المجلد الأول - كتاب الجنائز

يستحب الإكثار من ذكر الموت ، والاستعداد له ، فإذا مرض استحب عيادته ، لما روى البراء قال ‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة ، وعيادة المريض ‏.‏متفق عليه ‏.‏ إذا دخل عليه سأله عن حاله ، و رقاه ببعض رقى النبي صلى الله عليه وسلم ، و يحثه على التوبة ، و يرغبه في الوصية ، ويذكر له ما روى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه ، إلا ووصيته مكتوبة عنده متفق عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله ، وأعلمهم بسياسته ، وأتقاهم لربه ‏.‏ وإذا رآه منزولاً به تعاهد بل حلقه فيقطر فيه ماء أو شراباً ، ويندي شفتيه بقطنة ، ويلقنه قول ‏:‏ لا إله إلا الله مرة ، لقول رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏:‏ لقنوا موتاكم لا إله إلا الله رواه مسلم ‏.‏ ويكون ذلك في لطف ومداراة ، ولا يكرر عليه فيضجره ، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه ، لتكون آخر كلامه ، لقول رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏:‏ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة رواه أبو داود ‏.‏ ويقرأ عنده سورة يس ليخفف عنه ، لما روى معقل بن يسار أن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال ‏:‏ اقرؤوا يس على موتاكم رواه أبو داود ‏.‏ ويوجهه إلى القبلة ، كتوجيهه إلى الصلاة ، لأن حذيفة رضي الله عنه قال ‏:‏ وجهوني ، ولأن خير المجالس ما استقبل القبلة ‏.‏

فصل ‏:‏

فإذا مات أغمض عينيه ، لما روى شداد بن أوس قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر ، فإن البصر يتبع الروح من المسند ‏.‏ ولأنه إذا لم يغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره ، ويشد لحيته بعصابة عريضة ، يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه ، لئلا ينفتح فوه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل ‏.‏ ويقول الذي يغمضه ‏:‏ بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلين مفاصله ، لأنه أسهل في الغسل ، ولئلا تبقى جافة فلا يمكن تكفينه ، ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد ، ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه ندوة الأرض فتغيره ، ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه ، وإن لم يكن فطين مبلول ‏.‏ ويسجى بثوب ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجى ببردة حبرة ، متفق عليه ‏.‏ و يسارع في تجهيزه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله رواه أبو داود ‏.‏ وإن شك في موته انتظر به حتى يتيقن موته ، بانخساف صدغيه ، وميل أنفه وانفصال كفيه ، واسترخاء رجليه ، ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة ، ما لم يخف عليه ، أو يشق على الناس ‏.‏ ويسارع في قضاء دينه ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه وهذا حديث حسن ‏.‏ فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة فسأل ‏:‏ هل عليه دين ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم ، ديناران فلم يصل عليه ‏.‏ فقال أبو قتادة ‏:‏ هما علي يا رسول الله فصلى عليه ‏.‏ رواه النسائي ‏.‏ وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له ‏.‏


باب غسل الميت



وهو فرض على الكفاية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقة ‏:‏ اغسلوه بماء وسدر متفق عليه ‏.‏ وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك ‏.‏ وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل ، ولأنه حق للميت فقد وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه ‏.‏ فإن لم يكن وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه ، ثم جده ، ثم ابنه وإن نزل ، ثم الأقرب فالأقرب من عصابته ، ثم الرجال من ذوي الأرحام ، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه ‏.‏ وأولاهم بغسل المرأة أمها ، ثم جدتها ، ثم ابنتها ثم الأقرب فالأقرب ، ثم الأجنبيات ‏.‏

ويجوز للمرأة غسل زوجها بلا خلاف ، لحديث أبي بكر ‏.‏ ولقول عائشة ‏:‏ لو استقبلنا ما أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وفي غسل الرجل امرأته روايتان ‏:‏

أشهرهما ‏:‏ يباح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ‏:‏ لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك رواه ابن ماجه ‏.‏ وغسل علي فاطمة رضي الله عنهما ، فلم ينكره منكر ، فكان إجماعاً ، ولأنها أحد الزوجين فأبيح للآخر غسله كالزوج ‏.‏

والأخرى ‏:‏ لا يباح ، لأنهما فرقة أباحت أختها وأربعاً سواها ، فحرمت اللمس ، والنظر كالطلاق ‏.‏ وأم الولد كالزوجة في هذا ، لأنها محل استمتاعه ، فإن طلق الرجل زوجته فماتت في العدة ، وكان الطلاق بائناً ، فهي كالأجنبية محرمة عليه ، وإن كانت رجعية ، وقلنا ‏:‏ إن الرجعية مباحة له فله غسلها وإلا فلا ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يصح غسل الكافر لمسلم ، لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة ، ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافراً وإن كان قريبه ، ولا يتولى دفنه ، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه‏.‏ قال أبو حفص العكبري ‏:‏ يجوز ذلك ، وحكاه قولاً لأحمد رضي الله عنه لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال ‏:‏ قال للنبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏:‏ إن عمك الشيخ الضال قد مات ‏.‏ قال ‏:‏ اذهب فواره رواه أبو داود و النسائي ‏.‏ ولنا أنه لا يصلي عليه فلم يكن له غسله كالأجنبي ، والخبر يدل على مواراته وله ذلك ‏:‏ لأنه يتغير بتركه ويتضرر ببقائه ‏.‏ قال أحمد رضي الله عنه - في مسلم مات والده النصراني - ‏:‏ فليركب دابته وليسر أمام الجنازة ، وإذا أراد أن يدفن رجع ، مثل قول عمر رضي الله عنه ‏.‏

ولا يجوز لرجل غسل امرأة غير من ذكرنا ، ولا لامرأة غسل رجل سوى زوجها وسيدها ، لأن أحدهما محرم على صاحبه في الحياة ، فلم يجز له غسله كحال الحياة ‏.‏ فإن مات رجل بين نساء ، أو امرأة بين رجال ، أو أنثى مشكل فإنه ييمم ، في أصح الروايتين ، لما روى واثلة قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجل أخرجه تمام في فوائده ‏.‏

وعنه ‏:‏ في الرجل تموت أخته فلم يجد نساء ، يغسلها ، وعليها ثياب ويصب عليها الماء صباً ، والأول أولى ، لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة ، بل ربما كثرت ، فكان التيمم أولى كما لو وجد ماء لا يطهر النجاسة ‏.‏ ويجوز للمرأة غسل صبي لم يبلغ سبع سنين نص عليه ، لأن عورته ليست عورة ، وتوقف عن غسل الرجل الجارية ، قال الخلال ‏:‏ القياس النسوية بين الغلام والجارية ، لولا أن التابعين فرقوا بينهما ، وسوى أبو الخطاب بينهما في الجواز ، جرياً على موجب القياس ‏.‏

