المجلد الثاني - كتاب البيع

البيع حلال ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ وأحل الله البيع ‏}‏ ‏.‏ وهو نوعان ‏.‏

أحدهما ‏:‏ الإيجاب والقبول ، فيقول البائع ‏:‏ بعتك أو ملكتك أو لفظاً بمعناهما ، ثم يقول المشتري ‏:‏ ابتعت أو قبلت أو نحوهما ، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الماضي ، فقال ‏:‏ ابتعت هذا منك بكذا ، فقال ‏:‏ بعتك ، صح ، لأن المعنى حاصل ، فأشبه التعبير بلفظ آخر ، وإن تقدم بلفظ الطلب ، فقال ‏:‏ بعني ، فقال ‏:‏ بعتك ، صح ، لأنه تقدم القبول ، أشبه لفظ الماضي ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يصح ، لأنه لو تأخر عن الإيجاب ، لم يصح ، فلم يصح متقدماً ، كلفظ الاستفهام ‏.‏ وإن أتى بلفظ الاستفهام ، فقال ‏:‏ أبعتني ثوبك ‏؟‏ فقال ‏:‏ بعتك ، لم يصح متقدماً ، ولا متأخراً ، لأنه ليس بقبول ولا استدعاء ‏.‏

الثاني ‏:‏ المعاطاة مثل أن يقول ‏:‏ أعطني بهذا خبزاً ، فيعطيه ما يرضيه ، أو يقول ك خذ هذا الثوب بدينار ، فيأخذه فيصح ، لأن الشرع ورد بالبيع ، وعلق عليه أحكاماً ، ولم يعين له لفظاً ، فعلم أنه ردهم إلى ما تعارفوه بينهم بيعاً ، والناس في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ‏.‏ وحكي عن القاضي ‏:‏ أنه يصح في الأشياء اليسيرة دون الكثيرة ، لأن العرف إنما جرى به في اليسير ، والحكم في الهبة والهدية والصدقة ، كالحكم في البيع ، وذلك لاستواء الجميع في المعنى ‏.‏

فصل

ويشترط له الرضى ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏ إلا فيما يجب ، فإن أكره على بيع غير واجب ، لم يصح لعدم الرضى المشترط ، وإن أكره على بيع واجب ، صح ، لأنه قول حمل عليه بحق ، فصح كإسلام المرتد ‏.‏ ولا يصح من غير عاقل ، كالطفل والمجنون والسكران ، والنائم والمبرسم ، لأنه قول يعتبر له الرضى ، فلم يصح من غير عاقل كالإقرار ‏.‏


باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز


كل عين مملوكة يباح نفعها واقتناؤها من غير ضرورة يجوز بيعها ، كالمأكول والمشروب ، والملبوس والمركوب ، والعقار والعبيد والإماء ، لقوله تعالى ‏{‏وأحل الله البيع ‏}‏ ‏.‏وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم من جابر بعيراً ، ومن أعرابي فرساً ‏.‏ ووكل عروة بن الجعد في شراء شاة ، وباع مدبراً وحلساً وقدحاً ، وأقر أصحابه على بيع هذه الأعيان وشرائها ‏.‏

ويجوز بيع دود القز وبزره ، لأنه منتفع به ، وبيع النحل في كوارته ومنفرداً عنها إذا رئي وعلم قدره ، وبيع الطير الذي يقصد صوته كالهزار والبلبل والببغة ، لأنه يشتمل على منفعة مباحة ، أشبه الأنعام ‏.‏ ويجوز بيع الهر وسباع البهائم ،والطير التي تصلح للصيد ، كالفهد والبازي ونحو مها غير الكلب في إحدى الروايتين،وهي اختيار الخرقي والأخرى ‏:‏ لا يجوز وقال أبو بكر وابن أبي موسى ‏:‏ لا يجوز بيعها لنجاستها ، فأشبهت الكلب والأول أصح ، لأنه حيوان أبيح نفعه واقتناؤه من غير وعيد في جنسه ، فجاز بيعه ، كالحمار وبهذا يبطل ما ذكراه ويجوز بيع الجحش الصغير ، والفهد الصغير ،وفرخ البازي ، لأنه يصير إلى حال ينفع ، فأشبه طفل العبيد ‏.‏ وما ينفع من بيض الطير لمصيره فرخاً فهو كفرخه ، لأن مآله إلى النفع ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ لا يجوز بيعه ، لعدم نفعه في الحال ‏.‏قال أحمد ‏:‏ أكره بيع القرد ، قال ابن عقيل ‏:‏ هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب وأما بيعه لحفظ المتاع فيجوز ، لأنه منتفع به ‏.‏ وقال أحمد ‏:‏ أكره بيع لبن الآدميات ، فيحتمل التحريم ، لأنه مائع خارج من آدمية ، أشبه العرق ويحتمل كراهية التنزيه ، لأنه طاهر منتفع به ، أشبه لبن الشاة ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز بيع العبد المرتد ، لأنه مملوك منتفع به ، وخشية هلاكه لا يمنع بيعه كالمريض ، فإن علم المشتري حاله ، فلا شيء له ، لأنه رضي بعيبه ، وإن لم يعلم فله الرد أو الأرش ، قتل أو أسلم ، كالمعيب ‏.‏ ويصح بيع العبد الجاني عمداً أو خطاً على النفس أو ما دونها ، لأنه حق تعلق برقبته غير متحتم ، فأشبه القتل بالردة ، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص ، فهي كالردة ، وإن كانت موجه للمال ، فهو على السيد ، لأنه رضي بالتزام ما عليه ،فإن كان معسراً ، فللمجني عليه رقبة العبد ، إن شاء فسخ العقد ورجع به ، وإن شاء رجع على البائع بالأرش ‏.‏ وإن كان قاتلاً في المحاربة ، فكذلك في قول بعض أصحابنا ، لأنه ينتفع به إلى قتله ويعتقه ، فيجر ولاء ولده ، فصح بيعه كالزمن وحكمه حكم المرتد ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ لا يصح بيعه ، لأنه متحتم القتل ، فلا منفعة فيه ، فأشبه الميت ‏.‏

فصل ‏:‏

وفي بيع رباع مكة وإجارتها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز لأن عمر رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف ، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة ، ولأنها أرض حية لم ترد عليها صدقة محرمة ، فجاز بيعها كغيرها ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يجوز ، لأنها فتحت عنوة ، ولم تقسم بين الغانمين ، فصارت وقفاً على المسلمين، فحرم بيعها كسواد العراق ‏.‏

والدليل على هذا فتحها عنوة قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ وقالت أم هانئ ‏:‏ يا رسول الله إني أجرت حموين لي ، فزعم ابن أم هانئ أنه قاتلهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ قد أجرنا من أجرت حديث صحيح وقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة ، ولو فتحت صلحاً لم يجز قتل أهلها ‏.‏

فصل ‏:‏

ول يجوز بيع الشام ، وسواد العراق ونحوهما مما فتح عنوة ، لأن عمر رضي الله عنه وقفه على المسلمين ، وأقره في يد أربابه بالخراج الذي ضربه يكون أجرة له في كل ،ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها ،وقد اشتهر ذلك في قصص نقلت عنه ‏.‏

وعن أحمد ‏:‏ أنه كره بيعها ، لأنه يأخذ ثمن الوقوف ، وأجاز شراءها ، لأنه كالاستنقاذ لها ، فجاز كشراء الأسير ، وتجوز إجارتها لأنها مستأجرة في يد أربابها ، وإجارة المستأجر جائزة، فأما المساكن في المدائن ، فيجوز بيعها ، لأن الصحابة رضي الله عنهم اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر رضي الله عنه ،وبنوها مساكن ، وتبايعوها من غير نكير فكان إجماعاً ‏.‏

فصل ‏:‏

قال أحمد ‏:‏ لا أعلم في بيع المصحف رخصة ، ورخص في شرائه وقال ‏:‏ هو أهون ، وذلك لأن ابن عمر وابن عباس وأبا موسى كرهوا بيعه ، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى ، فيجب صيانته عن الابتذال ، والشراء أسهل ، لأنه استنفاذ له فلم يكره كشراء الأسير ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ يجوز بيعها مع الكراهة ، وفي شرائها وإبدالها روايتان ، فإن بيعت لكافر ، لم يصح رواية واحدة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى على المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم حديث صحيح متفق عليه فلم يجز تمليكهم إياه ، وتمكينهم منه ،ولأنه يمنع من استدامة ملكة ، فمنع ابتداء ، كنكاح المسلمة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع الخمر والميتة ، والخنزير والأصنام ‏.‏ لما روى جابر قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله ورسوله يقول حرم بيع الخمرة والميتة ، والخنزير والأصنام متفق عليه ‏.‏

ولا يجوز بيع ما لا نفع فيه ، كالحشرات ، وسباع البهائم ، والطير التي لا يصاد بها ، وما لا يؤكل من الطير ، ولا بيضه ، لأنه لا نفع فيها ، فأشبهت الخنزير ‏.‏ ولا يجوز بيع الحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ قال الله تعالى ‏:‏ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ذكر منهم ، رجلاً باع حراً ، فأكل ثمنه ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك ، كالمباحات قبل حيازتها ، لأنها غير مملوكة أشبهت الحر ‏.‏ ولا يجوز بيع الدم ، ولا السرجين النجس ، لأنه مجمع على تحريمه ، ونجاسته ، أشبه الميتة ‏.‏ ولا يجوز بيع شحم الميتة ، لأنه منها ‏.‏ وفي حديث جابر قيل ‏:‏ يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ‏؟‏ فإنه تدهن بها الجلود ، وتطلى بها السفن ، ويستصبح بها الناس ‏؟‏ فقال ‏:‏ لا هو حرام ‏.‏ متفق عليه وما نجس من الأدهان كالزيت، فظاهر المذهب تحريم بيعها قياساً على شحم الميتة ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله حرم شيئاً ، حرم ثمنه رواه أبو داود وعنه‏:‏ يباع لكافر ، ويعلم بحاله ، لأنه يعتقد حله ‏.‏ وفي جواز الاستصباح بها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يجوز لأنه دهن نجس ، أشبه شحم الميتة ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز ، لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر ، أشبه الانتفاع بها من ضرر، أشبه الانتفاع بالجلد اليابس ‏.‏ قال أبو الخطاب ‏:‏ويتخرج على جواز الاستصباح بها ، جواز بيعها ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ ولا تطهر بالغسيل ، لأنه لا يتأتى فيها العصر ، ويتخرج أنها تطهر بصبها في ماء كثيرة ، ثم تترك حتى تطفو ، فتؤخذ ، والعصر‏:‏ إنما يعتبر فيما يتأتى العصر فيه ، بدليل الخشب والأحجار ، اختاره أبو الخطاب ، فأما غير الأدهان ، كالخل ، والبن ، فلا تطهر ، وجهاً واحداً ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع الكلب ، وإن كان معلماً ، لما روى أبو مسعود الأنصاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ، وقال ثمن الكلب خبيث متفق عليهما ‏.‏ ولا غرم على قاتله ، لأنه لا قيمة له ، وقد أساء من قتل كلباً يباح اقتناؤه ، ولا يباح اقتناء كلب ، إلا لصيد ، أو حفظ ماشية ، أو حرث ، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، نقص من أجره كل يوم قيراط متفق عليه ‏.‏ ويجوز تربية الجور الصغير لذلك ، لأنه قصد به ما يباح ، فيأخذ حكمه ، كالجحش الصغير ، ولأنه لو لم يقتن غير المعلم ، لم يمكن تعليمه ، وتعذر اقتناء المعلم وفيه وجه آخر ، أنه لا يجوز اقتناؤه ، لأنه ليس من الثلاثة ، فإن اقتنى كلب الصيد ، من لا يصيد به ، جاز للحديث ‏.‏وفيه وجه آخر ، أنه لا يجوز ، لأن اقتناءه لغير حاجة ، أشبه من اقتناه للماشية ، ولا ماشية له ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع معدوم ، لما رواه أبو هريرة ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر رواه مسلم ‏.‏ وبيع المعدوم بيع غرر ، ولأن تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، تنبيه على تحريم بيعها قبل وجودها ، فلا يجوز بيع الثمرة قبل خلقها ، ولا بيع الماء العد الذي له مادة ، كماء العيون والآبار ، لأنه بيع لما يتجدد ، وهو في الحال معدوم ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه ، كالطير في الهواء ، والسمك في الماء ، والعبد الآبق ، والجمل الشارد ، والفرس العائر ، والمغصوب في يد الغاصب ، لحديث أبي هريرة ‏.‏ وقال ابن مسعود ‏:‏لا تشتروا السمك في الماء ، فإنه غرر ‏.‏ ولأنه القصد بالبيع تمليك التصرف ، ولا يمكن ذلك فيما لا يقدر على تسليمه ، فإن باع طيراً له في برج مغلق الباب ، أو سمكاً له في بركة معدة للصيد وكان معروفاً بالرؤية مقدوراً على تناوله بلا تعب ، جاز بيعه ، لعدم الغرر فيه ‏.‏ وإن اختل بعض ذلك ، لم يجز ‏.‏ وإن باع الآبق لقادر عليه ، أو المغصوب لغاصبه ، أو لقادر على أخذه منه جاز لذلك وإلا فلا ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع ما تجهل صفته ، كالحمل في البطن ، واللبن في الضرع والبيض في الدجاج ، والنوى في التمر ، لحديث أبي هريرة ‏:‏ وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المجر والمجر ‏:‏ شراء ما في الأرحام ‏.‏ وعن أبي هريرة ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح قال أبو عبيدة ‏:‏ الملاقيح ‏:‏ ما في البطون ، وهي الأجنة ، والمضامين ‏:‏ ما في أصلاب الفحول ‏.‏ وما سواه يقاس عليه ‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر ، أو لبن في ضرع رواه ابن ماجة ‏.‏

وعنه ‏:‏ في بيع الصوف على الظهر روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يجوز للخبر ، ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع ، كأعضائه ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز بشرط جزه في الحال ، لأنه معلوم ممكن تسليمه ، فجازة بيعه كالزرع في الأرض ‏:‏

فصل‏:‏

ولا يجوز بيع الأعيان من غير رؤية أو صفة يحصل بها معرفة المبيع في ظاهر المذهب، لحديث أبي هريرة ، ولأنه مجهول عند العاقد ، فلم يصح بيعه ، كالنوى في التمر ، فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع ، كداخل الثوب ، وشعر الجارية ‏.‏ وعنه ‏:‏ يجوز لأنه عقد معاوضة ، فأشبه النكاح ، فعلى هذه هل يثبت له خيار الرؤية ‏؟‏ فيه روايتان ‏‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا خيار له لأنه عقد معاوضة ، صح من الغيبة ، فأشبه النكاح ‏.‏

والثانية ‏:‏ يثبت له الخيار عند الرؤية في الفسخ والإمضاء ، لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه ويكون خياره على الفور ، للحديث ، وقيل ‏:‏ يتقيد بالمجلس ، لأنه خيار ثابت بمقتضى العقد ، فتقيد بالمجلس ، كخيار المجلس ، فإن اختار إمضاء العقد قبل الرؤية ، أم يلزم ، لأنه تعلق بالرؤية ، ولأنه إلى إلزام العقد في مجهول الصفة ‏.‏وإن اختار الفسخ انفسخ ، لأن الفسخ يصح في مجهول الصفة ، ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين جميعاً ، لأن الرضا معتبر منهما ، فتعتبر الرؤية التي هي مظنة له منهما جميعاً ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن رأيا المبيع ، ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه ، صح في صحيح المذهب ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يصح ، لأن ما كان شرطاً يعتبر وجوده حال العقد كالشاهدة في النكاح ‏.‏

ولنا أنه معلوم عندهما، أشبه ما لو شاهداه حال العقد ، أو اشترى منه داراً كبيرة ، وهو في طرفها ، والشرط العلم ، وهو مقارن للعقد ، ثم إن وجد المبيع لم يتغير لزم ، وإن وجده ناقصاً ، فله الخيار لأن ذلك كالعيب ، وإن اختلفا في التغيير ، فالقول قول المشتري ،لأن الثمن يلزمه ، فلا يلزمه إلا ما اعترف به ‏.‏ وإن عقد بعد الرؤية بزمن يفسد فيه ظاهراً ، لم يصح لأنه غير معلوم ‏.‏وإن احتمل الأمرين ، ولم يظهر التغير ، فالعقد صحيح ، لأنه الأصل سلامته ‏.‏

فصل ‏:‏

ويصح البيع بالصفة في صحيح المذهب إذا ذكر أوصاف السلم ، لأنه لما عدمت المشاهدة للمبيع ، وجب استقصاء صفاته كالسلم ، وإذا وجد على الصفة ،لزم العقد ، وإن وجده على خلافها ، فله الفسخ فإن اختلفا في التغير ، فالقول قول المشتري لما ذكرناه ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يصح البيع بالصفحة، لأنه لا يمكن استقصاؤها ‏.‏

والمذهب الأول، لأنه مبيع معلوم بالصفة، فصح بيعه كالمسلم فيه ‏.‏ وبيع الأعمى ، وشراؤه بالصفة، كبيع البصير بها ، فإن عدمت الصفة ، وأمكنه معرفة المبيع بذوق أو شم ، صح بيعه وإلا لم يصح ، لأنه مجهول في حقه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع عبد من عبيد ولا شاة من قطيع ، ولا ثوب من أثواب ولا أحد هذين العبدين ، لأنه غرر ، فيدخل في الخبر، ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع ويجوز بيع قفيز من صبرة ، ورطل زيت من دن أو ركوة ، لأن أجزاءه لا تختلف ، فلا يفضي إلى التنازع ، فإن باع جريباً من ضيعة ، يعلمان جربانها ، صح ، وكان المبيع مشاعاً منها ، وإن كانت عشرة أجربة ، فالمبيع عشرها، وإن لم يعلما جربانها، لم يصح، لأنه لا يعلم قدره منها، فيكون مجهولاً‏.‏

فصل ‏:‏

وما لا تختلف أجزاؤه ، كصبر الطعام ، وزق الزيت ، يكتفى برؤية بعضه، لأنها تزيل الجهالة ، لتساوي أجزائه ، ولأنه تتعذر رؤية جميعه ، فاكتفي ببعضه كأساسات الحيطان ، وما تشق رؤيته ، كالذي مأكوله في جوفه ، يكتفى برؤية ظاهره لذلك وكذلك أساسات الحيطان وطي الآبار وشبهها ويجوز بيع الباقلى والجوز واللوز في قشريه والحب في سنبله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد رواه أبو داود ‏.‏ فمفهومه جواز بيع المشتد ، ولأنه مستور بما خلق فيه ، فجاز بيعه ، كالذي مأكوله في جوفه ، ولأن قشره الأعلى من مصلحته ، لأنه يحفظ رطوبته ، وادخار الحب في سنبله أبقى له ، فجاز بيعه فيه ، كالسلت والأرز ، وما لا تشق رؤية جميعه ويشترط رؤية جميعه على ما أسلفناه ‏.‏

فصل ‏:‏

إذا قال ‏:‏ بعتك هذه الصبرة ، صح ، وإن لم يعلم قدرها ، لأن ابن عمر قال ‏:‏ كنا نبتاع الطعام من الركبان جزافاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ متفق عليه‏.‏ ولأن غرر ذلك منتفي بالمشاهدة ، فاكتفي بها‏.‏ وإن باع نصفها أو ثلثها أو جزءاً منها مشاعاً، صح لأن من عرف شيئاً عرف جزأه‏.‏ وإن قال‏:‏ بعتكها كل قفيز بدرهم ، صح ، لأن المبيع معلوم بالمشاهدة ، والثمن معلوم لإشارته إلى من يعلم مبلغه بجهة ، لا تتعلق بالمتعاقدين ، وهو كيل الصبرة ، فجاز كما لو باعه مرابحة لكل عشرة درهم ‏.‏ ولو قال ‏:‏ بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح ،لأنه البعض مجهول ‏.‏ ولو قال ‏:‏ بعتك منها كل قفيز بدرهم لم يصح ، لأنه باعه بعضها ، ولو قال ‏:‏ بعتكها على أن أزيدك قفيزاً لم يصح ، لأن الزائد مجهول ، فإن قال ‏:‏ على أن أزيدك قفيزاً من هذه الأخرى صح لأن معناه بعتكها وقفيزاً من هذه ، وإن قال على أن أزيدك من هذه أو أنقصك قفيزاً لم يصح ، لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه، وإن قال ‏:‏ بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من هذه الأخرى ، وهما يعلمان قدر قفزانها ، صح لأنهما إذا علماها عشرة ، فمعناه ‏:‏ بعتك كل قفيز ، وعشراً بدرهم ، وإن لم يعلما قدرها ، لم يصح لجهالة الثمن ، لأنه يصير قفيزاً وشيئاً لا يعلمان قدره بدرهم ، لجهلهما بكمية قفزانها ، وكذلك إن قال ‏:‏ على أن أنقصك قفيزاً‏.‏ وإن جعلا للقفيز الزائد ثمناً مفرداً ، صح في الحالين ‏.‏

