الناس . حديث أم سلمة متفق عليه ، ويجوز أن يحمله إنسان فيطوف به ، لأنه في معنى الراكب ، وإن طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر ، ففيه روايتان :
إحداهما : يجزئه ، لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً ، وهذا قد طاف ، ولأن النبي (ص) طاف راكباً وهو صحيح .
والثانية : لا يجزئه لأنها عبادة تتعلق بالبدن ، فلم يجز فعلها راكباً لغير عذر ، كالصلاة ، فأما النبي (ص) فإن ابن عباس قال : إن الناس كثروا عليه ، يقولون : هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت ، وكان رسول الله (ص) لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب ، رواه مسلم .
فصل :
والمرأة كالرجل ، إلا أنها إذا قدمت مكة نهراً ، استحب لها تأخير الطواف إلى الليل ، لأنه أستر لها ، إلا أن تخاف الحيض ، فتبادر الطواف ، لئلا يفوتها التمتع ، ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر ، بل تشير بيدها إليه ، قال عطاء : كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين . قالت : انطلقي عنك ، وأبت ، وليس في حقها رمل ، ولا اضطباع ، لأنه يستحب لها التستر ، ولأن الرمل شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة ، ولا يقصد ذلك في المرأة ، ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي ، ومن جرى مجراهم . وقال ابن عباس وابن عمر : ليس على أهل مكة رمل . وكان ابن عمر رضي الله عنه ، إذا أحرم في مكة لم يرمل .
فصل :
إذا فرغ من الركعتين ، سعى بين الصفا و المروة ، ويستحب أن يستلم الحجر ثم يخرج إلى الصفا من بابه ، فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه ، لأن جابراً قال في صفة حج النبي (ص) : (( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا ، قرأ إن الصفا و المروة من شعائر الله نبدأ بما بدأ الله تعالى به. فبدأ في الصفا ، فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله ، فوحد الله وكبره وقال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك ، وقال مثل هذا ثلاث مرات ))
قال أحمد : ويدعو بدعاء ابن عمر ، ذكر نحواً من هذا . وزاد : لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، اللهم اعصمني بدينك و طواعيتك وطواعية رسولك ، اللهم جنبني حدودك ، اللهم اجعلني ممن يحبك ، ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين ، اللهم حببني إليك ، وإلى ملائكتك ، وإلى رسلك ، وإلى عبادك الصالحين . اللهم يسرني لليسرى ، وجنبني العسرى ، واغفر لي في الآخرة والأولى . واجعلني من أئمة المتقين ، واجعلني من ورثة جنة النعيم ، واغفر لي خطيئتي يوم الدين ، اللهم إنك قلت ادعوني أستجب لكم وإنك لا تخلف الميعاد ، اللهم إذ هديتني للإسلام فل تنزعني منه ، ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام ، اللهم لا تقدمني لعذاب ، ولا تؤخرني لسوء الفتن ، رواه سعيد بن منصور . وما دعا فحسن ثم ينزل ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحواً من ستة أذرع ، فيسعى سعياً شديداً ، حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ، ثم يمشي حتى يصعد المروى ، فيرقى عليها ، ويقول كما قال على الصفا ، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ، ويسعى في موضع سعيه ، حتى يكمل ذلك سبعاً ، يحتسب بالذهاب سعية ، وبالرجوع أخرى ، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة ، لأن جابراً قال : ثم نزل ، يعني النبي (ص) إلى المروة ، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ، حتى إذا صعدنا مشى ، حتى أتى المروى ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، فلما كان آخر طوافه على المروة ... وذكر الحديث . رواه مسلم . ويدعو فيما بينهما ، ويذكر الله تعالى .
قال أبو عبد الله : كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا و المروة قال : رب اغفر وارحم واعف عما تعلم ، وأنت الأعز الأكرم . قال النبي (ص) : إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا و المروة لإقامة ذكر الله وهو حديث حسن صحيح .
فصل :
والواجب من هذا ثلاثة أشياء ، استيفاء السبع ، فإن ترك منها شيئاً وإن قل ، لم يجزئه ، وإن لم يرق على الصفا و المروة ، وجب استيعاب ما بينهما ، بأن يلصق عقبيه بأسفل الصفا ، ثم يلصق أصابع رجليه بالمروة ، ليأتي بالواجب كله ، و البداءة بالصفا ، لخبر جابر ، فإن بدأ بالمروة لم يعتد له بذلك الشوط ، واعتد له بما بعده . وترتيب السعي على الطواف ، فلو سعى قبله لم يجزئه ، لأن النبي (ص) إنما سعى بعد طوافه ، وقال : خذوا عني مناسككم ولو طاف وسعى ، ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة ، أو غيرها : لم يعتد له بسعيه ، لفوات الترتيب .
فصل :
ويسن الطهارة والستارة .
وعنه : أنهما واجبتان ، لأنه أحد الطوافين ، أشبه الطواف في البيت ، والأول المذهب ، لقول النبي (ص) لعائشة حين حاضت : اقضي ما يقضي الحاج ، غير أن تطوفي بالبيت أخرجه المسلم و البخاري . ونحوه قالت عائشة : إذا طافت المرأة في البيت ، فصلت ركعتين ، ثم حاضت ، فلتطف بالصفا و المروة ، ولأنها عبادة لا تتعلق بالبيت ، فلم يشترط لها ذلك كالوقوف ، ويسن أن يرقى على الصفا و المروة ، ويرمل بين العلمين ، ويمشي ما سوى ذلك ، لأن النبي (ص) فعله ، ولا يجب لما روي عن ابن عمر أنه قال: أنا أمشي ، فقد رأيت النبي (ص) يمشي ، وأنا شيخ كبير . رواه الترمذي . وقال : حديث حسن صحيح . ويسن الموالاة بينه ، لأن النبي (ص) والى بينه ، ولا يجب ، لأنه نسك لا يتعلق بالبيت ، فلم يشترط له الموالاة كالرمي . وقد روي أن سودة بنت عبد الله بن عمر سعت ، فقضت طوافها في ثلاثة أيام ، ويسن أن يمشي ، فإن ركب جاز ، لأن النبي (ص) سعى راكباً ، ولما ذكرنا في الموالاة ، والمرأة كالرجل ، إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة ، ولا ترمل في طواف ولا سعي ، لما ذكرنا في الرمل في الطواف . وليس على أهل مكة رمل لذلك . نص عليه .
فصل :
فإذا فرغ من السعي ، فإن كان متمتعاً ، لا هدي معه قصر من شعره ، وحل من عمرته ، فما روى ابن عمر قال : تمتع الناس مع رسول الله (ص) بالعمرة إلى الحج ، فلما فلم قدم رسول الله (ص) مكة قال للناس : من كان معه هدي ، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته ، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت ، وبين الصفا و المروة وليقصر وليحلل متفق عليه ، وإنما جعل التقصير هاهنا ليكون الحلق للحج ، فأما من ساق الهدي فليس له التحلل للحديثين وعنه : أنه يقصر من شعره خاصة ، ولا يلمس شاربه ولا أظفاره ، لما روى معاوية قال : قصرت من رأس رسول الله (ص) بمشقص عند المروة . حديث صحيح رواه مسلم .
وعنه : إن قدم في العشر ، لم يحل لذلك ، وإن قدم قبل العشر نحر وتحلل كالمعتمر غير المتمتع . ومن لبد فهو كمن أهدى ، لما روت حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هدياً، فلا أحل حتى أنحر متفق عليه . فأما المعتمر الذي لا يريد التمتع ، فإنه يحل ، وإن كان في أشهر الحج ، لأن النبي (ص) اعتمر من ذي القعدة ، فحل ونحر هديه .
فصل :
والسعي ركن لا يتم الحج إلا به ، لقول عائشة رضي الله عنها : طاف رسول الله (ص) بين الصفا و المروة ، فطاف المسلمون ، فكانت سنة ، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بينهما . رواه مسلم . وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي رواه أبو داود .
وعنه : أنه سنة لا شيء على تاركه . لقول الله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } . مفهومه أنه مباح . وفي مصحف أبي وابن مسعود ((فلا جناح عليه إلا أن يطوف بهما)) وهذا لا ينحط على رتبة الخبر ، قال القاضي : الصحيح أنه واجب يجبره الدم ، وليس بركن جميعاً بين الدليلين ، وتوسطاً بين الأمرين .
فصل :
ولا يسن السعي بين الصفا و المروة إلا مرة في الحج ، ومرة في العمرة ، فمن سعى مع طواف القدوم ، لم يعده مع طواف الزيارة . ومن لم يسع مع طواف القدوم ، أتى به بعد طواف الزيارة . فأما الطواف بالبيت ، فيستحب الإكثار منه ، والتطوع به ، لأنه يروى عن النبي (ص) أنه قال : من طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة رواه ابن ماجه .
فصل :
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ، ويتضلع منه ، لأنه يروى عن النبي (ص) أنه قال : ماء زمزم لما شرب له رواه الدارقطني . ويقول عند الشرب : بسم الله اللهم اجعله لنا علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، ورياً وشبعاً ، وشفاء من كل داء ، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك .
باب صفة الحج
يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - قبل صلاة الظهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومئذ ، فصلى الظهر بمنى ، فمن كان حراماً ، خرج على حاله ، ومن كان حلالاً من المتمتعين والمكيين ، أحرم بالحج ، وفعل فعله عند الإحرام من الميقات ، ومن أحرم من الحرم جاز ، لأن جابراً قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح .
والمستحب أن يطوف بالبيت سبعاً ، ويصلي ركعتين ، ثم يستلم الركن وينطلق منه مهلاً بالحج ، لأن عطاء كان يفعل ذلك ، ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها ، ووقوفه ، مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر : ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة ، فسار حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء ، فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم لم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه ، فاستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا أولى ما فعل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويستحب أن يخطب الإمام خطبة ، يعلم الناس مناسكهم وفعلهم في وقوفهم ، ودفعهم في أول ما تزول الشمس ، ويقصر الخطبة ، لأن سالم بن عبد الله قال للحجاج يوم عرفة : إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة ، وعجل الصلاة ، قال ابن عمر : صدق . رواه البخاري . ويأمر بالأذان ، فينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان و إقامتين للخبر . ومن لم يصل مع الإمام ، جمع في رحله ، لأنهما صلاتا جمع ، فشرع جمعهما في حق المنفرد كصلاتي المزدلفة ، ثم يصير إلى موقف عرفة ، وأين وقف منها جاز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : عرفة كلها موقف رواه أبو داود . وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له ، إلى ما يلي حوائط بني عامر ، إلى بطن عرنة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : كل عرفة موقف ، وارفعوا عن بطن عرنة رواه ابن ماجه .
والأفضل الوقوف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يقف راكباً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً ، ولأنه أمكن له من الدعاء ، وقيل : الراجل أفضل ، لأنه أروح لراحلته ، ويحتمل أن يكونا سواء .
فصل :
ويجتهد في الذكر والدعاء ، لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من يوم أكثر من يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة ، فإنه ليدنو عز وجل فيباهي بهم الملائكة . فيقول : ما أراد هؤلاء رواه مسلم و النسائي و ابن ماجه ويدعو بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أكثر دعاء الأنبياء قبلي ، ودعائي عشية عرفة ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل لي في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، ويسر لي أمري ويدعو بدعاء ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكرناه . ويختار من الدعاء ما أمكنه .
فصل :
ووقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر ، لما روى عروة بن مضرس بن أوس بن لام قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول اله إني جئت من جبلي طيىء ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجته وقضى تفثه { هذا حديث صحيح .
وقال أبو حفص العكبري : أول وقته زوال الشمس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعده ، والأول أولى للخبر ، ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة ، فكان وقتاً للوقوف بها ، كالذي بعده ، ووقوف النبي (ص) لم يستوعب الوقت ، بدليل ما بعد الغروب ، ومن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائماً ، أو قاعداً أو مجتازاً أو نائماً ، أو غير عالم أنه بعرفة ، فقد أدرك الحج للخبر ، ومن كان مغمى عليه ، أو مجنون لم يحتسب له به ، لأنه ليس من أهل العبادات ، بخلاف النائم لما ذكرنا في الصيام . ومن فاته ذلك . فقد فاته الحج .
قال ابن عقيل : والسكران كالمغمى عليه ، لأنه ليس من أهل العبادات .
ولا يشترط للوقوف طهارة ، ولا سترة ولا استقبال ، لأن النبي (ص) قال لعائشة إذ حاضت : افعلي ما يفعل الحجاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت وأمرها فوقفت . قال أحمد رضي الله عنه : يستحب أن يشهد المناسك كلها على وضوء ، لأنه أكمل وأفضل ، ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس ، لأن النبي (ص) وقف كذلك ، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد فلا دم عليه ، لأنه جمع بين الليل والنهار ، فإن لم يعد ، فعليه دم ، لأنه ترك نسكاً واجباً ، ولا يبطل حجه ، لحديث عروة بن مضرس . ومن وافى عرفة ليلاً أجزأه ذلك ، ، ولا دم عليه ، لقول النبي (ص) : الحج عرفة ، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه رواه أبو داود . ويستحب أن لا يدفع قبل الإمام . قال أحمد : وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام، لأن أصحاب النبي (ص) لم يدفعوا قبله .