فصل ‏:‏

وينبغي أن يكون الغاسل أميناً ، لما روي عن ابن عمر أنه قال ‏:‏ لا يغسل موتاكم إلا المأمونون ‏.‏ ولأن غير الأمين لا يؤمن أن لا يستوفي الغسل ، ويذيع ما يرى من قبيح ، وعليه ستر ما يرى من قبيح ، لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ من غسل ميتاً ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه رواه ابن ماجه بمعناه ‏.‏ وإن رأى أمارات الخير استحب إظهارها ، ليترحم عليه ، ويرغب في مثل طريقته ‏.‏ وإن كان مغموصاً عليه في السنة والدين ،مشهوراً بذلك ، فلا بأس بإظهار الشر عنه ، لتحذر طريقته ، ويستحب ستر الميت عن العيون ، ولا يحضره إلا من يعين في أمره ، لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته ، وربما بدت عورته فشاهدها ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجرد الميت عند تغسيله ، ويستر ما بين سرته وركبتيه ، وروى ذلك الأثرم عنه ، واختاره الخرقي وأبو الخطاب ، لأن ذلك أمكن في تغسيله ، وأبلغ في تطهيره ، وأشبه بغسل الحي ، وأصون له عن أن يتنجس بالثوب إذا خلع عنه ، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك ‏.‏ بدليل أنهم قالوا ‏:‏ لا ندري أنجرد النبي صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا ‏؟‏ رواه أبو داود ‏.‏ والظاهر أن النبي أمرهم به وأقرهم عليه ‏.‏

وروى المروذي ، وعنه ‏:‏ أنه الأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه ، ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه ، لأن النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ غسل في قميصه ‏.‏ ولأنه أستر للميت ‏.‏ ويستحب أن يوضع على سرير غسله ، متوجهاً ، منحدراً نحو رجليه ، لينصب ماء الغسل منه ، ولا يستنقع تحته فيفسده ، ويستحب أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية ، إناء كبير فيه ماء ، بعيداً عن الميت ، وإناء وسطاً ، وإناء يغترف به من الوسط ، ويصب على الميت ، فإن فسد الماء الذي كان في الوسط كان الآخر سليماً ‏؟‏ ويكون بقربه مجمر فيه بخور لتخفى رائحة ما يخرج منه ‏.‏

فصل ‏:‏

والفرض فيه ثلاثة أشياء ‏:‏ النية ‏.‏ لأنها طهارة تعبدية ، أشبهت غسل الجنابة ‏.‏ وتعميم البدن بالغسل ، لأنه غسل فوجب فيه ذلك ، كغسل الجنابة وتطهيره من النجاسة ‏.‏ وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة ‏.‏ ويسن فيه ثمانية أشياء ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يبدأ فيحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس ، ويمر يده على بطنه فيعصره عصراً دقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل ، أو بعد التكفين فيفسده ، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً ، ليذهب بما يخرج ، فلا تظهر رائحته ‏.‏

والثاني ‏:‏ أن يلف على يده خرقة فينجيه بها ولا يحل له مس عورته ، لأن رؤيتها محرمة فلمسها أولى ، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة ، وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين ، ينجيه بإحداهما ثم يلقيها ، ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن ، لما روي أن علياً رضي الله عنه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن يبدأ بعد إنجائه فيوضئه ، لما روت أم عطية أنها قالت ‏:‏ لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها متفق عليه ‏.‏ ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت ، ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء ، لأنه لا يمكنه إخراجه ، فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه ، لكن يلف على يده خرقة مبلولة ، ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه و أنفه ، ويتبع ما تحت أظافره - إن لم يكن قلمها - بعود لين كالصفصاف ، فيزيله ويغسله ، كما يفعل الحي في وضوءه وغسله ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن يغسله بسدر مع الماء ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اغسلوه بماء وسدر وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته ‏:‏ اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور متفق عليه ‏.‏ وظاهر كلام أحمد أن السدر يجعل في جميع الغسلات لظاهر الخبر ، وذكره الخرقي ‏.‏

وقال القاضي و أبو الخطاب ‏:‏ يغسل الأولى بماء وسدر ، ثم يغسل الثانية بماء لا سدر فيه ، كي لا يسلب طهوريته ، ولا يجعل فيه سدر صحيح ‏.‏ ولا فائدة ترك يسير لا يؤثر فإن أعوز السدر جعل مكانهما يقوم مقامه كالخطمي والصابون ونحوه مما ينقي ‏.‏

الخامس ‏:‏ أن يضرب السدر ، ثم يبدأ فيغسل برغوته رأسه ولحيته ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة ‏.‏

السادس ‏:‏ أن يبدأ بشقه الأيمن ، لقوله عليه السلام ‏:‏ ابدأن بميامنها فيغسل يده اليمنى ، وصفحة عنقه ، وشق صدره ، وجنبه ، وفخذه ، وساقه ، وقدمه ، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه ، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك ‏.‏

السابع ‏:‏ أن يغسله وتراً للخبر ، فيغسله ثلاثاً فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس ، أو إلى سبع لا يزيد عليها ، لأنه آخر ما انتهى إليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويمر في كل مرة يده ، ولا يوضئه إلا في المرة الأولى ، إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه ، لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة ، ولو غسله ثلاثاً ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس ، فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع ، فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل ، ويسد مخرج النجاسة بالقطن ، فإن لم يستمسك فبالطين الحر ، ويغسل موضع النجاسة ، ويوضأ لأن أمر النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ بالغسل انتهى إلى سبع ‏.‏ واختار أبو الخطاب أنه لا يعاد إلى الغسل لخروج الحدث ، لأن الجنب إذا أحدث بعد غسله لم يعده ، ويوضأ وضوءه للصلاة ‏.‏

الثامن ‏:‏ أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ليشده ويبرده ويطيبه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ، ويسدل من ورائها ، لما روت أم عطية قالت ‏:‏ ضفرنا شعرها ثلاثة قرون ، وألقيناه من خلفها ، تعني ‏:‏ ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ متفق عليه‏.‏

فصل ‏:‏

وكره أحمد رضي الله عنه تسريح الميت ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت ‏:‏ علام تنصون ميتكم ‏؟‏ يعني ‏:‏ لا تسرحوا رأسه بالمشط ‏.‏ ولأنه يقطع شعره وينتفه ‏.‏ والماء البارد في الغسل أفضل من الحار ، لأن البارد يشده ، والحار يرخيه ، إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به ، أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل الأشنان ، إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب تقليم أظافر الميت ، وقص شاربه ، لأن ذلك سنة في حياته ، ويترك ذلك معه في أكفانه ، لأنه من أجزائه ، وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه ، ليجمع بين أجزائه ، وفي أخذ عانته ، وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يستحب إزالتها بنورة أو حلق ، لأن سعيد بن العاص جز عانة ميت ، ولأنه من الفطرة ، فأشبه تقليم الظافر ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يستحب ، لأن فيه لمس العورة ، وربما احتاج إلى نظرها ، وذلك محرم فلا يفعل لأجل مندوب ‏.‏