فصل ‏:‏

ويكتفى بالرؤية فيما لا تتساوى أجزاؤه ، كالأرض والثوب ، والقطيع من الغنم ، لما ذكرنا في الصبرة ، وفيه نحو من مسائلها ‏.‏ ولو قال ‏:‏ بعتك من الدار من هاهنا إلى هاهنا جاز ، لأنه معلوم‏.‏ وإن قال ‏:‏ عشرة أذرع ابتداؤها من هاهنا ، لم يصح ، لأنه لا يدري إلى أين ينتهي ‏.‏ ولو قال ‏:‏ بعتك نصف داري مما يلي دارك ، لم تصح ، نص عليه لذلك ‏.‏ وإن قال ‏:‏ بعتك من هذا الثوب من أوله إلى هاهنا ، صح ، لأنه معلوم ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إن كان ينقصه القطع ، لم يصح لعجزه عن التسليم إلا بضرر ، والأول أصح ، لأن التسليم ممكن ، والضرر لا يمنع الصحة إذا التزمه ، كما لو باعه نصفاً مشاعاً ، أو نصف حيوان ‏.‏

فصل ‏:‏

ويشترط لصحة المبيع معرفة الثمن ، لأنه أحد العوضين ، فيشترط العلم به ، كالمبيع ورأس مال السلم ‏.‏ وإن باعه بثمن مطلق في موضع فيه نقد معين ، انصرف إليه ، وإن لم يكن فيه نقد معين ، لم يصح لجهالته ‏.‏ وإن باعه سلعة برقمها أو بما باع به فلان ، وهما لا يعلمان ذلك ، أو أحدهما ، أو بما ينقطع به السعر ، لم يصح ، لأنه مجهول ‏.‏ وإن قال ‏:‏ بعتك بألف درهم ذهباً وفضة ، لم يصح ، لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما ‏.‏ وإن باعه بعشرة نقداً أو بخمس عشرة نسيئة ، أو بعشرة صحاحاً ، أو بعشرين مكسرة ، لم يصح ، لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ نهى عن بيعتين في بيعة حديث صحيح ‏.‏

وهو هذا ‏.‏ ولأنه لم يعقد على ثمن بعينه ، أشبه إذا قال ‏:‏ بعتك أحد هذين العبدين ‏.‏ ويتخرج أنه يصح بناء على قوله في الإجارة ، وقيل ‏:‏ معنى بيعتين في بيعة أن يقول ‏:‏ بعتك هذا بمائة على أن تبيعني دارك بألف ، أو على أن تصرفها لي بذهب ‏.‏ وأياً ما كان فهوة غير صحيح ‏.‏ وإن باع بثمن معين ، تعين ،لأنه عوض ، فتعين بالتعيين ، كالمبيع فعلى هذا إن وجده مغصوباً بطل العقد ، وإن وجده معيباً فرده ، انفسخ العقد لرد المعقود عليه ، فأشبه رد المبيع ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أن الثمن لا يتعين إلا بالقبض ، فتنعكس هذه الأحكام ‏.‏ وإن باعه بثمن في الذمة ، لم يتعين ، فإذا قبضه فوجده مغصوباً ، لم يبطل العقد ، وإن رده ، لم يفسخ ، لأن الثمن في الذمة ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع الملامسة والمنابذة ، لما روى أبو سعيد الخدري ‏:‏ أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ نهى عن بيعتين ‏:‏ الملامسة والمنابذة ‏.‏ والمنابذة ‏:‏ أن يقول ‏:‏ إذا نبذت إلي هذا الثوب ، فقد وجب البيع ‏.‏ والملامسة ‏:‏ أن يمسه بيده ولا ينشره ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولأنه إذا علق البيع على نبذ الثوب ولمسه ، فقد علقه على شرط ، وهو غير جائز ‏.‏ وإذا باعه قبل نشره ، فقد باعه مجهولاً ، فيكون غرراً ولا يجوز بيع الحصاة ، لما روى أبو هريرة أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ نهى عن بيع الحصاة ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏وهو أن يقول ‏:‏ ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت ، فهو لك بكذا ‏.‏ وقيل ‏:‏ هو أن يقول ‏:‏ بعتك من هذه الضيعة بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا ‏.‏ وكلاهما غير صحيح ، لأنه غرر ، ولا يجوز بيع حبل الحبلة ، لما روى ابن عمر قال ‏:‏ نهى النبي ‏(‏ص‏)‏ عن بيع حبل الحبلة متفق عليه ‏.‏ قال أبو عبيدة ‏:‏ هو بيع ما يلد حمل الناقة ‏.‏

وقيل‏:‏ هو بيع السلعة بثمن إلى أن يلد حمل الناقة ، وكلاهما لا يجوز ، لأنه على التفسير الأول ‏:‏ بيع معدوم مجهول ، وعلى الثاني ‏:‏ بيع بثمن إلى أجل مجهول ‏.‏ ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء المطر ، وقدوم زيد ، وطلوع الشمس ، لأنه غرر ، ولأنه عقد معاوضة ، فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل ، كالنكاح ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع العنب والعصير لمن يتخذه خمراً ، ولا السلاح لأهل الحرب ، أو لمن يقاتل به في الفتنة ، ولا الأقداح لمن يشرب فيها الخمر ، لأنه معونة على المعصية ،فلم يجز ،كإجارة داره لبيع الخمر ‏.‏ ولا يجوز بيع العبد المسلم لكافر ، لأنه يمنع من استدامة ملكه عليه ، فلم يصح عقده عليه ، كالنكاح فإن أسلم في يده ، أو يد موروثه ، ثم انتقل إليه بالإرث ، أجبر على إزالة ملكه عنه ، لأن في تركه في ملكه صغاراً ، فإن باعهم ، أو وهبه لمسلم أو أعتقه ، جاز ‏.‏ وإن كاتبه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يجوز، لأنه يصير كالخارج عن ملكه في التصرفات ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجوز ، لأنه لا يزيل الملك ، فلم يقبل ، كالتزويج ‏.‏

وإن ابتاع الكافر مسلماً ، يعتق عليه بالشراء ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح ، لأنه عقد يملك به المسلم ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز لأن ملكه يزول حال ثبوته ، فلا يحصل فيه صغار ، وإن حصل ، فقد حصل له من الكمال بالحرية ، فوق ما لحقه برق لحظة ‏.‏ وإن قال الكافر لمسلم ‏:‏ أعتق عبدك عني ، وعلى ثمنه ، ففيه وجهان ، بناء على ما ذكرناه ، لأنه بقدر بيعه للكافر ، وتوكيل البائع في عتقه ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز يفرق في البيع ، بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ ، لما روى أبو أيوب عن النبي ‏(‏ص‏)‏ أنه قال ‏:‏ من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة حديث حسن ‏.‏

وعن علي رضي الله عنه قال ‏:‏ وهب لي رسول الله ‏(‏ص‏)‏ غلامين أخوين ، فبعت أحدهما ، فقال رسول الله ‏(‏ص ‏:‏ ما فعل غلامك‏؟‏ فأخبرته ، فقال ‏:‏ رده ، رده رواه الترمذي ‏.‏ وقال حديث حسن ‏.‏ فإن فرق بينهما ، فالبيع باطل ، رضيت الأم ذلك أم كرهته ، نص عليه ، لأنه فيه إسقاطاً لحق الولد ‏.‏ وهل يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يجوز لعموم الخبر ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز لأنه سلمه بن الأكوع أتى أبا بكر الصديق رضي الله عنه بامرأة وابنتها في غزوة فنفله أبو بكر ابنتها ، ثم استوهبها النبي ‏(‏ص‏)‏ من سلمة فوهبها له ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وهذا تفريق ‏.‏ لأن النبي ‏(‏ص‏)‏ أهديت له أختان مارية وسيرين ، فأمسك مارية ووهب أختها لحسان بن ثابت ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها ، لما رواه حكيم بن حزام قال للنبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ إن الرجل يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي ، فأمضي إلى السوق ، فأشتريه ثم أبيعه منه ، فقال النبي ‏(‏ ص‏)‏ ‏:‏ لا تبع ما ليس عندك حديث صحيح‏.‏ ولأنه بيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء فإن باع مال غيره بغير إذنه ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح لذلك ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح ، ويقف على إجازة المالك ، فإن أجازه جاز ، وإن أبطله بطل ، لما روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ أعطاه ديناراً ليشتري به شاة ، فاشترى به شاتين ، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق ،قال ‏:‏ فأتيت النبي ‏(‏ ص‏)‏ بالدينار وبالشاة ، فأخبرته ، فقال‏:‏ بارك الله لك في صفقة يمينك رواه الإمام أحمد والأثرم رضي الله عنهما ‏.‏ ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه ، فوقف على إجازته كالوصية ‏.‏ وإن اشترى بعين مال غيره شيئاً بغير إذنه ، فهو كبيعه ، فإن اشترى له شيئاً بغير إذنه بثمن في ذمته ، ثم نقد ثمنه من مال الغير ، صح الشراء لأنه تصرف في ذمته لا في مال غيره ، ويقف على إجازة المشتري له ، لأنه قصد الشراء له ، فإن أجازه ، لزمه وإن لم يجزه ، لزم من اشتراه ، لأنه لا يلزمه ما لم يأذن فيه ، والبيع صحيح ، فيلزم المشتري ، فإن باع مال غيره ، وهو حاضر ، فلم ينكر ذلك، فهو كبيعه في غيبته ، فإن السكوت ليس بإذن ، فإنه محتمل كغير الإذن ، فلا يتعين كونه إذناً والله أعلم ‏.‏


باب بيع النجش والتلقي وبيع الحاضر لباد وبيعه على بيع غيره والعينة


وهي بيوع محرمه ، لما روى أبو هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا تلقوا الركبان ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد متفق عليه ‏.‏ ومعنى النجش ‏:‏ أن يزد في السلعة من لا يريد شراءها ليغتر به المشتري ، ويقتدي به فهو حرام ، لأنه خداع ، والشراء صحيح‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه باطل ، لأن النهي يقتضي الفساد ، والأولى أصح لأن النهي عاد إلى غير العقد ، فلم يؤثر فيه ، وللمشتري الخيار إن غبن غبناً يخرج عن العادة ، سواء كان بمواطأة من البائع ، أو لم يكن ، لأنه غبن للتغرير بالعاقد ، فأثبت الخيار ،كتلقي الركبان ، ولو قال البائع ‏:‏ أعطيت بهذه السلعة كذا كاذباً ، فاشتراها المشتري لذلك ، فالبيع صحيح ، وله الخيار ، لما ذكرناه ‏.‏

فصل ‏:‏

وتلقي الركبان ‏:‏ أن يخرج الرجل من المصر يتلقى الجلب قبل دخوله ، فيشتريه ، فيحرم للخبر ، ولأنه يخدعهم ويغبنهم ، فأشبه النجش ، والشراء صحيح‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه باطل للنهي ، والمذهب الأول ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه ، فاشترى منه ، فإذا أتى السوق ، فهو بالخيار رواه مسلم ‏.‏

والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح ، ولأن النهي لضرب من الخديعة ، أمكن استدراكها بالخيار ، فأشبه بيع المصراة وللبائع الخيار إن غبن غبناً يخرج عن العادة ، فإن لم يغبن ، فلا خيار له ‏.‏ ويحتمل أن له الخيار للخبر ، والأول المذهب ، لأنه إنما يثبت لدفع الضرر عن البائع ، ولا ضرر مع عدم الغبن ، والحديث يحمل على هذا ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم له الخيار إذا هبط السوق يفهم منه الإشارة إلى معرفته بالغبن ، فإن خرج لحاجة غير قصد التلقي ، فقال القاضي ‏:‏ لا يجوز له الشراء لوجود معنى النهي ، ويحتمل الجواز ، لعدم دخوله في الخبر‏.‏ والبيع للركبان كالشراء منهم ، لأن النهي عن تلقيهم لدفع الغبن ، والشراء والبيع فيه واحد ‏.‏

فصل ‏:‏

وبيع الحاضر للبادي ‏:‏ هو أن يخرج الحاضر إلى جلاب السلع ، فيقول أنا أبيع لك، فهو حرام للخبر ، ولأن فيه تضيقاً على المسلمين ، إذ لو ترك الجالب يبيع متاعه باعه برخص ، فإذا تولاه الحاضر لم يبعه برخص ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله ‏:‏ لا يبع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا بأس به ، وحمل الخبر على أنه اختص بأول الإسلام ، لما كان عليهم من الضيق ، والمذهب الأول للخبر والمعنى ‏.‏ قال أصحابنا ‏:‏ إنما يحرم بشروط خمسة ، أحدها أن يكون الحاضر قد قصد البادي ، ليتولى ذلك ، والثاني ‏:‏ أن يكون البادي جاهلاً بالسعر ، لأنه إذا كان عالماً به ، فهو كالحاضر ‏.‏

والثالث ‏:‏ أن يكون جلب السلعة لبيعها ، فإن جلبها ليدخرها ، فلا ضرر على الناس في بيع الحضر له ، ذكر الخرقي هذه الثلاثة ‏.‏

وذكر القاضي شريطين آخرين ‏:‏ أن يقصد بيعها بسعر يومها ، ويتضرر الناس بتأخير بيعه ، فإذا اجتمعت هذه الشروط ، فالبيع باطل للنهي عنه ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه صحيح ، لأن النهي عنه لمعنى في غيره ، فأما شراء الحاضر للبادي فصحيح ، لأنه لا ضيق على الناس فيه ، وإذا شرع ما يدفع به الضرر عن أهل المصر لا يلزم شرع ما يتضرر به أهل البدو ، فإن الخلق في نظر الشارع على السواء ‏.‏

فصل ‏:‏

وأما البيع على بيع أخيه ، فهو أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار ،أنا أبيعك مثله بدون هذا الثمن ، أو أجود منه بهذا الثمن ، فيفسخ العقد ، ويشتري سلعته ، فيحرم للخبر ، ولأن فيه إفساداً أو إنجاشاً ‏.‏ وإن فسخ البيع ، واشترى سلعته ، فالشراء باطل للنهي عنه ، وشراؤه على شراء أخيه ، كبيعه على بيعه ويحتمل أن البيع صحيح ، لأن النهي لمعنى في غير العقد ‏.‏

فصل ‏:‏

فأما سومه على سوم أخيه ، فننظر فيه ، فإن كان البائع أنعم للمشتري البيع بثمن معلوم ، حرم على غيره سومه ، لما روى أبو هريرة أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ قال ‏:‏ لا يسم الرجل على سوم أخيه رواه مسلم ‏.‏ وإن لم ينعم له ، جاز سومها ، لما روى أنس أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الشدة والجهد ، فقال له ‏:‏ ما بقي لك شيء ، قال ‏:‏ بلى قدح وحلس ، فأتاه بهما فقال ‏:‏ من يبتاعهما ‏؟‏ ، فقال رجل‏:‏ أنا أبتاعهما بدرهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من يزيد على درهم ‏؟‏ فأعطاه رجل درهمين ، فباعهما منه ‏.‏ قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث حسن ‏.‏ ولأن فاطمة بنت قيس ذكرت للنبيصلى الله عليه وسلم أن معاوية وأبا جهم خطباها ، فأمرها أن لا تنكح أسامة ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ فإن ظهرت منه أمارة الرضى منى غير تصريح به ، فقال القاضي ‏:‏ لا تحرم المساومة ، لخبر فاطمة ، ويحتمل أن تحرم ، لعموم النهي ، وليس في خبر فاطمة أمارة على الرضى ‏.‏

فصل ‏:‏

فأما بيع العينة ، فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالاً ، فلا يجوز ، لما روى سعيد ، عن غندر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل قالت ‏:‏ دخلت على عائشة أنا وأم ولد زيد بن أرقم ، فقالت أم ولد زيد ‏:‏ إني بعثت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم اشتريته منه بستمائة درهم ، فقالت لها ‏:‏بئس ما شريت وبئسما اشتريت ‏.‏ أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ‏.‏ ولا تقول مثل هذا إلا توقيفاً سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا ، لأنه أدخل السلعة ، ليستبيح بيع ألف بخمسمائة والذرائع معتبرة ‏.‏ فإن اشتراها بسلعة ، جاز لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض ، إن اشتراها بنقد غير الذي باعها به ، فقال أصحابنا ‏:‏ يجوز لأن التفاضل بينهما جائز ، ويحتمل التحريم ، لأن النساء بينهما محرم ، وإن اشتراها من غير المشتري أو اشتراها أبو البائع أو ابنه ، جاز ‏.‏ وإن نقصت السلعة لتغير صفتها ، جاز لبائعها شراؤها بأقل من الثمن ، لأن نقص الثمن لنقصان السلعة ‏.‏ وإن نقصت لتغير السوق ، أو زادت ، لم يجز شراؤها بأقل لما ذكرناه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن باعها بثمن حال نقده ، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة ، لم يجز ، نص عليه ، لأنها في معنى التي قبلها سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن باع طعاماً إلى أجل بثمن ، فلما حل الأجل ، أخذ منه بالثمن طعاماً لم يجز ، لأنه ذريعة إلى بيع طعام بطعام نسيئة ، فهو في معنى ما تقدم ‏.‏ وكل شيئين حرم النساء فيهما ، لم يجز أخذ أحدهما عن الآخر قبل قبض ثمنه ، وقياس قول أصحابنا في مسألة العينة ، أنه يجوز هاهنا أحذ ما يجوز التفاضل بينه وبين الطعام المبيع ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن اشترى مكيلاً أو موزوناً لم يجز له بيعه حتى يقبضه في ظاهر كلام أحمد رضي افلله عنه والخرقي ، وما عداهما يجوز بيعه قبل القبض ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من ابتاع طعاماً ، فلا يبعه حتى يستوفيه ‏.‏ وقال ابن عمر ‏:‏ رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله ‏(‏ ص‏)‏ أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم ‏.‏ متفق عليهما ‏.‏ وهذا لا يخلو من كونه مكيلاً أو موزوناً ، والحديث يدل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه ، وبمفهومه على حل بيع ما عداه ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أن المنع من البيع قبل القبض ، يخص المطعوم ، لاختصاص الحديث به ، وما ليس بمطعوم من المكيلات والموزونات ، يجوز بيعه قبل القبض ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن المنع يختص ما ليس بمتعين ، كقفيز من صبرة ، ورطل زيت من دن ، وما بيع صبرة ، أو جزافاً ، جاز بيعه قبل قبضه ، وهو قول القاضي وأصحابه ، لأنه يتعلق به حق توفية بخلاف غيره ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن كل مبيع لا يجوز بيعه قبل قبضه ‏.‏ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار رواه أبو داود ‏.‏

وقال ابن عباس ‏:‏ أحسب كل شيء بمنزلة الطعام ‏.‏ ولأنه لم يتم ملكه عليه أشبه المكيل ، والمذهب الأول ‏.‏ وما بيع بصفة أو برؤية متقدمة ، فهو كالمكيل ، لأنه لا يتعلق به حق توفية، فأشبه المكيل والموزون ، وما حرم بيعه قبل قبضه ، لم يجز بيعه لبائعه ، لعموم النهي ، ولا الشركة فيه ، لأنه بيع لبعضه ، ولا التولية ، لأنه بيع بمثل الثمن الأول ‏.‏ فأما الثمن في الذمة، فيجوز بيعه لمن هو في ذمته ‏.‏ لما روى ابن عمر ‏.‏ قال ‏:‏ كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم دنانير ، ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال ‏:‏ لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما شيء رواه أبو داود ، ولا يجوز بيعه لغير من هو في ذمته ، لأنه معجوز عن تسليمه ، فأشبه بيع المغصوب لغير غاصبه ، وما كان غير مستقراً كالمسلم فيه ، لم يجز بيعه بحال ، لا لصاحبه ولا لغيره ، لقوله عليه السلام ‏:‏ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره رواه أبو داود ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل عقد ينفسخ بتلف عوضه قبل قبضه كالإجارة ، والصلح ، حكمه حكم البيع فيما ذكرناه ، وما لا ينفسخ كالخلع ، والعتق على مال والصلح عن دم العمد ، جاز التصرف في عوضه قبل قبضه ، طعاماً كان أو غيره ، وكذلك أرش الجناية ، وقيمة المتلف ، والمملوك بإرث أو وصية أو غنيمة إذا تعين ملكه فيه ، لأنه لا يتوهم غرر الفسخ بهلاك المعقود عليه ، جاز بيعه كالوديعة ، والصداق كذلك ‏.‏ قاله القاضي ‏.‏ لأنه لا ينفسخ العقد بتلفه ، فهو كعوض الخلع ‏.‏ وقال الشريف وأبو الخطاب ‏:‏ هو كالمبيع ، لأنه يخشى رجوعه ، بانفساخ النكاح بالردة فأشبه المبيع ‏.‏