فصل :
ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة ، ويسير ، وعليه السكينة ، وإذا وجد فرجة ، أسرع ، لقول جابر : وأردف رسول الله (ص) أسامة وسار وهو يقول : أيها الناس السكينة ، السكينة حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد و إقامتين ، ولم يسبح بينهما ، وقال أسامة : (( كان رسول الله (ص) يسير العنق ، فإذا وجد فرجة ، نص )) يعني : أسرع . متفق عليه ويكون في الطريق يبلي ، ويذكر الله تعالى ، لما روى الفضل : أن النبي (ص) لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة . متفق عليه . فإن وصل مزدلفة ، أناخ راحلته ثم صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال ، يجمع بينهما ، لخبر جابر ، وروى أسامة أن النبي (ص) أقام فصلى المغرب ، ثم أناخ الناس في منازلهم ، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة ، فصلوا ثم حلوا رواه مسلم . وإن صلى المغرب في طريق مزدلفة ، ترك السنة و أجزأه ، لأن الجمع رخصة فجاز تركها كسائر الرخص ، ثم يبيت لمزدلفة حتى يطلع الفجر ، ثم يصلي الفجر في أول وقتها ، ثم يأتي المعشر الحرام فيقف عليه ، ويستقبل القبلة ويدعو ، ويكون من دعائه : اللهم كما وقفتنا فيه ، وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك ، وقولك الحق ، فإذا أفضتم من عرفات . ثم يقف حتى يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى ، فإذا أتى بطن محسر ، أسرع ، حتى يجاوزه ، ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة ، فيرميها ، لقول جابر في حديثه : ثم اضطجع رسول الله (ص) حتى طلع الفجر ، فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المعشر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره . وهلله ووحده ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل طلوع الشمس ، حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى ، حتى أتى الجمرة ، يعني جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف ، وأين وقف من مزدلفة جاز ، لقول النبي (ص) : مزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر ، ويستحب أخذ حصى الجمار منها ، ليكون مستعداً بالحصى ، لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي ، ومن حيث أخذه جاز ، وعدده سبعون حصاة ، ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف ، و يلقطهن لقطاً ، لما روى ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) غداة العقبة القط لي حصاً فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف ، فجعل ينفضهن في كفيه ، ويقول : أمثال هؤلاء ، فارموا ثم قال : أيها الناس ، إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين رواه ابن ماجه .
والمبيت بمزدلفة واجب ، يجب بتركه دم ، لأن النبي (ص) وقف به ، وسماه موقفاً ، وليس بركن ، لقوله عليه السلام : الحج عرفة .
ويجوز الدفع بعد نصف الليل ، لما روت عائشة قالت : أرسل رسول الله (ص) بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم أفاضت . رواه أبو داود . ولا بأس بتقديم الضعفة ليلاً لهذا الحديث . ولما روى ابن عباس قال : كنت فيمن قدم النبي (ص) في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى . متفق عليه ولا يجوز الدفع قبل منتصف الليل ، فمن خرج قبل ذلك ثم عاد إليها في ليله فلا دم عليه ومن لم يعد فعليه دم . فإن وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه ، كما قلنا في عرفة سواء .
فصل :
فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة ، لأنه (ص) بدأ بها ، ولأنها تحية منى ، فلم يقدم عليها شيء كالطواف في المسجد ، والمستحب رميها بعد طلوع الشمس . لما روى ابن عباس أن النبي (ص) قال : : لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس من المسند .
وأول وقته بعد نصف الليل ، لحديث عائشة ، ويستحب لمن كان راكباً أن يأتيها راكباً ، لما روى جابر قال : رأيت النبي (ص) يرمي على راحلته يوم النحر ، ويقول : لتأخذوا عني مناسككم . رواه مسلم . ويستحب أن يستبطن الوادي ويستقبل القبلة ، ويرمي على حاجبه الأيمن ، لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال : لما أتى عبد الله جمرة العقبة ، استبطن الوادي ، واستقبل القبلة ، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ، ثم رمى بسبع حصيات ثم قال : والله الذي لا إله إلا غيره ، من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة . متفق عليه ، وإن رماها من فوقها ، جاز ، لما روي عن عمر أنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها ، ويقطع التلبية عند البداءة بالرمي ، لقول الفضل : إن النبي (ص) لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، ولأن التلبية للإحرام ، وبالرمي يشرع في التحلل منه ، فلا يبقى للتلبية معنى . ويكبر مع كل حصاة ، لحديث جابر ، وعن ابن عمر أن النبي (ص) استبطن الوادي ورمى بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة : الله أكبر الله أكبر ، اللهم اجعله حجاً مبروراً ، وذنباً مغفوراً ، وسعياً مشكوراً ، رواه حنبل في مناسكه ، و يرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه ، ولا يجزئه غير الحجر في الرمي من المدر و الخذف، ولا بحجر قد رمي به، لأن النبي (ص) رمى بالحصى ، وأمر بلقطه من غير المرمي ولأن ما تقبل من الحصى رفع ، والباقي مردود فلا يرمى به ، وإن رمى بحجر كبير أجزأه ، لأنه حجر ، وعنه : لا يجزئه ، لأنه منهي عنه .
ولا يجزئه وضع الحصى في المرمى بغير رمي ، لأن النبي (ص) رمى .
فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة ، لأن النبي (ص) رمى سبع رميات .
ولو رمى فوقعت الحصاة في غير المرمى واستقرت ، لم يجزئه ، وإن طارت فوقعت في المرمى أجزأته ، لأنا حصلت فيه برميه ، وإن وقعت على ثوب إنسان أو محمله ، ثم طارت إلى المرمى أجزأته ، وإن رماها الإنسان عن ثوبه ، أو وقعت بحركة المحمل ، لم تجزئه ، لأنها لم تصل برميه ، وإن رماها من مكان عال فتدحرجت إلى المرمى ، أجزأته لأنها حصلت فيه بفعله ، وإن وقعت في غير المرمى ، فأطارت أخرى إلى المرمى ، لم تجزئه ، لأن التي رماها لم تصل .
وإذا فرغ من الرمي انصرف ، ولم يقف ، لأن النبي (ص) لم يقف عندها ، فإن أخر الرمي إلى المساء ، رمى . ولا شيء عليه ، لما روى ابن عباس قال : كان النبي (ص) يسأل بمنى قال رجل : رميت بعدما أمسيت . فقال : لا حرج رواه البخاري ، فإن لم يرم حتى جاء الليل لم يرم ، وأخره إلى غد بعد الزوال ، لأن ابن عمر قال ذلك .
فصل :
ثم ينصرف فيذبح هدياً إن كان معه ، وإن كان عليه واجباً عليه ، ولا هدي معه ، اشتراه فذبحه ، لقول جابر عن النبي (ص) إنه رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده ، ويسن أن ينحر بيده ، لهذا الحديث ، ويجوز أن يستنيب فيه ، لأن النبي (ص) أعطى علياً فنحر ما غبر . وحد منى ما بين العقبة وبطن محسر ، فحيث نحر منها أو من الحرم أجزأه ، لأن النبي (ص) قال : كل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر وطريق .
فصل :
ثم يحلق رأسه ، ويستحب أن يحلق عند حلقه ، لأنه نسك ، ويستقبل القبلة ، ويبدأ بشقه الأيمن لما روى أنس أن النبي (ص) دعا بالحلاق ، فأخذ بشق رأسه الأيمن ، فحلقه ثم الأيسر . رواه أبو داود . ويجوز أن يقصر من شعره ، إلا أن أحمد قال : من لبد رأسه أو عقص أو ظفر ، فليحلق ، لأن عمر وابنه أمرا من لبد رأسه أن يحلق . ويروى عن النبي (ص) قال: من لبد فليحلق فأما غير هؤلاء فيجزئهم التقصير بالإجماع ، والحلق أفضل ، لأن النبي (ص) حلق وقال : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال في الرابعة : والمقصرين .
والمرأة تقصر ، ولا تحلق ، لأن النبي (ص) قال : ليس على النساء حلق ، إنما على النساء تقصير رواه أبو داود . ولأن الحلق في حقا مثله ، فلم يكن مشروعاً .
ومن لا شعر له فلا شيء عليه ، لأنها عبادة تتعلق بمحل فسقطت بذهابه ، كغسل اليد في الوضوء ، ويستحب أن يمر الموسى على رأسه لأن ابن عمر قال ذلك .
فصل :
وفي الحلاق والتقصير روايتان:
إحداهما : ليس بنسك ، إنما هو استباحة محظور ، لأنه محرم فلم يكن نسكاً ، كالطيب ، ولأن النبي (ص) أمر أبا موسى أن يتحلل بطواف وسعي ، ولم يذكر تقصيراً .
والثانية : هو نسك ، وهو أصح قول الله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ولأن النبي عليه السلام أمر به بقوله : فليقصر وليحلل ودعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة . والتفاضل إنما هو في النسك ، وقال عليه السلام إنما على النساء التقصير فإن قلنا : هو استباحة محظور ، فله الخير بين فعله وتركه ، ، والأخذ من بعضه دون بعض ، ويحصل التحلل الأول برمي الجمرة قبله ، فيحل له كل محرم بالإحرام إلا النساء ، وما يتعلق بهن من الوطء والعقد والمباشرة ، لما روت أم سلمة أن رسول الله (ص) قال يوم النحر : إن هذا يوم رخص لكم ، إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل شيء - إلا النساء رواه أبو داود .
وعنه : يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج . وإن قلنا ، هو نسك فعليه الحلق ، أو التقصير من جميع رأسه ، لقول الله تعالى : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } .
وحلق النبي (ص) جميع رأسه .
وعنه : يجزئه بعضه كالمسح ، ويقصر قدر الأنملة ، لأن ابن عمر قال ذلك ، وإن أخذ أقل من ذلك ، جاز ، لأن الأمر به مطلق ، ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع الرمي ، لقول النبي (ص) : وليقصر وليحلل .
والأولى حصول التحلل بالرمي وحده ، لحديث أم سلمة ، عن ابن عباس مثله . وإن أخر الحلاق إلى آخر أيام النحر ، جاز ، لأن تأخير النحر جائز ، وهو مقدم على الحلق فالحلق أولى ، وإن أخره عن ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : عليه دم ، لأنه ترك النسك في وقته ، فأشبه تأخير الرمي .
والثانية : لا شيء عليه سوى فعله ، لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} . ولم يبين آخره ، لأنه لو أخر الطواف لم يلزمه إلا فعله ، فالحلق أولى ، ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه وأظفاره ، لأن النبي (ص) لما حلق رأسه ، قلم أظفاره ، ولا بأس أن يتطيب ، لقول عائشة : طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت . متفق عليه .
فصل :
ويسن أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى خطبة ، يعلمهم فيها الإفاضة والرمي والمبيت بمنى، وسائر مناسكهم ، لما روى ابن عمر قال : خطبنا النبي (ص) يوم النحر فقال في خطبته : إن هذا يوم الحج الكبر رواه البخاري . ولأنه يوم فيه وفيما بعده مناسك ، يحتاج إلى العمل بها ، فشرعت فيه الخطبة ، كيوم عرفة .
فصل :
ثم يفيض إلى مكة ، فيطوف بالبيت طوافاً ينوي به الزيارة ، ويسمى طواف الزيارة ، وطواف الإفاضة ، وهو ركن الحج لا يتم إلا به ، لقول الله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } . وروت عائشة : أن صفية حاضت . فقال رسول الله (ص) : أحابستنا هي ؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت . قال : فلتنفر إذاً متفق عليه . فدل على أنه لا بد من فعله .
وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر ، لحديث أم سلمة ، والأفضل فعله يوم النحر ، لأن النبي (ص) لما رمى الجمرة ، أفاض إلى البيت ، في حديث جابر . وإن أخره ، جاز ، لأنه يأتي به بعد دخول وقته ، فإذا فرغ منه ، حل له كل شيء ، لقول ابن عمر : أفاض بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، يعني : النبي (ص) . وعن عائشة : مثله . متفق عليهما .
وإن أفاض قبل الرمي حل التحلل الأول ووقف الثاني على الرمي ، فإن فات وقته قبل رميه سقط وحل التحلل الثاني بسقوطه ، وهذا في حق من سعى مع طواف القدوم ، أما من لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة ، ويقف التحلل مع السعي .
قال أصحابنا : يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة ، الرمي والحلق والطواف ، ويحصل التحلل الثاني بالثالث ، إن قلنا: الحلق نسك ، وإن قلنا : ليس بنسك ، حصل التحلل الأول بواحد من اثنين ، وهما الرمي والطواف ، وحصل التحلل الثاني بالثالث .
فصل :
قال أحمد رضي الله عنه : في المتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة : يبدأ قبله بطواف القدوم ، ويسعى بعده ، ثم يطوف للزيارة بعدهما . وهكذا القارن والمفرد ، إذا لم يكونا دخلا مكة قبل يوم النحر ، ولا طافا للقدوم ، فإذا دخلا للإفاضة ، بدآ بطواف القدوم ، وسعيا بعده، ثم طافا للزيارة ، ، لأن طواف القدوم مشروع ، فلا يسقط بتعيين طواف الزيارة إلا أنه قال في المرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج : أهلت الحج ، وكانت قارنة ، ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم .
واحتج أحمد رضي الله عنه بقول عائشة رضي الله عنها : فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا و المروة ، ثم طافوا طوفاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، متفق عليه ، قال الشيخ : لم يتبين لي من هذا الحديث إلا أن طواف القدوم في حقهم غير مشروع ، لكونهم لم يطوفوا بعد الرجوع من منى ، إلا طوافاً واحداً ، ولو شرع طواف القدوم لطافوا طوافين ، ولأن عائشة لم تطف للقدوم حين أدخلت الحج على العمرة ، ولم تكن طافت له قبل ذلك ، لأن طواف القدوم تحية المسجد ، فسقط بتعيين الفرض ، كتحية المسجد في حق من دخل وقد أقيمت المفروضة .