فصل ‏:‏

والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه ، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ والسقط يصلى عليه رواه أبو داود ، ولأنه ميت مسلم أشبه المستهل ، ودليل أنه ميت ‏:‏ ما روى ابن مسعود عن النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ أنه قال ‏:‏ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً ، ثم علقة مثل ذلك ، ثم مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح متفق عليه ‏.‏ ومن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت ، ويستحب تسميته ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم ‏.‏ فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسماً يصلح لهما كسعادة وسلامة ، ومن له دون أربع أشهر لا يغسل ، ولا يصلى عليه لعدم ما ذكرناه فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل رواية واحدة ‏.‏ وفي الصلاة عليه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يصلى عليه ، اختارها الخلال لما روى عقبة أن النبي‏(‏ص‏)‏ خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يصلى عليه ، وهي أصح ، لما روى جابر أن النبي‏(‏ص‏)‏ أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ، ولم يغسلوا ، ولم يصلى عليهم ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد ، بدليل أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين ، والخيرة في تكفين الشهداء إلى الوالي ، إن أحب زمله في ثيابه ونزع ما عليه من جلد أو سلاح ‏.‏ لما روى ابن عباس أن رسول ‏(‏ص‏)‏ أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد ، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ وإن أحب نزع ثيابه وكفنه بغيرها ، لأن صفية أرسلت إلى النبي ‏(‏ص‏)‏ ثوبين ليكفن حمزة فيهما ، فكفنه رسول الله ‏(‏ص‏)‏ في أحدهما ، وكفن في الآخر رجلاً آخر ‏.‏ قال يعقوب بن شيبة ‏:‏ هو صالح الإسناد ، وإن حمل وبه رمق ، أو أكل أو طالت حياته ، غسل وصلي عليه ، لأن سعد بن معاذ غسله النبي‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فصلى عليه وكان شهيداً ، وإن قتل وهو جنب غسل ، لأن النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال يوم أحد ‏:‏ ما بال حنظلة بن الراهب ‏؟‏ إني رأيت الملائكة تغسله قالوا ‏:‏ إنه سمع الهائعة ، فخرج ولم يغتسل ‏.‏ رواه الطيالسي ‏.‏ وإن سقط من دابته ، أو تردى من شاهق ، أو وجد ميتاً لا أثر به ، غسل وصلي عليه ، لأنه ليس بقتيل الكفار ، والذي لا أثر به يحتمل أنه مات حتف أنفه ، فلا يسقط الغسل الواجب بالشك ‏.‏

ومن عاد عليه سلاح فقتله فهو كقتيل الكفار ، لأن عامر بن الأكوع عاد عليه سيفه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ يغسل ويصلى عليه ، لأنه ليس بقتيل الكفار ، ومن قتل من أهل العدل في المعترك فحكمه حكم قتيل المشركين ‏.‏

وأما أهل البغي فقال الخرقي ، يغسلون ويصلى عليهم ، لأنهم ليس لهم حكم الشهداء ‏.‏

وأما المقتول ظلماً كقتيل اللصوص ، والمقتول دون ماله ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يغسل ويصلى عليه ، لأن ابن الزبير غسل وصلي عليه ، لأنه ليس بشهيد المعترك أشبه المبطون ‏.‏

والثانية ، لا يغسل ، لأنه قتيل شهيد أشبه شهيد المعترك ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن تعذر غسله لقلة الماء أو خيف تقطعه به ، كالمجزوم والمحترق ، يمم لأنها طهارة على البدن ، فيدخلها التيمم عند العجز عن استعمال الماء كالجنابة ، وإن تعذر غسل بعضه يمم ، لما لم يصبه الماء ، وإن أمكن صب الماء عليه ، وخيف من عركه ، صب عليه الماء صباً ولا يعرك ‏.‏

ومن مات في بئر ذات نفس أخرج ، فإن لم يمكن إلا بمثله ، وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضاً ، لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المثلة ، وإن لم يحتج إليها طمت عليه وكانت قبره ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ قال ‏:‏ من غسل ميتاً فليغتسل رواه الطيالسي و أبو داود ‏.‏ ولا يجب ذلك لأن الميت طاهر ، والخبر محمول على الاستحباب والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة ، وكذلك قال أحمد ‏:‏ فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه ، كي لا يبل أكفانه ‏.‏


باب الكفن


يجب كفن الميت في ماله ، مقدماً على الدين والوصية ‏.‏ والإرث ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته ‏:‏ كفنوه في ثوبيه متفق عليه ‏.‏ ولأن كسوة المفلس الحي تقدم على دينه ، فكذلك كفنه فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه كسوته في حياته ، فإن لم يكن ففي بيت المال ، وليس على الرجل كفن زوجته ، لأنها صارت أجنبية لا يحل الاستمتاع منها ، فلم يجب عليه كسوتها ‏.‏

فصل ‏:‏

وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ لا يجزئ أقل من ثلاثة ، لأنه لو أجزأ واحد لم يجزئ أكثر منه ، لأنه يكون إسرافاً و لا يصح ، لأن العورة المغلظة يسترها ثوب واحد ، فالميت أولى ، وما ذكره لا يلزمه ، فإنه يجوز التكفين بالحسن وإن أجزأ دونه ‏.‏ ويستحب تحسين الكفن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه رواه مسلم ‏.‏ ويكون جديداً أو غسيلاً إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته ، لأن أبا بكر رضي الله عنه قال ‏:‏ كفنوني في ثوبي هذين ، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت ، والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض ، لقول عائشة رضي الله عنها ‏:‏ كفن رسول الله ‏(‏ ص ‏)‏ في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي ، وهو لا يلبس المخيط فيها ، فكذلك حال موته ‏.‏

والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها ، فيبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها، لأن هذه عادة الحي ، ثم تبسط الثانية فوقها ، ثم الثالثة فوقهما ، ويذر الحنوط والكافور فيما بينهن ، ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً ، ليكون أمكن لإدراجه فيها ، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه ، ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن ، ويجعل من بين أليتيه برفق ، ويكثر ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه ، ويشد فوقه خرفة مشقوقة الطرف ، كالتبان تأخذ أليتيه ومثانته ، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده ، ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده ، تشريفاً لهذه الأعضاء التي خصت بالسجود ، ويطيب رأسه ولحيته ، لأن الحي يتطيب هكذا ‏.‏ وإن طيب جميع بدنه كان حسناً ، ولا يترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط ، لأن الصديق رضي الله عنه قال ‏:‏ لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً ‏.‏ ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن، ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك ، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه ، إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها ، وإذا وضع في القبر حلها ‏.‏ ولا يخرق الكفن ، لأن تخريقه يفسده ‏.‏ ولا يجب الطيب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ، ولأنه لا يجب على الحي ، فكذلك على الميت ‏.‏ ولا يزاد الكفن على ثلاثة أثواب لأنه إسراف لم يرد الشرع به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه كفنه فيه متفق على معناه ‏.‏ ويجعل المئزر مما يلي جلده ، ولا يزر عليه القميص ، فإن تشاح الورثة في الكفن ، جعل ثلاث لفائف على حسب ما كان يلبس في حياته ، وإن قال أحدهم ‏:‏ يكفن من ماله ، وقال الآخر ‏:‏ من مال السبيل ، كفن من ماله لئلا يتعير بذلك ‏.‏ ويستحب تجمير الكفن ثلاثاً ، لأن جابراً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً ‏.‏

فصل ‏:‏

وتكفن المرأة في خمسة أثواب ، مئزر تؤزر به ، وقميص تلبسه بعده ، ثم تخمر بمقنعة ، ثم تلف بلفافتين ، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت ‏:‏ كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها ، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقي، ثم الدرع ، ثم الخمار ، ثم الملحفة ، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر ‏.‏ ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته ، فكذلك في موتها ، وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسه في مماتها ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن لم يجد إلا ثوباً لا يستر جميعه ، غطي رأسه ، وترك على رجليه حشيش ، لما روى خباب أن مصعب ابن عمير ، قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة ، إذا غطي رأسه ، بدت رجلاه ، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ غطوا بها رأسه ، واجعلوا على رجليه الإذخر متفق عليه ‏.‏ فإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته ، وغطي سائره بحشيش أو ورق ، فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد ، لما روى أنس قال ‏:‏ كثرت القتلى وقلت الأكفان يوم أحد ، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ، ثم يدفنوا في قبر واحد ‏.‏ وهو حديث حسن ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه ، لم يعد إلى الغسل وحمل ، لأن في إعادته مشقة ، ولا يؤمن مثله ثانياً وثالثاً ‏.‏ وإن ظهر منه كثير فالظاهر عنه أنه يحمل أيضاً لمشقة إعادته ‏.‏

وعنه ‏:‏ أنه يعاد غسله ، ويطهر كفنه ، لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا مات المحرم ، لم يقرب طيباً ، ولا يخمر رأسه ، لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون ، لما روى ابن عباس قال ‏:‏ بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبيه ، ولا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً متفق عليه ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يغطى رأسه ولا رجلاه ، والظاهر عنه ، جواز تغطيتهما ، لأنه لم يذكرهما في حديث ابن عباس ، ولأن الحي لا يمنع من تغطيتهما ، فالميت أولى ، ولا يلبس قميصاً إن كان رجلاً ، لأنه ممنوع من لبس المخيط ، وإن كان امرأة جاز ذلك ، لأنها لا تمنع من لبس المخيط ، وجاز تخمير رأسها لأنها لا تمنع ذلك في حياتها ‏.‏ وإن ماتت معتدة بطل حكم عدتها ، وفعل بها ما يفعل بغيرها ، لأن اجتناب الطيب في الحياة إنما كان لئلا يدعو إلى نكاحها ، وقد أمن ذلك بموتها ‏.‏

باب الصلاة على الميت


وهي فرض على الكفاية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ صلوا على من قال لا إله إلا الله ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة ، فلم يشترط لها العدد كالظهر ، ويجوز في المسجد لأن عائشة قالت ‏:‏ ‏(‏‏(‏ ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد ‏)‏‏)‏ رواه مسلم ‏.‏ وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد ‏.‏ وتجوز في المقبرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر في المقبرة ، ويجوز فعلها فرادى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه فرادى ، والسنة فعلها في جماعة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بأصحابه ، ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب وهذا حديث حسن ‏.‏ وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة ، أو فرادى فلا بأس ، لأن عائشة رضي الله عنها صلت على سعد بن أبي وقاص ‏.‏

فصل ‏:‏

وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك ، لإجماع الصحابة على الوصية بها فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر ، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب ، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير ، وأبا بكرة أوصى به أبا برزة ، وأم سلمة أوصت به سعيد ابن زيد ، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة ، وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم ، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم ، فقال ابنه ‏:‏ أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيداً ‏.‏ ولأنها حق للميت ، فقدم وصيه بها كتفريق ثلثه ‏.‏ ثم الأمير ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه

وقال أبو حازم ‏:‏ شهدت حسيناً عليه السلام حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعد بن العاص ويقول ‏:‏ تقدم ، لولا السنة ما قدمتك ‏.‏ وسعيد أمير المدينة ، لأنها إمامة في صلاة فأشبه سائر الصلوات ‏.‏ ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل ، ثم أقرب العصبة ، ثم الرجال من ذوي أرحامه ، ثم الأجانب ‏.‏ وفي تقديم الزوج على العصبة روايتان ‏:‏

أشهرهما ‏:‏ تقديم العصبة ، لأن عمر رضي الله عنه قال لقرابة امرأته ‏:‏ أنتم أحق بها ، ولأن النكاح يزول بالموت والقرابة باقية ‏.‏

والثانية ‏:‏ الزوج أحق بها ، لأن أبا بكرة صلى على امرأته دون إخوتها ، ولأنه أحق منهم بغسلها فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإمامة في المكتوبات ، للخبر فيه ، والحر أولى من العبد القريب ، لعدم ولايته ، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن شرطها الطهارة والاستقبال والنية ، لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن ، والسنة أن يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة ، لما روي أن أنساً صلى على رجل ، فقام عند رأسه ، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير ، فقال له العلاء بن زياد ‏:‏ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المرأة مقامك منها ، ومن الرجل مقامك منه ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ وهذا حديث حسن ‏.‏

ويجوز أن يصلي على جماعة دفعة واحدة ، ويقدم إلى الإمام أفضلهم ، ويسوى بين رؤوسهم ، فإن اجتمع رجال وصبيان و خناثى ونساء ‏.‏ قدم الرجال وإن كانوا عبيداً ، ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء ، لما روى عمار مولى الحارث بن نوفل قال ‏:‏ شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ، ووضعت المرأة وراءه فصلي عليهما ، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة ، فسألتهم ، فقالوا ‏:‏ السنة ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ ولأنهم هكذا يصفون في صلاتهم ، وقال الخرقي ‏:‏ يقدم النساء على الصبيان لحاجتهن للشفاعة ، ويسوى بين رؤوسهم ، لأن ابن عمر كان يسوي بين رؤوسهم ، وعن أحمد ما يدل أنه يجعل صدر الرجل حذاء وسط المرأة ، واختاره أبو الخطاب ليقف كل واحد منهما موقفه ‏.‏