فصل ‏:‏

وقبض كل شيء بحسبه ، المكيل المبيع قبضه كيله ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله رواه مسلم ‏.‏ وإن بيع جزافاً فقبضه ، نقله‏.‏ لما روى ابن عمر قال ‏:‏ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ وقبض الذهب والفضة والجوهر باليد ، وسائر ما ينقل قبضه نقله ‏.‏ وقبض الحيوان أخذه بزمامه ، أو تمشيته من مكانه ، وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه ، لا حائل دونه ، لأن القبض مطلق في الشرع ، فيجب الرجوع فيه إلى العرف ، كالإحياء والإحراز ، والعادة ما ذكرناه ، وعنه ‏:‏ أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية ‏.‏ مع التميز ، لأنه قبض فيما لا ينقل فكان قبضاً في غيره ‏.‏

فصل ‏:‏

وما يعتبر له القبض إذا تلف قبل قبضه ، إذا انفسخ العقد ، وهو من مال البائع ، لأنه تلف قبل تمام ملك المشتري عليه ، فأشبه ما تلف قبل تمام البيع ‏.‏ وإن أتلفه المشتري ،استقر عليه الثمن ، لأنه تلف بتصرفه ، فاستقر الثمن عليه كما لو قبضه ‏.‏ وإن أتلفه أجنبي ، لم ينفسخ العقد ‏.‏لأن له بدلاً يرجع إليه ، فلم ينفسخ العقد ، كما لو تعيب ‏.‏ ويخير المشتري بين الفسخ والرجوع على البائع بالثمن ، لأنه تلف بغير فعل المشتري ، أشبه ما لو تلف بفعل الله تعالى ، وبين إتمام العقد والرجوع ببدله ، لأن الملك له ، وإن أتلفه البائع ، احتمل أن يبطل العقد ، لأنه يضمنه إذا تلف في يده بالثمن ، فكذلك إذا أتلفه ‏.‏ وقال أصحابنا ‏:‏ الحكم فيه حكم ما لو أتلفه أجنبي ، وإن تعيب قبل قبضه ، فهو كما لو تعيب قبل بيعه ، لأنه من ضمان البائع ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا باع شاة بشعير ، فأكلته قبل قبضه ولم تكن يد بائعها عليها ، انفسخ البيع ، لأن الثمن هلك قبل القبض بغير فعل آدمي ، فإن كانت يده عليها ، فهو كإتلافه له ، وإن باعها مشتريها ثم هلك الشعير قبل قبضه ، انفسخ العقد الأول ، ولم يبطل الثاني ، لأن ذلك كان قبل فسخ العقد ، وعلى بائعها الثاني قيمتها ، لأنه تعذر عليه ردها ، وهكذا إن كان بدله شقصاً فأخذه الشفيع ، انفسخ البيع الأول ، وعلى المشتري رد قيمة الشقص ، ويأخذ من الشفيع قيمة الطعام ، لأنه الذي اشترى به الشقص ‏.‏

فصل ‏:‏

وما لا يحتاج إلى قبض إذا تلف ، فهو من مال المشتري ‏.‏ لما روى حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه ‏.‏ قال ‏:‏ مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً ، فهو من مال المشتري ‏.‏ ذكره البخاري ‏.‏ وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يمنعه البائع قبضه فيضمنه ، لأنه تلف تحت يد عادية ، أشبه ما لو تعلف تحت يد الغاصب ، وسواء حبسه على قبض الثمن أو غيره إلا أن يكون قد اشترط عليه الرهن في البيع ‏.‏


باب تفريق الصفقة


إذا باع ما يجوز بيعه ، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة ، كعبد وحر ، وخل وخمر ،وعبده وعبد غيره ، أو دار له ولغيره ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ تفريق الصفقة ، فيما يجوز بيعه بقسطه من الثمن ، ويبطل فيما لا يجوز ، لأن كل واحد منهما ، له حكم منفرد ، فإذا اجتمعا ، بقيا على حكمهما ، كما لو باع شقصاً وسيفاً‏.‏

والثانية ‏:‏ يبطل فيهما ، لأنه عقد واحد ، جمع حلالاً وحراماً فبطل ، كالجمع بين الأختين ، ويحتمل أن يصح فيما يجوز فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء ، كدار له ولغيره ونحوها ، والقفيزين المتساويين ، لأن الثمن فيما يجوز بيعه معلوم ، ويبطل العقد فيما عدا هذا كالعبدين ، لأن ثمن ما يجوز بيعه مجهول ، لكون الثمن ينقسم عليهما بالقيمة ، وقسط الحلال منهما مجهول لو صرح به ، فقال‏:‏ بعتك هذا العبد بقسطه من الثمن لم يصح ، فكذا هاهنا ‏.‏ فإن قلنا يصح ، وعلم المشتري الحال ، فلا خيار له ، لأنه دخل على بصيرة ولا خيار للبائع بحال ، وإن لم يعلم المشتري الحال ، فله الخيار ، لأن عليه ضرراً في تفريق الصفقة ، وإن اشترى معلوماً ومجهولاً بطل العقد فيهما ، لأن ما يخص المعلوم من الثمن مجهول ‏.‏ ولو باع قفيزين من الحلال بثمن واحد ، فتلف أحدهما قبل قبضه ، لم ينفسخ العقد في الباقي منهما ، سواء كانا من جنس واحد أو جنسين ، لأن حدوث الجهل بثمن الباقي منهما لا يوجب جهالة المبيع حال العقد ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ ويثبت للمشتري خيار الفسخ ، لتفريق الصفقة عليه فأشبه ما قبلها ‏.‏

فصل

فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم ، كبيع وإجارة ، أو صرف بعوض واحد ، صح فيهما ، لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة ، كما لو جمع بين ما فيه شفعة ، وما لا شفعة فيه ، وفيه وجه آخر لا يصح ، لأن حكمهما مختلف ، وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل فيهما ، فإن البيع فيه خيار ‏.‏ ولا يشترط التقابض فيه في المجلس ، ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع والصرف ، ويشترط له التقابض ، وينفسخ العقد بتلف العين في الإجارة ، وإن جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد ، فقال ‏:‏ زوجتك ابنتي ، وبعتك داري بمائة ، صح في النكاح ، لأنه لا يفسد بفساد العوض ، وفي البيع وجهان ‏.‏ وإن جمع بين بيع وكتابة ، فقال لعبده ‏:‏ بعتك عبدي هذا ، وكاتبتك بمائة ، بطل البيع وجهاً واحداً ، لأنه باع عبده لعبده فلم يصح ، كبيعه إياه من غير كتابة ، وهل تبطل الكتابة ‏؟‏ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة ‏.‏

فصل

ولو باع رجلان ، عبداً لهما بثمن واحد ، صح لأن حصة كل واحد منهما من الثمن معلومة ‏.‏ ولو كان لكل واحد منهما قفيز ، وكانا من جنس واحد فباعهما صفقة واحدة ، صح لذلك ‏.‏ وإن كان المبيع مما لا ينقسم الثمن عليه ، مثل إن كان لكل واحد منهما عبد فباعاهما صفقة واحدة ، أو وكلا رجلاً فباعهما أو وكل أحدهما الآخر فباعهما بثمن واحد ، لم يصح ، لأن كل واحد منهما مبيع بحصته من الثمن فلم يصح ، كما لو صرح به ، ويحتمل ، أن يصح بناء على تفريق الصفقة ، أو كما لو كاتب عبدين كتابة واحدة بعوض واحد ‏.‏


باب الثنيا


إذا باع حائطاً واستثنى شجرة بعينها ، أو قطعياً واستثنى شاةً بعينها ، صح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا ، إلا أن تعلم ‏.‏ قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث صحيح ‏.‏ وهذه معلومة ، وإن استثنى شجرة أو شاة يختارها ، لم يصح ‏.‏ للخبر ‏.‏ وإن استثنى آصعاً معلومة ، أو باع نخلة ، واستثنى أرطالاً معلومة ، فعنه ‏:‏ أنه يصح ، للخبر ‏.‏ والمذهب أنه لا يصح ، لأن المبيع إنما علم بالمشاهدة ، والاستثناء يغير حكم المشاهدة ، فإنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة ، ولو باعه الصبرة إلا قفيزاً ، لم يصح لذلك ‏.‏ وإن باعه قفيزاً من هذه الصبرة إلا مكوكاً صح ، لأن القفيز معلوم ، والمكوك منه معلوم ‏.‏ وإن باعه داراً إلا ذراعاً ، وهما يعلمان ذرعانها جاز ، وكان مشاعاً منها ، وإلا لم يجز ، كما لو باعه ذراعاً منها ، وإن باعه سمسماً إلا كسبه ، أو قطناً إلا حبه ، أو شاة إلا شحمها ، أو فخذها ، لم يصح لأنه مجهول فيدخل في الخبر ، وإن استثنى حملها ، فعنه أن يصح ، لأن ابن عمر أعتق جارية ، واستثنى ما في بطنها ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا يصح ، وهو أصح ‏.‏ للخبر ‏.‏ فإن باع جارية حاملاً بحر ، وقلنا ‏:‏ يصح استثناء الحمل ، صح هاهنا ،وإن قلنا ‏:‏ لا يصح ثم ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يصح ، لأنه استثناه في الحقيقة ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصح ، لأنه قد يقع مستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه بالشرط ، بدليل بيع الأمة المزوجة ‏.‏

وإن باع حيواناً مأكولاً واستثنى رأسه وجلده وسواقطه ، صح ‏.‏ نص عليه ، لأنها ثنيا معلومة وقد روي أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ حين هاجر إلى المدينة ، مر براع فذهب أبو بكر وعامر بن فهيرة ، فاشتريا منه شاة ، وشرطا له سلبها ‏.‏ فإن امتنع المشتري من ذبحها ،لم يجبر وعليه قيمة ذلك ‏.‏

لما روي عن علي رضي الله عنه ‏:‏ أنه قضى في رجل اشترى ناقة ، وشرط ثنياها فقال ‏:‏ اذهبوا معه إلى السوق ، فإن بلغت أقصى ثمنها ، فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها ‏.‏ وعن الشعبي قال ‏:‏ قضى زيد بن ثابت ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقرة باعها رجل ، واشترط رأسها بالشروى ‏.‏ يعني أن يعطيه رأساً مثل رأس ‏.‏

فصل ‏:‏

ومن باع شيئاً ، واستثنى منفعته مدة معلومة ، كجمل اشترط ركوبه إلى موضع معين ، وداراً استثنى سكناها شهراً ، وعبداً استثنى خدمته سنة ، صح‏.‏ لما روى جابر ‏:‏ أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ ولأنها ثنيا معلومة ، فتدخل في خبر أبي هريرة ، فإن عرض المشتري على البائع عوضها ، لم يلزمه قبوله ، لأن حقه تعلق بعينها ، فأشبه ما لو استأجرها ، وإن أراد البائع إجارتها تلك المدة ، فقال ابن عقيل ‏:‏ يصح في قياس المذهب ، لأنه استحق نفعها فملك إجارتها كالمستأجر ‏.‏ وإن أتلف المشتري العين ، فعليه قيمة المنفعة ، لتفويته حق غيره ‏.‏ وإن تلف بغير تفريط ، فكلام أحمد رضي الله عنه يقتضي ذلك بعمومه ، ويحتمل أن لا يضمن ، لأن البائع لم يملك المنفعة من جهة المشتري ، فلم يلزمه عوضها له ، كما أو تلفت النخلة المبيعة مؤبرة بثمرتها والحائط الذي استثني منه شجرة ، ويحمل كلام أحمد على من فرط ‏.‏ وإن باع المشتري العين ، صح وتكون المنفعة مستثناة في يد المشتري ، فإن لم يعلم به ،فله الخيار ، لأنه عيب ، فهوة كالتزويج في الأمة ، ومن باع أمة واستثنى وطأها ، لم يصح ، لأنه لا يحل إلا في تزويج ، أو في ملك يمين ، ومن استثنى مدة غير معلومة لم يصح ، للخبر ‏.‏


باب الشروط في البيع


وهي على أربعة أضراب ‏:‏

أحدها ‏:‏ ما هو من مقتضى البيع ، كالتسليم والرد بالعيب فهذا لا أثر له ، لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد ‏.‏

الثاني ‏:‏ ما هو من مصلحته ، كالخيار والأجل والرهن والضمين ، فهذا شرط صحيح لازم ، ورد الشرع به نذكره في مواضعه ‏.‏

الثالث ‏:‏ شرط ينافي مقتضى العقد وهو نوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ما لم يبين على التغليب والسراية ، كشرط أن لا يملك ، ولا يتصرف ، ولا يسلم أو لا يعتق ، أو إن أعتق ، فالولاء له أو متى نفق المبيع ، وإلا رده ، أو إن خسر

فيه ، فعلى البائع فهذا شرط باطل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما أرادت شراء بريرة ،فاشترط أهلها ولاءها ‏:‏ اشتريها فأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق ثم قال ‏:‏ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله ، فهو باطل ، وإن كان مائة شرط فتفق عليه ‏.‏

وهل يفسد البيع به ‏؟‏ فيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يفسد ، لحديث بريرة ‏.‏

والثانية ‏:‏ يفسد ، لأنه إذا فسد الشرط ، وجب رد ما في مقابلته من الثمن ، وذلك مجهول ، فيصير الثمن مجهولاً ‏.‏

النوع الثاني ‏:‏ أن يشتريه بشرط أن يعتقه ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ الشرط فاسد ، لأنه ينافي مقتضى البيع ، فأشبه ما قبله ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح ‏:‏ لأن عائشة اشترت بريرة لتعتقها ، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا إن امتنع المشتري من العتق أجبر عليه في أحد الوجهين ، لأن عتق مستحق عليه ، فأجبر عليه ، كما لو نذر عتقه ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يجبر عليه لأن الشرط لا يجوب فعل المشروط ، كما لو شرط رهناً أو ضميناً لم يجبر ، ولكن يثبت للبائع خيار الفسخ ، كمشترط الرهن ، فإن مات العبد ، رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق ، وإن كان المبيع أمة فأحبلها ، أعتقها وأجزأه لأن الرق باق فيها ‏.‏

الرابع ‏:‏ ما لا ينافي مقتضى العقد ، ولا هو من مصلحته ، وهو نوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يشترط عقداً آخر ، مثل أن يبيعه بشرط أن يبيعه عيناً أخرى أو يؤجره أو يسلفه ، أو يشتري منه ، أو يستسلف ، فهذا شرط فاسد يفسد العقد به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ‏.‏قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث صحيح ‏.‏ ونهى عن بيعتين في بيعة وهذا منه‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يشترط المشتري منفعة البائع في المبيع ، فيصح إذا كانت معلومة ، مثل أن

يشتري ثوباً ، ويشترط على بائعه خياطه قميصاً ، أو فلعة ويشترط حذوها نعلاً ، أو حطباً ويشترط حمله ، لأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب ، وشرط عليه حملها ، واشتهر ذلك فلم ينكر ، ولأنه بيع ، وإجارة ، فصح ، كما لو باعه عبده ، وأجره داره في عقد واحد ‏.‏ وقال الخرقي ‏:‏ إن شرط مشتري الرطبة جزها على بائعها ، بطل العقد ، فيحتم أن يخص قوله بهذه الصورة وشبهها لإفضائه إلى التنازع ، فإن البائع يريد قطعها من أعلاها ، لتبقى له منها بقية ، والمشتري يريد ، الاستقصاء عليها ، ويحتمل أن يعدى حكمها إلى كل عقد شرط فيه منفعة البائع ، لأنه شرط عقداً في عقد ، فأشبه ما قبله ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ أم أجد بما قال الخرقي رواية في المذهب ، والمذهب جوازه ‏.‏ فإن شرط شرطين ، مثل أن اشترط خياطة الثوب وقصارته ، وفي الحطب حمله وتكسيره ، أو اشترط منفعة البائع ، واشترط البائع منفعة المبيع مدة معلومة فسد العقد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا شرطان في بيع وإن شرط منفعة معلومة ، لم يصح لإفضائه إلى التنازع ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن شرط في البيع أنه إن باعه ، فهو أحق به بالثمن ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ لا يصح ، لأنه شرطان في بيع ، لأنه شرط أن يبعه إياه ، وأن يعطيه إياه بالثمن ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد ، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح ، لأنه يروى عن ابن مسعود أنه اشترى أمة بهذا الشرط ‏.‏ وإن قلنا بفساده ،فهل يفسد ‏[‏به‏]‏ البيع ‏؟‏ فيه روايتان ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل موضوع فسد العقد لم يحصل به ملك وإن قبض ، لأنه مقبوض بعقد فاسد ، فأشبه ما لو كان الثمن ميتة ، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه ، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل ، وأجرة مثله مدة مقامه في يديه ، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب ،لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع ، أشبه المغصوب ، ولا حد عليه إن وطئ للشبهة ، وعليه مهر مثلها ، وأرش بكارتها إن كانت بكراً ، والولد حر ، لأنه وطء شبهة ، ويلحق نسبة به ذلك ، ولا تصير به الجارية أم ولد ، لأنها ولدت في غير ملك ‏.‏ وإن حكمنا الشرط وحده ، فقال القاضي ‏:‏ يرجع المشتري بما نقصه ، لأنه إنما سمح به ، لأجل الشرط ، فإذا لم يحصل رجع بما سمح به ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يحل البيع بعد النداء للجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع‏}‏ ‏.‏ فإن باع ، لم يصح للنهي ويجوز ذلك لمن لا تجب عليه الجمعة ، لأن الخطاب بالسعي لم يتناوله ،فكذلك النهي ، والنداء الذي به السعي والنهي هو الثاني الذي يكون عند صعود الإمام المنبر ، لأنه الذي كان على عهد رسول الله ‏(‏ ص‏)‏ فتعلق الحكم به ، وإنما زاد الأول عثمان رضي الله عنه ‏.‏ وفي النكاح والإجارة وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ حكمهما حكم البيع ، لأنهما عقدا معاوضة ‏.‏

والثاني ‏:‏ يصحان ، لأنهما غير منصوص عليهما وليسا في معنى المنصوص عليه ، لأنهما لا يكثران ، فلا تؤدي إباحتهما إلى ترك الجمعة بخلاف البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يحل التسعير ، لما روى أنس قال ‏:‏ غلا السعر على عهد رسول الله ‏(‏ ص‏)‏ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله قد غلا السعر ، فسعر لنا ، فقال ‏:‏ إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق إني لأرجو أن ألقى الله ، وليس أحد يطلبني بمظلمة قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث صحيح ‏.‏

ولأنه ظلم للبائع بإجباره على البيع سلعته سلعته بغير حق ، أو منعه من بيعها بما يتفق عليه المتعاقدان ، وهو من أسباب الغلاء ، لأنه يقطع الجلب ، ويمنع الناس من البيع فيرتفع السعر ‏.‏

فصل ‏:‏

والاحتكار محرم ، لما روى سعيد بن المسيب ، عن معمر بن عبد الله أن رسول الله ‏(‏ ص‏)‏ قال ‏:‏ من احتكر فهو خاطئ رواه مسلم وأبو داود ‏.‏

والاحتكار المحرم ‏:‏ ما جمع أربعة أوصاف ، أن يشتري قوتاً يضيق به على الناس في بلد فيه ضيق ، فأما الجالب فليس بمحتكر ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الجالب مرزوق ‏.‏ والمحتكر ملعون ولأنه لا ضرر على الناس على جلبه ‏.‏ ومن استغل من أرضه شيئاً فهو كالجالب ‏.‏ ولا يمنع من احتكار الزيت ، وما ليس بقوت ، لأن سعيد بن المسيب راوي الحديث كان يحتكر الزيت ومن اشترى في حال الرخص على وجه لا يضيق على أحد ، فليس بمحتكر ، لأنه لا ضرر فيه ، بل ربما كان نفعاً ‏.‏

فصل ‏:‏

وبيع التلجئة ‏:‏ وهو أن يخاف الرجل ظالماً بأخذ ماله ، فيواطئ رجلاً يظهر بيعه إياه ليحتمي بذلك ، ولا يردان بيعاً حقيقياً فلا يصح لأنهما ما قصداه فهو كبيع المكره ‏.‏
باب الخيار في البيع


وهو على ضربين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ خيار المجلس ، فلكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا

بأبدانهما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ البيعان في الخيار ما لم يتفرقا متفق عليه ‏.‏ والتفرق ‏:‏ أن يمشي أحدهما عن صاحبه بحيث إذا كلمه الكلام المعتاد في المجلس لا يسمعه ، لأن ابن عمر كان إذا بايع رجلاً ، فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ، ثم رجع ، وهو راوي الحديث ، وأعلم بمعناه ، ولأن الشرع ورد بالتفرق مطلقاً فوجب أن يحتمل على التفرق المعهود ، وهو يحصل بما ذكرناه ‏.‏ فإن لم يتفرقا بل بني بينهما حاجز ، أو أرخي بينهما ستر أو نحوه أو ناما أو قاما عن مجلسهما ، فمشيا معاً ، فهما على خايرهما ، لأنهما لم يتفرقا‏.‏ وإن فر أحدهما من صاحبه ، بطل خيارهما ، لأن ابن عمر كان يفارق صاحبه بغير أمره ، ولأن الرضى في الفرقة غير معتبر ، كما لا يعتبر الرضى في الفسخ ، وإن أكرها على التفريق ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يبطل الخيار ، لأنه لا يعتبر الرضى من أحد الجانبين ، فكذلك منهما ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يبطل لأنه معنى يلزم به البيع فلا يلزم به مع الإكراه كالتخاير ، فعلى هذا يكون الخيار لهما في المجلس الذي زال عنهما الإكراه فيه حتى يفارقاه ، فإن أكره أحدهما ، بطل خيار الآخر ، كما لو هرب منه ، وللمكره الخيار في أحد الوجهين ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما ، أو قالا ‏:‏ بعد البيع اخترنا إمضاء العقد ، أو أجزنا العقد ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هما على خيارهما ، لعموم الخبر ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا خيار لهما ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو يخير أحدهما صاحبه ، فإن خير أحدهما صاحبه ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان على خيار ، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع متفق عليهما وفي لفظ أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏ وهذه زيادة يجب قبولها ، فإن قال أحدهما لصاحبه ‏:‏ اختر فسكت ، فخيار الساكت بحاله ، لأنه لم يوجد منه ما يبطله ، وفي خيار القائل وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يبطل للخبر ، ولأنه جعل الخيار لغيره ، فلم يبقى له شيء ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يبطل كما لو قال لزوجته ‏:‏ اختاري فسكتت لم يبطل خياره في الطلاق ‏.‏

فصل ‏:‏

ويثبت خيار المجلس في كل بيع للخبر ، ولأنه شرع للنظر في الحظ ، وهذا يوجد في كل بيع ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا يثبت في الصرف والسلم ، وما يشترط فيه القبض في المجلس ، لأنه لا يثبت فيه خيار الشرط ‏.‏

فصل ‏:‏

الضرب الثاني ‏:‏ خيار الشرط ، نحو أن يشترط الخيار في البيع مدة معلومة ، فيجوز بالإجماع ، ويثبت فيما يتفقان عليه من المدة المعلومة ، وإن زادت على ثلاث ، لأنه حق يعتمد الشرط ، فجاز ذلك فيه ، كالأجل ، ويجوز شرطه لأحدهما دون صاحبه ، ولأحدهما أكثر من صاحبه ، لأنه ثبت بشرطهما فكان على حسبه ‏.‏ ولو اشترى شيئين صفقة واحدة ، وشرط الخيار في أحدهما بعينه صح وإن شرطه في غير معين منهما ، أو لأحد المتبايعين غير معين ، لم يصح لأنه مجهول ، فأشبه بيع أحد العبدين ‏.‏ وإن شرط الخيار الأجنبي ، صح ، وكان مشترطاً لنفسه موكلاً لغيره فيه ، لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه ، فتعين ‏.‏ ولمشترط الخيار الفسخ بغير رضى الأجنبي ، وللأجنبي الفسخ إلا أن يعزله المشترط ، ولو شرط الخيار للعبد المبيع ، صح لأنه كالأجنبي ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ إن جعل الأجنبي وكيلاً فيه ، صح ‏.‏ وإن أطلق الخيار لفلان ، أو قال‏:‏ هو لفلان دوني ، لم يصح ، لأن الخيار جعل لتحصيل الحظ للمتعاقدين بنظرهما ، فلا يكون لمن لا حظ له ، وإن كان العقد وكيلاً ، فشرط الخيار للمالك ، صح ، لأن الحظ له ‏.‏ وإن جعله للأجنبي لم يصح ، لأنه ليس له توكيل غيره، وإن شرط لنفسه ، صح ، لأن له النظر في تحصيل الحظ ‏.‏ وإن قال ‏:‏ بعتك على أن أستأمر فلاناً في مدة معلومة ، صح ، وله الفسخ قبل استئماره ، لأن ذلك كناية عن الخيار ، وإن لم يجعل له مدة معلومة ، فهو كالخيار المجهول ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو غروبها ، أو إلى الغد ، أو إلى الليل ، صح ، لأنه وقت معلوم ، ولا يدخل الغد ، ولا الليل في مدة الخيار ، لأن إلى للغاية وموضوعها لفراغ الشيء وانتهائه ‏.‏ وإن شرطاه ثلاثاً ، أو ساعات معلومة فابتدأ مدته من حين العقد ، لأنها مدة ملحقة بالعقد ، فكان بدؤها منه كالأجل ، ولأن جعله من حين التفريق يفضي إلى جهالته ، لأنه لا يدري متى يفترقان ، ويحتمل أن يكون بدء مدته من حين التفريق ، لأن الخيار ثابت في المجلس حكماً فلا حاجة إلى إثباته بالشرط ، فعلى هذا إن جعلا بدأه من العقد ، صح ، لأن بدايته ونهايته معلومان ‏.‏ ويحتمل أن لا يصح ، لأن ثبوت الخيار بالمجلس ، يمنع ثبوته بغيره ، وعلى الوجه الأول لو جعلا بدأه من التفريق ، لم يصح لجهالته ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن شرطا خياراً مجهولاً ، لم يصح ، لأنها مدة ملحقة بالعقد ، فلم تصح مجهولة كالتأجيل ، وهل يفسد العقد به ‏؟‏ على روايتين ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه يصح مجهولاً لقوله عليه السلام ‏:‏ المسلمون على شروطهم رواه الترمذي ‏:‏ وقال حديث حسن صحيح ‏.‏ فعلى هذا إن كان الخيار مطلقاً مثل أن يقول ‏:‏ لك الخيار متى شئت ، أو إلى الأبد ، فهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه ، وإن قال ‏:‏ إلى أن يقدم زيد ، أو ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه ، أو يقطعاه قبله ‏.‏ وإن شرطاه إلى الحصاد أو الجذاذ ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هو مجهول ، لأن زمن ذلك يختلف ، فيكون كقدوم زيد ‏.‏

والثانية ‏:‏ يصح لأن مدة الحصاد تتقارب في العادة في البلد الواحد ، فعفي عن الاختلاف فيه ‏.‏ وإن شرطه إلى العطاء يريد وقت العطاء ، صح لأنه معلوم ، وإن أراد نفس العطاء فهو مجهول ، لأنه يتقدم ويتأخر ، وإن شرط الخيار شهراً يوماً يثبت ويوماً لا ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يثبت في اليوم لأول ، لأنه معلوم يلي العقد ، ويبطل فيما بعده ، لأنه إذا لزم لم يعد إلى الجواز ، ويحتمل أن يبطل الشرط كله ، لأنه شرط واحد ، فإذا فسد في البعض فسد في الكل ‏.‏

فصل ‏:‏

ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه ، لأنه عقد جعل إلى اختياره ، فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه ، كالطلاق ‏.‏ ومتى انقضت مدته قبل الفسخ ، لزم العقد على كل حال ، لأنها مدة ملحقة بالعقد ، فبطلت بانتهائها كالأجل ، ويبطل الخيار بالتخاير ، كما يبطل خيار المجلس به ، ولو ألحقا بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحقه ، لأنه عقد لازم ، فلم يصر جائزاً بقولهما ، كالنكاح ، وإن فعلا ذلك في مدة الخيار ، جاز ، لأنه جائز فجاز إبقاؤه على على جوازه ‏.‏

فصل ‏:‏

وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد ‏.‏

وعنه ‏:‏ لا ينتقل إلا بعد انقضائه ، لأنه عقد قاصر لا يفيد التصرف ، فلم ينقل الملك ، كالهبة قبل القبض ، والأول ظاهر المذهب ، لأن البيع سبب لنقل الملك ، فنقل عقيبه كالمطلق ، ولأنه تمليك ، فأشبه المطلق ‏.‏ وليس منع التصرف لقصور السبب ، بل لتعلق حق البائع بالمبيع ، وما يحصل من غلة المبيع في مدة الخيار ، ونمائه المنفصل ، فهو للمشتري سواء فسخا العقد أو أمضياه لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه ، ولأنه من ضمانه فيدخل في قوله عليه السلام ‏:‏ الخراج بالضمان وعلى الرواية الأخرى هو للبائع ، والحكم في ضمانه كالحكم في ضمان المبيع المطلق ‏.‏

فصل ‏:‏

وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار ، لأنه ليس بملك للبائع ، فيتصرف فيه ، ولا انقطعت عنه علاقته ، فيتصرف فيه المشتري ، فإن تصرفا بغير العتق ، لم ينفذ تصرفهما لذلك ‏.‏ وعنه في تصرف المشتري ‏:‏ أنه موقوف ، إن فسخ البائع ، بطل ، وإن لم يفسخ ، صح لعدم المبطل له ، ذكرها ابن أبي موسى ‏.‏ وإن كان الخيار للمشتري وحده ، صح لذلك ، وإن أعتق المشتري العبد ، عتق ، لأنه عتق من مالك تام الملك ، جائز التصرف ، فنفذ كما بعد المدة ، فإن قلنا ‏:‏ الملك للبائع ، نفذ عتقه ، ولا ينفذ عتق من لا ملك له ، لأنه عتق من غير مالك ، فأشبه الأجنبي ‏.‏ وفي الوقف وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو كالعتق ، لأنه تصرف يبطل الشفعة ، والصحيح ‏:‏ أنه لا ينفذ ، لأنه لا يبنى على التغليب ، ولا يسري إلى ملك الغير ، أشبه البيع ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن وطئ المشتري الجارية ، فلا حد عليه ولا مهر ، وإن ولدت منه ، فالولد حر ، ولا تلزمه قيمته ، وتصير أم ولد، لأنه وطئ مملوكته ‏.‏ وإن وطئ البائع فعليه المهر لأنه وطئ في غير ملك ‏.‏ وإن علم التحريم ، فولده رقيق ، لا يلحقه نسبه كما لو وطئ بعد المدة ‏.‏ وإن جهل التحريم ، فلا حد عليه ، وولده أحرار ، وعليه قيمتهم يوم الولادة ، لأنه يعتقد أنه يحبلها في ملكه ، فأشبه المغرور من أمة ، ولا تصير أم ولد بحال ‏.‏ قال بعض أصحابنا ‏:‏ وعليه الحد إن علم التحريم ، وأن البيع لا ينفسخ به ، وذكر أن أحمد نص عليه ، لأن وطأه لم يصادف ملكاً ، ولا شبهة ملك ‏.‏ والصحيح انه لا حد عليه ، لأن أهل العلم اختلفوا في ملكه لها ، وحل وطئها ، وهذه شبهة يدرأ الحد بها ‏.‏ولأن ملكه يحصل بوطئه ، فيحصل تمام وطئه في ملكه ، فلا يجب الحد به ‏.‏ وإن قلنا بالرواية الأخرى انعكست هذه الأحكام ‏.‏

فصل ‏:‏

وطء البائع فسخ للبيع ، لأنه دليل على الاسترجاع ، فأشبه من أسلم على أكثر من أربع ، فوطئ إحداهن كان اختياراً لها ‏.‏ ووطء المشتري رضى بالمبيع ، وإبطال لخياره لذلك ، وسائر التصرفات المختصة بالملك ، كالعتق والكتابة والبيع والوقف ، والهبة ، والمباشرة ، واللمس للشهوة ، وركوب الدابة لسفر أو حاجة ، والحمل عليها ، وشرب لبنها ، وسكنى الدار وحصاد الزرع ونحوه إن وجد من المشتري ، بطل خياره ، لأنه يبطل بالتصريح بالرضى فبطل بدلالته كخيار المعتقة ، يبطل بتمكينها زوجها من وطئها ‏.‏ وإن تصرف البائع بذلك ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ هو فسخ للبيع لذلك ‏.‏ والآخر لا يكون فسخاً ، لأن الملك انتقل عنه ، فلم يكن تصرفه استرجاعاً ، كمن وجد ماله عند مفلس ، فتصرف فيه ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ هل يكون تصرف البائع فسخاً للبيع ، وتصرف المشتري رضى بالبيع ، وفسخاً لخياره ‏؟‏ على وجهين ‏.‏ وأما ركوب المشتري الدابة لينظر سيرها ، وطحنه على الرحى ليختبرها ، فلا يبطل الخيار ، لأن الاختيار هو المقصود بالخيار ‏.‏ وإن استخدم العبد ليختبره ، لم يبطل خياره لذلك ، وإن استخدمه لغير ذلك ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يبطل خياره ، لأنه تصرف منه ، أشبه الركوب للدابة ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يبطل ،لأنه لا يختص الملك ، أشبه النظر ‏.‏ وإن قبلت الجارية المشتري لشهوة ، لم يبطل خياره ، لأنها قبلة لأحد المتابعين ، فلم يبطل خياره ، كقبلتها للبائع ، ولأنا لو أبطلنا خياره بهذا أبطلناه من غير رضاه بالمبيع ، ولا دلالة عليه ‏.‏ ويحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها ، لأن إقراره عليه رضى به ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن أعتق المشتري الجارية ، أو استولدها ، أو أتلفت المبيع ، أو تلف في يده ، لم يبطل خيار البائع ، لأنه لم يوجد منه رضى بإبطاله ‏.‏ وله أن يفسخ ويرجع ببدل المبيع ، وهو مثله إن كان مثلياً وإلا قيمته يوم أتلفه ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن خياره يبطل بذلك ، اختارها الخرقي ، لأنه خيار فسخ ، فبطل بتلف المبيع ، كخيار الرد بالعيب ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن مات أحد المتبايعين بطل خياره ، ولم يثبت لورثته ، لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه ، فلم يورث ، كخيار الرجوع في الهبة ‏.‏ ويتخرج أن يورث قياساً على الأجل في الثمن ‏.‏وإن جن أو أغمي عليه ، قام وليه مقامه ، لأنه قد تعذر منه الاختيار مع بقاء ملكه ‏.‏ وإن خرس ولم يفهم إشارته ، فهو كالمجنون وإن فهمت إشارته ، قام مقام لفظه ‏.‏ وإن مات في خيار المجلس ، بطل خياره ، وفي خيار صاحبه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يبطل لأن الموت أعظم الفرق ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يبطل ، لأن الفرقة بالأبدان لم تحصل ‏.‏


باب الربا


الربا محرم ، لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وحرم الربا‏}‏ ‏.‏ وما بعدها من الآيات ، وروي عن النبي ‏(‏ ص ‏)‏ أنه قال ‏:‏ لعن الله آكل الربا ، وموكله وشاهديه وكاتبه متفق عليه ‏.‏ وهو على ضربين ‏:‏ ربا الفضل ، وربا النسيئة ، والأعيان على الربا فيها ستة مذكورة في حديث عبادة بن الصامت عن النبي ‏(‏ ص ‏)‏ أنه قال ‏:‏ الذهب بالذهب مثلاً بمثل ، والفضة بالفضة مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلاً بمثل ، والبر بالبر مثلاً بمثل ، والشعير بالشعير مثلاً بمثل ، والملح بالملح مثلاً بمثل ، من زاد أو ازداد ، فقد أربى ، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد رواه مسلم ‏.‏ واختلفت الرواية في علة الربا ثلاث روايات ‏.‏ فأشهرهن ‏:‏ أن علته في الذهب والفضة الوزن والجنس ، وفي غيرهما الكيل والجنس ، لما روي عن عمار أنه قال ‏:‏ العبد خير من العبدين ، والثوب خير من الثوبين ، فما كان يداً بيد فلا بأس به ، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن ‏.‏ ولأنه لو كانت العلة الطعم لجرى الربا في الماء ، لأنه مطعوم ، قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏}‏ فعلى هذا يحرم التفاضل في كل مكيل ، أو موزون من جنس ، سواء كان مطعوماً كالقطنيات ، أو غير مطعوم كالأشنان والحديد ‏.‏ ويجري الربا فيما كان جنسه مكيلاً أو موزوناً ، وإن تعذر الكيل فيه أو الوزن ، إما لقلته ، كالتمرة والقبضة وإما دون الأرزة من الذهب والفضة ، وإما لعظمه كالزبرة العظيمة ، وإما للعادة كلحم الطير ، لأنه من جنس فيه الربا ، فجرى فيه الربا كالزبرة العظيمة ‏.‏ وما نسج من القطن والكتان لا ربا فيه ، نص عليه ، لحديث عمار وما عمل من الحديد ونحوه ما كان يقصد وزنه جرى فيه الربا ، لأنه تقصد زنته ، فجرى فيه الربا ، كلحم الطير ، وما لا تقصد زنته لا يجري فيه الربا كالثياب ‏.‏ والرواية الثانية ‏:‏ العلة في الذهب والفضة ‏:‏ الثمينة غالباً ، وفيها عداهما كونه مطعوم جنس ، لما روى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏ ولأنه لو كان الوزن علة فلم يجز إسلام النقد في الموزنات ، لأن اجتماع المالين في أحد وصفي علة ربا الفضل يمنع النساء ، بدليل إسلام المكيل في المكيل ، فعلى هذه الرواية يحرم التفاضل في كل مطعوم بيع بجنسه من الأقوات ، والأدام والفواكه والأدوية والأدهان المطيبة وغيرها ‏.‏ وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً ، كالبطيخ والرمان والبيض ونحوها ‏.‏ والرواية الثالثة ‏:‏ العلة كونه مطعوم جنس مكيلاً أو موزوناً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل ‏.‏ والمماثلة المعتبرة هي المماثلة في الكيل والوزن ، فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن ، ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد ، ولا فيما لا يكال كالبطيخ والرمان ‏.‏

فصل ‏:‏

وما يجري فيه الربا اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلاً ، وفي الموزون وزناً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب وزناً بوزن ، والفضة بالفضة وزناً بوزن ، والبر بالبر كيلاً بكيل ، والشعير بالشعير كيلاً بكيل رواه الأثرم ‏.‏ ولا يجوز بيع مكيل بجنسه وزناً ، ولا موزون كيلاً للخبر ، ولأنه لا يلزم من تساويهما في أحد المعيارين التساوي في الآخر ، لتفاوتهما في الثقل والخفة ، ولا يجوز بيع بعضه ببعض جرفاً من الطرفين ، ولا من أحدهما ، لما روى جابر قال ‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر رواه مسلم ‏.‏ ولأن الممائلة لا تعلم بدون الكيل من الطرفين ، فوجب ذلك ‏.‏ وما لا يكال ولا يوزن يعتبر الماثل فيه بالوزن ، لأنه أحصر ، ومنه ما لا يتأتى كيله ‏.‏

فصل ‏:‏

والمرجع في الكيل والوزن إلى عادة أهل الحجاز ، لقول النبي ‏(‏ص ‏)‏ ‏:‏ المكيال مكيال أهل المدينة ، والميزان ميزان أهل مكة وما لا عرف له بالحجاز يعتبر بأشبه الأشياء به بالحجاز في أحد الوجهين ، لأن الحوادث ترد إلى أقرب الأشياء شبهاً بها وهو القياس ‏.‏ والثاني ترد إلى عرفه في موضعه ، لأن ما لا حد له في الشرع يرد إلى العرف، كالقبض والحرز ‏.‏

فصل ‏:‏

والجيد والرديء ، والتبر والمضروب ، والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع متماثلاً وتحريمه متفاضلاً ، للخبر وفي بعض ألفاظه الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضة بالفضة تبرها وعينها رواه أبو داود ‏.‏ وفي لفظ جيدها ورديئها سواء ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يحرم التفاضل إلا في الجنس الواحد ، للخبر والإجماع ، وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة ، فهما جنس ، كأنواع التمر ، وأنواع البر ‏.‏ وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة ، فهما جنسان ، كالستة المذكورة في الخبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم ، وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم ، فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس ، وما اختلفا فيه جنسان ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن البر والشعير جنس ، لأن معمر بن عبد الله قال لغلامه فيهما لا تأخذن إلا مثلاً بمثل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل رواه مسلم ، والمذهب الأول ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأعيان الستة فإذا اختلفت هذه الأصناف الستة فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد رواه مسلم ‏.‏ وقال لا بأس ببيع البر بالشعير ، والشعير أكثرهما يداً بيد ‏.‏ رواه أبو داود وحديث معمر لا بد فيه من إضمار الجنس الواحد ‏.‏