فصل :
يوم الحج الأكبر يوم النحر ، لما تقدم من حديث ابن عمر ، سمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه ، فإنه يفعل فيه ستة أشياء : الوقوف في المشعر الحرام ، ثم الإفاضة إلى منى ، ثم الرمي ، ثم المنحر ، ثم الحلق ، ثم طواف الزيارة . والسنة : ترتيبها هكذا ، لأن النبي (ص) رتبها في حديث جابر وغيره ، فإن فعل شيئاً قبل شيء ، جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه ، لما روى ابن عباس أن النبي (ص) قيل له يوم النحر ، في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير . قال : لا حرج متفق عليه . فإن فعل ذلك عالماً ذاكراً ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا شيء عليه للخبر .
والثانية : عليه دم ، لأن الله تعالى قال : ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله . و لأن الحلق كان محرماً قبل التحلل الأول ، ولا يحصل إلا بالرمي .
فصل :
يم يرجع إلى منى من يومه ، فيمكث بها ليلي أيام التشريق ، لما روت عائشة قالت : أفاض رسول الله (ص) من آخر يومه حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليلي أيام التشريق .
وهل المبيت بها واجب أم لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : ليس بواجب ، لقول ابن عباس : إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ، ولأنه مبيت بمنى ، فلم يجب كليلة عرفة .
والثانية : هو واجب ، لأن ابن عمر روى أن رسول الله (ص) رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته . متفق عليه . فيدل على أنه لا رخصة لغيره .
فعلى هذا ، إن تركه ، فقال أحمد : يطعم شيئاً تمراً أو نحوه ، وخففه ، وهذا يدل على أنه أي شيء تصدق به أجزأه .
وعنه في ليلة مد ، وفي ليلتين مدان .
وعنه : في ليلة درهم ، وفي ليلتين درهمان ، لما ذكرنا في الشعر .
وعنه : في ليلة نصف درهم ، فأما الليلة الثالثة ، فلا شيء في تركها ، لأنها لا تجب إلا على من أدركه الليل بها .
فإن تركها في هذه الحال مع الليلتين الأوليتين ، فعليه في الثلاث دم ، في إحدى الروايتين .
فصل :
ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال ، كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات ، يبتدئ بالجمرة الأولى ، وهي أبعدها من مكة ، وتلي مسجد الخيف ، فيجعلها عن يساره ، ويستقبل القبلة ويرميها ، كما وصفنا جمرة العقبة . ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى ، فيقف وقوفاً طويلاً ، يدعو الله رافعاً يديه ، ثم يتقدم إلى الوسطى ، فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف والدعاء فعليه في الأولى ، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر ، ولا يقف عندها ، لما روت عائشة ، أن رسول الله (ص) رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، يقف عند الأولى والثانية ، فيطيل المقام ويتضرع ، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها . رواه أبو داود . ولا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال ، مرتباً للخبر . فإن نكسه فبدأ بالثالثة ، ثم بالثانية ، ثم بالأولى لم يعتد له إلا بالأولى . وإن ترك الوقوف والدعاء ، فلا شيء عليه ، لأنه دعاء مشروع ، فلم يجب كما في سائر المشاعر .
فصل :
ولا ينقص في سبع . والمشهور عن أحمد أن استيفاءها غير واجب .
وقال : من رمى بست حصيات لا بأس ، وخمس حسن ، وأقل من خمس لا يرمي أحد واحب إلي سبع ، لما روى سعد قال : رجعنا من الحجة مع رسول الله (ص) بعضنا يقول : رميت بست، وبعضنا يقول : رميت بسبع ، فلم يعب في ذلك بعضنا على بعض . رواه الأثرم . وعنه : أن استيفاء السبع شرط، لأن النبي (ص) رمى بسبع ، وقال: خذوا عني مناسككم فعلى هذه الرواية إن أخل بحصاة من الأولى ، لم يصح رمي الثانية ، فإن لم يعلم من أي الجمار تركها حبسها من الأولى ليسقط الفرض بيقين ، فإن ترك الرمي كله 0حتى مضت أيام التشريق . فعليه دم ، لأنه ترك نسكاً واجباً .
وإن ترك حصاة أو اثنتين ، فعلى الرواية الأولى لا شيء عليه ، وعلى الثانية يخرج فيها مثل ما ذكرنا في ليالي منى .
وعنه : من رمى بست ناسياً لا شيء عليه . فإن تعمده تصدق بشيء ، وإن أخر رمي يوم إلى آخر أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث ، ترك السنة ، ولا شيء عليه ، لكنه يقدم بالنية رمي الأول ، ثم الثاني ثم الثالث ، لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي ، فجاز تأخيره إلى آخر وقته، كتأخير الوقوف بعرفة إلى الليل . وإنما وجب الترتيب بالنية ، لأنها عبادات يجب الترتيب فيها ، مع فعلها في أيامها ، فوجب مع فعلها مجموعة ، كالصلوات .
فصل :
ويجوز لرعاة الإبل ، وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى ، وترك رمي اليوم الأول ، إلى الثاني ، أو الثالث ، إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد ، والرمي في الليل ، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة ، لحديث ابن عمر في الرخصة للعباس . وقال عاصم بن عدي : رخص رسول الله (ص) لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر ، ثم يجمعوا رمي يومين ، بعد يوم النحر ، يرمونه في أحدهما . حديث صحيح . ولأنهم يشتغلون بالرعاية ، واستقاء الماء ، فرخص لهم ذلك . وكل ذي عذر من مرض ، أو خوف على نفسه أو ماله ، كالرعاة في هذا ، لأنهم في معناهم ، لكن إذا غربت الشمس عليهم بمنى ، لزم الرعاية البيتوتة دون أهل السقاية ، لأن الرعاة رعيهم في النهار ، فلا حاجة لهم في الخروج ليلاً فهم كالمريض تسقط عنه الجمعة ، وإن حضرها وجبت عليه ، وأهل السقاية يستقون بالليل ، فلا يلزمهم المبيت .
فصل :
ومن عجز عن الرمي ، جاز أن يستنيب من يرمي عنه ، لأن جابراً قال : لبينا عن الصبيان ، ورمينا عنهم ، والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر النائب ، فإن رمى عنه ، ثم برئ لم يلزمه إعادته ، لأن الواجب سقط بفعل النائب ، وإن أغمي على إنسان ، فرمى عنه إنسان ، فإن كان أذن له جاز ، وإلا فلا .
فصل :
ويسن أن يخطب الإمام يوم النفر ، وهو أوسط أيام التشريق ، ويعلم الناس حكم التعجيل ، و التأخير ، وتوديعهم ، لما روي عن رجلين من بني بكر ، قالا : رأينا رسول الله (ص) يخطب بين أوسط أيام التشريق ، ، ونحن عند راحلته ، أخرجه أبو داود . ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم ذلك ، فشرعت الخطبة فيه ، كيوم عرفة .
فصل :
وإذا كان رمي اليوم الثاني ، وأحب أن ينفر ، نفر قبل غروب الشمس ، وسقط عنه المبيت تلك الليلة ، والرمي بعدها، وإن غربت وهو في منى ، لزمته البيتوتة ، والرمي من الغد بعد الزوال ، لقول الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه } . وقال رسول الله (ص) : أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه رواه الترمذي . واليوم : اسم لبياض النهار . وإن رحل ، وخرج ثم عاد إليها لحاجة ، فلم يلزمه المبيت ، ولا الرمي ، لأن الرخصة قد حصلت له بالتعجيل . قال بعض أصحابنا : يستحب لمن نفر ، أن ينزل المحصب ، ثم يدخل مكة ، لما روى نافع قال : كان ابن عمر يصلي بها الظهر ، والعصر والمغرب ، والعشاء ، ثم يهجع هجعة ، ويذكر ذلك عن رسول الله (ص) . متفق عليه . وقال ابن عباس و عائشة : ليس نزول الأبطح بسنة ، إنما نزله رسول الله (ص) ليكون أسمح لخروجه . متفق عليه . وفي لفظ عائشة رضي الله عنها .
فصل :
ومن أراد المقام بمكة فلا توديع عليه ، لأن الوداع للمفارق . ومن أراد الخروج لم يجز له ذلك يودع البيت بطواف ، لما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض . متفق عليه . ويجعل الوداع في آخر أمره ، ليكون آخر عهده بالبيت ، فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته ، إعادته للخبر .
وإن صلى في طريقه ، أو اشترى لنفسه شيئاً ، لم يعده ، لأن هذا لا يخرجه عن كونه وداعاً ، وإن خرج ولم يودع ، لزمه الرجوع ما كان قريباً يمكنه الرجوع ، فإن لم يفعل ، أو لم يمكنه الرجوع ، فعليه دم ، فإن رجع بعد بلوغه مسافة القصر ، لم يسقط عنه الدم ، لأن طوافه لخروجه الثاني ، وقد استقر عليه دم الأول . والمرأة كالرجل ، إلا إذا كانت حائضاً ، أو نفساء ، خرجت ولا وداع عليها ، ولا فدية للخبر ، إلا أن يستحب لها أن تقف على باب المسجد فتدعو في دعاء المودع ، وإن نفرت فطهرت قبل مفارقة البنيان ، لزمها التوديع ، لأنها في البلد ، وإن لم تطهر حتى فارقته فلا رجوع عليها ، لأنه لم يوجد في حقها ما يوجبه في البلد .
فصل :
ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب ، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه قام بين الركن والباب ، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا ، وبسطها بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله (ص) يفعله . رواه أبو داود . ويدعو فيقول : اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك ، حملتني على ما سخرت لي من خلقك ، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك ، وأعنتني على أداء نسكي ، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً ، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري ، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي ،غير مستبدل بك ، ولا ببيتك ، ولا راغباً عنك ، ولا عن بيتك ، اللهم فأصحبني العافية في بدني ، والصحة في جسمي ، و العصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني ، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة ، إنك على كل شيء قدير . وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن ، ثم يصلي على النبي (ص) .
فصل :
ومن ترك طواف الزيارة ، فطافه عند الخروج ، أجزأ عن طواف الوداع ، ،لأنه يحصل به المقصود منه فأجزأ عنه ، كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم ، وصلاة الفرض عن تحية المسجد . وإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة لقوله عليه السلام : وإنما لامرئ ما نوى وحكمه حكم من ترك طواف الزيارة ، يبقى على إحرامه أبداً حتى يرجع فيطوف للزيارة ، إلا أن إحرامه عن النساء فحسب ، لأنه قد حل له بالتحلل الأول كل شيء إلا النساء .
فصل :
وليس في عمل القارن زيادة على عمل المنفرد ، وإن قتل صيداً فجزاؤه واحد .
وعنه : عليه طوفان وسعيان ، لقول اله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وتمامها بأفعالها . ولنا قول عائشة : وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوفاً واحداً . متفق عليه . وقال النبي (ص) لعائشة لما قرنت : يسعك طوافك لحجك و عمرتك رواه مسلم . ولأنهما عبادتان من جنس ، اجتمعتا فدخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين .
فصل :
أركان الحج : الوقوف بعرفة ، وطواف الزيارة ، وفي الإحرام والسعي روايتان .
وواجباته : الإحرام من الميقات ، والوقوف بعرفة إلى الليل ، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل ، والرمي ، وطواف الوداع ، وفي الحلق والمبيت بمنى روايتان .
وسننه : الاغتسال ، وطواف القدوم ، والرمل ، والاضطباع فيه واستلام الركنين ، وتقبيل الحجر ، والإسراع ، والمشي في مواضعهما ، والخطب ، والأذكار ، والدعاء ، والصعود إلى الصفا و المروة .
وأركان العمرة : الطواف ، وفي الإحرام والسعي روايتان .
وواجبها : الحلق في إحدى الروايتين .
وسننها : الغسل ، والدعاء ، والذكر ، والسنن التي في الطواف والسعي فمن ترك ركناً فلم يتم نسكه إلا به ، وممن ترك واجباً فعليه دم ، ومن ترك سنة فلا شيء عليه .
فصل :
فإذا رجع قال : آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ، لأن النبي (ص) كان يقول إذا قفل . متفق عليه .
ويستحب زيارة قبر النبي (ص) ، وصاحبيه رضي الله عنهما ، لما روي أن النبي (ص) قال: من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً رواه أبو داود و الطيالسي . ويصلي في مسجد رسول الله (ص) لقول النبي (ص) : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وقوله عليه السلام : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى متفق عليه .
باب ما يفسد الحج وحكم الفوات والإحصار
ومن وطئ في الفرج ، فأنزل أو لم ينزل في إحرام الحج قبل التحلل الأول ، فقد فسد حجه ، وعليه المضي في فاسده ، لما روي عن ابن عمر أن رجلاً سأله ، فقال : إني واقعت امرأتي ، ونحن محرمان ، فقال : أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون ، واحلق إذا حلقوا ، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك ، واهديا هدياً ، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم . وقال ابن عباس وعبد الله بن عمر مثل ذلك رواه سعيد بن منصور وروي أيضاً عن عمر رضي الله عنه ، ولا مخالف لهم ، فكان إجماعاً ، ولأنه لا يمكنه التحلل من الإحرام إلا بأفعاله ، وعليه القضاء على الفور للخبر ، ولأنه حج واجب بالشرع ، فكان واجباً على الفور ، كحجة الإسلام . ويجب عليهما الإحرام للقضاء من حيث أحرما أولاً أو من قدره ، إن سلكا طريقاً غيرها ، لأنه قضاء لعبادة ، فكان على وفقها ، كقضاء الصلاة ، ويفسد حج المرأة للخبر ، ولأنها أحد المتجامعين ، فأشبهت الرجل ، وعليها القضاء ونفقة القضاء عليها إن كانت مطاوعة كالرجل ، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج ، لأنه ألزمها ذلك . فكان موجبه عليه ولا فرق بين العمد والسهو والعلم والجهل للخبر ، ولأنه معنى يوجب القضاء ، فاستوى فيه ذلك كالفوائت . ولا فرق بين الوطء في القبل و الدبر من آدمي أو بهيمة ، لأنه وطء في فرج أشبه وطء فرج الآدمية .