فصل ‏:‏

وأركان صلاة الجنازة ستة ‏:‏

أحدها ‏:‏ القيام ‏:‏ لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام بها كالظهر ‏.‏

الثاني ‏:‏ أربع تكبيرات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعاً ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن ، وقال ‏:‏ إنه من السنة ، أو من تمام السنة ، حديث صحيح ، رواه البخاري ‏.‏ ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كالظهر ‏.‏

والرابع ‏:‏ أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية ، لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى ، ويقرأ في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة ولا يقرأ في شيء منهن ، ثم يسلم سراً في نفسه ‏.‏ رواه الشافعي في مسنده ‏.‏ وليس في الصلاة عليه شيء مؤقت ، وإن صلى كما يصلى عليه في التشهد فحسن ‏.‏

الخامس ‏:‏ أن يدعو للميت في الثالثة لذلك ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود ‏.‏ ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به ، وما دعا به أجزأه ‏.‏

السادس ‏:‏ التسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ تحليلها التسليم ‏.‏

فصل ‏:‏

وسننها سبع ‏:‏

أولها ‏:‏ رفع اليدين مع كل تكبيرة ، لأن عمر كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد ، لأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود ، فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام ‏.‏

والثاني ‏:‏ الاستعاذة قبل القراءة ، لقول الله تعالى ‏:‏ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ‏.‏

الثالث ‏:‏ الإسرار بالقراءة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بها ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏.‏ وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال ‏:‏ كان رسول الله ‏(‏ص‏)‏ إذا صلى على الجنازة قال ‏:‏ اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا ، و غائبنا وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا و أنثانا حديث صحيح ‏.‏

وعن أبي هريرة عن النبي ‏(‏ص‏)‏ نحوه ‏.‏ وزاد ‏:‏ اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وفي آخر ‏:‏ اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها ، جئناك شفعاء فاغفر له رواه أبو داود ‏.‏ وعن عوف بن مالك قال ‏:‏ صلى النبي ‏(‏ص‏)‏ على جنازة فحفظت دعائه ‏:‏ الله اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وإن كان طفلاً جعل مكان الاستغفار له ‏:‏ اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً و سلفاً وأجراً ، اللهم ثقل به موازينهما ، وأعظم به أجورهما ، وألحقه بصالح سلف المؤمنين ، واجعله في كفالة إبراهيم ، وقه برحمتك عذاب الجحيم وإن لم يعلم شراً من العبد قال ‏:‏ اللهم لا نعلم إلا خيراً

الخامس ‏:‏ أن يقف بعد الرابعة قليلاً ، وهل يسن فيها ذكر على روايتين ‏.‏

السادس ‏:‏ أن يضع يمينه على شماله ، لما روي أن النبي ‏(‏ص‏)‏ صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله ‏.‏

السابع ‏:‏ الالتفات على يمينه في التسليمة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يسن الاستفتاح ، لأن مبناها على التخفيف ، ولا قراءة شيء بعد الفاتحة لذلك ‏.‏

وعنه ‏:‏ يسن الاستفتاح ولا يسن تسليمه ثانية ، لأن عطاء بن السائب روى أن النبي ‏(‏ص‏)‏ سلم على الجنازة تسليمة واحدة ‏.‏ رواه الجوزجاني ولأنه إجماع ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي ‏(‏ص‏)‏ وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم ‏.‏ ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات ، لأنها المشهورة عن النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏.‏ وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات ، وقال ‏:‏ هو أطول الصلاة ‏.‏ فإن كبر خمساً جاز وتبعه المأموم ، لأن زيد بن أرقم كبر على جنازة خمساً وقال ‏:‏ كان النبي ‏(‏ص‏)‏ يكبرها ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏

وعنه لا يتابع فيها ، اختاره ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة ‏.‏ وإن كبر ستاً أو سبعاً ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز ويتابعه المأموم فيها ، لأنه يروى عن النبي ‏(‏ص‏)‏ أنه كبر سبعاً وكبر على أبو قتادة سبعاً ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجوز ، ولا يتبعه المأموم فيها ، لأن المشهور عن النبي ‏(‏ص‏)‏ وأصحابه خلافها، لمن لا يسلم قبله وينتظره حتى يسلم معه ، لأنها زيادة قول مختلف فيها ، لأنه لا يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به ، كالقنوت في الصبح ، وإن زاد على سبع لم يتابعه ، ولم يسلم قبله قال أحمد ‏:‏ وينبغي أن يسبح به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن كبر على جنازة فجيء بأخرى كبر الثانية عليهما ، ثم إن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن ، ثم إن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن ، ثم يتمم سبع تكبيرات ليحصل للرابعة أربع تكبيرات ، فإن جيء بأخرى لم يكبر عليها لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع ، أو نقصان الخامسة من أربع ، وكلاهما غير جائز ‏.‏ وإن أراد أهل الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز ، لأن السلام ركن لم يأت به ‏.‏ ويقرأ في التكبيرة الرابعة الفاتحة ‏.‏ وفي الخامسة يصلي على النبي ‏(‏ص‏)‏ ، ويدعو لهم في السادسة لتكمل الأركان لجميع الجنائز ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه ، كما يدخل في سائر الصلوات ‏.‏

وعنه ‏:‏ أنه ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه ، لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها فإذا سلم الإمام قضى ما فاته ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ وما فاتكم فاقضوا ‏.‏ قال الخرقي ‏:‏ يقضيه متتابعاً ‏.‏ فإن سلم ولم يقضه فلا بأس ، لأن ابن عمر رضي الله عنه قال ‏:‏ لا يقضي ، ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها ، كتكبيرات العيد ‏.‏

وقال القاضي و أبو الخطاب ‏:‏ يقضيه على صفته ، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متوالياً لعدم من يدعى له ، فإن سلم ولم يقضه فحكى أبو الخطاب عنه رواية أنها لا تصح قياساً على سائر الصلوات ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد إلا الوالي ، فإنه ينتظر ما لم يخش عليه التغيير فإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه جماعة وفرادى ‏.‏ قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ولا بأس بذلك ، قد فعله عدة من أصحاب النبي ‏(‏ص‏)‏ ومن صلى مرة لم يستحب له إعادتها ، لأنها نافلة ، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها ، ومن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره ، لما روى ابن عباس أنه مر مع النبي ‏(‏ص‏)‏ على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولا يصلى على القبر بعد شهر إلا بقليل ، لأن أكثر ما نقل عن النبي ‏(‏ص‏)‏ أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر ‏.‏ رواه الترمذي ‏.‏ ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر من شهر فتقيد به ‏.‏