فصل ‏:‏

والمتخذ من أموال الربا معتبر بأصله فما أصله جنس واحد ، فهو جنس واحد ، وإن اختلفت أسماؤه ‏.‏ وما أصله أجناس ، فهو أجناس ، وإن اتفقت أسماؤه ، فدقيق الحنطة والشعير جنسان ، ودهن اللوز والجوز جنسان ، وزيت الزيتون والبطم جنسان ، وكذلك خل العنب وخل التمر ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنهما جنسان ، والأول أصح ، لأنهما فرعا أصلين مختلفين ، فكانا جنسين كالأدقة ، وفي اللحم ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ أنه كله جنس واحد ، لأنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه ، وكان جنساً واحداً ، كالتمر ‏.‏

والثانية ‏:‏ أنه أربعة أجناس ، لحم الأنعام ، ولحم الوحش ، ولحم الطير ، ولحم دواب الماء ، لأنها تختلف منفعتها ، والقصد إلى أكلها ، فكانت أجناساً ‏.‏

والثالثة ‏:‏ أنها أجناس ، فكانت أجناساً ، كالتمر الهندي والبرني ، وبهذا ينتقض دليل الرواية الأولى ، والثانية لا أصل لها ، فعلى هذه الرواية لحم بهيمة الأنعام كلها ثلاثة أجناس ، ولحم بقر الوحش والأهلية جنسان ، وكل ما انفرد باسم وصفة فهو جنس ‏.‏ وقال ابن أبو أبي موسى ‏:‏لا خلاف عن أحمد أن لحم الطير والسمك جنسان ، وفي الألبان من القول نحو مما في اللحم ، لأنها من الحيوانات يتفق اسمها فأشبهت اللحم ‏.‏

فصل ‏:‏

واللحم والشحم والكبد والطحال والرئة والكلية والقلب والكرش أجناس ، لأنها مختلفة في الاسم والخلقة ‏.‏ قال بعض أصحابنا ‏:‏ الشحم والألية جنسان لذلك ، وقالوا ‏:‏ اللحم الأحمر والأبيض الذي على الظهر والجنبين جنس ، لاتفاقهما في الدسم المقصد ويحتمل أن يكون الشحم الذي يذوب بالنار كله جنساً واحداً لاتفاقهما في اللون والصفة والذوب بالنار ‏.‏ وقد قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما‏}‏ فاستثناه من الشحم ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع ما فيه ربا بعضه ببعض ، ومعهما أو مع أحدهما ، من غير جنسه ، كمد بر ودرهم ، أو بمدين أو درهمين ‏.‏ وعنه ، ما يدل على الجواز إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه ، أو كان المفرد أكثر ليكون الزائد في مقابلة غير الجنس ، والأول المذهب ، لما روى فضالة بن عبيد قال ‏:‏ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها بتسعة دنانير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، لا حتى تميز بينهما ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

ولأن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة ، انقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما بدليل ما لو اشترى شقصاً وسيفاً ، فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه من الثمن ‏.‏ وإذا قسم الثمن على القيمة أدى إلى الربا ، لأنه إذا باع مداً ، قيمته درهمان ودرهماً بمدين ، فقيمتهما ثلاثة ، حصل في مقابلة الجيد مد وثلث ‏.‏ فأما إذا باع نوعين مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس ، كدرهم صحيح ، ودرهم قراضة بصحيحين ، فقال القاضي ، الحكم فيها كالتي قبلها لذلك ، وقال أبو بكر ‏:‏ يجوز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الفضة بالفضة مثلاً بمثل ولأن الجودة ساقطة فيما قوبل بجنسه لما تقدم ‏.‏ وعن أحمد رضي الله عنه ‏:‏ منع ذلك في النقد وتجويزه في غيره ، لأنه لا يمكن التحرز من اختلاط النوعين ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع خالصه بمشروبه ، كحنطة فيها شعير ، أو زوان بخالصة ، أو غير خالصة ، أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو عسل في شمعه بمثله إلا أن يكون الخلط يسيراً لا وقع له ، كيسير التراب والزوان ، ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل ، لأنه لا يخل بالتماثل ، ولا يمكن التحرز منه ‏.‏

فصل ‏:‏

وما اشتمل على جنسين بأصل الخلقة ، كالتمر فيه النوى ، فلا بئس ببيع بعضه ببعض ،لأن ، النبي صلى الله عليه وسلم أبح بيع التمر بالتمر ، وقد علم أن في كل واحد نوى ‏.‏ ولو نزع النوى ، ثم ترك مع التمر صار كمسألة مد عجوة لزوال التبعية ، لو نزع من أحدهما نواه ، ثم باعه بتمر فيه نواه فكذلك ‏.‏ وإن باع النوى بمثله ، والمنزوع بمثله ، جاز لأنه جنس متماثل ‏.‏ وإن باع المنزوع وحده بالنوى ، جاز فيه التفاضل ، لأنهما جنسان ‏.‏ وإن باع النوى بتمر فيه نواه ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏لا يجوز ،لأنه في مسألة مد عجوة ‏.‏

والثانية ‏:‏ يجوز ،لآن ما فيه الربا غير مقصود في أحد الجانبين ، فلم يمنع كبيع دار مموه سقفها بذهب ،بذهب ‏.‏ وكذلك يخرج في بيع شاة لبون بلبن ، أو ذات صوف بصوف ، أو لبون بمثلها ،فإن كانت محلوبة اللبن ،جاز وجهاً واحداً، لأن الباقي لا أثر له ، فهو كالتمويه في السقف، ويجوز بيع شاة ذات صوف بمثلها وجهاً واحداً ،لأن ذلك لو حرم لحرم بيع الغنم بالغنم ‏.‏قال أبو بكر ‏:‏ يجوز بيع نخلة مثمرة بمثلها وبتمر ،لأن التمر عليها غير مقصود ، ومنعه القاضي لكون الثمرة معلومة ، يجوز إفرادها بالبيع بخلاف البن ، ومنع القاضي بيع اللحم بجنسه إلا منزوع العظام لأن العظم من غير جنس اللحم ، فأشبه الشمع في العسل ويحتمل الجواز ، لأن العظم من أصل الخلقة ، فأشبه النوى في التمر بخلاف الشمع ‏.‏

فصل ‏:‏

وما فيه خلط غير مقصود لمصلحته ، كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر ، والملح في الخبز ‏.‏ والشيرج في الخبيص ونحوه لا يمنع بيعه بمثله ، لأنه لمصلحته ، فأشبه رطوبة تمر الرطب ‏.‏ ولا يجوز بيعه بخالص كخل الزبيب بخل العنب والخبز الرطب باليابس كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه ، لأن النار تذهب برطوبته ، وتعقد أجزاءه ، فتمنع تساويهما ‏.‏ ويجوز بيع مطبوخه بمثله إذا لم يظهر عمل النار في أحدهما أكثر من الآخر ، لتساويهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال ، كالخبز بالخبز ، والشواء والسكر والعسل المصفى بالنار بمثله ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع حبة بدقيقه ، وعنه ‏:‏ الجواز إذا تساويا وزناً ، لأن الدقيق أجزاء الحب ، فجاز بيعه به ، كما قبل الطحن ، والمذهب الأول ، لأن البر ودقيقه مكيلان ولا بيع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً ، ولا يمكن التساوي في الكيل ، لأن الطحن فرق أجزاء الدقيق ونشرها ، ويجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بمثله إذا تساويا في الكيل والنعومة ، ولما ذكرنا في المطبوخ بمثله ، ولا يجوز إذا تفاوتا في النعومة ، لأنه يمنع تساويهما في الكيل إلا على قولنا ‏:‏ يجوز بيع الحب بدقيقه وزناً ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالزيتون بزيته ، والمسمم بالشيرج ، والعنب بعصيره ، لأنه لا يتحقق التماثل بين العصير، وما في أصله منه ‏.‏ ويجوز بيع العصير بالعصير لما ذكرنا في المطبوخ ‏.‏ ولا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه لما روى سعيد بن المسيب أن النبي ‏(‏ ص‏)‏ نهى عن بيع اللحم بالحيوان ‏.‏ رواه مالك في الموطأ ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه ، فلم يجز كالزيتون بالزيت ‏.‏ وإن باع اللحم بحيوان لا يؤكل ،جاز لعدم ما ذكر ، وإن باعه بحيوان مأكول غير أصله ، وقلنا ‏:‏ هما جنس واحد لم يجز وإلا جاز ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز بيع اللبن باللبن ، حليبين كانا أو رائباً وحليباً ، لأن الرائب لبن خالص ، إنما فيه حموضة ‏.‏ ولا يجوز بيع لبن بما استخرج منه من زبد وسمن ومخيض ، ولا زبد بسمن ، لأنه مستخرج منه ، أشبه الزيتون بالزيت ‏.‏ وعنه ‏:‏ يجوز بيع الزبد باللبن إذا كان أكثر من الزبد الذي في اللبن ، والسمن مثله ، وهكذا كمسألة مد عجوة ، والظاهر تحريمه ‏.‏ ولا بيع لبن مائع بجامد ، لأنهما يتفاضلان ويجوز بيع السمن والزبد والمخيض واللباء والجبن ، والمصل بمثله ، إذا تساويا في الرطوبة والنشافة ، ولم ينفرد أحدهما بمس النار له ‏.‏ ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلاً ، لأنه ليس في أحدهما شيء من الآخر ‏.‏ وبيع الزبد بالمخيض ‏.‏ نص عليه ‏.‏ لأن اللبن في الزبد يسير غير مقصود ، أشبه الملح في الشيرج ‏.‏ولا يجوز بيع شيء من هذه الأنواع بنوع لم ينزع زبده ، كالجبن والمصل ، لما ذكرنا في بيعه باللبن ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع رطبه بيابسه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال ‏:‏ أينقص الرطب إذا يبس‏؟‏ فقالوا نعم ، فنهاه عن ذلك أخرجه أبو داود ‏.‏ فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه ، فدل على أن كل رطب يحرم بيعه بيابسه ‏.‏ ويجوز بيع رطبه برطبه ، لأن مفهوم نهيه عن بيع الرطب بالتمر ، إباحة بيعه بمثله ، ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا يتفرد أحدهما بالنقصان ، فجاز بيعه به ، كاللبن باللبن ، وذكر الخرقي ‏.‏ أن الحم لا يباع باللحم إلا إذا تناهى جفافه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بمثله ، اخترها أبو حفص لأنهما لم يتساويا حال الكمال ‏.‏ والمذهب والجواز ‏:‏ وقال القاضي ‏:‏ لم أجد بما قال الخرقي عن أحمد رضي الله عنه ‏.‏

فصل ‏:‏

ويجوز بيع العرايا ، وهو ‏:‏ بيع الرطب على رؤوس النخل خرصاً بالتمر على وجه الأرض ‏.‏ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق متفق عليه ‏.‏ وإنما يجوز بشروط خمسة ‏.‏

أحدها ‏:‏ أن يكون دون خمسة أوسق ‏.‏ وعنه يجوز في الخمسة ، لأن الرخصة ثبتت في العرية ، ثم نهى عما زاد على الخمسة ، وشك الراوي في الخمسة، فردت إلى أصل الرخصة ‏.‏ والمذهب الأول ، لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر فيما دون الخمسة، بالخبر ، والخمسة مشكوك فيها ، فترد إلى الأصل ‏.‏

الثاني ‏:‏ أن يكون مشتريها محتاجا‏ً إلى أكلها رطباً ‏.‏ لما روى محمود بن لبيد قال ‏:‏ قلت لزيد بن ثابت ‏:‏ ما عراياكم هذه ‏؟‏ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه، وعندهم فضول من التمر ، فرخص لهم أن يبتاعوا ‏[‏العرية‏]‏ برخصها من التمر ‏[‏يأكلونه‏]‏ رطباً ‏.‏ متفق عليه ‏.‏

والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها فإن تركها حتى تتمر بطل البيع لعدم الحاجة ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن يشتريها بخرصها للخبر ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً متفق عليه ‏.‏

ولا بد أن يكون التمر معلوماً بالكيل للخبر ، وفي معنى الخرص روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ أن ينتظر كم يجيء منها تمراً ، فيبيعها بمثله ، لأنه يخرص في الزكاة كذلك ‏.‏

والثانية ‏:‏ يبيعها بمثل ما فيها من الرطب ، لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل ، فإذا خولف الدليل في أحدهما ، وأمكن أن لا يخالف في الآخر ، وجب ‏.‏ ولا يجوز بيعها برطب ولا تمر على نخل خرصاً ‏.‏

الخامس ‏:‏ أن يتقابضا قبل تفرقهما ، لأن البيع تمر بتمر ، فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع ، والقبض فيما على النخل بالتخلية ، وفي التمر باكتياله ، فإن كان حاضراً في مجلس البيع اكتاله ، وإن كان غائباً مشيا إلى التمر ، فتسلما ‏.‏ وإن قبضه أو لا ، ثم مشيا إلى النخلة ، فتسلمها ، جاز ‏.‏ واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها ، لأن العرية اسم لذلك ‏.‏

واشترط أبو بكر والقاضي حاجة البائع إلى بيعها ، وحديث زيد بن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة ، إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط ، فتذهب الرخصة ، فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد وعلى قولهما لا يجوز إلا أن ينقصا بمجموعهما عن أو ساق ، ولا يجوز لوحد شراء عريتين فيهما جميعاً خمسة أوسق ، لأنه في معنى شرائهما في عقد واحد ‏.‏

فصل ‏:‏

قال ابن حامد ‏:‏ لا يجوز بيع العرايا في غير ثمرة النخل ، لما روي أن النبي ‏(‏ص‏)‏ نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا ، فإنه قد أذن لهم ،وعن بيع العنب بالزبيب ، وعن كل ثمر بخرصه ‏.‏ وهذا حديث حسن ، ولأن غير التمر لا يساويه في كثرة اقتياته ، وسهولة خرصه ، فلا يقاس عليه غيره ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يجوز في جميع الثمار ، لأن حاجت الناس إلى رطبها كحاجتهم إلى الرطب ‏.‏ ويحتمل الجواز في التمر والعنب خاصة ، لتساويهما في وجوب الزكاة فيهما ، وورود الشرع بخرصهما وكونهما مقتاتين دون غيرهما ‏.‏

فصل ‏:‏

في ربا النسيئة كل مالين اتفقنا في علة ربا الفضل ، كالمكلين والموزونين ‏.‏ أو المطعومين على الرواية الأخرى ، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نساء ، ولا التفرق قبل القبض ، لقول النبي ‏(‏ص‏)‏ ‏:‏ إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ‏:‏ قال رسول الله ‏(‏ص‏)‏ الذهب بالورق رباً ، إلا هاء وهاء ، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء متفق عليه ‏.‏

وما اختلفت علتهما ، كالمكيل والموزون إذا لم يتفقا في الطعم ، جاز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة ، وفي النساء فيهما روايتان ‏.‏ وما لم يوجد فيه علة ربا الفضل ، كالثياب والحيوان ، ففيه روايات أربع ‏.‏

إحداهن ‏:‏ يجوز النساء فيهما ، لما روي عن عبد الله بن عمرو قال ‏:‏ أمرني النبي ‏(‏ص‏)‏ أن أستسلف إبلاً ، فكنت آخذ البعير بالبعير إلى مجيء المصدق ‏.‏ من ‏{‏المستند‏}‏ ‏.‏والثانية ‏:‏ لا يجوز ، لما روى سمرة قال ‏:‏ نهى رسول الله ‏(‏ص‏)‏ عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ‏.‏ قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث صحيح ‏.‏

والثالثة ‏:‏ يحرم النساء في الجنس الواحد ، لهذا الخبر ، ويباح في الجنسين عملاً بمفهومه ‏.‏

والربعة ‏:‏ يباح مع التساوي ، ويحرم مع التفاضل في الجنس الواحد ، لما روى جابر أن النبي ‏(‏ص‏)‏ قال ‏:‏ الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نساء ، ولا بأس به يداً بيد قال الترمذي ‏:‏ هذا حديث حسن ‏.‏

وعن ابن عمر رجلاً قال ‏:‏ يا رسول الله ‏.‏ أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس ، والنجيبة بالإبل ‏؟‏ فقال‏:‏ لا بأس به إذاً كان يداً بيد رواه أحمد في المسند ولا خلاف في جواز الشراء بالأثمان نساء من سائر الأموال موزوناً أو غيره ، لأنها رؤوس الأموال ، فالحاجة داعية إلى الشراء بها نساء وناجزاً ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن تفرقا قبل القبض ، فيما يشترط القبض فيه ، بطل العقد فإن تفرقا قبل قبض بعضه ، بطل في غير المقبوض ، وفي المقبوض وجهان ، بناء على تفريق الصفقة ‏.‏ وما وجب التماثل فيه إذا بيع عيناً بعين ، فوجد في أحدهما عيباً من غير جنسه ، بطل البيع ، لأنه يفوت التماثل المشترط ، وإن كان البيع في الذمة جاز إبداله قبل التفرق ‏.‏ وهل يجوز بعد التفرق ‏؟‏ فيه روايتان‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز إذا أخذ البدل في مجلس الرد ، لأن قبض بدله يقوم مقامه ‏.‏

والثانية ‏:‏ يبطل العقد برده ، لأنهما تفرقا قبل العوض ، وإن كان عيبه لمعنى لا ينقص ذاته ، كالسواد في الفضة ، والخشونة فيها ، فالعقد صحيح ، وليس له أخذ الأرش ، لأنه يخل بالتماثل ، وله الخيار بين فسخ العقد ، أو الإمساك ، وليس له البدل إن كان البيع عيناً بعين ‏.‏ وإن كان البيع في الذمة ، فحكمه حكم القسم الذي قبله ، فأما ما لا يجب التماثل فيه فله أخذ أرشه ، لأن التفاضل فيه جائزة ، وحكمه فيما سوى ذلك حكم ما قبله ‏.‏


باب بيع الأصول


من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ، فتكون له ، وإن لم تؤبر ، فهي للمشتري إلا أن يشترطها البائع فتكون له ، لما روى ابن عمر أن النبيصلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع متفق عليه ‏.‏ فجعل المؤبرة للبائع ، فدل على أن غير المؤبرة للمبتاع ، ولأنها قبل التأبير نماء كامن لظهوره غاية ، فتبع الأصل قبل ظهوره ولم يتبعه بعده كالحمل ، وطلع الفحال كغيره ، ويحتمل أنه للبائع قبل تشققه لأنه يوجد كذلك والطلع ظاهر ، فهو كالتين‏.‏ والصحيح ‏:‏ الأول للخبر ، لأن المقصود فيما داخل الطلع للتلقيح ، ولم يظهر ، فيتبع الأصل ، كطلع الإناث ‏.‏ فإن أبر بعض الحائط دون بعض ، فما أبر للبائع ، وما لم يؤبر للمشتري في ظاهر كلام أحمد وقول أبي بكر للخبر ، وقال ابن حامد ‏:‏ الكل للبائع ‏:‏ لأن اشتراكهما في الثمرة يؤدي إلى الضرر ، واختلاف الأيدي ، فجعلنا ما لم يظهر تبعاً للظاهر ، كأساسيات الحيطان تتبع الظاهر منها ، ولم يجعل الظاهر تبعاً للباطن ، كما لا تتبع الحيطان الأساس في منع البيع للجهالة ‏.‏ وإن كان المبيع حائطين ، لم يتبع أحدهما صاحبه ، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ، لانفراد أحدهما عن الآخر، وإن أبر نوع من الحائط لم يتبع النوع الآخر في قول القاضي ، لأن النوعين يختلفان في التأبير ‏.‏ وقال أبو الخطاب ، يتبعه لئلا يفضي إلى سوء المشاركة في الجنس الواحد ، وإن أبر بعض ما في الحائط ، فأفرد بالبيع ما لم يؤبر ، فهو للمشتري ، لأنه لم يؤبر منه شيء ، وإن أبر بعض الحائط فباعه ثم أطلع الباقي في يد المشتري ، فالطلع له ، لأنه حادث في مكة ، فكان له ، كما لو لم يؤبر منه شيء ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل عقد ناقل للأصل ، كجعله صداقاً ، وعوض خلع ، أو أجرة أو هبة ، كالبيع فيما ذكرنا ، لأنه عقد يزيل الملك عن الأصل ، فأزاله عن الثمرة قبل الظهور كالبيع ‏.‏