فصل :
ويتفرقان في القضاء ، لأن ابن عباس قال : ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما وفيه وجهان :
أحدهما : أنه يوجب لأن ابن عباس ذكره حكماً للمجامع ، فكان واجباً كالقضاء .
والثاني : لا يجب ، لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء ولأن مقصود الفراق التحرز من إصابتها ، وهذا وهم لا يقتضي الوجوب ، ومعنى التفرق : اجتناب الركوب معها على بعير واحد ، والجلوس معها في خباء ولكن يكون قريباً منها ، يراعي حالها ، لأنه محرمها .
فصل :
ومن وطئ دون الفرج أو قبل أو لمس فلم ينزل ، لم يفسد حجه ، وإن أنزل ففيه روايتان :
إحداهما : يفسد حجه ، لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج ، والأخرى : لا يفسد وهي أصح ، لأنه فعل لا يجب الحد بجنسه ، ، ولا المهر ، ولا يتعلق به حكم بدون الإنزال ، أشبه النظر ، ولا يفسد النسك بغير ما ذكرنا من المحرمات كلها بغير خلاف .
فصل :
ومن وطئ بعد التحلل الأول ، وقبل الثاني ، لم يفسد حجه ، لأنها عبادة لها تحللان ، فوجد المفسد بعد أولهما لا يفسدها ، كالصلاة ، ولكنه يخرج إلى الحل ، فيحرم ليطوف للزيارة بإحرام صحيح . وإن وطئ المعتمر في عمرته ، أفسدها ، وعليه إتمامها وقضاؤها كالحج . و يتعلق بالماضي في الفاسد من الأحكام ، وتحريم المحرمات ، ووجوب الفدية فيها مثل ما يتعلق بالصحيح ، سواء لأنه باق على الإحرام فتعلق به ذلك كالصحيح .
فصل :
ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر ، فقد فاته الحج ، لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع رواه الأثرم ، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة ، وهي طواف وسعي وتقصير ، لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم ، قال عمر لأبي أيوب حين فاته الحج : اصنع ما يصنع المعتمر ، ثم قد حللت . وقال ابن أبي موسى : يمضي في حج فاسد ، يعني : أنه يلزمه المبيت والرمي ، والصحيح الأول ، لقول الصحابة ، ولأن المبيت تبع للوقوف فيسقط بسقوطه ، ويجب عليه القضاء على الفور .
وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلاً ، وإن كانت فرضاً فعلها بالوجوب السابق ، قياساً على سائر العبادات ، والمذهب الأول ، لأنه قول الصحابة والمسلمين ، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ، ولأن الحج يلزم بالشروع ، فيلزم قضاؤه كالمنذور ، بخلاف غيره .
ويجزئه القضاء عن الحجة الواجبة بغير خلاف ، لأن الحجة لو تمت لأجزأت عن الواجب فكذلك قضاؤها ، لأنه يقوم مقام الأداء ، ويجب على ما فاته الحج هدي .
وعنه : لا هدي عليه ، لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان ، للفوات والإحصار ، و الصحيح الأول ، لأنه قول الصحابة المسلمين ، ولأنه حل في إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي ، كالمحصر ويخرجه من سنة القضاء ، لما روى سليمان بن يسار : أن هبار بن الأسود حج من الشام ، فقدم يوم النحر فقال له عمر : انطلق إلى البيت ، فطف به سبعاً ، وإن كان معك هدي فانحرها ، ، ثم إن كان عام قادم فاحجج ، وإن وجدت سعة فاهد ، وإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعت . إن شاء الله تعالى . رواه الأثرم . فعلى هذا العمل ، لأنه قول منتشر لم يعرف له مخالف ، فإن عدم الهدي ، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .
وقال الخرقي : يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً : لأنه أقرب إلى معادلة الهدي كبدل جزاء الصيد ، وقول عمر رضي الله عنه أولى .
فصل :
إذا أخطأ الناس العدد ، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك ، لأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء فيشق، إن وقع لنفر منهم ، لم يجزئهم ، لأنه لتفريطهم ، وقد روي أن عمر قال لهبار: ما حسبك ؟ قال : كنت أحسب أن اليوم يوم عرفة . فلم بعذر بذلك .
فصل :
وإذا حصر المحرم عدو من المسلمين ، فمنعه المضي ، فالأفضل التحلل ، وترك قتاله ، لأنه أسهل من قتال المسلمين ، وإن كان مشركاً لم يجب قتاله إلا أن يبدأ به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل الذين أحصروه ، وإن غلب على ظن المحرم الظفر ، ، استحب القتال ، ليجمع بين الجهاد والحج ، إن غلب على ظنه خلاف ذلك ، استحب الانصراف ، صيانة للمسلمين عن التغرير ، ثم إن وجد طريقاً آمناً ، لم يجز له التحلل قرب أو بعد ، لأنه قادر على أداء نسكه ، فأشبه من لم يحصر ، فإن كان لا يصل إلا بعد الفوات ، مضى وتحلل بعمرة ، وفي القضاء روايتان :
إحداهما : يجب لأنه فاته الحج ، أشبه من أخطأ الطريق .
والثانية : لا قضاء عليه ، لأنه تحلل بسبب الحصر ، أشبه من تحلل قبل الفوات وإن لم يجد طريقاً آمناً فله التحلل ، لقول الله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حصره العدو بالحديبية فتحلل ، ولأنه لو لزمه البقاء على الإحرام لحرج ، لأنه قد يبقى الحصر سنين . وله أن يتحلل وقت الحصر ، سواء كان معتمراً أو مفرداً أو قارناً .
وعنه : في المحرم في الحج لا يحل إلا يوم النحر ، ليتحقق الفوات ، لأنه لا ييأس من زوال الحصر . وكذلك من ساق هدياً لا يتحلل إلا يوم النحر ، لأنه ليس له النحر قبل وقته . والصحيح الأول للآية والخبر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ساق هدياً فنحره وحل قبل يوم النحر ، ولأن الحج أحد الأنساك ، فأشبه العمرة ، ولو وقف الحل على يقين الفوات ، لم يجر الحل في العمرة ، لأنها لا تفوت .
فصل :
فإن كان معه هدي ، لم يحل حتى ينحره ، لقول الله تعالى : { فما استيسر من الهدي } وله ذبحه حين أحصر .
وعنه : إن قدر على المحرم ، أو على إرساله إليه ، لزمه ذلك ويواطئ رجلاً على اليوم الذي يذبحه فيه ، فيحل حينئذ ، لأنه قادر على الذبح في الحرم ، فأشبه المحصر في الحرم ، والأول أصح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحديبية . وهي من الحل باتفاق أهل السير ولذلك قال الله تعالى : { والهدي معكوفاً أن يبلغ محله } . ولأنه موضع حله ، فكان موضع ذبحه كالحرم ، ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به ، لأن الهدي يكون لغيره فلزمته النية ، ، ليميز بينهما ، ثم يحلق ، لما روى ابن عمر (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحالت كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه ، وحلق رأسه بالحديبية . وهل يجب الحلاق أو التقصير أو لا ؟ مبني على الروايتين فيه ، هل هو نسك أو لا ؟ فإن قلنا : هو نسك حصل الحل به ، وبالهدي وبالنية ، وإن قلنا : ليس بنسك حصل الحل بهما دونه .
فصل :
وإن لم يجد هدياً ، صام عشرة أيام ، ثم حل ، لأنه دم واجب للإحرام ، فكان له بدل ينتقل إليه ، كدم التمتع . ولا يحل إلا بعد الصيام ، كما لا يحل إلا بعد الهدي ، فإن نوى التحلل قبله ، لم يحل فكان على إحرامه حتى يذبح أو يصوم ، لأنه أقيم هاهنا مقام أفعال الحج .
فصل :
وليس عليه قضاء .
وعنه : يجب عليه القضاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى عمرة الحديبية ، وسميت الثانية عمرة القضية . ولأنه حل من إحرام قبل إتمامه ، فلزمه القضاء كمن فاته الحج .
ووجه الأولى : أنه تطوع ، جاز التحلل منه ، مع صلاح الوقت له فلم يجب قضاؤه ، كما لو دخل في الصوم يعتقده واجباً ، فلم يكن . فأما الخبر ، فإن الذين صدوا كانوا ألفاً وأربعمائة ، والذين اعتمروا معه في القضاء ، كانوا نفراً يسيراً ، ولم يأمر الباقين بالقضاء ، والقضية : الصلح الذي جرى بينهم ، وهو غير القضاء ، ويفارق الفوات ، فإنه بتفريطه .
فصل :
فإن لم يحل المحصر حتى زال الحصر ، لم يجز له التحلل ، لأنه زال العذر ، وإن زال العذر بعد الفوات ، تحلل بعمرة ، وعليه هدي للفوات لا للحصر ، لأنه لم يحل به ، وإن فاته الحج مع بقاء الحصر ، فله الحل به ، لأنه إذا حل به قبل الفوات فمعه أولى ، وعليه الهدي للحل ، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر ، للفوات . وإن حل بالإحصار ، ثم زال ، وأمكنه الحج من عامه ، لزمه ذلك ، وإن قلنا بوجوب القضاء ، أو كانت الحجة واجبة ، لأن الحج على الفور إلا فلا .
ومن كان إحرامه فاسداً ، فله التحلل بالإحصار ، لأنه إذا حل من الصحيح فمن الفاسد أولى ، فإن زال الحصر بعد الحل ، وأمكنه الحج من عامه ، فله القضاء فيه ، ولا يتصور القضاء للحج في العام الذي أفسده فيه ، إلا في هذا الموضع .
فصل :
ومن صد عن عرفة ، وتمكن من البيت ، فله أن يتحلل بعمرة ، لأن له ذلك من غير حصر ، فمعه أولى . وعنه : لا يجوز له التحلل ، بل يقيم على إحرامه حتى يفوته الحج ، ثم يحل بعمرة ، لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه الحج من عامه ليصير متمتعاً [ وهذا ممنوع من الحج فلا يمكنه أن يصير متمتعاً ] .
فصل :
والحصر والخاص : مثل أن يحسبه سلطان ، أو غريم ظلماً ، أو بحق لا يقدر على إيفائه . والعبد إذا منعه سيده ، والزوجة يمنعها زوجها ، كالعام في جواز التحلل ، لعموم الآية [ وتحقق المعنى فيه ، فأما من أحصره مرض أو عدم نفقة ففيه روايتين :
إحداهما : له التحلل لعموم الآية ] . ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كسر أو عرج ، فقد حل وعليه حجة أخرى رواه النسائي . ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو .
والثانية : ليس له التحلل ، لأن ابن عباس وابن عمر قالا : لا حصر إلا حصر العدو . ولأنه لا يستفيد بالحل الانتقال إلى حاله ، والتخلص من الأذى به ، بخلاف حصر العدو .
باب الهدي
يستحب لمن أتى مكة ، أن يهدي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة [ رواه البخاري ولم يقل في حجته ] ويستحب استسمانها واستحسانها ، لقول الله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } . قال ابن عباس : هو الاستسمان ، والاستحسان ، و الاستعظام ، أفضل الهدي والأضاحي الإبل ، ثم البقر ثم الغنم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية ، فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما قرب بيضة متفق عليه .
ويجوز للمتطوع أن يهدي ما أحب من كبير الحيوان وصغيره ، وغير الحيوان ، استدلالاً بهذا الحديث ، إذ ذكر فيه الدجاجة والبيضة ، والأفضل : بهيمة الأنعام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى منها . فإن كان إبلاً سن إشعارها ، بأن تشق صفحة سنامها اليمنى حتى يسيل الدم ويقلدها نعلاً ، أو نحوها ، لما روى ابن العباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، صلى بذي الحليفة ، ثم دعا ببدنة ، فأشعرها في صفحة سنامها اليمنى ، وسلت الدم عنها بيده ، رواه مسلم ولأنها ربما اختلطت بغيرها ، أو ضلت فتعرف بذلك فترد ، وإن كانت غنماً ، قلدت آذان القرب والعرى، لقول عائشة : (( كنت أفتل القلائد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقلد الغنم . ويقيم في أهله حلالاً )) [ أخرجه البخاري و مسلم ونحوه ] ولا يشعرها لضعفها ، ولأنه يستتر موضع الإشعار . بشعرها وصوفها .
فصل :
ولا يجب الهدي بسوقه مع نيته ، كما لا تجب الصدقة بالمال ، بخروجه به لذلك ، ويبقى على ملكه وتصرفه ، ونمائه له حتى ينحره ، وإن قلده وأشعره ، وجب بذلك ، كما لو بنى مسجداً وأذن بالصلاة فيه . وإن نذره ، أو قال : هذا هدي لله ، وجب ، لأنه لفظ يقتضي الإيجاب ، فأشبه لفظ الوقف ، وله ركوبه عند الحاجة من غير إضرار به ، لأن أبا هريرة روى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة ، فقال : اركبها فقال : يا رسول الله ، إنها بدنة . فقال : اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة ، متفق عليه . وفي حديث آخر قال: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها ، حتى تجد ظهراً رواه أبو داود ، فإن نقصها ركوب ، ضمنها ، لأنه تعلق حق غيره بها ، وإن ولدت ، فولدها بمنزلتها يذبحه معها ، لما روي أن علياً رضي الله عنه رأى رجلاً يسوق بقرة معها ولدها ، فقال : لا تشرب من لبنها ، إلا ما فضل عن ولدها ،فإذا كان يوم النحر فانحرها وولدها ولأنه معنى تصير به لله تعالى ، فاستتبع الولد ، كالعتق ، وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها لحديث علي ، ولقول الله تعالى : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } . ولا يجوز أكثر من ذلك للخبر . ولأن اللبن غذاء الولد ، فلا يجوز منعه منه . كما لا يجوز منع الأم علفها ، فإن لم يمكنه المشي ، حمله على ظهرها ، لأن ابن عمر : كان يحمل ولد البدنة عليها ، فإن لم يمكنه حمله ولا سوقه ، صنع به كما يصنع بالهدي الذي يخشى عطبه ، وإن كان عليها صوف ، في جزه صلاح لها ، جزه وتصدق به ، لأنها تسمن بذلك ، فتنفع المساكين ، وإن لم يكن في جزه صلاح ، لم يجز أخذه ، لأنه جزء منها وينفع الفقراء عند ذبحها ، وإن أحصر ، نحره حيث أحصر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية ، وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه ، لأنه أمانة عنده ، فلم يضمنه من غير تفريط كالوديعة ،فإن تعيب ، ذبحه ، و أجزأه ، لأنه لا يضمن جميعه ، فبعضه أولى .