فصل ‏:‏

وتجوز الصلاة على الغائب ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا تجوز ، لأن حضوره شرط ، بدليل ما لو كانا في بلد واحد ، والأول المذهب ، لما روى أبو هريرة أن النبي ‏(‏ص‏)‏ نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه ، فصف بهم في المصلى وكبر بهم أربعاً ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ فإن كان الميت من أحد جانبي البلد لم يصل عليه في الجانب الآخر ، لأنه يمكن حضوره ، فأشبه ما لو كانا من جانب واحد ، وقال ابن حامد ‏:‏ يجوز قياساً على البعيد ، و تتوقت الصلاة على الغائب بشهر ، لأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه ، فأشبه من في القبر ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصلي على كل مسلم لما تقدم ، إلا شهيد المعترك ، وإن لم يوجد إلا بعض الميت غسل وصلي عليه ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يصلى عليه كما لا يصلى على يد الحي إذا قطعت ، والمذهب الأول ، لأن عمر رضي الله عنه صلى على عظام بالشام ، وصلى أبو عبيدة على رؤوس ‏.‏ ولا يصلي الإمام على الغال ولا قاتل نفسه ، لما روى جابر بن سمرة قال ‏:‏ أتى النبي ‏(‏ص‏)‏ برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وعن زيد بن خالد قال ‏:‏ توفي رجل من جهينة يوم خيبر ، فذكر لرسول الله ‏(‏ص‏)‏ فقال ‏:‏ صلوا على صاحبكم ، إن صاحبكم غل من الغنيمة احتج به أحمد ‏.‏ ويصلى على سائر الناس ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ صلوا على صاحبكم ‏.‏

قال الخلال ‏:‏ الإمام ههنا أمير المؤمنين وحده ، وعن أحمد رضي الله عنه أن إمام كل قرية واليهم ‏.‏ وأنكر هذا الخلال وخطأ ناقله ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا تجوز الصلاة على كافر ، لقول الله تعالى ‏:‏ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ، وقال الله تعالى ‏:‏ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى ‏.‏ ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم يصل عليه ، قال أحمد ‏:‏ لا أشهد الجهمي ولا الرافضي ، ويشهدهما من أحب ‏.‏


باب حمل الجنازة والدفن


وهما فرض على الكفاية ، لأن في تركهما هتكاً لحرمتها ، وأذى للناس بها ، وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله ، وأولى الناس إدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب ‏.‏ وفي تقديم الزوج عليهم وجهان ‏.‏ بناء على ما مر في الصلاة ، فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين ‏.‏

وعنه ‏:‏ النساء بعد المحارم ، اختاره الخرقي ، والأول أولى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نساء في جنازة فقال ‏:‏ أتدلين فيمن يدلي ‏؟‏ قلن ‏:‏ لا ، قال ‏:‏ فارجعن مأزورات غير مأجورات أخرجه ابن ماجه ‏.‏ ولأن الدفن يحتاج إلى قوة وبطش ، ويحضره الرجال فتولي المرأة له ، تعريض لها للهتك ‏.‏

والتربيع في حمل الجنازة مسنون ، لما روي عن ابن مسعود أنه قال ‏:‏ إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع ، ثم ليتطوع بعد أو ليذر ، فإنه من السنة ‏.‏ رواه سعيد بن منصور ‏.‏ وصفته أنه يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت ، ثم من عند رجليه ، ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من كتفه اليمنى من عند رأسه ، ثم من عند رجليه ‏.‏

وعنه ‏:‏ أن يدور فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة ، يامنة المؤخرة ، ثم المقدمة وإن حمل بين العمودين فحسن ‏.‏ روي عن سعد بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير ‏.‏ والسنة الإسراع في المشي بها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أسرعوا بالجنازة ، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم متفق عليه ‏.‏ ولا يفرط بالإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها ‏.‏

فصل ‏:‏

واتباع الجنازة سنة ، وهو على ثلاثة أضرب ‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يصلي وينصرف ‏.‏

والثاني ‏:‏ أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل ‏:‏ وما القيراطان ‏؟‏ قال ‏:‏ مثل الجبلين العظيمين متفق عليه ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن يقف بعد الدفن يستغفر له ، ويسأل الله له التثبيت ‏.‏ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دفن ميتاً وقف وقال ‏:‏ استغفروا له واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل رواه أبو داود ‏.‏ والمشي أمامها أفضل ، لما روى ابن عمر قال ‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ ولأنهم شفعاء لها ، والشافع يتقدم المشفوع ‏.‏ وحيث مشى قريباً منها فحسن ‏.‏ وإن كان راكباً فالسنة أن يكون خلفها ، لما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها حديث صحيح ‏.‏ ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة ، لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في جنازة ولا عيد ، ولا بأس بالركوب في الانصراف لما روى جابر بن سمرة ‏:‏ ‏(‏‏(‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم اتبع جنازة ابن الدحداح ماشياً ، ورجع على فرس ‏)‏‏)‏ حديث حسن ، رواه الترمذي ورواه مسلم ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا سبقها فجلس لم يقم عند مجيئها ، وإن مرت به جنازة لم يستحب له القيام ‏.‏

وعنه ‏:‏ يستحب لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه رواه مسلم ‏.‏ والأول أولى ، لقول علي رضي الله عنه ‏:‏ قام رسو الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد ، ورواه مسلم ‏.‏ وهذا ناسخ للأول ، فأما من مع الجنازة فيكره أن يجلس حتى توضع عن الأعناق ، لما روى أبو سعيد قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع رواه البخاري و مسلم ‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ حتى توضع في الأرض رواه أبو داود ‏.‏

ويكره اتباع النساء الجنائز لما روت أم عطية قالت ‏:‏ نهينا عن اتباع الجنائز ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ويكره أن تتبع بنار أو صوت ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ لا تتبع الجنازة بصوت أو نار رواه أبو داود ‏.‏

فصل ‏:‏ ويجوز الدفن في البيت ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم و أبا بكر وعمر دفنوا في بيت ‏.‏ والدفن في الصحراء أفضل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع وإنما دفن في البيت كراهة أن يتخذ قبره مسجداً ولولا ذلك لأبرز قبره ، كذلك قالت عائشة رضي الله عنها ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ويدفن الشهيد في مصرعه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي وقال ‏:‏ صحيح وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة ‏.‏

وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه ، لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة ‏.‏

وإن تنازع وارثان في الدفن في مقبرة المسلمين أو البيت دفن في المقبرة لأن له في البيت حقاً فلا يجوز إسقاطه ، ويستحب الدفن في المقبرة التي فيها الصالحون لينتفع بمجاورتهم ‏.‏ وجمع الأقارب في الدفن حسن ، لتسهل زيارتهم والترحم عليهم ، وقد روي أن النبي ‏(‏ص‏)‏ ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال ‏:‏ أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي رواه أبو داود ‏.‏

وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ‏.‏ وإن استويا في السبق أقرع بينهما ‏.‏ ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول ، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب تعميق القبر وتوسيعه وتحسينه، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ قال‏:‏ احفروا وأوسعوا وأعمقوا رواه أبو داود ، قال أحمد يعمق إلى الصدر ، لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك ، ولأن في تعميقه أكثر من ذلك مشقة ، وقال أبو الخطاب ‏:‏ يعمق قدر قامة وبسطة والسنة أن يلحد له ، لقول سعد بن مالك ‏:‏ الحدوا لي لحداً ، وانصبوا علي اللبن نصباً ، كما صنع برسول الله ‏(‏ص‏)‏ ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏

قال أحمد رضي الله عنه ‏:‏ ولا أحب الشق ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أبو داود ‏.‏ ومعنى الشق أنه إذا وصل إلى الأرض شق في وسطه شقاً نازلاً ، فإن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد شق فيها للحاجة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يدفن في القبر اثنان ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ كان يدفن كل ميت في قبره ، فإن دعت الحاجة إليه جاز ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ لما كثر القتلى يوم أحد ، كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ، ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن ‏؟‏ فيقدمه في اللحد ‏.‏ حديث صحيح ‏.‏ ويقدم أفضلهم إلى القبلة للخبر ، ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب ، ليصير كل واحد منفرداً كأنه في قبر منفرد ، وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة ، والصبي خلفه ، والمرأة خلفهما ، وقال الخرقي ‏:‏ تقدم المرأة على الصبي ، وقال أحمد ‏:‏ وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز ، ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه ، فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره ، فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات ، فإن استووا قدم أسنهم و أفضلهم ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا توقيت في عدد من يدخل القبر ، إنما هو بحسب الحاجة إليه ، نص عليه ‏.‏

ويسل الميت من قبل رأسه ، وهو أن يجعل رأسه عند رجلي القبر ، ثم يسل سلاً ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ سل من قبل رأسه ، وإن كان الأسهل غير ذلك فعل الأسهل ويقول الذي يدخله ، بسم الله ، وعلى ملة رسول الله ‏(‏ص‏)‏ ، لما روى ابن عمر أن النبي ‏(‏ص‏)‏ كان يقول إذا أدخل الميت القبر من المسند ، ويضعه في اللحد على جانبه الأيمن ، مستقبل القبلة ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام ويجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه ، وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ ترك تحته قطيفة كان يفترشها ، وينصب عليه اللبن نصباً لحديث سعد ، وإن جعل عليه ‏:‏ طن قصب جاز ، لما روى عمر بن شرحبيل أنه قال ‏:‏ إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك ‏.‏

ويكره الدفن في التابوت ، وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار ، لأن إبراهيم قال ‏:‏ كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر ، ولأنه آلة بناء المترفين ، وسائر ما مسته النار يكره للتفاؤل بها ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يخمر قبر الرجل ، لما روي عن علي رضي الله عنه ، أنه مر بقوم وقد دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب ، فجذبه وقال ‏:‏ إنما يصنع هذا بالنساء ، ويستحب ذلك للنساء للخبر ولئلا ينكشف منها شيء فيراه الحاضرون ‏.‏

فصل ‏:‏

ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر ، لما روى الساجي أن النبي ‏(‏ص‏)‏ رفع قبره عن الأرض قدر شبر ، ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى ، ويترحم عليه ، ولا يزاد عليه من غير ترابه، لقول عقبة بن عامر ‏:‏ لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه ‏.‏ رواه أحمد ‏.‏ ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد ، وروى أبو رافع أن رسول الله ‏(‏ص‏)‏ سل سعداً ورش على قبره الماء ‏.‏ رواه ابن ماجه ‏.‏ و تسنيمه أفضل من تسطيحه ‏.‏ لما روى البخاري عن سفيان التمار ‏:‏ أنه رأى قبر النبي ‏(‏ص‏)‏ مسنماً ، ولأن السطح يشبه أبنية أهل الدنيا ‏.‏ ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون ، ولأنه يعرف قبره فيكثر الترحم عليه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويكره البناء على القبر ، و تجصيصه والكتابة عليه ، لقول جابر ، نهى رسول الله ‏(‏ص‏)‏ أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يقعد عليه ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ زاد الترمذي ‏:‏ وأن يكتب عليها ‏.‏ وقال ‏:‏ حديث صحيح ، ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه ، ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ويكره الجلوس عليه ، والاتكاء إليه ، والاستناد إليه ، لحديث جابر ‏.‏ ويكره المشي عليه ، لما روى عقبة بن عامر قال ‏:‏ قال النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق ‏.‏ رواه ابن ماجه ‏.‏ فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز لأنه موضع حاجة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن النبي ‏(‏ص‏)‏ أنه قال ‏:‏ ثلاث ساعات كان رسول الله ‏(‏ص‏)‏ ينهانا أن نصلي فيهن ، وأن نقبر فيهن موتانا ‏:‏ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة ، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلاً ونهاراً ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ دفن ليلاً ، ودفن ذا البجادين ليلاً ‏.‏ والدفن في النهار أولى ، لأنه روي عن النبي ‏(‏ص‏)‏ أنه زجر عن الدفن ليلاً ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ ولأن النهار أمكن وأسهل على مشيعيها ، وأكثر لمتبعيها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم لم تفن في مقبرة المسلمين لكفرها ، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم ، وتدفن مفردة ، ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها ‏.‏ وإن ماتت امرأة حامل ، وولدها يتحرك ، ورجيت حياته ، سطت عليه القوابل فأخرجنه ، ولا يشق بطنها ، لأن فيه هتكاً لحرمته متيقنة ، لإبقاء حياة موهومة بعيدة ، فإن لم يخرج تركت حتى يموت ، ثم تدفن ، ويحتمل أن يشق بطنها إن غلب على الظن أنه يحيا لأن حفظ حرمة الحي أولى ‏.‏ وإن بلع الميت جوهرة لغيره شق بطنه ‏.‏ وأخذت ، لأن فيه تخليصاً له من مأثمها ، ورداً لها إلى مالكها ، ويحتمل أن يغرم قيمتها من تركته ، ولا يتعرض له صيانة عن المثلة به ، فإن لم يكن له تركة تعين شقه ، فإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يشق بطنها لأنها للوارث فهي كجوهرة الأجنبي ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يشق ، لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الوارث ‏.‏ وإن بلع مالاً يسيراً لم يشق بطنه ، ويغرم القيمة من تركته ‏.‏ وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ ، لأنه يمكن رده إلى صاحبه بغير ضرورة فوجب ‏.‏ وإن دفن الميت بغير غسل ، أو إلى غير القبلة نبش ، وغسل ووجه ، لأن هذا مقدور على فعله فوجب ، إلا أن يخاف عليه الفساد فلا ينبش ، لأنه تعذر فسقط كما يسقط وضوء الحي لتعذره ‏.‏ وإن دفن قبل الصلاة عليه احتمل أن يكون حكمه كذلك ، لأنه واجب فهو كغسله ، واحتمل أن يصلي على القبر ولا تهتك حرمته لأنه عذر ‏.‏