فصل ‏:‏

وسائر الشجر على ستة أضرب ‏:‏

أحدهما ‏:‏ ما يقصد زهره كالورد ، والقطن الذي يبقى أعواماً ، فهو كالنخل ، إن تفتحت أكمامه ، وتشقق جوزه ، فهو للبائع ، وإلا فهو للمشتري ، كالطلع سواء ‏.‏

الضرب الثاني ‏:‏ ما له ثمرة بارزة كالعنب والتين ، فما كان منه ظاهراً فهو للبائع ، لأنها ثمرة ظاهرة ، فهي كالطلع المؤبر ، وما ظهر بعد العقد ، فهو للمشتري ، لأنه حدث في ملكه ‏.‏

الثالث ‏:‏ ما له قشر لا يزال إلا عند الأكل ، كالرمان والموز ، فهو للبائع إن كان ظهر ، لأن قشره من مصلحته ، فهو كأجزاء الثمرة ‏.‏

الرابع ‏:‏ ما له قشران ، كالجوز واللوز ، فهو للبائع بنفس الظهور لأن قشره لا يزايله في الغالب إلا بعد جذاذه ، فهو كالرمان ، وقال بعض أصحابنا ‏:‏ إن تشقق قشره الأعلى ، فهو للبائع ، وإلا فهو للمشتري ، لأنه لا يدخر في قشره الأعلى ، بخلاف الرمان ‏.‏

الخامس ‏:‏ ما يظهر ثمره في نوره ، ثم يتناثر نوره فيظهر كالتفاح والمشمش ، فما تناثر نوره ، فهو للبائع ، وما لا يتناثر ، فهو للمشتري ، لأنه لا يظهر إلا بعد تناثر نوره ، فكان كتأبير النخل ، ويحتمل أنه للبائع بظهور نوره ، لأن استتار الثمرة بالنور ، كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض ‏.‏

السادس ‏:‏ ما يقصد ورقه كالتوت ، فيحتمل أنه للمشتري بكل حالة قياساً على سائر الورق ، ويحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع ، وإلا فهو للمشتري ، لأنه ها هنا كالثمر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اشترى شجراً عليه ثمرة للبائع ، لم يكلف نقلها إلا أوان جذاذها ، لأن نقل المبيع على حسب العادة ، ولهذا لو اشترى متاعاً ليلاً ، لم يكلف نقله حتى يصبح ،ولو باع متاعاً كثيراً في دار ، لم يكلف تفريغها إلا على العادة ، ولم يلزمه جمع دواب البلد لنقله دفعة واحدة ، فإذا بلغ الجذاذ ، كلف نقله ، وإن كان بقاؤه أنفع له ، لأنه أمكن نقله عادة ، وإن أصاب الشجر عطش خيف هلاكه ببقائه عليه ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا يلزم قطعه ، لأنهما دخلا في العقد على ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ ‏.‏

والثاني ‏:‏ يلزم قطعه ، لأن المشتري رضي بذلك إذا لم يضر به ، وهذا فيه ضرر كثير ‏.‏ وإن أراد أحدهما سقي ما له لمصلحته ، فله ذلك ، وإن أضر بصاحبه ، لأنه رضي بالضرر لعلمه أنه لا بد من السقي ، وإن سقى لغير مصلحة لم يمكن منه ، لأنه سفه ‏.‏

فصل

وإن باع أرضاً بحقوقها ، دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع ، وإن لم يقل بحقوقها ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يدخل أيضاً لأنه متصل بها للبقاء فهو كأجزائها ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يدخل ،لأن الأرض اسم للعرصة دون ما فيها ‏.‏ وإن قال ‏:‏ بعتك هذا البستان ، دخل الجميع في البيع ، لأن البستان اسم للأرض ذات الشجر ‏.‏

وإن باع الأرض وفيها زرع ،لا يحصد إلا مرة ، كالحنطة والشعير والجزر والفجل ، لم يدخل في البيع ، لأنه نماء ظاهر لفصله غاية فلم يدخل في بيع الأرض كالطلع المؤبر وسواء كان نابتاً أو بذراً لأن البذر مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها ، كالركاز ، ويكون الزرع مبقى إلى حين الحصاد ، كما أن الثمرة تبقى إلى حين الجذاذ ، فإن أراد البائع قطعه قبل وقته لينتفع بالأرض ، لم يكن له ذلك ، لأن منفعة الأرض إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد ، ضرورة إبقاء الزرع ، فتقدرت ببقائه ، كما لو باع داراً فيها متاع لا ينقل في العادة إلا في شهر ، فيكلف نقله في يوم ، لينتفع بها في بقيته ‏.‏ والحصاد على البائع ، وعليه إزالة ما يبقى من عروقه المضرة بالأرض ، وتسوية حفره ،لأنه حصل بفعله لاستصلاح ملكه ، فأشبه من باع داراً فيها حجر للبائع ، فقلعه وتحفرت الأرض ، وإن اشترطها المشتري في البيع ، كانت له ، كالثمرة المؤبرة ، ولا تضر جهالته ، لأنه دخل في البيع تبعاً للأرض ، فأشبه الثمرة بعد تأبيرها ‏.‏ وإن لم يعلم المشتري بالبزرة ، فله الخيار ، لأنه عيب في حقه لما يفوت عليه من نفع الأرض ، فإن قال البائع ‏:‏ أنا أحوله على وجه لا يضر وفعل ، سقط الخيار ، لزوال العيب ، وإن اشترى نخلاً إذا طلع مؤبر لم يعلم تأبيره ، فله الخيار أيضاً ‏.‏ وإن بذل البائع قطعه ، لم يسقط الخيار ، لأن الضرر لا يزول بقطعه ، لأنه يفوت عليها ‏{‏ثمرتها‏}‏ عاماً ‏.‏

فصل

وإن كان في الأرض ما له أصل يجز ، مرة بعد أخرى ،فالجزة الظاهرة عند البيع للبائع ، والأصول للمشتري ، سواء كان مما يبقى عاماً كالهندباء ، أو أكثر كالرطبة ، لأن أصوله تركت للبقاء ، فهي كالشجرة ‏.‏ وما ظهر منه وجرت العادة بأخذه ، فهو كالثمرة المؤبرة وعلى البائع قطعه في الحال لأنه لا حد له ينتهي إليه ، ولأنه يطول والزيادة للمشتري ، وما تتكرر ثمرته مع بقاء أصله كالقثاء ، والباذنجان ، والبطيخ ، أو يقصد زهره كالبنفسج ونحوه فكذلك‏:‏ الأصول للمشتري ، وثمرته الظاهرة وزهره للبائع ، لأنه تؤخذ ثمرته مع بقاء أصله ، فهو كالبقول ‏.‏

فصل

وإن كان في الأرض حجارة مدفونة ، أو ركاز لم يدخل في البيع ، لأنه ليس من أجزائها ، إنما هو مودع فيها للنقل عنها ، فهو كالقماش ‏.‏ فإن كانت الأحجار من نفس الأرض ، أو أساسيات الحيطان ،أو كان فيها معدن باطن ، كمعدن الذهب والفضة ، دخل في البيع ، لأنه من أجزائها ، أو متروك للبقاء فيها ،فهو كالبناء ‏.‏

فصل

وإن باعه داراً ، دخت فيها ما اتصل بها ، كالرفوف المسمرة ، والخوابي المدفونة فيها للانتفاع بها ، والحجر السفلاني من الرحى المنصوب ، والأبواب المنصوبة وفي الحجر الفوقاني والمفتاح وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يدخل ، لأنه من مصلحة ما هو داخل في البيع ، فهو كالباب ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يدخل ، لأنه ينفرد عنه ، فهو كالدلو ، وما هو منفصل عنها مما ليس من مصلحتها ، كالدلو والحبل والبكرة والقفل لم يدخل في البيع ، لأنه منفصل عنها غير

مختص بمصلحتها ، أشبه الفرش التي فيها ‏.‏

وإن باعه قرية لم تدخل مزارعها في البيع إلا بذكرها ، لأن القرية اسم للأبنية دون

المزارع ‏.‏


باب بيع الثمار


لا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع ‏.‏ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها متفق عليه ‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ نهى عن بيع الثمار حتى تزهو ، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة رواه مسلم ولأن في بيعه عزراً من غير حاجة ، فلم يجز كما لو شرط التبقية ، فإن باعها بشرط القطع ، جاز ، لأنه يأخذها قبل تلفها ، فيأمن الغرر ‏.‏ وإن باعها لمالك الأصل ، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما ‏:‏ يصح لأنها تحصل لمالك الأصل فجاز ، كما لو باعهما معاً ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يصح ، لأنه أفردها بالعقد ، أشبه ما لو باعها لغيره ، وإنما يصح إذا باعهما لأنها تدخل تبعاً كالحمل مع أمه ‏.‏ وإذا بدا الصلاح ، جاز بيعها بشرط القطع مطلقاً وبشرط التبقية للخبر ، ولأنه أمن العاهة ، فجاز بيعه كسائر الأموال ‏.‏

فصل ‏:‏

وبدو الصلاح في ثمرة النخل أن يحمر ، أو يصفر ، وفي العنب أن يسود أو يتموه ، وفي الحب أن يشتد أو يبيض ، وفي سائر الثمار أن يبدو فيه النضج ، أو يطيب أكله ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب ‏.‏ متفق عليه ونهى عن بيع الثمرة حتى تزهو ، قيل ‏:‏ وما تزهو ‏؟‏ قال ‏:‏ تحمار ، أو تصفار ‏.‏ ونهى عن بيع الحب حتى يشتد ، وعن بيع العنب حتى يسود ‏.‏ رواه الترمذي ‏.‏

وإذا بدا الصلاح في نوع ، جاز بيع ما في البستان منه وعنه ‏:‏ لا يباع إلا ما بدا صلاحه ، للخبر ‏.‏ والأول أظهر ، لأن ذلك يؤدي إلى الضرر والمشقة وسوء المشاركة ، وفي سائر الجنس وجهان ‏.‏ مضى توجيههما في التأبير ‏.‏ ولا يختلف المذهب أن بدو الصلاح في بعض الشجرة صلاح لجميعها ، وأن بدو صلاح جنس ليس بصلاح لجنس آخر ، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ، وإن بدا صلاح ثمرة بستان ، لم يكن صلاحاً لثمرة غيره ، وعنه ‏:‏ يكون صلاحاً فيما قاربه ، لأنهما يتقاربان في الإدراك ، والمذهب ‏:‏ الأول ، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة وإن بدا الصلاح في ثمرة بستان ، فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه ، لم يجز ، لأنه لم يبد صلاح شيء من المبيع ، أشبه البستان الآخر وفيه وجه آخر ‏:‏ أنه يجوز ، لأنه يجوز بيعه مع غيره ، فجاز منفرداً كالذي بدا صلاحه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا ابتاع ثمراً أو زرعاً بعد صلاحه ، لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجذاذ ، لأن ذلك العادة في نقله فحمل البيع عليه ، لما ذكرنا في الثمرة المؤبر ، وإن احتاجت إلى سقي لزم البائع سقيها ، لأن عليه تسليمها في أوان حصادها ولا يحصل إلا بالسقي فلزمه ، بخلاف ثمرة البائع المؤبرة على أصول المشتري لا يلزمه سقيها لأنه لا يلزمه تسليمها وإن تلفت بجائحة من السماء ، فهي من ضمان البائع لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ‏.‏ وفي لفظ قال ‏:‏ إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق ‏؟‏ رواهما مسلم ‏.‏ ولأنها تؤخذ حالاً فحالاً فكانت من ضمان البائع ، كالمنافع في الإجازة ‏.‏ والجائحة ‏:‏ ما لا صنع لآدمي فيها ‏.‏ فإن أتلفها آدمي ، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن ، وبين الإمساك ومطالبة المتلف بالقيمة ، وظاهر المذهب أنه لا فرق بين القليل والكثير ، إلا أن يكون التالف يسيراً جرت العادة بتلف مثله ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ لا أقول في عشر تمرات ، ولا عشرين تمرة ، ولا أدري ما الثلث وذلك لأن الشرع أمر بوضع الجوائح ، ولم يجعل له حداً فوجب رده إلى ما يتعارفه الناس جائحة ‏.‏ وعنه ‏:‏ أن ما دون الثلث من ضمان المشتري ، لأن الثمرة لا بد من تلف شيء منها فلا بد من حد فاصل ‏.‏ والثلث يصلح ضابطاً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ والثلث كثير ، وإن بلغت الثمرة أو الزرع أوان الحصاد فلم ينقل حتى هلك ، فهو من ضمان المشتري ، لأنه لزمه النقل فكان التفريض منه فاختص الضمان به ‏.‏ وإن اختلفا في التلف أو في قدره ، فالقول قول البائع ، لأنه غارم ، ولأن الأصل السلامة ‏.‏ ولو اشترى الثمرة من الشجرة ، أو الزرع مع الأرض ، زال الضمان عن البائع بمجرد العقد ، لأنه حصل التسليم الكامل بتسليم الأصل ، فأشبه بيع الدار ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اشترى ثمرة شجرة فحدثت ثمرة أخرى ، فاختلطتا ولم تتميزا ، أو حنطة فانثالت عليها أخرى ، لم يبطل البيع ، لأن المبيع باق انضاف إليه غيره فأشبه ما لو اشتبه العبد المبيع بغيره ، ويشتركان كل واحدة بقدر ماله إن علم قدره ، وإلا وقف حتى يصطلحا ، ويحتمل أن يبطل العقد لتعذر تسليم المستحق ، فأشبه تلف المبيع ‏.‏ ولو باع الأصل وعليه ثمرة له ، فحدثت للمشتري ثمرة اختلطت بها ، لم يبطل العقد ، لأن المبيع هو الشجرة ‏.‏ ولم يختلط بغيره ، ويشتركان في الثمرة كما بينا ‏.‏ ولو باع ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع ، وتركها حتى بدا صلاحها ، أو جزة من الرطبة فطالت حيلة ، فالعقد باطل من أصله ‏.‏ نص عليه ‏.‏ لأن الحيل لا تجوز في الدين ، وإن لم تكن حيلة ،ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يبطل العقد ، لأن البقية معنى حرم اشتراطه لحق الله تعالى ، فأبطل العقد حقيقته ، كالنسيئة في الربويات ‏.‏

والثانية ‏:‏ لا يبطل ، لأنها زيادة في عين المبيع فلم يبطل بها البيع ، كسمن العبد ‏.‏ قال القاضي ‏:‏ والزيادة للمشتري لذلك ‏.‏ وعن أحمد ‏:‏ أنهما يشتركان في الزيادة على كلتا الروايتين ، لحصولها في ملك المشتري ، بسبب الأصل الذي للبائع ‏.‏ وعنه ‏:‏ يتصدقان بها ، قال القاضي ‏:‏ هذا على سبيل الاستحباب ، لاشتباه الأمر فيها فينظر ، كم قيمتها قبل بدو صلاحها وبعده ‏؟‏ فيشتركان فيها أو يتصدقان بها ، وإن جهلت القيمة ، وقف الأمر حتى يصطلحا ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا كانت شجرة تحمل حملين ، فباع أحدهما عالماً أنه يحدث الآخر فيختلط بالأول ، فالبيع باطل ، لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه ، لأن العادة فيه الترك ، فيختلط بالآخر ويتعذر التسليم ‏.‏

فصل ‏:‏

ولا يجوز بيع الرطبة ونحوها مما يثبت أصله في الأرض ، ويؤخذ ما يظهر منه بالقطع دفعة بعد أخرى ، إلا أن يبيع الظاهر بشرط القطع في الحال ، لأن ما في الأرض مغيب ، وما يحدث منه معدوم ، فلم يجز بيعه ، كالذي يحدث من الثمرة ‏.‏ وإذا باع القثاء والباذنجان ونحوها لقطة لقطة جاز ، ويكون للمشتري جميع اللقطة ، وما حدث للبائع ‏.‏

قال القاضي ‏:‏ ويجوز بيع أصولها ، صغاراً كانت أو كباراً ، مثمرة أو غير مثمرة ، لأنه أصل تكرر منه الثمر فأشبه الشجر ، يكون حكمه حكم الشجر في أن ما كان من ثمرته ظاهراً عند البيع ، فهو للبائع ، وما لم يظهر ، فهو للمشتري ‏.‏ ولا يجوز بيع الفجل والجزر نحوهما في الأرض ، لأن المقصود منها مغيب فأشبه بيع النوى في التمر ‏.‏


باب الرد بالعيب


من علم بسلعته عيباً ، لم يحل له بيعها حتى يبينه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ المسلم أخو المسلم ، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه له رواه ابن ماجة ‏.‏ فإن باع ولم يبين ، فالبيع صحيح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح بيع المصراة مع نهيه عنه ‏.‏ وحكي عن أبي بكر ‏:‏ أن البيع باطل لظاهر النهي ، ومن اشترى معيباً أو مصراة أو مدلساً يعلم حاله ، فلا خيار له ، لأنه بذل الثمن فيه راضياً به عوضاً ، فأشبه ما لا عيب فيه ‏.‏ وإن لم يعلم ، فله الخيار بين رده وأخذ الثمن ، لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له ، فثبت له الرجوع بالثمن ، كما في المصراة _ وبين إمساكه المعيب وأخذ أرشه ، لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن ‏.‏ فإذا لم يسلم له ، كان له ما يقابله ‏.‏ كما لو تلف في يده ‏.‏ ومعنى الأرش ‏:‏ أن ينظر بين قيمته سليماً ومعيباً فيؤخذ قدره من الثمن ‏.‏ فإذا نقصه العيب عشر قيمته ، فأرشه عشر ثمنه لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت ‏.‏

فصل

فإن نما المبيع المعيب نماء متصلاً كالسمن والكبر ، والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور ، وأراد الرد ، رده بزيادته ، لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها ‏.‏ وإن كانت منفصلة ، كالكسب واللبن وما يوهب له ، والولد المنفصل ، والثمرة الظاهرة ، رد الأصل وأمسك النماء ‏.‏ وعنه ‏:‏ ليس له رده دون نمائه ، والأول الذهب لما روت عائشة ‏:‏ أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيباً فرده ‏.‏ فقال يا رسول الله ‏:‏ إنه استغل غلامي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ الخراج بالضمان رواه أبو داود ‏.‏ إلا أن الولد ، إن كان لآدمية ، لم يملك ردها دونه ، لأن فيه تغريقاً بينهما ، وذكر الشريف ‏:‏ أن له ردها ، لأنه موضع حاجة ، أشبه من ولدت حراً فباعها دونه ، والأول أولى ، لأن الجمع ممكن بأخذ الأرش أو ردهما معاً ‏.‏ فإن كان المبيع حاملاً فولدت عند المشتري ، ثم ردها ، رد الولد معها ، لأنه من جملة المبيع ، والولادة نماء متصل ‏.‏

فصل

وإن تعيب المبيع عند المشتري ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ له أرش العيب وليس له رده ، لأن في رده ضرراً ، فلا يزال الضرر بالضرر ‏.‏

والثانية ‏:‏ يرده ، وأرش العيب الحادث عنده ، ويأخذ الثمن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد المصراة بعد أخذ لبنها ، ورد عوضه ، ولأن جواز الرد كان ثابتاً ، فلا يزول إلا بدليل ، ولا نص في منع الرد ، ولا قياس فيبقى بحاله ‏.‏ فإن دلس البائع العيب فتعيب عند المشتري ، أو تلف بفعله أو غيره ، فالمنصوص أنه يرجع بالثمن ولا شيء عليه ، لأنه مغرور ، والقياس يقتضي التسوية بين المدلس وغيره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على مشتري المصراة عوض لبنها مع التدليس ، وجعل الخراج بالضمان ، ولم يفرق بين مدلس وغيره ‏.‏

وعن أحمد ‏:‏ في المبيع إذا كان صانعاً ، أو كاتباً فنسي عند المشتري ، يرده بالعيب ، ولا شيء معه ‏.‏ وهذا يحتمل أن يكون فيمن دلس العيب دون غيره ، لأن الصناعة والكتابة متقومة تضمن في الغصب ‏.‏ وعلله القاضي ‏:‏ أنه ليس بنقص في العين ، ويمكن تذكره فيعود ‏.‏

فصل

وما تعيب قبل قبضه ، وهو مما يدخل ، وهو مما يدخل في ضمان المشتري ، فهو كالعيب الحادث في يده ‏.‏ وإن كان مما ضمانه على البائع ، فهو كالعيب القديم ، لأن من ضمن جملة المبيع ضمن أجزاءه ‏.‏

فصل

وإن وطئ المشتري الأمة ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ ليس له ردها وله الأرش ، لأن الوطء يجري مجرى الجناية ، لا يخلو من عقر أو عقوبة ‏.‏