فصل :
وإن عجز عن المشي أو عطب دون محله ، نحره موضعه وصبغ نعله الذي في عنقه في دمه ، فضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء ، وخلى بينه وبينهم ، ولم يأكل منه هو ، ولا أحد من رفقته . لما روى ذؤيب أبو قبيصة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ، ثم يقول: إن عطب منها شيئاً فخشيت عليها موتاً فأنجزها ثم اغمس نعلها في دمها ثم أضرب به صفحتها ، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك رواه مسلم ، ولأنه متهم في التفريط فيها ليأكلها ، أو يطعمها رفقته فمنعوا من أكلها لذلك . فإن لم يذبحها عند خوفه عليها حتى تلفت ، ضمنها ، لأنه فرط فيها ، فلزمه ضمانها كالوديعة ، إذا رأى من يسرقها فلم يمنعه .
وإن أتلفها ضمنها ، لأنه أتلف مالاً يتعلق به حق غيره ، فضمنه ، كالغاصب ، ويلزمه أكثر الأمرين من قيمتها ، أو هدي مثلها ، لأنه لزمته الإراقة والتفرقة ، وقد فوتهما فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين ، وإن كانت قيمتها وفق مثلها ، أو أقل ، لزمه مثلها ، وإن كانت أكثر ، اشترى بالفضل هدياً آخر ، فإن لم يسع اشترى به لحماً وتصدق به ، لأنه أقرب إلى المفوت ، ويحتمل أن يتصدق بالقيمة ، وإن أكل مما منع من أكله ، ضمنه بمثله لحماً لما ذكرنا . وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها ، لأنه لا تلزمه الإراقة ، فلزمته قيمتها كغيرها ، ويشتري بالقيمة مثلها، فإن زادت فالحكم على ما ذكرنا ، فيما إذا أتلفها صاحبها .
وإن اشترى هدياً فوجده معيباً ، فله الأرش ويحتمل أن يكون للمساكين ، لأنه بدل عن الجزء الفائت من حيوان جعله لله تعالى ، فكان للمساكين ، كعوض ما أتلف منه بعد الشراء ، ويكون حكمه حكم الفاضل عن المثل ، ويحتمل أن يكون له ، لأن النذر إنما صادف المعيب بدون الجزء الفائت ، فلم يدخل في نذره ، فلا يستحق عليه بدله .
فصل :
ولا يزول ملكه عن الهدي و الأضحية بإيجابهما ، نص عليه . وله إبدالهما بخير منهما .
وقال أبو الخطاب : يزول ملكه ، وليس له بيعه ، ولا إبداله ، لأنه جعله لله تعالى ، فأشبه المعتق والموقوف .
ووجه الأول : أن النذور محمولة على أصولها في الفرض ، وفي الفرض لا يزول ملكه ، وهو الزكاة . وله إخراج البدل ، فكذلك في النذور ، وأما بيعها بدونها ، فلا يجوز ، لأن فيه تفويت حق الفقراء من الجزء الزائد ، فلم يجز ، كما لو أخرج من الزكاة أدنى من الواجب . ولا يجوز إبدالها بمثلها ، لأنه تفويت لعينها ،من غير فائدة تحصل .
فصل :
ومن وجب في ذمته هدي ، فعينه في حيوان ، تعين ، لأنه ما وجب به معين ، جاز أن يتعين به ما في الذمة ، كالبيع ، ويصير للفقراء ، فإن هلك بتفريط ، أو غيره ، رجع الواجب إلى ما في الذمة ، كما لو كان له عليه دين ، فباعه به طعاماً ، فهلك قبل تسليمه ، فإن تعيب أو عطب فنحره ، لم يجزئه لذلك ، وهل يعود المعين إلى صاحبه ، فيه روايتان :
إحداهما : يعود ، ذكره الخرقي . فقال : صنع به ما شاء ، لأنه إنما عينه عما في ذمته ، فإن لم يقع عنه عاد إلى صاحبه ، كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه .
والأخرى : لا يعود ، لأنه صارت للمساكين بنذره ، فلم تعد إليه ، كالذي عينه ابتداء ، وهل تعود إلى ذمته ، مثل المعين ، أو مثل الواجب في الذمة ؟ ينظر فإن تلف بغير تفريط لم يلزمه أكثر مما في الذمة ، لأن الزائد إنما تعلق بالعين ، فسقط بتلفها، وإن تلف بتفريط ، لزمه أكثر الأمرين ، لأنه تعلق بالمعين حق الله تعالى . فإن أتلفه فعليه مثل ما فوته . وإن ولد هذا المتعين تبعه ولده ، لما ذكرنا في المعين ابتداء ، فإن تعيبت الأم فبطل تعيينها ، ففي ولدها وجهان :
أحدهما : يبطل تبعاً كما ثبت تبعاً .
والثاني : لا يبطل ، لأن بطلانه في الأم لمعنى اختص بها بعد استقرار الحكم في ولدها ، فلم يبطل فيه ، كما لو ولدت في يد المشتري ثم ردها لعيبها .
فصل :
وإذا ذبح هدية ، أو أضحيته إنسان بغير أمره في وقته أجزأ عنه ، لأنه لا يحتاج إلى قصده ، فإذا فعله إنسان بغير إذنه وقع الموقع ، ولا ضمان على الذابح ، لأنه حيوان تعين إراقة دمه عل الفور ، حقاً لله تعالى ، فلم يضمنه كالمرتد .
فصل :
ويجوز الأكل من هدي التمتع والقران ، لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن متمتعات إلا عائشة ، فإنها كانت قارنه لإدخالها الحج على عمرتها ، وقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة ، قالت : فدخل علينا بلحم بقر فقلت : ما هذا ؟ فقيل : ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه . رواه مسلم . ولأنه دم نسك ، فجاز الأكل منه ، كالأضحية ، ولا يجوز الأكل من واجب سواها ، لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه ، ككفارة اليمين ، وعنه : له الأكل من الجميع ، إلا المنذور ، وجزاء الصيد ، ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور في الذمة ، لأنه نذر إيصاله إلى مستحقيه ، فلم يجز أن يأكل منه ، كما لو نذر لهم طعاماً ، وما ساقه تطوعاً ، استحب الأكل منه ، سواء عينه أو لم يعينه . لقول الله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } . وأقل أحوال الأمر الاستحباب . وقال جابر : أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة . فجعلت في قدر ، فأكل منها وحسا من مرقها . ولأنه دم نسك ، فأشبه الأضحية . قال ابن عقيل : حكمه في الأكل ، والتفريق حكمها . وقال جابر : كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث ، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا ، رواه البخاري و مسلم ونحوه . والمستحب الاقتصار على اليسير في الأكل ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه . وإن أطعمها كلها فحسن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ، ثم قال : من شاء اقتطع رواه أبو داود . وظاهر هذا أنه لم يأكل منها شيئاً ، ويجوز للمهدي تفريق اللحم بنفسه ، ويجوز إطلاقه للفقراء ، استدلالاً بهذا الحديث .
فصل :
إذا نذر هدياً مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة ، أو سبع بدنة أو بقرة . لأن المطلق يحمل على أصله في الشرع ، ولا يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية . ويمنع فيه من العيب ما يمنع فيها . وإن عينه بنذره ابتداء ، أجزأه ما عينه كبيراً أو صغيراً أو حيواناً أو غيره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : فكأنما قرب دجاجة ، وكأنما قرب بيضة وإذا أطلق بالنسبة إلى مكانه ، وجب إيصاله إلى فقراء الحرم . لأن ذلك المعهود في الهدي . وإن عين الذبح بمكان غيره في نذره لزمه ذلك ، ما لم يكن فيه معصية ، لما روي أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني نذرت أن أنحر ببوانة . قال : هل بها صنم قال : لا . قال : أوف بنذرك رواه أبو داود .
فصل :
ومن وجب عليه دم ، أجزأه ذبح شاة ، أو سبع بدنة أو بقرة . لقول ابن عباس : في هدي المتعة شاة ، أو شك في دم ، فإن ذبح بدنة احتمل أن يكون جميعها واجباً ، كما لو اختار التكفير بأعلى الكفارات ، واحتمل أن يكون سبعها واجباً وباقياً تطوعاً ، لأن سبعها يجزئه فأشبه ما لو ذبح شياه .
ومن وجب عليه بدنة بنذر ، أو قتل نعامة ، أو وطء ، أجزأه بسبع من الغنم ، لأنها معدولة بسبع ، و الشياه أطيب لحماً . وقد روي عن ابن عباس : أن النبي (ص) أتاه رجل فقال: إن علي بدنة ، وأنا موسر لها ، ولا أجدها ، فأشتريها . فأمره النبي (ص) أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن . رواه ابن ماجه .
وقال ابن عقيل : إنما يجزئ ذلك مع عدم البدنة ، لأنها بدل ، فيشترط فيه عدم المبدل ، والأول أولى لما ذكرناه وإن وجبت عليه بدنة فذبح بقرة أجزأته ، لما روى جابر قال : كنا ننحر البدنة عن سبعة . فقيل له والبقرة ؟ فقال : وهل هي إلا من البدن ! رواه مسلم . وقال ابن عقيل : إن نذر بدنة ، لزمه ما نواه ، فإن لم ينو شيئاً ، ففيه روايتان :
إحداهما : هو مخير على ما ذكرناه .
والثانية : إن لم يجد بدنة أجزأته بقرة .
فإن لم يجد فسبعاً من الغنم .
وعنه : عشر لأنه بدل ، فلا يجزئ مع وجود الأصل . فأما من وجب عليه سبع من الغنم ، فإنه يجزئه بدنة ، أو بقرة . لأنها تجزئ عن سبع في حق سبعة ، ففي حق واحد أولى .
باب الأضحية
وهي سنة مؤكدة ، لما روى أنس قال : ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده وسمى وكبر ، ووضع رجله على صفاحهما . متفق عليه . قال أبو زيد : الأملح : الأبيض الذي فيه سواد ، وقال ابن الأعرابي : هو الأبيض النقي .والتضحية أفضل من الصدقة بقيمتهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم آثرها على الصدقة .وليست واجبة ، لأنه روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما ، مخافة أن يرى ذلك واجباً.وروت أم سلمة عن رسول الله قال : إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي . رواه مسلم . وقال القاضي : هذا نهي كراهية ، لا تحريم بدليل قول عائشة : كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يقلدها بيده ، ثم يبعث بها ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي . متفق عليه . ويمكن حمل الحديث على ظاهره في التحريم ، ولا تعارض بين الحديثين . لأن أحدهما في الأضحية والآخر في الهدي المرسل . ولو تعارضنا لكان حديث أم سلمة خاصاً في الشعر والظفر ، فيجب تقديمه . فإن فعل ، استغفر الله تعالى ولا فدية عليه .
فصل :
ولا يجزئ إلا بهيمة الأنعام ، لقول الله تعالى : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } . ولا يجزئ إلا الجذع عن الضأن ، والثني من غيره ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عسر عليكم ،فاذبحوا الجذع من الضأن رواه مسلم . والثنية من البقر هي المسنة . ومن الإبل ما كمل لها خمس سنين . قاله الأصمعي . ويستحب استحسانها، وأفضلها البياض ، لأنه صفة أضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ما كان أحسن لوناً .
فصل :
وتجزئ البدنة عن سبعة ، وكذلك البقرة لقول جابر : كما نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نذبح البقرة عن سبعة ، نشترك فيها . رواه مسلم . ويجوز أن يشتركوا فيها ، سواء أراد جميعهم القربة ، أو بعضهم القربة والباقون اللحم لأن كل سبع مقام شاة ، ويجوز أن يقسموا أنصباءهم لأن القسمة إفراز حق والحاجة داعية إليه .
فصل:
ويستحب أن ينحر الهدي ، والأضحية بيده ، لحديث أنس . ويجوز أن يستنيب فيه ، لما ذكرنا في الهدي ، ويجوز أن يستنيب كتابياً ، لأنه من أهل الزكاة . ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم ، لأنها قربة فالأفضل أن لا يليها كافر بالله .
وعنه : لا يجوز أن يليها كافر لذلك . ويستحب لمن استناب أن يحضرها ، لما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : أحضري أضحيتك ، يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها ويقول عند الذبح : بسم الله والله أكبر . لحديث أنس ، وإن قال : اللهم هذا منك ولك ، اللهم تقبل مني أو من فلان ، فحسن لما روى جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على أضحيته : اللهم هذا منك ، ولك عن محمد وأمته ، بسم الله والله أكبر ثم ذبح وفي رواية قال : بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ثم ضحى . رواه مسلم وليس عليه أن يقول عن فلان ، لأن النية تجزئ .