فصل ‏:‏

سئل أحمد رضي الله عنه عن تلقين الميت في قبره فقال ‏:‏ ما رأيت أحداً يفعله ،إلا أهل الشام ‏.‏ قال ‏:‏ وكان أبو مغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلون ‏.‏ وقال القاضي و أبو الخطاب ‏:‏ يستحب ذلك ، ورويا فيه حديث عن أبي أمامة أن النبي ‏(‏ص‏)‏ قال ‏:‏ إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره ، ثم ليقل ‏:‏ يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ، ثم ليقل ‏:‏ يا فلان ابن فلانة ، الثانية ، فيستوي قاعداً ، ثم ليقل ‏:‏ يا فلان بن فلانة ، فإنه يقول ‏:‏ أرشدنا يرحمك الله ، ولكن لا تسمعونه فيقول ‏:‏ اذكر ما خرجت عليه من الدنيا ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنك رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد ‏(‏ص‏)‏ نبياً ، وبالقرآن إماماً ، فإن منكراً و نكير يتأخر كل واحد منهما ، فيقول ‏:‏ انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون عند الله حجيجه دونهما فقال الرجل ‏:‏ يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه ‏؟‏ قال ‏:‏ فلينسبه إلى حواء رواه الطبراني في معجمه بمعناه ‏.‏


باب التعزية والبكاء على الميت


التعزية سنة لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من عزى مصاباً فله مثل أجره وهو حديث غريب ‏.‏ وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لعموم الخبر ‏.‏ ويكره الجلوس لها ، لأنه محدث ، ويقول في تعزية المسلم بالمسلم ‏:‏ أعظم الله أجرك ، وأحسن عزاءك ، ورحم ميتك ، وفي تعزيته بكافر ‏:‏ أعظم الله أجرك ، وأحسن عزاءك ، وتوقف أحمد رضي الله عنه عن تعزية أهل الذمة ، وهي تخرج على عيادتهم ، وفيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يعودهم ، لأنه روي أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه ، فقال له ‏:‏ أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له ، أطع أبا القاسم ، فأسلم ، فقام النبيصلى الله عليه وسلم وهو يقول ‏:‏ الحمد لله الذي أنقذه من النار رواه البخاري ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجوز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا تبدؤوهم بالسلام فإن قلنا ‏:‏ نعزيهم فإن تعزيتهم عن مسلم ‏:‏ أحسن الله عزاءك ، وغفر لميتك ، وعن كافر ‏:‏ أخلف الله عليك ، ولا نقص عددك ‏.‏

فصل ‏:‏

والبكاء غير مكروه إذا لم يكن مع ندب ولا نياحة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن عبادة ، فوجده في غاشية ، فبكى وبكى أصحابه وقال ‏:‏ ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ، ولا يحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا ، وأشار إلى لسانه أو يرحم متفق عليه ‏.‏ ولا يجوز لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بدعوى الجاهلية ، لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية

وعن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة و الحالقة و الشاقة متفق عليهما ‏.‏ ويكره الندب والنوح ‏.‏ ونقل حرب عن أحمد كلاماً يحتمل إباحتهما ، واختاره الخلال وصاحبه ، لأن واثلة و أبا وائل كانا يستمعا النوح ويبكيان وظاهر الأخبار ، التحريم ‏.‏

قال أحمد في قوله تعالى ‏:‏ ولا يعصينك في معروف ‏.‏ هو النوح ، فسماه معصية ‏.‏ وقالت أم عطية ‏:‏ أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوح ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة ، ويسترجع ، ولا يقول إلا خيراً ، لقول الله تعالى ‏:‏ استعينوا بالصبر والصلاة الآيات ‏.‏ وقالت أم سلمة ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول ‏:‏ إنا لله و إنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته ، وأخلف له خير منها ‏.‏ قالت ‏:‏ فلما توفي أبو سلمة قلتها ‏.‏ فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وقال ‏:‏ لما مات أبو سلمة ‏:‏ لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير ، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاح طعام لأهله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر قال ‏:‏ اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم رواه أبو داود ‏.‏

فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه ، لأن فيه زيادة على مصيبتهم ، وشغلاً لهم إلى شغلهم ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب للرجال زيارة القبور ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت رواه مسلم ‏.‏ وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر ، فكان قائلهم يقول ‏:‏ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإن شاء الله بكم للاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية ‏.‏ و في حديث آخر ‏:‏ يرحم الله المستقدمين منا و المستأخرين وفي حديث آخر ‏:‏ اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، وإن زاد ‏:‏ اللهم اغفر لنا ولهم كان حسناً ‏.‏

فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يكره ، لعموم ما رويناه ، ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن ‏.‏

والثانية ‏:‏ يكره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لعن الله زوارات القبور وهذا حديث صحيح ، فلما زال التحريم بالنسخ ، بقيت الكراهية ، ولأن المرأة قليلة الصبر ، فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة ، فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله ، بخلاف الرجل ‏.‏

فصل ‏:‏

ويستحب لم دخل المقابر خلع نعليه ، لما روى بشير بن الخصاصية قال ‏:‏ بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حانت منه نظرة ، فإذا رجل يمشي بالقبور عليه نعلان فقال ‏:‏ يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل ، فلما عرف رسول الله ‏(‏ص‏)‏ خلعهما فرمى بهما ، رواه أبو داود ‏.‏ فإن خاف الشوك إن خلع نعليه فلا بأس بلبسهما للحاجة ، ولا يدخل في هذا الخفاف ، لأن نزعها يشق ، وفي التمشكات ونحوها وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هي كالنعل لسهولة خلعها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يستحب ، لأن خلع النعلين تعبد فيقصر عليهما ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن دعا إنسان لميت ، أو تصدق عنه ، أو قضى عنه ديناً واجباً عليه ، نفعه ذلك بلا خلاف لأن الله تعالى قال ‏:‏ والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ‏.‏ وقال سعد بن عبادة للنبي ‏(‏ص‏)‏ ، أينفع أمي إذا تصدقت عنها ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم متفق عليه ‏.‏ وإن فعل عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم ، وجعل ثوابها للميت نفعه أيضاً لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات ، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ، ويقرؤون ويهدون لموتاهم ، ولم ينكره منكر ، فكان إجماعاً ‏.‏