والثانية ‏:‏ له ردها إن كانت ثيباً ولا شيء معها ، لأنها معنى لا ينقص عينها ، ولا قيمتها ، ولا يتضمن الرضاء بالعيب ، فأشبه الاستخدام ‏.‏ وإن كانت بكراً فهو كتعيبها عنده ، فإن ردها ، رد أرش نقصها كما لو عابت عنده ‏.‏

فصل

فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع ، بقتل أو غيره أو أعتقه أو وقفه ، أو أبق أو باعه ، أو وهبه ، فله الأرش ، لأنه تعذر عليه الرد ‏.‏ وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب ، فلا أرش له ، لرضاه به معيباً ‏.‏ ذكره القاضي ‏.‏ وقال أبو الخطاب في المبيع والهبة ‏:‏ رواية أخرى ‏:‏ له الأرش ، ولم يعتبر علمه ، وهو قياس المذهب ، لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش ، وتصرفه فيه كإمساكه ‏.‏ وإن باعه قبل العلم ، ثم رجع إليه ببيع أو غيره ، فله رده أو أرشه ، لأن ذلك امتنع عليه ، لخروجه من ملكه ، وبرجوعه إليه عاد الإمكان ‏.‏

فصل

وإن باع بعضه أو وهبه ، فله أرش الباقي ، فأما أرش ما باع ، فينبني على ما قلنا في بيع الجميع وفي جواز رد الباقي بحصته من الثمن روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يجوز ‏.‏ ذكره الخرقي ، لأن رده ممكن ‏.‏

والأخرى ‏:‏لا يجوز ‏.‏ لأن فيه تبعيض الصفقة على البائع ، فلم يجز ‏.‏ كما لو كان المبيع عينين ينقصهما التفريق ‏.‏ ولو اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيباً ، فله ردهما معاً أو إمساكهما ، وأخذ الأرش ، فإن أرد رد المعيب وحده ، ففيه الروايتان ، إلا أن يكونا مما ينقصهما التفريق ، كمصراعي باب ، وزوجي خف ، أو ممن لا يحل التفريق بينهما ، كالأخوين فليس له إلا ردهما أو إمساكهما مع الأرش ، لأن في رد أحدهما تفريقاً محرماً ، أو إضراراً بالبائع ، لنقصان قيمة المردود بالتفريق ‏.‏ وإن تلف أحد المبيعين ووجد بالآخر عيباً ، فعلى الروايتين ‏.‏ وإن اختلفا في قيمة التالف ، فالقول قول المشتري ، لأنه كالغارم ، فهو كالمستعير والغاصب ، وإن كانا معيبين باقيين ، فأراد رد أحدهما وحده ، فهي كالتي قبلها ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ ليس له رد أحدهما ، لأنه أمكنه ردهما معاً ‏.‏ ولو كان المبيع عيناً واحدة فأراد رد بعضها ، لم يملك ذلك وجهاً واحداً ، لأن فيه تشقيص المبيع على البائع ، وإلحاقاً لضرر الشركة به ‏.‏

فصل

وإن اشترى اثنان شيئاً فوجداه معيباً فرضيه أحدهما ، ففيها روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ للآخر رده نصيبه ، لأنه جميع ما ملكه بالعقد فملك رده بذلك ، كما لو انفرد ‏.‏

والأخرى ‏:‏ ليس له رد ، لأن المبيع خرج عن ملك البائع كاملاً فلم يملك المشتري رده مشقصاً ‏.‏ كما لو اشترى العين كلها ثم رد بعضها ‏.‏ ولو ورث اثنان خيار عيب في سلعة ، فرضي أحدهما سقط رد الآخر ، لأن العقد عليها واحد ، بخلاف شراء الاثنين ، فإن عقدان ‏.‏ وإن اشترى واحد من اثنين شيئاً ، فوجده معيباً ، فله رد نصيب أحدهما عليه منفرداً ، لأنه يرد عليه جميع ما باعه ‏.‏

فصل

ومن اشترى معيباً فزال عيبه قبل رده ، مثل أن يشتري أمة مزوجة فطلقها الزوج ، فلا خيار له ، نصل عليه أحمد ، لأن الضرر زال ‏.‏ ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة ، فلا خيار له ‏.‏ وإن قال البائع ‏:‏ أنا أزيل العيب ، مثل أن يشتري أرضاً فيها حجارة تضرها ، فقال البائع ‏:‏ أنا أقلعها في مدة لا ‏[‏ أجرة ‏]‏ لها ، أو اشترى أرضاً فيها بذر للبائع ، فقال ‏:‏ أنا أحوله ، سقط الرد ، لأن الضرر يزول من غير ضرر ‏.‏

فصل

ذكر القاضي ما يدل على أن في خيار العيب روايتين ‏:‏

إحداهما ‏:‏ هو على التراخي ، لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق ، فكان على التراخي ، كخيار القصاص ‏.‏ فعلى هذا هو على خيار ما لم يوجد منه ما يدل على الرضي من التصرف على ما ذكرنا في باب الخيار ‏.‏

والثاني ‏:‏ هو على الفور ، لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة ‏.‏ ولو حلب لبنها الحادث أو ركبها ليردها أو ليختبرها ، لم يكن رضى ، لأنه حق له إلى أن يرد ، فلم يمنع منه ‏.‏

فصل

وله الرد منغير رضى صاحبه ولا حضوره ، لأنه رفع عقد جعل إليه فلم يعتبر ذلك فيه ، كالطلاق ‏.‏ ويجوز من غير حكم حاكم ، لأنه مجمع عليه ، فلم يحتج إلى حاكم ، كفسخ المعتقة للنكاح ‏.‏

فصل

والعيوب هي النقائص المعدودة عيباً ، فما خفي منها ، رجع إلى أهل الخبرة به ‏.‏ فمن العيوب في الخلقة المرض ، والجنون والجذام والبرص والعمى والعور ، والعرج والعقل والقرع ، والصمم والخرس ، والأصبع الزائدة والناقصة ، والحول والخوص والسبل ، وهو زيادة في الأجفان والبخر والخصا والتخنيث ، وكونه خنثى والحمق البات ، والتزوج في الرقيق ‏.‏ فأما عدم الختان فليس بعيب في الصغير ، لأنه لم يفت وقته ، ولا في الكبير المجلوب ، لأن ذلك عادتهم ، وهو عيب في الكبير المولود في الإسلام ، لأن عادتهم الختان والكبير يخاف عليه ، فأما العيوب المنسوبة إلى فعله كالسرقة والإباق والبول في الفراش ، فإن كانت من مميز جاوز العشر ، فهي عيب ، لأنه يذهب بمال سيده أو يفسد فراشه ، وليس عيباً في الصغير ، لأنه لا يكون لضعف بنيته أو عقله والزنا عيب ‏.‏ لأنه يوجب الحدود وكذلك شرب المسكر ، والحمل عيب في الأمة ، لأنه يخاف منه عليها ، وليس بعيب في غيرها ، لعدم ذلك ‏.‏ والثيوبة وكون الأمة لا تحيض ليس بعيب ، لأن الإطلاق لا يقتضي وجود ذلك ولا عدمه ، وكذلك كونها محرمة على المشتري بنسب أو رضاع أو إحرام أو عدة ، لأن ما يختص بالمشتري لا ينقص ثمنها ، وسائر ذلك يزول عن قرب ‏.‏ ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب ، لأن النقص فعل ذلك لا العلم به ‏.‏ والكفر وكونه ولد زنا ليس بعيب ، لأن الأصل في الرقيق الكفر ، ولا يقصد فيهم النسب ، وكون الجارية لا تحسن الطبخ والخبز ليس بعيب ، لأن هذه صناعة ، والجهل به كالجهل بسائر الصنائع ‏.‏

فصل

وإن شرط في المبيع صفة مقصودة ، مثل أن شرط الأمة بكراً أو جعدة أو العبد كاتباً أو ذا صناعة أو فحلاً ، أو خصياً أو مسلماً ، أو الدابة هملاجة ، أو الفهد صيوداً ، أو الشاة لبوناً ، فبان خلاف ذلك ، فله الرد ، لأنه لم يسلم له ما بذل الثمن فيه ، فملك الرد ، كما لو وجده معيباً ‏.‏ وإن شرط الأمة سبطة أو جاهلة ، فبانت جعدة أو عالمة ، فلا خيار له ، لأنها زيادة ، وإن شرطها ثيباً فبانت بكراً فكذلك ، ويحتمل أن له الخيار ، لأنه قد يشترط الثيوبة لعجزه عن البكر ، وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا خيار له ، لأنها زيادة ‏.‏

والثاني ‏:‏ له الخيار ، لأنه يتعلق به غرض صحيح ، وهو صلاحها للمسلم والكافر ، وإن شرطها حاملاً صح ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ قياس المذهب أنه لا يصح ، لأن الحمل لا حكم له ، والصحيح الأول ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في الدية بأربعين خلفة ، في بطونها أولادها ‏.‏ ولأن الحمل يثبت الرد في المعيبة ، ويوجب النفقة للمبتوتة ، ويمنع كون الدم فيه حيضاً ، والطلاق فيه بدعة ، ويجوز الفطر في رمضان للخوف عليه ، ويمنع إقامة الحد والقصاص ‏.‏ وإن شرط في الطير أنه مصوت ، أو في الديك أنه يصيح في وقت من الليل ، صح ، لأن ذلك عادة له ، فجرى مجرى الصيد في الفهد ، وقال بعض أصحابنا ‏:‏ لا يصح ، لأنه يجوز أن يوجد وأن لا يوجد ‏.‏ وإن شرط أن يجيء من مسافة ذكرها ، صح ، لأن ذلك عادة ، وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار ، فهو كالصيد في الفهد ‏.‏

وقال القاضي ‏:‏ لا يصح ، لأنه تعذيب للحيوان ‏.‏ وإن شرط الغناء في الأمة ، وفي الكبش أنه مناطح ، وفي الديك أنه مقاتل ، لم يصح لأنه منهي عنه ، فهو كالزنا في الأمة ‏.‏

فصل

وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده معيباً ، فله الرد ‏.‏ وعنه ‏:‏ لا شيء له ، لأنه لا تدليس من البائع ، ولا يمكنه معرفة باطنه ، والأول ‏:‏ أصح ، لأن عقد البيع اقتضى السلامة ، فإذا بان معيباً ، ملك رده كالعبد ‏.‏ وإن كان مما لا قيمة له ، كبيض الدجاج ، والجوز الخرب ، والرمان الفاسد ، رجع بالثمن كله ، لأن هذا ليس بمال فبيعه فاسد ، كالحشرات ‏.‏ وإن كان الفساد في بعضه ، رجع بقسطه ‏.‏ وإن كان مما لمكسوره قيمة ، كجوز الهند وبيض النعام ، فقال الخرقي ‏:‏ يرجع بالثمن وعليه أرش الكسر ، كما لو كان المبيع ثوباً فقطعه ، واختار القاضي ‏:‏ أنه إن كان الكسر لا يزيد على ما يحصل به استعلام المبيع ، رده ولا شيء عليه ، لأن ذلك حصل ضرورة استعلام المبيع ، والبائع سلطه عليه فلم يمنع الرد ، كحلب لبن المصراة ، وإن زاد على ذلك خرج فيه روايتان ، كسائر المعيب الذي يعيب عنده ‏.‏

فصل

وإن اشترى ثوباً لا ينقصه نشره فنشره ، فله رده بالعيب ، وإن كان ذلك ينقصه فهو كجوز الهند ‏.‏ وإن صبغ الثوب ثم وجده معيباً ، فله الأرش لا غير ‏.‏ وعنه ‏:‏ يرده ويكون شريكاً للبائع بقيمة الصبغ ‏.‏ وعنه ‏:‏ يرده ويأخذ زيادته بالصبغ ‏.‏ والأول ‏:‏ المذهب ، لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة ، فلم يجز لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ‏}‏ ‏[‏ النساء ‏:‏29‏]‏‏.‏

فصل

وإذا اشترط البائع البراءة من كل عيب ، لم يبرأ لأن البراءة مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط ، فلم يثبت مع الجهالة كالأجل ، وعنه ‏:‏ يبرأ ، إلا أن يكون البائع علم بالعيب فكتمه ، لما روي أن ابن عمر باع عبداً من زيد بن ثابت بشرط البراءة بثمانمائة درهم ، فأصاب به عيباً ، فأراد رده على ابن عمر ، فلم يقبله ، فترافعا إلى عثمان ، فقال عثمان لابن عمر ‏:‏ أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب ، فقال ‏:‏ لا ، فرده عليه ‏.‏ وهذه القصة اشتهرت فلم تنكر ، فكانت إجماعاً ، ويتخرج أن يبرأ مطلقاً بناء على قوله في صحة البراءة من المجهول ، ولأنه إسقاط حق من مجهول لا تسليم فيه ، فصح كالعتاق ‏.‏ وإن قلنا بفساد الشرط فالبيع صحيح ، لأن ابن عمر باع بشرط البراءة ، فأجمعوا على صحته ، ويتخرج فساده بناء على الشروط الفاسدة ‏.‏


باب بيع المصراة


لا يحل بيع المصراة ، فإن باعها فالبيع صحيح ، فإن كانت من بهيمة الأنعام ولم يعلم المشتري ثم علم ، فهو مخير بين إمساكها وردها ، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاع فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، إن شاء أمسك ، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر متفق عليه ‏.‏ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن به، فأثبت الخيار كتسويد الشعر ‏.‏ قال أبو الخطاب ‏:‏ متى علم التصرية ، فله الخيار ، لأنه علم سبب الرد فملكه ، كما لو علم العيب ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ لا يثبت له الرد إلا عند انقضاء ثلاثة أيام ، لأن اللبن قد يختلف لاختلاف المكان ، وتغير العلف ‏.‏ فإذا مضت الثلاثة ، بانت التصرية ، ويثبت الخيار على الفور ‏.‏ وقال ابن أبو موسى ‏:‏ إذا علم التصرية ، فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام من حين البيع ، لما روى أبو هريرة ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ من اشترى مصراة ، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام ، إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر ‏.‏ رواه مسلم ‏.‏

فصل ‏:‏

ويلزمه مع ردها صاعاً من تمر بدلاً عن اللبن الموجود حال العقد للخبر ‏.‏ ويكون جيداً غير معيب ، لأنه واجب بإطلاق الشرع ، فأشبه الواجب في الفطرة ، وإن ردها قبل حلبها لم يلزمه شيء ، لأنه بدل اللبن ، ولم يأخذه ، وإن ردها بعد حلبها ، ولبنها موجود غير متغير ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يرده ولا شيء عليه ، لأنه بحاله لا عيب فيه ‏.‏

والثاني ‏:‏ عليه صاع تمر ، ولا يلزم البائع قبول اللبن ، أنه يسرع إليه التغيير ، وكونه الضرع أحفظ له ، وإن تغير اللبن فعليه الثمن ، ولا يلزم البائع قبول اللبن لتغيره ‏.‏ وقال القاضي ‏:‏ يلزمه قبوله ، لأن النقص فيه حصل باستعلام المبيع ‏.‏ فإن لم يقدر على التمر ، فقيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد ، لأنه بمنزلة عين أتلفها ، ولو رضي بالتصرية وأصاب عيناً سواها فله ردها ، لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بما سواه وعليه مع الرد صاع تمر ، لأنه عوض للبن التصرية ، فيكون عوضاً له مطلقاً ويحتمل أن لا يلزمه هاهنا إلا مثل اللبن ، لبن الأصل وجوب ضمان اللبن بمثله خولف فيما إذا رد المصراة من أجل التصرية للخبر ، ففيما إذا ردها لعيب آخر يبقى على الأصل كما لو كانت غير مصراة وفيها لبن ‏.‏ وإذا اشترى شاة غير مصراة ، فحدث لها لبن فاحتلبه ، ثم ردها بعيب ، فلا شيء عليه ، لأن اللبن حدث في ملكه ، وإن كان فيها لبن يسير لا يخلو الضرع من مثله ، فلا شيء فيه ، لأن مثل هذا لا عبرة فيه ‏.‏ وأن كان كثيراً فعليه مثله ، لأن الأصل ضمان اللبن بمثله ، فلا يبطل بمخالفته في لبت التصرية ، وإن كان باقياً انبنى على رد لبن التصرية ، لما ذكرنا ، فإن قلنا ‏:‏ لا يرده ، فبقاؤه كتلفه ‏.‏ وهل له رد المبيع ‏؟‏ يخرج على الروايتين فيمن اشترى ثوباً فقطعه ، ثم علم عيبه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن كانت المصراة ، أمة ، أو أتاناً ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا رد له ، لأن لبنها لا عوض له ، ولا يقصد قصد لبن الأنعام ‏.‏

والثاني ‏:‏ له الرد ، لأن الثمن يختلف بذلك ، لأن لبن الأمة يحسن ثدييها ، ويرغب فيها ظئراً ، ولبن الأتان يراد لولدها ، فإن حلبها فلا شيء عليه للبنها ، لأنه لا قيمة له ‏.‏

فصل ‏:‏

وكل تدليس بما يختلف به الثمن يثبت خيار الرد ، قياساً على التصرية ، كتجعيد شعر الجارية ، وتسويده وتحمير وجهها، وجمع الماء على الرحى وقت عرضها وعلى المشتري ‏.‏ فإن حصل ذلك بغير قصد ، كاجتماع اللبن في الضرع بغير تصرية واحمرار وجه الجارية لخجل ، أو تعب ، فهو كالتدليس ، لأن الخيار ثبت لدفع الضرر عن المشتري ، فلم يختلف بالقصد وعدمه ، كالعيب ‏.‏ وإن رضي المشتري بالمدلس ، فلا أرش له ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بين إمساك المصراة بغير شيء ، وردها مع التمر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن دلس بما لا يختلف به الثمن ، كتبييض الشعر ، وتسبيطه ، فلا خيار للمشتري ، لأنه لا ضرر في ذلك ‏.‏ وإن علف شاة فطنها المشتري حاملاً ، أو سود أنامل العبد ليظنه كاتباً ، أو حداداً ، أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة ، فظنها كثيرة اللبن ، فلا خيار له ، لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه المشتري ، فإن سواد الأنامل قد يكون لولع ، أو خدمة كاتب ، أو حداد ، أو شروعه في ذلك ، وانتفاخ البطن قد يكون للأكل ، فظن المشتري غير ذلك طمع لا يثبت له خياراً ‏.‏


باب اختلاف المتبايعين


إذا اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة ، تحالفا ‏.‏ لما روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه ، فالقول ما قال البائع ، أو يترادان البيع رواه ابن ماجة ‏.‏ وفي لفظ تحالفا وكان البائع يدعي عقداً بثمن كثير ينكره المشتري ، والمشتري يدعي عقداً ينكره البائع ، والقول قول المنكر مع يمينه ‏.‏ ويبدأ بيمين البائع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل القول ما قال البائع ، وكان جنبته أقوى ، لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه ، فكانت البداية به أولى ‏.‏ كصاحب اليد ‏.‏ ويجب الجمع في اليمين بين النفي والإثبات ، لأنه يدعي عقداً وينكر آخر فيحلف عليهما ، ويقدم النفي فيقول ‏:‏ والله ما بعته بكذا ، ولقد بعته بكذا ، لأن الأصل في اليمين أنها للنفي ، ويكفيه يمين واحدة ، لأنه أقرب إلى فصل القضاء فإن نكل أحدهما ، لزمه ما قال صاحبه ، وإن رضي أحدهما بما قال الآخر ، فلا يمين ‏.‏ وإن حلفا ثم رضي أحدهما بما قال الآخر ، أجبر على القبول ، لأنه قد وصل إليه ما ادعاه ، وإن لم يرضيا ، فلكل واحد منهما الفسخ ، ويحتمل أن الفسخ للحاكم ، لأن العقد صحيح ، وإنما يفسخ لتعذر إمضائه في الحكم فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان ‏.‏ والأول ‏:‏ المذهب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أو يترادان البيع فجعله إليهما ‏.‏ وفي سياقه أن ابن مسعود رواه للأشعث بن قيس ‏.‏ وقد اختلف في ثمن مبيع ، فقال الأشعث ‏:‏ فإني أرى أن أرد البيع ‏.‏ ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة ، أشبه رد المعيب ‏.‏

فصل

وقال القاضي ‏:‏ ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أن الفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً ، لأنه فسخ لاستدراك الظلامة ، فأشبه رد المعيب ‏.‏ واختار أبو الخطاب أن المشتري إن كان ظالماً ، ففسخ البائع ينفذ ظاهراً وباطناً ، لعجزه عن استيفاء حقه ، فملك الفسخ ، كما لو أفلس المشتري ‏.‏ وإن كان البائع ظالماً لم ينفذ فسخه باطناً ، لأنه يمكنه إمضاء العقد فلم ينفذ فسخه ، ولم يملك التصرف في المبيع ، لأنه غاصب ‏.‏