فصل :
وأول وقت الذبح في حق أهل المصر ، إذا صلى الإمام وخطب يوم النحر ، لما روى البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاتنا ، ونسك نسكناً فقد أصاب النسك ، ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى متفق عليه . وفي حق غير أهل المصر قدر الصلاة والخطبة ، لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة ، فاعتبر قدرها . وقال الخرقي : المعتبر قدر الصلاة والخطبة في حق الجميع ، لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت ، فتعلق أولها بالوقت ، كالصوم ، فمن ذبح قبل ذلك ، لم يجزئه ، وعليه بدلها إن كانت واجبة ، لحديث البراء . وآخر وقتها آخر اليومين الأولين من أيام التشريق ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث . متفق عليه . قال الخرقي : لا يجوز الذبح ليلاً ، لقول الله تعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . وقال غيره من أصحابنا : يجوز ليلاً لأنه زمن يصح فيه الرمي ، فصح فيه الذبح . كالنهار ، وقال بعضهم : فيه روايتان . فإن فات وقت الذبح ، ذبح الواجب قضاء ، لأنه قد وجب ذبحه ، فلم يسقط بفوات وقته . وإن كان تطوعاً فقد فاتته سنة الأضحية .
فصل :
ولا يجزئ في الأضحية معيبة عيباً ينقص لحمها ، لما روى البراء قال : قام فينا رسول اله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظلعها ، والعجفاء التي لا تنقى رواه أبو داود ، يعني : التي لا مخ فيها ، والعوراء البين عورها: التي انخسفت عينها ، وذهبت ، فنص على هذه الأربعة الناقصة اللحم ، وقسنا عليها ما في معناها .
ولا تجزئ العضباء ، لما روى علي رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الأذن ، أو القرن . قال سعيد بن المسيب : العضب النصف فأكثر من ذلك . رواه النسائي . يعني التي ذهب أكثر من نصف أذنها ، أو قرنها ، وتجزئ الجماء التي لم يخلق لها قرن ، والصمعاء : وهي الصغيرة الأذن والبتراء : التي لا ذنب لها ، والشرقاء: التي شقت أذنها ، والخرقاء : التي انشقت أذنها ، لأن ذلك لا ينقص لحمها ، ولا يمكن التحرز منه ، وغيرها أفضل منها ، لقول علي رضي الله عنه : (( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وأن لا نضحي بمقابلة ، ولا مدابرة ، ولا خرقاء ، ولا شرقاء )) . قال أبو اسحق السبيعي : المقابلة : قطع طرف الأذن ، والمدابرة : القطع من مؤخرة الأذن ، والخرقاء : تشق الأذن للمسة ، والشرقاء : تشق أذنها السمة . رواه أبو داود . وهذا نهي تنزيه لما ذكرنا .
وقال ابن حامد : لا تجزئ الجماء ، ويجزئ الخصي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين ، ولأنه يذهب عضو غير مستطاب ، يطيب اللحم بذهابه .
فصل :
ويستحب أن يؤكل الثلث من الأضحية ، ويهدي الثلث ، ويتصدق بالثلث ، لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحية قال : ويطعم أهل بيته الثلث ، ويطعم فقراء جيرانه الثلث ، ويتصدق على السؤال بالثلث قال الحافظ أبو موسى : هذا حديث حسن . ولقول ابن عمر : الضحايا والهدايا : ثلث لك وثلث لأهلك ، وثلث للمساكين . وإن أطعمها كلها أو أكثرها فحسن ، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز ، وإن أكلها كلها ،ضمن القدر الذي تجب الصدقة به ، لقول الله تعالى : { وأطعموا القانع والمعتر } . والأمر يقتضي الوجوب . وإن نذر الأضحية ، فله الأكل منها ، لأن النذر محمول على المعهود قبله، والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها ، ولأكل منها ، ولا يغير النذر من صفة المنذور ، إلا الإيجاب .
قال القاضي : ومن أصحابنا من منع الأكل منها ، قياساً على الهدي المنذور .
فصل :
ولا يجوز بيع شيء من الهدي ، والأضحية ، ولا إعطاء الجازر بأجرته شيئاً منها ، لما روي عن علي رضي الله عنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن أقوم بدنه ، وأن أقسم جلودها وجلالها ، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً ، وقال : نحن نعطيه من عندنا متفق عليه . ويجوز أن ينتفع بجلدها ، ويصنع منه النعال ، والخفاف والفراء والأسقية ، ويدخر منها ، لما روي عن النبي (ص) أنه قال : كنت نهيتكم من ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم رواه مسلم . ولأن الجلد جزء من الأضحية ، فجاز الانتفاع به كاللحم .
فصل :
وإذا أوجب الأضحية بعينها ، فالحكم فيها كالحكم في الهدي المعين ، في ركوبها ، وولدها ، ولبنها ، وصوفها ، وتلفها ، وإتلافها ، ونقصانها ، وذبحها على ما ذكرنا ، لأن الأضاحي والهدايا معناهما واحد . وإيجابها قوله : هذه أضحيتي ، أو هذه لله ، ونحوه من القول . ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية ، لأنه إزالة ملك على وجه القربة ، فلم تؤثر فيها النية المفارقة للشراء ، كالوقف والعتق ، فإن أوجبها ناقصة نقص يمنع الإجزاء ، فعليه ذبحها ، لأن إيجابها كنذر ذبحها ، فيلزمه الوفاء به ، ولا يكون أضحية ، لقول النبي (ص) : أربع لا تجزئ في الأضاحي ولكنه يتصدق بلحمها ، ويثاب عليه ، كمن أعتق عبداً عن كفارة ، به عيب يمنع الإجزاء ، ولا يلزمه البدل ، إلا أن تكون الأضحية واجبة ، لأنها تطوع ، وإن زال عيبها قبل ذبحها ، أجزأت عن الأضحية ، لأن القربة تتعين فيها بالذبح ، وهي سليمة حينئذ ، وإن اشتراها معيبة فأوجبها ، ثم علم عيبها ، خرج جواز ردها على جواز إبدالها ، وقد ذكرناه وله أخذ أرشها وحكمه حكم أرش الهدي المعيب .
باب العقيقة
وهي الذبيحة عن المولود ، وهي سنة ، لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل غلام رهينة بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ، ويسمى ويحلق رأسه رواه أبو داود . وليست واجبة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ولد له مولود ، فأحب أن ينسك عنه فليفعل رواه مالك في الموطأ . والسنة أن يذبح عن الغلام شاتان متساويتان ، وعن الجارية شاة ، لما روت أم كرز الكعبية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة رواه أبو داود . ويستحب ذبحها يوم السابع ، ويجزئ فيها من بهيمة الأنعام ما يجزئ في الأضحية ، ويمنع فيها من العيب ما يمنع فيها ، وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها ، إلا أنه يستحب تفصيلها أعضاء ، ولا يكسر لها يكسر لها عظم ، لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود ، فاستحب أن لا تكسر عظامها ، تفاؤلاً بسلامة أعضائه . قالت عائشة رضي الله عنها : السنة شاتان مكافئتان عن الغلام ، وعن الجارية شاة . وكان عطاء يقول :تطبخ جدولاً ولا يكسر عظمها ، ويأكل ويطعم و يتصدق ، وذلك يوم السابع ، فإن ذبحها قبل السابع جاز ، لأنه فعلها بعد سببها ، فجاز كتقديم الكفارة قبل الخنث ، وإن أخرها عنه، ذبحها في الرابع عشر ، فإن فات ، ففي إحدى وعشرين ، لما روى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في العقيقة تذبح لسبع ، ولأربع عشر ، ولإحدى وعشرين أخرجه الحسين بن يحيى بن عياش القطان . فإن أخرها عنه ، ذبحها بعده ، لأنه قد تحقق سببها .
فصل :
ويستحب حلق رأس الصبي يوم السابع ، وتسميته ، لحديث سمرة . وإن سماه قبل ذلك جاز ، لما روى أنس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأخ له حين ولد ، فحنكه بتمرة ، وسماه عبد الله . متفق عليه . وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ولده إبراهيم ليلة ولد . متفق عليه . ويستحب تحسين اسمه ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماءكم رواه أبو داود . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن حديث صحيح رواه مسلم ويكره لطخ رأس الصبي بالدم ، لأنه تنجيس له ، وهو من عمل أهل الجاهلية . قال بريدة كنا نلطخ رأس الصبي بدم العقيقة ، فلما جاء الإسلام كنا نلطخه بالزعفران .
باب الذبائح
لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة ، لقول الله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } . إلا السمك وما شبهه مما لا يعيش إلا في الماء ، فإنه يباح بغير ذكاة ، وإن طفا ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته والجراد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أحل لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد والكبد والطحال ولأن ذكاتهما في العادة لا تمكن ، فسقط اعتبارها ، وما يعيش من البحري في البر لا يحل إلا بالذكاة ، لأنه مقدور على ذبحه إلا السرطان فإنه لا ذكاة له ، فأشبه الجراد [ وقال القاضي : لا يباح بغير ذكاة ] . وعن أحمد رضي الله عنه : أن الجراد لا يباح إلا أن يموت بسبب ، كتغريقه وطبخه ، والأول المذهب . ولو وجد سمكة في بكن أخرى ، أو في حوصلة طائر أو جراد أو حباً ، أو وجد الحب في روث بعير ، حل ، لأنه في محل طاهر ، ولا ذكاة له ، فأشبه ما مات في الماء ، وعنه : ما أكل مرة لا يؤكل ثانية ، لأنه رجيع ، فيكون مستخبثاً . ولو صاد الوثني حوتاً ، حل ، وعنه : لا يحل والأول أصح لأنه لا ذكاة له ، فأشبه ما لو أخذ ميتاً .
فصل :
وللذكاة أربعة شروط :
أهلية المذكي ، بأن يكون مسلماً أو كتابياً أو عاقلاً ، لقول الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } وقول سبحانه : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } . يعني : ذبائحهم . ولا تحل ذكاة وثني ولا مجوسي ، ولا مرتد ، وإن تدين بدين أهل الكتاب ، لأنه لم يثبت له حكم أهل الكتاب ، ومفهوم الآية تحريم ذبائحهم من سواهم ، وفي نصارى بني تغلب روايتان :
أصحهما : حل ذبائحهم ، لعموم الآية .
والثانية : تحريمها ، لأن ذلك يروى عن علي رضي الله عنه . قال أصحابنا : ولا تحل ذبيحة من أحد أبويه وثني أو مجوسي ، لأنه اجتمع فيه ما يقضي الحظر والإباحة ، فغلب الحظر . وإن ذبح اليهودي ما حرم عليهم ، وهو كل ذي ظفر .
قال قتادة : هو الإبل والنعام والبط ، وما ليس بمشقوق الأصابع ، أو ذبح بقرة أو شاة ، لم يحرم علينا منه شيء في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه ، واختيار ابن حامد ، لأنه من أهل الذكاة ذبح ما يحل لنا فأشبه المسلم .
واختار أبو الحسن التميمي أنه يحرم علينا ما يحرم عليه من الشحم ، وذي الظفر ، لأنه لم يبح لذابحه ، فلم يبح لغيره كالدم ، ويعتبر العقل ، فلا تحل زكاة مجنون ، ولا سكران ولا طفل غير عاقل ، لأنه أمر يعتبر له العقل والدين ، فاعتبر له العقل كالغسل ، وكذلك لو رمى هدفاً فذبح صيداً ، لم يحل . ويصح من العدل والفاسق ، والذكر والأنثى ، والصبي العاقل والأعمى ، لما روى كعب بن مالك أن جارية له كانت ترعى غنماً بسلع ، فأصيب منها شاة ، فأدركتها فذكتها بحجر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها . رواه البخاري . وقال ابن عباس : من ذبح من ذكر وأنثى وصغير وكبير ، وذكر اسم الله عليه فكل .
فصل : الشرط الثاني : الآلة وهو أن يذبح بمحدد ، أي شيء كان من حديد أو حجر أو خشب أو قصب إلا السن والظفر ، فإنه لا يباح الذبح بهما ، لما روى رافع بن خديج قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه ، فكلوا ليس السن والظفر ، وسأخبركم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة متفق عليه . فإن ذبح بعظم غير السن ، أبيح في ظاهر كلامه ، لدخوله في عموم اللفظ . وعنه : لا يباح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل تحريم الذبح بالسن ، لكونه عظماً . ويستحب تحديد الآلة ، لما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإن قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته رواه مسلم .
فصل :
الشرط الثالث : أن يسمي الله ، لقول الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } . وحديث رافع ، فإن تركها عمداً ، لم تحل ذبيحته ، وإن تركها سهواً ، حلت لما روى راشد بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذبيحة المسلم حلال ، وإن لم يسم الله تعالى إذا لم يعتمد أخرجه سعيد .
وعنه : لا تسقط التسمية في عمد ، ولا سهو للآية والخبر ، وعنه : لا تجب في الحالين ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا : يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا أنتم وكلوا رواه البخاري والمذهب الأول .
وإن شك في تسمية الذابح ، حل لحديث عائشة ، ولأن حال المسلم تحمل على الصحة ، كالذبح في المحل .
والتسمية : قول بسم الله ، وإن كان بغير العربية ، وموضعها عند الذبح ، يجوز تقديمها عليه بالزمن اليسير . وإن سمى على شاة ، وذبح أخرى ، لم تبح ، لأنه لم يذكر اسم الله عليها . وإن سمى على قطيع وذبح منه شاة ، لم تبح ، وإن سمى على شاة ، ثم ألقى السكين وأخذ أخرى ، أو تحدث ثم ذبحها ، حلت ، لأنه سمى عليها . وتقوم إشارة الأخرس مقام تسميته ، كسائر ما يعتبر فيه النطق .
فصل :
الشرط الرابع : المحل ، وهو الحلق واللبة ، لما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه نادى النحر في اللبة والحلق لمن قدر . أخرجه سعيد . وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويشترط قطع الحلقوم ، وهما مجرى الطعام والنفس .