فصل

وإن اختلفا بعد تلف المبيع ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ يحالفان ويفسخان البيع ، لأن المعنى الذي شرع له التحالف حال قيام السلعة موجود حال تلفها ، فيشرع ، ويجب رد قيمة السلعة ، فإن اختلفا في قيمتها ، وجب قيمة مثلها ، موصوفاً بصفاتها ، وإن زادت على ما ادعاه البائع ، لأن الثمن سقط ووجبت القيمة ‏.‏ فإن اختلفا في الصفة ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، لأن غارم ‏.‏

والثانية ‏:‏ القول قول المشتري مع يمينه ، اختارها أبو بكر ، لقوله في الحديث ‏:‏ فالبيع قائم بعينه ‏.‏ فمفهومه أن لا يشرع التحالف مع تلفها ، ولأنهما اتفقا على انتقال المبيع إلى المشتري بثمن ، واختلفا في الزائد الذي يدعيه البائع وينكره المشتري ، والقول قول المنكر ، وإنما ترك هذا مع قيام السلعة لإمكان التراد ، ولا يمكن رد السلعة بعد تلفها ، وإن تقايلا المبيع ، أو رد بعيب ، ثم اختلفا في الثمن ، فقال البائع ‏:‏ هو قليل ، وقال المشتري ‏:‏ هو كثير ، فالقول قول البائع ، لأن البيع قد انفسخ والبائع منكر لما يدعيه المشتري لا غير ‏.‏ وإن مات المتبايعان ، فورثتهما بمنزلتهما ، لأنها يمين في المال ، فقام الوارث فيها مقام الموروث ، كاليمين في الدعوى ‏.‏ وإن كان المبيع بين وكيلين ، تحالفا لأنهما عاقدان ، فتحالفا كالمالكين ‏.‏

فصل

وإن اختلفا في قدر المبيع ، فقال ‏:‏ بعتك هذا العبد بألف ، فقال ‏:‏ بل هو والجارية ، فالقول قول البائع نص عليه ، لأنه ينكر بيع الجارية فاختصت اليمين به ‏.‏ كما لو اختلفا في أصل العقد ‏.‏ وإن قال ‏:‏ بعتك هذا العبد ، فقال ‏:‏ بل بعتني هذا الثوب ، حلف كل واحد منهما على ما أنكره خاصة ، ثم إن كان العبد في يد البائع ، فليس للمشتري أخذه ، لأنه لا يدعيه ، وإن كان في يد المشتري ، فليس للبائع أخذه لذلك ، إلا أن يتعذر عليه ثمنه فيفسخ البيع ويأخذه ، والثوب يقر في يد البائع ، ويرد إليه إن كان عند المشتري ‏.‏ وإن قامت بينة بالعقدين ، ثبتا ‏.‏ وإن قامت بينة أحدهما ثبت ، ويحلف المنكر للآخر ويبطل حكمه ‏.‏

فصل

وإن اختلفا في صفة الثمن ، رجع إلى نقد البلد ، نص عليه ، فإن كان فيه نقود ، رجع إلى أوسطها ، وعلى من القول قوله اليمين ، لأن الظاهر صدقه ، فكان القول قوله ، كالمنكر ، وقال القاضي ‏:‏ يتحالفان ‏.‏

فصل

وإن اختلفا في أجل ، أو شرط ، أو رهن ، أو ضمين ونحوه ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ القول قول من ينكره مع يمينه ، لأنه منكر فأشبه منكر العقد من أصله ‏.‏

والثانية ‏:‏ يتحالفان لأنهما اختلفا في صفة العقد ، فأشبه ما لو اختلفا في قدر الثمن ، وإن اختلفا فيما يفسد العقد ، فالقول قول من ينفيه ، لأن ظاهر حال المسلم تعاطي الصحيح ‏.‏ وإن قال أحدهما ‏:‏ كنت مكرهاً ، أو مجنوناً ، فالقول قول الآخر ، لأن الأصل معه ، وإن قال ‏:‏ كنت صغيراً فكذلك ، نص عليه ، لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد ، فقدم قل من يدعي صحته ، ويحتمل أن القول قول مدعي الصغر ، لأنه الأصل ، وإن قال عبد ‏:‏ بعتك بغير إذن سيدي ، فأنكره المشتري ، فالقول قول المشتري ، لأن الأصل الصحة ، وإن أنكره السيد ، فالقول قوله ، لأن الأصل معه ، ولا دليل على خلافه ‏.‏ وإن قال أحد المتصارفين ‏:‏ تفرقنا قبل القبض ، أو ادعى فسخ العقد ، وأنكره الآخر ، فالقول قول مدعي الصحة ، لأن الأصل معه ‏.‏ وإن اختلفا في عيب يحدث مثله ، فادعى كل واحد منهما أنه حدث عند صاحبه ، ففيه روايتان ‏:‏

إحداهما ‏:‏ القول قول البائع ، لأن الأصل عدم العيب ‏.‏

والثاني ‏:‏ القول قول المشتري ، لأن الأصل عدم القبض للجزء الفائت ، وعدم استحقاق ما يقابله من الثمن ‏.‏ وإن رد بعيب ، فقال البائع ليس هذا المبيع ، فالقول قوله ، لأن الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد ‏.‏ وإن قبض المسلم فيه أو المبيع بالكيل ، ثم قال ‏:‏ غلطت علي في الكيل ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ القول قول البائع ، لأن الأصل السلامة من الغلط ‏.‏

والثاني ‏:‏ القول قول المشتري ، لأن الأصل عدم القبض لما أنكر قبضه ، وإن كان قبضه جزافاً ، فالقول قوله في قدره ، وجهاً واحداً ‏.‏

فصل

وإن باعه بثمن معين ، وقال ‏:‏ كل واحد منهما لا أسلم ما بعته حتى أقبض عوضه ، جعل بينهما عدل يقبض منهما ، ويسلم إليهما معاً ، لأنهما سواء في تعلق حقوقهما بالعين ، وإن كان البيع بثمن في الذمة ، أجبر البائع على تسليم المبيع أولاً ، لتعلق حق المشتري بعينه ، فقدم على ما تعلق بالذمة ، كأرش الجناية مع الدين ، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن ‏.‏ فإن كان معسراً أو ماله غائب في مسافة القصر ، فللبائع فسخ المشتري على تسليم الثمن ‏.‏ فإن كان معسراً أو ماله غائب في مسافة القصر ، فللبائع فسخ البيع ، لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن ، فجاز له الرجوع إلى عين ماله ، كما لو أفلس المشتري ‏.‏ وإن كان الثمن حاضراً أجبر على دفعه في الحال ، وإن كان في داره أو دكانه ، حجر عليه في المبيع ، وفي سائر ماله حتى يسلمه ، لئلا يتصرف في المبيع ، فيضر بالبائع ‏.‏ وإن كان غائباً دون مسافة القصر ، ففيه وجهان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ جاز له الفسخ ، لأنه تعذر الثمن للإعسار ، أشبه الفلس ‏.‏

والثاني ‏:‏ لا يفسخ ، ولكن يحجر على المشتري ، لأنه في حكم الحاضر ، أشبه الذي في البلد ‏.‏ والصحيح عندي أنه لا يجب عليه تسليم المبيع ما لم يحضر الثمن ويمكن أخذه لأن في تسليمه بدون ذلك ضرراً وخطراً بفوات الثمن عليه يلزمه تسليم عوضه قياساً على العوض الآخر ‏.‏


باب بيع المرابحة والمواضعة والتولية والإقالة


بيع المرابحة ‏:‏ أن يخبر برأس ماله ثم يبيع به ويربح ، فيقول ‏:‏ رأس مالي فيه مائة ، بعتكه بها وربح عشرة ، فهذا جائز غير مكروه ، لأن الثمن معلوم ‏.‏ وإن قال ‏:‏ بعتك بها وربح درهم في كل عشرة ، أو قال ده يازده ، أو ده دواز ده ، فهو صحيح أيضاً جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم ‏.‏ فهي كالتي قبلها ، ولكن كرهه أحمد ، لأن ابن عمر وابن عباس كرهاه ، لأنه بيع الأعاجم ولأن الثمن قد لا يعلم في الحال ‏.‏

فصل‏:‏

ولا يخبر إلا بما يلزم من الثمن ، وما يزاد فيه في مدة الخيار يخبر به ، لأنه من الثمن ‏.‏وما حط عنه في الخيار ، نقصه لذلك ‏.‏ وما كان بعد لزوم العقد لا يخبر به ، لأنه تبرع من أحد المتعاقدين لا يلزمه ، فلم يخبر به كما لو وهبه شيئاً ‏.‏ وإن تمت العين ولم يزد على رأس المال ، فإن كان النماء منفصلاً ، لم تنقص به العين ، فله أخذه ويخبر برأس المال ، لأنه في مقابلة العين دون نمائها ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنه يبين ذلك ، لأنه أبعد من اللبس ‏.‏ وإن عمل في العين عملاً من قصارة ، أو خياطة أو حمل ، اخبر بالحال على وجهه ، سواء عمله بنفسه أو بالأجرة ، قال أحمد ‏:‏ يبين ما اشتراه به وما لزمه ‏.‏ فإن ضم ذلك إلى رأس المال وأخبر أنه اشترى به ، لم يجز ، لأنه كذب ، وإن قال ‏:‏ تحصل علي بكذا ، لم يجز فيما عمله بنفسه ،لأنه كذب ‏.‏ وجاز فيما استأجر عليه في أحد الوجهين ، لأنه صادق ، والآخر ‏:‏ لا يجوز ، وهو ظاهر كلام أحمد ، لأن فيه تلبيساً فلعل المشتري لو علم الحال لم يرغب فيه ، لكون ذلك العمل مما لا حاجة به إليه ، فأشبه ما أنفق عليه في مؤنته وكسوته ، فإنه لا يجوز الإخبار به ، ،وجهاً واحداً وكذلك كري مخزنه وحافظه ، إلا أن يخبر بالحال على وجهه ، فإن ذلك لا يزيد في ثمنه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن نقص المبيع لمرض ، أو تلف جزء ، أو تعيب أو وجد به عيباً ، أو جني عليه فأخذ أرشه ، ،أخبر بالحال على وجهه ‏.‏ وقال أبو الخطاب ‏:‏ يحط الأرش من الثمن ، ويخبر بما بقي ، فيقول ‏:‏ تقوم علي بكذا ‏.‏ والأول أولى ، لأنه أبعد من اللبس والفرق بين الأرش والكسب ،أن الأرش عوض ثمن ، فهو كثمن جزء بيع منه ، والكسب لم ينقص به المبيع ‏.‏ ولو جنى العبد ففداه المشتري ، لم يرد ذلك في رأس المال ، لأنه ليس من الثمن ولا زاد به المبيع ‏.‏ وإن نقص المبيع لتغير الأسعار فقال أصحابنا ‏:‏ لا يلزمه الخبر به، لأنه صادق بدونه ‏.‏ والأولى‏:‏ أنه يلزمه ، لأن المشتري لو علم ذلك لم يرضى به ، فجرى مجرى نقصه بعيب ‏.‏ وإن حط بعض رأس المال ، وأخبر بالباقي ، لم يجز ، لأنه كذب وتغرير بالمشتري ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اشترى اثنان شياً وتقاسماه ، فقال أحمد ‏:‏ لا يبيع أحدهما مرابحة ، إلا أن يقول ، اشتريناه جماعة ثم تقاسمناه ‏.‏ وإن اشترى شيئين بثمن واحد ، ثم أراد بيع أحدهما ، أو اشترى شجرة مثمرة ، فأخذ ثمرتها ، أو شاة ، فأخذ صوفها ، أو لبنها الذي كان فيها ، ثم أراد بيع الأصل مرابحة ، أخبر بالحال على وجهه ، ولا يجوز بيعه بحصته من الثمن ، لأن قسمة الثمن طريقه الظن ، واحتمال الخطأ فيه كثير ، ومبنى المرابحة على الأمانة ، فلم يجز هذا فيه ‏.‏ فإن كان المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء ، كالمكيل والموزون من جنس ، جاز بيعه بحصته من الثمن ، لأنه ينقسم على أجزائه ، وجزؤه معلوم يقيناً ‏.‏ وإن أسلم في ثوبين صفقة واحدة ثمناً واحداً ، فأخذهما على الصفة ، فالقياس جواز بيع أحدهما بحصته من الثمن ، لأن الثمن منقسم عليهما نصفين ، وما زاد على الصفة في أحدهما ، لم يقابله شيء من الثمن ، فجرى مجرى النماء الحادث بعد الشراء ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن اشتراه من أبيه ، أو ممن لا تقبل شهادته له ، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره ، لأنه متهم في حقهم أنه يحابيهم ، وإن اشتراه من غلام دكانه أو غيره حيلة ، لم يجز بيعه مرابحة ، وإن لم يكن حيلة ، جاز ، لأنه لا تهمة في حقه ‏.‏

فصل ‏:‏

وإن اشترى شيئاً ثم باعه بربح ، ثم اشتراه ، فأعجب أحمد رضي الله عنه لم يخبر بالحال على وجهه ، أو يطرح الربح من الثمن الثاني ، ويخبر بما بقي ، لأن هذا مذهب ابن سيرين ، ولأن الربح أحد نوعي النماء ، فيخبر به في المرابحة كالولد والثمرة ، ولعل هذا من أحمد على سبيل الاستحباب ، لأنه أبلغ في البيان ‏.‏ ويجوز الإخبار بالثمن الثاني وحده ، لأنه الثمن الذي حصل به هذا الملك ، فجاز الخبر به وحده كما لو خسر فيه ‏.‏

فصل ‏:‏

فإن بان للمشتري أن البائع أخبر بأكثر من رأس المال ، فالبيع صحيح لأنه زاد في الثمن فلم يمنع صحته كالتصرية ، ويرجع عليه بالزيادة وحظها بالربح ، لأنه باع برأس ماله وما قرره من الربح ‏.‏ فإذا بان رأس المال ، كان معيباً به وبقدره من الربح ‏.‏ وإن اختار المشتري رد المبيع ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له ، لأنه رضي المبيع بثمن حصل له بدونه ، فلم يكن له خيار ، كما لو اشترى معيباً فبان صحيحاً ، فأما البائع ، فلا خيار له ، لأنه باع برأس ماله وقدره من الربح ، وحصل به ما عقد به ، وفي سائر ما يلزمه الإخبار بالحال على وجهه ، فلم يفعل ، يخير المشتري بين أخذه بما اشترى به ، وبين الفسخ ، لأنه ليس للمبيع ثمن غير ما عقد به ، وإن اشتراه بثمن مؤجل فلم يتبين ، فعنه أنه مخير بها ، وعنه ‏:‏ يخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلاً ، لأنه الثمن الذي اشترى به البائع ، والتأجيل صفة له فأشبه المخبر بزيادة في القدر ، وإن علم ذلك بعد تلف المبيع ، حبس المال بقدر الأجل ‏.‏

فصل‏:‏

وإن أخبر بالثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر ، ففيه ثلاث روايات ‏:‏

إحداهن ‏:‏ لا يقبل قوله إلا ببينة ، لأنه مقر على نفسه فلم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة ، كالمضارب يقر بربح ‏.‏

والثانية ‏:‏ إن كان معروفاً بالصدق ، قبل قوله ، وإلا فلا ، لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه ، والقول قول الأمين مع يمينه ‏.‏

والثالثة ‏:‏ لا يقبل قوله ، وإن أقام بينة ما لم يصدقه المشتري لإقراره ، ابتدأ بكذب بينته ، فأشبه ما لو أقر بدين ‏.‏ فإن قلنا بقبول بينته ، فقال المشتري ‏:‏ أحلفوه أنه وقت البيع لم يعلم أن ثمنها أكثر، فعلى البائع اليمين ، فإن نكل أو أقر ، لم يكن له غير ما وقع عليه العقد ، لأنه عقد بهذا الثمن عالماً ، فلم يكن له غيره ، كالمشتري إذا علم العيب حال الشراء ، وإن حلف ، خير المشتري بين فسخ العقد ، لأنه لم يرضه بأكثر مما بذله وبين قبوله مع إعطائه ما غلط به حظه من الربح ، لأن البائع إنما باعها بهذا الثمن ظناً أنه رأس المال ، فعليه ضرر بالنقصان منه ‏.‏ فإذا أخذها المشتري بذلك ، فلا خيار للبائع ، لأنه قد زال عنه الضرر بالتزام المشتري ما غلط به ، وإن اختار الفسخ فقال البائع ‏:‏ أنا أسقط الزيادة عنك ، سقط الفسخ ، لأنه قد بذلها له بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا به ‏.‏

فصل ‏:‏

وبيع التولية ‏:‏ هو البيع بمثل الثمن الذي اشترى به ، وحكمه حكم المرابحة فيما ذكرنا ، ويصح بلفظ البيع ، ولفظ التولية ، لأنه مؤد لمعناه ‏.‏ قال أحمد ‏:‏ ولا بأس بيع الرقم ، وهو الثمن الذي يكتب على الثوب ، ولا بد من علمه حال العقد ، ليكون معلوماً ‏.‏ فإن لم يعلم فالبيع باطل ، لأن الثمن مجهول ‏.‏ وقال ‏:‏ المساومة عندي أسهل من المرابحة ، لأن بيع المرابحة يعتبر به أمانة واسترسال من المشتري ، ويحتاج إلى تحري الصدق واجتناب الريبة ‏.‏ وقال في رجلين اشتريا ثوباً بعشرين ، ثم اشترى أحدهما من صاحبه باثنين وعشرين ‏:‏ فإنه يخير في المرابحة بإحدى وعشرين ، لأنه اشترى نصفه بعشرة ، ونصفه بأحد عشرة ‏.‏

فصل ‏:‏

وبيع المواضعة ‏:‏ أن يخبر برأس المال ، ثم يبيع به ووضعه كذا ، أو يقول ‏:‏ ووضيعة درهم من كل عشرة ‏.‏ وحكمه حكم المرابحة في تفصيله ، فإذا قال ‏:‏ رأس مالي فيه مائة بعتك بها ووضيعة درهم من كل عشرة ، فالثمن تسعون ‏.‏ لأن المحطوط العشر ، وعشر المائة عشرة ، وإن قال بوضيعة درهم لكل عشرة ، كان الحط من كل أحد عشرة درهماً ، درهماً، والباقي تسعون وعشرة أجزاء من كل أحد عشر جزءاً من درهم ، لأنه إذا قال ‏:‏ لكل عشرة درهم ، كان الدرهم من غيرها ، فيكون من كل أحد عشرة درهماً درهم ، وإذا قال ‏:‏ من كل عشرة كان الحط منها فيكون عشرها ‏.‏

فصل ‏:‏

وإذا اشترى نصف عبد بعشرة ، واشترى آخر نصفه بعشرين ، ثم باعاه بثمن واحد مساومة ، فالثمن بينهما نصفان ، لأنه عوض عنه فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه ‏.‏ وإن باعاه مرابحة ، فكذلك في إحدى الروايتين لذلك ‏.‏ والأخرى ‏:‏ هو بينهما على قدر رؤوس أموالهما ، لأن بيع المرابحة يقتضي كون الثمن في مقابلة كل واحد منهما ، وقيل ‏:‏ المذهب رواية واحدة ، أنه بينهما نصفان ‏.‏ والقول الآخر وجه خرجه أبو بكر ‏.‏

فصل ‏:‏

وإقالة النادم في البيع مستحبة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أقال نادماً بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة أخرجه أبو داود ‏.‏ وهي فسخ في أصح الروايتين ‏.‏ وعنه ‏:‏ أنها بيع ، لأنها نقل الملك بعوض على وجه التراضي فكانت بيعاً ، كالأول ، والأولى أولى ، لأن الإقالة في السلم تجوز إجماعاً ‏.‏

وبيع السلم لا يجوز قبل قبضه ، ولأن الإقالة الرفع والإزالة ، ومنه ‏:‏ أقاله الله عثرته ‏.‏ وذلك هو الفسخ ، ولأنها تتقدر بالثمن الأول ، وتحصل بلفظ لا ينعقد به البيع فكانت فسخاً كالرد بالعيب ‏.‏ فعلى هذا تجوز في المبيع قبل قبضه ، ولا تجب بها شفعة ، وتتقدر بالثمن الأول ، ومن حلف لا يبيع ، فأقال لا يحنث ، وعلى الأخرى تنعكس هذه الأحكام ، إلا بمثل الثمن ، فإنه على وجهين ، أصحهما أن تتقدر به ، لأنها خصت بمثل الثمن كالتولية ، فإن قال بأكثر منه ، لم يصح وكان الملك باقياً للمشتري ، لأنهما تفاضلا فيما يعتبر فيه التماثل ، فلم يصح كبيع درهم بدرهمين ‏.‏