وعنه : يشترط فري الودجين ، أو أحدهما ، وهما عرقان محيطان بالحلقوم ، لما روى أبو هريرة قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان )) وهي التي تذبح فيقطع الجلد ، ولا تفرى الأوداج ، ثم تترك حتى تموت . رواه أبو داود .
والأول أولى ، لأنه قطع لا تبقى الحياة معه في محل الذبح ، وإن قطع الأوداج وحدها ، فينبغي أن تحل استدلالاً بالحديث والمعنى ، والأولى قطع الجميع ، لأنه أوحى وأبلغ من سيلان الدم وتنظيف اللحم منه .
فصل :
والسنة نحر الإبل قائمة ، معقولة يدها اليسرى ، لقول الله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } ومر ابن عمر على رجل قد أناخ بدنته لينحرها ، فقال : ابعثها قياماً مقيدة. سنة محمد صلى الله عليه وسلم . متفق عليه . ثم يجؤها بالحربة من الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، لقول الله تعالى : { فصل لربك وانحر } ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنة . ويذبح سائر الحيوان ، لقول اله تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } . وذبح النبي صلى الله عليه وسلم الكبشين الذين ضحى بهما . فإن ذبح ما نحر ، أو نحر ما يذبح ، جاز ، لأنه لم يتجاوز محل الذبح ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة ، لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يستحب ذلك ، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال .
فصل :
فإن ذبحها من قفاها ، فأتت السكين على موضع ذبحها ، وفيها حياة مستقرة حلت ، لأنها ماتت بالذبح ، وكذلك ما جرح من غير مذبحه . والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، وما أكل السبع والمريضة ما أدرك ذكاتها ، وفيها حياة مستقرة حلت ، لقول الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } . ولحديث جارية كعب : (( إذا أصيبت منها شاة ، فأدركتها فذكتها بحجر ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها )) وما لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح لا يباح ، لأنه صار في حكم الميت ، وكذلك لو ذبحها بعد ذبح الوثني لها لم تبح .
فصل :
ويكره أن يبين الرأس بالذبح ، وقطع عضو مما ذكى ، أو سلخه حتى تزهق نفسه ، لأن عمر رضي الله عنه قال : لا تجعلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم المقطوع ، لأن إبانته حصلت بعد ذبحها وحلها . ولو ذبحها ، فسقطت في ماء ، أو تردت تردياً يقتلها مثله ، فقال أكثر أصحابنا : لا تحرم لما ذكرنا .
وقال الخرقي : تحرم وهو المنصوص عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم : فإن وقعت في الماء فلا تأكل ولأن ذلك يعين على زهوق نفسها ، فيحصل بسبب مبيح ومحرم.
فصل :
وإذا ذبح حاملاً ، فخرج جنينها ميتاً ، أو فيه حركة كحركة المذبوح ، أبيح ، لما روى أبو سعيد قال : قيل يا رسول الله : إن أحدنا ينحر الناقة ، ويذبح البقرة والشاة . فيجد في بطنها الجنين ، أيأكله أم يلقيه ؟ قال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه رواه أبو داود ، ولأنه متصل بها يتغذى بغذائها فكانت ذكاتها ذكاة له ، كسائر أجزائها . ويستحب أن يذبحه ليخرج دمه الذي في بطنه ، نص عليه . وإن خرج وفيه حياة مستقرة ، لم يبح إلا بالذكاة ، لأنه مستقل بحياته ، فأشبه ما ولدته قبل ذبحها .
فصل :
وإذا ند بعيره أو غيره، فلم يقدر عليه ، صار حكمه حكم الصيد ، لما روى رافع بن خديج قال : كنا مع النبي في غزاة ، فأصاب القوم غنماً وإبلاً ، فند بعير من الإبل ، فرماه رجل بسهم ، فحبسه الله به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا متفق عليه . ولأنه تعذر ذكاته في الحلق ، فأشبه الصيد . ولو تردى في بئر ، فلم يقدر على ذبحه ، فجرحه في أي موضع قدر عليه من جسده ، أبيح لما ذكرناه إلا أن يكون رأسه في الماء ، أو في شيء يموت به غير الذبح ، فلا يباح لأننا لا نعلم أن الذبح قتله .
باب الصيد
وهو مباح لقول الله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } . وقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } . قال ابن عباس : هي الكلاب المعلمة والبازي ، وكل ما تعلم الصيد .
فصل :
من صاد صيداً فذكاه ، حل بكل حال ، لحديث أبي ثعلبة . وإن أدرك ميتاً ، حل بشروط سبعة .
أحدها : أهلية الصائد على ما ذكرنا في الذكاة لأن الاصطياد كالذكاة ، وقائم مقامها .
الثاني : التسمية عند إرسال الجارح أو السهم لما ذكرنا في الزكاة ، ولا يعفى عنهما في عمد ولا سهو ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل ، فإنك إنما سميت على كلبك ، ولم تسم على الآخر متفق عليه .
وعنه : يعفى عنها في السهو ، لما ذكرنا في الزكاة .
وعنه : يعفى عن السهو في إرسال السهم ، لأنه آلته فهو كسكينة ، ولا يعفى عنه في إرسال الكلب ، للحديث والأول المذهب .
الشرط الثالث : إرسال الجارح ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك ، وسميت فكل و لأن إرسالها أقيم مقام الذبح ، فاعتبر وجوده ، فإن استرسل الكلب بنفسه ، لم يبح صيده فإن سمى صاحبه وزجره ، فزاد في عدوه ، حل صيده ، لأنه أثر فيه ، فصار كإرساله ، وإن لم يزد في عدوه لم يبح ، لأنه لم يؤثر .
الشرط الرابع : أن يكون الجارح معلماً ، لقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . ولما روى أبو ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما صدت بكلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل ، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل متفق عليه .
ويعتبر في تعليمه إن كان سبعاً ثلاثة أشياء ، أن يسترسل إذا أرسل ، وأن ينزجر إذا زجر ، ولا يأكل إذا أمسك .
وهل يعتبر تكرار ذلك منه ، فيه وجهان :
أحدهما : يعتبر ثلاثاً ، ذكره القاضي ، لأن ترك الأكل في المرة الواحدة يحتمل أنه لشبع أو عارض ، فيعتبر تكراره ، ليعلم أنه لتعلمه .
والثاني : لا يعتبر ، ذكره أبو جعفر الشريف ، و أبو الخطاب ، لأنه تعلم صنعة ، فلم يعتبر تكراره كسائر الصنائع ، وأما الطائر كالبازي والصقر ، فيعتبر أن يسترسل إذا أرسله ، ويجيبه إذا دعاه ، ولا يعتبر ترك الأكل ، لأن تعليمه بأكله ، وكل حيوان يقبل التعليم يحل صيده ، لعموم الآية إلا الكلب الأسود البهيم ، فإنه لا يحل اقتناؤه ، ولا صيده ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله ، وقال : إنه شيطان وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه ، فوجب أن لا يحل صيده .
الشرط الخامس : أن يرسله على صيد ، فإن أرسله على غير شيء ، أو على إنسان ، أو حجر أو بهيمة ، فأصاب صيداً ، لم يحل ، لأنه لم يرسله على صيد ، فأشبه ما استرسل بنفسه ، ويحتمل أن يحل كما لو أرسله على صيد ، فصاد غيره ، وإن أرسله على صيد ، فأصاب غيره ، أو قتل جماعة ، حلت للخبر ، ولأنه أرسله على صيد ، فحل ما صاده ، كما لو أرسله على كبار فتفرقت عن صغار ، فصادها . ولو سمع حساً أو رأى سواداً ، فظنه صيداً ، فأرسل عليه كلبه أو سهمه ، فأصاب صيداً ، حل ، لأنه قصد الصيد ، وإن لم يظنه صيداً لم يبح صيده ، لأن صحة قصده تبنى على ظنه ، سواء كان الذي رآه صيداً ، أو لم يكن .
الشرط السادس : أن يجرح الصيد ، فإن قتله بخنقه ، أو صدمته ، لأم يحل لأنه قتله بغير جرح ، أشبه ما لو رمى بالبندق والحجر .
وقال ابن حامد : يباح لعموم قوله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم وعموم الخبر.
الشرط السابع : أن يختص السابع ، وهو ترك الأكل من الصيد ، وفيه روايتان :
إحداهما : هو شرط ، فمتى أكل الجارح من الصيد ، لم يحل ، لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فإذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك ، وإن قتل إلا أن يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه متفق عليه .
والثانية : لا يحرم ، لما روى أبو ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل رواه أبو داود . والأولى أولى ، لأن حديثنا أصح ، ولا يحرم المتقدم من صيوده ، لأنها وجدت مع اجتماع شروط التعلم فيه ، فلا تحريم بالاحتمال ، وإن شرب من دم الحيوان ، لم يحرم رواية واحدة ، لأنه لم يأكل ، ولأن الدم لا ينفع الصائد ، فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكاً على صائده .
فصل :
وما أصاب فم الكلب ، وجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب ، كغيره من المحال ويحتمل أن لا يجب ، لقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يأمر بالغسل ، ولأنه يشق إيجاب غسله فسقط .
فصل :
ويباح الصيد بغير الحيوان ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة : ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ولأن أبا قتادة شد على حمار وحشي ، فقتله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هي طعمة أطعمكموها الله متفق عليهما . فما كان محدداً كالسهم والسيف ، حل ما قتل به إذا اجتمعت الشروط ، كالمعلم من الجوارح ، وما لم يكن محدداً كالشباك ، والأشراك والعصي والحجارة والبندق ، فما أدرك ذكاته ، حل ، وما لم يدرك ذكاته لم يحل ، كغير المعلم ، لأنه لم يقتل بجروحه ، فيكون قتيله منخنقة أو موقوذة . ولو قتل المحدد الصيد بعرضه أو ثقله ، لم يبح لذلك ، ولما روى عدي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض ، فقال : ما خزق فكل ، وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل متفق عليه . ولو نصب المناجل لصيد وسمى ، فجرحت الصيد وقتلته ، أبيح لأنها آلة محددة فأشبهت السهم ، ولو وقع السهم على الأرض ثم وثب فقتل الصيد ، أو أعانته الريح ، ولولاها ما وصل ، حل لحديث أبي ثعلبة .
فصل :
إذا اجتمع في الصيد مبيح ومحرم ، مثل أن يقتله بمثقل ومحدد ، أو بسهم مسموم ، أو بسهم مسلم ، وبسهم مجوسي ، أو سهم غير مسمى عليه ، أو كلب مسلم وكلب مجوسي ، أو غير مسمى عليه ، أو غير معلم ، أو اشتركا في إرسال الجارحة عليه ، أو وجد مع كلبه كلباً لا يعرف مرسله ، أو لا يعرف حاله ، أو وجد مع سهمه سهماً كذلك ، لم يبح الصيد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإن وجدت معه غيره فلا تأكل ، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ولأن الأصل الحظر ، فإذا شككنا في المبيح رد إلى أصله . وإن علم أن كلبه أو سهمه القاتل دون الآخر ، مثل أن يجرح في المقتل ، والآخر في غيره ، أو يكون الآخر ، رد عليه الصيد ، أبيح لعدم الاشتباه ، وكذلك إن علم أن شريك كلبه ، أو سهمه مما يباح صيده ، حل لذلك . ولو خرج الصيد ، فوقع في ماء ، أو تردى تردياً يقتله ، لم يبح لذلك . وقد روى عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا رميت الصيد ، فوجدته بعد يوم أو يومين ، ليس به إلا أثر سهمك فكل ، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل متفق عليه .
فصل :
ولو صاد المسلم بكلب المجوسي ، حل ، وعنه : لا يحل ، لقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . والأول المذهب ، لأن هذا آلة فأشبه ما لو صاد بقوسه وسهمه . ولو صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح ، كما لو صاد بقوسه .
فصل :
وإن رمى صيداً ، أو أرسل كلبه عليه ، فغاب عنه ، ثم وجده ميتاً وسهمه فيه ، أو وجده مع كلبه ولا أثر به ، يحتمل أن يقتله غيره ، حل ، لحديث عدي ، وعنه : إن غاب نهاراً حل ، وإن غاب ليلاً ، لم يحل .
وعنه : إن غاب يسيراً أكله ، وإن غاب كثيراً ، لم يأكله ، لأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والأول أولى ، للخبر ، ولأنه قد وجد سبب إباحته يقيناً ، والمعارض مشكوك فيه ، فلا يزول عن اليقين بالشك . وإن شك في سهمه ، أو من قتل به ، أو وجد به أثر يحتمل أنه قتله ، أو وجد غريقاً ، لم يبح للخبر ، ولأنه شك في حله فوجب رده إلى أصله .
فصل :
إذا أدرك الصيد ، وفيه حياة غير مستقرة ، فتركه حتى مات ، حل لأن عقره قد ذبحه ، وكذلك إن لم يبق من الزمان ما يتمكن من ذبحه فيه ، وإن وجد فيه حياة مستقرة في زمن ، يمكن ذبحه فيه ، فلم يذبحه حتى مات ، لم يحل لأنه صار مقدوراً على ذبحه ، فلم يبح بغيره ، كغير الصيد ، فإن لم يكن معه ما يذكيه به ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يباح لذلك .
والثانية : يرسل عليه صائده حتى يقتله فيحل ، اختارها الخرقي . لأنه صيد قتله صائده قبل إمكان ذبحه ، فأشبه الذي قتله قبل إدراكه .
فصل :
إذا ضرب صيداً فأبان منه عضواً ، وبقيت فيه حياة مستقرة ، فالعضو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما أبين من حي فهو ميت رواه أبو داود . وإن قطعه نصفين أو قطع رأسه ، حل جميعه ، لأنه مات بضربته ، وإن قطع منه عضواً وبقي في سائره حياة غير مستقرة ، حل جميعه ، لأنها زكاة لبعضه فكانت ذكاة لجميعه ، كما لو أبان رأسه . وقد استحسن أبو عبد الله رضي الله عنه قول الحسن : لا بأس بالطريدة ، قال أبو عبد الله : الطريدة : الغزال ، يمر بالعسكر فيضربه القوم بأسيافهم ، فيأخذ كل واحد منهم قطعة . قال الحسن : ما زال الناس يفعلون ذلك في مغازيهم ، وعن أبي عبد الله رضي الله عنه : أنه لا يؤكل منه ما أبين في حياته ، يؤكل سائره ، للخبر . وإن بقي معلقاً بجلده ، حل رواية واحدة ، لأنه متصل بجملته ، أشبه سائر أعضائه .
فصل :
وإذا أثبت الصيد برميته أو شبكته أو غيرهما من آلات الصيد ، ملكه ، فإن انفلت من الشبكة زال ملكه عنه ، لأنه لم يستقر ، فزال بانفلاته ، فإن أخذ الشبكة معه ، فصاده آخر رد الشبكة على صاحبها ، وملك الصيد إلا أن يكون غير ممتنع بها ، فيكون لصاحبها ، لأنا التي أمسكته . ومن أمسك صيداً ، واستقرت يده عليه ثم انفلت لم يزل ملكه عنه لأن اليد استقرت عليه ، فلم تزل عنه بانفلاته كبهيمة ، فإن أرسله ، وقال : قد أعتقتك ، لم يزل ملكه عنه ، لأنه ليس بمحمل للعتق .
فصل :
وإن أثبت الصيد بسهمه ، فرماه آخر فقتله ، حرم ، لأنه صار مقدوراً عليه ، فلم يبح بغير الذبح ، وعلى الثاني قيمته مجروحاً لصاحبه ، لأنه أتلفه عليه إلا أن يكون سهم الثاني ذبحه فيحل ، لأنه ذكاه ، فإن ادعى كل واحد منهما أنه الأول حلف كل واحد منهما ، وبرئ من الضمان ، لأن الأصل براءة ذمته ، وإن اتفقا على السابق ، وأنكر الثاني كون الأول أثبته ، فالقول قوله ، لأن الأصل بقاء امتناعه ، ويحرم على الأول اعترافه بتحريمه ، ويحل للثاني . وإن رمياه فوجداه مثبتاً ، لم يعلما من أثبته منهما ، فهو بينهما ، وإن وجداه ميتاً ، ولم يعلما هل أثبته الأول أم لا ؟ حل ، لأن الأصل بقاء امتناعه والله سبحانه وتعالى أعلم .
باب ما يحل ويحرم
الحيوان ثلاثة أقسام : أهلي ، فيباح منه بهيمة الأنعام ، لقول الله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام والخيل كلها ، لما روى جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل . وقالت أسماء : نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكلناه ، ونحن بالمدينة . متفق عليهما والدجاج لما روى أبو موسى ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج . متفق عليه . والإوز والبط ، لأنها طيبات ، فتدخل في قوله تعالى: أحل لكم الطيبات وتحرم الحمر ، لحديث جابر . والبغال ، لأنها متولدة منها ، والمتولد بين الوحشي والأهلي كذلك ، وما تولد بين حلال وحرام ، كالسمع و العسبار كذلك . وتحرم الكلاب والسنانير ، لأنها من السباع ، وتأكل الخبائث .
فصل :
القسم الثاني : الوحشي ، فيباح منه الحمر ، لحديث أبي قتادة . والأرانب ، لما روى أنس أنه أخذ أرنباً ، فذبحها أبو طلحة ، وبعث بوركها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله . متفق عليه . والضباع لما روى جابر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع ، فقال : هو صيد ويجعل فيه كبش إذ صادفه المحرم . رواه أبو داود و الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
والضباب ، لما روى ابن عباس قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم بضب ، فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه فاحتزه خالد فأكله ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه متفق عليه .
ويباح البقر والظباء والنعام والأوبار واليرابيع ، لأنها مستطابة ، قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم ، وتباح الزرافة ، نص عليه ، لأنها من الطيبات المستحسنات .
وعنه في اليربوع : أنه محرم ، لأنه يشبه الفأرة ، وفي الثعلب روايتان :
إحداهما : يحرم ، لأنه من السباع .
والثانية : يحل ، لأنه يفدى من الإحرام ، وفي سنور البر روايتان لذلك .
ويباح من الطير الحمام وأنواعه ، والعصافير والقنابر والحجل والقطا ، والحبارى والكركي ، والكروان ، وغراب الزرع ، والزاغ وأشباهها مما يلتقط الحب ، أو يفدى من الإحرام ، وقد روى سفينة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم لحم حبارى . رواه أبو داود .
وفي الهدهد والصرد روايتان :
إحداهما : يباح ، لأنها تشبه المباح .
والثانية : يحرم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الهدهد والصرد رواه أبو داود و ابن ماجه . وكل طير لا يصيد بمخلبه ، ولا يأكل الجيف ، ولا يستخبث ، فهو حلال .
فصل :
يحرم الخنزير ، لنص الله تعالى على تحريمه ، وكل ذي ناب من السباع ، كالكلب والأسد والفهد ، والنمر والذئب ، وابن آوى والنمس ، وابن عرس ، والفيل والقرد ، لما روى أبو ثعلبة (( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع )) . متفق عليه . وتحريم سباع الطير ، كالعقاب والبازي والصقر والشاهين ، والحدأة والبومة ، لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال:((نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير)) رواه مسلم و أبو داود .
ويحرم ما يأكل الجيف ، كالنسر والرخم ، وغراب البين ، والأبقع والعقعق ، لأنها مستخبثة لأكلها الخبائث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ذكر منها الحدأة والغراب . وما أبيح قتله ، لم يبح أكله .
وتحرم الخبائث كلها ، كالفأر والجراذين والأوزاغ والعظا والورل ، والقنفذ والحرباء والصراصير والجعلان والخنافس والحيات والعقارب والدود والوطواط والخفاش والزنابير واليعاسيب والذباب والبق والبراغيث والقمل وأشباهها ، لقول الله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } وقد روى أبو هريرة أن القنفذ ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هو خبيثة من الخبائث رواه أبو داود . وما لم يذكره يرد إلى أقرب الأشياء ، شبهاً به ، فيلحق به بالإباحة والتحريم ، لأن القياس حجة ، وما لم يكن شبيهاً بشيء منها فهو حلال ، لقول الله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } خرج من عمومها ما قام الدليل على تحريمه ، والباقي يبقى على الأصل .
فصل :
القسم الثالث : حيوان البحر يباح جميعه ، لقول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } إلا الضفدع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلها ، ولأنها مستخبثة . وكره أحمد رضي الله عنه عن التمساح ، لأنه ذو ناب ، فيحتمل أنه محرم ، لأنه سبع ويحتمل أنه مباح للآية . وقال ابن حامد : يحرم الكوسج ، لأنه ذو ناب وقال أبو علي النجاد : لا يؤكل من البحري ما يحرم نظيره في البر ، ككلب الماء وخنزيره وإنسانه ، والأول أولى . وقد قال أحمد رضي الله عنه في كلب الماء : يذبحه ، وركب الحسن بن علي على سرج عليه جلد كلب ماء .
فصل :
وكره أحمد لحوم الجلالة وألبانها .
قال القاضي : هي أكثر علفها النجاسة ، فإن كان أكثره الطاهر فليست جلالة ، قال : ولحمها ولبنها حرام . وفي بيضها روايتان .
وقال أبي موسى عن أحمد رواية أخرى إن أكلها غير محرم ، لعموم قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } . والأولى ظاهر المذهب ، لما روى ابن عمر قال : (( نهى رسول الله عن أكل الجلالة وألبانها )). رواه أبو داود . وعن عبد الله بن عمر بن العاص قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها ، ولا يشرب لبنها ، ولا يحمل عليها إلا الأدم ، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة )) . رواه الخلال ويزول تحريمها، وكراهتها بحبسها عن أكل النجاسات ويحبس البعير أربعين ليلة للخبر والبقرة في معناه ، ويحبس الطائر ثلاثاً لأن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً .
وعن أحمد : أن الجميع يحبس ثلاثا لخبر ابن عمر .
فصل :
وما سقي من الزروع والثمار بالنجاسات أو سمد بها ، نجس ، كالجلالة ، لأنه يتغذى بالنجاسات ، وتترقى فيه أجزاؤها ، فأشبه الجلالة ، ويطهر بسقيها بالطهارات ، كالجلالة إذا أكلت الطهارات .
فصل :
وتحرم الميتة والدم ، للآية ، وتحرم النجاسات كلها ، لأنها من الخبائث ، وتحرم السموم المضرة ، كما يحرم عليه إتلاف شيء من جسده .
فصل :
فإن اضطر إلى شيء مما حرم عليه ، أبيح تناوله ، لقول الله تعالى : { إلا ما اضطررتم إليه } وفي قدر ما يباح روايتان :
إحداهما : قدر ما يسد رمقه ، اختارها الخرقي ، لأنه يخرج بأكله عن كونه مضطراً ، فتزول الإباحة بزواله .
والثانية : له الشبع ، لأنه طعام جاز له سد الرمق منه ، فجاز له الشبع ، كالحلال .
وهل يجب عليه أكل ما يسد رمقه ، فيه وجهان :
أحدهما : يجب لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } .
والثاني : لا يجب ، لأنه تجنب ما حرم عليه . وقد روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملك الروم حبسه ، ومعه لحم خنزير مشوي ، وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام ، فأبى أن يأكله ، وقال : لقد أحله الله لي ، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ، ومن اضطر إلى طعام من ليس به مثل ضرورته ، لزمه بذله له ، لأن في منعه منه إعانة على قتله ، وإن بذله بثمن مثله لمن يقدر على ثمنه ، لزمه أخذه ، ولم تحل له الميتة ، لأنه غير مضطر، وإن امتنع من بذله إلا بأكثر من ثمن مثله ، فاشتراه به ، لم يلزمه إلا ثمن مثله ، لأنه اضطر إلى بذل الزيادة بغير حق ، فلم يلزمه كالمكره ، وإن منعه منه بالكلية ، فله قتاله عليه ، لأنه صار أحق به من مالكه وإن وجد المضطر ميتة ، وطعاماً لغائب ، فطابت نفسه بأكل الميتة ، فهي أولى ، لأن إباحتها ثبتت بالنص ، فكانت أولى ، مما ثبت بالاجتهاد ، وإن لم تطب نفسه بأكلها أكل طعام الغير ، لأنه مضطر إليه .
وإن وجد المحرم ميتة وصيداً فكذلك ، لأن المحرم إذا ذبح الصيد صار ميتة ، ولزمه الجزاء، فيجتمع فيه تحريمان ، ومن لم يجد إلا آدمياً معصوماً ، لم يبح له قتله ، لأنه لا يحل وقاية نفسه بأخيه ، ولا يحل له قطع شيء من نفسه ليأكله ، لأنه يتلفه يقيناً ، ليحصل ما هو موهوم . وإن وجد آدمياً مباح الدم ، فله قتله وأكله ، لأن إتلافه مباح ، وإن وجد ميتاً معصوماً ، فالأولى إباحته ، لدخوله في عموم الآية ، ولأن فيه حفظ الحي ، فأشبه غير المعصوم ، اختار هذا أبو الخطاب .
وقال غيره من أصحابنا : لا يباح ، لأن كسر عظم الميت ، ككسر عظم الحي ، وإن وجد المضطر خمراً ، لم يبح شربها ، لأنها لا تدفع جوعاً ولا عطشاً ، ولا فيها شفاء ، لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وإن وجد ماء ممزوجاً بخمر ، يدفع العطش ، فله الشرب منه ، لأنه يدفع به الهلاك .
وإن غص بلقمة ، ولم يجد مائعاً يدفعها به ، وخاف الهلاك ، فله دفعه بها لأنه يحصل بها .
فصل :
ومن مر بثمرة لا حائط لها ، ولا ناطر ، ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : أنه يأتي ولا يحمل ، لما روي عن أبي زينب ، قال : سافرت مع أنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي بزرة ، فكانوا يمرون بالثمار ، فيأكلون في أفواههم . وقال عمر : يأكل ولا يتخذ خبنة .
والثانية : يباح ما سقط ، ولا يرمي بحجر ولا يضرب ، لما روى رافع أن رسول الله (ص) قال : لا ترم وكل ما وقع حديث صحيح .
والثالثة : له الأكل إن كان جائعاً ، ولا يأكل إن لم يكن جائعاً ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (ص) أنه سئل عن الثمر المعلق ، فقال : ما أصاب منه ذي الحاجة ، غير متخذ خبنة ، فلا شيء عليه ، ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه ، والعقوبة هذا حديث حسن وفي الزرع روايتان :
إحداهما : هو كالثمرة ، لأن العادة جارية بأكل الفريك و الباقلاء ونحوهما .
والثانية : لا يباح ، لأن الفاكهة خلقت للأكل رطبة والنفوس إليها أميل بخلاف الزرع ، وما كان محوطاً أو له ناطر ، فليس له الدخول بحال ، لقول ابن عباس : إذا كان عليها حائط ، فهو حريم ، فلا تأكل ، وإن لم يكن حائط فلا بأس .
وفي لبن الماشية روايتان :
إحداهما : هو كالثمرة ، لما روى الحسن عن سمرة أن النبي (ص) قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فيها صاحبها ، فليستأذنه فإن أذن ، فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً ، فإن لم يجب ، فليحتلب وليشرب ، ولا يحمل حديث صحيح .
والثانية : لا يحل له الحلب ، لقول رسول الله (ص) : لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه متفق عليه .